الأرشيف الشهري: فيفري 2025

اليسار في البحرين

كتب: عبـدالله خلــيفة

أنظر كتاب عبدالله خليفه: اضاءة لذاكرة البحرين

الفصل الخامس من كتاب: إضاءة لذاكرة البحرين

 رؤيةٌ نقديةٌ لليسار  العربي { البحريني نموذجاً }

تعريف :

اليسار هو الجماعات السياسية المناضلة من أجل الطبقات الشعبية لأحداث تغييرات إيجابية وتقدمية لمصلحتها.

واليسار العربي خلال نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين مثل كل زمنه السابق متعدد الفصائل، في بنى اجتماعية عربية مختلفة التطور.

فوجود اليسار في بُنى مثل مصر وسوريا وتونس مختلف عن بُنى الجزيرة العربية الأقل تطوراً إجتماعياً سياسياً. لأن التشكيلات الطبقية في تلك الدول أكثر تبلوراً، والفئات الوسطى أكبر نضجاً.

وإذا شخصنا إيديولوجيات اليسار خلال تلك الفترة الطويلة سنجد أن معظم تلك الإيدلوجيات إتخذت سمة الماركسية – اللينينية وبعضها توجه للاتجاهات القومية المُطّعَمة بالفكر الماركسي.

وبطبيعة الحال فإن التلاوين والتجارب كثيرة في اليسار العربي وقراءة اليسار العربي بشكل مجرد واسع ولمختلف البلدان يضيعُ الحقائق ويحتاج لفترة طويلة جداً. لكن من الممكن أن نلخص مشكلات اليسار في: عجز رؤيته الفكرية عن التطور في حين يتجه الواقعان المحلي والعالمي لتجاوزها، وقيامه بمغامرات نضالية مدمرة تؤدي لضعف موقفه سواءً كان في السلطة أم خارجها، أو قيامه بتحالفات تذوب شخصيته. وهذه سماتٌ عامة لا بد لها من تحليل ملم بظرف تجربة معينة.

فاسمحوا لي أن أتخذ بلدي (البحرين) كنموذج لمشكلات اليسار العربي لأنها تجربة قريبة ويمكننا جميعاً أن نساهم في مناقشتها.

لقد تولد نشؤ الوعي الاشتراكي في بلدنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين بسبب نضالات البحارة والعمال والفلاحين وهو الظرفُ الموضوعي الذي إستقبلَ بذورَ الأفكار الجديدة، وبسبب الإمدادات والمساعدات الفكرية النضالية من الفصائل التقدمية في المنطقة، وكان مناخُ الماركسية اللينينية مهيمناً، حيث بدأ عاصفاً في البلدان المتحررة القائدة لعمليات التنمية والتقدم وكنس أشكال الاستعمار.

إن مناخ البلدان والشعوب الشرقية ومنها بلدنا ذات الوعي التقليدي لم يُتح للمجموعات الوطنية التقدمية مقاربة الجوانب الفكرية والسياسية الديمقراطية المتقدمة، وبالأدوات البسيطة كانت تكافح وتجمع حشوداً من الشباب والعمال وتدفعهم في النضال الوطني الديمقراطي.

ولهذا فإن وعيَّ (هيئة الاتحاد الوطني) الديمقراطي الوطني التي ظهرت في الخمسينيات لم يتطور ولم يبق، وبقاءُ التنظيمات السرية الوطنية كان معبراً عن صعوبة نشؤ تنظيمات نضالية ديمقراطية وقتذاك، وأهمية تصعيد هذه المنظمات السرية القادرة على البقاء وسط العسف الواسع لتوحيدِ صفوف الشعب ودفعه مجدداً للنضال وللتحرر والتقدم.

وكان نقلُ الماركسية اللينينية مهماً حينذاك بسبب وجود المنظومة(الاشتراكية)المعبرة عن زخم شعوب الشرق القومي التحرري، ولكن الدفع باتجاه الاشتراكية وصراع الطبقات الداخلية كان غير مفيد كثيراً في تطور النضال الوطني الديمقراطي البحريني وقتذاك.

فقد تم التركيز على تحرك العمال والطلبة وشحنها باتجاه (ماركسي لينيني) بحيث لم تستطع المنظماتُ الوطنية تجميع القوى الاجتماعية المختلفة خاصة الفئات الوسطى والغنية المتضررة هي الأخرى من الهيمنة الاستعمارية والإقطاعية الطائفية ولم يفتح هذا للجميع أفقَ النظام الديمقراطي العلماني الذي يمكن أن تمارسَ فيه تطوراتِها ومصالحَها وأعمالها المشتركة.

وغيابُ هذا كان من شأنهِ تضييقُ القواعد الاجتماعية لليسار، بحيث أن المظاهرات الكبيرة في عهد الهيئة والانتفاضة الوطنية في 1965 لم يعد من الممكن ظهورها مرة أخرى.

ولم تنتبه قيادةُ جبهة التحرير الوطني خاصةً لهذه التحولات، فعلى صعيد دول الشرق الكبرى ذاتها أخذتْ المشروعاتُ الاشتراكيةُ الحكومية تصطدمُ بغيابِ الديمقراطية، وتلكؤ الإنتاج المتطور وبتضخم المشروعات والانفاق العسكريين.

وكان التوجه للاصلاحات الديمقراطية الرأسمالية على صعيد دول الشرق مهماً، ولكن وجهة النظر السائدة لم تصل إلى أخذ هذه الجوانب الموضوعية بعين الاعتبار، فحدثت خسائرٌ كبرى لحركةِ اليسار ولحركةِ الطبقة العاملة العالمية في الشرق، وكان هذا يجري على صعيدي المركز في الاتحاد السوفيتي والبحرين، حيث أن العديدَ من كوادر الجبهة نشأت في ذلك المناخ أو عاشت على أدبياته.

عدم إستباق هذا المنعطف الخطير وإعادة النظر في الماركسية اللينينية لم يكن بإمكان مستويات قوى الوعي المحلية وحتى الروسية أن تتلافاه في ذلك الحين، ولهذا فقد ساهم ذلك بقوةٍ في التصدع الداخلي العميق لكيان جبهة التحرير الوطني على المدى الطويل خاصة مع العسف الشديد التي واجهته.

لقد أعطت تلك الماركسية التقليدية في حينها أدوات التحليل الطبقية وأشكال النضال السرية الدقيقة وأوجدت علاقات بين المناضلين والقوى الشعبية، وساهمت في تحريك التناقضات ضد المستعمرين والإستغلال، لكن هذه الأدوات في مرحلة تالية تكلست فغدت عائقاً.

إن اسم الجبهة يعبر عن مستوى غير موجود عملياً، فليس ثمة جبهة بل تنظيمٌ صغيرٌ واحد، كما أن شكل الكفاح كان يقتصرُ على النضال السلمي، ولم تؤدِ الانزلاقاتُ العنفية سوى للأضرار.

وبهذا كان يُفترضُ تطوير الاستراتجية والاعتماد على مقاربة قوى العمال والفئات الوسطى والغنية، وتحويل اسم التنظيم ليتلائم مع المرحلة.

كان التنظيمُ بحاجةٍ خاصة قبل الاستقلال إلى توسيع التحالفات الاجتماعية والاعتماد على تصعيد نضالات الديمقراطية والليبرالية والتداخل مع العمال والفئات الوسطى لإيجاد جوانب مشتركة.

ولهذا فإن قوى الإقطاع المذهبي الحاكم والطائفي المختلف أو المتفق مع النظام(سنةً وشيعةً) هي التي إستثمرتْ المرحلةَ والنظامَ وزمنَ الاستقلال لصالحها فيما كانت قواعد اليسار تتآكل.

وإذا كانت فترة المجلس الوطني هي ذروة نضال الجبهة والديمقراطية في البلد فقد كانت هي كذلك التي أدت بإنحسارها إلى بداية التراجع.

لم تستمرْ فترةُ المجلسِ الوطني كثيراً وكانت الطبقةُ الحاكمة ضيقة الصدر به، وفبركتْ حالةً أمنية وسياسية عنيفةً وحادة قادت البلدَ لمشكلات كبيرة عميقة لا زلنا غير قادرين على الخروج من آثارها.

إن التنظيمَ في زخم مرحلةِ الاستقلال وإقامةِ التجربة البرلمانية الأولى ولملمةِ صفوفهِ بين الداخل والخارج، لم يكن بإمكانه فكرياً وسياسياً قراءة المرحلة وتحليل تجربته وإعادة النظر في رؤيته وبرامجه.

وجاءت مرحلةُ إلغاء البرلمان لتدفعه إلى الاختناق أكثر من حيث تقطع علاقاته بالناس، ومن جهة عدم إستطاعته قراءة التحولات الجديدة فكان الاستمرار في الخط السابق مكلفاً حيث تفاقمت الضرباتُ على التنظيم الوحيد الباقي في الساحة وقتذاك.

وإذا كانت مرحلةُ الميثاق والتحولات السياسية الجديدة قد أتاحت فرصاً أكبر، وظهرت الأشكالُ العلنية للقوى السياسية المختلفة، فإن التنظيمَ لم يقم بمراجعةٍ عميقة لتجربته، خاصة جذورها الفكرية والسياسية، بتجاوز الماركسية اللينينية وطرح خط فكري جديد يقوم بخلق تعاون بين الفئات الوسطى والعمالية التحديثية العلمانية كبديل عن تفاقم الجماعات الطائفية السياسية المختلفة، والتي شلتْ عملياً نضالَ الشعب.

عبرت المرحلةُ الجديدةُ عن تمزق القوى العفوية المنتمية السابقة التي تجمعت بعد مرحلة العسف الطويلة، والتي لم تستطع مراجعة المرحلة التأسيسية وما تلاها، فلم تظهر كوادرٌ ذاتُ رؤيةٍ ماركسية ديمقراطية متماسكة.

إن غياب رؤية ماركسية ديمقراطية متجذرةٍ في تحليل المجتمع ومتفقةٍ على أسس تطور النظرية في العالم، وبقائها كشعارات ومعلومات محدودة، وضعف الكادر النظري المفكر وتبعثر العناصر العمالية، كل هذا جعل من التجميع السياسي لهؤلاء الأفراد تجميعاً كمياً غير فاعل في الواقع.

إن عدم وضوح طبيعة هذه الماركسية المتبناة، وعدم الاعتراف بفشل الصيغ الشمولية في المعسكر الاشتراكي السابق، وعدم قدرة العديد من أفراد الصف الأول من التنظيم على النقد والمراجعة والعودة مجدداً للماركسية بصورةٍ خلاقةٍ ديمقراطية تلفظُ الجوانبَ الشمولية جعل من الجماعة المتجمعة بشكل عفوي غير قادرة على الصمود بوجه الاختراقات الطائفية المحافظة.

كان الانشداد القوي للقوى الطائفية السياسية تعبيراً عن ذلك الضعف الفكري السياسي حتى وصلت الأزمةُ لنفس الأشكال العلنية السياسية التنظيمية وفقدتْ قدرتها حتى على التأثير في جمهور النخبة المؤيد للجماعة.

ترون هنا نموذجاً واحداً من اليسار العربي، في منطقة شبه الجزيرة حيث تتعايش الطائفتان الشيعية والسنية، والمنطقةُ بأسرها تتصارع بين إيران والسعودية فلا يمكن لأي قوى سياسية أن تُحدث تغييراً لأن التغييرات تقوم بها الشعوبُ وليست الطوائف.

تقدير التاريخ المضيء         #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

لا تريد قواعد اليسار والقوى التحديثية الديمقراطية سوى إحترام تاريخ اليسار ونضالاته وتضحياته.

علينا أن نكون في منتهى الحذر والحرص في هذه السنوات الدقيقة، التي تتبدل فيها ألعاب السياسة، وتهيمن فيها القوى الحكومية والدينية على مسرح السياسة بما يفيدها ويقوي مواقفها في صراع لا آفاق فيه، ولا يعزز تطور بلدنا.

مرحلة تحتاج منا إلى ضبط أعصاب سياسية ورؤية المستقبل، ولا أن تستهين بعض القيادات بمستوى هذه القواعد، التي ضحت طوال عقود، وهي ليست سوى ممثلة بسيطة لأجيال من المناضلين منذ أن تكونت الحياة السياسية الحديثة في البحرين.

لقد تم تغيير اسماء المنظمات وأشكال وجودها ولم يعترض أحد، ثقة بالعائدين والحضور الفضفاض، أملاً في تطور نضالي مستقل عن الجهتين الحكومية والدينية.

وسكتت هذه القواعد عن أشياء عديدة من تحالفات غير ممثلة لتاريخه ومن تفرد ومن فوائد شخصية وغيرها.

 ما تطلبه هذه الأصوات هو فقط إحترام تاريخ هذا اليسار وعدم التلاعب به، وأن ينأى بنفسه عن المجريين الحكومي والديني، وأن يشقَ طريقه بإستقلال، وبنمو إنتاجه الفكري إستعادة لتاريخهِ بشكلٍ نقدي، وأن يعيدَ نتاجاته وأعماله الفكرية، وأن ينظر لها كتاريخ ليس كله إنجازات وبطولات ففيه أخطاء، ويجب درسه بتمعن وموضوعية.

إننا أكبر من أن ندخل في لعب سياسي وتوظيف أنفسنا لخدمة هذا الطرف أو ذاك، أو لكي نحصل من هذا الطرف أو ذاك على مقعد، وليست علاقتنا النضالية سوى مع هذا الشعب، تبصيراً بطرقِ الحياةِ المستقبلية التي لا يعرفُ دروبَها الصعبة مع هؤلاء، ويتضررُ أشد التضرر بمفاجآتها وهواتها العميقة.

وأن نحافظ على صوتنا في قول كلمة الحق، لا نسمح لأحدٍ أن يشتريه من أجل مقعد في مجلس شورى أو في برلمان!

إن تجمدَ أبصار اليسار هو عمى للوطن كله، لأن اليسارَ لا يسعى للكراسي والأرباح، بل يسعى لتطور الوطن وخدمة الشعب بدون مصلحة وبدون الرغبة في الحصول على النفوذ والإمتيازات كما يفعل غيره!

حين يعطونك مالاً أو أشياء مادية وكراسي في البرلمان الذي تعجز عنه في ديمقراطية متكاملة، إنما يريدون إخراسَ صوتك، وأن تبلع لسانك عن نقد الأخطاء، ويجب أن تكون مثل هذه الحقوق المادية الثمينة عن طريق البرلمان أو عن طريق جهاتٍ مستقلة مسؤولة عن إصلاح وطني شامل، ترضي عنها مختلف الجهات المتضررة من التاريخ السابق بشرط أن تكون هي نفسها غير مُضرةٍ لآخرين محطمة لوجودهم البشري ولمصالحهم المادية.

أما أن تُرضى أنت فقط دون المواطنين فمعناه إنك مميز مستقل فوق القانون وفوق الشعب!

وتكون قد دخلت في مصيدةِ السكوت وعدم القدرة على النقد، فدعْ غيركَ يواصلُ الطريقَ ما دامت أنت عجزت عنه!

في هذا الزمن لا يستطيع اليسارُ أن يكون لنفسهِ سياسةً ممكنة التنفيذ وواضحة المعالم، فهذه تحتاج لسنوات طويلة قادمة، حين تتسع قواعده، وتنضج رؤيته، وتتجذر قواعد الديمقراطية في صفوفه وفي المجتمع.

وأي مرشح للمجلس النيابي من اليسار عليه أن يشير لمثل هذه الصعوبات، وكونه مجرد جندي في ظروف صعبة مع كتل لها برامج غامضة، مشحونة بالمواقف المذهبية اليمينية، التي تمزقُ البلدَ، ومع وزارات حكومية صعبة تجمد أعمال البرلمان، وإن اليسار يعمل في ظروف إستثنائية بين كل هذه الفرق وذلك من أجل أن يعرف الناس الحقيقة وأن لا يُعودوا بوعود كاذبة. فلنحقق قواعد صلبة منذ الآن!

أما الصمت على أخطاء الفريقين الحكومي والديني فهو مضر بمستقبل اليسار، ودون أن تكون لنا الجرأة في توضيح كل هذه المشكلات، وكسب الأنصار الجدد، وتوسيع رقعة اليسار، فيكون الأمر مضيعة للوقت والسير على خطى الآخرين في كسب الأموال!

والأمر ليس كذلك مغامرات ومهاجمات للحكومة وطفولية، بل كسب مواقع حقيقية وخلق إصلاحات، بالتعاون مع الكتل الأخرى، دون الإنزلاق لمواقفها المذهبية.

اليسارُ المتكلس #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

 تداخل اليسار في الشرق مع ولادات الرأسماليات الحكومية الشرقية فيها. كانت هذه لحظة لقاء معقدة وتركيبية، وذات إشكاليات متعددة، تضافرَ فيها اليسارُ الغربي مع الشمولية الشرقية، والرغبة في القفزة النهضوية مع الاستبداد، وتسريعُ الحداثةِ مع هياكل اقتصادية متخلفة جامدة، وتم جلب أحدث الأفكار التقدمية لوعي شعوب دينية تعيش في قرون سابقة!

أسرعت قوى سياسية في تنميط موديل سياسي يساري نهضوي رأت فيه الشفرة الموجزة والمتكاملة وجعلت من الدكتاتورية طريقة سياسية لحل كل هذه الإشكاليات.

تداخل الموديل التاريخي العابر مع إطلاقيات مقدسة وأنه يؤدي إلى زوال الرأسمالية في العالم ككل، وتوجه لإزالة الأديان والقوميات (الشوفينية) وإحلال لغة قومية لشعوب أخرى.

الطريق الرأسمالي الحكومي الشرقي عامة وصل إلى طريق مسدود، وعادت الرأسمالية السوداء والفوضوية وعاد الدين المحافظ ليتبوأ مكانة مقدسة، وعجزت اللغة القومية أن تكون لغة عالمية للشعوب التي عادت إلى لغاتها وتقاليدها العتيقة!

أخذ اليسار الشمولي ينهار وينعزل، ولا يقدم إجابات عن الأسئلة المعقدة والمركبة للشعوب الشرقية، واستمرت أصواتٌ يسارية قليلة ونادرة في مثل هذا الزحام بين يسار شمولي متآكل تاريخياً وقوى رأسمالية بيروقراطية امتلأت بالفساد ونهج العصابات. بين قوى شعبية عاملة يئست أو تجمد وعيها واضطربت أفكارها بين يسار شمولي وعد بالجنة، وبين جنان رأسمالية في الغرب تهفو إليها!

كان نجاح اليسار الشمولي في تصعيد التنمية الهائلة لهذه البلدان وبين إخفاقات الديمقراطية والتطور الاجتماعي المتكامل، بين خلق نهضة كبرى لا أحد قادر على إنكارها، وبين دهس الشعوب ورفض حرياتها وتعبيرها عن ذواتها، تناقضات ضخمة استعصت على الحل التاريخي الملموس في ظرف زمني قصير قياساً لعمر الحضارات!

وكان غياب التطور المتكامل الجامع بين النهضة الصناعية والتحديث والديمقراطية، له ثمن فادح، في قفزة القوى الدكتاتورية الحكومية العسكرية والاستخباراتية إلى سدة الحكم، وفي تدمير الكثير من إنجازات القطاعات العامة، وتصعيد مليونيرات من الأقبية السرية للبيروقراطية، وفي انهيار المؤسسات العامة للثقافة ودعم الدول للمفكرين والمبدعين.

كان السؤال الخطير هو: لماذا عجزتْ هذه التجاربُ العالمية الهائلة عن إنتاجِ يسارٍ يجمعُ بين التنمية والديمقراطية، بين تقدير الأديان ونقد جوانبها المحافظة السلبية، بين قيادة القوى الاشتراكية المفترضة واحترام المؤسسات الديمقراطية التي تكونت في بدء الثورات؟

 ولماذا تم مجاملة القوى الحاكمة وعدم نقدها وتسلق قنواتها السياسية؟

 كانت هزيمة الاشتراكية الديمقراطية التعددية وسيطرة النموذج (الشيوعي) كارثة في تطور شعوب الشرق، رغم أنه كان في خلال عقود نموذج الحلم المسقبلي.

لا بد من بحث نتائج هذه العملية الآن، بعد سنوات من الصراع بين الموديلات السياسية المختلفة، وخاصة بين اليسار الشمولي واليسار الديمقراطي، ماذا حدث؟ وما هي نتائج الانهيار، وهل ظهر يسار ديمقراطي يجمع بين التنمية والديمقراطية؟ بين احترام الأديان والتقاليد وشق الطريق لصعود قوى الكادحين؟

 ماذا تقول الأحزاب الشيوعية عن تجاربها؟ وهل ظهرت أحزاب اشتراكية ديمقراطية؟ وما هي أوجه الاختلاف بينها؟ وهل ثمة صيغ متقاربة ومتداخلة؟

ليست العوامل الذاتية هي التي صنعت الشيوعية والاشتراكية البيروقراطية الاستبدادية بل العوامل الموضوعية. إن الشرق بملايينه المتخلفة الفقيرة ومحدودية الثقافة التنويرية والديمقراطية فيها هو الذي خلق الأساس الموضوعي لتلك الاتجاهات، وإن لم تأتِ منها جاءت من الاتجاهات الدينية والقومية الشمولية، فهذه كلها تلوينات ودرجات من فهم الضرورة المركبة، المعقدة، لولادات الأمم الشرقية في العصر الحديث، ومدى قدرة أشكال الوعي على النفاذ إلى هذه الكتل الأمية الهائلة من الجماهير.

ولهذا فإن العوامل الذاتية من أحزاب وأفكار وتشكيلات وثقافة تتعرض لهذه العوالم الموضوعية وجبروتها وتخضع أغلبيتها لها، أي أن الأحزاب الطليعية تخضع للجماهير المتخلفة وحاجاتها ومطالبها ومستوياتها.

تحدث التبدلات والانشقاقات تبعاً لخضوع الحزب الطليعي لتخلف الجمهور، وصحيح أن الحزب البلشفي هو حزب طليعي، لكن انشقاقه عن الاشتراكية الديمقراطية تعبير عن هذا الخضوع للتخلف العام عن انتقال العامية والحدة العاطفية وعدم الصبر إلى صفوفه، عن توجهه للتسريع وحرق المراحل في غطاء كثيف من الدخان عن الانتقال الى الشيوعية.

في روسيا كانت ثمة إمكانية لنمو الاشتراكية الديمقراطية، فقد كانت بلداً أكثر تطوراً من أغلبية دول الشرق، كان فيها مثقفون كثيرون وتقاليد تنويرية ومدن قيادية في التطور الرأسمالي الصناعي، لكن الاشتراكية الديمقراطية فيها لم تجد قيادة نشطة وعميقة التفكير، فهي لم تجمع بين المهمات الديمقراطية من برلمانية وحرية سياسية والقيام بمهمات ديمقراطية اجتماعية كالمطالبة بإصلاحٍ زراعي وبتحرير النساء وبالعلمانية وغيرها من المهمات التي تتضافر بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.

إن (اللينينية) باعتبارها الشكل الاستبدادي من الاشتراكية الديمقراطية تتخلى هنا عن (الديمقراطية)، تنتقلُ الى الدكتاتورية، تجد في ثيمة دكتاتورية البروليتاريا نظاماً، ترفض التعددية الحزبية، وحرية الصحافة، تنتقل الى نظام بيروقراطي بوليسي في خاتمة المطاف.

ولكنها – وهي في فرضها دكتاتورية سياسية – تحقق إنجازات الحرية الاجتماعية: توزيع الأراضي، تقدم النساء، تطوير الشغيلة الخ..

هي في هذا تتجاوز إمكانيات المرحلة، تقفز الى الثورة الاشتراكية التي لم يحن أوانُها بعد، لم تركز على الثورة الديمقراطية، وتجذرها في الأرض، تستجيب لحاجات الأكل والملبس والعمل، تخلق إمكانيات كبيرة لهذا كله، لكنها تخلق نظاماً استبدادياً، تتصاعد فيه قوى الشرطة السرية وإدارات الجيش والموظفين الكبار، وتغدو هي الطبقة الحاكمة بديلاً عن العمال الحكام المفترضين.

الجمهور الذي يجد لقمة العيش متوافرة يؤيدها، لكنه بعد سنوات يجد أن مصيره قد ضاع منه، إن الأسياد عادوا من جديد تحت ألبسة أخرى، والحشود الحزبية التي تقاتل وتدافع عن الوطن بتضحيات جسام، والعمال المكافحون لنشر المصانع، هؤلاء يتراجعون الى خلف المسرح السياسي، يظهر الأمناء العامون للحزب المتحجرون القادمون من الأقبية السرية، نفحة الأمين العام الساخرة الانتقادية الشعبية ترفض على غرار خروتشوف اليسار الانتهازي المحب للمناصب والتسطيح النظري واللافتات الشعارية والمغيب للتحليلات العميقة، والمتداخل مع الفساد، هو الذي يصعد ويسيطر على السياسة الرسمية.

مثل هذا اليسار يقتل الفكر التقدمي الانتقادي الديمقراطي، يحافظ على الكليشيهات، ينمط الأحزاب الشيوعية الأخرى في مثل هذه الحقول المحدودة.

إذن قامت الدكتاتورية الشرقية الحكومية ونمطها المتواكب هنا مع الاشتراكية الاستبدادية، بقتل العناصر الديمقراطية في الفكر، عبر هذا التنميط.

أزمة اليسار #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

تتردد كلمة أزمة اليسار وغياب اليسار في الكثير من المقالات، تعبيراً عن فقدان لقوى مهمة معبرة عن أغلبية الشعب.

كان اليسار نتاج صيغ مستوردة وكان عالمياً يشتغل لإنتاج رأسماليات حكومية، أُضفيت عليها شعارات إشتراكية، والتحمت هذه الشعارات بالمطلق، أي رئيت وكأنها أبدية، مما جعلها نسخاً من الأديان.

وقد كانت الأديان في بدايتها ثورات معبرة عن أغلبية الناس، وهي الخميرة الأساسية، التي تم دفنها في الأشكال العبادية المفارقة لتطور الناس وتقدمهم، وغدت الأديان معبرة عن الأقليات الإستغلالية فركزت على الأشكال كأدوات سيطرة على الجمهور.

ولهذا حين حاول اليسار أن يعبر عن الإغلبية الشعبية كان يواصل سيرورة الأديان، في تلك الثورات، لكن اليسار في العالم العربي لم يتواصل مع تاريخه العربي، بل استورد يساريته من الخارج، وهي عملية ضرورية في جانب الأدوات النظرية التحليلية لأنها نتاج تطور العلوم التي هي خبرة بشرية عالمية، والتي كان ينبغي أن تتوجه لكشف تطور المجتمعات العربية، وهي غير ضرورية بل مضرة حين تغدو جلب قوالب وتركيبها على تطور الشرق المختلف عن الغرب.

في التجارب (الاشتراكية) التي تحولت إلى أديان حديثة، نجد العمل الهام الذي إستغرق سنوات على تطوير حياة الأغلبية، لكن من خلال هيمنة حكومات مطلقة، وحينئذٍ يغدو الفكر (الاشتراكي) دينياً ويصبح شيئاً فشيئاً معبراً عن الأقلية الاستغلالية، لأن البيروقراطيات تنفصل عن الناس وتحول جزءً مهماً من الفائض الاقتصادي لمصلحتها.

فالوعي (الاشتراكي) هنا يكرس شمولية الشرق؛ وهي سلطة مطلقة أبدية، وإدعاء بامتلاك الحقيقة والقضاء النهائي على الشرور، وتحويل الزعماء الموتى إلى مزارات ومعبودين، حتى يتم دفن الفكر النقدي العقلاني معهم.

هذا الوعي الديني هو الذي هيمن على اليسار العربي، فتم نقل إشتراكية دينية بيروقراطية ذات نصوص شبيهة بالكتاب المقدس، الذي لا يمسه سوى المطهرون، وهي في ذات تنكر تراثها الديني، وليس الأشكال التقليدية فقط بل كذلك المضمون الثوري المتواري في بداياتها.

لكنها تنزلق نحو الأشكال التقليدية، فالمقدس المحافظ موجود في لا وعيها في أكثر الأحيان، خاصة أن الكثير من مناضليها هم من الفقراء والعمال. فالأشكال التقليدية أكثر حضوراً في الحياة اليومية، كما أن الاشتراكية ليست عند الأغلبية سوى شعارات.

 بسبب المواجهات بين الرأسماليات الحكومية الشرقية التي تصورت نفسها نهاية للتاريخ، وبين الغرب، حدث انتصار للرأسماليات الغربية الأعرق وكذلك حدث تطور آخر في الرأسماليات الحكومية الشرقية، فكشفت عن وجهها الرأسمالي، وتجاوزت إختناقها التقني الانتاجي، وقاربت الديمقراطية الغربية في جوانب شكلية.

وبهذا فقد اليسار العربي سنده العالمي، وأعتبر ذلك نتاج خيانة للاشتراكية أو لتغلغل الجواسيس، وغير هذا من السببيات المسقطة بشكل ذاتي، فأصيب بصدمة دينية، عُوضتْ في جوانب منها بالرجوع إلى الدين المحافظ، الدين كما صاغتهُ قوى الإستغلال، وكان الرجوع للمحافظة والأشكال العبادية والطقوس وغيرها  من المظهريات، جزءً من تدهور طويل في هذا الوعي (اليساري).

وإذا كانت بعضُ القواعد  انهارت وذابت في المظهريات الدينية الطافحة، فإن جزءً من القيادات تمرس بالأشكال الانتهازية، والمصلحة الذاتية، والميوعة الفكرية، والتوجه مع الغالب أي مع الأطراف الدينية المحافظة بتنوع تياراتها وزئبقية مواقفها وتوجهها نحو الانضمام إلى قوى الإستغلال السائدة.

إن الطبيعة الدينية في هذا اليسار تعتمد على قواعد شعبية لم تتجذر في المعرفة العلمية، فليست الأفكار اليسارية – كما يُفترض – شعارات وإنما نظرية متغلغلة في كافة العلوم خاصة الاجتماعية منها.

وأغلبية العمال ليس لديها وقت للقراءة المعمقة إن لم يكن ليس لديها وقت للقراءة أصلاً، ولهذا هي تعيد سير آبائها الذين بعد أن ينتهوا من العمل يتوجهون للترفيه أو إلى دور العبادة يشحنون أدمغتم بالخطب المنبرية، ثم مع الأيام تضعف صلاتهم هناك بأعماق الدين وهنا بأعماق اليسار وجذوره التاريخية.

وتصبح المظهريات العامة الدينية واليسارية بينهما مشتركة؛ البكاء على الشهداء، وعمليات الشحن الموسمية للرمزية المعبودة، وتسلل الطائفية عبر تنحية رموز وتعظيم رموز دينية، تنحية النساء عن التنظيم والقيادة، وغير هذا من الجوانب التي تغدو في الشباب أكثر بروزاً وهي التي لم تشهد النضال اليساري في عنفوانه.

 يساعد على ذلك نوعيات التنظيمات اليسارية خاصة التي صارت أندية وشللاً، وفقدت مضمونها الجوهري وهو الالتحام بالواقع والجمهور والصراع معهما، من أجل تحليل واقع الأغلبية وتطوير مساهمتها في التغيير.

وإذا كانت لا تدرس الواقع، ولا تعتمد على القراءة والإنتاج المعرفي التحليلي للحياة، ولا على جهود أعضائها تقرأ الواقع وتصارعه، فإنها تغدو مذبذبة، انفعالية، عفوية، تتبع تيارات الواقع ولا تقودها.

ولأن الواقع يتمثل في صراعات الطائفيين المسيطرة فإن حركة (اليسار) تصير بينها، استفادة منها، وميلاً إلى بعضها، ونقد أخرى، لأنها تكون قد إنزلقت بينها وصارت جزءً منها.

صارت العفوية أساس عملها وهي التي تتيح نمو الانتهازية في صفوفها.

في إطار تحليله لأزمة اليسار يقول إحد الكتاب العرب:

عندما إنضم ابناء جيلي لمعسكر الفكر الماركسي المتمثل اساساً بأحزابه الشيوعية، كنا نتفجر بالطاقات الفكرية والنضالية، والثقة التي لا تتزعزع بصحة نهجنا، وبأننا قادرون، رغم ضعفنا الواضح في مناطق ما من العالم، على تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً، بالانتصار على الاعداء الطبقيين والانضمام الى العالم الحضاري المتنور، عالم العدالة الاجتماعية والحرية البعيد عن الاستغلال، الا وهو العالم الاشتراكي. وكنا مؤمنين بنهجنا متعصبين له بشكل مطلق. ولكن اتضح فيما بعد ان ما كان يبدو قريب التحقيق اصبح مستحيلاً، وأقرب الى معجزات السيد المسيح وكنا قد تجاوزنا جيل الحماسة والاندفاع، وبدأنا ننظر للقضايا الفكرية والاجتماعية بواقعية ومنطق مختلفين عن أساليب التلقين الحزبية التي واصلت (والمرعب انها لم تتغير حتى اليوم) التمسك بنفس النهج والتصرف وكأن ما جرى في النظرية والتطبيق مجرد خطأ مطبعي سيجري تجاوزه وتعود الثوابت الايمانيه الى مكانها الطبيعي. فالحديث ليس عن نظرية أو فلسفة تتعارك مع الواقع الفكري والاجتماعي، انما عن دين له كهنته وبطاركته ونصوصه المقدسة بل وله حرمته الدينيه. وكأن المعسكر الاشتراكي لم ينته، ونموذجه الاشتراكي هو النموذج الوحيد القادر على انقاذ البشريه… رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي، ومن انحرافات، وتجاوزات للفكر العظيم لمؤسس الماركسيه- كارل ماركس، قزمت فلسفته وحولتها الى ستالينية ضيقه الافق مارست أبشع اشكال القهر والاستبداد ضد شعوب الإتحاد السوفياتي والمجموعة الخاضعة لها في اوروبا الشرقية.).

حتى في إطار نقد الفكر اليساري وتجربته تتواصل عقلية الفكر الديني المحافظ، فمصطلحات مثل (عالم العدالة والحرية البعيد عن الاستغلال)، تعيدنا إلى ذلك الوعي فهي تصويرٌ للمجتمع السوفيتي كمجتمع ديني، كجنة أرضية، انحرفت إلى النار بسبب شخص كافر هو ستالين، لم يمش على صراط الإمام الأكبر ماركس.

وهناك جوانب في الفقرة السابقة المستشهد بها حقيقية، لكن الفقرة لم تقترب من فهم أساليب الإنتاج، وهي الفكرة الرئيسية لفهم الماركسية، فـ:(عالم العدالة والحرية البعيد عن الإستغلال) كلامٌ خيالي، وهو كلام مقصود به القفز على التشكيلة الرأسمالية، وهو ما كان المطب الرئيسي لمنظومة ما يُسمى بـ: (الماركسية – اللينينية) التي تمظهرت في مؤسسات الأحزاب الشيوعية، والتي اعتبرت هذه التشكيلة غير ضرورية، ويمكن القفز فوقها للذهاب إلى الاشتراكية مباشرة، وهي تعبر عن عقلية مغامرة غير علمية، لهذا كانت في العمق وعياً دينياً، وفي الظاهر إلحاد عدمي، يعتقد بإمكانية الطيران فوق السببيات الاقتصادية، وصناعة الواقع كما يهوى ويتحول إلى دين يسحق الأديان.

لكنه كان يصنع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية، فليست المسألة مسألة (رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي)، بل الأمر أخطر وأكبر من ذلك، إنها عملية صنع المنظومة الحكومية الشمولية تلك، أي الأمر يعود لتكوين دكتاتوري في العلاقات الاجتماعية والسياسية الشرقية الضاربة الجذور في الاستبداد. فاستيراد الروس للماركسية كان إستيراداً بعقلية دكتاتورية تمظهرت بقوة في الحزب البلشفي، وكان المناشفة، المنادين بالديمقراطية أقرب للماركسية! وهكذا كان لينين صانعاً لهذه الدكتاتورية الرأسمالية الحكومية، منذ بداية تنظيم البلاشفة في الخلايا الأولى!

ولهذا كانت الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية هي الممكن الوحيد لدى مثل هذه المؤسسات السياسية، وليس هذا ببعيد عن القوميين العرب والبعثيين والطائفيين الحالييين، فمهما كانت مصادر نقلهم للأفكار، فهم في النهاية يعملون لقيام رأسماليات حكومية دكتاتورية، فهذا له جذور في تاريخهم السابق لا يقوموا سوى بقولبتها على الحاضر. لا يختلف في هذا لينين عن الخميني عن عبدالناصر عن هوشي منه عن كاسترو عن صدام الخ..

وهي علاقات تجعل (اليساريين) يرون في الطائفيين أخوتهم في النضال!

كان إنشاء قطاع عام أساسي في روسيا وتشجيع القطاعات الخاصة المنتجة و تطوير الريف وتحديثه بشكل تدريجي والسماح بتعدد الأحزاب والحريات العامة والانتخابات الحرة كان أفضل للتجربة الروسية، وهو ما صار وامضاً في السياسة الاقتصادية الجديدة في العشرينيات من القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي، التي لم يحولها لينين إلى منظومة مصراً على النظام الحكومي الدكتاتوري، فـُنسفت هذه العناصر الديمقراطية مع تصاعد الدكتاتورية بشكل شامل.

وإطاحة ستالين بأعضاء المكتب السياسي الآخرين وقتل أغلبهم ليست مسألة عبقرية شخصية، بل هي نتاج تصاعد البيروقراطية الحكومية وتصاعد الأجهزة السرية البوليسية والعسكرية التي وقعت خيوطها بين يديه!

 ثم عممت هذه التجربة على البلدان والأحزاب الأخرى باعتبارها إشتراكية!، وقد هيجت هذه السياسة الصراعات الدولية الكبرى وبررت صعود الفاشيات في أوربا الغربية.

لم يقم اليسار العربي بنقد تجربته النضالية الدكتاتورية إلا بأشكال عمومية ومجردة ولم يدرسها بشكل نقدي من خلال تاريخه الخاص، لأسباب فكرية بدرجة خاصة فهو الماركسي لا يعي الماركسية، إلا باعتبارها قوالب شرقية استبدادية، وعبادة لقادة، وأبوية وطنية وعالمية.

هو جزء من جماعة تسودها الأبوية وغالبية عمالية تكره الرأسمالية بسبب عيشها في مصانع وشركات وتحن لإزالة الاستغلال، وهي تعاني من ظروفها  هذه ولا تستطيع أن تغير مهنها، ولا تدرس الثقافة السياسية كذلك، وبالتالي يكون لها وعي مناهض بشكل عفوي للرأسمالية، وتمضي غريزياً للشعارات الاشتراكية، دون فهم عميق لها.

ومقاومة الاستغلال الرأسمالي وتحسين ظروف العمال وأجورهم أمور هامة جوهرية، ولكن مسألة إقامة نظام سياسي إشتراكي شيء مختلف.

وغالباً ما لا يفهم حتى قادة العمال هذين الأمرين، نتيجة لذلك الوعي، خاصة في دول تعيش نظاماً تقليدياً، متخلفاً، كما أن (الماركسية – اللينينية) التي تمتْ صناعتها في دول الرأسماليات الحكومية كرست مثل هذه الأمية الفكرية.

ولهذا فإن واقعاً معقداً كالذي نشهده حالياً لا تستطيع مثل هذه اليافطات الشعارية أن تحلله وتفهمه، وتتأخذ تجاهه موقفاً نقدياً يؤدي إلى تقدم حياة الغالبية من الجمهور.

لقد خلقت الطائفيات مثل هذه المواقف الملتبسة، وتؤدي العفويات السياسية والانتهازية والمعارضة الغريزية، أدوارها في تأييد الأحزاب اليسارية للطائفية الشيعية أكثر من الطائفية السنية، خاصة في بلدان المشرق ما عدا مصر وفلسطين والأردن، التي لها سمات مذهبية ودينية أخرى، فالكثير من قواعد الأحزاب اليسارية تأتي من العمال والفقراء، المشحونين بالدعاية الطائفية، ولا تتمكن مداركهم من فرزها وتحليلها، وحياتهم اليومية تجري بين هوائها، ولهذا يؤيدونها دون إدراك لمخاطرها.

والسياسات الطائفية لكافة دول المشرق مرفوضة، ولكن الأخطر فيها حين ترتبط بمشروعات توسع، وعسكرة، وتقمع شعوبها في الداخل، ولهذا فإن عدم نقد مثل هذه السياسات في الأحزاب (اليسارية) هو بحد ذاته مبعث قلق كبير، ولعل أسبابه تكمن في مجاملة طائفتها، وأعضائها المنتمين إليها، وحينئذ تكون السياسة (اليسارية) قد وصلت إلى الكارثة.

كما أن الطائفيات السنية لا تخلو من سلبيات كبيرة كذلك، فالعسكرة وسياسة الأجهزة العسكرية والبوليسية وإرسال الرساميل للعيش في الخارج، وعدم المساواة في المناطق وبين المواطنين للدخل الوطني، هي وغيرها سلبيات يجب نقدها بقوة من قبل الأحزاب اليسارية، لكن في هذه الفترة الحالية تكون سياسة المحافظين الدكتاتوريين في إيران هي الأكثر خطورة على حياة المنطقة.

مثلما تتوج خطأً السياسة الطائفية السنية في تأييد القاعدة وداعش.

تحدث المجاملات والتغاضي عن ذلك البلد وتلك الطائفة فيقال أن ذلك لحساسية الموقف! وليس ذلك سوى للحفاظ على مظهر هش للتنظييم اليساري، الذي تقاعد مبكراً من اليسار، لكنه يخدع نفسه بمظهريات، وعبر أعضاء لا يقرأون، ولا يزاولون نشاطاً سياسياً تحويلياً للواقع.

بطبيعة الحال يمكن لمواجهة الجمهور المتخلف والمتعصب أن تجرى وسائل الارشاد بطرق حذرة، وعبر التمييز بين رموز التراث والأنظمة التي تتاجر بها، لكن الحقائق يجب أن تقال، وأن تترسخ في وعي هذا الجمهور، فالتناقضات داخل الطوائف والأنظمة الشمولية تحتدم، وسيكون لها في المستقبل مظاهر حادة تصل بالقوة حتى إلى عقول أكثر الناس تخلفاً عن متابعة الأحداث وفهم الواقع.

ولو كان اليسار ذا مواقف نقدية من الظاهرة السوفيتية والصينية والناصرية والبعثية واليمنية الجنوبية وغيرها، لكان قد طور عقلانيته، وكان أكثر بقاء واتساعاً، وقلل من كوارث الأنظمة والحركات الطائفية، ولكن ذلك لم يحصل، وهو لا يحصل الآن تجاه الأنظمة التي ورثت السابقين، مما يدل على ضعف تنامي تلك العناصر النقدية العقلانية، وهيمنة العفوية المؤيدة للدكتاتوريات الجديدة، ومجاملة المتخلفين، والاستفادة منهم لمصالح عابرة، بدلاً من تبصيرهم بوعورة الطريق، وعرض تجربتهم هم كيساريين بلسبياتها وإيجابياتها، فالجميعُ نتاجُ نسيجٍ واحد شرقي شمولي طائفي، لا بد من التعاون لتغييره.

تجديد الخطاب الوطني

لم يكن الخطاب الفكري لهيئة الاتحاد الوطني في سنوات الخمسينيات بقادر على تشكيل وعي وطني متجذر ومتماسك، بسبب المقدمات الفكرية المحدودة لحركة الهيئة.

 فهى لم تقم على فلسفة علمانية متجذرة، فكانت الآراء السياسية فيها تقوم على شعارات مأخوذة من حركتين سياسيتين عربيتين شموليتين لم تترسخا فكرياً في منطقة الخليج، وهما الحركة الدينية والحركة القومية العربية، وكذلك على أفكار مجزأة ومحدودة من الليبرالية.

 كانت هذه الشعارات لم تتحول إلى رؤية عميقة، ولهذا نجد كتاب الخمسينيات سياسيين بدرجة أساسية، ولم يستطيعوا أن ينّظروا إلي الحركة الوطنية المتصاعدة باتساع كبير، ولكن الاتساع الذي لا يضبطه نهج فكري عميق ويتسم بالفوضوية والعفوية المذهلة في ساعة والمنهارة فى سنين !

 كان هدف الحركة الوطنية هو تجاوز الطائفية التي أشعلها الاستعمار والقوى المحافظة بهدف تمزيق حركة النهضة والتحرر المحلية، ومن هنا صبت كافة الأفكار السياسية في مسألة الوحدة الوطنية، فكان الهدف العملي المباشر هو غاية الفكر السياسي الانفعالي واليومي.

 فإذا طُرحت مسألة الطوائف طُرح الإسلام كبديل جاهز، دون وعي لتاريخية هذا الإسلام وجذوره الاجتماعية والتاريخية، بل كما تم تشكيله لدى الإقطاع الديني على مر القرون السابقة، ومن هنا ظهرت هيئة الاتحاد مشكلة بتناصف بين السنة والشيعة (خمسين من كل طائفة لتشكيل عدد أعضاء الهيئة)، كأسرع حل سياسي لقضية مركبة ومعقدة فكرياً وسياسياً، وقد تصور المكرسون لهذا التنظيم الفضفاض أن تقسيماً بهذا الشكل كافٍ للقضاء على الطائفية السياسية، وتوحيد الناس في حركة سياسية قوية.

 وهو أمر كان يعكس المستوى الفكري السياسي في ذاك الوقت الذي أدى خدمة جليلة، إلا أن مسائل العفوية والارتجال لا يمكن أن تشكل حركة باقية .

 إن الحركة السياسية الوطنية بقيادة هيئة الاتحاد قد قامت بتسييس وطني للجمهور والنخب السياسية التي التحمت و بدأت تكوين الحركة السياسية الحديثة، يساعدها التيار القومي والتقدمي العالمي الجارف وقتذاك.

 لقد تم مؤقتاً عزل الطائفية السياسية ولم تعد لها قدرة على تشكيل حركات سياسية بين الجمهور، وقد وصل التفاؤل حده لدى بعض الأصوات السياسية بتصورها (الانتهاء التام والقضاء المبرم على الطائفية السياسية).

 يمكننا أن نعيد أسباب هذا الانطفاء الغريب والسريع للطائفية السياسية كذلك بكون الفئات الوسطى من طائفة السنة لم تنخرط بقوة في ذلك الوقت في أجهزة الدولة باتساع كما جرى الأمر بعد ذلك، وكان حرمان هذه الفئات من التوظيف الواسع ومن المشاركة في الدخول، قد جعلها تصطف وطنياً وتجاهد من أجل الوطن وتحرره .

 في حين كانت أغلبية طائفة الشيعة المشكلة من العمال والموظفين الصغار لها مصلحة كبيرة في نمو النضال الوطني، لكن حصائل الاستقلال جاءت بأشكال مختلفة من التوظيف وتطور العمالة، فغدت أغلبية كبيرة من موظفي الدولة ذات لون سني، وهو أمر ترتب على أساس استمرار التمييز الطائفي .

 أي أن الشعارات الهادفة للتذويب الطائفي ونشوء دولة وطنية خالصة لم تحدث، ورغم ذلك فمع وجود تيارات يسارية وطنية قوية على الساحة وقتذاك لم تكن المشكلة محسوسة أو مهمة لدى الجمهور والنخب السياسية كذلك، فلم يكن مهماً من يكون عاطلاً، سواء كان بحرينياً قبلياً أو من أصل فارسي، أو شيعياً فلم تكن المسألة المذهبية وحتى القومية مطروحة على بساط البحث بعد هذا التدفق السياسي الوطني من قبل هيئة الاتحاد واليسار البحريني.

لنقل إن الخطاب الذي بثته هيئة الاتحاد الوطني بصيغته الوطنية العامة المجردة، قد تم دعمه من قبل خطاب اليسار الذي لم يفرق بين القوى الدينية، وناضل من أجل جميع المواطنين، ويمكن ملاحظة أن هذا كان من جانب دولة الاستقلال كذلك التي لم تفرق بين المواطنين على أساس المذهب، ثم مع تفاقم النزاعات المذهبية تغير الحال.

 وصار الآن من الصعب أن نأخذ خطاب هيئة الاتحاد الوطني العاطفي الذي يغيّب الجذور باعتباره قادراً على تشكيل وحدة وطنية من نوع صلب، بعد أن كشف الزمن أن الوحدة الوطنية بالمناصفة السياسية التي طرحتها الهيئة، غير قادرة على الصمود تاريخياً.

 كذلك فإن الوحدة الوطنية على طريقة اليسار لم تستطع الصمود داخل تشكيلات اليسار، حين فقد اليسار مقوماته الفكرية والعلمانية وصار مُلحقاً بالحركة المذهبية عاجزاً هو نفسه عن حماية المنجزات الوطنية.

 إن هذا كله يجعلنا كذلك لا نجعل المرحلة الطائفية السياسية الراهنة أنها خاتمة المطاف، بقدر ما نعتبرها مقدمةً لكوارث قادمة، أو لتحولات إيجابية .

 وإذا كانت المرحلة الوطنية ذات الوحدة الهشة المشكلة على أساس عاطفي أو فكري نخبوي؛ قادت إلى مرحلة الطائفية السياسية الفاقعة الراهنة، فذلك يعنى ضرورة وجود تركيب، أو عملية نفي لكلتا المرحلتين السابقتين، فى وحدة أعلى تجمع ما أمكن منجزات الفقرتين.

 أي أننا بحاجة إلى أن تتشكل الطبقات بألوانها الفكرية المختلفة، وأن تبقى المذهبيات الدينية تمارس عقائدها وشرائعها دون تدخل في الصراع السياسي .

 إن المذهبيين الحاليين يعتقدون أن الوضع الطائفي الراهن هو لمصلحتهم، غير عابئين بالتاريخ الوطني السابق، رافضين تحليل التاريخ والحاضر لاستخلاص الدروس، سواء بخطورة الفسيفساء الطائفية ودورها في تمييع الموقف السياسي، وإضعاف جميع القوى السياسية، وجعل الدولة أو المعارضة الطائفية، هما سيدتا الموقف .

 وهذا أمر في غاية الخطورة، لأنه سوف يمحو منجزات التاريخين السابق والراهن، إذا كان للتاريخ السياسي المذهبي الحالي منجزات .

 ويبدو أنه لا التثقيف ولا دروس التاريخ كافيان لأعطاء ضوء أحمر، لمن جعلوا من الطائفية «سوبرماركت» سياسياً، ويبدو كذلك أن المزيد من التفتت والانشقاقات في القوى الراهنة هو وحده المطروح على الجمعيات السياسية، التي ستجد نفسها في تفتت مستمر، لأنها غير قادرة على النمو الصحي الداخلي العميق داخلها، ولا قادرة على النمو الصحي خارجها، بالوحدة مع قوى أخرى، من خارج نسيجها الضيق. وتشير الانشقاقات الواضحة والمتوارية إلى عجز الوعي السياسي الراهن بمجموعه عن أبسط حركة سياسية قامت بها هيئة الاتحاد الوطني وهي (الوحدة)، وتجاوز النعرات الطائفية والايديولوجية التي هي الغطاء الذي يتمطهر به بعض الأفراد لاحتكار العمل السياسى وقيادته في الجمعيات.

 فحقيقة لا توجد قوى من طائفة أو طبقة أو فئة وكل الأمر هو هيمنة أفراد على أطياف سياسية فارغة من القوى الثقافية والفكرية، ويتمترس هؤلاء الأفراد وراء تلك القوالب لأخفاء الفراغ الفكري في جمعياتهم، مما يدفع أناساً آخرين للقيام بمثل ما قاموا به، لأن الأمر لا يحتاج إلا إلى بضعة أفراد لتشكيل جمعية أخرى وهكذا دواليك من حركة الاميبا السياسية، التي هي حركة توالد انشقاقية لا حركة نمو للنوع السياسي.

 ويعود الأمر مجدداً لغياب الفكر، وانتشار الضحالة والأمية السياسية والاجتماعية؛ وهي أمور سوف تجعل الجمعيات في حالة من العجز عن الارتفاع حتى إلى مستوى هيئة الاتحاد الوطني بروحها العفوية، التي مثلت رغم كل سلبياتها لحظة التضحية والارتقاء إلى مستوى المسئولية الوطنية الكبيرة، وعدم الاهتمام بالمصالح الشخصية والفئوية التي تظلل الجمعيات الطائفية الراهنة وتوابعها من العلمانية الخائرة الخاوية.

الإصلاح الحزبي

لم يتغير البناء السياسي المذهبي عن العقود السابقة، وهو البناء الناتج عن صعود مراكز إنتاج المذهبية السياسية في الجزيرة العربية وإيران، فهذه المراكز أضعفت المركز العربي الديمقراطي النهضوي الذي كان سائداً منذ بداية القرن العشرين والذي أنتج الحركات القومية والوطنية والاجتماعية المختلفة.

ولأن إنتاج المذهبية السياسية في الجزيرة العربية وإيران يقوم على الصراع السني – الشيعي، فإنه من الممكن أن يتفاقم بقوة خلال السنوات القادمة.

ويؤكد ذلك ما يجري في العراق، وكون الأطراف الفاعلة المختلفة لم تحول التجربة إلى تجربة تعايش عربية إسلامية، بل أُعتبر العراق ساحة اقتتال بين المذهبيتين الرئيسيتين مما أدى إلى حرق الخريطة العراقية.

إن الصراع كان صراعاً بين دول اتخذ من المذاهب والجماعات المذهبية واجهة له، وتعرض الأبرياء والسكان لمخاطره.

ولم تنعطف التجربة السياسية لدينا إلى تجاوز نوعي لمثل هذه الشبكات، فهي أقل منها تجذراً في مثل هذا التاريخ المذهبي السياسي، ولكنها ابتعدت عن لغة التعصب في السنوات القليلة الماضية، غير أن الأسس السياسية لها ظلت كما هي.

أي أن المعسكرين المذهبيين السياسيين ظلا هما كما هما، بدون تغييرات جوهرية، سوى من عمليات إعادة تنظيم، أو تفتت أو تكوينات جديدة صغيرة لا تضيف شيئاً جوهرياً.

ولهذا فإن الذين يتحدثون عن أحزاب من هذا التكوين فكأنهم يتحدثون عن تعميق هذه المظاهر، ونقلها إلى مستوى جديد من التأزيم.

لا بد أن نترك تقليد الدول الأخرى وأن نعتبرها نموذجاً بل أن نعتبر ظروفنا ومشكلاتنا هي الأساس في عملية التطوير السياسي.

فنحن بحاجة إلى إصلاح هذه الجمعيات نفسها قبل الانتقال لمرحلة أعلى، بأن تتطور فكرياً وسياسياً وتستند على أسس اجتماعية وطنية في بنائها السياسي، وأن ترتفع عن التمثيل الطائفي، وهذا لا يمنع من تمثلها للجمهور الشعبي بمختلف قضاياه، والتمسك بمطالب التغيير الاجتماعي.

إن طبيعة الاستعجال في العالم النامي هي نتاج لضعف التطور الفكري لدى الجمهور الذي يريد كل شيء جاهزاً من قبل الحزبيين ويضغط عليهم في الاجتماعات من أجل تنفيذ مطالبه في المعيشة، ويتوجه بعضُ الحزبيين إلى المغالاة أو إلى عدم درس الواقع، وطرح مطالب بعيدة، مثل إنشاء الأحزاب وكأن الأحزاب بحد ذاتها أداة سحرية تزيل تخلف الجمهور وجمود السلطات في التغيير، في حين أنها لا تعبر سوى عن أشكال جديدة لنفس الجماعات.

نحن نحتاج إلى تراكم فكري وإلى تراكم سياسي اجتماعي، يجري فيه تغيير الكوادر التي تشكلت في الزمن الماضي بعقده وبمستوياته المعرفية المحدودة، وإلى أن تنفتح الجمعية على أبناء المنطقة والبلد وجذبهم إلى عضويتها، بأن تترك الأساس المذهبي الديني الذي قامت عليه، تاركة إياه للجمعية الدينية وللمشايخ، أما هي فتتحول إلى جمعية سياسية محضة، يدور فيها العمل حول السياسة وقضاياها.

إنها فترة مرحلية ضرورية تقوم فيها الجمعيات بإعادة تشكيل نفسها، وتغيير نظام العضوية السري المعتمد، وهذا لا يحدث إلا من الجهتين المذهبيتين.

وإذا لم يحدث شيء مختلف في السنوات القادمة فهذا يعني إننا سون نجر إلى صراعات المنطقة المتواصلة والمتسعة!

فلنقم بذلك منذ الآن ونخفف من الطابع المذهبي ونحول الجمعيات إلى كيانات وطنية، مركزة على الشأن السياسي.

 انهيار وعي #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

لم يكن الأمر مفاجئاً فانهيار الوعي الديمقراطي والوطني الحديث العقلاني لدى الأغلبية الكاسحة من النخب، أخذ يمزق المضامين الداخلية المتوارية للعقود السابقة.

إن العداء للعقل واليسار كانا أمرين مترابطين متداخلين، لدى المجموعات (المثقفة) القادمة من بحر الأمية والتشنجات العصبوية (القومية) و(الدينية)، ومن جرى تكريس النماذج المجوفة الخالية من الغور التحليلي ومن الفكر (الأمعات)، وتصعيد الشلل وبالتالي تكريس الأخلاقية الفاسدة.

مع تجوف (الزعيم) من أي وعي عميق، بسبب تشتت حياته اليومية، وعدم تجذره في حياة شعبه وفي تراث الفكر التقدمي والديمقراطي، خلق هذا التسييس الانتهازي ذا اللغة اليومية، العفوية، المرافقة لأنانية الذات الحزبية الشللية.

وهذا سبيل من سبل تسرب سياسة القوى الاستغلالية تجاه مجموعات تكرست لمجابهة الفساد وبيع البشر بأرخص الأثمان، لكنها راحت تشاركُ بها، أما لقطعها أي قضية سياسية عن (الكل) المترابط لها، فهي لا ترى سوى خيط وحيد وتقوم بالنفخ فيه، وهذا النفخ لا ينشأ من أدوات التحليل الموضوعية، بل من عصبية الذات وتشنجها وأمراضها النفسية الذاتية، فقدراتها الفكرية لم تتطور بل تردت، ولم تقم بالحفر المعرفي في السنوات السابقة، ولكن تعملق الذات الفارغ لم يزل موجوداً، بل متورماً أكثر فأكثر بسبب تهافت هذه الذات نحو المكاسب الرخيصة، وهو أمر يقود الذات السياسية إلى المزيد من الاهتراء الداخلي.

 أو السبب الآخر ويتمظهر في عقلانية باردة تحسب مصالحها الذاتية وكيف سوف تكسب من هذه القضية بغض النظر، ما إذا كانت هذه القضية المنفوخ فيها، قضية أساسية ونضالية تستحق المواجهة، أم لا.

وهذا المنحيان لانتهازية الفئات الوسطى، هو أمر غائر في تكوينها بين اليسار واليمين، فهو يغدو في اليسار مزايدة تشنجية ذاتية، ويصير في اليمين مزايدة باردة، وسواء تجلى ذلك في مذهبية سياسية، تسحبُ قاموس الإسلام وتحشره في كينونتها المريضة، المتخلفة، أم تجلى في شيوعية متيبسة، قطعت جسور التحليل والتنظيم والمستقبل، لأجل دبيب حركتها المصلحية الذاتية، أو في قومية مرتبطة بهياكل الاستبداد أينما تجلت.

وهكذا حين تقوم الفئاتُ الوسطى وقد قطعتْ جسورَ علاقاتها الجوهرية بالطبقات العاملة، ونضالها الذي يصححُ من صواب خطواتها، ويفرملُ من انتهازيتها، فصعدت فوق تنظيمات هلامية هي تتويجٌ لخلل عقود وليس بوابة لبناء أصيل قادم، تتحول إلى فسيفساء أميبية جرثومية تفرخُ ذواتها بسرعةٍ كبيرة، تبعاً لحرارة المصالح وتوقعات السوق السياسية.

يغدو ضرب علمانية الحركة الوطنية وتوحيدها أبسط من كراسات الاعتراف، والركض نحو تنظيمات طائفية أسرع من بناء وعي جديد تأسيسي نقدي بعد عقود من الاختفاء والأنطفاء. ويجري ذلك عبر لغة صاخبة، انفعالية، تضعُ الأوراقَ الكثيفة على عريها النقدي، وخوائها الوطني، وتدهورها نحو اللاعقلانية، مضخمة من مقاومة، أو من مذهبية، أو من نظام تقليدي متيبس، ساترة ذلك الدبيب الجرثومي المتحلل في مستنقع التدهور العام.

إن كل شيء يتأسس على المصلحة، مصلحة الزعيم الفارغ من الرؤية، ومن الثقافة، وهو الذي يفرخُ بالشكل الأميبي الجرثومي، اعضاءً على شاكلته، أو منافسين على شاكلته، لأن كل عضو هو خلية وحيدة، غير قادرة على تشكيل بناء، أو تأسيس ثقافة ووعي..

إنها تنقل أمراضَها للطبقات الشعبية، وتحول من خرابها الخاصَ خراباً عاماً، ثملا يبقى سواء الانضواء تحت لواء المستفيدين، والفاسدين، لأن من أفسدوا المبادئ ليس ثمة من يقف في وجههم من كائنات؛ سواء حزب متماسك أم ضمير تمت رشوته، أم أدب وفن تم تخريبهما، أم عقل فقد بوصلة التحليل الموضوعي والنزيه، واللاشخصي، وغدا سمسرة سياسية..

أسباب تدهور وعينا

لا يتعلق تدهور الوعي الذي يتجسد في الآداب والفنون وفي الثقافة وفي الوعي السياسي بانتشار الأنانية والانتهازية فقط، بل كمعادل لهذا الانتشار تضاؤل الوعي المادي الجدلي، وهو وعي الحفر في الحقيقة، في كشف تناقضات الأفراد والفئات والمجتمعات.

حين تلاحظ اللحظات التاريخية بازدهار المجتمعات، بدءً من الثورة الفرنسية والثورة الروسية والصينية وثورات التحرر الوطني تجد إن مثقفيها البارزين الذين وضعوا بصماتهم على التطور السياسي العاصف، الذي غير مجرى بلدانهم والعالم، فعلوا هذا حين اقتربوا من الوعي المادي الجدلي، حين وجهوا ابصارهم لتناقضات الواقع والثقافة السائدة، متخلين عن أوهامهم الفردية والطبقية، مزيحين هذه الغلالة من الأفكار الُمسبَّقة، ومن الأوهام.

وقد انتهت تلك الموجة من الوعي التقدمي الذي ساد القرن التاسع عشر والعشرين في أوربا وآسيا، وهدم الإمبراطوريات الاستعمارية، بسبب من شعارية هذا الفكر وتبسيطه في العديد من المحاور، فقد وقف عند هدم المجتمعات التقليدية وكان أمراً بسيطاً قياساً لبناء المستقبل الذي أُخذ بأفكار نقصها ذلك الفكر الجدلي، لقد تصورت إنها تبني مجتمعات تنتهي فيها التناقضات، والتناقضات لا تنتهي، وتصورت دولةً تزيل الطبقات، والدولة ذاتها جهاز قمع، وتصورت أنها تنهي الرأسمالية في الوقت الذي تقوم بتشكيلها عبر نفس جهاز الدولة. فهي لم تكن تفهم التناقضات التي تشكلها.

وانظر كيف كان حال وعينا في الخمسينيات والستينيات مزدهراً بحركات التغيير في السياسة والثقافة، ثم كيف تدهور مع الموجات الدينية، فصارت ثقافتـُنا العامة ضحلةً.

إن الموجات الدينية الجماهيرية هذه تعتمد على وعي طفولي ساذج، فهي لا تفهم تعقيدات المجتمعات المعاصرة، وتناقضاتها الطبقية والثقافية، وهي تضعُ فوقها أفكاراً خيالية غيبية، وهذا نتاج قيادات مثقفيها المحافظين الذين يخافون الحركة النضالية الشعبية، فيقسمون الشعوب إلى طوائف ويقسمون العائلات إلى رجال ونساء، ويقسمون الثقافة إلى غيب وواقع.

وهم يعيدون ثقافة ضعيفة الاتصال بالعلوم الطبيعية والاجتماعية، ثقافة كانت تعتمد على  معلوماتٍ تقدمُها  الِحرفُ والأشغالُ اليدوية، في حين انتقل العالمُ منذ قرون لثقافة تعتمد على التصنيع.

إدخالهم الدين في السياسة ليس نتاج التقوى بل الأنانية، فهم عاجزون عن التطور العلمي، وعن الشجاعة في تحليل المجتمعات وتناقضاتها الحقيقية، فالتناقض بين العمل ورأس المال، التناقض بين الطبقة الغنية والطبقات الفقيرة، التناقضات بين الشعوب والاستعمار، التناقضات بين الثقافة العلمية والثقافة الخرافية، التناقضات بين ثقافة الغرب المتقدمة وثقافة الشرق الهزيلة، كل هذه التناقضات المحورية في العالم لا يقيمون بتحليلها، مثل النشطاء في مجال الثقافة والإنتاج الفكري.

إن الإنسان المتفاعل مع الأحداث يذهب لخطبة رجل الدين ليسمع كلاماً عاطفياً وفيه إثارة غيبية غير محددة، فرجل الدين لا يحلل استغلال الشركات والبنوك، ولا العلاقات الاقتصادية الدولية التي تأخذ بخناق هذا المواطن المتألم، لأنه ربما صاحب علاقات بهذه القوى المادية، فيركز على العلاقات الروحية الغامضة. خطابُ رجل الدين هنا خطابٌ أناني. وخطابُ رجل الدين هذا سلسلة من خطابات مثقفي التقوى هؤلاء الذين لا يريدون إثارة الشركات والوزارات ويكشفون الأسعار والأجور والتلوث والاستغلال، محلقين في عالم من التخيل الخاص والتجارة بالرموز المقدسة لأصحابها.

ويقول الفنانُ لماذا أرسمُ آلامَ الإنسان وهل يمكن أن تـُعرض في معرض؟ بطبيعة الحال سيقف القائمون على المعرض دونها. ومن سيشتريها؟ ويمكنني أن أرسم ألواناً وأشياء تجريدية أو صوراً فوتغرافية جميلة للصحراء والجمال والنخيل وهي تـُشترى.

ويقول الكاتب لا استطيع أن أقوم بتحليلات وتحقيقات ومسرحيات وأفلام تكشفُ جشعَ الأغنياء والحكومات وأعري العائلات المحترمة لا كتفي بمسرحيات ضاحكة تخفف عن الناس أحزانهم، ومسلسلات تتكلم عن قضايا صغيرة عائلية وخاصة مسألة الطلاق، فكم يؤدي الطلاق إلى كوارث!

يعيش المنتجون للأفكار والثقافة السائدة في عالم من الكذب الواسع، وهم نتيجةً لجلهلهم بالدين ولعمومية مقولاته، يستعينون به لكي يستروا تنازلاتهم لقوى الاستغلال، فإذا سرق المثقف قال سأذهب للحج لا لشيء سوى أن يخفي ما قام به، وهذا تدهورٌ غاصَ فيه الآن المثقفُ عوضاً أن يكشف السرقات العامة، ويذهب للحج، فتغدو المظاهر العبادية جزءً من عالم الاستغلال، ويتوسع الأمر في ظل تحويل ذلك إلى عملية تلاعب سياسية واسعة بالدين، وكون التزام المرشح بالعبادات هو ضمان لصحة انتخابه ولصحة العمليات السياسة الوطنية!

ويعمق الجمهورُ الجاهلُ هذه الحالة، فبدلاً من أن يطلب من السياسي المرشح شهادةً عن نضاله ضد الاستغلال ولرفع حياة الجمهور المعيشية، يطالبه بكشف حساب لعدد صلواته! فالجمهور يزيد أوضاعه سوءً، فإضافة للاستغلال الحكومي على كاهله يظهرُ استغلالُ النواب.

إذن الوعي المادي الجدلي، الوعي بالتناقضات الطبقية والاقتصادية عامةً وتحليلها وكشفها، ومعرفة الوسائل السياسية المرافقة لهذا الوعي والمتوجهة لتنظيم الجمهور لكي يناضل لحلها، هو العاملُ الفكري المرافقُ لنمو الشعوب نحو الحرية والتقدم، فهو وعيٌّ يحددُ المشكلات الرئيسية ويوجه الإرادةَ البشرية نحو حلها. فتنظيمُ الشعب الصيني الذي يبلغ أكثر من مليار يعتمد على نخبة صغيرة وجهته نحو حل مشكلاته الحقيقية في الواقع، وليس في الخيال الديني أو الرومانسي أو الذاتي الأناني. إن مشكلاته هي في ضعف المصانع والتجارة والعلوم الخ.. وتأتي الحلولُ محددةً، وبعد ذلك من يؤمن بماو فليؤمن ومن يؤمن ببوذا فليؤمن، فساحة الواقع لها مكانتها ومناهجها وساحة الغيب لها مناهجها.

خلقت الشعوبُ بهذه المادية الجدلية ثورات نهضوية كبرى انتقلت بها من خنادق المتخلفين إلى فضاء المتقدمين.

تآكلُ الماركسيةِ في البحرين #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

كان الشكلُ الأولي لتآكلِ الماركسية في البحرين شيعياً. فالانقسامُ الفارسي العربي الذي كان يحفرُ على مدى قرون بين الضفتين الشرقية والغربية للخليج، بين الطائفتين الشيعية والسنية، ظهرَ مُجدداً وبقوة عبر ولاية الفقيه. كانت ولايةُ الفقيهِ شكلاً متخلفاً للقومية الفارسية وهي تظهرُ مجدداً من خلال عباءة الدين وهذا ما جعل الفئاتُ الريفيةُ المحافظة المتخلفة سياسياً واجتماعياً تقودُ العملية التحولية الجديدة، وكان الشكلُ الديني هو بالضرورة عودةٌ إلى الوراء، إلى زمنية الإقطاع، والصراعات المذهبية بين الدول الإسلامية وتجميد تطور المجتمع الإيراني الحر.

وهكذا فإن تسربَ ولاية الفقيه في حركاتٍ مختلفةٍ بحرينية منذ الثمانينيات من القرن العشرين كانت تصطدمُ بالمحافظة السياسية المذهبية السنية بالضرورة. حيث ليس في داخلها مضمون ديمقراطي وطني، وليس في قدرتها الانفتاح وتكوين شيء مستقبلي توحيدي بما أنها ماضٍ، وأوجاعٌ قديمة تُستعاد، ومظاهر طائفية اجتماعية تُسترجع، وأوراقٌ صفراء تُنشر، وأساطير تُقرأ ثانية، وأشكال عبادية تغدو روابطَ سياسية.

ليس في إمكان مثل هذه العودة أن تتلاقح مع طوائف إسلامية أخرى، إلا عبر خضوعها لها، وليس في إمكانها أن تنتج ديمقراطيةً وتحديثاً، ولهذا تقيمُ حواجزَ وتصعد حزازات ومخاوف لدى الطوائف الأخرى.

ولهذا فإن تسييس هذه الولاية أو هذه العودة لأقسام الطائفة السياسية للعصور العتيقة لا تنفعُ فيها طلاءاتٌ سياسية فوقية.

وحين تقبلُ المنظماتُ الوطنيةُ البحرينية في المنفى أولاً هذه العودة وتدخلها في البيتِ الوطني وتعملُ معها، يبدأ مسلسلُ انهيارِ الإيديولوجيات التحديثيةِ المبحرنة خلال عقود.

إن ولايةَ الفقيه تبدأ في تحطيم مشروع إيران التحديثي العلماني الديمقراطي الداخلي أولاً ولا تقبلُ بالتالي تأثيرات تحديثيةً وعلاقات أخويةً في السياسة الخارجية، تصبحُ السياسةُ الداخلية والخارجيةُ وجهين لعملة الدكتاتورية الطائفية، ومن يدور في فلكها يغدو جزءًا منها، ومظهراً من تجلياتها بالضرورة.

وهكذا غدت الأعمالُ المشتركة مع المنظمات الطائفية السياسية من الاتجاه الشيعي هدماً لداخل المنظمات الوطنية، التي كانت في حالةِ تآكل على مدى طويل.

إن الجيلَ الأول التحديثي من المنظمات الوطنية البحرينية يغلبُ عليه الانتماءُ القومي العلماني التنويري عامة، وكان انتماء أهم قياداتها إلى الطائفة السنية، وإلى المناطق المدنية، جزءًا من القيادة التحديثية لمشروع البحرين التحولي العميق الذي تقلقل بعد ذلك.

لكن هذا الجيل يتآكل نظرياً وسياسياً، ويعجزُ عن فهم الماركسية وتطويرها خاصة، والجيل التالي الأكثر فهماً لها يتآكلُ عملياً، والتطورُ النوعي الواسع للأعضاء لا يحدث، وتصبحُ القواعدُ شيعية أكثر فأكثر. لأن الزخم الجماهيري يتوجه نحوها، لهذا تغدو قياداتُ الانقسام والانتماء لولاية الفقيه تتويجاً لهذا التحلل.

لكن لماذا يصير زمن الانفتاح والوعود الديمقراطية زمن الطائفية السياسية المتصاعدة؟!

كانت إعادة تشكيل الجماعات وخاصة الجماعة الماركسية عفوياً وتجميعاً للعضوية غير الرسمية وغير المتطورة على مدى سنوات، ولكل من كانت له صلة، رغم تقطع الصلات وذوبان السمات النضالية خلال سنوات الابتعاد وعدم تطبيق الشعارات والبرنامج السياسي.

لم تكن الإعادةُ في بدء الانفتاح بحثاً عن العضوية المميزة والشخصيات النوعية القليلة ولكن المعبرة عن التجربة التراكمية النضالية لعقود، بل للتجميع العشوائي، ولهذا فإن هذه العضويةَ الهشةَ الواسعة، ما كان لها أن تصمد أمام الاختراقات السياسية الطائفية المنتشرة بقوة.

في هذه الفترة كان الاختراقُ الطائفي الشيعي السياسي هو الأول. فبعد فتح الباب له من قبل قياداتِ الجيل الأول وعدم فهمه وحصاره، تسربت مفاهيمُهُ إلى دواخل الجماعات التحديثية، ولكن كانت المشاركة في الدورة الأولى للبرلمان البحريني من قبل اليسار ورفض المقاطعة دليل على بقاء حسٍّ سياسي مميز كان لا يزال وقتئذ، كما أن مشروع دولة ولاية الفقيه البحريني لم يكتمل بعد، حتى تفجر في (الربيع العربي).

وقد بين ذلك عدم القدرة على خرق جدران الجماعة المغلقة لتشكيل مجتمع ديمقراطي وطني. الأمر الذي انعكس على تمزق الجماعة الماركسية طائفياً وتمايزها شيعياً وسنياً.

والشكل السني تصاعد هو الآخر بعد هذه السيطرة، تعبيراً عن تحلل واسع للجماعة ليقوم بنفس الآلية تحت إطار مذهبه. وسوف يعتمد على مقاربة الدولة ومؤسساتها، والتداخل مع الجماعات الطائفية السنية، وغالباً ما يجري طرح الحداثة والسمات الحضارية هنا لكنها غير مكتملة فشرطُ العلمانية المحوري يُرفضُ بقوة، ولهذا نجد اتحاداً نقابياً شيعياً في مواجهة اتحاد نقابي سني.

ويُفترض عدم تمزيق حتى الروابط الهشة بين الجماعة، وإعادة النظر في كل هذا التاريخ، وعدم القيام بنفس الطائفية السياسية بشكل سني هذه المرة، وإعادة اللحمة وكتابة دراسات حول مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وإثراء الوعي الوطني والإعلاء من سمات الحداثة وخاصة العلمانية والديمقراطية والوطنية.

⍣⍣⍣

اليسار معيار

هل يكره الحكام والدينيون والاستغلاليون عموماً اليسار لأنه غير مؤمن أو كافر أو ملحد، لا!

بل لأنه يكشف سرقاتهم. ليكن اليسار ما يكون، وليروج ما شاء، ولكن حين يناضل ضد استغلالهم للعامة، ولطشهم أموال الدولة والمؤمنين، حينذاك يصبح كافراً شريرا!

ولهذا فمهما حسن اليسار إسلامه أو مسيحيته أو صابيئته، فإنه سيكون متهماً. لأنه لا يكف عن المطالبة بعودة أموال المحرومين والمستغلين إلى أصحابها.

الملالي في القسم الريفي يخشون اليسار لأنه يطالب بعودة تقويم الإمام علي بن أبي طالب للثروة، فتعالوا نعود إلى وصايا الإمام ونهجه وكيف تخلى عن الثروة حين صار حاكماً، وكيف أنتم زادت ثرواتكم ونهبتم الجمهور حين توليتم أموره؟

وأبسط حل للتناقض والكشف هنا هو القول بأن هؤلاء مخربون ومعادون للإسلام.

أما الملالي في القسم المدني فإنهم لن يذكروا تقشف وصوفية عمر بن الخطاب حين صار مسئولاً سياسياً، فهم يحبون جمع المال حباً جماً، ولهذا فإن أي إبعاد للمناصب الدينية والسياسية عن استغلال الجمهور، ستكون علمانية آثمة، وليس عودة للنهج العمري!

لماذا يرتبط الإيمان باستغلال الجمهور وجمع الثروات بواسطة الفتاوى والتجارة بالدين، بدلاً من فتح المتاجر والوكالات والمزارع والمصانع، وسوف يكون هذا حلالاً طيباً؟

ولماذا إذا قام اليسار بكشف ذلك جعلوه إلحاداً وكفراً، وقد قام الصحابة بمثل ذلك، فتكسبوا بالتجارة وليس بتجارة الدين؟

هل قرأت أن سلمان الفارسي أفتى من أجل أسهم في بنك، أو بسبب طمع في أرض، أو من أجل التسري وأخذ درهم واحد من الناس؟ أو أن عمرو بن العاص كسب أمواله من غير التجارة؟

وقد منع عمر بن الخطاب الصحابة من الخروج من الحجاز لافتتان الناس بهم واستغلال ذلك أثناء الفتوح ورضوا بذلك وهم الصحابة!

ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة وليس بالاستغلال. وإذا ربحت فعن طريق مشروع، وليس من خلال المنصب الديني أو السياسي أو الفكري.

إن التجارة بالدين حرام، ولكنهم يعرفون الحرام في أمكنة أخرى غير هذه.

إنهم يركضون للخراب أكثر من غيرهم، استغلال بشع للمؤمنين لكي يصلوا إلى السلطات، ويقيمون المظاهرات العارمة لأنها فرصتهم للوثوب الى الغنائم، وآخرون يرسلون المتفجرات إلى كل بقعة توجد فيها حياة، وجهل الحشود يدفعها لتفجير خرائط وبلدان لأن الحماس أعشى عيونهم في ليل الدكتاتوريات الطويل.

حشودٌ تتجه لمجازر، أسلحةٌ في كل مكان، ترويعُ الآمنين وأقطارٌ تتحول بين ليلة وضحاها إلى أنقاض وخرائب.

كلها نتائج التجارة بالدين والأوطان. فهل يعقلون؟

مقاولو المذاهب مصرون على نشر الاحتفالات الدموية في كل قطر، ومتعهدو الحزن والفجائع فرحين بالجهل الشعبي، وانطلاق الخراف من الحظائر نحو مسلخها الموعودة.

بذلات الجنرالات والضباط الأحرار الأشرار تُستبدل بأردية الكهنوت. وما أدراك ما الكهنوت؟ قطارات سريعة للموت.

انتبه لأطفالك لكي لا يرجعوا بالديناميت تحت سريرك.

ضربوا اليسار والعقلانية والديمقراطية لأنها لم تكسر مصباحاً واحداً.

وانطلقت حمى نشر الطوائف، وهم سعداء لأنهم يضربون الشعوب بعضها ببعض، وليس لأنهم يحرقون البلدان .

يريدون تصفية ثاراتهم القديمة وتغيير سجل دام منذ أكثر من ألف سنة ثم سوف ينتبهون للعالم الحديث، لكي يصنعوا دراجة أو ربما نعوشاً آلية توجه بالريموت كنترول.

خائفون على قطعة قماش والأرض كلها مباعة والنساء رقيق والرجال عبيد؟!

اليسار والميراث الديني

من الآراء التي تمخضت خلال الحوارات حول الثقافة العربية الإسلامية ضرورة نشر الآراء الديمقراطية الجديدة حول تاريخنا وتراثنا مع الجماعات الدينية والليبرالية لمزيد من تعميق هذه الآراء ونشرها وتصويبها.

 وهو قولٌ وجيه وضروري ولكن الأمر يحتاج إلى خطوة أكثر ضرورة وهي تثقيف اليسار نفسه بهذه الآراء، فتكاد الجماعات اليسارية أن تكون منخلعة من فهم إرثها العربي الإسلامي، وقبل أن يذهب المرء للحوار مع الجيران من الضروري أن يرتب بيته الداخلي.

 والصورة السائدة عن الإرث في الماضي تكاد أن تكون مشتركة في كل التيارات باختلاف توجهاتها، ما عدا الاتجاهات المتطرفة التكفيرية التي لا تتزحزح عن شعرة من نصوصيتها.

 وهذه الصورة المشتركة هي العموميات المذهبية السياسية، أما الحفر تحت هذه الصورة المشركة، فهو أمر صعب. وهي ثوابت كرستها عدة قرون سابقة، وهى تتجذر في عادات شعبية واسعة، وطرق تفكير منمطة أشبه بالصخور!

 ونجد أنه حتى المجددين في الفكر الديني لا يحظون بأهمية تذكر في صفوف طوائفهم، مما يؤكد صعوبة اختراق المؤسسات الدينية التقليدية، التي عاشت على طرق تفكير مقننة عبر المذاهب الرسمية المتواشجة مع الأنظمة السياسية الشمولية في المنطقة.

 بل انه حتى الأنظمة التقليدية وهي تحاول بعض الإصلاح الطفيف في الأنظمة الدينية التقليدية التي عفى عليها الزمن تواجه بمقاومة شرسة داخل بلدانها، في حين تقود السيطرة المتزمتة في أنظمة أخرى، وكذلك تفاقم العمليات الإرهابية والمذابح، بعض الجمهور إلى الكفر بكل شيء!

 ولهذا فإن الأزمة الفكرية/السياسية في العالم الديني التقليدي مستفحلة بكل ضراوتها . في حين أن المجددين في الفكر الديني نفسه والمعزولين عن تيارات التأثير، هم أنفسهم يعجزون عن الوصول إلى سر هذه الأزمات، نظراً لرفضهم وجهات النظر المادية الجدلية والتاريخية والمدارس الجديدة في الفكر والتحليل!

 وهكذا فإن اليسار يواجه ضحالة فكرية تراثية في صفوفه، ويواجه أزمة فكرية دينية في الحياة العامة، معتبراً المسائل الفكرية الرفيعة وقضايا الجذور التاريخية للفكر والأديان، مسائل ترفيهية ومضيعة للوقت الثمين المكرس للشعارات!

 ولهذا لا يصبر أعضاء الجماعات اليسارية والليبرالية على قراءة المسائل التراثية، ويريدون فقط مناقشة المسائل اليومية، والتركيز على سطوح الظواهر، تدفعهم في ذلك الرغبة في تأجيج التطور والإسراع بحل المشكلات، دون أن يتحقق لهم شيء من ذلك فييئسون!

 لأن حل المشكلات الجماهيرية لا يتم دون وجود جبهات سياسية واسعة تضم أوسع القطاعات الشعبية، وهو أمر لا يتحقق في وجود انقسام مذهبي سياسي واسع وتفكك فكري، ومن هنا يحتاج الأمر إلى ركائز فكرية مشتركة واسعة بين الناس، وبين الكتل الاجتماعية المختلفة، وهذه الركائز تعتمد على فكر النهضة والجذور الإسلامية والأفكار التقدمية المعاصرة معاً!

 وهذه ليست خلطة طعام سريعة، بل هي رؤى منفتحة عند الجماعات السياسية الفكرية المؤثرة، تدفعها للقسمات المشتركة في الإسلام والفكر التقدمي الحديث، وقد تجاوز الاثنان الأشكال الشمولية وتخلصا من شبكات السيطرة، سواء على مستوى سيطرة الدول القديمة العربية وشكلنتها للإسلام، أم على مستوى الدول التقدمية المعاصرة وشكلنتها للفكر التقدمي وتحويله إلى شبكة للهيمنة الأدارية.

 وفي الفكرين تتوارى الأجهزة الشمولية ويتجسد تحنيط النضال والوحدة الكفاحية الديمقراطية المعاصرة تتطلب نقدهما على مستوى الحاضر أو الماضي، وعلى مستوى الدين أو على مستوى السياسة !

اليسارُ والطائفيةُ #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

 انقسامُ (اليسار) إلى قوى تابعةٍ للطوائف بدأ مع تبدل نفوذ رأسماليتي الدولة الشموليتين الروسية والإيرانية، فالأولى بشكل الاتحاد السوفيتي كانت تتفككُ وتعود للحجم القومي من دون أن تتبدل جوهرياً باعتبارها جمهورية روسيا الاتحادية.

والثانية كانت تصعدُ وتصير قوةً إقليمية، مستعيدةً دورَ الاتحاد السوفيتي بشكلٍ ديني رجعي.

وكان يُلاحظ إن بؤرةَ التلاقي والتداخل لبعض القوى العربية المهاجرة أو المتعاونة مع نظام البعث السوري مثلت بدايات التبعية والتأثر بما يُنتج من تحللٍ في اليسارين السوري واللبناني.

تأثيراتُ النظام السوري الشمولي المأزوم الخفي في تفاعلاته كانت واضحة على الحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان حيث اصطفا مع رأسمالية الدولة السورية الشمولية.

كان الموقفُ المهترئ المتحلل من الاتحاد السوفيتي الذي تكشف بشكل مستمر عن طبيعته المماثلة لرأسمالية الدولة الشمولية المؤسِّسة، يكمن في بقاء اللافتات الزائفة عن الدولة الاشتراكية القيادية، والطبقة العاملة الحاكمة وما إلى ذلك من خرافاتٍ سياسية.

وقد انتقل هذا التأثير المؤدلج الزائف إلى تقييم النظام السوري بشكل مماثل، وإن لم تكن الطبقة العاملة قيادة فيه، ولم تكن هنا المسألة الطائفية تلعبُ دوراً محورياً، فالفئات البرجوازية الصغيرة المستنفعة من النظام السوري كانت متعددة المشارب.

ثم جاء النفوذ الإيراني ليردد شعارات أخرى بشكل المقاومة والتصدي للاستكبار، وكلها كانت تعبيراً عن عدم قدرة بعض النظم الشمولية الشرقية في التقدم نحو الديمقراطية ووجود هيمنات قومية بشكل ديني.

لكن في حالة إيران كانت المسألة أكثر خطورة وعودة لعالم الطوائف وتفكيك عرى الأمم العربية والإسلامية.

مع سقوط الاتحاد السوفيتي والصعود الإيراني ونر الطائفية السياسية بدت الطائفية فاقعة في الحزب الشيوعي اللبناني، الأمر الذي أدى للانشقاق وتكون يسار ديمقراطي لم تظهر فاعليته بقوة.

في البحرين كان الحراك الطائفي المتأثر بولاية الفقيه والنفوذ الإيراني فاقعاً هو الآخر. وهنا لم تستطع القوى الصغيرة الباقية من القوى التحديثية خاصة في المهجر من تكوين رأي عميق نقدي تجاه التغلغل الطائفي في النظام السوري والنظام اللبناني.

لقد أخذها الحراكُ الطائفي السياسي وأصدرت بيانات مؤيدة له. وقد تصورت القوى السياسية البحرينية عامة أن التجمعات الشيعية السياسية قادرة على الاشتراك ضمن الحركة الوطنية العامة وقطع علاقاتها بالمركز الإيراني، ولكن مرت سنوات عديدة دون أن يلوح ذلك في الأفق وعجزت عن الاستقلال مثلها مثل حكومة المالكي وحزب الله اللبناني.

واستمرت عزلة التكوينات الشيعية السياسية عن التقارب والذوبان في التكوينات الوطنية، واستمر مشروعها الطائفي السياسي الخاص، كإعادةِ إنتاجٍ لما جرى في إيران، أو لإنتاجِ نسخةٍ معدلة منه لا تلغي الهيمنة الكبيرة على المجتمع والدولة، وتجلى ذلك خاصة في سنة الربيع العربي 2011.

وعلى مدى هذه الفترة فإن القوى التحديثية ذات الانتماء للطائفتين الاجتماعيتين المختلفتين السنة والشيعة ظلت موحَّدة في ظل شعارات عامة وطنية أخذت تتحلل على مدى سنوات.

كانت الأفكار التابعة للرأسماليات الحكومية الشرقية هي ذاتها شمولية عجزت خلال عقود عن خلق تحالف طبقي بين العمال والبرجوازية يخفف ويُحجم تأثيرات ما قبل الرأسمالية السياسية والاجتماعية والفكرية.

وكانت رأسمالية الدولة في البحرين قد أدت لمثل هذه التأثيرات والاستقطابية خاصة مع توسع الدعاية الإيرانية ونفوذها.

القوى التحديثية المتضائلة عبر العقود السابقة لم تقاوم الشموليات داخلها ولم تعرف مسار العالم في الشرق خاصة، وشكلت صوراً مؤدلجة مغايرة للتطور الموضوعي.

ولهذا فإن المغامرة السياسية الشيعية التي جرّت قسماً من السكان قد كشفت عن هويتها الطائفية وخطرها على السلم في الوطن ومنطقة الخليج، لما كان سوف تسببه من مشكلات خطيرة.

ولهذا فإن انقسامات الجماعات التحديثية إلى طائفيتيها السنية والشيعية لم يكن غريباً ومذهلاً.

كان المجتمع قد انقسم فانقسمت الكتلُ السياسية التي لم يعد أي فكر فيها فقد فقدتْ فكرَها العلماني القومي والماركسية كوعي ديمقراطي وغدا بعضُ الأفراد الخالين من العمق الفكري والتجربة الديمقراطية يقودونها للانقسام الطائفي المريع معبرين عن شمولية ذيلية للطائفيين.

كان دخولُ القوى التحديثية في الطائفية السياسية نتاجَ تحللٍ طويل للمفاهيم التي لم تعدْ قادرةً على فهم التحولات في الأنظمة المختلفة في المنطقة وفي الشرق عامة.

كان وهمُ الاشتراكية ووهمُ مقاومة الاستكبار وصدأ أدوات التحليل للماركسية الشمولية الشرقية وأدلجة ولاية الفقيه بشكلٍ فاشي كلها تتلاقى في اضطرابٍ فكري سياسي.

كان تغيير البحرين ديمقراطياً يتطلب تحويل رأسمالية الدولة الشمولية لرأسمالية حرة، أي قدرة البرلمان المنتخب على جعل القطاع العام شعبياً ديمقراطياً، والقيام بسلسلةٍ من الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

لكن هذا يتعارض مع هيمنة رأسماليات الدول في المنطقة حيث هي النمطُ السائد سواء في السعودية وإيران والعراق أو غيرها.

الدخول في الرأسمالية الحرة يتطلبُ سنوات طويلة في مجموع هذه الدول وفي المنطقة عامة، وبطبيعة الحال فإن هذا التصور لا يخطرُ على بالِ الجماعات السياسية البحرينية وخاصة العائشة على أفكار اليسار القديم.

إن هذا الانتقال للرأسمالية الحرة، هو عملياتٌ تاريخية اجتماعية سياسية معقدة، تكشف تفاوت التطور العالمي بين شرقنا والغرب، وفي منطقتنا فإن الانتقالَ لذلك يتطلب تضافر عمليات التحول الاقتصادية السياسية في هذه البلدان معاً أو بشكلٍ متضافر متقارب، وهي بلدانٌ تأخر فيها هذا التطور، وتعيشُ أوضاعاً شبه بدوية وقروية.

لهذا فإن العمليات السياسية الديمقراطية تحتاج للتدرج والمواكبة بين هذه البلدان، والقفزات المغامرة أو التصميمات الشكلية المفروضة من الخارج لا تؤدي سوى لعرقلة التطور الديمقراطي الحقيقي.

والبحرين تعيشُ في مواجهة مع جار شرس يستغل بعض القوى الأهلية لخلق مسار موال له، ومن هنا يغدو التطور التدريجي فيها مهماً، مع العمل للدفاع عن مختلف الطبقات الشعبية وتطوير ظروفها وتحويل رأسمالية الدولة لرأسماليةٍ وطنية ديمقراطية. وتحولها لحرةٍ يستلزمُ تحولات أكثر تطوراً في الحياة السياسية والاجتماعية على الصعيدين الداخلي والمناطقي.

ولهذا فإن هذا المسارَ المفترض الموضوعي المستند لخبرة التطور العالمية، لا يمكن أن يُفهم من قبل قوى تكلستْ فكرياً، فتغدو لها المغامرة وإعادة إنتاج النموذج الإيراني أو السوفيتي أو الصيني أو العراقي هو الطريق الصائب.

نماذجُ رأسمالياتِ الدول الإيرانية والسوفيتية والصينية والعراقية، تعطينا الآن هيمنة نموذجَ ولاية الفقيه السائد المسيطر وذيوله من التنظيمات الأخرى ذات التجارب اليسارية والقومية السابقة التي تسايره وترفض نقده وتجاوزه.

تماهتْ هنا لدى هذه المجموعات الفوارقُ بعد التحلل الفكري الطويل، وتوحدت في هيمنةِ الشمولية الكبيرة الطائفية ذات الجمهور الريفي الذي يريد فرض نموذجه السياسي.

فقدت الرأسماليات الحكومية العسكرية السابقة الذكر تبايناتها الكبيرة وغدت نسخة متشابهة حيث القوى تتحد في عمليات مضادة للديمقراطية والعلمانية ويجري الصراع حول الطوائف.

ولهذا فإن الجماعات المنشقة عن هذه الهيمنات المختلفة من الطائفة السنية في البحرين، استشعرت الخطرَ من هذه المغامرة على النظام العام وعلى مكانة طائفتها، ولما لم يكن ثمة حوارات ديمقراطية وقراءات طويلة مسبقة للواقع وللتاريخ الفكري لهذه الجماعات ومرجعياتها، وهيمنة طرف على آخر، فالأسهل هو الانشقاق والتفتيت.

بطبيعة الحال فإن الجماعة المحورية المخططة للمغامرة استغلتْ الغبشَ السياسي في المنطقة وخلطت الأوراق، ولكن هذه الأعمال كلها أضعفت قوى الحداثة والديمقراطية عامة.

الفئات المنشقة ساهمت في إضعاف قوى التحديث ولم تصبر لتغيير البُنى السياسية من الداخل، فتحولت هي الأخرى لكيانات طائفية سياسية منشقة، وكانت تعيش نفس التصورات الشمولية ولم تساهم في التحويل الديمقراطي.

ومن دون تعاون القوى الوسطى والعمال الديمقراطية الوطنية يصعب تجاوز مأزق الانشقاق الطائفي ولكن هذا يتطلب نقدها وتجاوزها للشعارات والتنظيمات الطائفية وتعاونها معاً من أجل حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للجمهور، وتغيير طريقة عيشه ومطالبه في تغيير الأجور والبحرنة ومراقبة المال العام وغيرها من قضايا محورية.

إلتقاءُ الطائفيين بـ(اليساريين) #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

تدهور وعي المجموعات المعارضة يعودُ إلى تدهور حركاتها السياسية على مدى نصف قرن.

لقد كانت الماركسية أداةً تحليلية نقدية موضوعية ديمقراطية معبرة عن مصالح القوى العاملة كما تشكلت في الغرب، لكنها تحولت في رأسماليات الدول في الاتحاد السوفيتي والصين وغيرهما من هذه المنظومة إلى أفكار متكلسةٍ يمينيةٍ معبرةٍ عن استغلال القوى البيروقراطية الحاكمة حتى دهورت مصالح العمال والقوى الشعبية عامة في بلدانها وفي بلدان العالم الثالث.

عملياتُ نقلِها التي تمتْ حافظتْ على النهج العام نفسه المكرس سلطوياً بشكلٍ عالمي مزدوج (روسيا والصين)، الذي واجه العمليات الموضوعية في تطور بلدان العالم الثالث ذات المستويات المحدودة في التطور الاجتماعي، بخطط متطرفة وبقفزات عن المستوى الاجتماعي الحقيقي، عبر استيراد الموديل الخارجي وفرضه على الظروف.

وتشكل ذلك عبر عدم الالتفات إلى ضرورات التحالف بين العمال والفئات الوسطى لتشكيل منظومات سياسية ديمقراطية، فذلك التردد في العالم الثالث بين نموذج الديمقراطية الغربية ونموذج رأسمالية الدولة الشمولية، انتهى بسيطرة نموذج روسيا أو الصين.

في منطقتنا كانت الأحزاب الشيوعية والقومية المتطرفة حواضن لهذا النموذج، ومن هنا كانت جبهة التحرير الوطني في البحرين متأثرة في بدء تشكيلها بأفكار حزب توده التي جاءت من تجربة تكرّس وتكلس فيها نموذجُ روسيا السياسي، وإذ عكفتْ على تطويرِ حركة التحرر الوطني الديمقراطية، لم تهتم كثيراً بتصعيد التحالف التحديثي بين العمال والفئات الوسطى، بحيث صعدت وحدها من دون حلفاء اجتماعيين كثار، ولهذا ذهبت التضحياتُ الكبيرة من دون ذلك التراكم الديمقراطي الوطني الواسع، مثلها مثل النموذج الصيني المتمثل في الجبهة الشعبية، الذي خاضَ مغامرات أكثر فداحة.

كان هذا التصعيدُ استنزافياً، وأخذ النموذجان الشموليان في روسيا والصين يُظهران تآكلهما في المركز والأطراف.

النموذجُ المشوهُ للماركسيةِ في كل من روسيا والصين يظهرُ في شخصية الحزبيّ المركزية، الشخصية المسطحة، التي تخلو من أبعادٍ عميقةٍ لفهم الفكر التقدمي والإنساني عامة، وهي الشخصية العاطفية المرددة للشعارات، المضحية والمنهارة مع السنين، والعائدة للتكوين الحقيقي التي ظهرت منه وهو التُربُ الطائفيةُ المختلفة.

إن الماركسية كمنهجٍ للتحليل صدأتْ في المصدرين الروسي والصيني، وتحولتْ إلى نصوصيةٍ جامدة وانتهازية، ووضعت خطوطاً عامة للتغيير عبر المواجهة الدائمة للبرجوازية والمتوجهة للمعارك والثورات بشكل مغامر واستنزافي للقواعد الحزبية.

لهذا فإن الشخصيةَ الحزبية المناضلة تعبتْ فكراً وتسطحتْ أكثر، وعادتْ لواقعِها المتخلف، وغدتْ ذكوريةً استبدادية، ولم تصعد علاقةً مختلفة مع النساء والفئات الوسطى والثقافة، وغابتْ التحليلاتُ والتنظيرات والرؤى المختلفة المغتنية بالصراع والتنوع، والمتوحدة في العمل ذي الاستشراف المستقبلي.

لهذا لا عجبَ أن تلتقي مع القوى الطائفية المستوردة لولاية الفقيه، حيث إن هذه اختصرتْ طريقَ التنوع والنضال العميق والتعب الكفاحي الوطني وجلبتْ ثمرةَ رأسمالية الدولة الإيرانية الشمولية وأرادتْ تحويل البحرين كنموذج آخر لها، ولم تستطع بطبيعة الرؤية أن تواصل النضالَ الوطني الديمقراطي التوحيدي، الذي بذرتهُ تلك المنظماتُ السابقة ولم تواصلهُ وتطورهُ بنقدِ فكرِها وتاريخها، بل كان الموديلُ الإيراني الذي شقَّ صفوفَ الشعب، وإعادة لرؤية محافظة متخلفة سبق أن تجاوزها الشعب في مرحلة سابقة.

ومن هنا كان الحراك الطائفي الجماهيري المنفوخ بهواء المغامرات وقلة التبصر، جاذباً للنماذج المنهارة في حركة اليسار السابق المتحول للسطحية والشمولية، والذاتية.

كانت هذه أقل كلفة من التعمق في تاريخها ونقده وتطويره، وخاصة انها الموعودة بالقفز إلى الكراسي ولا تهم طبيعة هذه الكراسي سواء كان يقدمها النصُ الروسي أو الصيني الشموليان أم النصُ الإيراني.

عجزت هذه النماذج عن مقاربة الديمقراطية والليبرالية ولهذا هي في أزمة داخلية عميقة، وكذلك فإن المتأثرين بها عاشوا من دون تطوير ذات القسمات التحديثية ولهذا فإن النموذج الشمولي الطائفي الأخير يعبر عن هذا التآكل التاريخي. 

حين يغدو اليساري طائفياً #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

إن الواقع هو الذي يوجه الأفكار، لهذا فإن إنقسامَ الاشتراكية بين إشتراكيةٍ غربية ديمقراطية وإشتراكية شرقية إستبدادية، هو وليدُ التباين في تطورِ الحياة الاقتصادية الاجتماعية في كل من الجانبين.

فالأفكار تخضع لطبيعة الواقع، واليساري الشرقي حين يعيش في بيئةٍ تقليدية تقومُ هذه البيئة بتغييره تبعاً لظروفها وتبعاً لصمود موقف اليساري تجاه هذه البيئة وتقاليدها وأفكارها ومقاربته للعناصر الاستثنائية النضالية في تاريخها.

يعود ذلك للمجتمع وما إذا إستطاع أن يطور أفكاره النهضوية الديمقراطية أم لا؟ وما هو موقف الدولة من تطوير أو تحجيم هذه الأفكار؟

إن الفئات الوسطى الصغيرة تتذبذب بين التيارات، ويحدد تطورها هذا الواقع الذي تعيش فيه، وحين لا يستطيع هذا الواقع والقوى المتنفذة تطوير العناصر الديمقراطية الصغيرة في المجتمع، ويغدو صراع المصالح المادية غير عقلاني وتتكرس المُلكيات والغنى في جهة ويتكرس الفقرُ والعوز في جهة أخرى، تضطربُ المقاييسُ وتعود الفئاتُ الوسطى الصغيرة بحكم تذبذبها وإهتمامها المحوري بمصالحها، إلى ما قبل الحداثة، وإلى تقاليدها وإرتباطها بطوائفها، فما تكرسَّ من تحديثٍ بسيط ومواقف مع الطبقات الشعبية أو الطبقة الوسطى ينهار، وتصبح أفكارُ الطائفة هي التي تستولي على العقول، وهي ليست أفكاراً عميقة بل ممارسات عبادية في الغالب تعكس الطوائف وتاريخها وسياساتها في العالم الإسلامي.

وأفكار الطوائف السياسية تعكس تذبذب حياة الشرقيين بين الإقطاع والرأسمالية، ومراوحتهم وعدم قدرتهم على التحول من نمط قديم إلى نمط حديث، ويتصلب ذلك في مواقف الدول الكبيرة التي أُقيمت على هذه الأسس التقليدية والتي تتحول لسياسات مؤثرة.

وهذا هو ذاته جرى حين توجهت الطوائف السنية للارتباط بالدول التقليدية بدءً من الأموية فالعباسية، وإرتباط الطوائف الشيعية بالدولة الفارسية، وتعمقت الاختلافاتُ والصراعات، ولم يُتح لدولةٍ نهضويةٍ ديمقراطية أن تظهر وتغير تلك العناصر الاجتماعية السياسية.

ولهذا فإن اليساري يتأثر بمدى صمود العناصر الوطنية التوحيدية في حزبه أولاً، وإذا ما حدث إختراق وتدهور لوعيها، ورجوعها لهيمنةِ القوى التقليدية التي تفاقم حضورُها نظراً لعدم قدرة مجتمعه على تطوير وإنضاج التحول الديمقراطي.

وهذا يظهرُ في تاريخيةِ الأزمة، ومحطاتُها هي في ظهور الأزمة بدءً من التاريخ العالمي (الاشتراكية) والمناطقي (الدول القومية والدينية الاستبدادية)، وأخيراً في البلد المعني، وهل قاوم الحزبُ المعبرُ المفترض عن التوجه اليساري الدكتاتورياتَ سواءً تجلت في المعسكر الاشتراكي أو في الدول القومية والطائفية المحافظة التي نشأت على أنقاض ذلك أو في تطور بلده.

وهذا يظهر في مواقف قياديه وعناصره البارزة وأدبياته، ومدى تصديهم للاختراق الطائفي عبر نضالهم وإرتباطهم بالعلوم وبالمعرفة العميقة، وهو إرتباط ضعيف محدود في بُنى هذه الأحزاب، وكذلك في مدى صمود العناصر الأخيرة وهل تحللتْ وذابت بين الجماعات والعناصر الطائفية والمحافظة، ولم تؤسسْ شيئاً ديمقراطياً معمّقاً بأدواتِ التحليل الاشتراكية الديمقراطية؟

وفي بيئةٍ شعبيةٍ أميةٍ وبتغلغلِ الأحزاب في بسطاء عاشوا على الشعارات وعلى سطوح الأديان والمذاهب والفلسفات، فإن الأمور تتجه مع الغالب العالمي أو الإقليمي المؤثر العاطفي وبإستخدام المظاهر العبادية والتي تغدو حادة مؤثرة عبر التوجهات غير العقلانية المليئة بالعواطف الحادة، حيث جرى على مدى قرون خداع الفقراء وإستغلالهم وإستخدامهم في المناورات والصراعات بين الأمم والطبقات والطوائف.

إن العناصر الاشتراكية الديمقراطية التي قَدمت من الغرب غدت شمولية في الشرق، والعناصر النهضوية المذهبية الإسلامية في الماضي تجمدتْ وغدتْ مناصرةً للشموليات الطائفية وصعدتْ معها بنفسِ إرثها وتخلفها في العصر الحديث، وهذه العناصر الشرقية من الحاضر غير المتطور وغير الديمقراطية ألتقت مع العناصر الماضوية الطائفية التي لم تتوهج بالأفكار الديمقراطية الإنسانية فغدت خليطاً مضطرباً.

غدت غير عقلانية على مستوى الماضي وعلى مستوى الحاضر، فكان يُفترض أن تغذي الوعي النقدي والاستنارة، فغذت العصبيةَ والحدة وصار لها نفس طريقة القوى التقليدية في إستغلالِ البسطاء بالشعائر والجمل المخطوفة من التراث والادعاءات عن النضال، ولم تتعاون مع قوى الوسط والعمال في تكوين تحالفات تحديثية ديمقراطية تصعد عناصر الاستنارة والنهوض.

توحدُ العناصر المحافظةِ من إستعلاءٍ على البسطاء ووضع النساء في مؤخرة الحياة وهيمنة الأشكال السياسية والإدارية المتعالية هو الإرث الذي بقى وجمعَ المتنافرين شكلاً المتحدين مضموناً.

 الموقف المطلوب هو نقد كافة الدول والاتجاهات في إخطائها وعدم الأنتقاء والتمييز بينها حسب قربها القومي أو المذهبي أو الاجتماعي، بحيث تغدو مواقف الاشتراكيين الديمقراطيين متسقة، تؤيد كافة الشعوب والاتجاهات الديمقراطية وترفض الحركات الطائفية والقومية المتعصبة لأن الموقف من الناس هو ذاته في كل البلدان حسب أوضاعها.

اليسارُ الديمقراطيُّ واليسارُ المغامر #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

ظهرت خلافاتٌ عميقةٌ على صعيد وعي اليسار المحلي للمسائل المحورية في التطور السياسي، وهي جزءٌ من الصراعاتِ الفكرية والسياسية لليسار في العالم العربي حول المواقف من الدين، والاشتراكية، والرأسمالية، والغرب، أي على فهم قضايا التشكيلات الكبرى في حياة البشرية خاصةً تداخل وتباين تشكيلات الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية، وكيف تجسد ذلك في التاريخ العربي الإسلامي، وفي الزمنِ الراهن والإشكاليات التي حدثتْ عبرَ الصراعِ بين القومياتِ الرئيسية في المنطقة.

لقد كانت هيمنتْ الجماعاتُ الطائفيةُ السياسية على الجمهور المتخلف الوعي عاملاً رئيسياً في إرباكِ الجماعاتِ اليسارية التي كانت تتخذ رؤى شبه واضحة (لكنها جامدة نصوصية)، أي غير جدلية تركيبية في المرحلة السابقة، وتكونت في حضن رأسمالياتِ الدول الشمولية (الإشتراكية) والقومية.

وهذا الحضن كما لعب دوراً في تصعيدِ دور القطاعات العامة والتحرر والنهضة الشرقية العالمية لعب دوراً في صنع رؤى فكرية سياسية محدودة جامدة، راحتْ تتهاوى جوانبٌ كبيرة منها بسببِ عدم النقد وغياب الديمقراطية على مستويات الدول الاشتراكية والأحزاب.

وبالتالي جاءت التحولاتُ في أشكال الدول الرأسمالية الحكومية (الإشتراكية) وتصاعد الدول والحركات الدينية (الإسلامية) لتعرض إتجاهات اليسار لمخاضٍ عسير.

وكلُ بلدٍ عربي أو إسلامي دخلتْ فيه المؤثراتُ المناطقيةُ والدولية حسب بنيتهِ الاجتماعية وصراعاتها وتطوراتها، وإنعكست المؤثراتُ على وعي قوى اليسار المختلفة، وجاءت الرياحُ لتضربَ قوى صلبة أو هشة، ففي التنظيماتِ ذاتها تواريخٌ لما هو وطني عالمي، ولما هو مواقفٌ اجتماعية صلبةٌ إنغرستْ فيها، أو لأخطاء تصاعدتْ في أجسامها، فنشأت مواقفٌ عقلانية تتصف بالتجريبية غالباً، وأما مواقف مغامرة خطرة.

وكان حالتنا في البحرين سيئة بشكل كبير، فهشاشةُ اليسارِ بينة، وتبعيتهُ للقوى الطائفية اليمينية كانت قد تكونت منذ التسعينيات، وكانت القوى الطائفيةُ السياسيةُ لا تخفي تبعيتها للمشروع الدكتاتوري الإيراني بتلاوينه التي برز منها مشروعُ الحكم خاصة، وقامت الجماعات في البحرين بمغامرات خطرة على كل صعيد.

لهذا كان تتبريراتُ هذه القوى (اليسارية) لكل الأخطاء التي تسميها وسائل النضال من حرائق وتخريب مدعاة للفزع السياسي، فقد إنهارت البنيةُ العقلانيةُ الوطنية المكِّونة لهذا الجنين اليساري، وتسوقُ دائماً الشعارات بشكلٍ نفعي، مفصولٍ عن أية قراءات تحليلية للواقع وللقوى السياسية الاجتماعية في البلد والمنطقة، ولمضامين هذه المواقف وعلاقاتها، عبر فصم علاقات القوى الطائفية البحرينية بشبكاتها في الخارج، والمنظومات الإيديولوجية التي تشتركُ فيها، وقطع العلاقات بين ما حدث في إيران من نشؤ دكتاتورية رجعية ومولوداتها الشبحية التي تغلغلتْ في بعض السكان البحرينيين وإستغلت معاناتهم وحركتْ غرائزهم ووجهتهم للفوضى وفرض أجندتها السياسية المتقلبة غير المحددة الثابتة، مثلما أتضح أخطار تلك الدكتاتورية بشكل خطير في المنطقة والعالم.

وجاء عهدُ التغييراتِ السياسية في البحرين في أوائل القرن الواحد والعشرين وفتحَ السجونَ وأطلق سراح كلَ هؤلاء الذين قاموا بتلك الأفعال السابقة الذكر، وظهرت التنظيماتُ السريةُ علنية، وغدت لديها منشوراتها وشاركت في الانتخابات وغير ذلك من مظاهر العملية السياسية المتعددة وكل هذا في غضون عقد.

أجبرتْ التغييراتُ السياسيةُ العديدَ من القوى السياسية على تبدل أفكارها الفوقية، وتوجه بعض القادة السياسيين للتعبير عن أفكار إصلاحية ولتنمية العملية السياسية والابتعاد عن أفكار المغامرة السابقة.

لكن هذه التغييرات في لغةِ الخطابات السياسية لم تكن عميقة، ولم تتوجه لقراءةِ إشكاليةِ الماركسية كما حدثت في العقود السابقة، وكيف يمكن إنتاج رؤى تحولية ديمقراطية جديدة منها على صعيد التشكيلات وفرز العلاقات بين الإقطاع والرأسمالية خاصة، وإعادة النظر فيما سُمي بالتجارب الإشتراكية، وإتخاذ مواقف جديدة من التنظيماتِ التي نشأتْ في المنظومة الإقطاعية العربية الإسلامية، وهي كلها أمورٌ من الصعب القيام بها على مستوى القيادات الخطابية السابقة، التي غرقتْ في بحر التغييرات وأعمالها الإدارية وإعادة تأسيس الجماعات.

حتى على مستوى المهمات الفكرية العميقة لم يكن ثمة وقت لها لو كانت هناك الأدوات التحليلية، لأن القوى الطائفية السياسية والجماعات المغامرة التي إلتصقت بها لم تتركْ للبلدِ فرصةً للتنفس السياسي، نازلة بقوة ومرة أخرى للشوارع مزايدةٍ على التغييرات ورافعة سقفها لأعلى، بشكلٍ مثير مستفز وبشكل يومي وعبر إستخدام الشباب الريفي الذي ليس له تجارب سياسية وإجتماعية عميقة خاصة!

لا شك إن المشكلات والقضايا التي يُنتظر حلها في بلدنا البحرين كثيرة، وقد تحركت عجلةُ التغيير وتساهم قوى جديدة بشكل مستمر في هذه العملية، لكن من جهة أخرى فإن الأوضاع الاقتصادية معقولة، وينتظر زيادة تغييرها بشكلٍ مضطرد، ونحتاج لعقليات سياسية تحليلية تحدد المشكلات وسبل إصلاحها، لمراكمة تحولات جديدة. فالحديثُ عن الأخطاء بشكلٍ أيديولوجي مؤدلج عام غير مفيد، بل ومضر، فأخطاء مثل ضعف الخدمات الطبية العامة ينبغي تحديدها بشكل واضح وكيفية تطويرها، بدلاً من الجمل العامة عن التدهور والخراب فيها!، أو تلك العبارات العامة عن سرقة الشواطئ فيجب تحديد ذلك والبرهنة عليه قانونياً والعمل لتغييره عبر السبل الديمقراطية المشروعة. فلا أحد يقبل بالأخطاء ولكن بأي شكل نناضل ضدها؟!

لم تشتغل قوى المعارضة على عملية التراكم الديمقراطية بواقعية، وقد جعلتنا طرقها نخسرُ الكثيرَ على مدى السنوات السابقة رغم إنها سنوات تحولات هامة لشعبنا!

وكما قلنا فإن القوى الاجتماعية السياسية الريفية هي إحدى المشكلات الرئيسية لهذه المعارضة بسبب تخلف وعيها، ومحاولاتها للقفزات وفرض نفسها بالقوة، ويبقى اليمين المذهبي المحافظ القائد لها، ذا مواقف غامضة يتبدل مع تحولات السياسات الإيرانية، ففي الزمنُ الإصلاحي المشترك لرفسنجاني وخاتمي نشأت إمكانيات للمشاركة في العملية السياسية التحولية في البحرين، ولكن مع تصاعد قوى التطرف الإيرانية عبر الحرس الثوري توجهت العملية للصدام المتصاعد والمغامرات الخطرة على مستوى بلدنا الذي أُتخد كحقل تجارب رهيبة.

هناك خطوطٌ متداخلة غريبة غامضة ترى في المشترك السياسي والتناغم الشمولي، إن البحر الإيراني السياسي يلقي بظلالهِ على الجزر البحرينية بقوة، ويتم تشغيل عوامٌ للحدة السياسية ولأجندات معينة أساسها الصدام.

ولم يكن مشروعُ الدولة التحولي في البحرين بغافل عن ذلك، وعرضه للتحولات وفتحه البرلمان والنقابات والجماعات السياسية هو جزء لخلق علاقات بحرينية سياسية جديدة، كان يمكن تطويرها بشكل ديمقراطي برلماني صبور، وبشكل إصلاحات إقتصادية بشكل إجتماعي باحث جدي عن الأخطاء وتغييرها، ولكن القوى المناوئة للتحول الديمقراطي الوطني المشترك كانت تجد لها أسباباً للمزايدة وإستغلال أشياء عديدة للتفجير، بحيث كنا نركض من إطفاء حريق لإطفاء حريق آخر!

وكما أوضحنا فإن (اليسار) في البحرين كان في حالة إعادة تأثيث لوجوده السياسي، خاصة الفريق المعتدل ولكن الفريقَ المغامرَ أسرع لمواصلةِ تأجيجِ المعارك السياسية مع ذات القوى المذهبية.

حالاتُ المزايدةِ لم تكن تَخفى على أحد، ولكن تبقى الأسباب متعددة وبعضها مجهول حتى يكشفهُ المستقبل، والأهم الواضح فيها هو رغبة هذا اليسار الصغير المحدود في علاقته بالناس أن ينتفخَ سياسياً، وأن يأخذ مساحةً لم تعدْ له، بسبب دورهِ في هدم التشكيلات السياسية الوطنية عبر مغامراتٍ سابقة، ولعدم إنتاج أي ثقافة ديمقراطية عقلانية تتغلغلُ في صفوفه أو في صفوف الناس، ومن هنا كانت شعاراته الحادة وإستعراضاته وإستغلاله لنفس الشباب الريفي قليل الوعي والتجربة السياسية وشحنه بالانفعالات الحادة.

المزايدة والجملة الثورية المنتفخة بالغرور كانت هي أهم واجهة له في السياسة، وكانت له دراسات وثقافة مهمة ومناضلون عديدون ولكنه لم يركز عليها ويطورها، فالصبر السياسي لديه محدود.

فكانت المقاطعة الحادة بمظاهراتها وصخبها ثم كانت المشاركة بغياب الكراسي فيها، في حين أن القوى المذهبية السياسية هي التي أتيحت لها ملء الساحة دون أن تغير بوصة من واقع الجماهير العطشى، فكان ذلك مؤثراً على جذور اليسار المغامر اليابسة وشحنه بإنفعالات جديدة ظهرت في المغامرة الأخيرة هذا العام.

لم يعد ثمة يسار متماسك مؤثر في الحقيقة، فقد نضبت قوى البرجوازية الصغيرة اليسارية، ولم تنشأ برجوازية تحديثية ديمقراطية، وملأت القوى الدينيةُ الساحةَ وهي قوى ليست تحديثية، وذات جذور ماضوية، فلم تستطع توحيد الشعب أو توحيد السياسات الوطنية، وتطوير الإصلاح ولهذا ليس ثمة سوى الصبر السياسي ومراكمة التحولات الديمقراطية وتحفيز قوى الحداثة وعلى درس الظروف والقضايا ومشكلات الجمهور وعرضها وتنمية وعي ديمقراطي مستنير، وخاصة في تصعيد دور الشباب والنساء وإصلاح الريف من مشكلاته المزمنة.

اليسار الذي كان حقيقياً لم  تكن قيادته في مستوى المهمات المركبة للمرحلة الراهنة، ويكفي لتاريخها إنها أنشأت القوى السياسية ومشت في مرحلة طويلة صعبة كلها أزمات، ولكنها لم تورث قيادات شابة في مستوى المهام المركبة للمرحلة، وهذه القيادات لم تطور وعيها بأدوات التحليل الجديدة في الماركسية والقومية والحداثة.

فوقفتْ صماءَ تجاه المرحلة التسعينية وما جرى فيها من أخطاء سياسية وفكرية، وكان هذا واضحاً في مواقفها من المعسكر (الإشتراكي) وعدم صعودها لمستوى الأحزاب اليسارية التي إعادت النظر في هذا المعسكر، أو تأييدها الصامت لـ(لليسار)المتخاذل المتواطئ مع الطائفية في لبنان وسوريا على سبيل المثال.

غيابُ هذه العقليةِ القوية التحليلية الناقدة للإرث الإستبدادي في اليسار، تظهرُ في حالةِ جمودٍ سياسية في وعي هذا (اليسار)، ففي الزمن التحولي الأول لاحظنا محاولة التميز عن اليسار المغامر، لكن هذه المحاولة لم تتصاعد ولم تتوجه لتطوير قوى اليسار عامة بل توجهت للمظاهر الخارجية بدلاً من الدرس والدخول في الناس، ثم إنزلقتْ لنفس موقف اليسار المغامر وخطأه الفادح الذي توج دوره السلبي، لكون المواقف الفكرية لمشروع اليسار العقلاني المُجهَّض غير متبلورة على أصعدة كثيرة فجاءت المواقفُ السياسيةُ تصطفُ في خاتمة المطاف مع المغامرين الطائفيين والقوميين.

اليسارُ مصطلحٌ غربي، يعبرُ عن التيارات داخل أروقة البرلمانات، ثم تحول إلى مصطلحٍ يعبرُ عن الاتجاهات الاجتماعية السياسية عالمياً. وبهذا فإن اليسار كقوى إجتماعية ضاغطة من أجل التغييرات لمصالح الأكثرية الشعبية يمكن أن يضم قوى متعددة حسب البُنى الاجتماعية وحراك قواها المنتجة في كل فترة تاريخية.

ولهذا فإن يسارنا يفترضُ أن يرتبطَ بتحولاتِ القوى المنتجة، وقد كانت في سنوات (50- 80) من القرن العشرين قد تشكلت قوى عاملة يدوية وطنية غالبة وتكون يسارنُا الوطني بالتناغم معها وعمل بكفاءة ضمن الحدود المتاحة له، وأوصلَ البلدَ للحظاتٍ تاريخية معروفة.

وهذه القوى العاملة تغيرت تغيراً كبيراً منذ ذلك الحين، وأدت التدفقات المالية الكبيرة على البُنية الاجتماعية لتغدو الطبقة العاملة بحرينية- أجنبية، بدون تناسب، وتظل رغم هذا التداخل الصعب والتغييرات الكبيرة بها قادرة على أن تطور نفسها وأن تساهم في التحول الوطني، ولم يتح لليسار في التحولات الديمقراطية أن يواصل تنفيذَ إستراتجيته الأولية البسيطة التي طرحها في بدء زمن التغييرات، بأن يشارك في عملية التحولات الإصلاحية بسبب إعتماده على الخطابات السياسية من مقره، ولم يكن هذا الطابع الفكري كافياً، فقد كان إرتباطه بالعمال ودرس أحوالهم ومساعدة تطوره الاقتصادي الاجتماعي الثقافي هو جوهر دوره المنتظر.

هذه العملية لم تحدث بشكل كبير، وأثرت الأحداثُ السياسية والصراعات الكلامية في جر هذا اليسار إلى صف اليسار المغامر والجماعات الطائفية المرتبطة بالتحركات الأجنبية في بعض المواقع الخطرة.

ضخامةُ البنية الاجتماعية للعمال المواطنين والأجانب التي لم يعد أي جسم سياسي قادر على التأثير العقلاني النقابي السياسي عليها ككل، وصعوبة التأثير فيها بأشكالٍ ديمقراطية، أتاحت للقوى السياسية غير العمالية والمرتبطة بفئاتٍ وسطى نخبوية أن تهيمن على الحركة النقابية. في حين أن أقساماً من العمال الأجانب حصلوا على قيادات مؤثرة عقلانية ناضلت معهم بشكل قانوني لتحسين أحوال بعض القطاعات ونجحت في ذلك.

إن تداخلَ اليسارِ المغامر والقوى المذهبية السياسية مزيجٌ معبرٌ عن النفعيةِ الذاتية وإلغاء مصالح الطبقة العاملة وتطوير أوضاعها، وقد كسرَ ذلك التأثيرَ القوي لليسار العقلاني في السبعينيات من القرن الماضي حين تحدث التحركاتُ النقابية والسياسية بشكلٍ مبرمج وبدون عنف وتخريب.

في حين أن الوقت الراهن يوضح تأثير القوتين السياسيتين السابقتي الذكر في حرفِ نضال العمال، عبر ربطهِ بمغامراتهما السياسية الخطيرة على الوطن والمنطقة.

هنا نجدُ الفئاتَ العماليةَ المكَّونةَ بشكلٍ كبير من قوى الريف ليست لديها أي تجربة نقابية وأي عمق سياسي، وتعيشُ في حالاتٍ من القلق الاجتماعي والتأزم المعيشي والتخلف التعليمي، وهي التي يَسهُل إصطيادها من قبل قوى البرجوازية الصغيرة اليسارية والدينية اليمينية المتطرفة، ولهذا نجدُ الهروبَ الواسع من حلِ مشكلات العمال الاقتصادية والعملية والتركيز على الصخب السياسي، فبالإضافة إلى تطلب ذلك درساً لمشكلات العمال وصبراً على متابعة أوضاعهم المختلفة وطول نَفسٍ في تغييرها، فإن جماعات الجمل الثورية غير الواقعية، لا يمكن أن يعملوا مع الطبقة العاملة بشكل حقيقي مستمر، وهم مشغولون بتفجير النظام أو بالقفز على الحياة السياسية المنفتحة.

مساران لا يلتقيان؛ طبقةٌ عاملةٌ تحتاجُ لحل مشكلاتها العملية والمعيشية، تُجمدُّ مطالبها، وتُرحلُ نحو المغامرات السياسية. فتبقى المشكلاتُ الجوهريةُ والعاديةُ للعمال البحرينيين خاصة كما هي، فيما تزدادُ مشكلاتُهم عبر المغامرات السياسية وما يحدثُ فيها من خسائر إقتصاديةٍ وإغلاق مؤسسات وتدهور لأجورٍ وغلاء.

وهذا ليس تحاملاً على أخوتنا وأخواتنا في الهيئات السياسية والنقابية بقدر ما هو رصد لما جرى ويجري، وكون خلفياتهما السياسية المتشنجة لعبت دوراً كبيراً في عرقلةِ تطور حياة العمال كما في عرقلة تطور الشعب ككل.

لقد رصدنا تلك الخلفيات المتشنجة في مجالات سياسية ولكن هنا يتوضحُ تأثيرَها على حياة العمال، أي على طبقةٍ مؤثرة في تطور وعي اليسار بدرجة خاصة، فهي حاضنته الكبيرة.

ولكن كيف يكون الدينيون حاضنين لهموم العمال وللوعي اليساري معاً؟ هذا ممكن إذا تخلوا عن الرغبة في الهيمنة على المجتمع وسوقهِ لما يريدون من مخططاتٍ جاهزة ولا تطور وضع العمال، ومن أهداف سياسية غير منبثقة من علاقاتهم الاجتماعية الوطنية ويفرضونها بالقوة، وكأنهم يريدون نقل نموذجهم الريفي إلى المدن، حيث يقومون بنشرِ دكتاتورية كبيرة على القرى والنساء والعقول والحريات.

مثل هذا الوعي لا يتماشى مع حياة الطبقة العاملة، الطبقة الحديثة، المرتبطة بأكثر العلاقات الاجتماعية إنسانية، كما أنه موقف إستعلائي لا يدرس حياة الشغيلة ويطورها في ظروفها الحقيقية، بل لديه موديله الجاهز عليها، يجرُهَا إلى الشوارع والسجون والغازات والرصاص والمقابر ليحقق دولة الهيمنة المذهبية غير المتوافقة مع مصالح الكادحين. أهذا نموذج يعملُ من أجله العمال؟!

إذن لا بد من نقد الذات المتعالية والتواضع في طرح البرامج، وتطوير حياة الناس الحقيقية لا الوهمية، ومشاركة بقية القوى السياسية والاجتماعية في العمل المشترك لحل مشكلات البلد وليس لجلب مشكلات للبلد.

إن تحالفَ المذهبيين السياسيين اليمينيين واليسار المغامر هو تحالفٌ غيرُ مبدأي، فلا يستندُ على أسس فكرية وسياسية موضوعية مشتركة معبرة عن أهداف شعبية حقيقية، فالأولون يمثلون اليمين المتطرف والآخرون يمثلون اليسار المتطرف، فكيف يمكن ترتيب مبادئ سياسية موحَّدة بين الأثنين؟

نقول (اليمين المتطرف) لكونهم لا يستندون على قوى إجتماعية من الطبقة الوسطى، فالتكوينُ الأصلي ضائعٌ في ملامح مستوردة محافظة إيرانية، لم تُغربلْ وتُنقد وتتشكلْ بحرينياً على أساس إجتماعي واضح عقلاني من تاريخنا الوطني.

وهو الأمرُ الذي يجرُّ هذا التكوينَ المحلي لبرنامج يميني متطرفٍ تفرضهُ الأجنداتُ الإيرانيةُ المبحرةُ في محيطٍ عاصف، عبرَ علاقةِ ولاية الفقيه وحكم العسكر المتصاعد.

ومن هنا فهذا التحالفُ يمثلُ عصاباً إجتماعياً سياسياً، أي هو جنونٌ سياسي لا يتعقلن سياسياً، وبالتالي يبقى السؤالُ ما هو الحل؟ ليس ثمة سوى هزيمته السياسية، والهزيمةُ ذاتُ شروطٍ مناطقية عالمية ومحلية متداخلة، أي هي نتاجُ أعمالٍ تجري على صعيد المنطقة وعلى صعيد بلدنا. ثمة أشياء خارجنا لا نستطيع أن نغيرها وثمة أشياء داخلية نستطيعُ أن نؤثرَ فيها.

إن التحولَ الداخلي يتطلبُ صعودَ قوى الحداثة الوطنية وخاصة قوى الطبقة الوسطى والعمال. ودون نمو هاتين القوتين على الصعيد السياسي الاجتماعي لا يمكن أن يتم تفكيك الجنون السياسي، وإرجاعه إلى حيثيثاتٍ إقتصاديةٍ وإجتماعية وفكرية محددة، يمكن درسها وتغييرها.

إن تصدعَ اليسار البحريني هو شيءٌ واضح، ولكنه لم يمت، ولهذا يبقى مهماً في إعادة نموه بشكلٍ جديد يعيدُ وعياً ديمقراطياً في العمال، ولحمةً وطنية وثقافةً حداثية عقلانية، ويغدو مُراقِباً لجنوح التحولات الرأسمالية نحو الأهداف الذاتية المحضة.

إن الطبقة الوسطى يغدو تطورها محورياً، وأساس صعود الديمقراطية المستقبلية المتكاملة، ولكن الاقتصاد الحر مطلوب والهيمنات مرفوضة، فكيف تتشكل الدوافع الداخلية في الطبقة من أجل أن تجعل الاقتصاد الوطني وطنياً بشكل متصاعد؟ إنها ترفضُ القيودَ على إستيراد العمال الأجانب، وكلُ رأسمالي يشتغلُ في نطاقه الخاص، لا يدري باللوحة العامة، أي بالمشكلات والأخطار والظروف المتباينة، فكل ما يهمه هو نمو أرباحه، فكيف سيساهم في العملية الديمقراطية الوطنية المتصاعدة وهي أساس نمو متجره ليكون مصنعاً، وأساس نمو البحرين لتكون مدينة حرة كبرى مستقلة في إتحاد إقتصادي عربي خليجي عالمي؟ إنه فقط مشغول بحسابه اليومي وأرباحه الصغيرة، فلا بد له من كيان سياسي معبر عن هذا التحول لبرجوزاية وطنية خليجية عربية لها سوق عملاق.

أي تطور حديث لا بد له من هذا الجدل بين عمال وطنيين وطبقة وسطى وطنية يتعاونان على مشروع مشترك، يختلفان في بعض الجوانب، لكنهما يتحدان في الحفاظ على الخريطة الوطنية.

إن وجودَ مرضٍ واسعِ الانتشار دليل على غياب الصحة السياسية الاجتماعية، وإذا كان التطرف في المذهبية واليسار شائعاً، فهذا لغيابِ يمين وطني يستثمر بشكل عقلاني، ويسار ديمقراطي يحللُ وينقد ويتجاوز أمراض الطفولة اليسارية.

إن الجمهور الذي يؤيد التطرف هو جمهور ضائع إجتماعياً، وهو من جذورِ فلاحين مُقتَّلعين من تاريخهم الريفي المتماسك، وهو شباب طموح ضعيف الإمكانيات التقنية والفكرية، وهو نساء محرومات في البيوت لا يجدن فرص التفتح والأعمال وغير هذا من فئات تجمع الأحباطُ والجمود وقلة الوعي فيها.

إن كسب هذا الجمهور وتوعية الشباب المتحمس الفاقد للوعي السياسي العميق، يمكن أن تقوم به القوتان السياسيتان الاجتماعيتان السابقتا الذكر، كلٌ في موقعه، حيث تتبلوران على صعيد تنظيم للطبقة الوسطى على طريقة الوفد المصري الليبرالي العلماني الديمقراطي، وعلى صعيد نمو يسار ديمقراطي يعيدُ النظرَ في الشموليات المختلفة التي أُسرَ في أيديولوجياتها، وبهذا يقومان بتفكيك العقد العصابية الاجتماعية السياسية للمرض الطفولي في كل من المدينة والقرية، وهذا يتطلب زمناً سياسياً طويلاً لكن بعض خطواته الآنية ممكنة واتضحت في تصاعد عمل فئات وسطى للاستقلال الفكري السياسي التحديثي والتوحيد وتصعيد الرقابة البرلمانية وفي ديمقراطية النقابات وغير ذلك من مهام، لكن الطريق طويل.

والأمور تغدو أخطر مع التقاعس والجمود فثمة خلايا فاشية قد تنمو من هذا العصاب الاجتماعي وهي تتلاقح عبر الإعصار الإيراني وما فيه من كوارث وحروب على صعيد المنطقة.

من اليسارِ المتطرفِ إلى اليمين المتطرف  #المنبر_التقدمي ⇦ (اللاتقدمي)!

 في حراك الفئات الرأسمالية الصغيرة تذبذباتٌ واسعة من اليسار المتطرف إلى اليمن المتطرف، ومن الحلم السوفيتي إلى الكابوس الطائفي، ومن ثورة السلاح حتى الجثوم تحت العباءات الإقطاعية، إنها تتحرك عبر عبارات مجلجلة، فيها خيوط حقيقية وفيها غبار طبقي كثيف يعشي العيون عن السير في الدروب الدقيقة.

ولهذا ففي التحالف اليساري الديني عودةٌ أولى للوراء، وعدم صمود منهجية التحليل الموضوعي، والطفو على سطوح الجمهور المتخلف غير الواعي، مثلما يأتي الكاتب الريفي ليؤيد تداخل الأنواع الأدبية صارخاً مؤيداً الشكلانية تدفعه الشحناتُ العاطفية غير القادر على السيطرة عليها مثلما غير القادر على السيطرة على مادته الكتابية والواقع والتغلغل فيهما بدلاً من التوهان بين الأجناس الشعرية والنثرية.

في حضور الشكلانية حينذاك هزة فكرية وفنية لخلخلة مرحلة متجمدة للكتابة البحرينية، لكنها ليست كلها دقيقة، فالأنواعُ يجب أن تتشرب من الأرض وتطورها الاجتماعي الإنساني وتداخلها عبر هذا التغلغل والدراية بالأدب والفن.

مثلما أن السياسة البحرينية في أواخر السبعينيات فقدت أدواتَها التحليلية وبدأت تطفو على نثار اجتماعي تسودُهُ فئاتٌ وسطى كثيرة باحثة عن المال السريع والشهرة، وكلما تقزمت تنطعت. الأدواتُ التحليلية القديمة تكلست ولم تعد قادرةً على فهم سير المجتمع. وتبقى شعارات متيبسة أكثر فأكثر وبدلاً من صناعة التطور للإمام تساهم في العودة للخلف.

اليسار المتطرف يعبر عن حالات مدنية مشوشة اجتماعياً، فيها فئات للسير المعتدل أو القفزة للسلاح، لكنْ كلاهما يلتقي مع نضوب القواعد والبحث، والتوحد يحدث بطريقة نضوب جماعية، فليس ثمة فكرٌ جديد. يعيش مثل هذا اليسار العاطفي على تفاقم غربة فيجد بعض العامة المشحونين بذات الطريقة القديمة فيقلص الاختلافات الموضوعية، ويبحث عن مشترك زائف، فيهدم النظريات وتواريخ الأديان والبنى.

مثلما أن الكاتب الريفي يريد هدم الأشكال المتكلسة وتفجير الأدب والفنون، وليس لديه صبرٌ للكتابة والدراسة، من هنا تزدهر فيه وفي غيره مقولاتُ الدين حيث القوى الميتافيزيقية قادرة على صناعة المعجزات، وتبقى منطقةٌ سريةٌ للأبطال الخارقين الذين يُمذهبون؛ يحتفظون من جهة بطابعهم المحافظ ومن جهة يحتفظون بطابعهم (الثوري)، وكما أن المراحل التاريخية يُطاح بها، فإن التشكيلات الموضوعية لا يُعترف بها، وفي سحرِ الشرق تتمازج الأرواح.

وفيما بطولاتُ الجماهير الشعبية في القارات التابعة المتخلفة تُجيرُ للرأسماليات الحكومية بعد عقود من التضحيات، فإن الإدارات السياسية والفكرية والثقافية تتذبذب بقوة نحو اليمين الجديد الغامض الصاعد حسب أسعار اللحظة والمواقع.

والتطورات المتراجعة تحدث حسب البُنى الاجتماعية للدول والمناطق، ففي منطقة الخليج والجزيرة العربية وإيران حدثت هزاتٌ أخرى بسبب ارتفاع أسعار النفط، فدارت رؤوسُ الفئات الوسطى والعمالية، ومعها التيارات السياسية، فتقزمت بعضها وتعملقت أخرى.

لم تستطع هذه المنطقة التي لم تكن فيها مقارباتٌ مهمة للفئات الوسطى والعمالية التحديثية الديمقراطية أن تكرس عقلانيةً سياسية وصعوداً متدرجاً في مسار التطور الاجتماعي السياسي.

إن صعود اليمين المتطرف بأشكاله المذهبية الطائفية يتم بسرعة تحت معاول الانهيارات في جدران التضحيات العمالية والشعبية، وحيث لم تكن أُطر ديمقراطية فإن الإدارات القوية تثبت نفسها وهي في فضاء الشموليات الباذخ أو في خلايا الفقر الصاعدة أو المترنحة من الضربات العاصفة.

ومن يمتلك جمهوراً متخلفاً ولديه المال والنفوذ يصعد، وهو يؤثث سيطراته على هذه المواد الأولية والبشرية المُباعة في الأسواق، ولهذا فإن اليمين المتطرف يملأ الحقبة؛ روسيا الثورية تبيعُ السلاحَ للفاشين القتلة، والمناهج السحرية واللاعقلانية والمنفعية تُبث في الفضاءات، والانتقال من اليسار المتطرف إلى اليمين المتطرف حيث ليست ثمة قواعدٌ للتفكير الموضوعي مؤسسة، ولا هيئات منتخبة تكدس خبرةً رقابية وملفات كبرى عن الشؤون والمشكلات الوطنية، وإذا ظهرت فجأة فروعٌ صغيرة في براري القحط السياسي فإنها تريدُ القفزةَ الكبرى نحو تحقيق الغموض السياسي مثلما هي كتابة الكاتب الريفي. تريد تحقيق كل شيء، ولا تأبه بالبلدان وحدودها والطوائف وتواريخها، والمراحل السياسية وكيفية عبورها والتضحيات الشعبية وكيف التقليل منها وعدم التلاعب بها مرة أخرى وأخرى.

ثمة خلطةٌ شعرية سريالية تُكتبُ بدم الشعوب، وإنجازاتها هي المشي للوراء بحكم السيور التي ربطتها بجملها من الكتب الصفراء، والمراحل القديمة المستعادة بقوة الجهل. 

أزمة اليسار


تتردد كلمة أزمة اليسار وغياب اليسار في الكثير من المقالات، تعبيراً عن فقدان لقوى أزمة اليسار معبرة عن أغلبية الشعب.
كان اليسار نتاج صيغ مستوردة وكان عالمياً يشتغل لإنتاج رأسماليات حكومية، أُضفيت عليها شعارات إشتراكية، والتحمت هذه الشعارات بالمطلق، أي رئيت وكأنها أبدية، مما جعلها نسخاً من الأديان.
وقد كانت الأديان في بدايتها ثورات معبرة عن أغلبية الناس، وهي الخميرة الأساسية، التي تم دفنها في الأشكال العبادية المفارقة لتطور الناس وتقدمهم، وغدت الأديان معبرة عن الأقليات الإستغلالية فركزت على الأشكال كأدوات سيطرة على الجمهور.
ولهذا حين حاول اليسار أن يعبر عن الإغلبية الشعبية كان يواصل سيرورة الأديان، في تلك الثورات، لكن اليسار في العالم العربي لم يتواصل مع تاريخه العربي، بل استورد يساريته من الخارج، وهي عملية ضرورية في جانب الأدوات النظرية التحليلية لأنها نتاج تطور العلوم التي هي خبرة بشرية عالمية، والتي كان ينبغي أن تتوجه لكشف تطور المجتمعات العربية، وهي غير ضرورية بل مضرة حين تغدو جلب قوالب وتركيبها على تطور الشرق المختلف عن الغرب.
في التجارب (الاشتراكية) التي تحولت إلى أديان حديثة، نجد العمل الهام الذي إستغرق سنوات على تطوير حياة الأغلبية، لكن من خلال هيمنة حكومات مطلقة، وحينئذٍ يغدو الفكر (الاشتراكي) دينياً ويصبح شيئاً فشيئاً معبراً عن الأقلية الاستغلالية، لأن البيروقراطيات تنفصل عن الناس وتحول جزءً مهماً من الفائض الاقتصادي لمصلحتها.
فالوعي(الاشتراكي) هنا يكرس شمولية الشرق؛ وهي سلطة مطلقة أبدية، وإدعاء بامتلاك الحقيقة والقضاء النهائي على الشرور، وتحويل الزعماء الموتى إلى مزارات ومعبودين، حتى يتم دفن الفكر النقدي العقلاني معهم.
هذا الوعي الديني هو الذي هيمن على اليسار العربي، فتم نقل إشتراكية دينية بيروقراطية ذات نصوص شبيهة بالكتاب المقدس، الذي لا يمسه سوى المطهرون، وهي في ذات تنكر تراثها الديني، وليس الأشكال التقليدية فقط بل كذلك المضمون الثوري المتواري في بداياتها.
لكنها تنزلق نحو الأشكال التقليدية، فالمقدس المحافظ موجود في لا وعيها في أكثر الأحيان، خاصة أن الكثير من مناضليها هم من الفقراء والعمال. فالأشكال التقليدية أكثر حضوراً في الحياة اليومية، كما أن الاشتراكية ليست عند الأغلبية سوى شعارات.
بسبب المواجهات بين الرأسماليات الحكومية الشرقية التي تصورت نفسها نهاية للتاريخ، وبين الغرب، حدث انتصار للرأسماليات الغربية الأعرق وكذلك حدث تطور آخر في الرأسماليات الحكومية الشرقية، فكشفت عن وجهها الرأسمالي، وتجاوزت إختناقها التقني الانتاجي، وقاربت الديمقراطية الغربية في جوانب شكلية.
وبهذا فقد اليسار العربي سنده العالمي، وأعتبر ذلك نتاج خيانة للاشتراكية أو لتغلغل الجواسيس، وغير هذا من السببيات المسقطة بشكل ذاتي، فأصيب بصدمة دينية، عُوضتْ في جوانب منها بالرجوع إلى الدين المحافظ، الدين كما صاغتهُ قوى الإستغلال، وكان الرجوع للمحافظة والأشكال العبادية والطقوس وغيرها من المظهريات، جزءً من تدهور طويل في هذا الوعي (اليساري).
وإذا كانت بعضُ القواعد انهارت وذابت في المظهريات الدينية الطافحة، فإن جزءً من القيادات تمرس بالأشكال الانتهازية، والمصلحة الذاتية، والميوعة الفكرية، والتوجه مع الغالب أي مع الأطراف الدينية المحافظة بتنوع تياراتها وزئبقية مواقفها وتوجهها نحو الانضمام إلى قوى الإستغلال السائدة.
إن الطبيعة الدينية في هذا اليسار تعتمد على قواعد شعبية لم تتجذر في المعرفة العلمية، فليست الأفكار اليسارية – كما يُفترض – شعارات وإنما نظرية متغلغلة في كافة العلوم خاصة الاجتماعية منها.
وأغلبية العمال ليس لديها وقت للقراءة المعمقة إن لم يكن ليس لديها وقت للقراءة أصلاً، ولهذا هي تعيد سير آبائها الذين بعد أن ينتهوا من العمل يتوجهون للترفيه أو إلى دور العبادة يشحنون أدمغتم بالخطب المنبرية، ثم مع الأيام تضعف صلاتهم هناك بأعماق الدين وهنا بأعماق اليسار وجذوره التاريخية.
وتصبح المظهريات العامة الدينية واليسارية بينهما مشتركة؛ البكاء على الشهداء، وعمليات الشحن الموسمية للرمزية المعبودة، وتسلل الطائفية عبر تنحية رموز وتعظيم رموز دينية، تنحية النساء عن التنظيم والقيادة، وغير هذا من الجوانب التي تغدو في الشباب أكثر بروزاً وهي التي لم تشهد النضال اليساري في عنفوانه.
يساعد على ذلك نوعيات التنظيمات اليسارية خاصة التي صارت أندية وشللاً، وفقدت مضمونها الجوهري وهو الالتحام بالواقع والجمهور والصراع معهما، من أجل تحليل واقع الأغلبية وتطوير مساهمتها في التغيير.
وإذا كانت لا تدرس الواقع، ولا تعتمد على القراءة والإنتاج المعرفي التحليلي للحياة، ولا على جهود أعضائها تقرأ الواقع وتصارعه، فإنها تغدو مذبذبة، انفعالية، عفوية، تتبع تيارات الواقع ولا تقودها.
ولأن الواقع يتمثل في صراعات الطائفيين المسيطرة فإن حركة (اليسار) تصير بينها، استفادة منها، وميلاً إلى بعضها، ونقد أخرى، لأنها تكون قد إنزلقت بينها وصارت جزءً منها.
صارت العفوية أساس عملها وهي التي تتيح نمو الانهازية في صفوفها.
في إطار تحليله لأزمة اليسار يقول إحد الكتاب العرب:
( عندما إنضم ابناء جيلي لمعسكر الفكر الماركسي المتمثل اساساً بأحزابه الشيوعية، كنا نتفجر بالطاقات الفكرية والنضالية، والثقة التي لا تتزعزع بصحة نهجنا، وبأننا قادرون، رغم ضعفنا الواضح في مناطق ما من العالم، على تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً، بالانتصار على الاعداء الطبقيين والانضمام الى العالم الحضاري المتنور، عالم العدالة الاجتماعية والحرية البعيد عن الاستغلال، الا وهو العالم الاشتراكي. وكنا مؤمنين بنهجنا متعصبين له بشكل مطلق. ولكن اتضح فيما بعد ان ما كان يبدو قريب التحقيق اصبح مستحيلاً، وأقرب الى معجزات السيد المسيح وكنا قد تجاوزنا جيل الحماسة والاندفاع، وبدأنا ننظر للقضايا الفكرية والاجتماعية بواقعية ومنطق مختلفين عن أساليب التلقين الحزبية التي واصلت (والمرعب انها لم تتغير حتى اليوم) التمسك بنفس النهج والتصرف وكأن ما جرى في النظرية والتطبيق مجرد خطأ مطبعي سيجري تجاوزه وتعود الثوابت الايمانيه الى مكانها الطبيعي. فالحديث ليس عن نظرية أو فلسفة تتعارك مع الواقع الفكري والاجتماعي، انما عن دين له كهنته وبطاركته ونصوصه المقدسة بل وله حرمته الدينيه. وكأن المعسكر الاشتراكي لم ينته، ونموذجه الاشتراكي هو النموذج الوحيد القادر على انقاذ البشريه… رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي، ومن انحرافات، وتجاوزات للفكر العظيم لمؤسس الماركسيه- كارل ماركس، قزمت فلسفته وحولتها الى ستالينية ضيقه الافق مارست أبشع اشكال القهر والاستبداد ضد شعوب الإتحاد السوفياتي والمجموعة الخاضعة لها في اوروبا الشرقية.)
حتى في إطار نقد الفكر اليساري وتجربته تتواصل عقلية الفكر الديني المحافظ، فمصطلحات مثل(عالم العدالة والحرية البعيد عن الاستغلال)، تعيدنا إلى ذلك الوعي فهي تصويرٌ للمجتمع السوفيتي كمجتمع ديني، كجنة أرضية، انحرفت إلى النار بسبب شخص كافر هو ستالين، لم يمش على صراط الإمام الأكبر ماركس.
وهناك جوانب في الفقرة السابقة المستشهد بها حقيقية، لكن الفقرة لم تقترب من فهم أساليب الإنتاج، وهي الفكرة الرئيسية لفهم الماركسية، ف(عالم العدالة والحرية البعيد عن الإستغلال) كلامٌ خيالي، وهو كلام مقصود به القفز على التشكيلة الرأسمالية، وهو ما كان المطب الرئيسي لمنظومة ما يُسمى ب(الماركسية – اللينينية) التي تمظهرت في مؤسسات الأحزاب الشيوعية، والتي اعتبرت هذه التشكيلة غير ضرورية، ويمكن القفز فوقها للذهاب إلى الاشتراكية مباشرة، وهي تعبر عن عقلية مغامرة غير علمية، لهذا كانت في العمق وعياً دينياً، وفي الظاهر إلحاد عدمي، يعتقد بإمكانية الطيران فوق السببيات الاقتصادية، وصناعة الواقع كما يهوى ويتحول إلى دين يسحق الأديان.
لكنه كان يصنع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية، فليست المسألة مسألة(رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي)، بل الأمر أخطر وأكبر من ذلك، إنها عملية صنع المنظومة الحكومية الشمولية تلك، أي الأمر يعود لتكوين دكتاتوري في العلاقات الاجتماعية والسياسية الشرقية الضاربة الجذور في الاستبداد. فاستيراد الروس للماركسية كان إستيراداً بعقلية دكتاتورية تمظهرت بقوة في الحزب البلشفي، وكان المناشفة، المنادين بالديمقراطية أقرب للماركسية! وهكذا كان لينين صانعاً لهذه الدكتاتورية الرأسمالية الحكومية، منذ بداية تنظيم البلاشفة في الخلايا الأولى!
ولهذا كانت الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية هي الممكن الوحيد لدى مثل هذه المؤسسات السياسية، وليس هذا ببعيد عن القوميين العرب والبعثيين والطائفيين الحالييين، فمهما كانت مصادر نقلهم للأفكار، فهم في النهاية يعملون لقيام رأسماليات حكومية دكتاتورية، فهذا له جذور في تاريخهم السابق لا يقوموا سوى بقولبتها على الحاضر. لا يختلف في هذا لنين عن الخميني عن عبدالناصر عن هوشي منه عن كاسترو عن صدام الخ..
وهي علاقات تجعل (اليساريين) يرون في الطائفيين أخوتهم في النضال!
كان إنشاء قطاع عام أساسي في روسيا وتشجيع القطاعات الخاصة المنتجة و تطوير الريف وتحديثه بشكل تدريجي والسماح بتعدد الأحزاب والحريات العامة والانتخابات الحرة كان أفضل للتجربة الروسية، وهو ما صار وامضاً في السياسة الاقتصادية الجديدة في العشرينيات من القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي، التي لم يحولها لينين إلى منظومة مصراً على النظام الحكومي الدكتاتوري، فـُنسفت هذه العناصر الديمقراطية مع تصاعد الدكتاتورية بشكل شامل.
وإطاحة ستالين بأعضاء المكتب السياسي الآخرين وقتل أغلبهم ليست مسألة عبقرية شخصية، بل هي نتاج تصاعد البيروقراطية الحكومية وتصاعد الأجهزة السرية البوليسية والعسكرية التي وقعت خيوطها بين يديه!
ثم عممت هذه التجربة على البلدان والأحزاب الأخرى باعتبارها إشتراكية!، وقد هيجت هذه السياسة الصراعات الدولية الكبرى وبررت صعود الفاشيات في أوربا الغربية.

لم يقم اليسار العربي بنقد تجربته النضالية الدكتاتورية إلا بأشكال عمومية ومجردة ولم يدرسها بشكل نقدي من خلال تاريخه الخاص، لأسباب فكرية بدرجة خاصة فهو الماركسي لا يعي الماركسية، إلا باعتبارها قوالب شرقية استبدادية، وعبادة لقادة، وأبوية وطنية وعالمية.
هو جزء من جماعة تسودها الأبوية وغالبية عمالية تكره الرأسمالية بسبب عيشها في مصانع وشركات وتحن لإزالة الاستغلال، وهي تعاني من ظروفها هذه ولا تستطيع أن تغير مهنها، ولا تدرس الثقافة السياسية كذلك، وبالتالي يكون لها وعي مناهض بشكل عفوي للرأسمالية، وتمضي غريزياً للشعارات الاشتراكية، دون فهم عميق لها.
ومقاومة الاستغلال الرأسمالي وتحسين ظروف العمال وأجورهم أمور هامة جوهرية، ولكن مسألة إقامة نظام سياسي إشتراكي شيء مختلف.
وغالباً ما لا يفهم حتى قادة العمال هذين الأمرين، نتيجة لذلك الوعي، خاصة في دول تعيش نظاماً تقليدياً، متخلفاً، كما أن(الماركسية – اللينينية) التي تمتْ صناعتها في دول الرأسماليات الحكومية كرست مثل هذه الأمية الفكرية.
ولهذا فإن واقعاً معقداً كالذي نشهده حالياً لا تستطيع مثل هذه اليافطات الشعارية أن تحلله وتفهمه، وتتأخذ تجاهه موقفاً نقدياً يؤدي إلى تقدم حياة الغالبية من الجمهور.
لقد خلقت الطائفيات مثل هذه المواقف الملتبسة، وتؤدي العفويات السياسية والانتهازية والمعارضة الغريزية، أدوارها في تأييد الأحزاب اليسارية للطائفية الشيعية أكثر من الطائفية السنية، خاصة في بلدان المشرق ما عدا مصر وفلسطين والأردن، التي لها سمات مذهبية ودينية أخرى، فالكثير من قواعد الأحزاب اليسارية تأتي من العمال والفقراء، المشحونين بالدعاية الطائفية، ولا تتمكن مداركهم من فرزها وتحليلها، وحياتهم اليومية تجري بين هوائها، ولهذا يؤيدونها دون إدراك لمخاطرها.
والسياسات الطائفية لكافة دول المشرق مرفوضة، ولكن الأخطر فيها حين ترتبط بمشروعات توسع، وعسكرة، وتقمع شعوبها في الداخل، ولهذا فإن عدم نقد مثل هذه السياسات في الأحزاب(اليسارية) هو بحد ذاته مبعث قلق كبير، ولعل أسبابه تكمن في مجاملة طائفتها، وأعضائها المنتمين إليها، وحينئذ تكون السياسة(اليسارية) قد وصلت إلى الكارثة.
كما أن الطائفيات السنية لا تخلو من سلبيات كبيرة كذلك، فالعسكرة وسياسة الأجهزة العسكرية والبوليسية وإرسال الرساميل للعيش في الخارج، وعدم المساواة في المناطق وبين المواطنين للدخل الوطني، هي وغيرها سلبيات يجب نقدها بقوة من قبل الأحزاب اليسارية، لكن في هذه الفترة الحالية تكون سياسة المحافظين الدكتاتوريين في إيران هي الأكثر خطورة على حياة المنطقة.
مثلما تتوج خطأً السياسة الطائفية السنية في تأييد القاعدة.
تحدث المجاملات والتغاضي عن ذلك البلد وتلك الطائفة فيقال أن ذلك لحساسية الموقف! وليس ذلك سوى للحفاظ على مظهر هش للتنظييم اليساري، الذي تقاعد مبكراً من اليسار، لكنه يخدع نفسه بمظهريات، وعبر أعضاء لا يقرأون، ولا يزاولون نشاطاً سياسياً تحويلياً للواقع.
بطبيعة الحال يمكن لمواجهة الجمهور المتخلف والمتعصب أن تجرى وسائل الارشاد بطرق حذرة، وعبر التمييز بين رموز التراث والأنظمة التي تتاجر بها، لكن الحقائق يجب أن تقال، وأن تترسخ في وعي هذا الجمهور، فالتناقضات داخل الطوائف والأنظمة الشمولية تحتدم، وسيكون لها في المستقبل مظاهر حادة تصل بالقوة حتى إلى عقول أكثر الناس تخلفاً عن متابعة الأحداث وفهم الواقع.
ولو كان اليسار ذا مواقف نقدية من الظاهرة السوفيتية والصينية والناصرية والبعثية واليمنية الجنوبية وغيرها، لكان قد طور عقلانيته، وكان أكثر بقاء واتساعاً، وقلل من كوارث الأنظمة والحركات الطائفية، ولكن ذلك لم يحصل، وهو لا يحصل الآن تجاه الأنظمة التي ورثت السابقين، مما يدل على ضعف تنامي تلك العناصر النقدية العقلانية، وهيمنة العفوية المؤيدة للدكتاتوريات الجديدة، ومجاملة المتخلفين، والاستفادة منهم لمصالح عابرة، بدلاً من تبصيرهم بوعورة الطريق، وعرض تجربتهم هم كيساريين بلسبياتها وإيجابياتها، فالجميعُ نتاجُ نسيجٍ واحد شرقي شمولي طائفي، لا بد من التعاون لتغييره.

أنظر كتاب عبدالله خليفة: اضاءة لذاكرة البحرين

لم يتابع نشطاء جبهة التحرير الوطني البحرانية وكذلك مناضلو الجبهة الشعبية عمليات التخلخل العميقة فى المعسكر الاشتراكي بصورة علمية، فهم انتقلوا من تأييد عمليات الإصلاحات التي قام بها جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي التي لم تكن أبعادها مفهومة حتى لجورباتشوف نفسه، إلى رفضها المطلق حين تبينت أبعادها التفكيكية لجسم الاتحاد السوفيتي، باعتبار جورباتشوف عميلاً غربياً، وقد طفحت مثل هذه (الأفكار) على ألسنه القيادات وبعض القواعد، وهى كلها مذهولة كبقية أفراد البشر في الكرة الأرضية، من هذا الانهيار. لم يحدث أي تحليل موسع، أو قراءات فكرية عميقة لعمليات التغييرات الكبرى هذه، ليس فقط لطابع كوادر الجبهتين اللتين اتصف عملهما بالتركيزعلى الشعارات السياسية الرائجة، بل لأن نشاطهما في تلك السنوات الانفجارية الروسية، قد وصل إلى الإنهاك السياسي الكبير، بعد تضحيات جسام في السجون والنشاط السري والمنافي منذ الخمسينيات، وما عاد في قدرة القيادات سوى المساهمة في أي نشاط يطفح على السطح. وكان انهيار الاتحاد السوفيتي يترافق مع نمو الحركات المذهبية السياسية في البحرين والعالم الإسلامي عموماً، وكان المظهران المتناقضان في الواقع يعبران عن جوهر واحد، هو نهوض الأمم الشرقية في عالم الصراع الكبير مع مركز السيطرة على الكرة الأرضية المتمثل في الغرب الرأسمالي. فالأمة الروسية في الواقع كانت تقوم عبر جورباتشوف بهدم (رأسمالية الدولة الشمولية) أو الرأسمالية الحكومية المركزية، والتي اتخذت في عيون الشيوعيين العرب مظهر النموذج الوحيد للاشتراكية، وهذا النموذج يصل في وعيهم أو لا وعيهم بدرجة خاصة، إلى المثال الديني المقدسي، فرفضه أو التشكيك فيه يصل إلى درجة الخيانة، أو الكفر، لأن عالم منظوماتهم الفكرية، يقوم على مجموعة مقدسات، هي فكر لينين الطاهر المقدس، والاتحاد السوفيتى المزار، أو الصين في رواية أخرى، ورمز الجنة الأرضية. والأب الحاني و الشقيق الأكبر.

 لكن طبقات الأمة الروسية كانت قد وصلت إلى مرحلة استنزاف بسبب النظام البيروقراطي الحكومي، الذي قام بتحولات هائلة ولكنه وصل إلى الأزمة العميقة. وظهرت برجوازيات حكومية استنزفت الموارد وأوصلت نفسها إلى سدة الحكم مبعدة العمال من مركز الاهتمام الاجتماعي.

 كان هذا يعني على المستوى العالمي (أزمة الماركسية – اللينينية)، فهذا الفكر تصور قدرته على نقل روسيا والبشرية كلها إلى الاشتراكية الخالية من الطبقات وذات القدرة الهائلة على الثورة العلمية والتقنية، لكن في عمق التجربة الروسية الفكرية كان هناك حدسٌ بأن هذا الفكر هو واجهة للقومية الروسية في عملية ثورتها القومية النهضوية، وإن ما كان انجازاً ودوراً عالمياً تحريرياً، بدأ يتحول إلى عبء، فروسيا التي ساعدت شعوب آسيا على الانتقال من العبودية والإقطاع إلى النهضة الحديثة، وفرت لها رافعة جاهزة لعملية نقل القرى وعالم العبيد والأمية والحرف إلى عالم الصناعات الكبرى والكهربة والتعليم الشامل الخ.. إضافةٍ إلى المساعدات الهائلة لدول المعسكر (الاشتراكي) ولحركات التحرر الوطني..

 إن عمليات تفكيك الاتحاد السوفيتي وسحب روسيا من المنظومة الثورية العالمية، وعدم الصرف على خمول المعسكر الاشتراكي، قراراتٌ جذرية اتخذتها قوى الرأسمالية البيروقراطية والأجهزة العسكرية والاستخباراتية الروسية، فيما وراء ظهر جورباتشوف ومجموعته، التي تصورت أن ثمة إمكانية لعملية انتقال من المجتمع الاشتراكي الاستبدادي إلى المجتمع الاشتراكي الديمقراطي. وهذا التوصيف الحالم من قبل جورباتشوف، ينقصه عدم فهم طبيعة النظام الرأسمالي الحكومي الذي كان يتربع على قمته، بمعنى أن فهمه للماركسية لم يكن ماركسياً، وبمعنى آخر أيضاً بأن (الماركسية – اللينينية) كانت وعياً قومياً رأسمالياً روسياً تشكلَّ بأدوات السيطرة الحكومية الشمولية. وكان إدخال الانتخابات وأدوات العمل الديمقراطي على هذا الكيان يعني وصول هذه البرجوازيات البيروقراطية في كل بلد من بلدان الاتحاد السوفيتي إلى السلطة، وبالتالي هدم الاتحاد السوفيتي الذي أقيم على تحالف مفترض وهمي بين العمال والفلاحين، أي أن هذه الطبقات المنتجة ابعدت عن السلطة خلال عقود الدكتاتورية الفردية السابقة، وهي التى قامت عبر تضحيات عملها وثماره بتصعيد تلك السلطات البيروقراطية وخلق منجزات التحديث الهائلة، وبالتالي فإن هذه الجماهير راحت فكرتها الاشتراكية التضحوية تتحطم سياسياً فتعود لما قبل الماركسية اللينينية، أي للدين والوعي القومي وهما الشكلان من الوعي المنتشران والسائدان المتواريان.

لم تفهم أممُ آسيا خاصة في روسيا والصين وفيتنام أن تحولاتها تجري نحو الرأسمالية الحديثة، وقد وجدت في (الماركسية ـ اللينينية) ضالتها للحفاظ على هويتها القومية المتوارية وعلى جهاز الحكم المركزي القائد والمسيطر عبر التاريخ.

 ولكن تطور القوى المنتجة بعد إنشاء الصناعات الثقيلة واجه صعوبات هائلة من ذلك الجهاز الحكومي الذي كان قائداً وحيداً في التنمية، فاستدعت الضرورات تفكيكه ونشر الصناعات الخاصة ولتطوير قوى الإنتاج المتخلفة عن مستوى الغرب واليابان في حمى تطور الأسواق والاستيلاء عليها.

 إن الأحزاب الشيوعية والمنظمات التقدمية العربية لم تفهم طبيعة التحولات هذه، وكان لايزال الشكل النضالي المساواتي التقشفي البروليتاري مهيمناً على الوعي العام، في حين تم نخره من قبل التطلعات البرجوازية الداخلية، التي راحت تتغلغلُ في القيادات والأعضاء. وكما حدث في القيادة السوفيتية ذلك التناقض بين مُثل الاشتراكية القديمة المسحوقة، بين الأنانية القيادية وانتفاخ الزعامات المغرورة بدورها، وبين الانضباط والطاعة الثورية لدى القواعد المتردية أحوالها، كما حدث ذلك في الاتحاد السوفيتي وخرّب التجربة النضالية الوطنية الشعبية، فقد حدث ذلك في الأحزاب الشيوعية والتجمعات التقدمية العربية المختلفة.

 فالكلام عن المبادئ والقيم النضالية والتضحية تم خرقه ببيروقراطية الإدارات وانانيتها السياسية والاجتماعية، فالتضحية تكون من نصيب القواعد والمكاسب تكون لجانب القيادات. السجون والتعذيب والبطالة والفقر تكون من نصيب الأعضاء البسطاء، وعضوية القيادة الخالدة والكراسي البرلمانية والبيوت والسفرات والثروة تكون من نصيب القيادات.

 ولكن إذا كان هذا التناقض الاجتماعي قد حز في التكوين السياسي وعد قوى العمال والفلاحين عن هذه الأجسام، فإن هشاشة التكوين الفكري الذي تجسد في القبول السطحي بـ(الماركسية – اللينينية) كان هو العامل الأكبر في الأزمة الفكرية. فكأن العقل (التقدمي) يستوردُ الموادَ الفكرية وينقلها في جسمه السياسي، ويغدو موقفه الوطني هو تعليق سياسي مُبسّط عما يدور في بلده. إن عدم قدرته على التحليل هو وليد هذه العقلية الاستيرادية، وتتحول هذه المواد إلى مواد مقدسة، يسود فيها الحفظ والترتيل الديني، وتشع حولها الطهارة، ثم تنقلب مع اكتشاف الفساد في مراكز القيادة، أو اكتشاف الضعف والتخلف عن التطور فيها، إلى صدمة روحية.

إن الإيمان العاطفي المطلق ينقلب إلى كفر كعادة الوعي الديني، وانتقاله بين المتضادات التي يعجز عن القيام بالتركيب فيها، فيجري التنصل من الأفكار أو الارتدد إلى الشائع والشائع دائماًهو الوعي الديني والوعي القومي. وهما الشكلان الأساسيان من الوعي في نمو الأمم في مراحل الإقطاع والرأسمالية. وبهذا فإن الوعي التقدمي الذي كان يجزم بوجود الاشتراكية يتخلى كلياً عنها. فيهتف بأن لا وجود سوى للرأسمالية والمصالح الخاصة!

 أو أن بعض قطاعاته ترى الرأسمالية كخيار أفضل من التجمعات الدينية المحافظة التي تمثل خطراً على النهضة، أو أن الزعيم المغمور يتمرد على الزعيم الرسمي الخ.. في حين تتوجه القواعد الشعبية التي لا تزال تهجسُ بمُثل المساواة إلى البقاء في الكليشيهات القديمة، فتظهر أمثولة المهدي هنا بأن لينين عائد، وإنه حي، ويعود بعضها للعبادات الدينية كليةٍ متصوراً بطرق تفكيره الشكلية أن هذا هو الإسلام. ويحافظ بعضها كلية على الماركسية اللينينية بشكلها النصوصي القديم ويزاوجها أحياناً مع ابتهالات دينية ما لتأكيد طابعه المحلي. والبعض النادر يواصل الحفر والاكتشاف بأن الدول (الاشتراكية) نمط خاص من الرأسماليات الدول في العالم المتخلف، وإن الماركسية منهج في البحث ونظرة كونية ويجب إبعادها عن التطابق مع تجربة البلدان الشرقية التنموية السياسية الخاصة المرحلية.

 وفي حين أن منتجي هذا الوعي الأخير قليلين بين التقدميين يكثر منتجو أشكال الوعي الأخرى، ولذلك أسباب عميقة داخل أبنية الجماعات التقدمية المختلفة.

إن الخيط النضالي الديمقراطي الشعبي لا ينقطع في الأجسام التقدمية العربية مهما كان هذا الخيط واهياً في المراحل الانعطافية الصعبة، فهو وليد تضحيات جسام، والدوائر الشعبية المختلفة تراها تحافظ على هذا الخيط حتى وهي تختلف عنه، داخل ممارساتها الدينية، بسبب حدسها الطبقي، فضياع تنظيم تقدمي هو فائدة كبيرة لقوى الاستغلال التي «تدهس» أجورَها وأحلامها الاجتماعية.

 لكن قوى الاستغلال الشمولية تعمل بقوة على شطب هذا الخيط من التاريخ، أو على الأقل الاحتفاظ به كتحفة فنية. فالمساهمة في فصل القيادة عن القواعد، وحفر الانقسام المذهبي، وتفتيت الأجسام السياسية الخ.. هي من أدوات الرأسمالية الحكومية العربية في تكريس دورها المطلق في الاقتصاد ونهب فوائضه.

 أما القوى الدينية المختلفة ففي أقصى تجربة لها هي تعمل على رأسمالية حكومية مركزية مسيطرة على الجمهور، لتقوم بالدور نفسه ولكن مع أحجبة إسلامية ولحى طويلة.

 لكن التقدميين وحدهم قادرون الآن على فهم تجربة رأسمالية الدولة وتعزيزها ونقدها وتطويرها، كشكل من الثورة الاقتصادية المركزية المساندة بقطاع خاص مستقل وبعالم من التعددية السياسية، وهو أمر يحدد طبيعة التحالف بين التقدميين والليبراليين والدينيين المنتقلين للديمقراطية.

 لكن هذه البلورة السياسية للنظام المراد تشكيله تصطدم بتلك الفسيفسائية التقدمية، التي دمرت أخطاءها الفكرية، بسبب عدم فهمها تجربة سياسية، هي تجربة الدول «الاشتراكية». فهي تخلت عن المادية الجدلية والمادية التاريخية في سبيل دكتاتورية البروليتاريا، وكأن الفكر المادي الجدلي لا يقوم إلا على الدكتاتورية الاجتماعية! في حين أن الفكر ذاته وُجد في الغرب وتطور في الغرب من دون الحاجة إلى تلك الدكتاتورية.

 إن الشرقيين الشموليين يعكسون ميراثهم الديني والاجتماعي على النظريات العلمية، لكن الآن تتطلب دقة المواقف وتركيبها استخدام المناهج وتحليل الحياة بها، فيتطلب الموقف إنتاجاً وليس نقلاً.

 إن الماركسية الاستيرادية السابقة تعجز عن القيام بتحليلات مُعمقة للبناء الاجتماعي في كل بلد عربي، ولهذا فإن المواقف التقدمية تقوم بالعودة إلى تراث المنطقة والتغلغل فيه، فتصبح هذه المواقف التقدمية عربية وإسلامية ومسيحية وعائدة كذلك للتراث الحضاري القديم، لا بمعنى تشرب طرق تفكيرها الغيبية ومنظومات عباداتها، بل رؤية دورها الاجتماعي النضالي كخلفية مهمة للفكر التقدمي العربي المعاصر وكجذور متميزة للمنطقة، وهي عمليات تحتاج إلى تزاوج بين البحوث العلمية والعمليات النضالية اليومية.

 ولهذا فإن التقدميين قادرون على الغوص في تراث كل طائفة دينية، ورؤية العناصر الكفاحية فيه، ودراسة مُثُل هذا التراث، وإبعاد المنتمين إليه عن التحجر في أشكاله المتيبسة وعن التعصب، وتوعيتهم بالأبعاد المغيبة العظيمة في هذا التراث، وتطويرهم وتوحيدهم لمهمات الأمة والشعب والإنسانية.

 إن هذه المستويات المركبة من التفكير والسلوك، تتطلب أعضاء على مستوى كبير من العمق الفكري والمسئولية السياسية والنشاط، ولكن حين تتحول التنظيمات التقدمية إلى كم تحصيلي من الأعضاء السابقين من المراحل السابقة (يعكس الانهيار أكثر من المقاومة)، تفقد قدرتها على التحول إلى أداة قادرة على فعل شيء مميز في هذه المرحلة المعقدة.

 والأزمة التنظيمية هي تعبيرٌ مركب كذلك عن مجمل الأزمات وخاصة الأزمة الفكرية، فالأزمة الفكرية هي نتاج كل التحليلات السابقة، وهي تؤدي إلى الشلل السياسي الذي يهدم كل فكر.

في عودة التقدميين البحرينيين من الخارج تولد انحرافان؛ انحراف نحو اليمين يضع أغلب الأوراق في يد الإقطاع السياسي، وانحراف يساري يضع أغلب الأوراق في يد الإقطاع الديني.

 وحين ينفي الخارجُ التقدمي المسيطر الداخلَ التقدمي نلمحُ ثنائية القاعدة البيروقراطية التي شحبت قدراتها على التحليل والممارسة، ولكنها تفرض منظومتها على القواعد المضحية للحصول على مكاسب شخصية.

 لكن هذا يتبدى بشكلين إيديولوجيين خادعين، أي عبر انحرافين متضادين في الشكل متحدين في الجوهر، فالأول يركز على مماشاة (الإصلاح) وعدم نقده وتحليله، وبالتالي مسايرة خطواته من دون وجهة نظر نقدية، والثاني يرفضه ويعتبره خدعةٍ ويواصل مماشاة القوى المذهبية التقليدية القائدة للنزاع المذهبي. أي أن الاثنين يتوخيان الدعم عبر قوى الإقطاع أو التقليديين.

 إن الموالاة والمعارضة إذن ليستا لتكوين تيار تقدمي مستقل بل لوصول أقطاب التقدميين المعارضين القادمين من الخارج إلى مناصب وامتيازات ثم إلى كراسي البرلمان أن استمر تدعيمهما بالانتخاب أو التعيين.

 ولم تفعل قواعد التقدميين أي شيء جدي وكبير لوقف هذه المأساة، فنظراً للتكتيكات المتبعة في غمر الجمعيات بكل لون، وتذويب العناصر المضحية في شوربة سياسية، أمكن للبيروقراطية المسيطرة أن تشتت العناصر المناضلة وأن تضيع جهودها، وتمزق القواعد التقدمية التي جرى العسف عليها واضطهادها وتشتيتها خلال عقود.

 وبهذا فإن إمكانية إنتاج فكر تقدمي مستقل عبر هذا الاضطهاد المزدوج تغدو مسألة غير ممكنة.

 إن تراث نصف قرن ضاع في بضع شهور. فعاد التيار المهلهل من التقدميين بمختلف تجلياتهم إلى إرث الإقطاع.

 إن مسألة الأوضاع السياسية تبقى مسألة رؤوس فردية من الذكور المتناطحين، فهذه الرؤوس هي التي تسود ..

 لقد ضاع تراث التقدميين البحرينيين على مستوى تجميع المادة السابقة وعلى مستوى درسها وقراءتها بموضوعية هذا الزمان وليس بخطابية وعاطفية ذلك الزمان.

 وعوضاً عن إنتاج وعي وطني ديمقراطي جماهيري تخشب اليسار في أطروحاته القديمة، وحين جاء خلال هذه السنين سيطر عليه الانحرافان السابقان ومنعاه من إنتاج مثل هذا الوعي الوطني الديمقراطي التوحيدي.

 في الانتخابات القادمة ونتائجها ستغوص البلدُ أكثر في الأزمة التي ستغدو شاملة، وستقوم القوى المذهبية السياسية بتفكيك البلد في مختلف طوابق بنائه الاجتماعي.

 إن التغييرات السياسية تتطلب تغيرات عميقة في الهيكل الاقتصادي، ومع بقاء هذه المشكلات العميقة في الحياة الاقتصادية وعدم حلها بل تفاقمها، فإن أدوات الحل السياسية المغلوطة في (الإصلاح)، ستفاقم تلك المشكلات وتحولها إلى أزمة عامة بدلاً من أن تقوم بحلها.

 وقد كان التقدميون هم أساس الحل ولكنهم تحولوا إلى جزء من المشكلة وساهموا في تعميق الأزمة.

 إن مسئولية القواعد التقدمية كبيرة في هذه الفترة وستوضح لهم الفترة القادمة أهمية وحدتهم وتنظيف صفوفهم من الانحرافات والبدء بشكل نقدي جديد.

الإخوان السوريون والاحتيالُ باسمِ الإسلام

كريم مروة يكتب عن عبدالله خليفة

تميّز عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏بالجمع في شخصيته بين المفكر اليساري والأديب والروائي والمناضل الذي لم يتراجع في كل الظروف عن أفكاره وعن مواقفه. وقاده إلتزامه بأفكاره التي دافع عنها بشجاعة الى السجن اكثر من مرة. لكن من اهم ما عرف عنه وهو في السجن، الذي أدخل إليه في عام 1975 من موقعه في قيادة جبهة تحرير البحرين، أنه لم يترك القلم لحظة واحدة. وصار معروفاً أنه ألّف عدداً من كتبه ومن رواياته على وجه الخصوص داخل السجن على ورق السيجارة. وكانت تهرّب إليه الأقلام و أوراق السجائر ليمارس عمله الأدبي و الفكري. وكانت تهرّب أعماله الأدبية من السجن و يعاد طبعها بانتظار خروجه من السجن لكي يتم نشرها. وهو بتلك الصفة التي ندر شركاؤه فيها تحوّل الى أيقونة بالمعنى الحقيقي المناضل اليساري الحقيقي و لصاحب الفكر النيّر.

تعرّفت الى عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏عندما زرت البحرين في عام 2000، العام الذي كانت قد تحولّت البحرين من إمارة الى مملكة ذات دستور شبيه بمعنى ما بدساتير الممالك الدستورية. لبّيت يومذاك دعوة المنبر الديمقراطي الذي صار الناطق باسم جبهة تحرير البحرين والبديل منها في الشروط الجديدة. وأشهد أن تلك الزيارة قد عرّفتني الى تاريخ البحرين القديم والحديث. كما تعرفت في الآن ذاته الى العديد من قادة جبهة تحرير البحرين القدامى وقادة المنبر الديمقراطي الجدد. وكانت لي صداقات أعتز بها مع عدد من قادة جبهة التحرير، لا سيما في الزمن الذي كانت الإمارة قد انفتحت على القوى الداخلية والخارجية في عام 1973، وأجرت انتخابات نيابية نجح فيها ثمانية من أهل اليسار.

إلا أنني و أنا أستحضر اسم عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏كمفكر وأديب وروائي مناضل لا استطيع الا ان اعلن لنفسي وللقارئ كم كنت معجباً بهذا الانسان. فهو الى جانب ما أشرت إليه من صفات فكرية وأدبية وسياسية كان إنساناً رائعاً بالمعنى الذي تشير اليه وتعبر عنه سمات الانسان الرائع بدماثته وبأخلاقه وبحسه الانساني الرفيع. قرأت مقالاته وقرأت جزءاً من موسوعته التي تحمل عنوان «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية». وهو كتاب من أربعة أجزاء يحتل مكانه في مكتبتي.

من كتاب: وجوه مضيئة في تاريخنا أحداث وذكريات ومواقف

كريم مروة

سعيد العويناتي : وردة الشهيد

كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

أذكره ذلك الفتى القادم من بغداد ، الذي جاء بأحلام الشعر والغد الجميل وكلمات الحب والحمام.

أذكره بطلعته الوسيمة ، وشعره الأسود الفاحم الكث ، ووجهه الأسمر المشرق ، كطفل دخل إلى غابة متوحشة ، وقبل ذلك كنت أراه مع فتيات القرى والمدن في لوريات دائرة الأشغال يحمل الحصى والتراب والحطب ، ويشتغل بين حشود العمال الكهول ، أولئك الذين بقوا من طوفان الغوص والبحر كأشلاء ممزقة ، كقدر شعبنا البسيط أن يسبح في دائرة العوز والبقاء ..

لماذا حمل الفتى أحلامه الكبيرة ، وسافر وتغرب ليجيء بحلم الشعر والوطن ، ليغدو شاعرا لم يكتمل ، كجميع مشاريعنا في النضال التي تتأرجح بين الممكن والمستحيل ..

[سعيد العويناتي] هذا الفتى القروي ، المدني ، العالمي ، الشاعر ، الناثر ، الصحفي ، الشهيد ، جاءنا مثل غيمة ورحل ، مثل عصفور ذو زغب وقتل ، مثل كل شهدائنا الذين تركوا روائحهم وذكرياتهم وأحلامهم في عظامنا ، وذابوا في السفن والمدن.

أذكره وهو بكل صدره المفتوح للغد والأمل ، لم يشيخ ، ولم يكتمل ، باق هناك في روحي ، لم ينزع قمصانه ولا ألقى أوراقه ، بسنه المكسور الأمامية ، بابتسامته الغريبة ، ولكنته وهو يلقي الشعر في ناد بـ[البلاد القديم] ، ولايزال الضؤ يترجرج بالظلام ، ودروب القرية مفتوحة لإجتماعات الفرح والدم ، وهو سعيد بأنه يمتلك كل المشاريع للغد.

أذكره في مثل هذه الأوقات المختلجة برعشة الشتاء ، بين النخيل وعند البحر ، ووجهه كأنه يتحد بالسواحل والتراب ، عبر مشروعاته الكثيرة للتغيير ، والتحديث ، والنضال مع الناس من رفع الأجور حتى إدخال الشعر في كل بيت.

كان طازجا ورقيقا وجلده الغض لايحتمل حتى الكلمات الجارحة ، وقد كيرنا وشخنا ، وامتلأت أجسادنا بالنصال والندوب ، وهو لايزال شابا فتيا متحدا بالصواري والحقول.

شاعرا أبديا في جسد الوطن ، خارج الجروح والسيوف ، معطيا ذاته وكلماته لكل بيت ، ونحن تعبنا وهو لم يتعب ، صامد في دائرته الشفافة ، الخالدة ، فأعجب كيف يتحول الشهيد ويكبر ، وكل مرحلة تعطيه عطرا ولونا ، فتغدو الشهادة مراقبة لنا ولضعفنا ولتخاذلنا وهزائمنا ، محرضة إيانا على الصمود والنضال والإزدهار مادة ومعنى.

كل الشهداء الذين مروا بنا ، ملأوا حديقة الوطن والأرض بالأزهار ، كل منهم وردة ناضجة بالرواء والماء ، كل منهم مشروع لم يكتمل في الحياة وأكتمل في الخلود ، كل منهم عطر أتحد بالشمس والهواء وتغلغل في الروح والدماء.

ليتهم كانوا معنا الآن ، ليروا كيف أن تضحياتهم لم تذهب هباء ، وأن كل شعرة من جسد ، وبيت من شعر ، وكل منشور فسفوري ألقي في زقاق ، وكل عظم تحطم ، وكل كلمة إنفجرت بها الحناجر على الجسر ، وكل صرخة أم ثكلى ، وكل نبض إنتفض ، كلها ، كلها ساهمت في بزوغ فجر الوطن وتحولاته ، في ميلاد مؤسساته الشعبية الديمقراطية ، في قدسية أسم البحرين ،وتحوله إلى حمامة فوق خريطة العالم ..

أراه الآن سعيدا بقافلتنا التي كانت منهكة ، ممزقة ، تائهة في الرمال والرمضاء ، والتي وصلت إلى نبع صاف ، إلى ماء عذب وفرح ومهرجان ..

لازلنا نحبك ياسعيد. لازلتم أيها الشهداء في مآقينا ، تشربون الحرية معنا ، وتسقون أجسادنا ماء التضحية والفداء ، وتناضلون بغيابكم العظيم وحضوركم الأبدي.

العودة إلى الينبوع ـ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

قانون الإنتاج المطلق ــ كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة

قانون الإنتاج المطلق ــ كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة

الساقطون واللاقطون ــ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

تجاوز الشللية والقرابية ــ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة