إذا كان علي الشرقاوي شاعراً ومبدعاً متميزاً . وإذا كان ناجحاً في تأليف أغنية الأطفال. ذات البساطة العميقة. والصور الجميلة المشبعة بظلال الحياة والعمل. والايقاعات السهلة، الراقصة، فإنه في تأليف مسرحية الاطفال يواجه صعوبات عديدة وإشكالات تمنعه من صياغة دراما ناجحة للأطفال. في مسرحية «الأرانب الطيبة»، يشكل مسرحية من ثلاثة فصول طويلة، تقع في 72 صفحة من القطع المتوسط، الأمر الذي يجعل المسرحية تستغرق عدة ساعات. وهذا التطويل في البنية الفنية، سببه اشكالات التركيب وتعثر بناء الحكاية. فالمسرحية تكشف في الفصل الأول من صفحة 3 إلى 25 ، عن مجيء ثعلب الى الغابة والتقائه بأسرة الارانب، فيقرر أن يعيش في ذات المكان، اكلا الأرانب واحداً واحداً، وزاعماً أنه يريد بناء بيت للأرانب، في حين كان يستولى على أرضهم، وكذلك كثيمة فنية ورمزية للاستعمار. وفي الفصل الثاني نجد أن البيت قد بُنى . وتحول إلى ما يشبه المؤسسة، ومديرها العام هو «الخروف». وهنا تتجه احداث المسرحية الى التيه، وتتراكم اللقطات الجزئية دون بناء فني. ففي بداية الفصل الثاني نجد عراكاً بين القطة والكلب والخروف في عدة صفحات دون فائدة أو أهمية فنية. بينما يظهر أب الأرانب وامهم بعد عدة صفحات تالية، ونجد أن الصراع بين الثعلب والأرانب لم يعد هو مدار الصراع المسرحي. فقد صارت الفكرة الآن هي سيطرة الثعلب: على كل شيء في الغابة، ويظل مجيء الحيوانات الأخرى كالحروف، الذي أسيء اختياره تماماً كمدير عام! والكلب، والقط، هامشياً وغير مؤثر في الصراع. وحين يظهر الأب والأم المسئولان عن اسرة الارانب، نجد أن صغيرين من الأسرة قد اختفيا، فيلجأ الأب والأم إلى الذئب – الوزير، عبر مقطع طويل، هو الآخر بين 34 – 40، لكن الثعلب يرشو الذنب – الوزير، فلا يفعل شيئاً لمساعدة الأرانب. وتدخل الذئب، مثال على طريقة نمو الحبكة، فالذئب يظهر فجأة ويختفي بذات الصورة، دون أن تكون له لمسة درامية خاصة على البناء، ويصير حواره الطويل، على مدى خمس صفحات، اضافة الى ترهليه أخرى. كذلك كان مجيء الأسد، عبر مقطع طويل، بعد ان استعان به الأب والأم، اضافة ترهليه اخرى. لقد رشاه الثعلب أيضاً وخرج دون ان يترك اثراً. وفي نهاية المسرحية فإن الأرانب تكتشف ان الثعلب يأكل الصغار ويدفن عظامها كما يفعل بالدجاج والطيور. أن الحبكة الأساسية جيدة، ولكن تم إدخال عدة محاور. ولقطات جزئية جانبية، وحوارات ثانوية، وشخصيات زائدة، مما أرهق البناء الأساسي، واضعف تشكيله. فلو أخذنا الفصل الأول، على سبيل التشريح الموضعي، لوجدنا أن ثمة مقدمة يظهر فيها «المخرج» ليلقي خطبة طويلة عن أعماله، ثم يشرح فنه للأطفال قائلا: [قال البعض عن مسرحياتي انها مخلوطة أي للكبار والصغار وأتصور ان السبب الاساسي في هذه النتيجة هو عدم مشاركتكم وطرح أرائكم بصورة حقيقية حول هذه المسرحية] ! اضافة الى تحول المقدمة الى ترهل أول، فإنها ضد فن المسرح وفن مسرح الطفل خصوصاً، عبر تحولها الى مناقشة فكرية فنية، ليست بمستوى الصغار، كما ان إقحام شخصية المخرج في بدء العرض وخلال المسرحية كلها، كان سلبياً. وبعد هذه المقدمة، وافتتاح المسرحية عن الفصل الأول، نجد مجموعة من العصافير تتحدث طويلا عن إيقاظ الأرانب، وإذا كانت أغنيتها مناسبة وجميلة كافتتاح مشرق للنهار، فإن الحوار وحبكة الحدث لا أهمية له. فالأغنية وحدها كانت غنية بالتعبير. وحين تصحو الأرانب، الشخصيات المحورية في العرض، يحدث حوار طويل كذلك حول النهوض الصباحي والرغبة في رؤية الأم وإفساد الحلم وحب الأكل والجزر، وهو حوار مطول بلا توظيف. ولا تبدأ الدراما الا عندما يأتي الثعلب مهدداً إياهم وراغباً في أكلهم ! ولا نجد للأرانب شخصيات محددة، ولا نجد للأب والأم خصائص متميزة، لكن الثعلب يتميز ببعض الخصائص الشخصية العامة الفنية، كحيوان مفتون بالأكل وتاجر طريف متنقل. ان كل هذه الحوارات المطولة في الصفحات العديدة، كانت فوائدها الفنية قليلة، فقد رسمت لنا موقع الأحداث، ثم أوضحت الشخصيات الرئيسية، وهي الأرنب والثعلب، وكان يمكن تكثيف الحوارات الى اقصى حد ممكن. ويمكن تلخيص صفات مسرحية الأرانب الطيبة بأنها: الترهل، ضياع المحور الحدثي الأساسي، عدم تنمية الحبكة بصورة فنية دقيقة، والتيه في سراديب جانبية، واخفاق الصراع المتطور النامي. خذ هذا الحوار كمثال على عدم خلق اللغة الدرامية: الأرنب الثاني: تصوروا. انني حتى هذه اللحظة لا اعرف ما هو عمل أبي الارنب. الأرنب الثالث: ولا أمي ايضاً. الأرنب الأول: لكنهما حدثونا (؟) عن عملهما عدة مرات. الأرنب الثاني: نسيت. الأرنب الرابع: ما أكثر ما تنسى. الأرنب الثالث: هل تعرف انت؟ الأرنب الرابع: نعم. أمي تشتغل في المستشفى. الأرنب الثاني: لكن ماذا تعمل؟. الأرنب الرابع: لا اعرف. فقط اعرف انها في المستشفى. الأرنب الاول: ابي يعمل سائق شاحنة. الأرنب الثالث: لكن ما هو عمل أمي. هل هي طبيبة ؟ . الأرنب الأول: لا. الأرنب الثاني: ممرضة ؟ الأرنب الأول: لا..) الخ.. ورغم طول المقطع، فإنه بلا تأثير أو قيمة فنية، فعمل الأب أو الأم غير المعروف، لا يساهم بأي دور، أو لا يؤدي بالأرانب إلى اكتشاف شيء جديد، أو دخول ميدان عمل، أو المساهمة في حبكة الأحداث الخ.. وخلافاً للمسرحية السابقة، فإن مسرحية «بطوط» المكتوبة سنة 1983، والصادرة سنة 1990، عن وزارة التربية والتعليم، والمعدة عن قصة هانز أندرسن «فرخ البط القبيح»، والتي لم يذكر الكاتب شيئاً عن الأصل الأجنبي اقتباس أو اعداداً، توضح الفروق بين النصوص العالمية في أدب الطفل إنتاجنا المحلي، وبين مسرحية الشرقاوي السابقة «الأرانب الطيبة» المفككة، ضائعة الملامح، وهذه المسرحية الدقيقة، الكثيفة الرؤية، وبسيطة العرض واللغة. تنمو الحكاية نمواً دقيقاً، وتظهر الشخصية المحورية بطوط، متميزة بضخامتها الجسمية وقبحها، وقوتها، ويسبب هذا التميز حسدا عند الإخوة الآخرين، فيدبرون المؤامرات لطرده وابعاده. وإذ يعيش البط في سلام وعمل مثمر، فإن القطط تعيش على خطط العدوان وخرق المواثيق، ويصور الشرقاوي هنا الصراع بين المعتدين والمنتجين المسالمين. ويتشكل بطوط الشرقاوي عبر التميز الجسدي الهائل والانتصار في الألعاب والقوة. ويرفض الهروب بعيدا عن وطنه الذي نفاه، بل يقاتل القطط ويتشكل ويعود. ويتشكل بطوط. ولكن اللوحات العديدة التي اضافها الشرقاوي الى قصة هانز أندرسن كانت باتجاه قوته الجسدية الخارقة، وتشكيل علاقة غرام سريعة وناجحة وضحلة مع البطة الكحيلة. كذلك بدا انتصاره الفردي الساحق على القطط العدوانية سهلا وسريعا. ان «فرخ البط القبيح» لهانز اندرسون يتجه اتجاها آخر فبدلا من التسطيح السياسي يحوله إلى نموذج يلتقي بشخصيات عديدة، كلها تضطهده، وتصغر من وجوده، وهو المتميز عميق المشاعر مرهف الحس . ان فرخ اندرسن يتشكل عبر الغربة والألم والنفي. وهو شخصية نموذجية غنية، ذات تميز جسدي، ونفسي بالدرجة الأولى، فهو قبيح الشكل فقط، لا قوة سوبرمان كفرخ الشرقاوي، وقبحه الشكلي الخارجي يتنافر ويتضاد مع عاطفته المرهفة «الإنسانية»، وحبه للسفر والحرية والبحث والاغتناء الداخلي. كما انه نموذج للمضطهد المكافح الذي يأخذ مساراته الداخلية من نموذج البطل اليتيم الفقير المضطهد في الحكاية السحرية الشعبية. في حين ركز الشرقاوي على الحركة الخارجية: الالعاب، الطرد من الغابة، العراك مع القطط، صناعة الشباك المصيدة، والانتصار على العدو، حبكة الحب/ الزواج. وبالتالي فإنه اتجه الى الدلالات الظاهرة المباشرة للقصة الأصلية، ولم يعمقها عبر التركيز على نمو شخصية الفرخ القبيح وانتقالاته وضغوط النماذج الرديئة على شخصه. لكنه حافظ على دقة الكلمة، وتنمية الحبكة بصورة دقيقة وسريعة، وارتبطت معظم الشخصيات بالمحور الحدثي المتنامي.
إبراهيم بشمي من أكثر الكتاب البحرينيين انتاجاً لقصة الأطفال، فلديه أكثر من ثمانية إصدارات لقصص الأطفال، وكلها ذات لغة سهلة، مرحة، هادفة، ومنها «العصفور الأعرج»، «سراطين البحر الجبانة»، «الزهرة الزرقاء»، «فرخ البط الخواف»، «جزيرة الطيور»، «النبع المسحور»، «اللؤلؤة السوداء»، «طائر الكيكو». ويتجه القاص إبراهيم بشمي في كتاباته الموجهة للأطفال، إلى تشكيل حكاية ذات مغزى واضح، وعبر لغة مبسطة، ذات صور وظلال جميلة، وتتركز شخصياته على الحيوانات والطيور، مستهدفاً خلق عبرة. واغلب قصصه في هذا المنحى التعليمي، وتتجه قصصه ذات الطول الأكبر، إلى توسيع نمط الحكاية وتعميقها، وخلق بنية أكثر تطوراً، تذوب في جزئياتها الإرشادات التربوية والاجتماعية الواضحة المباشرة. في قصص مثل: سراطين البحر الجبانة، مهرجان الضفادع، فرخ البط الخواف، السلاحف الثرثارة، الاصدقاء، نجد الحكاية المصاغة بغرض التوجيه التعليمي، مستهدفة قضايا جزئية متعددة. في «مهرجان الضفادع»، نشاهد لوحة صغيرة عن مجموعة من الضفادع، تنهض في عتمة الليل، حيث جميع الكائنات نائمة، وتقوم بالنقيق واللعب. في البدء يظهر القمر المنير، متذمراً من الغيمة التي حجبته عن الظهور ومشاهدة العالم. وهذه اللقطة الافتتاحية وبطلها القمر سرعان ما تختفي، ليتم التركيز على الضفادع التي قفزت في بركة الماء وراحت تصيح وتغني. و ليس ثمة حدث خاص بهذه الضفادع سرى اللعب «البريء»، ولكن هذا اللعب والزعيق في منتصف الليل، يزعج الكائنات الأخرى، فها هي السلحفاة تخرج رأسها وتزعق طالبة الهدوء. لكن الضفادع لا تلقي اهتماما لتذمر الآخرين وانزعاجهم، وتواصل اللعب ورش الماء والضحك والقفز. فيتسع الانزعاج من شغبها الليلي، وتتذمر العصافير قائلة: ان لديها أعمالا في الصباح تريد قضاءها، وهي ليست مستعدة للأصغاء الى هذا الضجيج المزعج، كما يصرخ الديك الذي يطالب هو الآخر بالهدوء، لأنه على موعد قبيل طلوع الشمس. ولا يستطيع أن يسكت الضفادع النقاقة سوى حذاء قديم يندفع من يد فلاح ينهض غاضباً من فراشه. وتتضح بنية القصة التعليمية، من هذا الابتعاد الكلي عن شخوص الضفادع وذواتها وكون النقيق يعبر عن حالة «انسانية»، خاصة بها. ومن التركيز الشديد على الصراع بين الضفادع وبقية الكائنات، حيث تندفع الضفادع إلى اللهو بقوة. وفي كل مقطع، يظهر صوت، يؤكد على أهمية الليل للراحة والاستعداد للعمل. فالضفادع تظهر في مقطع، وتناقضها السلحفاة في مقطع تال، وتظهر بعدئذ العصافير وتصارع الضفادع. ومن ثم الديك، واخيراً الفلاح. وتتضح الغاية التوجيهية التعليمية من هذا التصاعد في المعترضين للضفادع، فكل منها يسعى لغاية هامة عملية في النهار، في حين لا تستهدف الضفادع في ضجيجها ليلاً سوى اللعب وليس الإنتاج. واذا كانت السلحفاة لم تقل سوى «ألا تنامي؟ اخفضي صوتك المنكر رجاء»، فان العصافير أوضحت الغاية أكثر بقولها: «إن لدينا أعمالا كثيرة في الصباح»، كذلك فعل الديك عندما قال: «أريد النوم قليلاً، حتى أصحو قبل طلوع الشمس». وتنعزل كافة الجوانب الأخرى من ذوات الضفادع وطبيعة عملها الليلي الخاص بها، والمرتبط بكينونة خاصة، وشخصيات الكائنات الأخرى ونفسياتها المتفردة، ليتركز السرد في تبيان طبيعة الليل وكونه خلق للنوم والاستعداد للعمل، في حين خلق النهار للعمل والإنتاج. وهذه وظيفة بشرية رتبها الناس في ظل ظروف انتاجية طبيعية خاصة، وتحولت هنا إلى توجيه، تجسد في كائنات، ليست لديها هذا الترتيب الخاص. لقد حدثت تناقضات بين المادة القصصية والمادة العلمية، لكن لصالح التوجيه التربوي. ولا تهم الكاتب المطابقة بين المادة القصصية والمادة العلمية، بقدر ما يهمه تسريب توجيهاته الوعظية داخل بنية القصة. ولكن داخل البنية القصصية تحققت السياقات الناجحة، عبر هذه الفرشة المتعددة للطبيعة والكائنات المختلفة وتنامي الصراع، عبر لغة سردية مرنة، اوصلت الوعي إلى الأهداف المطلوبة. ومثل هذه البنية تتكرر في قصص اخرى مثل «السلاحف الثرثارة»، حيث نجد الفقرة الأولى تحتوي على مضمون القصة كل: [كانت السلاحف في ذاك الزمان البعيد.. كبيرة الحجم.. مشهورة بالكسل والثرثرة.. والقيل والقال.. ورغم سخرية الحيوانات من ثرثرتها إلا أنها لم تترك هذه العادات السيئة]. في هذه الفقرة الافتتاحية نجد لتضاد واضحاً بين السلاحف وبقية الحيوانات، وهو على سياق التضاد التام بين الضفادع وبقية الكائنات في القصة السابقة. ونجد سبب الاختلاف بيناً واضحاً أيضاً، وهو يتركز في التباين بين السلاحف كحيوانات ثرثارة، وبقية الحيوانات غير الثرثارة. وتغدو بنية القصة التالية تطبيقاً لهذه الافتتاحية، فسرعان ما يأتي نبأ عاجل بقرب جفاف الوادي، واستعداد الحيوانات المتعددة الكثيرة للرحيل. ماعدا السلاحف التي تسخر من هذه النبوءة. ويأتي عالم الحيوانات الأخرى، المقدم كأمثولة ونموذج، متكاملا من حيث الاستعداد و استكشاف المكان التالي، وتجهيز المؤونة. في حين أن عالم السلاحف، والمقدم كمثل سيء يجب ان لا يحُتذى، ويبدو معادياً لعالم التخطيط والمعرفة ولاهيا في يومه واكله المتواجد الحاضر. ويبدأ السرد في التركيز على هذا الجانب، فينمو الصراع والاختلاف حول رؤية المستقبل، حين يجادل الهدهدُ السلاحف الصغيرة غير الواعية لما يدور – وهي نموذج للشباب في الأمة – فيقول الهدهد [ألم تعرفوا بعد ان الأمطار لن تسقط في هذا العام وسيعم الوادي الجفاف؟]. وحين لم يعرفوا وقد عاشوا على تربية الجهل من قبل السلاحف الكبيرة، ينتقل الهدهد إلى بؤرة القصة ومضمونها [يبدو أنه حقيقة ما يقال عن جماعة السلاحف بأنها كسولة وثرثارة.. ولا تتعب نفسها بالتفكير بالمستقبل والاستعداد له]. ان الثرثرة تتطابق هنا مع فقدان التخطيط وتضييع الغد، وتبدو السلاحف الكبيرة – العرب، نموذجاً للعادة السيئة هنا، كما كانت الضفادع نموذج العادة السيئة هناك. ولكن العادة السيئة في هذا النموذج أكثر غوراً وأشد خطورة ومرتبطة بكيان الأمة. ويتضح أكثر طابع المحور الحدثي – القصصي، حين يحدث انشقاق في عالم السلاحف نفسه، بين السلاحف الكبيرة السن، والسلاحف الصغيرة. الأجيال القديمة والأجيال الشابة. ولكن من أين أتى هذا التباين؟ [قالت إحدى السلاحف الثرثارة معلقة على رحيل السلاحف الصغيرة : انها تكرر عبارات جديدة وأفكاراً (؟) غريبة نتيجة اختلاطهم (؟) بالغرباء من الطيور]. وهكذا تغدو السلاحف الصغيرة رمز الأجيال الشابة المتوثبة لتبديل الماضي، وهي نفسها مقدمة امثولة للأطفال ونماذج للاحتذاء. وسرعان ما تتضح الأمثولة. والنهاية الحتمية للتخلف، السلاحف الكبيرة تدخل بياتها الشتوي، فلم تعد تعي ما يدور، فتشققت الأرض من الجفاف، والأعشاب اصفرت ويبست، وجف النبع.. وماتت الاسماك.. وحين انتبهت لم تجد شيئا غير الحرارة.. والزوال. هكذا تتجه القصة الأمثولة نحو المشكلات الأبعد، والأكثر عمقاً وجذرية. فلم تعد المشكلة صياحاً في الليل وازعاجاً، بل نماذج معتادة على تضييع الزمن وعدم التفكير في المستقبل. وتبدو هذه العادات السيئة نتاجاً لاختيارات وعادات سلوكية بالدرجة الاولى ومن الممكن تبديلها، عبر هذا التباين بين الجيل الهرم والجيل الفتي. ولا تتناقض هنا المادة القصصية والمادة العلمية. بل تبدو متسقة ومنسجمة. وتتوغل قصص الامثولة أكثر في المشكلة الاجتماعية المعروضة. فهي لا تصبح فقط عادة سيئة، بل فقداناً للقدرة على الصراع ضد الاعداء، و استكانة في مواجهة الأخطار الاجتماعية لا الطبيعية فحسب. فهذا ما يحدث لـ«السراطين الجبانة». فهذه السراطين كانت تعيش بسعادة ولهو في واديها الجميل في اعماق البحر. ولكن حين جاء الأخطبوط ذو الأذرع الكثيرة و«العيون» الجاحظة غدت مادة شهية له. ورغم قوة أجسادها وذراعها، إلا أنها كانت تستسلم بسهولة للعدو. ويتضح محتوى القصة – الامثولة في الحوار بين الحلزون والسراطين «إلى أين ترحلين ايتها السراطين الحمراء؟. فتجيب: نبحث عن وطن. يرد الحلزون ملخصا الحكاية: لماذا لا تدافعون عن انفسكم ووطنكم». لقد طرح الكاتب في البداية العادات الاجتماعية كجذور لتخلف كائناته، ولكن الخلفية السياسية الأبعد، راحت تطرح ذاتها على بُنى القصص، لتغدو معا بنية مجتمع الحيوانات المتخلف – التابع، شكل التجلي لواقع الامة. فتغدو السراطانات امتدادا للضفادع والسلاحف، أو مظاهر متعددة للأمة، الفاقدة للوعي الحضاري المعاصر وقدرة الدفاع عن ذاتها، حتى تعيش قرب الساحل حيث تكثر المجاري والأوساخ، فتبهت أشكالها وتتقزم أحجامها. في قصة «اللؤلؤة السوداء» المطولة، والصالحة للفتيان، نرى حكاية الامثولة التعليمية، بشكل أكثر اتساعا وتطورا، وببنية متعددة السياقات. في البدء نقرأ، ذات الافتتاحية القديمة «كان يا ما كان في قديم الزمان، أميرة جميلة تعيش في قصر والدها سلطان بغداد…»، وهو نفس الموتيف القديم، حيث ثمة خلل ما في قصر الخلافة، وفي مركز هذا القصر، حيث الأبنة المدللة مركز الكون القصصي. وفي ذات سياق الموتيف القديم، يسارع السلطان نحو ابنته المكتئبة، مستعداً لعمل أي للقضاء على حزنها. لكن الكآبة لم تكن لفقد كائن حبيب، أو نتيجة لمرض مزمن. بل لفقدان عقد من اللؤلؤ الأسود الثمين. وهنا يفارق القاص بشمي طابع القصة القديمة المؤثر والعميق، مدخلاً فقدان العقد اللؤلؤي، غير المهم. نظراً لأن أي فتى يدرك مبلغ الثروة الخيالية لسلطان بغداد حيث الامبراطورية ومركزها.. فلا يغدو العقد اللؤلؤي. موقداً لنار الحدث الحكائي المعاصر المنتظر. ويظهر الموتبف القصصي القديم الثاني، حين يعلن السلطان أن من يجلب العقد سوف يتزوج ابنته. وهنا وقعت بنية الحكاية في اشكالية. فقد كانت الحكاية القديمة منسجمة مع ذاتها، فدعوتها لمساعدة الأميرة والزواج منها، معاً، لا تظهر إلا للجلل الخطير من الأمور. كالمرض المزمن أو الكآبة المستعصية على الأطباء والحكماء. أما فقدان عقد ليس به تميمة ما، أو سر خطير، فليس سبباً معقولاً لان يعلن السلطان تزويج ابنته لمن يعثر عليه. فلا شك أن ابنته اغلى من العقد. ومهما كان الجدل التبريري الذي جرى بين السلطان ووزيره، حول شكل الدعوة ومصداقيتها، فإن كل المبررات التي طرحها الوزير، غير معقولة. وقد ظهر هذا الارتباك في السياق القصصي نظراً لان الكاتب لم يستفد من البنية القصصية القديمة العميقة الكبيرة. فالحكاية القديمة كانت تضع الإنسان في بؤرتها القصصية، وليس العثور على اللؤلؤ والذهب مهما كان ثميناً. فشفاء الأميرة وانقاذها هو ما كان يحرك ويلهب السرد والأحداث. لكن القاص اراد ان يكسر طريقة الحبكة القديمة، وأن يطرح الخطاب الأيديولوجي المعاصر في موادها الممزقة، فيُظهر ان الاغنياء أنانيون وسيئون، وأن الفقراء وحدهم هم من يقومون بالأعمال الباهرة الشجاعة، وهذا هو نموذجهم الكلي القدرة، «عناد»، القادم من مدينة صغيرة في الخليج، الذي يتطوع، لا لكي يسلي الأميرة. بل لينقذ أصحابه الفقراء الغواصين. وحين يجلب اللؤلؤة السوداء يرفض الزواج من ابنة السلطان بل وحتى استلام المكافاة المالية!. [هذه بطبيعة الحال من أعمال إبراهيم بشمي القديمة، في أواخر السبعينات] لكن رغم المآخذ التكوينية، على هذه القصة، إلا أن الكاتب يتناول هنا مادة تاريخية تراثية، برؤية مختلفة، وعبر شخصيات بشرية، متعددة، وفي مساحة جغرافية متلونة متباينة، بانيا حكاية متنامية مشوقة.
1 تمهيد يعبر ابن رشد عن تطور خاص للفلسفة العربية الإسلامية ، فقد عرف المغرب والأندلس تطوراً اجتماعياً مختلفاً في أشكاله ومظاهره عن المشرق ، فالرعاة ، أو المستوى الرعوي كان من نصيب شمال أفريقيا بصورة خاصة ، في حين كانت الأندلس منتجة المدن التي تنمو فيها الحضارة التي لم تكن تخلو منها بعض المدن النادرة في شمال أفريقيا كالقيروان وفاس ومراكش ، إلا أن الرعاة فرضوا مستواهم الحضاري عبر الهجمات المستمرة للبربر ، وكان هذا المستوى مترافقاً وموازياً لصعود دور الرعاة الأتراك وغيرهم في المشرق ، ولهذا كانت النصوصية المسيطرة على الاجتهاد العقلي تتقدم بقوة في شمال أفريقيا والأندلس والمشرق معاً ، ( راجع الفقرة الخاصة بتطور البربر في الفصل الأول ) . لقد أعطت الحياة الزراعية والتجارية للأندلس إمكانية خاصة لتطور مختلف ، فكانت أجهزة الدولة المركزية لا تجد ذات التاريخ الشمولي المتجذر كما كان الأمر في المشرق ، فقد عرفت المناطق المختلفة في الأندلس حكومات مستقلة وقوى إقطاع لا مركزية ، ومع التطور في المدن كانت الفئات الوسطى تنمو باتساع في مختلف هذه المدن ، مما كان يؤدي في المساحة المحدودة للأندلس إلى تفاعلات ثقافية خصبة وقوية وعبر الجدل المتأخر نسبياً مع الثقافة العربية المركزية . إن هذه الظروف قد أدت إلى تطور أندلسي متقدم على شمال أفريقيا ، حيث القوى الرعوية الواسعة ، والمساحات الجغرافية الشاسعة ، التي لم تكن تقدم إمكانية لتطور مدني قوي . لكن التطورات السياسية والاجتماعية كانت تدفع القوى الرعوية القبائلية إلى السيطرة على المدن ومنع نموها الحر ، وبالتالي الإندياح على الأندلس وإعادته إلى المستوى الاجتماعي الرعوي بصورة مستمرة ، وبرز ذلك بصورة خاصة في أزمنة المرابطين ثم الموحدين . لقد قامت القوى الرعوية باستعادة أساليب المشرق في الوصول إلى السلطة ، عبر استغلال المذاهب الدينية البدوية ، وتفصيلها على أجسام القبائل والقادة المتطلعة إلى الوثوب على السلطة . لقد كان المذهبان الخارجي والمالكي نتاج الجزيرة العربية ، وعبّر المذهب المالكي عن المدن المهيمن عليها من قبل الرعاة ومستواهم الاجتماعي الثقافي ، والتي تنمو فيها فئات وسطى أقل تزمتاً وأكثر انفتاحاً . فكانت المالكية تتطور في مدن الأندلس خاصةً ، وتزدهر العملية الثقافية بشكل مستمر وتطرد بقوة مع وجود حكام مستنيرين ، استثنائيين ، وتتدهور مع تفاقم الحروب والنزاعات الداخلية القوية المتنامية في الأندلس بسبب تركيبه الإقطاعي اللامركزي العريق ، وهو الأمر الذي يقود إلى حكومات كثيرة متنازعة ، تعيش على حساب تقليص الفئات الوسطى ، فكانت القبائل العسكرية تعيد المجتمع إلى الأمن وإلى المحافظة الاجتماعية الفكرية المتزايدة ، مع كل طبعة من طبعاتها . إن المالكية كانت تكرس الجانبين ؛ الارتباط بالموروث الصحراوي ، فتعيد إنتاج القبائلية في المدن وتمنع برجزتها بشكل مستمر ، وهذا الجانب يكرس سلطةً نصوصية متشددة ، تقوم القبائل وقادتها كمحمد بن تومرت بأدلجته وتحويله إلى قالب سياسي ديني مطلق . أما الجانب الآخر الاجتهادي القياسي فهو يتوسع مع الاستقرار ونمو الفئات الوسطى ، والذي يتحول أحياناً إلى ثورات شعبية كذلك كما حدث في الأندلس مراراً . وهذا الجانب يبرز في الحركة الفقهية المستنيرة وحركة الثقافة والفنون . إن الصراع [القومي] الذي يتمظهر هنا كذلك بين العرب والبربر ، يتشكل في بيئة بدوية غالبة ، فالعرب الذين جاءوا هم أنفسهم من جذور رعوية وهم قبائليون ، فلا يسمح المستوى الثقافي الاجتماعي إلى العودة للتقاليد الزراعية الأسطورية كما في المشرق ، وأن كان على شكل ومضات خاطفة ، لا تتجذر في الأرض . إن [القومية] المسيطر عليها سياسياً في البداية وهي البربر ، ليس لدى مثقفيها إمكانية سوى استخدام النصوصية المذهبية ، الذي يحدث بتنويعات مختلفة تكرس طموحات القادة والقبائل . ولهذا يغدو التطور المتاح لممثلي الفئات الوسطى المتحررة هو استخدام النصوصية باتجاه الانفتاح والحرية في ظل هذا المناخ الثقافي الجامد . ومن هنا كانت الفلسفة محدودة في ظل هذا المناخ الثقافي والاجتماعي المحاصر في الأندلس كذلك بجغرافيا الجزيرة وصراعها مع المسيحيين التثليثيين ، وهكذا فإن الاستفادة من الثقافة الأسطورية والمسيحية التعددية وغيرها كما حدث في المشرق كان محاصراً من جهة غالبية السكان والعدو الشمالي المتربص . ومن هنا نشأت الفلسفة في القصور الملكية وبين القضاة والموظفين التابعين لها حيث الوعي السني المتشدد غالباً والمنفتح في بعض الأزمنة . وكان أكبر مشروع فلسفي أندلسي بل وعربي قد قام في ظلال هذا المناخ على يد تعاون مشترك بين الخليفة أبي يعقوب يوسف عبدالمؤمن وابن رشد وابن طفيل. وهكذا فإن مشروع ابن رشد الفلسفي تشكل بحضانة ملكية مستنيرة ، وعبر فقه مالكي اجتهادي ، وفي فضاء أرسطو أهم العقول الفلسفية في العصر القديم والوسيط . لا شك أن تشكيل هذا المشروع لم يعتمد على هذه المواد الخام ، بل على جهود ابن رشد في توظيف كافة هذه العناصر ، عبر التركيز على أغنى ما فيها مضمونياً ، أي شد كافة الخيوط على منوال الحرية والعلم الموضوعي لإنتاج نسيج مختلف عن كافة هذه العناصر المبعثرة في الفضاء العربي الإسلامي . إن كل عنصر ، كالمالكية والأرسطية والتحررية الاجتماعية الأندلسية ، له تاريخه الغني الخاص ، وعملية التركيب بين هذه العناصر التي تعود لأزمنة مختلفة وهياكل اجتماعية متعددة ولحظات صراع متفاوتة ، تعتمد على ذلك النول الذي غزل به ابن رشد هذه العناصر وشكل منها فلسفته المتميزة في العصر الوسيط والحديث ، والتي غدت قمة العقلانية الدينية في العصر الوسيط .
2 الوجود بلا فيض انحاز ابن رشد لتصور كوني يخلو من الفيض ومن العقول والأجرام العشرة ، ويقسم ابن رشد قوى الوجود إلى ثلاث ، هما في الواقع قوتان: [فأما الطرف الواحد ، فهو موجود وجُد من شيء ، اعني عن سبب فاعل ومن مادة ، والزمان متقدم عليه ، أعنى على وجوده . وهذه هي حال الأجسام التي يـُدرك تكونها بالحس ، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك . وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة . ] ، ( 1 ) . ونلاحظ إن حركة سيرورة المادة لا المادة نفسها هي موجودة عن سبب فاعل وبطبيعة الحال من مادة ، أي هي تجليات المادة الخام وتحولها إلى ظاهرات مادية ، ويتصور ابن رشد إن [ جميع ] الفلاسفة والأشعريين اتفقوا على كون هذه التمظهرات للمادة هي محدثة ومخلوقة . إن مسألة العدم هنا تؤخذ بشكل لا ينفي الوجود : [العدم : هنا بمعنى ((عدم الوجود)) إذ أن الفلاسفة المشائين يقولون : يستحيل صدور شيء من لا شيء . وكان أرسطو قد اعتبر المادة الأولى ( الهيولى ) قديمة وعليها تتعاقب الصور ، والمعتزلة أيضاً متأثرون بهذا الرأي الأرسطوطالي . فالمقصود هنا : مرور من اللاوجود إلى الوجود ، أي من القوة إلى الفعل ( ومن كائن بالقوة إلى كائن بالفعل ) ] ، ( 2 ) . ويواصل ابن رشد : [وأما الطرف المقابل لهذا ، فهو موجود لم يكن من شيء ، ولا عن شيء ، ولا تقدمه زمان . وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته ( قديماً ) وهذا الموجود مدرك بالبرهان ، وهو الله تبارك وتعالى . هو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره ] ، ( 3 ) . إن صورة الله تتحول هنا في هذا النمط من الوعي الديني إلى كونها أزلية ومدركة بعقل ديني مسبق ، وهي موجودة من لا شيء ولا عن شيء ، وفي ذات الوقت هي صانعة للوجود لتلك المادة السيالة المتحولة . أما القسم الثالث فهو : [وأما الصنف من الموجود الذي بين الطرفين ، فهو موجود لم يكن من شيء ، ولا تقدمه زمان ، ولكنه موجود عن شيء ، أعني عن فاعل ، وهذا هو العالم بأسره ] ، ( 4 ) . أي أن المادة الخام للوجود فهي موجودة من لا شيء ولم يتقدمها زمن ، فهي مطلقة أبدية ، ولكنها مُوجَّدة عن [ شيء ] ، عن فاعل . وهنا تبدو العبارة متناقضة ، فكلمة شيء ، وهي تشير إلى مادة ، وكلمة فاعل وهي تشير إلى إله متدخل . إن كلمة شيء تشير إلى سيرورة الأشياء ونموها الذاتي ، في حين إن كلمة فاعل تشير إلى قيام الوعي الديني بإيجاد محرك أولي أو غير أولي حسب هذه العبارة ، لهذه الأشياء المتحركة المتشكلة وجودياً . والفقرات الثلاث تشير ككل ، إلى أن الوجود به قوتان أساسيتان هما صورة الله حسب هذا الوعي الديني ، والعالم . أي أن الوعي الديني يقوم بإسقاط علائقه على الوجود المادي ، فتظهر صورة السلطة المتشكلة في المجتمع الإسلامي والديني المشرقي عموماً ، بصورة إله متحكم في سيرورة المادة . لأن العالم والطبيعة والتاريخ لا تظهر لهذا الوعي بدون دينيته ، بدون رؤيته لخالق يمثل السلطة ، المهيمنة على حركة الأشياء . فهنا يظهر إله مهيمن هو مظهر لوجود سلطة مركزية تمثل سيرورة الأمة أو الأمم الإسلامية ، وكذلك حركة الطبيعة المستقلة الموضوعية . وهنا يقوم ابن رشد من خلال هذا الوعي بإيجاد مخارج لعلاقة موضوعية معينة ، تحفظ للعالم مادته الخام غير المخلوقة للإله حسب الوعي المادي الفيزيقي ، وتحفظ لبنية المجتمع الدينية تصوره في كون الإله خالق كل شيء ، أي في كون السلطة السياسية الدينية مهيمنة على الوجود الاجتماعي للمجتمع المسلم ، على الفضاء الوجودي للمجتمع الديني . وإعطاء صورة الله والعالم مكانتيهما المستقلتين في الكينونة الخام المحضة ، المتداخلتين في السيرورة الطبيعية والاجتماعية ، تتشكل في خطاب موجه إلى مجتمع مسلم سني أساساً ، أي أن الخطاب يتضمن حواراً مباشراً مع هذا المجتمع السني المحافظ ، ويتمظهر ذلك في ورود تعبير [ الأشعرية ] وفي المناقشة معها ، واعتبارها طرفاً مع [ الفلاسفة ] . ونلاحظ هنا كيف أن الأشعرية غدت قوة فكرية كبيرة بخلاف المعتزلة ، حيث تماشت الأشعرية مع الاستبداد الرعوي السياسي والاجتماعي المتصاعد . وبهذا فإن مسألة العقول العشرة والتعددية الإلهية التي ظهرت في المشرق في سياق الصراع والتداخل مع الوثنية والمسيحية ، لم تعد مهمة في خطاب موجه لعالم متوحد محافظ مذهبياً . إن الوجود الإلهي الواحد المهيمن على الطبيعة والعالم ، كمظهر لسلطة سنية تصنع سلطة مركزية متشددة ، يقوم ابن رشد بتقدير وجودها ، المستقل الخاص المهيمن ، باعتبارها أساس التكون لبنية إسلامية موحدة ترفض الانقسام على المستوى الجغرافي السياسي ، وعلى مستوى التعددية المذهبية السياسية الحاكمة . فهي تبلور الوجود [السياسي] بتوحيديتها الصارمة ، لكن ابن رشد يشكل من هذه الهيمنة مساراً تحررياً معيناً للعقل ، عبر جعل المادة ذات وجود مطلق مستقل ، أي أن بنية المجتمع المهيمن عليها سياسياً بشكل سلطة واحدة ، تغدو مستقلة عن التحكم المباشر لتلك الصورة الإلهية المتدخلة في كل شيء . أي إن للطبيعة والمجتمع قوانين مستقلة ، باعتبار أن المادة الخام غير مخلوقة ، مثلما أن السكان رغم طاعتهم العامة للملك لكنهم أحرار ، كما يفترض ، في صياغة مجتمعهم ، أي أنهم مثلما هم عبيد لله هم كذلك أحرار في صياغة كونهم الاجتماعي . وفي المجتمع يعتمد ذلك على تطور المادة الخام الاجتماعية ؛ طبيعة تطور القوى الاجتماعية المعارضة للاستبداد . ولهذا فإن ابن رشد يقوم بعزل الوعي الديني المتطرف ، الوعي الفقهي غير الاجتهادي ، التابع كلياً للسلطة ، والتي يصور تبعيتها لها من خلال وعيه الفقهي النصوصي غير الاجتهادي ، وبالتالي فإن الفقيه الأرسطي وهو ابن رشد ، وهو يقوم في الفقه بالبحث عن حرية ومسئولية الفرد المسلم وتحري سببيات ذلك قضائياً ، وتشكيل اجتهاد في فضاء الخضوع العام لسلطة النص المعقلن ، فإنه كذلك يعطي صورة الله الدينية الشائعة تفسيراً موضوعياً مثالياً ، عبر الخضوع لهيمنتها الكلية العامة المجردة ، لكنه يعطي الخاص : الطبيعة والمجتمع سيرورتيهما المتعينتين ، وإمكانيات نشوء العلوم المتعددة في فضاء السببية . وبهذا فإن الفئات الوسطى تجد الحرية على الجهتين ، جهة حرية الحياة الشخصية ، وجهة حرية الصناعات والعلوم . وإذا كانت هذه القضايا الكبرى المحورية هي التي تعتبر الفيصل المنهجي في خلق التيار العقلي الديني ، فإن الاستعانة بسلطة النص الديني الأول وهو القرآن ، تكون ضرورية لتجذير هذه الرؤية في سلطة التراث ، وأخذها الشرعية منه . وإذا كان رأي ابن رشد ذاك ينطبق على الوجود فإنه ينطبق على ملحقاته كالزمان والمكان والحركة الخ .. [ والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم . فان المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه ، أو يلزمهم ذلك ، إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام . وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناهٍ ، و كذلك الوجود المستقبل . ] ، ( 5 ) . إن سيرورة الزمن اللانهائية مقطوعة لدى المتكلمين بسبب أن رؤيتهم للخلق الإلهي المشكل للوجود في لحظة زمنية محددة ، أي أن النصوصية الدينية تفرض سلطتها هنا على رؤيتها للوجود والزمن واعتبارهما متكونين في لحظة الخلق الإلهي الابتدائية ، ولكن لكون هذه النصوصية الدينية القديمة هي كذلك تعترف بوجود جسم ومادة قديمة ، فهذا حسب رأي ابن رشد يفترض وجود زمن لا متناهٍ . ومن هنا يستشهد ابن رشد بآيات قرآنية تدلل حتى في رؤيتها للخلق الإلهي بوجود مادة أولية وبالتالي زمن أولي ، يقول : [وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع . فإن ظاهر الشرع إذا تــُصُـفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة ، وان نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين ، أعني غير منقطع . وذلك أن قوله تعالى : (( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء )) يقتضي بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود وهو العرش والماء ، وزماناً قبل هذا الزمان ، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك ] ، ( 6 ) . يتكون هذا الوعي الاستدلالي من الجمع بين الأرسطية والمذهب المالكي ، ففلسفة أرسطو تأخذ العالم بلا تاريخ ، بلا سيرورة ، فهي فلسفة الوجود المادي المحض بلا جذور التناقضات الداخلية ، فالوجود معطى جاهز يستند على مقولات منطقية / أيديولوجية ؛ الهيولى / الصورة ، الوجود بالفعل ، الوجود بالقوة ، وهذه المقولات لا تأخذ السيرورة الطبيعية الشاملة ، مثلما لا تأخذ السيرورة الاجتماعية ، بحسب المواد المعرفية المتوفرة في العصر القديم . والمذهب المالكي يأخذ الوجود الإسلامي كمعطى جاهز وناجز ، فابن رشد حين يأخذ الآية القرآنية ((فاعتبروا يا أولي الأبصار )) ، ( 7 ) ، لا يأخذها في سياقها التاريخي ، باعتبارها آية تتحدث عن الصراع مع اليهود ، فالاعتبار والأبصار هنا هو دعوة محددة للعرب بالسيطرة على جزيرتهم عبر الدولة الإسلامية . فهي تتحدث عن الإله الذي أخرج ( الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ) الخ.. ، وبالتالي فإنها تدعو إلى أبصار خاص ، إلى تفعيل إرادة سياسية مستقلة ، أي لها شروطها الاجتماعية والنضالية الخاصة. ومن الممكن أن يعود ابن رشد إلى السياق الحدثي للآيات وللدعوة الإسلامية ككل ، ولكنه لا يضع البنية الإسلامية في سيرورتها التاريخية ، فهو يحيلها إلى مبادئ ونصوصية فوق التكون التاريخي والمعطى الاجتماعي . وحين يحيلها إلى مبادئ مجردة يعتبرها عملاً عقلانياً ، فعندما يتحدث عن آيات قرآنية معينة يقرأ دعوتها للعقل وللأبصار بشكل عام ، وبالتالي فهو لا يأخذ تاريخيتها الخاصة ، فهي جزء لديه من عقل كوني مسبق ، وليست جزءً من صراع فكري معين بين الدعوة الدينية في مشروعها السياسي لتشكيل دولة نهضوية متجاوزة لتخلف العرب ، في ظروف بدوية قاسية ، بل هي تتشكل من مبادئ عقلية مجردة ، ففي رأيه أن الشرع : [قد حث على معرفة الله تعالى (وسائر) موجوداته بالبرهان ، وكان من الأفضل – أو الأمر الضروري – لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى ، وسائر الموجودات بالبرهان ، أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البرهان وشروطها ، وبما يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي ، والقياس الخطابي ، والقياس المغالطي . ] ، ( 8 ) . إن الوعي اللاتاريخي للمذهب المالكي والمنطق الأرسطي ، يتحدد فقهياً مذهبياً لدى ابن رشد بغياب تضاريس الإسلام الاجتماعية وسيرورته التاريخية المنبثقة عنها ، فهو يغدو مبادئ فقهية مؤطرة بمنهجية معينة ، ويتحدد منطقياً في أدوات المعرفة الأرسطية ذات التراتبية الخاصة من البرهان نزولاً إلى الجدل والخطابة ، حسب مستوى القراءة في هذا الكتاب ، لأن ابن رشد في تعليقاته على كتاب ( الجمهورية ) لأفلاطون سوف يتجاوز هذا المستوى من القراءة . ولهذا يغدو الوعي اللاتاريخي هنا في تحويل النظر الإسلامي الصحيح في المنطق الأرسطي الصحيح ، ويصير معيار الحقيقة هو هذا المنطق المجرد . ولهذا فإن المبادئ العقلية الصحيحة في نظره كان يمكن أن تنشأ من الإسلام الأول ، وليست هي مُعطى تاريخي يتشكلُ وينمو عبر تراكم الممارسة النظرية / الاجتماعية ، ومن هنا يغدو تشكلُ الإسلام والتشكلُ الخاطئ للفرق والمدارس الفلسفية نتاجَ سوء نظر كان يمكن التخلص منه منذ البداية : [نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضاً وبدع بعضهم بعضاً ، وبخاصة الفاسدة منها . فأولت المعتزلة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة ، وصرحوا بتأويلهم للجمهور ، وكذلك فعلت الأشعرية ، وان كانت أقل تأويلاً فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب ، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق . ] ، ( 9 ). إن وجود المبادئ العقلية كمعطى مسبق ، جاهز ، في النص القرآني ، وفي فلسفة أرسطو معاً ، يظهرُ في وعي ابن رشد كميزان قادر على حل كافة الخلافات الفكرية ، التي تغدو ممكنة الحل عبر العودة إلى المقياس الذهبي البرهاني ، وذلك لا يتحقق في وعيه إلا عبر عدم إشراك العامة في منازعات القوى العقلية للأمة . فهذه الاختلافات هي اختلافات منهجية محضة وثقافية عليا ، متى ما حُـلت عبر المنطق انتفت الخلافات في الأمة وانتفت المنازعات والحروب ، وهكذا يضع التاريخ الفكري كتاريخ فكري خالص ، والأمة كتكوين فقهي فكري مجرد ، أساسه الطبقة المهيمنة بجناحيها السياسي / الديني ، فإذا قامت هذه الطبقة بحل إشكالياتها بذلك المنطق وعبر عدم إدخال العامة في منازعاتها تم المحافظة على الوجود الإسلامي المتآلف المنسجم . هكذا فإن الفقه المالكي والمنهج الأرسطي يندمجان في ضفيرة واحدة تقوم بتجريد البنية من أساسها الاجتماعي ، المتضاد ، ذي السيرورة التاريخية المعقدة ، وتغدو تكويناً عقلياً مسبقاً متجسداً في القرآن والمنطق الأرسطي ، فتتم منطقة القرآن حسب مقولات أرسطو ، أي أن المناطق المتعددة التكوين فيه ، تتماهى والبرهان ، ويحاول أبن رشد أن يجد حلولاً للمشكلات الفكرية والمستويات المعرفية المتعددة فيه عبر التأويل ، ليكون برهاناً عقلياً آخر . ولأنه لا يأخذ الإسلام كثورة نهضوية تمت في شروط بدوية متخلفة ، وكعمليات سياسية واجتماعية مركبة ، فهو يقوم بتأويل جوانبها الإيمانية المرتبطة بالسياق الفكري المشرقي السياسي الاستبدادي . فالبعث لديه يتحول إلى بعث للعقل الفعال ، أي بعثاً للنفس الكلية ، وبدون صورة الجسد الأولى ، وبصورة جسدية جديدة لأن الصورة الأولى بليت وتم تجديدها ! أي أن سياق الإسلام الفكري وارتباطه بالوعي الديني السابق وجذوره في المنطقة وتضاريسها ، يـُـلغى لصالح البناء الفقهي اللاتاريخي والأداة المنطقية المجردة .
3 الدين والفلسفة تتويجاً لهذا المحو للجذور الاجتماعية لكلا الظاهرتين : الفلسفة والدين ، عبر أداة منطقية واحدة تتداخل في كلا التكوينين ، يمكن أن يصبح الدين والفلسفة متآخيين ، فيصبح الدين برهانياً مثالياً ، وتغدو الفلسفة دينية عقلية . ولهذا يقول تعبيره المعروف : [إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة] . تغدو الفلسفة والدين من أرومة عائلية واحدة ، ويقود التعبير الجنسي السلالي إلى تصور تماثلي ، بدلاً من أن يضع ابن رشد الشكلين من الوعي في نوعيهما المتميزين وتاريخيهما المختلفين ، لأنه حولهما إلى شكل منطقي واحد مجرد خارج السيرورة التاريخية والدلالة الاجتماعية . فالدين الذي هو استخدام للصور التاريخية والواقعية والأسطورية والمعبر عن لحظة تطور طفولية للوعي في زمن القبلية غير المفككة سياسياً واجتماعياً ، لا يغدو لديه شكلاً للوعي يخفي التناقضات الاجتماعية ، فيؤسس دولةً يذوب الكل الاجتماعي المتناقض في كيانها ، ومع احتدام التضادات الاجتماعية يصبح هذا الشكل الموحد من الوعي بكل تمثلاته الغيبية واليومية والأسطورية ، مادةً للصراع بين المتصارعين الاجتماعيين .. ولكون هذا الكل الاجتماعي يعبر من مرحلة الدولة / القبيلة ، أي من مرحلة الوعي الشفاهي الأسطوري، إلى مرحلة الدولة المدينة الإمبراطورية ، وإلى مرحلة الأشكال العليا من الوعي حيث تغدو الفلسفة تتويجاً لهذا التطور الاجتماعي الثقافي الواسع ، فإنه يحتاج إلى عملية تفكيك بين الدين والدولة ، وبين ذلك الشكل من الوعي الغيبي الأسطوري ، وأشكال التفكير العليا التي في ذروتها تقع الفلسفة ، حين تصل إلى رؤية مسار التناقضات الاجتماعية / الفكرية ، وتقوم بتفكيكها وحلها . أي أنه على صعيد الممارسة الفكرية / السياسية ، فإن الوعي بحاجة إلى اختراق محتوى التطور ذي الشكل الديني ورؤية مضامينه الاجتماعية ، باعتباره ثورة اجتماعية تمت بأدوات فكر غيبي ، وتداخلت مع بــُنى اجتماعية قبلية بدوية . أي رؤية الثورة الإسلامية التأسيسية وقوانينها ، كثورة للتجار المتوسطين المتحالفين مع العاملين في برنامج نهضوي تاريخي ، يعبر القرآن عن فكره ووقائعه وسجله وكفاحه وتشريعه . ولكن هنا عبر اعتبار الحكمة أخت الشريعة ، فإن الطبقات الدلالية الغائرة تنتفي ، وتصبح الحكمة والشريعة ذهنيتين مجردتين ، مبعدتين عن جذورهما النضالية ، مُهيمناً على محتواهما في سيرورة سيطرة الطبقات الحاكمة عليهما كمنتوجين ثقافيين يخدمان أغراضهما في شكل اجتماعي ضيق . فعملية إعادة النظر في الموروث الأسطوري وفصله عن المضمون الكفاحي ، والرؤية الاجتماعية التاريخية للفلسفة والدين ، كلها تنتفي عبر تحول الفلسفة الرشدية إلى منهج برهاني مجرد . تصبح الفلسفة متدينة ارتدت عباءة الأساطير ، ويصبح الدين أداة سيطرة للطبقة الإقطاعية على المدينة التي لا تتحدث . أي أن السلطات الغيبية من إله وملائكة وجنة ونار ، التي تعبر عن سلطة كلية أخلاقية ميتافيزيقية ، يعبر تنوعها عن مشاريع سياسية متعددة على الأرض المشرقية ، لا يستطيع المنهج البرهاني المنطقي المجرد من أدوات التحليل التاريخية والاجتماعية أن يتغلغل إلى أغلفتها الكثيفة . فيحاول أن يعقلن بعض منتوجاتها ، نظراً لأن الفلسفة صارت دينية ، أي صارت جزءً من هذا الوعي الديني ، وصارت نتاجاً لتبعية فئات وسطى للإقطاع السياسي الحاكم ، وليس للإقطاع المذهبي الحاكم في المستوى الفكري والاجتماعي . ولكن لكي تغدو الفلسفة البرهانية الدينية هي المنتوج الثقافي السائد فإنها لا تستطيع أن تقوم بذلك عبر أدواتها ، عبر تبعيتها للإقطاع السياسي ، فلا بد أن تفكك هذه التبعية ، ولا يحدث ذلك إلا في شروط تاريخية ومعرفية مختلفة ، أي أن تكون فلسفة لا دينية ، بمعنى أن تكون قادرة على التغلغل الاجتماعي والتاريخي في دلالات الثورة المحمدية ، وتغدو كفاحاً للفئات الوسطى في ظروف عصرها الجديدة . وهي حتى في مستواها ذاك الفكري المجرد وغير الداخل في كشف المضامين المتوارية للنص الديني ، وبدون العلاقة مع الجمهور الفاعل ، أساس الحراك الاجتماعي ، لا بد أن تصطدم مع الإقطاع في مستواه الفقهي الديني ، وهو الحارس على إنتاج النص في ظل شروط التبعية المطلقة للإقطاع .
4 النفس والعقل رغم أن ابن رشد هو الشارح الأكبر لأرسطو إلا أن ثمة تباينات مهمة بين الرجلين ، [ولم يكتف ابن رشد بشرح أرسطو ، بل كانت له جهوده في التوفيق بين فلسفة أرسطو وعقائد الإسلام مما جعله يختلف عن الأول في كثير من الأمور . ] ، ( 10 ) . إن بداية التباين تكمن في قول أرسطو عن النفس : [صورة لجسم طبيعي آلي] أو [استكمال أول لجسم طبيعي آلي] ، (11) . إن أرسطو بهذا التعريف يقيم ترابطاً عضوياً بين الجسم والنفس ، رغم أن تعبير [صورة ] يتيح دلالة مفتوحة ، تعطي إمكانية لعلاقة خارجية بها ، حيث أن تعبير صورة أقرب للشكل ، التي تأتي إليها المؤثرات الفاعلة من الخارج ، وبهذا تغدو النفس كوة أو مدخلاً لتأثيرات اجتماعية و تأثيرات ميتافيزيقية عليا . لكن ابن رشد يقدم تعريفاً مختلفاً ، حيث يتصور بأن [النفس جوهرٌ روحيٌ قائم بذاته لا ينقسم بانقسام الجسم ، أو أنها ذات روحية مستقلة تستخدم الجسم كآلةٍ لها ] ، ( 12 ) . بهذا التعريف أنفصل ابن رشد عن تصور أرسطو المادي ، وتوجه إلى المثالية في مسألة النفس ، حيث غدت النفس جوهراً مستقلاً ، يغدو الجسم مجرد آلة لها ، وليس كياناً ملتحماً بها . إن أرسطو وابن رشد يشتركان رغم ذلك في كون الصورة والذات الجوهرية مفتوحة للتأثير الخارجي المهيمن ، فحين أن الصورة هي شكل قابل للتطورات المتدفقة سواء من الحياة أو من العقل الفعال ، فإن الذات الجوهرية الروحية عند ابن رشد هي تفاعل دائم مع العقل الفعال الذي هو الروح الإنسانية الجماعية . لقد وجد ابن رشد [نظرية أرسطو مخالفة من بعض الوجوه لعقائد الإسلام فأراد أن القيام بمحاولة للتوفيق بين المشائية والعقيدة اختلف بها عن أرسطو ، لكنه أدعى من جهة أخرى أن محاولته تلك تقدم شرحاً مقبولاً لأرسطو ] ، ( 13 ) . إنه في الوقت الذي تعطي فكرة أرسطو ارتباطاً كبيراً بالواقع الخارجي المعاش للفرد ، فإن ابن رشد يربط النفس أكثر بالعالم الروحي الثقافي العام ، وبهذا فإن أرسطو رافضاً فكرة البعث الجسدي والنفسي يجعل النفس تتصل بقوى روحية مفارقة كذلك . وهذا الأمر الأخير هو الذي يشاركه فيه ابن رشد . ولهذا فإن النفس أو العقل النظري منفصلين عن الجسد ، وبإمكانهما أن يبعثا في عالم آخر ، لكن الصورة ، أو الجسد ، لا يمكن أن تــُبعث لديه لأنها تكون قد بليت ، فتظهر صورةٌ أخرى مماثلة . وبهذا فإن ابن رشد يقوم بأسلمة فكرة أرسطو عن النفس ، دون أن يتخلى عن كونها مرتبطة بالواقع الخارجي الروحي خاصة ، وبهذا فإن الوعي يكون قد ارتبط بقوى من خارج البنية الاجتماعية التي يتم إنتاجه فيها ، وسنعود لمتابعة نتائج ذلك في فقرات أخرى تالية . وقسم ابن الرشد النفس إلى خمس قوى هي : النفس النباتية ، والحساسة ، والمتخيلة ، والناطقة ، والنزوعية ، وهي كلها تقوم بعمليات طبيعية وفكرية جزئية عبر ردود فعل متباينة مع الطبيعة والواقع . ويأخذ ابن رشد بالتقسيم الثلاثي للعقل ، فهناك العقل الهيولاني ، والعقل بالملكة والعقل الفعال ، والهيولاني هو عقل بالقوة ذي استعداد للتلقي ، أما العقل بالملكة فهو العقل في حالة الفعل ، أما العقل الفعال فهو القوة التي تخرج الأفكار الذاتية الداخلية : [ويصفه ابن رشد بأنه غير هيولاني وليس متصلاً بالبدن إلا بالعرض ، وأنه مفارق ، ويدعم رأيه في المفارقة بقول أرسطو ( إن وجد للنفس أو لجزءٍ منها فعل يخصها أمكن أن تفارق ، وأنه أشرف من العقل الهيولاني ، وأنه موجود بالفعل دائماً وأنه صورة .] ، ( 14 ) . إن كل القوى النفسية والعقلية المادية وشبه المادية لا تلعب دور إنتاج الوعي لوحدها ، حيث تقوم بذلك عبر التعاون مع العقل الفعال ، فهو لدى ابن رشد قوة محرضة على نمو الأفكار الداخلية ، فهي تتشكل بين الوعي المتولد الداخلي والبناء الثقافي المسبق الذي يمثله العقل الفعال ، الذي يلعب دور المحرض ولكن الخالق كذلك . من هنا لا تغدو البنية الاجتماعية إلا مستوى ثقافياً ، أما أبعادها الموضوعية الاقتصادية الاجتماعية ، فهي ذائبة في المستوى الثقافي المهيمن على الوجود العقلي المفارق . لكن ثمة علاقات جدلية داخلية بين كافة عناصر النفس والعقل ، وبينها وبين الواقع الخارجي ، فهي تتفاعل و [ تنقدح ] منتقلةً من الجزئي إلى الكلي ، ( 15 ) . وبهذا فإن ابن رشد عبر هذا التأسيس لفلسفته جامعاً بين كونٍ موضوعي مخلوق للإله الواحد ، يقوم كذلك بموضعة التاريخ الطبيعي ، أي بجعله موضوعياً ، ذا سببيات وقوانين ، فيتمكن من الجمع بين عملية سبر [الكون] معرفياً وتحرير الإرادة البشرية في مجال السيطرة على المادة الطبيعية. أي أن المثالية الموضوعية الإسلامية تتمكن لأول مرة من حل إشكاليات الجمع بين فكرة الإله الواحد وموضوعية العلوم في مسار الطبيعة ، وليس في مسار المجتمع . فالعقل : [(وهو جزء النفس الناطقة) كما يقول فيلسوفنا ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها ، والعقل هو مجموعة النواميس والقوانين التي تسبر الكون ، حكمه بالسببية مستمدٌ من طبيعة الموجودات وبذلك تكون السببية التي في العقل هي سببية الموجودات ، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل ] ، ( 16 ) . إن ابن رشد هنا يجمع بين الخلق الإلهي والموضوعية الكونية فالأسباب [التي من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود بحسب ما قدرها بارئها عليه فذلك هو النظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة وهو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده وعلى الكون بأسره وهو اللوح المحفوظ ] ، ( 17 ) . إذن ثمة ضرورات موضوعية هي في النهاية من الناموس الإلهي ، ومن هنا يفسر ابن رشد الآيات القرآنية المتعددة الرؤية للفعل الإلهي والفعل البشري ، فإذا كان الإله مهيمناً كلياً على الوجود ، فلا يعني ذلك أن الوجود خال من سببياته الداخلية وقوانينه المستقلة ، فهناك موضوعية كونية ولكن هناك كذلك حرية إنسانية تبحث عن هذه السببيات وتوظفها لصالحها . إن فكرة هيغل في أن الحرية هي فهم الضرورة يكون ابن رشد قد سبقه إليها بقرون . إن ابن رشد وهو يلغي وجهة نظر المعتزلة في كون الإله لا دخل له في حرية الفرد ، يرد كذلك على الأشاعرة الذين ألغوا هذه الحرية ، فيقول : [وأما الأشاعرة فقد راموا أن يأتوا بقولٍ وسط بين القولين : فقالوا إن للإنسان كسباً ، وأن المكسب به والكسب مخلوقان لله تعالى وهذا لا معنى له ، فإنه إذا كان الاكتساب والمكسب مخلوقين لله سبحانه فالعبد مجبور على اكتسابه ] ، ( 18 ) . إن الجمع إذن بين الموضوعية الكونية والموضوعية الاجتماعية وحرية الإنسان يقوم ابن رشد بتشكيلها ، نافياً وجهات النظر الفقهية / الفكرية المحدودة ، مشكلاً رؤية فلسفية ، تلغي الأشكال الجزئية المتضادة ، وترتفع بها في كل جدلي متجاوَّز . لكن هذه الحرية المتحققة هي للإنسان في تكوينه الفردي المجرد ، أي أن ابن رشد يجعل نشوء الإسلام هو بشكل إلهي مباشر ، والقرآن تكوين إلهي مباشر ، ومسار الإسلام بذلك الشكل هو مسار إلهي مباشر ، فكيف تتشكل هنا الحرية ؟ إن عدم القدرة على اكتشاف سيرورة التطور الاجتماعي تعود إلى تشكل أدوات المعرفة .
5 الوجود والمعرفة تنقسم العلوم النظرية التي هي أول تقسيمات العوم لديه ، وتعقبها العلوم العملية ثم المنطقية ، إلى علم كلي وعلم جزئي . والعمل الكلي [مشترك لجميع الموجودات ويأخذ كليته من طبيعة موضوعه الذي هو الجوهر غير المتحرك الذي هو الموجود الأول ] ، أي أن هذا العلم هو[ النظر في الوجود بإطلاق دون الالتفات إلى أعراض ذلك الوجود لأنها من اختصاص العلوم الأخرى وهي العلوم الجزئية ] ، ( 19 ) . وينقسم العلم الأول إلى قسمين ، والأول منهما يبحث المعاني العامة لجميع الموجودات مثل الهوية والوحدة والكثرة والقوة والفعل والعلة والمعلول ، في حين يبحث الثاني في الأصول والمبادئ ، أي يقوم بالنظر في العلوم الجزئية المختلفة . [والقسم الثاني من العلم النظري هو العلم الجزئي ، وهذا العلم ليس من طبيعته النظر في الموجود بما هو موجود ، بل النظر في الأعراض التي تعرض لجزءٍ من أجزاء الموجود ، كأنه منفصل عن الموجود]، ( 20). إن انقسام العلمين إلى مجرد كلي ، وملموس جزئي ، وعدم وجود التداخل بينهما ، يشير إلى التناقض الأولي الرئيسي بين السماء والأرض ، بين المحرك الذي لا يتحرك وبين المتحركات . [ومن هنا اكتسى العلم الإلهي ، والذي هو أحد أجزاء الفلسفة الأولى في نظر ابن رشد ، المرتبة الأولى بالشرف على جميع العلوم الأخرى لأنه ينظر إلى الجنس الأشرف ، والأشرف في جميع العلوم هو الله ، وبهذا يعد موضوعه أشرف الموضوعات . وفضلاً عن العلم الإلهي فإن للعلم الكلي موضوعاته الأخرى التي يبحث عنها مثل الوحدة والكثرة ، والقوة والفعل ، والعلة والمعلول وغيرها . فلا غرابة إذاً ، أن جاءت العلوم الجزئية ( الرياضيات والطبيعة ) ، بعد العلم الكلي في الترتيب . ] ، ( 21 ) . إن التناقض غير الجدلي بين العلم الكلي ، وبين العلوم الجزئية ، هو شكل تجلي للمنهج الميتافيزيقي ، بمعنى غير الديالكتيكي هنا ، الذي هو غير قادر على الجمع بين ظاهرات الوجود في كل موحد . ويتواصل التناقض بينهما حين ينظر العلم الكلي إلى الموجود بالذات ، وتنظر العلوم الجزئية إليه بالعرض . ولهذا يقول ابن رشد بأن العلم الكلي [ ينظر في مبادئ الجوهر وهي الأمور المفارقة ويعرف أي وجود وجودها ، ونسبتها إلى مبدئها الأول الذي هو الله ( تبارك وتعالى ) ويعرف الصفات والأفعال التي تخصه . وكذلك ينظر هذا العلم في موضوعات العلوم الجزئية ، ويزيل الأغاليط الواقعة فيها لمن سلف من القدماء ، والمتضمنة في علم المنطق وعلم الطبيعة والعلم الرياضي ] ، ( 22 ) . يتشكل التضاد بين العلم الكلي والعلوم الجزئية ، بسبب كون الأول خارج مبادئ التغير والحركة والتناقض ، باعتباره وعياً ميتافيزيقياً وغيبياً ، مسقطاً على العلوم الجزئية ، وهو تناقض يعكس التناقض غير المحلول بين صورة الذات الإلهية وبين الطبيعة غير المخلوقة . وتتشكل كافة مفردات المنهج من هذا التناقض غير المحلول ، فهنا ثنائيات متضادة بشكل مطلق غير قابلة للجمع والتضفير المشترك: وجود بالقوة / وجود بالفعل ، الحركة / السكون ، الكل / الجزء ، الجوهر السرمدي غير الكائن وغير الفاسد / الجوهر الكائن والفاسد ، الوحدة / الكثرة ، النهائي / اللانهائي ، الوجود / العدم الخ .. ولهذا فإن ابن رشد يقسم [الجوهر] إلى قسمين متضادين كلياً : [فالجوهر الكائن الفاسد مركب من مادة وصورة ، أما الجوهر السرمدي فهو على خلاف ذلك شيءٌ متبرئ من الهيولى ، فضلاً عن أن الجوهر الكائن الفاسد جوهر محسوس وليس مجرداً ومفارقاً ] ، ( 23 ) . أي أن العلوم الطبيعية لا تتحرك إلا في منطقة المتحرك المتغير الفاسد ، في حين إن [العلم الإلهي] ينظر في المبادئ العامة على أنها مبادئ جوهر غير متحرك ولا ساكن ، [أي أنه لا يريد فرض مبادئ العلم الطبيعي إلا في منطقة محددة لا تخص الموجود المتحرك بما هو متحرك بل تخصه بعده مطلقاً ، مثل انقسام الموجود إلى ما هو جوهر وعرض ، أو إلى قديم وحديث ، أو إلى واجب وممكن ، أو إلى علة ومعلول ، أو إلى قوة وفعل ، وهي انقسامات عامة تعم الموجود الإلهي والطبيعي أي الموجود غير المتحرك والمتحرك ] ، ( 24 ) . إن التضادات المطلقة غير المحلولة بين صورة الله التجريدية المفارقة والطبيعة تنعكس على العلوم فتنقسم إلى علم للغيبي وعلم للطبيعي ، لكون تلك الصور المفارقة هي نتاج الوعي وقد تواجدت في الطبيعة وغدت هي خالقتها ، وهو أمر يشكلُ البنى الاجتماعيةَ الإسلامية ، التي تعيدُ إنتاجَ تلك الصور الميتافيزيقية في حضنها الخ.. وهذا كله يعبر عن سيرورة تطور الأمم الإسلامية ، ولكن هذه الصور تنتمي في البحث إلى حقل آخر هو حقل العلوم التاريخية والاجتماعية ، ( 25 ) . ومن هنا فإن هذه الصور وقد غدت كائناً تجريدياً يمثل السلطة الإسلامية الكلية ، من غير الممكن أن تــُبحث بالعلوم الطبيعية ، ولهذا فإن الفلسفة الدينية عبر ابن رشد هنا تعزل المنطقتين بحاجز معرفي لاهوتي . فهناك المنطقة السرمدية الجوهرية غير الفاسدة والتي تنطبق عليها مبادئ المنطق الأرسطي ، وهنا المنطقة الجوهرية الفاسدة التي تنطبق عليها مبادئ المنطق الأرسطي ومبادئ العلوم الجزئية . ومبادئ العلوم الجزئية لا تنطبق على الكائن الأزلي ومنطقته الغيبية السرمدية ، لكون تلك المنطقة خارج الطبيعة ، لكن تلك المبادئ العامة تتحكم كذلك في العلوم الجزئية ، بمعنى أنها تخضعها لمنطقها العام ، أي أنها لا تسمح لها بأن تتحول إلى علم منهجي مغاير إلا في المساحة الطبيعية والاجتماعية . ومن هنا فإن العلوم الجزئية [لا تنظر في الهوية والجوهر المطلقين] حسب قول ابن رشد ، أي أن وعي ابن رشد يحصر العلوم الطبيعية والرياضية كي لا تتحول إلى منهج عام وأن تظل محكومة بمبادئ المنطق الأرسطي وقد تحولت إلى رؤية دينية عامة . ومن هنا فإن أقسام العلوم الطبيعية لم يطرأ عليها تغيير من أيام أرسطو مروراً بالفارابي حتى لحظة ابن رشد الراهنة وهي تتناول الأقسام التالية : 1 – السماع الطبيعي ، وتتعلق بالموجودات الطبيعية ولواحقها كالزمان والمكان الخ.. 2 – السماء والعالم 3 – الكون والفساد 4 – الآثار العلوية وهي تدرس الأسطقسات والظواهر الطبيعية 5 – المعادن. 6 – النبات. 7 – الحيوان. 8 – النفس . وهنا نرى أن العلوم الاجتماعية والتاريخية لم تحصل بعد على موقع هام .
6 التضادات المطلقة للطبيعة
تنقسم الطبيعة عند ابن رشد على الأجسام الطبيعية والأجسام الصناعية الساكنة ، والطبيعية التي تشمل الحيوان والبنات والجماد هي في حركة وسكون، ، وتشكل الحركة مبدأ هذه الطبيعة ، وهي تأتي من داخلها ، وهذه الذاتية الحركية هي سبب الفعل والتغير ، ولا ينطبق ذلك على النفس التي تعيش مع البدن في وحدة خاصة ، ويكون محركها من الخارج ، حيث تنتمي لبنية ثقافية مفارقة . ولكن ابن رشد إلى أن [الصورة هي أحق بأن تقال على الطبيعة من المادة ، لأن المادة مشتركة بين الموجودات الطبيعية والصناعية ] ، ( 26 ) . إن الصورة تغدو لديه هي بمثابة [الغاية الأساسية في الطبيعة والموجودات] ، وبالتالي فإن [الطبيعة تساوي الصورة ، أما الهيولى فهي جوهر صفته الاستعداد ، أي القوة مما جعل هذه الغائية إحدى الدعامات الرئيسة في الفلسفة الرشدية ] ، ( 27 ) . ويعرف ابن الرشد الجسم بأنه الذي له طول وعرض وعمق ، [فالجسم تحديداً عند ابن رشد يكون المنقسم كلاً في الأبعاد الثلاثة ( الطول والعرض والعمق ) ] ، ( 28 ) . ورغم أن الجسم غير مخلوق لديه كتعبير عن المادة ، إلا أنه لا يقبل الانقسام اللانهائي ، وتغدو المادة متشكلة دائماً لكن الصور هي التي تحدد تكوينها ، كما أنها متناهية ، حيث أن الكون متناهٍ . ومن هنا يرفض ابن رشد الأفكار الذرية والمادية اليونانية ، لأن المكان هو المتناهي بتناهي الأجسام ، ويقول بأنه لا يوجد خلاء في العالم أو خارجه . فماديته تقتصر على أن العالم غير مخلوق كمادة محض ، ولكن لأن الصور هي التي تلعب الأهمية القصوى في حركة المادة فإنها تتشكل عبر سببيات من داخلها عبر ثنائية وجود بالقوة يليه وجود بالفعل . كذلك فإن ما قرأناه في كتابه فصل المقال يعبر على إن الإرادة الإلهية واللوح المحفوظ يتدخلان على نحو غامض وغير محدد في هذه الطبيعة . هنا تتشكل المادية الطبيعية بتناقضات المنهج الأرسطي حيث : العالم ضد الفراغ واللانهائية ، وحيث الجسم لا يقبل إلا الاتصال ، وليس ثمة إمكانية للانفصال داخله ، أي أن ابن رشد لا يجمع النقائض في وحدة تركيبية . أي أن أساس الحركة في الجسم، أو في الطبيعة ، يأتي من الصور ، فتبدو العلة الصورية هي الأقوى من بقية العلل في تشكيل المادة ، وهو أمر يفتح الباب للتدخلات اللامادية . ينقسم العلم إلى علم للطبيعة وعلم لما بعد الطبيعة، وفي هذا ذروة أخرى للثنائية المتضادة ، حيث يبدو هنا الخلاصة للتناقض ، فالعلم الطبيعي هو : [الذي يعطي أسباب الجوهر المتحرك المادي والسبب المحرك ، وأما السبب الصوري والسبب الغائي فليس يقدر على ذلك . مع ملاحظة أن صاحب العلم الإلهي يبين ما هو السبب للجوهر المتحرك الذي هو بهذه الصفة ، ويقصد ابن رشد به السبب الصوري والسبب الغائي ، وذلك عن طريق معرفة أن المبدأ المحرك هو المبدأ للجوهر المحسوس على طريق الصورة والغاية . فمن هذه الجهة يطلب صاحب هذا العلم أسطقسات الجوهر المحسوس وهي التي توجد للموجود بما هو موجود ، وعليه يكون الموجود غير الهيولاني هو جوهر متقدم على الجوهر المحسوس ومبدأ له ، على أنه صورة وغاية . ] ، ( 29 ) . هكذا تنقسم الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى ثنائية تعكس الوعي الديني الرشدي وهو يشكل صورة الإله التي تلعب الدور الأولي الأساسي في دفع الصورة للحركة الوجودية ، ولعلها تدخل على أنحاء أخرى في تشكيل ودفع الصور فيما بعد ، مما يوجد للعالم الطبيعي سببيات من الخارج . ومن هنا تغدو تسميات ابن رشد هنا لتبرير الوجود الإلهي لا تختلف كثيراً عن التبرير الذي يقدمه ابن سينا ، في تقسيمه الواجب إلى الواجب بذاته وواجب وممكن بغيره ، فتسميته للموجود هي ذاتها وإن كانت بألفاظ أخرى فالواجب الضروري والممكن الحقيقي ، هما كذلك تبرير للصورة الإلهية المفارقة المشكلة للوجود ومن خارجه . فتسلسل العلل في تصور ابن رشد لا بد أن ينتهي إلى علة ضرورية ليس لها علة . وهنا يبدو قطع اللانهائية إلى نهائية تجسد طابع التفكير الديني الغيبي ، حيث تبدو المادة الخام الأولى مشكلةً بفعل تدخل إلهي ضروري ، وهو أمر رأينا سابقاً كيف تجسد عبر قراءته لبعض آيات قرآنية ، ومن ثم كيف قام ابن رشد بالتضفير بين العلة الصورية وبين القضاء والقدر ، وهي أمور تشير إلى ربط السببية الطبيعية بالصور الإلهية . إن ابن رشد يقوم هنا بقطع الجوانب المادية للفلسفة اليونانية كتلك الآراء القائلة بوجود المحركات المادية داخل المادة عبر تفسيرها بالذرات وحركتها ، وهي التي تتيح هنا تفسير الطبيعة كما هي ، بدون إضافات غيبية ، وهي الآراء التي تطابقت مع تطور العلوم الحديثة حيث اللانهائية والسببيات الداخلية وحركة المادة المطلقة الخ.. تغدو مثالية ابن رشد متطابقة مع مثالية أرسطو ، التي تشير إلى البحث الموضوعي عن سببيات الطبيعة والمجتمع والفكر مع ترك هامش للوجود الإلهي الغيبي ، وهو أمر مهم كذلك ، لأن المجتمعات الدينية المشرقية / الأوربية تشكلت عبر فكرة الإله المهيمن المعبرة عن سيرورة الدولة المطلقة ، وهذه العملية التركيبية بين الصورة الإلهية والموضوعية الطبيعية هي أقصى ما وصل إليه الفكر ، وأبعد تجليات المثالية الموضوعية ، في منطقة المشرق وأوربا قبل عصر النهضة.
7 في قراءة المجتمع
لم يؤلف ابن رشد كتاباً مباشراً في تحليل المجتمعات في عصره ، لكنه قام بترجمة كتاب الجمهورية لأفلاطون تحت اسم [ تلخيص السياسة لأفلاطون ] ، وبهذا قام بفعل آخر مماثل للفارابي الذي كتب عن المدن الفاضلة ، محاكياً أفلاطون في صناعة مدن خيالية مثالية للبشرية . إن هذه الصناعة للمدن المثالية تعبر عن المشروعات السياسية لهؤلاء الفلاسفة ، أي أنها تحوي في تصوراتها عن ما يجب أن يكون سياسياً واجتماعياً ، وبالتالي ما يجب أن يــُهدم ويغير من المجتمعات السائدة في عصورهم . إن الفلاسفة وهم يصيغون هذه المشروعات الفكرية الخيالية ، كانوا على تماس دقيق مع الواقع الذي يعيشونه ويرفضونه ، ومن مواقعهم كأفراد من فئات وسطى ، ليست هي من نسيج الطبقة المسيطرة ، سواء كانت هي ملاك العبيد في أثينا ، أم كانت من الإقطاع السياسي / الديني في عصر ابن رشد ، وبالتالي كان هؤلاء الفلاسفة الأفراد يصيغون مشروعاتهم التحويلية لتشكيل نظام يتماشى مع تصوراتهم النظرية ، وليس مع سيرورة التاريخ الحقيقي بالضرورة ، لكنهم يتصورون أن تصوراتهم تلك هي ما سيحدث أو ما يجب أن يحدث . ومعنى هذا أن تصوراتهم التحويلية سوف تكون جزءً من رؤيتهم العامة ، فإذا كان أفلاطون ينطلق من الموروث الإغريقي الاجتماعي والأسطوري ، أي من هذه البنية التي وجد نفسه فيها ، وراح بالتالي يفكر بمفرداتها ، فلن يكون ابن رشد بعيداً عن بنيته الاجتماعية الثقافية . ولكن قيام فيلسوف تالٍ بتناول مادة فيلسوف سابق، وكلاهما عاش في ظروف مختلفة ، يعبر عن وجود مادة فكرية رؤيوية مشتركة ، أو أن هناك عناصر مشتركة بينهما يجري تداولها عبر العصور المختلفة ، كما حدث لقيام ابن رشد باستغلال الرؤية العامة لأرسطو في فلسفته . إن ابتعاد ابن رشد عن أطروحات أفلاطون الفلسفية وتعددية مثله المفارقة هو أمر يشير إلى رفضه للتعدديات الإلهية وكونها مضادة للمجتمعات الإسلامية التي تكمن عملية نهضتها وتطورها في الوحدة ، أي وحدة أجزائها المفتتة . ومن هنا يكون رفضه لفلسفة أفلاطون المستقاة من حالة مجتمع إغريقي مفتت ، متماثلاً لتماهيه مع فلسفة أرسطو ، ذات الصياغة التوحيدية للعالم والموضوعية المثالية ، ولكن لا يعني ذلك أيضاً عدم تعاطف ابن رشد مع فلسفة أفلاطون الاجتماعية ، ولكن بشرط أن تتخلص من عباءتها الوثنية الأسطورية وتلبس الثوب الإسلامي التوحيدي . وفي هذه الشروط الفكرية العامة عكف ابن رشد على تلخيص كتاب الجمهورية لأفلاطون ، والاستفادة منه في تقديم نموذج المدينة الفاضلة عبر رؤية أفلاطونية – رشدية مشتركة ، فابن رشد لم يلخص تلخيصاً بل كان يلخص ويعلق ، فالمادة الأفلاطونية المترجمة خضعت لتعليقات وتداخلات من ابن رشد ، مما جعل التلخيص هو رؤية مشتركة . وهنا في هذا الكتاب توجد العديد من الفقرات التي هي من ابن رشد نفسه ، وخاصة في المواقع التي يقوم فيها بتوضيح وجهة نظره وفي المواقع التي يقوم فيها بتغيير رأي أفلاطون وتغيير مصطلحاته وتصوراته. وهي ذات الطريقة التي تعامل فيها ابن رشد مع تراث أرسطو ، ولا نستبعد أن تكون كلمة الخليفة الأندلسي حين كلفه بالترجمة وطلب منه توضيح عبارات أرسطو الغامضة ، أن تكون إشارة لأسلمة التراث الأرسطي – الأفلاطوني العقلي داخل المنظومة العربية الإسلامية ، ( 30 ) . وتعتمد كما قلنا عناصر التداخل بين المتخيلات الاجتماعية بين أفلاطون وابن رشد ، على مواقف المثقفين المنحدرين من الفئات الوسطى ، المتوجهين لخلق مدينة حديثة تخلو من كل مشكلات عصريهما الكبرى . وابن رشد نفسه يشير في ثنايا الكتاب إلى ضرورة مراعاة الفروق بين العصور ، ويدرك كون مشروع أفلاطون كان على مقاس المجتمع الإغريقي ومثله ، لكنه يسايره في الهيكل العام لمشروعه ، الذي يعتمد على تشكيل نموذج مدينة ذات أساس إنتاجي وثقافي معين ، فابن رشد كثيراً ما يلجأ إلى تفسير تطورات التاريخ العربي الإسلامي من خلال مفردات أفلاطون ، وأحياناً لا توجد للمفردات اليونانية تجسيدات عربية كمسمى المدينة الديمقراطية عند أفلاطون فيسميها ابن رشد المدينة الجماعية ، وكذلك التقييم السلبي لأفلاطون عن المدينة الرأسمالية التي لم يكن ما يماثلها في التاريخ العربي فيدخلها ابن رشد في كيان مدينة أخرى ! وابن رشد يساير أفلاطون في هذا الأساس العام حيث المدينة المشكلة على أساس برنامج اجتماعي ثقافي خاص . والمدينة المتصورة هي مدينة لا تاريخية ، بمعنى أنها لم تنبثق من سيرورة التاريخ ، ومن هنا فلا أفلاطون ولا ابن رشد يناقشان قضايا الإنتاج ، أو أساليبه ، أو سيرورة البنى الاجتماعية السابقة والراهنة ، ومن هنا تتشكل عملية فهم المدينة من بضع كلمات من الاقتصاد ، حيث يتم فهم ضرورة التعاون الإنتاجي ، وكون المدينة هي مكان تبادل : [وإنه لمن المستحيل على الإنسان بمفرده أن يوفر كل متطلبات عيشه .. ] ، ( 31 ) ، لكن تعود عمليات الإنتاج ليس إلى أسلوب موضوعي مستقل ، بل إلى قواه النفسية ، ك [القوة الشهوية فيه ] . إن الإنسان يحوي قوى نفسية عديدة متضادة ، كالقوة الشهوية والغضبية والتأملية الفكرية ، وبما أن القوة الفكرية هي أسمى وأهم هذه القوى فيجب أن تسود ، فهي تسود في كيان الإنسان الفرد ، فيجب أن تسود في كيان المجتمع كأمر بديهي . إن الترابية النفسية العقلية الإنسانية تتحول إلى تراتبية سياسية نموذجية . إن الفلاسفة هنا وهم يرفعون قوة إدراكهم فوق قوى الطبقات الأخرى ، كالحكام والجنود والعاملين ، فإنهم يضعون أنفسهم على رأس السلطة الحاكمة في مدن الخيال النموذجية المقترحة . وبما أن القوى النفسية الفكرية المتعددة تتوزع على هذه الطبقات الاجتماعية بشكل متفاوت ، لكنها عند الفلاسفة تقترب من التكامل ، وهي تقترب من العقل الفعال والمطلق : [.. أن العلوم النظرية هي الأشياء التامة المتحررة من المادة ] ، [ولذا نظن أن هذا الكمال له غاية قصوى بسبب قربه من الكمال الأقصى ] ، ( 32 ) . ومن هنا فإن أفلاطون – ابن رشد يريان ضرورة تجميد الطبقات العاملة في مواقعها الإنتاجية التخصصية ، دون مفارقة وتبدل ، لكون هذا التخصص سيطور إنتاجها . لكن هذه الطبقات العاملة ستعمل في إنتاج غير خاص ، أي في ملكيات إنتاجية تابعة لحكومة المدينة ، وأي تغيير في وضعها سيعرضها لعقوبات صارمة . ومن هنا تغدو الملكية الخاصة محرمة ، من خلال قانون المدينة ، ليس فقط في الملكيات الإنتاجية العامة بل في التملك الشخصي ، والذي سوف ينتقل إلى الزواج ، حيث لا زوجة خاصة ، وبطبيعة الحال هنا يفترق ابن رشد مع أفلاطون . ولم يعد في هذه المدينة النموذجية الحكام المعتادون ، بل أن أفلاطون – ابن رشد يركزان على ما ترجم إلى لفظة [الحراس] ، فهذه القوة الاجتماعية الغامضة ، التي تحرس المدينة وتحكمها ، هي مركز تصورات الكتاب المعرب . إن أفلاطون – ابن رشد يقترحان سلسلة من التصورات التربوية الطويلة لتشكيل هذه القوة المدافعة الحاكمة الحكيمة ، عبر تثقيفها بالموسيقى والرياضة والعلوم المختلفة والتي لا تعرف الفروق الجنسية أو المذهبية . وإذ تقوم الفكرة الأساسية على هذه المقولة فإنها تترابط مع الفلسفة المثالية الموضوعية في تقسيم القدرات البشرية ، فتكوين المدينة الإنتاجي السياسي خاضع لذلك التصور المثالي ، بكون القدرات العقلية المتميزة هي في وضع قيادي بشري . وكل فقرات الكتاب تنصب لتجسيد هذا المبدأ والتدليل عليه . [والإنسان إنما يبغي من خلال العلوم النظرية أن يقدم المشورة للآخرين . ولا يوجد هناك فرق بينها وبين الصناعات العملية سوى أن هذه الأخيرة هي بمثابة خادمة لها لكي تدرك الأولى غايتها القصوى ، ولذلك فهي تنقاد لها ] ، ( 33 ) . وكذلك : [لقد تبين إذن أن حكم الموجود المعقول على الأفعال الإرادية إنما يقوم بتدبير المعقول للمحسوس وفي إعطاء الموجودات بالإرادة المبادئ التي تعتمد عليها في وجودها ] ، ( 34 ) . إن التراتبية الشهوية الانفعالية العقلية التي تتمظهر في الوجود البشري الفردي المتباين بين النماذج ، تتحول إلى نمط للحكم وصياغة المصير الاجتماعي التاريخي . حيث أن هذه التراتبية تعكس قوى انفعالية فكرية متباينة، فكلما قلت القوى الشهوية والانفعالية وزادت القوى العقلية النظرية كلما كان هذا نموذجياً ، ويؤدي بالإنسان إلى الرقي ، وتتوجه المعادلة إلى أقصى غاياتها بتفضيل نموذج العقل المتأمل الزاهد ، وليس بخلق تركيبة من رغبات الجسد وتطورات العقل ، بين التفاعل مع الجمهور وتطوير الفلسفة ، فتلك الثنائية المتضادة الكلية تتمظهر هنا كذلك . علينا هنا أن نرى في ذلك تقييماً مهماً غائراً للفئات الوسطى ، وهي الفئات التي يتركز فيها الإنتاج العقلي ، غير أن الفيلسوفين يهملان جذورها ، أي أن فئات التجار والموظفين والحرفيين الميسورين هي التي يظهر من بين أبنائها صناع الثقافة ، فيعملان على تدمير تلك الجذور ! لكن التضاد الكلي المطلق بين العقل والجسد ، بين الفلاسفة والمنتجين ، بين الفكر والمادة ، بين الثقافة والإنتاج ، لا يعثر على حله ، فالفلاسفة لا يقيمون علاقات مع المنتجين والناس ، الذين هم خارج الفكر ، والناس لا يقيمون علاقات مع الفلاسفة الذين هم خارج العمل والإنتاج . فكيف تتشكل المدينة التي ينفي رأسها يديها؟ وكيف يستطيع الحكام الفلاسفة تطوير الإنتاج وهم على رأس الحكم ؟ إن إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وللحياة الشخصية وللتناسل ، يترتب عليه إلغاء بيع السلع والنقود ، وفئات التجار والمالكين الحرفيين ، وبالتالي يغدو ذلك حلاً نظرياً لإشكاليات الدخول في تحليل الحياة المادية والعلاقة بالمنتجين . ويغدو مصادرة جاهزة من قبل العقل النظري التأملي ، المنقطع عن العلاقة بالإنتاج والعاملين ، لمجمل الإشكاليات التي يثيرها أسلوب الإنتاج . أي أن أبناء الفئات الوسطى يدمرون هنا جذورهم وينسفون طبقتهم بدلاً من تصعيد دورها . إن كون أعلى مراتب الفلسفة هو القسم النظري ، وهو القيادة السياسية لعملية التحول المتخيلة هنا ، هو ذاته مصدر الرؤية ، فموقعه موقع تأملي ، ويتطلع إلى العملية التاريخية من خلال مفردات نظرته التي تقوم بخلق التضادات المطلقة بين الأشياء والظاهرات ، فهي لا تستطيع أن تركب جدلياً بين الفلسفة والإنتاج ، مثلما قامت بخلق تضادات كلية مماثلة بين الطبيعة وما بعد الطبيعة ، بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل ، بين العلة الفاعلة والعلة الصورية الخ .. ولهذا فإن مصدر وعي الفلاسفة المتصدين لحكم المدينة ، ليس كشف العمليات التاريخية وتضادات الإنتاج ، بل هو مصدر ذاتي وعلوي ، ويدخل هذا المصدر في مساحة ضبابية شديدة بسبب مفارقته المفاجئة وعدم تجسيدها ، يقول ابن رشد حول هذه الإرادة التي تقوم بمشروع تغيير وقيادة المدينة : [فإن الإرادة لها ارتباط بوجود العلاقة التي من خلالها يكون العقل الفعال بمثابة الكمال لنا] ، ويضيف في موقع تالٍ : [إن هؤلاء الذين يرون أن العلوم النظرية ليست خالدة ، وأن الكمال الأقصى إنما يتم بالإدراك العياني للعقول المفارقة ، يكون الكمال بالنسبة لهؤلاء على قسمين : كمال أول وكمال أخير . الأول إنما يكتسبه بنفسه ، والثاني مما يكتسبه بواسطة ( العقل الفعال ) ..] ، ( 35 ) . هكذا لا يعود بإمكان الفلاسفة إقامة علاقة تاريخية لصياغة المشروع ، فعبر انقطاعهم عن العلاقة بالإنتاج المادي ، يوجدون مصدراً مفارقاً غيبياً هو العقل الفعال ، الذي يغدو شكلاً غير تاريخي للمعرفة ، بمعنى أنه لا يتضمن الاعتماد على قوى بشرية حقيقية في التاريخ العياني ، من فئات وسطى ومنتجين وقبائل الخ ..، كذلك لا يغدو مصدراً حقيقياً للمعرفة عبر التجريب والممارسة الفعلية ، فيتحول المشروع إلى تأمل نظري وليس إلى مشروع حقيقي .
8 المدينة الفاضلة والمدن الضالة
في التصور الأفلاطوني – الرشدي يتم قطع علاقات السيرورة التاريخية العامة للمدينة الفاضلة والمدن السيئة ، فهي تظهر كتكوينات منتجة من قبل القوى الشهوية واللذية والفكرية التأملية ، فهذه القوى النفسية هي التي تصنع تكوينات المدن ، ومن هنا يحلل أفلاطون شخصية الحاكم الذي يتجسد في كل مدينة ونوازعه النفسية والأخلاقية باعتبارها هي التي جسدت هذا النمط من المدينة . وللمدينة المستقلة التي تحكمها قوى سياسية واجتماعية جذور في بلاد الإغريق ، فهي ليست تكوينات خيالية محضة ، فقد كان نمو التاريخ اليوناني يعتمد على تشكل المدن وصراعاتها . لكن أفلاطون قام بتجريد هذه المدن من سيرورتها وربطها بالنوازع النفسية والفكرية . لكنه حدد أربعة أنماط هي : تيماركية ، أوليغاركية ، ديمقراطية ، استبداد (راجع الهامش في المصدر السابق ، ص 176 ) . وفي هذا التحديد الأفلاطوني تتمثل سيرورة حقيقية للمدن اليونانية ، حيث تهيمن بدايةً مدنُ ملاك الأرض الأغنياء ، التي تتحول في مخاض معقد إلى مدن تحكمها القلة الغنية ، ومن ثم يظهر الشكل الديمقراطي في بعض المدن حيث يصعد دور الفئات الوسطى ، مثلما يوجد النمط الاستبدادي متغلغلاً في الكثير من المدن . إن أفلاطون لا يرى هذا تطوراً بقدر ما يرى مدى تباعد هذه السيرورة التاريخية عن النموذج المثالي لديه ، فهو لا يقرأ المسار الموضوعي للتطور بل يحاكم التغيرات من خلال مثاله المطلق ، وهو المثال الذي عرضنا بعض ملامحه سابقاً . وهذه النماذج يقابلها عند ابن رشد ، أو ترجمته لتلك المدن بالترتيب التالي : 1 – المدينة القائمة على المجد والشرف 2 – مدينة حكم القلة . 3 – الحكم الجماعي 4 – الاستبداد . وإذا كان النموذج المثالي لدى أفلاطون غير موجود في التاريخ العياني ، فإنه موجود لدى ابن رشد في الفترة الإسلامية الأولى ، متمثلاً في حكم النبوة والخلافة الراشدة ، ولا يحدد ابن رشد اجتماعياً أسباب ذلك ، لكننا نلمحها حين يلتفت إلى حكم المرابطين في شمال أفريقيا والأندلس ، محدداً إياها في التماثل مع النص الديني ، وهو أمر يشير إلى تطابق الحكم الرعوي في بدايته مع القبلية الجماهيرية الواسعة . أي كون القادة القبليين يقيمون علاقة مباشرة مع الجمهور وتوزع الخيرات بشكل واسع عليه . وهذا يتطابق مع الفترة النبوية والراشدية ، ثم يختم ابن رشد هذه الفترة بحكم معاوية ، الذي يظهر لديه وكأنه حكم منقطع عن السيرورة السابقة ، حيث تبدأ فترة [ المدينة القائمة على المجد والشرف ] وعلينا أن نفسر هذه الألقاب بأنها تعني حكم النبالة ، حكم الملوك . وهو يقيم كأفلاطون الزمن السياسي على حسب القيم الأخلاقية المجردة ، لكن الشرف هنا سيتحدد اجتماعياً بعد ذلك : [إن نوع الرجال الذين سيحكمون مثل هذه المدن بخصال الشرف والحسب سوف يقترن حكمهم بكل شيءٍ ذي يسار ، وإن أولئك الذين من بينهم وممن شرفهم لا يمكنهم من أن يكونوا أحراراً بإطلاق ، سوف يحكمون كل ما هو جزئي ، وبذلك فهم سادة من جانب وعبيد من جانب آخر ] ، (36 ) . إن مدينة القلة ومدينة الحكم الجماعي ستكونا لدى ابن رشد نتاجين لتفسخ الفترة الذهبية السابقة ، سواء كانت الفترة النبوية الراشدية ، أو الفترة الأولى النضالية أو الجماعية أو المتوافقة مع الشرع ، التي تقوم بها الجماعة القبلية الجديدة وهي تحكم بتدفق اجتماعي غيبي ، غير محدد علمياً أو برهانياً . تظهر التحولات التاريخية العربية الإسلامية لدى ابن رشد في الفقرة التالية : [وإنك لتدرك ما يقوله أفلاطون عن كيفية تحول الحكم الفاضل إلى حكم المجد والشرف ، وتحول الرجل الفاضل إلى رجل المجد والشرف ، وهو أمر يشبه ما حدث للعرب في أول عهدهم حيث اعتادوا على النزوع إلى الحكم الفاضل ، حتى جاء معاوية فتحول حكمهم إلى حكم قائم على المجد والشرف ، وهو ما يشبه الحكم القائم الآن في جزيرتنا ] ، ( 37 ) . إن التاريخ يتمظهر لدى ابن رشد عبر النماذج الفردية الصانعة له ، مسايراً أفلاطون في ذلك ، فنظراً لوجود الرجال الفضلاء فإن فترة زاهرة عادلة ستتواجد ، وهو أمر يغيب الشروط الموضوعية والذاتية لتكون الرجال الفضلاء والتغيير الإيجابي ، وهو ما يربطه بصفات نفسية غير معروفة المصدر إن لم تكن بعوامل غيبية محضة ، فيصير التاريخ خارج البنى الاجتماعية . وكما أن الرجل الفاضل هو صانع الزمن العادل ، فإن الرجل الفاسد ينبثق من زمن [دولة المجد والشرف] مشكلاً مدينة اللذة والمال . [وبالجملة ، فإن تحول رجل المجد والشرف إلى رجل طالب للذات يبدو أمراً واضحاً ، عندما يجد المتعة في المال وغيره من اللذات الأخرى الباقية ] ، [ ولهذا فنحن نرى أن الملوك يصبحون فاسدين ويتحولون إلى أمثال هؤلاء الرجال . ] ، ( 38 ) . إن وجود المتعة والمال أمورٌ موجودة في زمن الرجال الفضلاء وحكمهم ، فلماذا لم تنقلب أحوالهم إلى أضدادها ؟ كما أن ثمة رجال فضلاء في زمن دول المال والمتعة فلماذا لم يستطيعوا تحويلها إلى النموذج السابق ؟ إن ثمة شروطاً أخرى هي التي تجعل زمناً ما قادراً على إيجاد تقسيم عادل للثروة ، ولكن أفلاطون – ابن رشد يتوقف تحليلهما عند القوى الذاتية المتعددة في الأفراد مصدر الفعل التاريخي . ويقوم ابن رشد باستكمال دورة المدن مطبقاً إياها هذه المرة على تاريخه المناطقي : [ويشبه هذا في زماننا المملكة المعروفة بالمرابطين ، حيث أنهم في عهد ملكهم كان دستورهم قائماً على الشرع ، لكنهم فيما بعد تبدلوا في عهد ابنه إلى دستور المجد والشرف وقد مازجته الرغبة في المال . وحدث مع مجيء الحفيد أن تحولوا إلى دستور قائم على اللذة وما يتعلق بها من الأشياء اللذية والترف ، فتفسخ حكمهم وهلكوا . ويعود أمر هلاك ملكهم إلى قيام دستور معارض لهم في زمانهم ، وهو دستور قائم على الشرع . ] ، ( 39 ) . إذن وجود الصلاح يتطابق مع تنفيذ الشرع حسب المذهب المالكي ذي الجذور الصحراوية المدنية ، لكن التغيير من داخل تغير شخص الحاكم وليس لكون انتقال القوة القبائلية إلى السيطرة على السلطة والثروة وتفسخ قواعدها الاجتماعية القبلية ، نظراً لتلك الهيمنة على الموارد ، وبالتالي فإن التشدد في الأحكام الشرعية كان بغرض منع هذا التفسخ الاجتماعي القبلي ، وإضعاف نمو الفئات الوسطى الحرة الخ.. إن منهجية ابن رشد تقوده إلى الوقوف على سطوح الظاهرات العامة الاجتماعية / السياسية ، لكنه يسدد ضربات نقدية عنيفة للتفكير القدري والغيبي المطلقين ، وللاستبداد مقترباً من قراءة عميقة لهذه الظاهرات الصعبة . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية من الجزء الثالث مصادر : ( 1 ) : ( فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ، دار المشرق ، بيروت ط 5 ، ص 41 ) . ( 2 ) : ( المصدر السابق ، نفس الصفحة) . ( 3 ) : ( من تعليقات المقدم البير نصري نادر في الكتاب السابق ، ص 59 ) . ( 4 ) : ( السابق ، نفس الصفحة ) . ( 5 ) : ( السابق ، ص 41 ) . ( 6 ) : ( نفس المصدر ، ص 42 ) . ( 7 م ) ( فصل المقال ، الطبعة السابقة ، ص 28 ، ويقوم المقدم بوضع الآية كاملة في الهامش ). ( 8 ) : ( السابق ، ص 29 ) . ( 9 ) ( السابق ، ص 55 ) . ( 10 ) : ( نظرية ابن رشد في النفس والعقل ، محمود فهمي زيدان ، من كتاب الفيلسوف ابن رشد مفكراً عربياً ، كتاب تذكاري من إصدار المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1993 ، ص 41 ). ( 11 ) : ( نفس المصدر ، نفس الصفحة . ) . ( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 41 ) . ( 13 ) : ( المصدر السابق ، 45 ) . ( 14 ) : ( المصدر السابق ، ص 46 ) . ( 15 ) : ( إذا تؤمل كيف حصول المعقولات لنا وبخاصة المعقولات التي تلتئم منها المقدمات التجريبية ظهر أننا مضطرون في حصولها لنا إلى أن نحس أولاً ، ثم نتخيل ، وحينئذٍ يمكننا أخذ الكلي ولذا فمن فاتته حاسةٌ ما فاته معقول ما … بل يحتاج ” الإنسان مع قوتي الحس والتخيل ) إلى قوة الحفظ وتكرار ذلك الإحساس مرة بعد مرة حتى ينقدح لنا الكلي ” ، السابق نفسه ، ص 43 ) . ( 16 ) : ( مأخوذ من دراسة [مشكلة الحرية في فلسفة ابن رشد] ، بقلم زينب عفيفي شاكر ، في نفس الكتاب التذكاري عن ابن رشد السابق ، ص 251 ) . ( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 252 والنص مأخوذ من مناهج الأدلة ، ص 226 ) . ( 18 ) : (مناهج الأدلة ص 224 ، نقلاً عن المصدر السابق ، ص 248 ) . ( 19 ) : ( العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد ، د . حسن مجيد العبيدي ، دار الطليعة ، بيروت ، ط 1 ، 1995 ، ص 16 ) . ( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 17 ) . ( 21 ) : ( السابق ، ص 18 ) . ( 22 ) : ( السابق ، ص 18 ، 19 ) . ( 23 ) : (السابق ، ص 24 ) . ( 24 ) : ( السابق ، ص 24 ). ( 25 ) : ( إن صورة الإله في مرحلة الإسلام التأسيسي (الثوري ) هي صورة ديمقراطية حيث تتفاعل صورة الإله كالحاضر الفاعل في العملية التاريخية، فهي جنباً لجنب مع الناس البسطاء في تغييرهم الوجود السلبي المتخلف ، لكن مع استيلاء قوى الأشراف البدوية على الدولة والفضاء الفكري فهي تعيد تشكيل هذه الصورة باتجاه عزلتها في السماء وحياديتها تجاه الناس وتجاه قضايا التغيير الاجتماعية ، ومن هنا يقوم ممثلو الفلسفات الإمامية الأكثر قرباً من الجمهور الزراعي المشرقي ، باستعادة صور الإله الفيضية المتعددة المستوحاة من المسيحية ، لكن ابن رشد ليس وريث معارك المشرق الخاصة، بل هو نتاج للتطور العقلي المجرد للفلسفة الإسلامية في ظروف مغاربية. ). ( 26 ): ( السابق ، ص30 ، 31 ) . ( 27 ) : ( السابق ، ص 32 ) . ( 28 ) : ( السابق ، ص 37 ) . ( 29 ) : ( السابق ، ص 63 ) . ( 30 ) : ( كانت كافة مشروعات النهضة الفكرية في المشرق والمغرب تعتمد على وجود ملك متنور ، تبلغ فيها الفئات الوسطى أقصى لحظات تطورها ، ويلوح فيها أفق حداثة ، بسبب ضخامة البناء الثقافي المتنور والعقلي ، وهو الذي يجعل بعض الملوك والفلاسفة منساقين إلى الاعتقاد بقدرة هذا البناء الثقافي على حل كافة المعضلات وتحقيق نهضة ، حدث ذلك في أيام كسرى الفارسي ، والمأمون العباسي ، والخليفة الراهن لابن رشد وهو أبو يعقوب يوسف عبد المؤمن . ) . ( 31 ) : (تلخيص السياسة ، ابن رشد ، ط1 ، دار الطليعة ، 1998 ، ص 68 ) . ( 32 ) : ( المصدر السابق ، ص 160 ) . ( 33 ) : ( السابق ، ص 156 ) . ( 34 ) : ( السابق ، ص 157 ) . ( 35 ) : ( السابق ، ص 162 ، 163 ) . ( 36 ) : ( المصدر السابق ، ص 180 ) . ( 37 ) : ( السابق ، ص 198 ) . ( 38 ) : ( السابق ، ص 202 ) .
منذ عقود غير بعيدة كان هذا الرجل البسيط المتواضع «مبارك الخاطر»، موظفا شبه مجهول في إدارة المحاكم، يدخل ويخرج حاملا أوراقه ومستنداته التاريخية، دون أن يحفل به أحد لم يذهب الى الجامعة ، واعتمد في ثقافته، على تعلمه واجتهاده الشخصي؛ واكب على المعرفة، وتعمق في ميدان ولعه الخاص. التاريخ البحريني .. قبله، لم يكن ثمة تاريخ، كان الماضي قطعة سوداء من النسيان وفقدان الذاكرة، كان التلميذ البحريني في المدارس لا يعرف «أحمد الفاتح» أو «الزائد» أو «القرامطة»، كان يعرف فتوحات الاسكندر الاكبر، وكيف قتل يوليوس قيصر.. لكن تاريخ بلده، ومنطقته، أشبه باللغز الذي يطرحه ابوالهول.. وقد انطلق مبارك الخاطر في هذه المنطقة المعتمة الوعرة، اختار ميدان التاريخ؛ الميدان الاحفل بالألغام السياسية والفكرية، وبفقدان المواد والحيثيات والوثائق . وكان الخاطر على صلة عائلية بأحد البارزين في عملية النهضة الخليجية المعاصرة، وهو عبدالله الزائد. فهذا الرجل هو صاحب علامات فارقة في تاريخ البحرين المعاصر فهو مؤسس لرموز تنويرية ساطعة: النادي الأدبي – سينما البحرين – جريدة البحرين .. وقد دفعته صلة شخصية الى الاهتمام بهذا الرائد. وفي عملية بحثه ورصده لحياة الزائد، تلمّس خطوط التطور الأولى للبلد، فلم تكن حياة الزائد معزولة عن الأحداث والصراعات والتطورات. التي بدت غير واضحة وجلية؛ لمبارك الخاطر نفسه حينذاك، فقد أمسك حياة هذا المصلح الاجتماعي باعتباره شخصا طيبا وعظيما، وأراد أن يغرس ثمار النهضة والحضارة الجديدة في ربوع وطنه، ومن هنا حاول أن يبرز دوره في تأسيس النادي الأدبي وعلاقاته الشخصية مع الشيخ ابراهيم الخليفة وغيره من مؤسسي حركة النهضة في البحرين إبان الثلث الأول من القرن العشرين. لقد بدت حياة الزائد في كتابه وكأنها حركة شخص يسعى لتأسيس ناد أدبي ودار سينما وخلق جريدة، ومن هنا حاول ان يدافع عن شخصه، من التهم التي «الصقت» به، الكتاب تحول هنا الى ترجمة لفرد، ودفاع شخصي عن الرجل المتنور . كان هذا الكتاب الأول بكراً في الدرب الطويل؛ إنه افتتاحية البحث التاريخي الموسع الذي سوف يطل بعد سنوات. ولكن في هذه الافتتاحية، نرى الخصائص التي ستظل ملازمة للمنهج البحثي ــ التاريخي ــ الذى اختطه الخاطر لنفسه. فهو بحث يتركز حول «شخصية»، هامة لعبت دوراً ايجابياً وتنويرياً في وقتها، ودفعت الحياة الفكرية دفعة قوية الى الامام. والحيثيات التي ستكشف دور هذه الشخصية تعتمد اعتماداً رئيسياً على «الوثائق» المتوفرة، كرسالة أرسلها الزائد إلى الصحف المصرية، أو قصيدة منشورة، أو رسائل إخوانية، أو أعمال ملموسة محددة . من هذه الوقائع سوف ينطلق الخاطر لتجلية أفعال «بطله» التاريخي؛ مراوحاً بين ظروف وقته الصعبة، وبدائية الامكانيات وندرة الجهود الخلاقة، وبين سطوع أعماله وجرأة أفعاله وأهميتها.. ولن يغوص الخاطر بعيداً في علاقات هذه الشخصية بالظروف الاجتماعية والفكرية والسياسية، وعلاقات هذه البنية الاجتماعية المحلية بالعالم الخارجي وتياراته وصراعاته، بل سوف يستل خيطاً دقيقاً ومهماً، هو دور البطل في مجتمعه، وأثره على معاصريه .. وهو، في بحثه الأمين الصادق، سوف يتابع الشخصية في ماضيها وحاضرها. فهي ليست شخصية خارقة، بل ابنة ظروف معينة، وأهم هذه الظروف دوماً، لدى الخاطر، هو دور الأساتذة الأوائل والرواد السابقين .. فكان التاريخ هو تاريخ النابهين والمثقفين والمتنورين. فهم اداة الخصب والتغيير في الحياة . لقد بدت وكأنها «صدفة». ان الخاطر قد بدأ بالزائد، ولكنه دافع الاخلاص والتقدير للشخصية النابهة السابقة . وهو الذي حرك عجلة البحث في حيوات الشخصيات الأخرى. فقد كان الزائد هو شخصية تالية، جاءت، في التاريخ، بعد قاسم المهزع، وناصر الخيري. لكن الكتابة عن الزائد فجرت البحث عن بقية أجزاء السلسلة . إن هذا الترتيب، يؤكد، عفوية مخطط البحث في البداية، ثم اتجاهه إلى البرمجة والمنهجية المنظمة، فيما بعد. وقد جاء كتابا «قاسم المهزع» و«ناصر الخيري»، وكأنهما متناقضان، ومرتبكان، في مادتهما، فالشخصيتان كانتا على طرفي نقيض تماماً، فناصر الخيري من المتنورين؛ الذين اتجهوا الى طرح أسئلة ليبرالية في عصر رهيب التخلف، في حين كان قاسم المهزع، من قضاة الشرع والمتحمسين في محاربة التحرر الليبرالي والأشكال الجينية للتنوير حينذاك، والتي يسمها «بدعا». فكيف استطاع الخاطر أن يكتب عنهما الاثنين، بحرارة، ويدافع عنهما كليهما؟ في كتابه عن «قاسم المهزع». قفز الخاطر قفزة كبيرة في ميدان البحث التاريخي ، وهو هنا لم يأخذ الشخصية المحورية كشخصية متفردة، خارج ظروف الزمان والمكان، بل رسم لوحة عامة، برزت فيها حياة القاضي كجزء من عملية صراعية واسعة النطاق. لكن هنا أيضا وصف هذه الشخصية ودافع عن دورها «السلفي»، في مواجهة العصرنة الزاحفة، وكانت مسيرة العصرنة – في ذلك الحين – متوافقة مع التدخل الأجنبي. فبدا كأن الظاهرتين من فعل فاعل واحد، ولهذا كانت مواقف قاسم المهزع المتجهة للتصدي للظاهرتين، معا مبررة في رأي الباحث. ورغم هذا الطابع الضيق، وسيطرة «الايدلوجي» على «العلمي»، فإن الخاطر، في هذا الكتاب، يندفع خطوة جريئة، عبر ربط دور الحركة الفكرية والسياسية، بالبيئة الاجتماعية ككل، ويرى في عجز المصلحين حينذاك نقصا في روابطهم مع الناس، وعدم رؤيتهم للجوانب المتناقضة لفعل الإصلاح البريطاني وقتذاك. ولكن يأتي في كتاب «ناصر الخيري». ليدافع عن شخصية تقف في منحى آخر، هو المنحى الليبرالي، الذي تعسف القاضي قاسم المهزع في التصدي له ؛ حتى وصل به الأمر إلى التهديد بجدع انف ناصر الخيري، إذا واصل اسئلته المثيرة في بداية القرن العشرين. هنا نجد التبحر والتوسع الذي قام به الباحث في عالم القاضي المهزع، لم يواصله في عالم ناصر الخيري، ولعل محدودية المواد المقدمة عن الخيري، وعدم وجود انشطة واسعة له، بخلاف المهزع، هي التي جعلت توغله محدودا، مقتصرا على التعليق حول أسئلته المقدمة إلى جريدة «المنار» واجوبة المنار عليها، ثم تعليق آخر حول احدى رسائله، وحول بحثه الضائع؛ عن تاريخ البحرين، الذي لم ير النور. ولكن هذا يبين كذلك عدم التوسع في رؤية تنويرية ناصر الخيرى المبتورة، من جراء التعسف السابق ذكره وأجواء التخلف الرهيبة حينذاك. وهنا يبدو هذا الجمع المتردد بين السلفية والليبرالية، أو قل هي السلفية المطعمة بمشاعر ديمقراطية وانفتاحية، متجها لإبراز النهج السلفي التقليدي عن «القاضي الرئيس» وعدم الحماس للوعي الليبرالي النهضوي، كما اضمحل في سيرة الموظف المترجم «ناصر الخيري». في حين كانت سيرة الزائد تضخيماً للطابع الليبرالي المنفتح الذي وصل الى حدود الذوبان فـ«الغرب». هناك إذن رؤية سلفية – ليبرالية توجه الخاطر في تحليله للشخصيات «النهضوية»، فهي تحافظ على المقومات العربية الاسلامية، كما هي مفهومة لدى التيار السلفي المتفتح، عبر تنقيحها وتشذيبها بمعطيات الحضارة الغربية المعاصرة «الإيجابية»، وإذا كان الخاطر لم يصغ، فلسفيا، مثل هذه الرؤية فإننا نلمح بعض عناصرها من خلال البحوث التطبيقية، أو لعل هذه الرؤية راحت تتشكل أثناء التنقيب في المادة التاريخية، وتبدو هذه القلقلة والترددات بين السلفية والليبرالية، ليست خاصية للخاطر وحده، بطبيعة الحال فهي سمة أجيال كثيرة في الثقافة العربية. وقد واصل الخاطر بحوثه وتنقيباته التاريخية، بجهد فردي دؤوب، فاستطاع ان يجهز كتابات للمثقفين البحرينيين في الثلث الأول من هذا القرن، ويتابع تطور المسرحية التاريخية كما تشكلت عند العريض وفي المسرح المدرسي ويكتب بحوثا جزئية حول ظهور المطابع في البحرين الخ … وهذه الجهود كلها تؤكد استمرار الباحث في تسليط الضوء على التاريخ الذي لم يعد مجهولا، كليا، بفضل هذا الجهد الطليعي ..
المؤرخ البحريني مبارك الخاطر يضيء تاريخ الكويت الثقافي المسيرة الصعبة للكتب والمكتبات والثقافة في الخليج
يمثل مبارك الخاطر المؤرخ الأكثر دأبا ونشاطا في إضاءة زوايا التاريخ الثقافي المعاصر المعتمة، في البحرين ومنطقة الخليج عموما، لقد كثرت اصداراته في هذا المجال وتركزت على تسليط الأنوار على الحركة الثقافية والاجتماعية البحرينية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث مثلت «الثقافة» أحد أهم الأشكال والتجليات لنمو الوعي الوطني بعناصره المختلفة، وقد عبرت كتبه «القاضي الرئيس قاسم المهزع»، و«الكتابات الاولى الحديثة لمثقفي البحرين»، و«نابغة البحرين عبدالله الزائد»، وغيرها عن هذا الرصد التحليلي الطويل، بحيث غدا تاريخ البحرين الاجتماعي الثقافي المجهول بشكل كبير، يتجه نحو الوضوح والتبلور. وهو في كتابه الحالي الذي نستعرضه هنا (المؤسسات الثقافية الاولى في الكويت)، والصادر عن دار قرطاس للنشر سنة 1997، يتوجه نحو حقل جديد من حقول البحث التاريخي، وهو رصد بدايات الحركة الاجتماعية والثقافية في الكويت. إن منهج مبارك الخاطر يتمثل في التركيز على بؤر بحثية معينة وكشفها عبر موادها المتوافرة، وغالبا ما تكون هذه المواد فقرات من رسائل وصفحات من جرائد وكتب وشهادات من رجال عاشوا في تلك الفترة المبحوثة. ومبارك الخاطر لا يكشف الفترة المدروسة عبر وضعها في سياقها التاريخي الموضوعي، معتمدا على دراسة تلك الفترة ومشكلاتها وقواها السياسية والفكرية ووضع المنطقة والعالم، فهو يدخل مباشرة الى اللحظة التاريخية وابطالها، معتمدا على أقوالهم وآرائهم عن انفسهم، مستندا الى رسائلهم في اغلب الاحيان، وفي هذا الكتاب الأخير يعتمد على مقتطفات من كتب صدرت حينئذ، واحيانا تكون هذه المقتطفات المستشهد بها كبيرة، بحيث أننا نرى المؤرخ الخاطر يتطابق مع شخصياته المدروسة. وغالبا ما تكون هذه الشخصيات سلفية، بخلاف عبدالله الزائد الذي كان خارج هذا النسق الفكري، وهذه السلفية السائدة يقول عنها الخاطر انها «تجديدية»، و«تنويرية»، لكن نعجز عن امساك وتحديد هذه التجديدية وغيرها من الصفات الكبيرة. الشخصيات السلفية التي رأيناها في الكتب البحرينية هي شخصيات تستعيد مذهبا اسلاميا معينا وتدعو له، كما حدده أئمة سابقون، لكن الشخصيات المعاصرة لا تطرح تجديدا وتحديثا، بل تعتبر ذلك بدعة فضلالة ! هذا المنهج يعيد الخاطر نسجه باختصار على تاريخ الكويت الاجتماعي والثقافي، متوجها مباشرة، وبدون مقدمة تحليلية تضع هذا التاريخ في سياقه ومشكلاته؛ فيتحدث عن ثلاثة انجازات كويتية في مجال النهوض، وهي مؤسسات اهلية موجهة للخدمة الاجتماعية والفكرية وهي «الجمعية الخيرية»، و«النادي الأدبي الكويتي»، و«المكتية الأهلية؛». تبدو هذه المؤسسات التي كونها الشعب الكويتي، وبالتحديد الطبقة الوسطى وخاصة «التجار»، و«الطواشين» مؤسسات منفصلة عن بعضها البعض، غير معبرة عن تحرك اجتماعي سياسي معين، فالخاطر يبحثها كوحدات مستقلة، وليس كتجليات مختلفة لذلك الصعود الشعبي، الذي يحاول أن يتخطى النسيج التقليدي بتخلفه، والوطن بتبعيته للإنجليز.. ولأنه يركز على أقوال وشهادات واشعار الرجال المؤسسين لهذه الحلقات المتعددة المنفصلة، فنحن لا نعرف البنية الاجتماعية المدروسة، التي تتشكل هذه الحلقات لتغييرها، فلا نعرف لماذا نشأت بهذا الشكل دون غيره، ولماذا تجمدت أو انتهت أو تم الحاقها بمؤسسات النظام الاجتماعي؟! فالجمعية الخيرية الكويتية كانت أحد التجليات للصراع السياسي الدائر حينذاك بين الدولة العثمانية والإنجليز، ورغم أن الخاطر يخلط بين توجهات العديد من المثقفين المعروفين وقتذاك كجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومحمد رشيد رضا، حيث مثلوا نزعات ودرجات فكرية مختلفة، فإنه يصل إلى دعوة محمد رشيد التي حث فيها (المثقفين في الخليج على تكوين جمعيات اسلامية ذات نفع عام لخدمة المسلمين كل في بلاده.. لتعزز هذه الخدمة وقوف الخليجيين أمام المد التبشيري الحديث..). والواقع، انها ليست فقط جمعيات اسلامية ذات نفع، بل جمعيات سياسية تابعة للأتراك، تستغل العمل الخيري للتجنيد وتكوين القواعد للحركة من أجل أهداف سياسية محضة. لهذا كانت هذه الجمعيات تشكل تحركها بأثارة الخوف من التبشير. وهو كان وجها للتوغل الاستعماري. لكن كان عداؤها المستمر للتحديث والتجديد، خوفا من انسحاب القواعد الاجتماعية المحلية من سيطرتها. لهذا فلا نستطيع اعتبار هذه الحركة تجديدية؛ إلا بشكل محدود جداً، فهي محافظة بقوة، ولن نجد لها بصمات تغييرية عميقة في البنية الاجتماعية المتخلفة، بل هي ستحافظ عليها، خاصة في مجال الوعي. أن توجه الجمعية الواضح لمساندة الأتراك، وليس لتكوين قواعد نهضوية محلية، يثبت الطابع السياسي الفوقي والخارجي الذي لم يستطع لهذا أن يمد جذوره في التربة الكويتية. لقد انتهت الجمعية الخيرية الكويتية، التي كانت مؤسسة اجتماعية سياسية أكثر منها مؤسسة ثقافية. كان يفترض من الباحث أن يقوم برصد هذا العمل الاجتماعي السياسي، وأن يحلل علاقاته بالجمهور الفقير خصوصا، الذي يقوم بمساعدته وتجنيده، ولماذا لم يتم التوجه إلى تثقيف الجمهور وإصلاح الحياة؟ وهل كانت أدوات الاتجاه السلفي قادرة على ذلك؟ لقد تجمد هذا الاتجاه ولم ينم إلا بفضل مساعدات الإنجليز والقوى المحافظة عموما، لهذا وجدنا الحياة الثقافية والفكرية تحتضن من قبل التيارات الحديثة. ثم يقوم الباحث بتطبيق ذات المنهج الدراسي في قراءة تكون المكتبة الأهلية الكويتية، التي تم تشكيلها سيئة 1922، فوجدنا مسألة المكتبة كحلقة أخرى مفصولة من التطور الثقافي. فما هي علاقاتها بالنزعات الفكرية وصلتها بالصراع الوطني والاجتماعي؟ ان الباحث يغرق هنا في التفاصيل الماساوية لهذه المكتبة، التي تشكلت من بضعة آلاف من الكتب، وتنقلت بين الدور والدكاكين حتى تآكلت وانهارت وغدت (لا تتجاوز المائتي كتاب، معظمها مقطع الأوصال بعد ان كانت اكثر من الف وخمسمائة كتاب) ص 65 . لا نعرف ما هي عناوين هذه الكتب، وخدماتها للمثقفين والحياة الفكرية، وتشكيل الأدب والفن ودورها المعرفي المنتظر.. أن حلقات البحث تتقطع، ولا نرى اللوحة العامة للحياة الاجتماعية الثقافية، ونجد الأعمال الاجتماعية والسياسية تغدو في منهج الخاطر عمالا ثقافية، كما لا نجد المستويات الإبداعية في الأعمال الثقافية. فنحن في الحلقة الخاصة عن النادي الأدبي الكويتي لا نرى دورا أدبيا لهذا النادي وصلاته بالنزعات الثقافية والفكرية، بل سنقرأ مجموعة من الخطب والاشعار التي القيت بمناسبة تشكيل النادي أو التي نظمها بعض المثقفين الكويتيين، خاصة خالد الفرج. لكن ما هي علاقة كل هذا بسياق النادي، ووظيفته لإنتاج الأدب والثقافة؟ هل استطاع النادي الادبي ان ينتج أدبا ام هو واجهة اجتماعية سرعان ما ذابت؟ وما هي علاقته بالشعر والقصة والمسرح؟ لا نجد اجابات عن كل هذه الاسئلة، وسوف يقوم الباحث بوضع قصائد كاملة لبعض الشعراء في الكتاب، دون أن تتم قراءة نقدية وأدبية لهذه الأشعار. ويقوم الباحث باشارات إلى التداخل الاجتماعي والسياسي بين الكويت والبحرين، وتأتي هذه الإشارات مفاجئة، وعرضية، دون ان تتحول الى مقارنة عميقة بين التطور المتقارب والمتباين بين المجتمعين الشقيقين. فالخاطر يعتبر حلقات التطور وإقامة الأندية الثقافية سياقا واحدا، بسبب هذا المنهج العام الذي لا يدخل في التشكيلات النوعية للظواهر، ويقوم بعزلها، وتجريدها، وتشخيصها (أي جعلها شخصية وفردية). فيبدو التاريخان الثقافي والسياسي البحريني والكويتي واحدا. عموما فإننا نثمن جهد المؤرخ مبارك الخاطر وأعماله المتصلة في قراءة تاريخنا المعاصر، ونود ان يواصل جهوده بمزيد من العمق والتنويع، كما نتمنى أن يظهر مؤرخون شباب يستطيعون استكمال هذا الجهد، عبر أدوات البحث الجديدة والمعاصرة.
في كتابه (تدبير المتوحد ) يتوجهُ ابن باجة إلى تعبيرٍ جديدٍ في الفلسفة العربية الإسلامية هو (التدبير) ، ويُقصد به ( ترتيب الأفعال نحو غايةٍ مقصودةٍ ) ، (1 ) وهذا التدبيرُ يتصفُ بالكثرةِ ويُؤخذُ من حيث هو ترتيب ، ويتصفُ بارتباطهِ بالأعمال الكبرى في الحياة ولهذا ( يُقال في ترتيب الأمور الحربية ) ، ( وأشرف الأمور التي يُقال عليها التدبير هو تدبير المدن وتدبير المنزل ) ، (2 ) .
ويتداخلُ تصنيفُ ابن باجة هنا في التدبير مع فلسفتي أفلاطون والفارابي اللذين يذكرهما في الفصل الأول مراراً ، والفلسفتان هما المتعلقتان بالجمهورية أو بالمدن الفاضلة ، ولهذا تأتي ألفاظٌ في هذا الفصل مثل (الصناعة المدنية) و(المدينة الفاضلة) ص 8 ، فتتداخلُ كلمةُ (المنزل) مع المدينة على نحوٍ غامضٍ في تعبيراته التي تمتاز بالتداخل وعدم الوضوح :
(فإن وجوده الأفضل أن يكون مشتركاً ، وكيف صفة اشتراكه ؟ وأما المنزل في غير المدينة الفاضلة ، وهو المدن الأربع التي عدت ، فإن المنزلَ فيها وجوده ناقص وأن فيه أمراً خارجاً عن الطبع ، وأن ذلك المنزل فقط هو الكامل الذي لا يمكن فيه زيادة فلا تعدو ناقصاً ، كالأصبع السادسة ) ، (3) .
من الواضح هنا بأن المنزل هو ( جزءٌ من المدينة ) ص 8 ، وإن ابن باجة يشيرُ إلى رؤية أفلاطون للحياة المنزلية المشتركة ، وللمشاعة الأسرية ، حيث يتمُ إلغاء الملكية الخاصة ، وتتشاركُ المجموعاتُ الأسريةُ في الملكية العامة ، وبهذا فإن تدبير المنزل هو جزءٌ من تدبير المدينة ، وإن المنزل الكامل هو ذو الملكية الجماعية ، ومن هنا نفهم عبارته في هذا السياق الغامض والتي يقولُ فيها : ( إن الزيادة فيه نقصان . وأن سائر المنازل ناقصة بالإضافة إليه ومريضة ، لأن الأحوال التي تباين بها المنزل الفاضل تؤدي إلى هلاك المنزل وبواره ، ولذلك تشبه المرض ) ، (4) .
إن المنزل الاجتماعي الراهن والذي تسودُ فيه الملكية الخاصة واللامساواة هو منزلٌ ليس فاضلاً كما نفهم من نصه ، (فإنه إن خلا منزل من ذلك لم يكن أن يبقى ولا كان منزلاً إلا باشتراك الأسم . فلنترك القولَ فيه ولنعرجَ عنه لمن تفرغ للقول في الأمور الموجودة وقتاً ما .) ، (5) .
ورغم إنه هنا يقولُ بإنه سيدعُ أمر المنزلِ إلا أنه يواصل التعبير عنه بهذا الشكل اللغوي المضطرب ، ويخلصُ إلى القول : (وهو بينٌ أن القول فيه جزءٌ من القول في تدبير الإنسان نفسه) ، (6) .
إن ابن باجة وهو يقطعُ علاقةَ أفكارهِ بأصولها الأفلاطونية لا يوضحُ بأن المقصودَ بها هو نظرة أفلاطون إلى الحياة الأسرية المشاعية ، وأن الأسرة المشاعية هي أساس المدينة الفاضلة التي يتوخى الحديث عنها ، فهي الأساس الأسري والاجتماعي لتكوين مدينة فاضلة انتفت منها الملكيات الخاصة ، وبهذا فهو يعبرُ بالألغاز عن أفكار عبرعنها الفارابي في مدنه الفاضلة سابقة الذكر (7) ، ثم يضطربُ مرة أخرى فيقول : (فمن ها هنا تبين أن القول في تدبير المنزل على ما هو مشهور ، ليس له جدوى ولا هو علم ، بل إن كان فوقتاً ما ، كما يعرض ذلك فيما كتبه البلاغيون في كتب الآداب التي يسمونها نفسانية مثل كتاب كليلة ودمنة ومثل كتاب حكماء العرب ، المشتملة على الوصايا المشورية ) ، .
إنه لا يريدُ أن يعبرَ عن فكرتهِ بوضوح وكون الحياة الأسرية المثالية مرتبطة بإنتاج ملكية مختلفة عن الملكية الخاصة وعن تربية الأطفال السائدة ، فينقضُ نصَـه السابق بكون تدبير المنزل جزءٌ من تدبير النظام الاجتماعي العام ، المراد تشكيله بديلاً عن النظام الفاسد الراهن ، فلا يعرض شيئاً آخر ويتوه في زقاق فكري جانبي ، فلا نعرفُ ما المقصود بإدراج كليلة ودمنة في معرض الحديث عن تدبير المنزل والمدينة ؟
فكليلة ودمنة تتعلقُ بحكايات رمزية ذات هدف إصلاحي يستهدفُ تغيير الدولة والمجتمع من منطلق خاص ، (9) ، لكننا لا نرى تحليلاً يربطُ ما بين وضع الأسرة والمدينة في جمهورية أفلاطون وفي كليلة ودمنة ، حيث يتوجه أفلاطون إلى تشكيل مجتمع مثالي خيالي ، في حين يقومُ ابن المقفع بنقد السلطة المطلقة للأسد – الملك ، وإذا كان كلاهما يتجهان للإصلاح فعلاً فمن منطلقات مختلفة كثيراً ، لكن ابن باجة لا يقومُ في كتابهِ بهذا التحليل ، وهنا نجدُ الثغرات المتعددة التي تــُتركُ بين الأفكار والرموز المحللة والكتب المُستشهد بها .
وسنرى لاحقاً لدى ابن رشد كيف تتم عملية تكميل مشروع ابن باجة هذا ، خاصة من زاوية تحليل جمهورية أفلاطون ، ومقاربتها للمجتمع الإسلامي (10) .
وبعد هذا العرض المأخوذ بتصرفٍ مرتبك من أفلاطون والفارابي ، فابن باجة يتوجه بسرعةٍ شديدة لوصف المدينة الفاضلة بأنها (تختصُ بعدم صناعة الطب وصناعة القضاء) (11) ، دون أن يمهد لعرض طبيعة هذه المدينة الفاضلة إنتاجاً وعلاقات اجتماعية وسياسية ، فيندفع لوصف جوانبها الشديدة المثالية وغير الواقعية وخاصة ما يتعلق بإلغاء علم الطب !
ويعلل ذلك بقوله :
( وذلك أن المحبة بينهم أجمع فلا تشاكس بينهم أصلاً ، فلذلك إذا عري جزءٌ منها من المحبة ووقع التشاكس احتيج إلى وضع العدل واحتيج ضرورة إلى من يقول به ، وهو القاضي ، وأيضاً فإن المدينة الفاضلة أفعالها كلها صواب . . ولذلك لا يتغذى أهلها بالأغذية الضارة . .) ، ( 12) .
إنه وبعد أن عزل الأسس التي أقيمت عليها هذه المدينة الفاضلة يقومُ بعرضِ مزاياها الخيالية ، حيث كمالها غير المبرر يؤدي إلى ظاهرات مثل غياب القضاة والأطباء ، لأنه لا توجد صراعات فيها ، ولا توجد أمراضٌ ويتصور بأن الأمراض كلها ناتجة عن سوء الغذاء ، ومتى ما كان الغذاء صحياً فلا طريق إلى تسلل الأمراض إلى هذه المدينة الكاملة .
وأما المدن الأربع الناقصة فإنه يجري فيها مثل ذلك ، وهنا لا ندري عبر هذا الكتاب ما هي المدن الأربع ، فالمؤلف لم يعرض كما قلنا بتسلسلٍ واضح أفكار المعلمين السابقين الذين يستقي منهما هذه الأفكار .
وهكذا يقارن بشكلٍ متكررٍ ودائم ومتقطع ومتداخل بين هذه المدن الأربع والمدينة الخامسة – النموذج المطلوب ، فالعادات السيئة والشريرة كالكذب والفساد كلها في المدن الأربع ، ويمثل (النوابت) الشكل الاجتماعي الغامض لكل هذه الشرور :
(فبينٌ أن من خواص المدينة الكاملة أن لا يكون فيها نوابت ، إذا قيل هذا الاسم بخصوص ، لأنه لا آراء كاذبة فيها ، ولا بعموم ، فإنه متى كان ، فقد مرضت وانتقضت أمورها وصارت غير كاملة) ، (13) .
ونظراً لسيادة المدن الناقصة فإن التغيير كما يراه ابن باجة يكون عبر تشكل نموذج أفراد هو الذي أطلق عليه اسم كتابه (تدبير المتوحد) فهؤلاء الأفراد يقومون بفعل التدبير المتوحد الذي يشكل تلك (النظافة) الأخلاقية والاجتماعية الطوباوية التي يدعو لها ابن باجة ، ولكن من الممكن أن يكون المتوحد أكثر من فرد ، وأن يكون ثمة متوحدون ، (ما لم يجتمع على رأيهم أمة أو مدينة) ص 13 ، فمن الممكن في رأيه أن ينمو هذا التوحد ويشكل فعلاً جماعياً ، ولكن كيف وهم أفراد متوحدون ؟
(لأنهم ، وإن كانوا في أوطانهم وبين اترابهم وجيرانهم ، غرباء في آرائهم ، قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخر هي لهم كالأوطان ، إلى سائر ما يقولونه .) ، (14) .
2 ــ النفس والأخلاق
وبخلاف الفلاسفة المشارقة المسلمين الذين يبحثون صورة الذات الإلهية كما يتخيلونها ويتحدثون عن الفيض الغيبي ، فإن ابن باجة كما رأينا في الفصل الأول يتوجه لبحث معنى عنوان كتابه ، متوجهاً إلى الإنسان المفرد ، كي يدعوه إلى نظرة معينة ، هي أن يكون مختلفاً في مدن الشر والفساد ، وفي الفصل الثاني يكملُ هذا البحث متجهاً إلى بحث النفس والأخلاق.
إنه لا يأتي بجديد أثناء عرضِ أصناف النفس ومستوياتها حيث النفس المغذية والمولــِّدة والنامية ، وكذلك لا يأتي بجديد في العلاقات المتداخلة بين الكائنات ، وكون الإنسان هو تتويج الكائنات الحية كما تطرح الفلسفة الدينية عامة ، كذلك فإن رؤيته لكون الزهد والسمو الأخلاقي هو جوهرُ الكائن الإنساني ، هو أيضاً متابعة للفارابي وغيره ، لكنه يقومُ بالتغلغل في جوانب جزئية لهذا السمو ، عبر رؤية التداخل ما بين (البهيمي ) والإنساني ، ويصيرُ المتوحدُ هنا هو القادر على الصعود المستمر من الأفعال البهيمية نحو الكمال الأخلاقي ، لكن لا نجد ذلك الانسحاب من المجتمع والأنزواء ، كما أن الغيبيات الكثيفة حول النفس لا نجدها لدى ابن باجة بل أن المتوحد هو إنسانٌ داخل الحياة الاجتماعية ، أما النفس الكونية والعجائبية لدى الفلاسفة المشارقة فإنها تغدو هنا مجرد نفسٍ إنسانية فردية بسيطة تسعى للارتفاع بأفعالها عن الخسة وعن الأعمال غير الأخلاقية ، جاعلةً هذه الأفعال الخيرة هي بؤرة وجودها .
هنا نلمحُ الفردَ المنتمي للفئات الوسطى وهو يستشعرُ فرديتــَهُ ويرفضُ المدنَ الأربع الرديئة التي نفاها الفارابي ، لكن ابن باجة لا يتحدثُ عنها بوضوح ، ويظلُ ملتفاً بجملٍ غامضة ، داعياً الأفراد المتشابهين (المتوحدين) إلى التماثل الأخلاقي المثالي .
ولا شك أن هذه الدعوة هي بحدِ ذاتها لغةُ تعارضٍ مع الدولةِ منتجةِ الفساد العام ، ولهذا سنلاحظ كيفيةَ تشكل اللغة الفكرية لابن باجة كلغةٍ منولوجيةٍ تلخيصيةٍ تحليلية متقطعة متنامية ، كمحاولةٍ لبلورةِ معنىً نقدي مضطرب .
3 ـــ العقل والصورة
إن ابن باجة يواصلُ تلخيصَ الفلسفة الأرسطية والمشرقية فيتحدثُ في فصل (القول في الصور الروحانية ) عن الروح والنفس اللتين يراهما كتكوينٍ واحدٍ ، ويلخصُ رؤى من سبقوه بقوله :
(والروحاني منسوبٌ إلى الروح . . ويدلون به على الجواهر الساكنة المحركة لسواها ، وهذه ضرورة ليست أجساماً ، بل هي صورٌ لأجسام . .) ، (15) وفي هذا نجدُ استمرارَ رؤية الروح كجوهر ، وليس كعمليات ، ولكن ابن باجة ينعطفُ بالتعبير نحو جانبٍ جديدٍ فهذه الجواهر ليست أجساماً بل صوراً ، أي هي عملياتٌ عقلية داخلية في وعي الإنسان ، وبهذا فإن ابن باجة يفارقُ غيبيات الفلاسفة المشرقيين ويتجاوزُ تشكلَ الروح كما تتمظهرُ في ما وراء الطبيعة وبالشكل اللاعقلاني السائد ، ويحددُ أنواعَ العقول المؤسسة أرسطياً ومشرقياً كالتالي :
(والصورُ الروحانيةُ أصنافٌ . أولها صورُ الأجسام المستديرة ، والصنف الثاني العقل الفعال والعقل المستفاد ، والثالث المعقولات الهيولانية ، والرابع المعاني الموجودة في قوى النقس ، وهي الحس المشترك وفي قوة التخيل وفي قوة التذكر) .
ويكررُ ابنُ باجة ما هو معروف ، ولكنه يعرضُ جانباً منها بصورةٍ جديدة أيضاً ، فالعقل المستفاد هو متممٌ للعقول وللصور المادية في عقل الإنسان ، فهو يتشكلُ عبر تلاقحٍ جدلي بين الأشياء والعمليات وبين الفكرة ، فهو غيرُ منفصلٍ عن مرئيات الواقع ولا عن النمو الفكري الداخلي في الإنسان .
في حين يغدو العقل الفعال هو (الفاعل لها) ص 21 ، أما الصنف الرابع الموجود في قوى النفس والحس المشترك والتخيل (فهو وسط بين المعقولات الهيولانية والصور الروحانية) ، (16) .
يتضحُ هنا كيف أن ابن باجة يعقلن الصورَ والأفكار الروحية الميتافيزيقية ، فيقطعُ الماورائيات الغيبيةَ الكثيفة ، فهو يقولُ عن صورِ الأجسام المستديرة ، وهي الكواكب والنجوم التي تلعبُ دوراً حيوياً في الفلسفة المشرقية : (وأما الصنفُ الأولُ فنحن نعرضُ عنه في هذا القول ، إذ لا مدخل له فيما نريدُ أن نقوله ) ، ص 22 .
إن إزاحة هذا الدور يتم هنا بغموض كذلك ، فهل هو تأجيلٌ للبحث أم إلغاءٌ من التأثير؟
لا نعرف ذلك ، وهو يواصلُ هدمَ غيبيات الفلسفة المشرقية حين يأتي لدور العقل الفعال الذي يأخذُ لديه :
(وإنما نستعملُ في هذا القول الروحاني المطلق ، وهو العقل الفعال وما يُنسبُ إليهِ ، وهو المعقولات . وأسمي في هذا القول هذه المعقولات بالروحانية العامة ، وأسمي ما دونها أي الصور الموجودة في الحس المشترك ، الروحانية الخاصة ، وسيتبينُ بعد ذلك هذا لمَ أخصُ هذا بالخاصة وتلك بالعامة) ، (17).
وإذ لا يهتم ابن باجة بالتشكيل الغيبي للعقل الفعال فهو يهتمُ بتكونه الموضوعي المادي ، فنرى تركاً لمتابعة العقل المفارق وتركيزاً على العقل الأرضي .
فالصورُ الروحانيةُ العامة التي جاءت من العقل الفعال (لها نسبة واحدة خاصة ، وهي نسبتها إلى الإنسان الذي يعقلها . أما الصورُ الروحانية الخاصة فلها نسبتان . إحداهما خاصة ، وهي نسبتها إلى المحسوس ، والأخرى عامة ، وهي نسبتها إلى الحاس المُدرك لها ، مثال ذلك صورة جبل أُحد عند من أحسه . .) ، (18) .
وبعد أن قطع ابنُ باجة العلاقات الغامضة الغيبية بين العقل وما وراء الطبيعة ، فإنه يبحثُ في الفصل الثاني مدى يقينية تلك الصور المعرفية ، ومدى مطابقتها للحقيقة التي تتجسدُ لديه في الواقع .
ولكي تكونُ الصورةُ صادقة فلا بد أن تتجاوزَ ضعفَ الحواس :
(فإن الحسَ قد يكذب . مثالُ ذلك ، حس المحرورين بالأشخاص التي يخاطبونها حسٌ كاذبٌ . وكذا طعم أصناف من المرضى كاذب ، والإنسان بالصور الورحانية المختلطة صادق وكاذب وأفضل الصور الروحانية ما مر بالحس المشترك) ، (19) .
وتمثلُ ذاكرة الحس المشترك الجوانبَ الانعكاسية المباشرة من الطبيعة والمجتمع والأشياء ، ثم تغدو الصورة أقل جسمية في الذاكرة ، ثم تنتفي علاقتها المادية المباشرة في (القوة الناطقة) ، حسب التعبير بالرموز عن الصور .
إن الصورَ تتصاعدُ من الخاص إلى العام : (فإنه كلما وُجدت النسبة الخاصة ففيها جسمية) ، فإذا ارتفعت الجسمية وصارت روحانية محضةً لم يبق إلا نسبتها العامة) .
وإذا كانت الصورُ تتشكلُ عبر الحس السليم فإن ابن باجة يقولُ أيضاً أنها تتشكل عبر الحدس ، ولكن (هذه فلا تكون باختيار إنسان ، ولا له في وجودها أثر يدخلُ في هذا القول . وأيضاً فإنها موجودة في الفرد من الناس في النادر من الزمان ، فلا يتقوم من هذا الصنف من الموجودات صناعة أصلاً ولا نحوه تدبير إنساني ، فلذلك لا مدخل له في هذا القول) ، (20).
فإذا كانت المعرفة الصادقة هي نتاجُ الوعي المباشر والمتصاعد من الحس المشترك إلى اللغة ، فإن الحدس لدى الفيلسوف هو عملية نادرة فردية تتم بشكلٍ غير إرادي ، ولكن هذه الحدوس لدى المحدثين وأصحاب الرؤى: (فهي زائدة على الأمر الطبيعي لكنها مواهب إلهية . وهذه لا يحدث عنها صناعة ، لأنها في الأقل من الناس . بل الأمر الطبيعي هو التوسط ، وهو وجود الظن مختلطاً ، وأفضل هذه الوجودات أن يكون أكثر ظنونه صادقة وأن لا تختلط ، إلا فيما شأنه ذلك ، (21) . فالحدوسُ لا يمكن الاعتماد عليها في بناء نظرة عامة للمعرفة .
تتجهُ نظريةُ المعرفة عند ابن باجة إلى الاعتماد على الحس والمحسوس وتصعيد دورها ، فيقولُ بأن (اليقينية من محمولات الصور الخاصة ، فهي المحمولات التي توجد أشخاصها في الصور الجسمانية ، ولذلك ترك بالحس) ، (22) وهذه العملية المعرفية هي التي تنطلقُ من الحواس التي تتعاونُ مع بعضٍ لتكوين الصور ، ولكنه لا يكتفي بها فقط بل أيضاً يدخل الفكر (وربما احتيج إلى القوة الفكرية كذلك ) ، ص 28 . وكذلك ينشأ القياس من الصور ومن تداخل الوعي ، ص 28.
إذن عبر الحواس والفكر والقياس تتشكلُ المنظومة المعرفية :
(فلذلك إذا اجتمعت القوى الثلاث حضرت الصورة الروحانية ، كأنها محسوسة ، لأنها عند اجتماعها يكونُ الصدقُ ضرورةً ويشاهد العجب من فعلها) ، (23).
إن انفصال الفكر عن الحس قد تتمظهر عنه : (صورٌ غريبة ومحسوساتٌ بالقوة هائلة المنظر وأنفس أحسن كثيراً مما في الوجود) ص 23 ، وعلى هذا النحو من التضخم الصوري – النفسي أدرك الغزالي الأشياءَ ، كما يواصل التحليل ، ثم يصلُ إلى هذه العبارة الخطيرة في الفلسفة العربية الإسلامية :
(ولذلك زعم الصوفية أن إدراك السعادة القصوى قد يكون بلا تعلم ، بل بالتفرغ وبأن لا يخلو طرفة عين عن ذكر المطلق ، ولأنه متى فعل ذلك أجتمعت القوى الثلاث وأمكن ذلك ، وذلك كله ظن ، وفعل ما ظنوا أمر خارج عن الطبع . وهذه الغاية التي ظنوها إذن لو كانت صادقة وغاية للمتوحد ، فإدراكها بالعرض لا بالذات ، ولو أُدركت لما كان منها مدينة ولبقي أشرف أجزاء الإنسان فضلاً لا عمل له ، وكان وجوده باطلاً ، وكان يبطل جميع التعاليم والعلوم الثلاثة التي هي الحكمة النظرية ولا هذه بل والصنائع الظنونية كالنحو وما جانسه ) ، (24) .
عبر (اليقين في محمولات الصور الروحانية بالذات) ، وعبر (الأخبار وتواترها ) (واجتماع القوة الفكرية مع القوة الذاكرة) وأن هذه كلها إذا لم (يتحد مع الحس) : (لم تحضر صورة الشيء كما هو في الوجود) ، ص 30 .
ولكي يغدو متوحد ابن باجة غير متوحد الصوفية عبر هذه النظرية المعرفية التي تكشف العالم الموضوعي ، لا بد له من أخلاقيات مختلفة :
(ونحن إنما نقصدُ فيما نحن بسبيله تدبير المتوحد ، ومن الصور الروحانية الكاذبة يكون الرياء والمكر وقوى أخر شبيهة به ) ، (25) .
تغدو وسائل الكذب والتمويه المتسعملة من قبل القوى المسيطرة فضائل عند المخدوعين بها ، ولهذا فإنهم كما يقول ابن باجة يفضلون معاوية بن أبي سفيان على علي بن أبي طالب ، وفي هذه الانعطافة السياسية الفكرية لدى الفيلسوف تترابط قضايا الوعي الأخلاقي بالبنى الاجتماعية العربية ، حيث كانت كل الرذائل وطرق التفكير المتداخلة معها هي أشكال الوعي والسلوك لدى الأشراف الحاكمين ، في حين تكون لدى المتوحد نقائضها .
فكلما ازدادت الفضائل والمعرفة كلما هيمنت على المتوحد روحانيته لا جسمانيته ، فيغدو التطور الروحي الأخلاقي هو أساس التكوين البشري ، رغم أن ذلك لا ينقطع عن الاهتمام كذلك بالجسد .
والطابع الاجتماعي لدى ابن باجة لعملية تشكل الفضائل والمعرفة واضحة فهؤلاء الجسمانيون المتوقفون عند الحس يتجسدون في هذه الأوصاف :
(التأنق في أنصاف المطاعم والروائح) ، (السُكر ، ولعب الشطرنج ، والصيد للالتذاذ) وبطبيعة الحال فمن يستطيع ذلك هم (الصنف القليل من الناس) .
ولكي يوضح تماماً وجودهم الاجتماعي يقول :
(وهذا الصنف إنما يوجد أكثر في أعقاب ذوي الأحساب . وعلى أمثال هؤلاء ينقطع ثبوت شرف الإنسان . ولذلك إنما ينتقلُ الهولُ عن أجناس الأمم على أيدي هؤلاء) ، (26) .
هذا هو التقييم الفكري – الثقافي لمسيرة هيمنة الأشراف على المعرفة والأخلاق ، فهذه السيطرة تقود إلى فقدان الشرف ، وبطبيعة الحال فإن التدهور (الهول) يتشكلُ عبر هذه السيادة التي تفرغ العرب والمسلمين من ذلك الاهتمام بالمعرفة والسمو بالروح .
ويواصل ابن باجة كشف الطابع الاجتماعي عبر التحديد السياسي لأصحاب الحسب ، فيقول :
(وذلك موجود كثيراً في هذا الزمن الذي كتبنا فيه هذا القول ، وكان في هذه البلاد في سيرة ملوك الطوائف أكثر . وهؤلاء يعرفون بالمتجملين ، وتلقب هذه السيرة بالتجمل ، فلذلك يقال أن التجمل يذهب بالمال ، ويتوسلون به في حوائجهم عن أكابرهم ويهرجون ويمرجون بها) ، (27 ) .
هكذا عبر الزهد والتطلع إلى الجوانب الروحية الرفيعة وترك مباذل المتع ودون إزالة تطلعات الجسد الإنسانية ، يتكشف المثقف التحديثي الطالع من صفوف الفئات الوسطى ، وهو يتوجه للمعرفة ويشكل منهجاً يقوم على (التفكير الاستدلالي والاحتجاج المنطقي ) كما يصف هنري كوربان الفلاسفة اليونان ، وفي مواقع أخرى تلامذتهم العرب المسلمين ، (28)
وهو الآن يتحدث عن الفضائل الأخلاقية والاجتماعية التي سيدها أهلُ الأحساب ، وهو يقرأها بشكلٍ عامٍ تجريدي مثالي ، فهو يواصلُ القولَ عن ذوي الأحساب وأخلاقهم :
(وجميع الآراء المكتوبة والراقية مطبقة على ذم هؤلاء الناس) ، ونلاحظ كلمة (الراقية) تعطينا فصلاً بين نمطين من القوى الاجتماعية ، حيث يغدو أهل الأحساب معبرين عن تدهور اجتماعي ، لا عن رفعة ، وتتجسد عملية التدهور في الوضع المادي المعيشي أولاً عبر الملابس وأحوال المساكن ووضع المأكل والمشرب ، وعبارات ابن باجة هنا عامة غائمة :
(وقليل ما توجد له هاتان مفردتين ، لكنه أكثر من الأول . وإنما عـُدت هذه نبلاً لمواقع الصور الروحانية منها . وعلى أمثال هؤلاء تنقرضُ الدولُ في الأكثر) ، (29) .
وهو يقصدُ هنا بأن الكثير من الناس لديه هذه الصور المعيشية وهي تراها (نبلاً) حيث هي صورة (الرقي) المتعارف عليها ، ونلاحظ هنا الخميرة الفكرية التي ستغدو عند ابن خلدون بؤرة مركزية في تاريخه الاجتماعي .
ومن هذه الصور ما تكون الطبقة الحاكمة به المظاهر ويـُقصد منه الانفعال ، أي التأثير الاجتماعي ، (كلباس السلاح في غير الحرب ومالعبوس وسائر الهيآت النفسانية ، وفي هذا يدخل ما يصنعه الملوك عندما يدخلُ إليهم العامةُ والغرباءُ عنهم كالرسل . .) ، (ومنها ما يقصد الالتذاذ كالشتم والتودد ، والبر ، والهزل داخل في هذا الصنف ، وكثير من الملابس والمساكن التي تيعجب منه) ، (ومنها ما يقصد به الكمال فقط ، وأن عرض فيه بعض هذه فالبعض ، وهي الفضائل الفكرية وهي العلوم والعقل) .
وهو يرى بأن هذه (يـُقصد منها أن تولد في النفس خشوعاً ، فتعقبه الكرامة وسائر الخيرات) ، (30) .
إن كل هذه الجوانب (الأخلاقية) يقصد منها الخضوع ، وتظهر الثقافة الرفيعة في البلاطات هذه كظاهرات جانبية ليست من صلب وظيفتها .
كذلك فإن (العمل الفاضل) جزءٌ من هذه الصورة الأخلاقية المكرسة في عمل النخب والحكومات هذه ، ومعيارها أن تكون للحق والفضيلة ، وهو هنا يستشهد بحديث نبوي حول الهجرة وكذلك حديث (إن الأعمال بالنيات ولكل أمرئٍ ما نوى ) . إن ابن باجة يحول مسار البحث في الأخلاق إلى مسار ديني مثالي ، بدلاً من أن يواصل الحفر في الإرث العربي الإسلامي بالشكل الاجتماعي السابق .
ثم يواصل تعداد الفضائل المشكلة لتطور الروح كالتعليم وصنع المكرمات لذاتها ، ويجعلُ الثقافة الرفيعة تتويجاً لهذه الفضائل : (فقد تلخص أمر المدينة جملةً في العلم المدني ، والروية والبحث والاستدلال وبالجملة الفكرة ، تسعمل في نيل كل واحد منها) ، (31).
4 ـــ السيرة والفكرة
في عرض ابن طفيل لفكر وحياة ابن باجة نقرأ السطور التالية :
( . . ولم يكن فيهم أثقب ذهناً ، ولا أصح نظراً ولا أصدق رويةً ، من أبي بكر بن الصائغ . غير أن شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه ، وبث خفايا حكمته . وأكثر ما يوجد له من التآليف ، إنما هي كاملة ومجزومة من أواخرها ، ككتابه في (النفس) و(تدبير المتوحد) ، (32)
ويضيفُ ابن طفيل انتقادات أخرى لأسلوب ابن باجة المفكك عادة ، ونستطيع أن نضيفَ إليه بأنه أسلوب غامض ومتقطع ومتكرر وهو يغزلُ على معاني أرسطو وكتبه ، ولكنه أيضاً يتوغلُ في قضايا عميقة رابطاً بني الأفكار العامة حو العقل والحياة الاجتماعية ، متجنباً الغيبيات ،محللاً نسيجَ الوعي بشكل فكري ، مقترباً من ربطهِ بشبكة الحياة الاجتماعية ، مبرزاً صوتَ المثقف المعارض لغيبية الصوفية ، (33).
إن كل هذه الجوانب السلبية والإيجابية في أسلوب ووعي ابن باجة تجعله بداية للفلسفة الأرسطية العربية وهي تظهرُ بشكلٍ مدرسي تلخيصي لمنهجية أرسطو ، لكنها تضعُ أساساً للقراءة الموضوعية للطبيعة والمجتمع اللذين غرقا في التبعية لما وراء الطبيعة ، وبهذا فإن تعبير ابن طفيل عن ابن باجة بأنه شغلته الدنيا ، يمكن أن نأخذه كتعبير عن انقطاعٍ مفاجئ لحياته قبل أن تتاح له الفرصة للتعبير ، ويمكن أن نأخذه كشكلٍ تعبيري للصراع بين توجهات ابن باجة العقلانية وتوجهات ابن طفيل الصوفية المنقودة والمرفوضة لدى ابن باجة ، وهذا ما دعاه لنقده بتلك الطريقة .
إن ابن باجة وهو يشكلُ مثل هذا الوعي العقلاني متجاوزاً النصوصية الدينية المحافظة مقدماً للنصوص الدينية رؤية أخرى ناقدة لبذخ أهل الحسب ، وعبر الاستشهادات من القرآن والحديث النبوي ، ورافضاً من جهة أخرى الرؤية الصوفية ، وعبر هذا الحفر في الوسط الاجتماعي المرئي المدروس التي تظهر نوابضه وسببياته من داخله ، لا من الاتصال بالعقل الفعال والفيض من النفس الكلية ، يكونُ قد شكل طريقاً مغايراً لابن طفيل الذي سيعلي من الشطح الصوفي كتتويج للمعرفة ، ويكون قد مهد السبيل لابن رشد كي يعمق هذا المسار الفكري وبشكل واسع ومتين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية الجزء الثالث
المصادر :
(1): (تدبير المتوحد ن ابن باجة ، سراس للنشر ، 1994 ، تونس ، ص4).
(2): (المصدر السابق ، ص 6).
(3): (المصدر السابق، ص8).
(4): (المصدر السابق، ص .
(5):(المصدر السابق ، ص 9).
(6):(المصدر السابق، ص9).
(7):(راجع فصل الفارابي في هذا الكتاب ، فقرة المدن الفاضلة).
(8):(تدبير المتوحد، ص 9).
(9) : (اقرأ في ذلك فصل ابن المقفع في الجزء الثاني من هذا المشروع)
(10):(راجع فصل ابن رشد ، في هذا الجزء).
(11)،(12): (تدبير المتوحد ، ص 10).
(13):(المصدر السابق ، ص 12 . وكان تعبير (النوابت) القدحي قد استخدمه الجاحظ ضمن من استخدمه لتتنديد بالجماعات الدينية المتشددة ، راجع : فصل (من أفكار الجاحظ الفكرية والفلسفية) في الجزء الثاني من هذا المشروع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 2005).
(14): (المصدر السابق ، ص 13).
(15): (المصدر السابق ، ص 20).
(16): (المصدر السابق ، ص21).
(17): (المصدر السابق ، ص 22).
(18): (المصدر السابق ، 22 ).
(19): (المصدرالسابق ، ص 24).
(20): المصدر السابق : ص 25) .
(21): (المصدر السابق ، ص 26) .
(22) : (المصدر السابق ، ص 28 ) .
(23) : ( المصدر السابق ، ص23 ).
(24): (المصدر السابق ، ص 29 – 30).
(25): (المصدر السابق ، ص 31 ).
(26) : (المصدر السابق ، ص 40) .
(27) : (المصدر السابق ، ص 42 ) .
(28) : (تاريخ الفلسفة الإسلامية ، مصدر سابق ، ص 322) .
(29) : (تدبير المتوحد ، ص 41).
(30) : ( المصدر السابق ، ص 43 ) .
(31) : ( المصدر السابق ، ص 57 ) .
(32) : (وضعت دار النشر فقرة ابن طفيل في المقدمة).
(33) : (فتنكب ابن باجة عن هذه الاعتبارات ، وبين أغاليط الغزالي ، واعتبر دعوته للتصوف والعزلة خداعاً للناس وتضليلاً ، لأن العالم العلوي ، لا ينفتحُ للمتصوف المتنسك الواهم ، وانما يطل عليه العقل الباحث عن كمال ذاته ، المصدر : أهلا الفلسفة العربية ، مصدر سابق ، ص 653).
فئات متوسطة أم طبقة؟ عالج العديد من المفكرين والباحثين مسائل التطور العربية التاريخية من بؤرة مركزية غربية، فأطلقوا مصطلح طبقة البرجوازية على الفئات المتوسطة العربية، في حين ان السياق التاريخي والجذور الاقتصادية مختلفة بين هذين التكوينين. فمهدي عامل المفكر اللبناني الراحل يقول: «برجوازيات عربية» في كتابه «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟»، واصبح مصطلح الطبقة البرجوازية شائعاً لضعف التحليل للمسار العربي الأسلامي، وسهولة نقل المصطلحات الأجنبية على أرض فكرية بكر. وقد رأينا على مدار دراسات عديدة في هذه الزاوية وغيرها، أن التاريخ العربي الأسلامي لم يشهد طبقة برجوازية، بل شهد فئات برجوازية أو متوسطة، ولم تستطع هذه الفئات أن تتكون كطبقة. فهي فئات متناثرة غير متبلورة في نسيج اقتصادي قوي، تابعة لقطاعات الدولة، سواء في فئاتها الصغيرة العليا، أم فئاتها المتوسطة، التي غالباً ما تكون تجارية أو إدارية، وكلا الجانبين: الأدارة والتجارة يعيشان بفضل كيس الدولة، ومن هنا كانت مفردات التحديث والاستقلال الفكرية وجوانب الحياة الاجتماعية التحررية محدودة، وصغيرة، وإذا تنامت فإن عصا الدولة كفيلة بإعادتها إلى الحظيرة الإقطاعية. ومن هنا كانت تتعكز كذلك على الفئات المتوسطة العربية من الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية التي كانت لها جوانب اجتماعية أقرب إلى البرجزة من المسلمين. وفي العصر الحديث لم يختلف الأمر، فالفئات البرجوازية العربية لا تستطيع أن تكون طبقة، فهي فئات متوزعة على التبعية لأوجه الأقطاع المختلفة، بل وصل ذلك إلى تبعية فئة المثقفين برؤاها (الحديثة) للإقطاعين السياسي أو الديني. إن عدم تشكل رأسمال صناعي خاص قوي في كل بلد عربي على حدة، يقوم بتجميع ولملمة الفئات الوسطى حوله، وبالتالي يقوم بقيادة السوق المحلية، وتغيير البنية الاجتماعية الموروثة، هو الذي لعب دوره في هذا الفراغ التاريخي، وغياب عمليات الانتقال من التشكيلة التقليدية إلى التشكيلة الحديثة. إن تكون رأسمال صناعي خاص وترافقه مع عمليات ثقافية نهضوية وتحديثية وبالتالي إعادة النظر العميقة في الموروث الدينى التقليدي وتحريره من هيمنة الأقطاعين السياسي والديني، هذا سيجعل الفئات المتوسطة المشتتة الولاء والمبعثرة اجتماعياً وثقافياً تتبلور في تكوين فكري متقارب، يعيد تغيير الحياة الاجتماعية الأسرية والعادات وأنماط الزواج والعلاقات وطرق التفكير.. كان يمكن للرأسمال الخاص المتجذر في البنية الاجتماعية العربية الإسلامية المسيحية أن يشكلها في ضوء العلاقة بالتراث والعصر، أي أن لا تكون ثقافة تابعة أو متخلفة، على السواء، وبالتالي تتشكل لها صلابتها الخاصة في النمو. إن غياب دور رأس المال العربي الإسلامي المسيحي الخاص في إعادة تصنيع البنية الاجتماعية اقتصادياً وثقافياً، هو نتاج إرث طويل عبر التصاق تكوينه بالقطاع العام، الاستبدادي العريق، ولهذا فإنه في الوقت المعاصر وفي الطريق نحو التصنيع والديمقراطية وإنتاج الحداثة العربية، لا بد من رؤية الفئات المتوسطة كفئات لم تتبلور كطبقة، يفصل بين دورها التاريخي المنتظر في إعادة التشكيل الحديث للمجتمعات العربية، وواقعها الراهن ليس فقط اللبس في المصطلحات، وهذه قضية ثانوية، ولكن اللبس في الدور التاريخي. إن تحرير القطاعات العامة من الهيمنة السياسية البيروقراطية المستغلة، وإنتاج ثقافة الحداثة، والعمل لتطور أوضاع الجمهور العامل، وتطوير الصناعة والعلوم، إن كل هذه مهمات تترافق وتتعاضد وتتقاطع أحياناً، من أجل تكون مجتمعات عربية غير تقليدية.
تذبذب الفئات الوسطى تغدو الفئات الوسطى العربية باستمرار هي محط التغير في الحياة السياسية، فهي القادرة دائماً على تغيير المسارين السياسي والاجتماعى، عبر الاتصال والتأثير في القوى العاملة. لكن الفئات الوسطى، في أغلب البلدان العربية تعاني من أزمة مستفحلة، تبدأ فى المظاهر الفكرية المختلفة، فهناك توجه حاد إما إلى الماضي والتراث وإما إلى الثقافة الغربية، وبهذا يمكن أن نرى في العائلة الواحدة أو في مظاهر الحياة اليومية، أكبر مظاهر التبرج أو أكبر مظاهر التستر. وتفهم الفئات الوسطى الحداثة أو الدين، باعتبارهما مجموعة من المظاهر واللباس، فتستطيع أن تكون حداثياً عبر الملابس والأكسسوارات وبعض مظاهر الموضة. في حين أن الماضوي أو الماضوية يعتبر الرجوع إلى الدين والتراث بمجموعة أخرى من الملابس. والأصرار على المظهرية كطريق لتطوير الأمة وتحريرها، شكل من أشكال العصاب النفسي والشلل الفكري. إن الإصرار على المظهرية والتغلغل الواسع فيها يعطي لمريد الغرب أو التراث راحة نفسية بأنه قام بواجبه واستطاع أن يتوازن، في حين أن هذه المظاهر الشكلية هي محاولات للهروب من الأسئلة الحقيقية للحياة والوعى. ولهذا نجد بعض مثقفي الأنظمة يعتبر أن بعض الأشكال الهندسية فى العمران المستوحاة من التراث هي رد على التغريب، وكأن بعض مظاهر الأبنية يمكن أن تكون بديلاً عن غياب بناء وطني قومي وإنساني متكامل، يتشكل من مؤسسات اقتصادية وعمرانية وتعليمية وطنية قومية. ولهذا نجد أن المؤسسات الاقتصادية لهذه الفئات الوسطى مليئة بالقوى العاملة الأجنبية، وخالية من أي انتماء إلى الوطن والعروبة! يتوهم الشكليون من الفئات الوسطى أنهم عبر بعض المظاهر المقطوعة السياق، يحققون الانتماء العميق للتراث وللفضيلة، ويكفي قطعة لباس تُسدل على الوجه لتجعل الرجوع للدين حقيقة قوية، وليس بالقراءات العميقة للتراث واكتشاف آثار ونتاجات العرب والمسلمين في العلوم الاجتماعية والطبيعية وبناء الصناعات والمدن . وفى الجانب الآخر فإن الحداثة عند جماعات وسطى أخرى هي في استيراد آخر الأشرطة للمغنين والسينمائيين ولملابسهم ورقصاتهم وأدوات مكياجهم وإكسسواراتهم. وتتشكل من هذه التضادات أسواق ومصالح، ويقوم المستوردون سواء من التراث أو من الغرب، بإنشاء الدكاكين الملحقة بهذه العمليات الاستيرادية، فتتجاور محلات تصرخ بالأدعية وأخرى تصرخ بأغاني الديسكو، وتتخصص محلات في كتب وترفض كلياً كتباً من نوع آخر، وتتجاور جمعيات إحداها تعيش فى القرن الخامس الهجري وأخرى في القرن الحادي والعشرين، دون أن يسلم أعضاء الجمعيتين على بعضهم بعضا. إن اعتماد المظاهر الشكلية الخارجية يقود إلى غياب مضمون التراث والعصر معاً، والنظرة الجانبية الوحيدة أسهل من التبصر الواسع، والجمع بين الماضي والحاضر، يتطلب فهم الماضي والحاضر بقوة واتساع. إن الفئات الوسطى تتركز فيها هذه التناقضات لأنها متذبذبة حضارياً، واقتصادياً، فلديها إمكانيات مالية وثقافية، وتتطلع للوصول إلى مكانة أكبر، غير أن الظروف الاقتصادية الصعبة تطحنها، فتبحث عن حلول لأزماتها في الاستيراد الفكري المظهري.
جذور تناقضات الوسطيين كما تتناقض آراء فئات وأفراد الفئات الوسطى في الجوانب الحياتية كذلك فإنها تتضاد فى الوعى السياسى. الوعى السياسي هو قمة الوعى المفترض لدى الإنسان، أي حين يجعل من مصالحة الاقتصادية والاجتماعية هدفاً مفهوماً وواضحاً ويقوم بتحقيقه عبر المشاركة في الحياة العامة. إن أغلبية التيارات السياسية هي من صنع الفئات الوسطى، فهذه هى القوى النشيطة فكرياً واجتماعياً، وهي التي تتحرك في التأثير في القوى الأخرى، سواء كانت في الأعلى أم في الأسفل. ومع ذلك فإن هذه الحركية الحادة لا تنتج ثمراً مهماً، بسبب الخيارات الفكرية المتباعدة كثيراً. فهنا أقصى المحافظة الدينية وأقصى اليسار. أقصى درجات التمسك الحرفي بالتراث وأقصى درجات رفضه وإعدامه شكلياً. المحافظ الديني غارق في النصوص الدينية، ويرى العالم من خلالها، وأي شعرة من الخروج عليها هي كارثة تلحق بالناس والعباد، وهو لم يأخذ الإسلام كحركة تغيير اجتماعية كبرى لبشر عاشوا فى ظروف متخلفة وصعبة، لم يأخذ ان الإسلام استطاع أن يشكل جبهة سياسية من أقصى اليمين، من معاوية والزبير وبقية أصحاب الملايين، وحتى المعدمين كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري. إن تشكيل مثل هذه الجبهة السياسية العريضة كان بهدف انتقال حضاري ضخم، وللأسف فإن الأزمنة التالية لم تعرف صندوق الانتخاب بين اليمين واليسار الإسلاميين، بل عرفت التخاصم والحروب. وإذا كان ثمة كلمة ترددت بكثرة لدى المسلمين فهي الوحدة، ومع ذلك فإن العمل السياسي كان يركز على الاختلاف والتنابذ، ولهذا فإن المحافظ الديني المعاصر يكرر شعيرات الاختلاف، ويعجز أن يكون سياسياً بارعاً حديثاً، وبالتالي يخرق ويتجاهل المضمون الأساسي في الإسلام وهو الوحدة. وهذا ما يفعله اليساري المتطرف وبشكل معاكس، عبر عدم رؤيته للمضامين المتوارية في التيارات المعبرة عن فئات وسطى تبحث عن التقدم والتكامل في حياتها الاقتصادية والثقافية، ولهذا فهو اما أن ينجر وراء الجماعات الدينية، عاجزاً عن تطوير وعيها، وكشف المضامين المتوارية للدين ولمشكلاتها المعاصرة، واما أن يرفضها كليةً، وفي الحالين يعجز عن تشكيل وحدة للناس. إن تفكيك علاقات الفئات الوسطى بالشمولية، سواء كانت فهماً سلبياً للماضى، أو تبعية للدول الشمولية المختلفة، سيقودنا إلى بلورة وحدتها على أسس فكرية واجتماعية جديدة، بحيث لا تُؤسر فى نموذج ميت، وفي عقد فكرية، تضيع فرصها في النضال المعاصر وتوحيد القوى الوسطى والناس والأمة. إنه من دون الوحدة وتجميع الصفوف على أسس مواقف عقلانية وديمقراطية للماضي والحاضر، فإن القوى الخارجية والاستغلالية سوف تبلع الجميع. كانت فترات الوحدة للفئات الوسطى المتعاونة مع الناس هي فترات النهوض فى تاريخ الأمة، بدءاً من الثورة الإسلامية التأسيسية التى جمعت الزبير بن العوام وأبا ذر الغفاري، إلى تحالف المعتزلة والزيدية الذي أطاح بالدولة الأموية، إلى عصر النهضة الحديثة الذي جمع الأفندية والفلاحين في تحرير الأوطان.
الفئات الوسطى والانتهازية تعجز الفئات الوسطى الوطنية والعربية عن إنتاج رؤية فكرية وسياسة حديثة مستقلة، فهي دائماً مترددة ومتنقلة بين المعسكرات الاجتماعية القوية في أي مرحلة سياسية أو تاريخية. إن عدم تكوين رؤية ووحدة بين فئاتها، يعود لغياب ثقلها الصناعي والمالي والعلمي المترابط، ولهذا فإن فئاتها تقوم بالتنقل السياسي والفكري المضطرب بين المعسكرات ذات الثقل والجاذبية المالية والسياسية. وفي كل بلد عربي أو إسلامي ثمة تضاريس متباينة لهذا التقلقل، حسب درجات التطور الاجتماعي والتاريخي لكل بلد، ولحظته السياسية الخاصة. في البلدان الخارجة تواً من الأوضاع الشمولية فإن اضطراب هذه الفئات يكون شديداً، ومحاولتها للقفز واختصار المرحلة، يكون كبيراً، بخلاف البلدان التي حققت تطوراً ديمقراطياً نسبياً، والتي نرى فيها تكون الجبهات الديمقراطية وخوضها الانتخابات بقوائم موحدة. وعموماً تقوم سياسات الفئات الوسطى على الانتهازية، فأما أنها تكون مع الدولة المحافظة، بحجة أنها أفضل من الدينيين لأنها حديثة وتمثل التطور، أو تكون مع الدينيين بحجة أنهم يمثلون الشعب. وغالباً ما تُساق هذه الحجج بسبب المصالح المتداخلة بين هذه الفئات والأطراف السياسية القوية.رغم إن الدول المحافظة والدينيين يمثلان القوى التقليدية، الماقبل رأسمالية، إلا أن الفئات الوسطى بأفرادها ومثقفيها ورموزها تتقلقل بين الجهتين. قد تؤدي الوظائف أو الارتباط الاقتصادي أو التجاري أو الفوائد الشخصية، من ( فلسفة ) هذه الانتهازية ووضعها في صيغ أخلاقية براقة. وقد وجد بعض الدينيين في الركون للدولة والتبعية لها، مهما كانت سياستها فاسدة، حججاً استقوها أو زوروها من الدين، حيث يقولون إن المرء لا يجب أن يبات دون دولة أو أمام. وقد كان هذا المبدأ الانتهازي راية عتيقة، حكمت قطاعات من الفئات الوسطى، التي جعلت العيش في مخازن وغنائم الدولة وفتاتها الطريق الوحيد للعيش والصعود.ولون هذا الملالي والتجار والموظفين، وملأ أفواه الشعراء المداحين والمنجمين والمنافقين على مر التاريخ. وبدلاً من حجج الدينيين التقليديين فإن القوى (الحديثة) لديها مبررات في هذه التبعية التاريخية، وأصبحت تجري وراء القطار ( الميري) الحكومي، وإذا فاتها تمرغت في ترابه وكوارثه أحياناً. ولعل شيئاً من الخصخصة مفيد هنا لتحرير هذه الفئات من التبعية للقطاع العام، الخاص في جوهر الأمر، في العديد من الأحيان. كذلك فإن تقليص الموظفين والأعداد الهائلة من الموظفين العموميين ستكون على جدول أعمال التاريخ القادم شاءت أم أبت الحكومات العربية المسترخية في ظل هذا التضخم الوظيفي الذي تحوله إلى خضوع سياسي. عن تضخم المدن وتضخم الأجهزة الوظيفية جزء من هذه الانتهازية التابعة للدولة، حيث يعيش الموظفون والتجار على فتات الدولة، وهو أمر يجري بخلاف تضخم المدن في الدول الرأسمالية، حيث يقوم هذا الأخير على نمو الإنتاج وليس على اساس سرقته كما هو الحال في الدول ما قبل الرأسمالية. كما أن الفئات الوسطى تعيش على فتات الدولة الاقتصادي فهى تدور فى فلكها الفكرى، ولهذا فمفاهيم الحرية والعلمانية والديمقراطة السياسية لا تنمو لدى هذه الفئات خلال تبعيتها للدولة، فهى تغدو دينية وتابعة وغير قادرة على إنتاج الوعى السياسى المتحرر، بعكس الفئات الوسطى الاوروبية التى نمت من خلال قدرتها الاقتصادية خارج هيمنة الدولة. وهى غالباً ما تأخذ جوانب معزولة من مسائل الحرية السياسية، كالحداثة فى الحياة وبعض القيم الليبرالية المفصولة عن الحرية الشاملة، فى حين نراها تذل نفسها فى خدمة الدولة، فهى حداثية من الخارج، اقطاعية فى الجوهر. ويمكن أن نرى تأثير ذلك فى الإنتاجين الفكرى والفنى اللذين يصدران عن هذه الفئات، حيث يغدوان حداثة شكلانية، ويتوجه الوعى السياسى نحو التيارات الدكتاتورية، بحكم تربيتها السياسية الخاضعة والذليلة. وفى جانب الفئات الوسطى التابعة للدينيين أو للاقطاع فى قسمه المذهبى، فإنها ترفض التحديث بدعوى الحفاظ على الأصالة والقيم، وخاصة سمات الديمقراطمة والعلمانية المترابطة، لأنها تقوم بتقطيع صلاتها وشبكة الأقطاع الدينى. إن فئات الموظفين والتجار والمثقفين وجدت فى الصلات المذهبية وحذورها فى الحياة طريقاً للسيطرة على الفقراء، دون إعطاء الفقراء هويتهم الفكرية والاجتماعية المستقلة، وعبر ضباب الوعى الدينى التقليدى يمكن تضييع استقلالية الطبقات العاملة الحديثة. ومن هنا تغدو الفئات الوسطى التابعة للاقطاع المذهبي غير قادرة على إنتاج المفاهيم الحديثة فى الإسلام، أي على تجاوز إرث السيطرة الاقطاعية الطويل فى التاريخ العربي، حدث كانت فئات وسطى سابقة تمارس ذات التبعية فى الماضى للاقطاع. فيجري تداول مفاهيم قديمة تواصل منع تكون المنظومة الحديثة. وإذا أضفنا ان تقسيمات الفئات الوسطى ليست فقط للدولة أو للدينيين، بل لتيارات الدولة، إذا كانت منتحة لتيارات الإصلاح والجمود والمحافظة، وكذلك الدينيين حسىب مذاهبهم، ودرحات فهمهم للدين، أي على مستويات تحررهم من التقليد المحافظ. وكذلك أيضا فإن الانقسامات تتواصل فى التيارات التى تحاول أن تعبر عن الطبقات العاملة، وهى كلها ابنة الفئات الوسطى، وتعبر عنها بدرجات وتتداخل مع القوى الاقطاعية الدينية بدرجات وأشكال معقدة. إن هذا التضخم فى تيارات الفئات الوسطى وكثرة تلاوينها وخلافاتها، الناتجة من خيوط مصالحها الضيقة، يوضح كم هى مهمات طويلة وثقيلة عملية إنتاج وعي ديمقراطى في هكذا فئات. وليست فكرة تحاوز المرحلة الرأسمالية لدى بعض التيارات اليسارية سوى شكل من أشكال هذه الانتهازية، حيث عبرها ترفض الأجابة عن سؤال المرحلة بضرورة نقد وتجاوز الأقطاع، فتقوم بالهروب إلى الأمام، مخفية صلتها بهذا بالقوى الإقطاعية/ المذهبية وتداخلاتها معها. تتجلى انتهازية الفئات الوسطى سياسياً عبر رفض تداول وتطبيق المفردات والشعارات المرفوعة الحديثة، خاصة شعار العلمانية، فهذا الشعار يفكك صلتها بالإقطاعين السياسي والمذهبي، فمع رفعه يجب أن تطرح مختلف المفاهيم الخاصة به، وبالتالي تقوم بإنتاج وعي حديث حقيقي، فتصطدم بالقوى المهيمنة، والتى تستفيد منها، وهى لا تقدر على ذلك بسبب الطبيعة التجارية والإدارية لهذه الفئات الوسطى المتذبذبة. ولهذا تغدو مهمة مركزية في التطور تحرير القطاع الصناعى والاقتصادى الكبير من هيمنة الدول عبر الرقابة البرلمانية أو الإدارة الشعبية أو الخصخصة.
الفئات الوسطى والتبعية المزدوجة في عجزها عن إنتاج الحداثة والتحول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي، تتوهم الفئات الوسطى العربية بأنها حققت الاكتمال أما عبر الانتماء الكامل للتراث أو عبر الدولة الوطنية، التي لم تتشكل حتى الآن، أو عبر الانتماء للغرب. هذه الانتماءات الناجزة الموهومة، هي الوعي الأيديولوجي لفئات تابعة لقوى لارأسمالية أو للاستعمار. وبطبيعة الحال، فإن الفئات الوسطى لا تعبر كجسم اجتماعي موحد، بل من خلال مثقفيها، فهم ألسنتها الناطقة بالوهم الإيديولوجي. في انتمائها للتراث كقوقعة خارج التاريخ والحقيقة، تقيم اكتمالاً ووجوداً زائفاً، هو مجتمعات الفسيفساء الطائفية القديم المتجاوز عالمياص، ولكل طائفة رموزها وتاريخها الخاص وإرثها، وحين تسقط السلطة الدكتاتورية العربية، تكتشف الطوائف بأنها طوائف وليست شعباً واحداً، وبهذا فإن الدولة الوطنية المزعومة المتكونة قبل عقود كالعراق مثلاً يتضح زيفها. ليست ثمة دولاً وطنية عربية كما زعموا طوال عقود، بل تكوينات طائفية تجمعت قسراً، وحين يصل الصراع إلى أوجه تكتشف انتماءها للعصور الوسطى لا للعصر الحديث. حين نقضت الطوائف العربية التاريخ الحديث وأصرت في البقاء فى العصور الوسطى، أي أن تكون دولاً دينية، نفت قدرتها على التحول إلى شعوب واحدة، أي لم ترتض بالاحتكام إلي قوة سياسية وفكرية تصهرها وتحولها إلى أوطان موحدة وشعوباً موحدة. لن تكون هذه القوة سوى الدولة اللامذهبية، الدولة العلمانية، أي حين ترتفع الفئات الوسطى والعاملة إلى مهماتها التاريخية في الوحدة الوطنية، المؤسسة لدول وطنية لا دينية. وهكذا فإن كل دولة عربية تصر على إخفاء تناقضاتها الاجتماعية عبر المذاهب، بدلاً من أن تتيح لهذه التناقضات أن تكشف عن وجهها الاجتماعي، المتعدد الطبقات، ستجد نفسها في حالة تفكك تبدأ جنينية حتى تتفاقم ثم تتفجر. لبنان، الجزائر، السودان، العراق، والبقية تأتي.. تبعية الفئات الوسطى للجهات الماقبل رأسمالية أو للاستعمار، تعبر عن عجزها لاستكمال مفردات الحداثة في: العلمانية، والصناعة، والديمقراطية. أي أن تتحول إلى طبقات برجوازية نهضوية صاهرة للمجتمعات العربية كدول حديثة. ولا يتشكل ذلك إلا بانفكاكها من التبعيات المختلفة، التبعية للإقطاع حين يكون مذهباً سياسياً محافظاً، وليس للإسلام كثورة نهضوية، أو التبعية للغرب حين يكون استيراداً شكلياً، بضائعياً، وليس كقوى إنتاج مادية وفكرية. إن التكون النهضوي الذي يتشكل على الجهتين، الماضي والحاضر، أي بتحرير الدين من قوى الاستغلال السياسي الحاكم والمعارض، و بتحرير الحاضر من التبعية للصناعة الخارجية وبيوت المال الغربية. وهذا لا يتشكل من الدعوات الأخلاقية أو الفكرية، بل من تحرير الصناعة من هيمنة الدول المستبدة، سواء كانت بيروقراطيات مستنزفة للمال العام، أو من غلبة القطاعات الطفيلية. ولهذا فإن لعب القطاع العام دوراً قيادياً لا يتشكل إلا عبر نمو الديمقراطية البرلمانية ومنظمات العمال والبرجوازية المستقلة، كما أن تجذر القطاع الخاص في الصناعة والتقنية الحديثة، لن يحدث إلا بوعي الفئات الوسطى باستقلالها الاقتصادي والسياسي والفكري. هذه كلها مهمات مترابطة، أي أنها تتطلب قوى جبهوية واسعة، وانتفاحاً فكرياص وسياسياً، على العصر والتراث، وخاصة للتقارب بين الفئات الوسطى والقوى العاملة على درب الحداثة المشترك، وهو درب يتسم بالصراع كذلك، بين القوى المتقاربة، لتباين مصالحها ورؤاها. ومن هنا يغدو المعيار للعمليات السياسية العربية مدى دور كل لحظة بتقريبنا من المشروع التحديثي، وكيف نستفيد من القوى العالمية والإقليمية والمحلية في تصعيد نموذجنا، ومصالحنا القومية المستقلة؟
الفئات الوسطى والتضاريس الإقليمية عجزت الفئات الوسطى أن تشكل أوطاناً موحدة، لأنها ارتكزت على بنيان اجتماعي ما قبل حداثي، أو ما قبل رأسمالي، أي يرتكز على العشيرة والطائفة. وهذا ما جعل حدود البلدان غير محمية فكرياً وسياسياً من قبل أهلها، أي إن الارتكاز على القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو القومية المسيطرة أو القومية المنبوذة، يسبق الارتكاز علي الوطن والمواطنين ويعرضهما للدمار. هنا تتشابك تكوينات تقليدية مع أنظمة يُفترض أنها عصرية، وتقوم هذه الانظمة بالمراوحة، بين نظامين: تقليدي غير مُعلن، وعصري غير متحقق، فيفترض رسمياً أن تكون الدولة إسلامية، فتكون واقعياً مذهبية، ويفترض أن تكون لجميع القوميات، لكن الواقع يقول انها للقومية المسيطرة، ويفترض أن تكون جميع الأراضي تابعة لجميع المواطنين، ولكن هذا لا يحدث على صعيد الخريطة الجغرافية. فتجد الدولة مجموعة من الاقاليم المتنابذة. ليس هذا سوي نتاج عصرية غير مكتملة، أو قل إن النظام التقليدي لا يزال يجر أذياله فوق العصر الحديث. هنا نجد الفئات الوسطى التي يُفترض فيها أن تناضل لإبجاد النظام الحديث، تابعة لإقسام ومجموعات وأقاليم النظام التقليدي. فالفئات الوسطى التي استفادت من النظام الدكتاتوري العراقي مثلاً، وتركزت في أجهزة الدولة والتجارة والصناعة الخاصة الخ، تقوم هذه الفئات بالتبعية للنظام الطائفي والعسكري، فتتركز في منطقة جغرافية أساسية هى المنطقة الوسطى، ومن هنا يغيب النضال من اجل المواطنة ومن أجل الوطن الموحد، وكافة أشكال النضال العصري، من تكريس دولة القانون إلى المساواة، ويقوم النظام بإنتاج نقائضها: الطائفية، الإقليمية الجغرافية في القطر الواحد الخ.. ان الفئات الوسطى التي تقود السياسة والثقافة، تغرق في المنظومة التقليدية، إما في المذهبية المعارضة، وإما القومية المنبوذة، وإما العودة للقبيلة وامتداداتها الإقليمية، وبالتالي يتم خرق الوطن من الجهة المضادة، من جهة الفئات الوسطى المعارضة. إن تدمير البلدان العربية يجري من الجهتين، جهة الدولة الطائفية المسيطرة، أو الدينية، أو القبلية، وبالتالي يؤدي هذا إلى استثارة القوي الأخرى للعودة إلى تضاريسها الاجتماعية التقليدية. ويعبر هذا عن سيطرة رأسمالية الدولة، التي توضع في خدمة الإقطاع السياسي المسيطر. إن رأسمالية الدولة هي جهاز محايد يمكن أن يُستخدم في شتى الأنظمة، ويوظف لخدمة طبقات متعددة، حسب هيمنتها على هذا الجهاز. ورأسمالية الدولة حتى لو كانت ثرية فى مثل هذا التضاريس الاجتماعية تقود ذاتها إلى التدهور، لأنها تُستخدم لخدمة شريحة من طائفة، أو منطقة جغرافية بذاتها، أو قومية مهيمنة الخ، مما يؤدي إلى تصدع أساسها الوطني الاجتماعي، فيزول الثراء ويحل الخراب. ومن هنا فإن الآلية الحديثة بديمقراطيتها وعلمانيتها تضع أساساً اجتماعياً مختلفاً لكذا وطن تسوده الطائفية والقبلية والعنصرية، حيث تصبح الدولة خارج المذاهب والعناصر والقبائل، يحكمها السوق الاقتصادي، ومعادلة الصندوق الانتخابي. إن العجز من تحقيق وطن حديث، يؤدي إلى امتداد التخلف والتفكك على الاقطار المجاورة،وهكذا تسود الامتدادت القبلية والطائفية والعنصرية، مما يوسع إطار الأزمة من الوطن غير المتوحد إلى البلدان الأخرى والأزمة الوطنية تصبح أزمة إقليمية. إن أقطاراً مثل العراق وإيران ولبنان الخ.. تقوم بنقل أزمتها الوطنية إلى الخارج، فنودع زمن الحرب الأهلية ونقترب من زمن الأزمة الإقليمية. وتصبح الأقطار العربية والإسلامية مشروعا لأزمات متتالية نطراً لعدم قدرتها أن تكون دولاً وطنية في البدء. وخلال سنوات التحولات السابقة لم يظهر مشروع توحيدي للفئات الوسطى ولقوى النهضة للتخلي عن وعي الطوائف والقبائل للانصهار في وعي المواطنة ووعي الشعب. يقوم المتغربون بالدفاع عن المشروع الغربي لتحديث المنطقه، كما يعمل (القوميون والدينيون الخ..) على إعادة إنتاج المشروع التقليدي، بدعوى الأصاله أو التحرر.. ولهذا نجد البعض يروج لأعلانات الإدارة الأمريكية، كما يهاجم البعض الآخر هذه الأعلانات جمله وتفصيلاً. في أقصى اليمين في الفئات الوسطى، يتمسك الدينيون المذهبيون على تنوعاتهم بالمشروع التقليدي، كل فيما يخص مصالحه وسيطرته، وهذا في حد ذاته، كارثه. أي أنهم يريدون إعادة إنتاج علاقات القرون الوسطى المتخلفة، ببعض التصليحات الديكورية التي لا تمس الجوهر. فيما يريد أقصى (اليسار) نسخ التجربة الأمريكية، وإزاله النظام التقليدي القروسطي . ويمثل العراق الحاله القصوى من الشد والجذب المطبقة على جسد شعب. بين قوى تقليدية تريد الماضي وقوى جديدة لا تمتلك مشروعاً على الأرض. وعلى الأقل ينبغي للأقطار الأخرى التي لم تنتقل إليها العاصفة بعد أن تشكل من المحورين المتصارعين النقيضين، حالة وسط، جبهة ثوابت قومية ووطنية تمنع التدخلات الأجنبية، ومشروعات التغيير بالدبابات. لكن جبهه الثوابت القومية والوطنية تتطلب رؤى تحديثية عميقة، ترفضها القوى التقليدية بدرجة أساسية، فمسائل المساواة بين الرجال والنساء، وتغيير القوانين الماضوية تبعاً لذلك، أي تحديث البنية الاجتماعية التقليدية، تعتبرها مسألة حياة أو موت. وإذا كانت هذه البنية الاجتماعية التقليدية مرتبطة بنظام سياسي متجذر، سواء على صعيد الحكم أو على صعيد المعارضات، وكل هذه مرتبطة بدورها بأنظمة سياسية أخرى، فتغدو المسألة تغيير النظام الأقليمي برمته. لا يوجد نظام سياسي عربي وإسلامي لا يرتبط بالآخر، ولا تتداخل فيه الطوائف والقبائل، فإذن تغيير أي بلد عربي يؤدي بالضرورة إلى أزمه اقليمية، أي أن طابع الحرب والمعارك في بلد واحد يمكن أن تنتقل إلى بلد آخر، أو مجموعه من البلدان. كما أن انتصار قوى التغيير في بلد يستتبعه استشراس المقاومة لدى القوى التقليدية فى بلد آخر، أو مجموعة من البلدان ترى في التغيير خطورة على مصالحها وأنظمتها. إن السلسله متشابكة، لكون العالم العربي والإسلامي يقومان على بنى تقليدية، لم تستطع خلق الوحدات الوطنية داخلها، فهي منظومة واحدة تقوم على أساس اقتصادي / اجتماعي / ديني متقارب. لهذا فإن الورطة الأمريكية في العراق، إما أن تتوجه إلى هزيمة مشروع التحديث الأمريكي، وإعلان عدم قدرته على التغيير الذي طرحه، واما توسع المشروع ليشمل بلداناً أخرى. وهذا مما سيؤدي إلى المزيد من التورط، وإلى المزيد من المواجهات، وإلى المزيد من التغيرات الدوامة. فإذا حدث أن انتقلت المواجهة إلى إيران، وقامت الوحدات الجوية الأمريكية بتفتيت أجهزة الأمن والدفاع الأيرانية، وبالتالي فتح الطريق لعملية إنزال سياسي لإصلاحيين من نوع مختلف، فإن العواقب والمشكلات الناجمه تفوق التصور. وليست عملية المواجهة لمسألة التفتيش على المحطات النووية سوى مقدمات لمثل هذه العمليات السياسية والعسكرية الخطيرة. مثل التطورات والتغييرات والكوارث التي كان يتم التحذير منها قبل أحداث العراق، من الممكن أن تتواصل في بلدان أخرى، وتغدو المسألة تغييرات إقليمية شاسعة، لن تستطيع القوى السياسيه المحلية بتفككها وبعثرتها الواسعه أن تكون شيئاً فيها. إن عدم إسراع الأنظمه التقليدية بالأصلاح العميق، وعدم قدرة القوى السياسية والاجتماعيه أن تستقل عنها، وتكون قوة سياسية إصلاحية مؤثرة، سيعرض المنطقة خلال العقود التالية لعمليات جراحية حادة، ولعل القوى هذه تكتشف بلاهة معارضاتها للتحديث. إن حرب العراق الراهنة هي تجسيد للمواجهات المتوقعة ومستواها (الحضاري)، فالقوى التقليدية تعتزم حرق الأخضر واليابس دفاعاً عن مصالحها، ويغدو العراق لبناناً آخر. إن عدم قدرة العرب والمسلمين على إنتاج قوى وسط إصلاحية واسعة تحقق الديمقراطيه، وهو أمر يعود للتباعد الفكري والسياسي للفئات الوسطى، يجعل العالم العربي والإسلامي بين مرمى النيران للقوى التقليدية من جهة، والقوى الغربيه من جهة أخرى.
الفئات الوسطى والإيديولوجيا تعبر الإيديولوجيا عن رؤية الجماعات السياسية والاجتماعية وهي تعمل لبروز أصواتها ومصالحها. فالتوجهات المتضادة بحدة في العالم العربي والإسلامي، وعدم القدرة على بروز توجه نهضوي وسطي شعبي مؤثر وحاسم في التطور السياسى، يعود لميدانى الاقتصاد والوعي. وإذا كان الاقتصاد قد بدأ في العقود الأخيرة يضع الأسس لنشوء فئات وسطية مؤثرة، فإن الوعي متخلف كثيراً في هذا المجال. وهذا ما يمكن بحثه فى مسألة الإيديولوجيا. وقد أوضحنا مراراً تبعية الفئات الوسطى للهياكل الاقتصادية الشمولية في العالم العربي الإسلامي عبر العصور، وأسباب فشلها فى تكوين الحداثة. لا نستطيع أن نقول بأن الطبقات الشعبية هي التي تصنع التاريخ الإسلامي بشكل مباشر، فما هي إلا أدوات للفئات الوسطى, التي تحركها وتقودها، ففي البدء تصنع بشكل مطول (الأفكار), وفي تتويج الأحداث تصنع الأنظمة. وفي القرن العشرين مرت الفئات الوسطى بمنظومتين إيديولوجيتين متناقضتين هما: الليبرالية، ثم الاشتراكية. إن قفز التطور الفكري والسياسي العربي عموماً من الليبرالية إلى الاشتراكية، من الحريات الواسعه الى الأنظمة المركزية, هو بحد ذاته يطرح مدى جدية الهياكل الفكرية والاجتماعية التي انتقلت من النقيض إلى النقيض، وقد تم الأمر في بضعة عقود. ومن المؤكد بأن الشرائح الاجتماعية التي دخلت الأحزاب والثورات الليبرالية ليست هي تماماً التي شاركت وأسست التجارب الاشتراكية الشمولية فيما بعد، ومن الصعب القبول بأن الذين أسسوا أنظمة البرلمان والدساتير هم الذين شكلوا الدبابات التي احتلت الحياة الاجتماعية فيما بعد. فرواد النهضة والبرلمان هم غير الضابط الذين تولوا السلطات العربية، لكن من الصعب إقامة حواجز بين الجماهير التي شاركت في العمليات الديمقراطية الأولى وتلك الجماهير التي خرجت مؤيدة الانقلابات العسكرية. كذلك فإن الأحزاب القومية والشيوعية والدينية التى ازدهرت بفضل البرلمانات هي التي أججت النزعات الدكتاتورية التي انصبت على رؤوسها أكثر مما انصبت على الآخرين. لكن ما هى العناصر الفكرية التي أججت ذلك وساهمت في القضاء على التجارب الديمقراطية الأولى؟ تعود أغلب الاتجاهات الدكتاتورية إلى فئه المثقفين المتحدرين من الفئات الوسطى، وقد أقامت هذه الاتجاهات من هذه الشخوص الدكتاتورية رموزاً وأصناماً معبودة. ونجد ان أبرز فكرة تقوم عليها هذه الاتجاهات هي فكرة التسريع في التطور، وإحداث القفزات، وهي الأفكار التي فتحت بوابة الانقلابات الحكومية والانقلابات المضادة. فلدى هذه الرموز سعيراً داخلياً بضرورة نقض التطور وتفجير الحياة السياسية الداخلية، دون أي حساب لعواقب هذه العملية التسريعية. وهنا نجد ان الزعيم المضطرب نفسياً, والمتعطش للشهرة, والنفوذ، والمحدود فكرياً، هو من يلعب هذه اللعبة ا لانقلابية الأولية، وتجد هذه الأفكا ر صداها في الجماعات الشعبية المأزومة والمحدودة الثقافة, بل الأمية والجاهلة في أغلب الاحيان، وهي التي يستخدمها الانقلابيون فيما بعد، بعد انتصارهم كغوغاء مثيرة للشغب ضد الديمقراطية، كما فعل الانقلابيون في أزمة مارس ١٩٥٤ في مصر, وكما فعل الانقادبيون الجزائريون ضد سلطة أحمد بن بله. تقوم الاتجاهات الشمولية بتركيز العمل الفكري في الأوساط المأزومة والمتخلفة اجتماعياً وفكرياً، بحيث تتسرب أفكارها المعادية للديمقراطية من الجمهور المعادي للحداثه والديمقراطيه, إلى الجمهور العادي، بحيث يتقبل هذا الترياق المسموم. وقد فشل العديد من الاتجاهات الديمقراطية العربية في ملاحظة مسألة نمو المعاداة للديمقراطيه هذه، أي كيف يتحول الشعب البسيط الذي هو المقصود بإنجازات الديمقراطية إلى عدو لها؟ تنبع الاتجاهات الشمولية من الفئات الوسطى وكذلك الاتجاهات الديمقراطية المحدودة داخلها. فالاتجاهات القومية والاشتراكية والدينية تشكلت من أفراد بارزين داخل هذه الفئات الوسطى، لكن لماذا اتجهت للدكتاتورية واعتبرت الليبرالية الديمقراطية هي خصمها الأساسي، فهذه هي الإشكالية التاريخية. وإذا كانت هذه الاتجاهات قد ملكت اغلبية التاريخ السياسي العربي في القرن العشرين، فلماذا هذه الجذور القوية للشمولية؟ لقد رأينا الأغلبية الكاسحة من المفكرين القوميين البارين والاشتراكيين والدينيين كلها تتفق على أمر واحد هو العداء للتشكيلة الرأسمالية ورفض اعتبار الليبرالية مرحلة كاملة من التاريخ. فلماذا كل هذه الاتجاهات تخاف من الليبرالية والديمقراطية؟ ولماذا لم تحاول أن تصبر على استثمار المرحلة الليبرالية وتطويرها وتجذيرها؟ وهل هى مصادفات محضة أن تتفق الأنظمة والحركات الدينية الراهنة على رفض الليبرالية وتشكيل أنظمة وحركات شمولية؟ ولكن هل يعود تقويض المرحلة الليبرالية لهذه ا لاتجاهات المعارضة أم أن هناك اتجاهات محافظة تقوم بتغذية هذه الحركات وتصعيدها؟ من الواضح أن الفئات الوسطى التي تحتضن الاتجاهات الفكرية السياسية العربية عامة هي فئات مرتبطة بحياة تقليدية محافظة فى أغلب الأحيان، فالأعمال الأدارية والتجارية غالباً ما تشكلت في حضن الدول، فهذه الأخيرة هي مضخة الثروات والقادرة على تضخيم أو تحجيم الفئات الوسطى، ومن هنا يكون إنتاجها للأفكار انعكاسا لطبيعتها الاجتماعية، فهي تأخذ الموضات الفكرية من قومية واشتراكية ودينية وتلبسها مضمون حياتها التقليدي، والمضمون هو رؤية دكتاتورية للحياة، فهي لا تقوم بإعادة النظر في الأرث الدينى التقليدي، وتشكل علاقة جديدة بين الرجال والنساء، بين الآباء والأبناء، بين الإدارة والمواطن، بين التراث والعصر، فتظل الحياة الأبوية النكورية الإدارية الفوقية مهيمنة، فالتغيرات التي تمت في الخريطة الفكرية هي تغيرات شكلية لم تستطع أن تزيح البنية الإقطاعية الطويلة. وهذه الإزاحة تحتاج إلى عصر ليبرالي طويل. ومن هنا تنزع هذه الفئات إلى القفز على المرحلة الليبرالية لأنها تقوم بتكسيرعظامها المحافظة، فالرجل يخاف ان تتساوى معه المرأة، والآباء لا يريدون المساواة مع الأبناء، والإدارة تريد أن تظل مطلقة على المواطن، ومستثمرو التراث لا يريدون ديمقراطية العصر الخ . . إن البنية التقليدية تقوم بإعادة تكرار ذاتها عبر الأفكار الشمولية المتلونة، فهي تخضع هذه الأفكار القادمة من الغرب لطبيعتها المحافظة، فتكسر مضمونها الديمقراطي إذا كان لها مضمون ديمقراطي، فالماركسيون يستوردون الماركسية الشرقية المحافظة الدينية، ويرفضون ماركسية الغرب الديمقراطية، والقوميون والبعثيون يتتبعون خطى الفاشية والنازيه، ولا يأخذون الحركات الديمقراطية القومية، والدينيون يواصلون خطى الحركات الرجعية القديمة المعادية للإسلام الديمقراطي. إن الأمر لا يعود لمسئولية الأفكار المستوردة، أو المستفاد منها، بل يعود لتكوين البنية الاجتماعية المحافظة العربية، والتي تجير الأفكار لمضمونها التقليدي ونمط حياتها الأبوي اللاديمقراطي. وطبيعة الحال هناك فروق فى مستوى هذه الأفكار ومدى انغلاقها الشديد أو انفتاحها، حيث تصل العملية أحياناً إلى شبه انفراج اجتماعي في حين تصل في حركات أخرى إلى إرهاب اجتماعي واسع النطاق. فقد ركزت الأفكار الاشتراكية الوطنية المختلفة على ازدهار السوق تحت يد الدولة، ووسعت من نطاق الحداثة ولم تتوجه إلى القمع الدموي الواسع كما فعلت الدول الدينية فيما بعد. والتي ركزت على مسائل العبادات والأخلاق مفصولة عن ظروف المواطنين وتطورهم الاقتصادي وحرياتهم فكان أن عجزت عن حماية الأخلاق وحماية الاقتصاد وتطويره. أدركت الاتجاهات الشمولية العربية عموماً إخفاق طريقتها في العمل السياسي والفكري في العقود السابقة، ما عدا الاتجاهات الدينية التي تصر على استنساخ التجارب الشمولية السابقة بعناد أكبر. لكن مع أي تجربة ليبرالية وديمقراطية تتكشف العظام الدكتاتورية لهذه التيارات والتى لا تزال راسخة فى الجسم السياسي والاجتماعى. فنجد ما قلناه سابقاً عن الحمى فى تصعيد الصراعات وتفجير الاحداث المصطنعة، ويتضح عدم الصبر وعدم القبول بأن تسير الديمقراطية داخل هذه الأجسام السياسية / الاجتماعية. فهى تريد الديمقراطية من طرف واحد، بأن تحافظ على جسمها الشمولي والاجتماعي المتخلف، وتمنع التطورات الليبرالية بأن تتغلغل في أعضائها وجماعاتها، فتكون هناك تفسيرات مختلفة ومقلقة بالنسبة لها عن القومية والاشتراكية والدين، فهي تحفظ نسخة واحدة من نظرتها المطلقة، وهذا كله تعبير عن خوفها من تطور الجماعات التي لاتزال تعيش في الحياة التقليدية. ومن جهة أخري فإنها تريد حل كافة الأزمات الاجتماعية والسياسية الطويلة في النظام السياسي دفعة واحدة، وذلك من أجل أن تكون الديمقراطية ديمقراطية خارجية، اًي أن لا تصل إلى تنظيماتها وتكوينها التقليدي، فلا تقوم بدفع ضريبة الديمقراطية بالتحول إلي الحياة الليبرالية، فتريد ديمقراطية ولكن مع هيمنة الحياة الأبوية الذكورية الاستبدادية، تريد ديمقراطية سياسية فوقية لا تصل إلي البيوت وأحوال النساء وتكوينات الأرث والأوقاف ومناهج المدارس الخ.. أي أن الاتجاهات الشمولية تريد ديمقراطية مفصلة علي مقاسها، فلا تعتبرها عملية صراع حضارية طويلة تقوم هي بالتبدل في أثنائها، فتعيد تشكيل حياتها وعلاقاتها وإرثها، وتنسلخ من وعيها الطائفي السياسي، نحو إسلام حضاري ديمقراطي، بل تريد أن تبقى الطائفية والمحافظة الاجتماعية. ولا شك أن مثل هذه المخاوف تغذى من قبل أواسط ترى في الديمقراطية الشاملة تغييراً لأساليبها في الاقتصاد والعيش الماضوية، فتتداخل الخيوط بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، ولهذا تبدو الليبرالية والديمقراطية مكروهة فجأة ويتسع اللغط على فشلها وأضرارها. تعتبر هذه الأوساط بأن الليبرالية حلاً سحرياً، وأنها لا بد أن تحافظ على طرق المعيشة والتفكير والعادات الشمولية السابقة، وإلا كانت هذه الليبرالية كارثة. ومن هنا نجد كيف أن الفترات الديمقراطية تبدو واعدة ومضيئة ثم تتلبس وتنفض الأطراف الشمولية التي ترفض اأن تدفع ضريبة التقدم، مركزة فقط علي بعض الجوانب السياسية الصحيحة ولكن المفصولة عن السياق السياسي العام والتاريخي، وتقوم بتضخيم وشحن هذه الجوانب المنتزعة لتبرير ليس استمرار السير الديمقراطى الطويل والصبور، والذي لا يتشكل إلا من خلال وعي الشعب وإرادته وأصواته، بل تريد أن تقوم الأجهزة الحكومية بعمليات سياسية قيصرية هي شكل واضح لدكتاتورية فوقية. هنا نرى كيف تتحول الجماعات الشمولية الفاقدة للصبر السياسى وعلى التحول الديمقراطي التدريجي إلى جسور للدكتاتورية، لكون هذه الجماعات لا تؤمن بالشعب أصلاً، لا تؤمن بقدرته علي التغيير من خلال صناديق الاقتراع، ومن خلال شبكة التحولات الديمقراطية المتنامية. ومن هنا فإن المغامرات والأعمال اللامسئولة ومحاولات القفز على القانون السياسي والاجتماعي تترافق وكراهية الديمقراطية من قبل المحافظين والذين يخشون من نظام شفاف. إن الجانبين يغذيان بعضهما البعض، ولهذا سقطت العمليات الليبرالية والديمقراطية العربية دوماً، لكون الأطراف الشمولية تتوجه لضرب الديمقراطية من مواقع شتى، لكنها تتفق على القفز على هذه المرحلة، وإلى التوجه إلى الهاوية الدكتاتورية بمختلف ألوانها.
تشتت ممثلي الفئات الوسطى يعبر الصراع السياسي الدائر وطنياً عن تشتت ممثلي الفئات الوسطى، الذين هم الممثلون المكتسحون للناخبين وللناس عموماٌ، وعدم قدرتهم على بلورة خط ديمقراطي عريض ومتماسك، بسبب ولائهم لقوى اجتماعية تقليدية ولأنظمة شمولية. إن ممثلي هذه الفئات الوسطى الصغيرة : مثقفين، محامين، موظفين، تجارا صغارا الخ…، هم الذين ارتبطوا في زمن ما بتوجهات يسارية، ثم فشلت هذه التوجهات بسبب ارتباطها بأنظمة رأسمالية الدولة الرأسمالية الشمولية التي تآكلت وتحولت إلى إقطاع تقليدي عشائري دموي، فلم يستطع ممثلوها المحليون الاحتفاظ بنسيج سياسي وفكري متماسك، فغدوا قطعاً متعددة. إن التبعية للإقطاع الديني ترفدها جملةٌ من الأسباب هي عدم قدرة ممثلي الفئة الوسطى هنا على تشكيل وعي ديمقراطي في صفوفها، فتحول الولاء اليساري إلى الارتباط بأنظمة على شاكلة النظام العراقى السابق، وهو أمر يدمرُ أي مفردات ديمقراطية يمكن أن تنشأ في هذا الوسط، الذي كان من الممكن أن يتجه إلى الليبرالية ومفردات الديمقراطية الحديثة، ولكن الارتباط بالمفردات القومية الشمولية ضبب الرؤية، وقاد إلى نمو الفساد السياسي بانقطاع القمة عن تضحيات القاعدة، وتراثها الكفاحي الطويل. وهو أمر يقودُ إلى المزيد من المغامرات السياسية وتتحول التبعية للإقطاع الديني إلى ما يشبه الانتحار السياسي، من أجل الهروب إلى الأمام وعدم مناقشة هذه التبعية للقوى الشمولية سواء كانت الأنظمة العربية الشمولية أم القوى الدينية المحلية والمناطقية. أما ما تفعله فئات أخرى من القوى الوسطى، وهو الصراع مع الحكومة من أجل إبراز ذواتها الشخصية، ولتأكيد زعاماتها الخاصة، دون أي رؤية لأبعاد هذه التحركات السياسية الخاصة، على مجمل القوى الديمقراطية المشاركة، فكأنها تريد أن تخطف الأضواء وتستبق قضايا لم يحن أوان إثارتها، في حين إن القضايا الأساسية لم يستكمل طرحها وتجذيرها على الأرض. وعموماً فإن قوى الفئة الوسطى هذه نمت على أساس التأييد الديني ودعمه، فهي هنا تحاول مساعدة القوى الدينية خارج البرلمان عبر تأزيم الوضع بطرفيه البرلماني والخارجي. أو أن تقول للشارع الديني أنها تفعل من داخل قنوات النظام ما تعجز عنه القوى الدينية خارج قنوات النظام. إن تبعية كل قوى الفئات الوسطى هذه للدينيين، وعجزها عن إنتاج خطاب ديمقراطي وطني موحد، يتشكل بصبر وبمرحلية طويلة، ليس هو الشكل الوحيد من التبعية التي تقوم بها هذه الفئات للقوى التقليدية، فهناك الغلاة الذي يروجون بأن الحياة السياسية الراهنة ليس فيها أية مشكلات عميقة، ويدافعون عن الحكومة بصورة أكثر مما تفعل الحكومة. لكن من جهة أخرى فإن الفئات الوسطى السياسية المستقلة المتعددة لم تستطع أن تشكل خطاً ديمقراطياً موحداً، يقود إلى الاستقرار السياسي ونمو عملية الإصلاح معاً . وهذا بسبب تشتت الخطوط الفكرية التي اعتبرت كأنها سور الصين العظيم. إن على قوى اليسار الديمقراطي أن تتوحد وتتبلور أولاً، بحيث يكون تقدمها السياسي من خلال برنامجها، وليس بعملية الارتباط بالدينيين، أو النمو تحت مظلتهم، بل عبر طرح البرنامج الديمقراطي التحديثي، المستقل الطليعى المنفتح على كافة قوى المجتمع والذي يمثل الطريق للسير الاجتماعي الممكن. إن تأثر ممثلي الفئات الوسطى الصغيرة خاصة بالدينيين، هو جانب مستمر وتاريخي في هذه الفئات، عبر التأثر بالغالب والسائد، ونسيان طريق التطور الحقيقي المركب والأكثر صعوبة من عمليات التسلق واستغلال الفرص، وهو طريق لا يستطيع شقه سوى الوعي الحديث .
وحدة الفئات الوسطى إن عملية الانشقاقات او إقامة التحالفات السياسية تتعلق برؤية هذه القوى والفئات الوسطى، وكيف ولماذا تتشكل هذه العمليات بين الانفصام والاندماج؟ فممثلو الفئات الوسطى، المنتجون للوعي والنشاط السياسي، يتعلق الأمر بمدى قدرتهم على تمثل طبقتهم، الطبقة البرجوازية، بمدى قدرتهم على فهم حركتها التاريخية، ماذا تريد، وأي نظام تريد أن تشكل ؟ وهناك العديد من الالتباسات الإيديولوجية، التي تؤدي إلى عدم قدرة آرائهم السياسية على بلورة ذلك المنحى الاجتماعي، أي تأتي آراؤهم مناقضة لمضامين فئاتهم التي تعجز عن تشكيل ممارسة نضالية لطبقة رهن التشكل. إن التحاق ممثلي القوميين بالدينيين يعطينا هنا مثالاً على التحاق ممثلي فئات وسطى بالبناء التقليدي، وعدم قدرتهم على إنتاج نظري سياسي يعبر عن مخاض هذه الفئات في التحول إلى طبقة برجوازية ذات تأثير حاسم في البناء السياسي، أي طبقة تعيد إنتاج البناء التقليدي إلى بناء حديث. والعكس قد يحدث في انتقال دينيين إلى مشروع الفئات الوسطى لإنتاج عالم الحداثة، وهذا يتعلق بقدرة المتحولين كذلك على إنتاج مفاهيم الحداثة، أي على كيفية قراءة الإسلام كثورة نهضوية في عصر علماني. إن الخارجين والداخلين يعبرون عن تذبذب الفئات الوسطى، وتداخلها بين القوى الاجتماعية التقليدية التي تمنع تشكل نظام حديث كلياً، ولهذا فانها في حيرة أو لبس وغير قادرة على أن تنتج وعياً ديمقراطياً في مسائل النظام الاجتماعي المطلوب مستقبلاً ، أي في المسائل الجذرية للتحولات في عالم اليوم، والذي يتمحور على قضايا الديمقراطية، والحداثة، والعقلانية ، والعلمانية. لكن ممثلى الفئات الوسطى يصطدمون كل يوم بحدود البنية التقليدية سواء فى قضايا الأسرة وقوانينها، وهي التي تتطلب وصول العلاقات الديمقراطية إلى جذور البناء العائلي، أو بضخامة الملكية العامة الموظفة بشكل تقليدي، أي التي لا يقود فيضها المالي إلى إشاعة وتوسع العلاقات الرأسمالية الإنتاجية. أو في مجالات الثقافة والإعلام حيث تقوم الثقافة التقليدية كل يوم بإعادة عجلة التاريخ للوراء، وإضعاف تقدم الأمم الإسلامية للسير إلى الأمام، أو بالهجوم الإعلامي للثقافة الغربية السوداء، أي تلك الجوانب من الثقافة الغربية الخرافية والاستهلاكية الباذخة، التي تضعف التطور الوطني والثقافة العقلانية في الدول النامية. إن إنتاج وعي ديمقراطي عميق للفئات الوسطى يجمع محاور وشبكات متعددة لإنتاج المعرفة، يتطلب الاستقلالية السياسية عن ممثلى الوعى التقليدي، لكون الاستقلالية السياسية تعبر عن جوهر الطبيعة الاجتماعية لأي طبقة من الطبقات. من هنا يغدو أي انفصال أو اشتراك أو وحدة مرتبطاً بالأهداف البعيدة والعميقة لهذا المخاض الاجتماعي، أي ألا يكون حركة سياسية شكلية، أو خارجية، أو نفعية، بل مرتبطاً بإنتاج فكري عميق. لكن مسائل الفكر وحفر الاتجاهات تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة في سيادة ممثلي الشعارات السياسية، وغياب المفكرين والكوادر الفكرية المتخصصة في الاتجاهات السياسية. بل هناك حتى مخاض في الفئات الدينية نفسها لاكتشاف العصر بادوات فكرية جديدة، وتمنع القوى المرتبطة بالمصالح التقليدية من نمو وتحول هذا المخاض باتجاه الاقتراب من ممثلي الفئات الوسطى الآخرين والتعاون معهم بهدف تقوية مواقع هذه الطبقة في التوسع الصناعي والتجاري الخ..
الفئات الوسطى والموضة تترابط لدى الفئات الوسطى العربية (الإسلامية) المسيحية مسائل المواقف السياسية بالمصلحة وبالدين وبالملابس وبالأشكال البرانية الديكورية. وكما أن التدين لديها مسألة تتعلق بالموضة الرائجة، فكذلك يغدو لباسها جزءاً من هذه الموضة. ففي زمن الحداثة الشكلانية، حيث قوى الإقطاع الديني منحسرة، وطبول الحداثة الوطنية تدق، ومحلات الخياطة مستفيدة من هذا الانحسار فتقوم بخياطة الملابس الحديثة وأغلبها ينحسر عن السيقان، والشعر مطلق السراح، والمرأة وقتذاك مدعوة للخروج والتطور والاشتراك في السياسة، فإن التدين وقتذاك متسامح، والفئات الوسطى مستفيدة من حالات التحديث والتأميم في مصر وسوريا وغيرها من الدول، حيث كانت شعارات النهضة قوية. وهذا كان ينعكس على بقية الدول العربية، التي تشارك في النهضة من خلف الأبواب، ومن هنا كانت المنابر السياسة ومحلات الخياطة تشارك في التحديث، الذي لم يكن سوى شعارات فوقية وملابس خارجية تدعي بالحداثة، وتحت الرؤوس تخلف كثيف. وتغير الموقف حين أخذت الدول النفطية بتراثها البدوي والقروي تهيمن على الساحة السياسية العربية، وهنا برزت قوى الإقطاع السياسي والديني التي كبحت قوى التحديث في الدول العربية الرائدة، وراحت تقاوم فكر النهضة الديمقراطي والتحديثي، ولهذا رفعت لواء التدين المذهبي بمختلف درجاته وبغلواء الخطابات، وارتفعت الذكورية المتصلبة، وتغيرت الأزياء، وتبدلت محلات الخياطة، وازدهرت محلات العباءات النسوية والأحجبة والبشوت والكوفيات. وراحت هذه الأزياء الجديدة وملحقاتها من شوارب غليظة ولحى تدعي احتكار الإسلام، وهي تضخ شذرات من أموال النفط في جيوبها، وتقيم فئات وسطى مستندة إلى الاقتصاد النفطي بدوره الكبير في صنع السلاح والبنوك والربويات المختلفة وفي دعم إسرائيل والقوى الشمولية المختلفة في العالم، ويترافق مع ذلك نمو في الحنفيات المالية المعبأة بشعارات دينية، لسرقة أموال المودعين الفقراء والبسطاء والفئات الوسطى الصغيرة.. ورغم محاولة غلغلة الموضة الدينية المتشددة داخل المدن العربية، وجعل الملابس تحجبُ جسدَ الإنسان كوسيلة لاعتقال روحه ومنع عقله من البحث والنقد والحرية، إلا أن الحداثة الغربية الشكلانية هجمت هجمة أخرى شديدة، واندفعت أشكال الموضة تغزو العالم العربي مرة أخرى وبقوة أشد، وراحت الأجيال الشابة تثور، واندفعت الأشرطة الصارخة والبنطلونات الشعبية والتسريحات الزاعقة والاسطوانات واشتدت هجمة السينما الأمريكية والسيارات الحديثة المعباة بالغناء.. انقسم الشباب بحدة بين خندقين، وهما المعبران عن الصراع بشفافية أعمارهم، وبسبب الطابع الشكلاني العبادي والحداثي الذي يلائم بكارة تجاربهم، وبسبب عدم القدرة العامة عن التحديث والتدين الحقيقيين. تقوم حركة الفئات الوسطى على استغلال الموضة السياسية والاجتماعية الرائجة، وتطوير الدخل عبر الخضوع للسائد والقادر ان يدفع، أما المبادئ فهي تأتي لاحقاً، وتتكيف مع من يمسك بحنفية الأموال العامة، ففجأة تتغير حشود من البشر في ملابسها وشعاراتها، وكأنها تتحرك بأزرار آلية، وهي أغلبها من الفئات الوسطى وخاصةً الشباب، المتأثر بعواطف حادة، لكن لا شيء من هذه الأفكار يغوص عميقاً داخل العقول، وهى مجرد فقاعات تطفو على سطوح الرؤوس؛ مثلما تتبهرج الأجسام بالالوان المزهرة أو القاتمة ثم يأكلها دودُ الأنظمة، وهي قد تكلف حيوات ودماء كثيرة، لكنها لا تحرك شيئاً عميقاً في التاريخ، [وأما الزبد فيذهبُ جفاء.. وأما ماينفع الناس فيمكثُ في الأرض].
وحدة الفئات الوسطى إن الفئات الوسطى هي بؤرة الفعل السياسي للعرب في المجتمعات الراهنة، ويقود التنوع الفكري – السياسي لها إلى تعطل النضال الاجتماعي وتفتيت الصفوف، بدلاً من أن يقود إلى عكس ذلك. والسبب أن التنوع الفكري هذا يؤخذ كرؤى مطلقة، وليس كأدوات للعمل السياسى، كما أن ارتباط القوى العليا من هذه الفئات الوسطى بأجهزة الحكم ودفاعها عنها بالحق أو بالباطل، من الأمور التي تعرقل عملية التعاون بين هذه الفئات الوسطى وتعبيرها عن مطالب الجمهور فى التغيير. وكما أدى احتكار الحكم والثروة إلى أزمة الأنظمة العربية الراهنة، فإن حلحلة هذا الاحتكار، كمرحلة أولى من عملية التغيير، يمكن أن تجنب هذه البلدان تحول الصراع إلى حرب أهلية. إن أيديولوجيي هذه الفئات يطرحون خلفياتهم الفكرية بشكل أحادي استقطابي، فهناك ثنائيات لا تقبل التداخل مثل: الشرق / الغرب، والإسلام/ الحداثة، والحكم الديني/ الحكم العلماني، ومثل هذه المنطلقات تقود إلى تصلب موقفي من شأنه أن يعرقل العملية السياسية، ويضعف التعاون الممكن لتغيير طبيعة السلطات المتكلسة. ولكن الثنائيات الأخطر تتجلى في تفكيك الروابط الوطنية والقومية والإسلامية، كثنائيات الطوائف والأديان والأصول العرقية الخ… وغالباً ما يطرح مثل هذا التصلب من يستفيد من الوضع الراهن، داخل الحكومات وداخل الأحزاب على السواء، بحيث يقود ذلك إلى الشرخ الوطني العميق على مستويي حركتين سياسيتين قطبيتين، مثل صراع الحزب الوطني الديمقراطي والإخوان في مصر، وصراع فتح وحماس، أو حين يتجلى ذلك مذهبياً سياسياً (سنة — شيعة) كما في العراق وأقطار أخرى. وتعبر هذه الثنائيات الاستقطابية عن هزال وسطحية التطور الفكري — السياسي العربي عموماً، وسيطرة السياسيين شبه الأميين على الأحزاب والدول، وعدم سماح هؤلاء بتطور فكري عميق داخل القوى السياسية وبين المثقفين وعلاقاتهم بالجمهور. ويقوم هذا الاستقطاب الثنائي الكبير بجر قطاعات من الجمهور الذي لم تكن له أي صلة بالصراع الفكري إلى حومة الميدان السياسي، عبر استقواء أجهزة الأنظمة والأحزاب بالجمهور العادي، الذي ينقل كل تبسيطاته وجهله ومصالحه وعداواته إلى العمل السياسي. والأخطر حين تكون هذه الأجهزة والأحزاب لها قوى غير منظمة وغير رسمية، تتدخل في الصراع السياسي، معتمدة على «البلطجية» كما حدث فى مصر، أو على الجماعات المسلحة غير المرخص لها كما فى فلسطين؛ والعراق، ومن شأن ذلك وضع التنظيمين الكبيرين أو وضع الحكومة من جهة، والتنظيم المعارض الكبير من جهة أخرى في مواجهة مسلحة. ولو كان التنظيم الكبير المعارض يتشكل من عدة أحزاب أو هو جبهة ديمقراطية، لهان الأمر، نظراً لإمكانية التعددية فيه، ولكن حين يكون التنظيم الكبير تنظيماً واحداً، تسيطر عليه رموز متضخمة وغير قابلة للنقد، ورافضة التعاون السياسي مع الحكومة بل هي لا تفعل سوى مواجهتها وإسقاطها، أو تفكيك سلطتها وشل البلد سياسياً واقتصادياً، فإن مثل ذلك يؤلب قطاعات شعبية أخرى على هذا التنظيم المعارض الذي يكون قد نقلهم إلى حالة خطرة، فيعتبر الوضع تحت سيطرة الحكومة أفضل، وهكذا ينتقل الصراع الحاد إلى الشعب نفسه. ولهذا لا بد من إعطاء البرلمانات المنتخبة فترة زمنية كافية لحلحلة تركز السلطة، من دون أن يعني ذلك تفتتها، وإيجاد أشكال من التعاون بين مختلف الفرقاء، وإجراء عمليات تجديد في السلطة، ونقل اختصاصاتها الاقتصادية إلى المؤسسات المنتخبة والوزارات المستقلة، بحيث تعبر كلها عن تجاوز الاستقطابيات والثنائيات الحادة لخلق نسيج وطني وشبه إجماع على الإصلاح والتقدم.
تقطيع الفئات الوسطى بدلاً من أن تكون الفئات ونخبها الطليعية قائدة لمرحلة التحول إلى النظام الديمقراطي الحديث، يجري إعادتها إلى الوراء، يجري جعلها تابعة للنظام التقليدي، فتصبح ادوات له، في وقت يفقد هذا النظام مشروعيته ويدخل العرب في مأزق تاريخي! فالأنظمة التقليدية التي تملك المال العام ترشي ممثلي الفئات الوسطى وتفسد فكرها الحديث، فتروح تتكيف مع جوانبه العتيقة وفكره السياسي المذهبي وأشكال محافظته. أو تحول هؤلاء الممثلين والمثقفين إلى أبواق في مختلف ميادين الإنتاج الفكري إليها لأنها لا تستطيع أن تنتج فكراً. وهذا إعادة لما جرى في العصور العربية الإقطاعية، حين كان الحكام يحولون إلى ممثلي الفئات الوسطى من أطباء وشعراء وعلماء وغيرهم إلى أدوات للملاط! وقد بدأ انهيار الأنظمة الملكية العربية السابقة في العقود الأولى من القرن العشرين حين أصرت على أن تحكم بشكل مطلق، وتفصل بدلات سياسية دكتاتورية على مقاس أنظمتها الملكية (البرلمانية) و(الدستورية) فلم تجد الجماهير المقموعة عن الوصول إلى الأصوات الديمقراطية والليبرالية والتقدمية إلا الأشكال السياسية المذهبية تفرغ فيها احتجاجها، فكانت الأزمات وصعود القوى الشمولية وكانت الانقلابات. وتقوم هذه الأنظمة نفسها بتوسيع الممارسات المذهبية السياسية ورشوة العديد من المفكرين الديمقراطيين والكتاب لكي يتخلوا عن أفكارهم ويغضوا الطرف عن التلاعبات بالثروة العامة، مركزين نقدهم على ظواهر جزئية أوطارحين ليبرالية عرجاء ! ولهذا لا بد من وقف استنساخ التجربة نفسها في الأنظمة الملكية الجديدة، وإعادة عجلات التاريخ للوراء، ولهذا رأينا أوجه الصرف الباذخة لظواهر نفاقية ومهرجانات الكلام المدحي وتشكيل فرق من شعراء الكذب العام! ويجري تسمين كل منحرف عن خطه السياسي المعارض، ورفعه إلى ذروة السماء، ودفق المال العام في جانب ووقفه عن جوانب أخرى كثيرة. ويجري الأمر نفسه لدى الجماعات المذهبية السياسية والشمولية المختلفة، فكل من أيد مواقف دول بعينها يتم تلميعه وإظهاره في الساحات الوطنية الخاصة، وعليه أن يسكت عن جملة كبيرة من ممارسات هذه الدول القامعة للحريات، وهو في بلده يطالب بأقصى تجليات الحرية! فتجد على سبيل المثال أن الفضائيات مختصة بأسماء دون غيرها، وهذه الأسماء تعزف أنغاماً مدفوعا ثمنها. والحصيلة أن الأنظمة الوطنية والدينية أو الأنظمة الملكية تتقارب فى سياسة واحدة هي رشوة الفكر الحر، وحرفه عن استقلاله، وبالتالى تأجير المنظمات السياسية كما تستأجر فرق الطبالين ومتعهدي الأعراس! وتضع هذه المنظمات السياسية نظارات مختلفة للرؤية، فبلد تراه وردياً وآخر تراه جحيماً، حسب نوع المتعهد المالي لها، فنظام يقوم بقمع مليون شخص لا تقوم بالاحتجاج عليه، وإذا قمع نظام آخر أربعة أشخاص أثارت هذه المنظمات نفسها ثورة عارمة! فليس هناك مصداقية منهجية في مثل هذا النظر السياسي بعد أن تم تخدير مجموعات كبيرة بالرشوة العامة، وبتحويل الأحزاب إلى قطعان تحركها ماراشات موسيقية طائفية، وبالوظائف، وبالقفز إلى المجالس المعينة والمنتخبة، ومن شأن كل ذلك أن يفسد الدساتير الديمقراطية المحدودة حتى الآن، ويحرك نوازع الانقلاب على النظم السياسية المستقرة، ويعبئ الشعوب ضدها من قبل المغامرين السياسيين والعسكريين ومن قبل القوى الأجنبية، أو يصيبها بالسلبية تجاه التحولات وتجاه المشاركة والأيمان بالأوطان.
لا طبقة وسطى بدون عمال فاعلين نحن نحاول هنا الوصول لقوانين التطور الاجتماعي العربي، الذي يتشكلُ فيه حراكٌ سياسي كبير، وتتصاعد على مسارحه المتنوعة الفئات الوسطى، وهي تتذبذب بين الشرق والغرب، بين التراث والحداثة، بين الانتماء لجماهير العاملين وبين الانتماء لأجهزة الدول. وهي تتحرك تبعاً لمصالحها الفردية والفئوية، فهذه المصالح هي الأكثر تأثيراً في عملها وتحولاتها. فحين تدفع لها الدولُ، سواءً كانت دولها أو الدول المؤثرة في المنطقة، فهي تتجمد عند المقولات الدينية المحافظة، رافضة التجديد في الوعي الديني، أو تغيير مناهجها في العمل السياسي الوطني. إن صعودها السياسي هو بفضل تجذر الدول الشمولية الغنية في اقتصاد الشعوب، فهنا يتشكل وعي يميني يرفض الانحياز لليسار، أي للعمال وللنساء، فهما شكلا حضور العاملين والمستغَّـلين في الحياة الاقتصادية. إن المقولات الدينية تصبح مُبهمة، ويتم الابتعاد عن التاريخ الإسلامي النضالي الحقيقي، ثم الوقوف عند الميراث الذي شكلته الحركات التقليدية في التاريخ الماضي. إن الفئات الوسطى المشتتة لا تستطيع أن تقود معركة الاستقلال والديمقراطية والتوحيد، ولا يستطيع قيادتها سوى العمال والنساء. وفي البلدان الأكثر تمزقاً مذهبياً ودينياً كلبنان والعراق والسودان تصبح المسألة أكثر صعوبة، في حين إن البلدان الموحّدة مذهبياً تغدو أكثر قدرة على الاقتراب من ذلك، كالمغرب ومصر. ولا ننسى العواملَ الموضوعية التي تجعل الفئات الوسطى مشتتة، والعمال ضعفاء سياسياً، وهي المتمثلة في الطور الراهن من الصناعة التحويلية، والاستخراجية، وسيادة الحرف الصغيرة والزراعة. أي أنه كلما حدث التطور الصناعي الآلي وانتشرت التقنية وتغلغلت النساءُ في المصانع، تغدو ثمة شروط أكبر لتقدم مهمة اليسار في دفع الفئات الوسطى المشتتة المتضاربة نحو أفق المجتمع الديمقراطي. كذلك لا ننسى المهمات الثقافية في توحيد الفئات الوسطى دينياً، أي بجعلها تساهم في تشكيل ثقافة إسلامية أو مسيحية ديمقراطية، أي ربط الثقافة الخاصة بنا بمسار البشرية المتصاعد نحو التحديث. إن فاعلية العمال لا ينبغي أن ترتبط بمستوى تكنولوجي بشكل آلي، فهذه الفاعلية النضالية تشكلت حتى في زمن الإقطاع الكلي السيطرة، وهي التي عَبرَتْ بالفئات الوسطى الطليعية في أزمنة التحرر والاستقلال السياسي، إلى ميدان السلطة والمنافسة مع الطبقة القديمة، فبدون تضحيات عمال المصانع والطلبة والنساء ما كان ممكناً حصول العرب على الاستقلال الأولي. لكن ذلك الذوبان العمالي في أحزاب الاستقلال القومي لا يجب أن يتكرر في أحزاب (الاستقلال) الإسلامي، وهي المتمثلة في المرحلة الراهنة. فهنا تتدفق جماهير الريف البسيطة لتأييد أحزاب الفئات الوسطى الدينية المشتتة والغيبية. إنها جماهير أقل في التطور الفكري من عمال بداية القرن العشرين العربي، لإنه تم إستدراج تراث عصر التقليد في زمن الدول الاستبدادية القديمة واعتباره هو الإسلام وتحريك هذه الجماهير من خلاله. إن جمهور القرى والحرف المحطمة والتناسل الكثيف وجمهور الشباب الغض ذو خبرة قليلة بمسائل الصراع الاجتماعي، ولكن أصبح هذا الجمهور هو المجدد لنسيج الطبقات العاملة العربية الذي ينبغي تنويره لكي يكون يقظاً في تداخلات القوى الاجتماعية الراهنة. إن استقلال العمال العرب الفكري هو الشرط الأولي من أجل فاعلية سياسية أكبر، ولدفع الفئات الوسطى لتشكل طبقة وسطى قادرة على صنع الحداثة. إن العمال المنضبطين والمضحيين والمتنورين هم القادرون على نقد انتهازية وتذبذب الفئات الوسطى ودفعها لتكون جريئة في مواجهة التخلف والاستغلال. ويستطيع العمال أن يقودوا مجرى التحول السياسي إلى هدف أبعد من الحريات السياسية المجردة ومن رأسمالية التبعية.
قيادة الفئات الوسطى لليسار لايستطيع العمال تكوين صوت سياسي لهم بسبب الظروف الموضوعية والذاتية التي يمرون بها، فأكثر من نصف العمال هم أجانب غير عرب، يصعب التفاهم معهم، وهم عمال مهاجرون أكثر ما يريدون وصولهم إلى لقمة العيش حتى تحت الظروف الأشد قسوة. كذلك فإن منظمات العمال النقابية والسياسية عانت ظروفاً صعبة طوال عقود لم تستطع عبرها أن تشكل أصواتاً ديمقراطية واسعة الانتشار، وقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية دون عدة فكرية كبيرة. كذلك فإن تكوين العمال تكوين لم يُدرس حتى الآن بشكل علمي، لكن من الملاحظ أن كثيراً من عمال المؤسسات الإنتاجية الصناعية الجديدة هم من العمال الأجانب، في حين أن العمال البحرينيين يتركزون في المؤسسات الإنتاجية التحويلية، وفي قطاعات الحكومة. إن العمال هم عادة القاعدة الاجتماعية لليسار، ولهذا دون تكون الطبقة العاملة بصورة بحرينية واسعة، ولعبها الدور الإنتاجي الأساسي، فإن هذا التيار يحتاج لسنوات عديدة من أجل الحضور السياسي المؤثر. إنه بدون تغييرات موضوعية في الاقتصاد والحياة الاجتماعية فلا يمكن تعزز هذا الدور، ولهذا كانت عمليات الصراع الانتخابي تقوم على أعمال فردية في غالب الأحيان، أي على جهود قلة من المتطوعين في حين أن النقابات والجمعيات المهنية لم يكن لها دور في تقوية التيارات الحديثة بل أن حتى الجمعيات السياسية نفسها التي ينتمي لها المرشحون لم ترفدهم بقوة ولم ينزل أصحابها للشارع. ومن هنا فإن الفئات الوسطى في المستويات الدنيا خاصةً هي التي لعبت الدور الأساسي في العملية السياسية الكبيرة، ويعتمد خطابها على إستخدام المفردات المذهبية وعلى الغموض الاجتماعي، فهي نفسها لا تعرف ماذا تريد مستقبلاً، كما أن ثقافتها الاقتصادية محدودة، لكن ينظم تحت لوائها الكثير من العمال الذين يعتقدون أنها تعبر عنهم. ولهذا فإن سنوات البرلمان الحالي تمثل مدرسة وخبرة لهم تجاه هذه التيارات ومدى قدرتها على فهم ظروفهم وعلى الدفاع عن مصالحهم. لا شك إنه من الضروري إسناد النواب المدافعين عن مصالح الجمهور بغض النظر عن توجهاتهم الخاصة، لأن المهم هو تطوير أوضاع الناس، خاصة القوى العاملة الوطنية التي تواجه طوفاناً من المهاجرين المنافسين لها في لقمة عيشها وأجورها وعملها. لا شك أن تطوير الفئات الوسطى للاقتصاد ودفعه نحو الوطنية والبحرنة وقيادة التعليم نحو المساهمة الكبيرة في تشكيل كوادر الصناعة الحديثة وتقنييها وغير ذلك من المهمات المحورية، هي التي سوف تكسب هذه التيارات المذهبية شعبية بين العمال، كما سوف تزداد خبرتها بالظروف الموضوعية للبلد، وإذا لم تفعل ذلك فإن موجة التأييد لها سوف تنحسر وسيبحث العمال والماس عامة عن البرامج الأقرب لتغيير وإصلاح أحوالهم. ومهما كانت الأحوال فإن دور العمال البحرينيين سوف يزداد، عبر نمو الجيل الجديد، وعبر غياب دور أي طبقة إنتاجية أخرى في بلد بلا زراعة ولا حرف صغيرة كثيرة فيه، كما سيزداد نمو هذه المدينة الكبرى باتجاه الحداثة أكثر وأكثر، كما أن دوراً جديداً للنقابات قد أطل هو الدور الإصلاحي العملي المتدرج لحل المعضلات المعيشية والاقتصادية والتعليمية للعمال وأبنائهم. كذلك فإن اليسار لا بد أن ينعطف نحو رؤى جديدة وأن ينتج أفكاره الوطنية المنفتحة على تراث العاملين وأن يشكل توحيداً لهم، وهو التوحيد الذي يمثل النواة الصلبة للوحدة الوطنية. فتمثل الفترة الحالية لحظة التداخل بين الفئات الوسطى وقيادتها للجمهور وبين عملية جديدة ستفرز قيادات جديدة للعاملين ذوي تكوينات سياسية تتجاوز المرحلة السابقة.
تاريخية الطبقة الوسطى لا نعثر في كتاب (رأس المال) على تاريخ الطبقة الوسطى، بل نراها مُنجزة مكتمِلة، فيتوجه التأريخ الاجتماعي إلى العمال. فتاريخية الطبقة الوسطى، عبر تنوع رساميلها، أي عبر تطور بنيتها الداخلية، أمرٌ مفقود، وتغدو مكتملة ناجزة ويُؤخذ ذلك في الكتابات العربية كأمرٍ ثابتٍ، وتنقلُ كعمليةٍ مجهولة إلى المجتمعات الشرقي المختلفة التطور، والتي لها قوانين تطور مغايرة. وبهذا تضيعُ الحقيقة باكتشاف الطبقات الوسطى الغربية، وسيرورتها التاريخية، كما تضيع سيرورة الطبقات الوسطى العربية، لأن ثمة نسخة غربية مستوردة تتكفل بمنع قوى التحليل من العمل والبحث. إن الرأسمالَ الغربي وجدَ نفسَهُ في مجتمعاتٍ مفتتة، وتشكلَّ في منعزلاتٍ ومدنٍ مستقلة، وهو أمرٌ مكنهُ من التطور المستقل والانتقال عبر الأشكال التقنية المثبتة في كتاب رأس المال وهي: مرحلة الحرف، مرحلة المانيفاكتورة، مرحلة التصنيع والثورة الصناعية، وكلُ مرحلةٍ من هذه أخذت قروناً. وتوجه كتابُ رأس المال لدرسِ الطابع التقني لرأس المال، فغيبَّ درسُ التكوين لعناصر رأس المال الداخلية، ولنوعية الرساميل وهي: رأس المال التجاري، والصناعي، والمالي، وبالتالي غيبَّ طبيعة العلاقات التاريخية البنيوية بين هذه الرساميل وتلاحقها وعلاقاتها ومساهماتها المختلفة في تكوين رأس المال الكلي. ولكن نستطيع أن نقولَ بناءً على مصادر أخرى، بأن مرحلة الحرف تضافرت مع رأس المال التجاري كرأسمالٍ غالبٍ، وكانت مرحلة المانيفاتكتورة قد نشأت بعد تضخم الرساميل التجارية وأتجاهها للصناعة، فراح الرأسمال الصناعي يصيرُ الأكبر ويتجاوز الرأسمال التجاري وهنا تتشكلُ الطبقة الوسطى في كل بلد أوربي حسب مستوى تطوره الاقتصادي، ثم تأتي المرحلة البنكية الأكثر تطوراً، فتغدو الطبقات الوسطى قارية فعالمية. وهذا التوصيف أمرٌ نلمحهُ في المصطلحات حيث يسودُ تعبير (التجار) المرحلة الأولى مما يدلُ على سيطرة البضاعة ثم يظهر تعبير (البرجوازية) الذي تجاوز المصطلح الأول، حيث تصاعدت الصناعة التي هي وحدها التي تصهرُ العناصر المفككة وهي الرساميل المختلفة، والعلوم، والقوى العاملة، حيث تجعل نسبها وتوجهاتها مطابقة لتطور الصناعة، التي هي التعبير المركز هنا عن قوى الإنتاج السائدة. إذا كان تطور الطبقة الوسطى الأوروبية تجلى بتلك السلاسة الاجتماعية السابقة الذكر، فهذا بسبب شروط تاريخية كبيرة، فقد كانت القارة الأوروبية من دون دول كبرى مالكة للثروة العامة ومحتكرة لها، وهو شرط كبير له جذور عميقة في التاريخ السابق، كذلك لم يكن للصناعة منافس قاري آخر، فالمواد الخام والرساميل راحت تتوجه لأوروبا، وهذا ما جعل التطور الصناعي يتشكل في مدن حرة راحت تغدو عواصم التاريخ الجديد. لكن هذا أمرٌ مختلف في الشرق بتنوع دوله، فالمرحلة التجارية للرأسمال ظلت مستمرة، مع عجز الرأسمال الصناعي الخاص المتكون من التطور الواسع، لهيمنة الدول، وهي التي تقوم بتبذير المال على البذخ، أو الترحيل الخارجي، فتغدو الصناعة مستنزفة، غير قادرة على تجاوز المرحلة السابقة التجارية، التي تغدو شكلاً آخر للاستنزاف عبر توسعها وتحولها إلى مصدر بذخ وتخريب للإنتاج والتراكم الرأسماليين. فتغدو الفئات الوسطى فئات، وليست طبقة، فلم تطهر فئة صناعية تقوم بصهر الفئات الأخرى وخاصة الفئة التجارية وجعلها مصدراً سابقاً وتراكمياً لها، فلم تستطع إعادة الأنتاج الصناعى الموسع، وتغيير طبيعة العلوم النظرية والثقافة الذهنية، والعائلة الأبوية، والعقلية السحرية. وتأتى الرساميل الأعلى وخاصة الرأسمال المالي لتقوم بزيادة تدهور الرأسمال الصناعي، عبر ترحيل المال للخارج، وتوسيع التجارة الاستهلاكية البذخية، مما يؤدي إلى إضعاف الرأسمال الصناعي من كل الوجوه. فهنا لا تتشكلُ طبقة وسطى، وتظل الفئات الوسطى غير منصهرة في تكوين اقتصادي، فالدول تلعب دور استنزاف الموارد، وتغدو الفئات الوسطى : التجارية – المالية – الصناعية – متضادة متناحرة، تلعب فئتا التمويل (البنوك) والاستهلاك (التجارة) دور خنق واضعاف (الصناعة). وبالتالي فإن العناصر الاجتماعية لا تستجيب لتحولات إيجابية في البناء، فالعلوم عبر الجامعات لا تغدو على علاقة وثيقة بالبناء الاقتصادي وبالمصانع خاصة، والعمالة يغدو أغلبها غير منتج، فثمة حشود في أجهزة الدول تستنزف المال، وتغدو قوة العمل غير متناسبة وغير موجهة للتطور المطلوب، وتتزايد قوى العمل غير المنتج وتمتلئ المدن بالمهمشين وتفتقر الأرياف وتنهار الصناعات الصغيرة، وهي كلها أمورٌ تؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة. استطاعت دول معينة كروسيا والصين التغلب على ذلك حين عمدت الدولتان لخلق الصناعة الثقيلة بقوة، واستخدمت الهند قوة العمل الهائلة الرخيصة والحريات.
فئات تحديثية تابعة للتقليد قال عبدالملك بن مروان للشاعر جرير (لماذا أدخلت في قصيدتك اسم امرأة هي بوزع)، فقد كانت هذه امرأة من العامة، وهو اسم عامي، فهو يرفضُ أن ينزلَ الشاعرُ للعامة، ولكنهُ من جهةٍ أخرى قـَبلَ بقصيدةِ جرير المليئة بالسباب للشعراء وقبائلهم، من أجل أن تحتدم الصراعات بين الناس، فيقوم عبدالملك باستخدام هذه الأشعار في تلهية المواطنين عن ثروتهم الضائعة في خزائنه! هناك سببياتٌ لتعبيةِ الفئات الوسطى للإقطاع، تعود لمستوى التطور، في الزمنِ الأموي كان الرعي وغنائمُ الفتوح، أسباباً لهامشية الفئات الوسطى تجاه الحكام، ومن هنا أضاعَ جريرٌ موهبته الشعرية، وفي العصر العباسي كانت الزراعة والحرف واتساع التجارة أسباباً لضخامة الفئات الوسطى ولكن على ضخامتها لم تستطع أن تغير مجرى الزمن لأن الأمر يتطلبُ صناعة خاصة، وفي بداية العصر الحديث نشأت الصناعة الخاصة وتقدمت الفئات الوسطى العربية في خطابها السياسي واستقلالها، ولكن جاء العسكرُ بسيطرتهم وقمعوها فحطموا استقلالية عقلها وجرأته، ووسعوا دائرة الخضوع والتسليم وهيمنة السلطات، رغم أنهم وسعوا الصناعة العامة، لكن تخريب الديمقراطية والعقلانية كانت لها خسائر فادحة. وقد تم استثمارها في الموجة الدينية التي قامت على أنقاض دول العسكر وترافقت مع تصاعد الثروة في دول الجزيرة العربية والعراق وإيران بنفطهم فتوسع الفكرُ المحافظ وتوسعت الأجهزة في لجم تطور الفئات الوسطى عن الاستقلال، وقدمت ثمار مجتمعات متدنية التطور بمنتوجها الاجتماعي الخرافي والتقليدي كنموذج للبلدان العربية الأخرى التي هرسها العسكرُ! فغدت مهرووسة من جانبين ثورة صناعية مُجهضة، وهجوم رساميل نفطية وبيروقراطية وغربية ومدن مكتظة بالمهاجرين الوطنيين من الريف، أو مدمرة بفعل الحروب الأهلية والأجنبية، فأي عقل يظهر؟! تاهت الصناعة العربية في زمن السيطرة الأمريكية، وتحولت إلى مطاعم أجنبية ومؤسسات تضخ الرساميل نحو الخارج! إن خلق استقلال للفئات الوسطى عن الإقطاعين الديني والسياسي، لا يعتمد على عوامل فكرية فقط، بل يعتمد أساساً على مستوى تطور الصناعة العربية، وهذا التطور له حقب ومراحل موضوعية، ولكي يحدث الاستقلال للفئات الوسطى لابد أن تحصل الصناعة العامة على تملك وطني ديمقراطي، وأن تتجذر الصناعة الخاصة في تشكيل الثروة المحلية من مواد وبشر. ولهذا في زمن هيمنة القطاع العام البيروقراطي على الثروة، يقابله الإقطاعُ الديني في هيمنته على الثروة الروحية. وحين تراوح الفئاتُ الوسطى بالتعبية بين الجانبين يكون زمن هدر الثروتين الاقتصادية والروحية قد تم، خاصة إنها ثروة مواد خام كالنفط والفوسفات في حين أن ثورة التحديث العالمية ستترك الناس بلا تراث. الذين يقبضون من الإقطاع السياسي يعومون الحداثة ويفرغونها، ولهذا فلدينا عشرات من الشاعر جرير، الذين يمدحون أو يسكتون أو يزورون التطور كلية. والذين يقبضون من الإقطاع الديني يحنطون التراث، ويؤبدون المذهبية السياسية باعتبارها قمم الأمة المحنطة في المتاحف. وهو قبضٌ تافه وأمامهم ثروات هائلة من التغيير، ولكن التحنيط يمنعهم من النشاط الخلاق، كما أن ظروفهم أفضل من زمن الدولة الرعوية اللصوصية القديمة، ومع هذا فهم حفظة الشعر العتيق والنثر المسجوع. نفاجئ بأن الشعب الباكستاني في ظل هيمنة عسكرية طويلة تمكن من خلق حزب الشعب، يجمع التحديث والإسلام والديمقراطية وتقودهُ امرأة، وكذلك الشعب الهندي عبر حزب المؤتمر، في حين عجزت الإقطار العربية عن تكوينِ حزبٍ وطني نهضوي واحدٍ يلمُ كافة الشرائح والطوائف ويوجه الأمة أو الشعب لطريق الديمقراطية والحداثة!
حركية الفئات الوسطى وثبات العمال يحتاج العمل السياسي الديمقراطي إلى نشاط الفئات الوسطى الديناميكية عادة، المتحركة، الباحثة عن مواقع قدم لها في الأرض الاجتماعية، وكذلك مبدئية العمال وصلابتهم في النضال. ومن حق أي حركة سياسية أن تعمل في كل أرضها الوطنية وتختار المواقع المناسبة لها، التي تعطيها منتجاً سياسياً أكثر من غيرها، وخاصة تلك المواقع التي لها حضور تاريخي فيها. كانت الانتخابات السياسية قد تجيرت بشكل طائفي خطر من قبل الهيئات المتنفذة حكومياً وأهلياً، وهو مصير سيئ للجميع مع الاستمرار في تجذيره، ولعدم القدرة على إنتاج ثقافة وطنية حديثة. عبرت القوى التقليدية المتسيدة على الأرض عن أفكار قديمة، مثلما أن القوى الجديدة عاجزة عن إثبات جدتها. رغم النشاط الذي تقوم به الفئاتُ الوسطى بطبيعةِ أعمالِها الحرة والوظيفية الحديثة لكنها ترتكز على الجانب التقليدي الفكري، والدعاية والأدلجة ونشاطات المقر. هل تفكر القوى السياسية بالظروف الاقتصادية الصعبة للجمهور؟ هل تحلل أوضاع المدن التي تشتغل فيها سياسياً وظروفها العمرانية والاقتصادية والصحية والبيئية والمرورية؟ هل تعالج مشكلات العمالة الأجنبية وظروفها السكانية والاجتماعية المخلة بتطور البلد وظروفه؟ ما يتم التركيز فيه هو الخطابات السياسية والتحالفات للوصول إلى المقاعد، فليس ثمة خطط اقتصادية، ولا قدرة على معالجة التطور الاقتصادي الوطني برمته، ووضع الخطط البديلة الشعبية للخطط الحكومية. فلابد من تلاقي الجمعيات والتيارات السياسية على خطوط عريضة ترتكز على المطالب العامة، وعلى النمو العقلاني للتيارات، وليس على الاستفادة من الحماسة المؤقتة. يجب طرح مثل هذه الشعارات:
نطالب بمراقبة للشركات العامة وميزانياتها ومداخيلها وكيفية توزيع فوائضها بالصورة المناسبة.
نريد مساندة وإصلاح ومراقبة الشركات والبنوك الكبرى الخاصة لما فيه فائدتها وفائدة الأغلبية العاملة البحرينية.
تغيير أوضاع الخدمات العامة المتراجعة في الصحة والتعليم والبيئة والعمل الخ..
رفع مداخيل الجمهور بالصورة الاقتصادية التالية..
إن القوى الوسطى تتوجه للصراعات فيما بينها لأسباب فكرية لا تهم الجمهور، وبهذا تتصارع طائفياً وسياسياً بشكل غير حضاري، وهو أمرٌ يبدو في الشعارات، وليس ثمة تركيز في الأوضاع الاقتصادية العميقة، لأن دراسة هذه الأوضاع بشكلٍ موضوعي ليس بقدرة أحد التيارات بل تحتاج إلى تعاون جماعي كبير من التيارات المحلية.
التعاون المشترك من قبل القوى السياسية لتقوية الرقابة البرلمانية وجمع المعلومات الواسعة.
والهدف الاقتصادي الاستراتيجي إيجاد تعاون بين القطاعين العام والخاص يستهدف ضبط تطورهما المشترك وتنمية القطاعين ومداخيلهما ورفع مستوى معيشة الناس في ذات الوقت.
إذا وَضعت الفئات الوسطى التي بيدها النشاط السياسي الانتخابي مصالحَ الغالبيةِ العامة من الناس فهي تجذر تياراتها وأفكارها على صعيد حقيقي ومستقبلي بعيد المدى، بدلاً من انتهاز الفرص والوصول إلى الكراسي بغض النظر عن المستقبل واستغلال المشاعر المؤقتة، وهو ما لا يجذر أفكارها مهما كانت.
كما أن من المناسب للقوى العاملة أن تبحث عن مرشحين متجذرين ذوي خطط مستقبلية طويلة، فالاقتصاد يعاني كثيراً، والحكومة تعتمد على ما هو مؤقت، وعلى الإبر البترولية المؤقتة، وتدفق الشركات وفيضها العابر، وحتى الآن لم ينجح الاقتصاد المنوع الذي طـُرحت شعاراتهُ خلالَ عقود طويلة، مما يشير إلى سياسة اقتصادية غير ناجحة على المدى الطويل، سوف تتضح مشكلاتها مع تضاؤل الإنتاج البترولي.
ولم تنجحْ الإبرُ المؤقتة في السنوات الأخيرة والمعالجات القصيرة، والأمور تحتاج إلى تعاون وطني واسع بين قوى الدولة والتجار وأرباب العمل والعمال، تعاون سياسي عميق وليس اتفاقات مؤقتة وعاطفية.
وليس إلى تدفقات عفوية كبيرة تؤدي إلى بعض الدخول وإلى الكثير من الزحام والتضارب وفوضى السوق ونتائجه على ازدحام المواصلات وعلى الخدمات.
كذلك فإن الاندفاع على الموارد المحدودة ليس هو الجانب السليم.
وكذلك التدفق في استخدام الأراضي بأشكال مؤقتة سريعة.
هناك إذًا مشروع حكومي لاستثمار ما هو مباشر وبشكل سريع ومن دون وجود خطط اقتصادية موضوعية مسقبلية بعيدة المدى.
وثمة مشروعات خاصة للنمو الاقتصادي الربحي السريع من دون تعاون ورؤى جماعية ومن دون رؤية لأوضاع الغالبية.
بطبيعة الحال لن يهتم الجمهور العريض بمسائل الخطط المستقبلية وهياكل الاقتصاد وغير ذلك من القضايا المعقدة، بل سوف يطالب بخدمات رخيصة ومكاسب مادية كبيرة، ونواب يحققون له مثل هذه الرفاهية.
وهي أهداف مهمة فهناك دخول كبيرة قادرة على ذلك، وجزء من الرقابة البرلمانية والبلدية والسياسية لابد أن يتوجه لذلك، ولكن هذا لا يكفي من دون رؤية بعيدة المدى، وقوى سياسية ذات إدراك مسقبلي وذات قراءات للاقتصاد وكيفية إصلاحه وشرح ذلك للجمهور لكي تتشكل كوادر مستقبلية فيه تفهم هذه القضايا وتناضل من أجلها.
تيارات وسطى محدودة لا أعتقد إن المعارضات لدينا سوى أشكال من رأسماليات دنيا محدودة، وبإستخدامها الشعارات الدينية الغالبة تكمن في طبقات باطنية إجتماعية لم تتبلور في فئاتٍ وسطى متقاربةٍ موحدةٍ تعملُ على تطوير البنية الرأسمالية السائدة السياسية شديدة التباين والمستويات. الشعارات الدينية الكثيفة تعبر عن تخلف أشكال الوعي التجاري والقانوني. إنها شعارات مسلوقة يمكن أن يرددها الكثيرون، لكنها تعكس إستغلالاً للدين، فلماذا يجهد النائب بالتعرف على قضايا الحياة؟ وحتى قوى الفئات الوسطى الحاصلة على تعليم وعلاقات بالسوق الحديث تريد أن تسوق نفسها بتوزيع النقود. لكن البلد تتطلب علاقة من هذه القوى بقضايا الناس ومعرفة المشكلات وكيفية دعم التطور الإنتاجي للجمهور. فليست الشعارات السياسية مفصولة عن الوجود الاجتماعي لهذه الجماعات، فبعض التجار يطرح تطوير الحياة السياسية الحديثة لكن كيف؟ إذا لم يقم التجار بدعم تطور الريف وبناء مؤسسات إقتصادية ناهضة به كيف يمكن أن يفهموا الناس؟ والأصوات نتاج علاقة سياسية وليست كرماً. إذا لم يدعموا العمالة البحرينية ويوسعوا تطورها العلمي التقني ويكثفوا حضورَها في المرافق السياحية والبنوك وغيرها من المؤسسات كيف يحصلون على دعم العمال في الإنتخابات؟ هل يرتقي وعي الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة إلى أنهم ممثلو طبقة في طور النمو والتشكل، أنهم فئات واعدة تجارياً سوف تصعد، وهم ليسوا ممثلي بلديات، ووعيهم السياسي الراهن سيحجزهم على أنهم مندوبو البلديات في مجلس النواب. لم يقدروا خلال هذه السنوات على القراءة التشريعية السياسية الكفاحية وعلى القراءة الاجتماعية، أي أن يضعوا جانباً مما يكررونه عن الدين، وينظروا للاقتصاد الذي هو في حالات من الارتباك والمستويات غير المنسجمة والتباينات الشديدة في العمالة البحرينية من جهة والعمالة الأجنبية من جهة أخرى، وكيف يمكن تغيير ذلك عبر أدوات التشريع؟ وأن ينظروا للدخول وتحديدها وتوزيعها على الجوانب الرئيسية في الاقتصاد، وأن يكون التقشف في مصاريف الدولة على الجوانب غير المفيدة في تطور الاقتصاد. المطلوب في الواقع الكتل التي هي أقرب للطبقة الوسطى البحرينية القادمة باتجاه الحداثة والوطنية والحرية، أن يظهرَ نوابٌ أقرب لتقديم مشروعات تضبط وتغير الاقتصاد المشتت الملامح نحو إقتصاد وطني على مستويات البنى الإنتاجية والعمالة. أن تتم عملية ترشيد رأس المال باتجاه التحديث الوطني. وتنامي العمالة البحرينية جزءٌ هام من تنامي تطور الاقتصاد، فالعمالة الأجنبية بتوسعها الخرافي الراهن غير المنضبط وغير المدقق فيه، عامل هدر إقتصادي كبير. الفئات الوسطى متباينة أشد التباين في أفكارها، وهذا يعبر عن محدودية الوعي السياسي لديها، فثمة أفكار في أقصى الليبرالية تنادي بحرية المشروع الخاص بشكل كامل، وترفع شعارات مجردة، وثمة الخطابات الدينية التي تجعل من هذه الخطابات ورقة تستر محدوديتها السياسي وعدم فهمها للحياة الاقتصادية الاجتماعية. منحيان سوف يهيمنان على المجلس القادم كما يبدو، وهما معبران عن أن الفئات الوسطى المسيَّسة فقيرةٌ في إطلاعِها، غير قادرة أن تستبصر ضرورة الاصلاح الاقتصادي العميق: تخفيف بنية الدولة الاقتصادية الخدماتية الإعلامية الخ، من أجل نمو القطاعات الخاصة خاصة في ميادين الإنتاج الحديث، ونمو القوى العمالية البحرينية المتطورة تقنياً، وحل الإشكالات الاجتماعية السكنية والتعليمية والصحية المرافقة لتلك التحولات. إمكانية صعود تيارات ذات معرفة بهذه القضايا وقادرة على أن تحول مجلس النواب إلى فاعلية مدركة للواقع والظروف والإمكانيات المتاحة للتغيير، متوقفة على الناخبين، فهل هم يتابعون بعمق، وهل سوف يساهمون في تطور البلد؟ أم انهم يعتمدون على ما يقال، وينجرون للدفع الديني ويُسحبون في باصات للبصم على المرشح الفائز مسبقاً؟ لكنهم هم سوف يتحملون مسئولية هذا التصويت، ولن يجدوا أصواتاً جديدة، ولن يعثروا على قوى علمية تبحث في الاقتصاد والعمالة والأجور والأسعار والقوانين. الكرة الآن في ملعب الناخبين ومدى متابعتهم ومدى مشاركتهم في العملية السياسية.
على طرق تكون الطبقات الوسطى إن تبدأ الجزر والمدن الصغيرة في الخليج بالسير نحو الديمقراطية هو شيءٌ طبيعي من قبائل وجماعات مارست التجارة طوال قرون. ولكن الديمقراطية الكاملة المنجزة مسألة طويلة وتاريخية، والعديد من الدول العربية تسير بهذا الاتجاه. إن تكوينات الفئات الوسطى ضعيفة، ورؤاها محدودة لمستقبلها، والتباينُ الشديدُ في تكويناتِها الفكرية والسياسية هو دليل على ذلك، إنها الآن تستعيدُ المرحلةَ الليبراليةَ المقطوعةَ من قبل المرحلة القومية العسكرية السابقة، وهي إستعادة مبتورة، فهي قفزة عن تلك المرحلة وليس إستكمال لها. لم ترثها، وتراكم على منجزاتها، بل قفزت عنها. يتضح ذلك في تكوينات الجماعات القومية والاشتراكية والدينية التي هي حائرةٌ تجاه المرحلة الجديدة المتداخلة بين ما هو قومي ضائع، وليبرالي هش. الأجواء العربية مستباحة، ودولٌ فقدت إستقلالها الحقيقي، ودول تتجه للتمزق، ودول متشددة تكاد تضيع المنجزات الصغيرة للتاريخ الراهن. فتغدو المرحلة الديمقراطية الليبرالية الهشة الراهنة بحاجة للتوحد والتعاون بين مختلف الدول وفصائل الحياة السياسية. أخطر المشكلات في الفصائل والدول السياسية التي تطرح(الديمقراطية) هو إن سلوكها غير تعاوني وتريد الهيمنة على القوى السياسية الأخرى والبلدان المغايرة لسياستها. تعبر هذه الدول والجماعات عن تغييب قطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية عن الحداثة، وعن المشاركة الحرة في الانتخابات، وتريد قولبتها، وتبقي حياتها الاجتماعية العميقة بدون حريات حقيقية. لا شك أن المرحلة الليبرالية الصاعدة الراهنة تريد صبراً طويلاً من قبل القوى السياسية والجمهور، فإزالة العديد من المخلفات الاجتماعية للعصر السابق تتطلب أولاً تنوراً أي إنتشار ثقافة ديمقراطية، فليست الديمقراطية وجبات سريعة أو حلولاً ضوئية لمشكلات العمال والمزارعين والحرفيين. الديمقراطية في كل بلد هي قدرة أغلبية النواب على رؤية ما هو ممكن من تغيير وإصلاح، كيف يفرزون ما هو سائد وضروري وما هو تحولات جديدة تغير حياة الناس وتطور الاقتصاد والثقافة. لكل بلد ضروراته، أي وجود ميزانيات محددة تعكس طبيعة النظام ومصالحه وأمنه، ولكل بلد عمليات التجديد المطلوبة والنابعة من إمكانياته والتي تخرجه من جموده وتوسع تطوره. وقدرة النواب تكمن في هذا الفرز وقراءة الممكن، وبالتالي تتشكل عملية تعاون بين مختلف الأطراف، لرؤية ما هو مهم لتطور التجارة أو الصناعة، وما هو مهم لتغيير حياة الغالبية الشعبية في عيشها في ظل التطور الوطني العام. إن توسع التنمية والعيش مرهونة بمراقبة أوضاع الاقتصاد وتغيير جوانب الحياة الاجتماعية والعلاقات مع الخارج المُراقبَة والموضوعة عبر فحصٍ بين البناء الاقتصادي الداخلي والعلاقات التجارية المفتوحة التي قد تستنزف الموارد بدلاً من تنميتها. بطبيعة الحال سوف تصطدمُ مكوناتُ النواب بين مدافعٍ عن جمهور وبين داعٍ للتجارةِ المفتوحة بدون رقابة، بين من يحمل الحكومات كل الإشكالية ومن يحملُ الشعوبَ وتدني قدراتها العلمية والإنتاجية، بين من يريد برلماناً كلياً ومن يريد حكومات كلية. هنا تظهر طبيعة الفئات الوسطى المدركة لنظام ديمقراطي تحديثي تعاوني ينشأ مرة أخرى في هذه الليبرالية العالمية الجديدة، والهشاشةُ تكمنُ في عدم المعرفة بين هذه الفئات وعدم التعاون وتشكيل تجربة متكاملة منسقة بين مختلف الأطراف. هنا تظهر إمكانياتٌ لخلقِ الركائز لأوضاعٍ ديمقراطية متجذرة عبر تنامي الفئات الوسطى والعمالية المنتجة والعلمية الجديدة، عبر معرفة الفوائض الاقتصادية وتوزيعها على التطور الاقتصادي. ربما كانت برلمانات عامية أو ذات مصلحة عابرة لكن الشعوب تكونُ تجاربَها بالتجريب، وتخرجُ من بين صفوفها مدركين وعلماء وقادة، يقرأون سببيات التطور الغائرة، ويوجهونها عبر كافة جوانب العمل السياسي. تحسن حياة الجمهور المعيشية هو فيصل لهذه التجارب، فهو ذروة المعرفة السياسية الحصيفة، دون إخلال بالتطور وركائزه، بل يأتي ذلك عبر تنامي هذا التطور الاقتصادي، أي عبر القوانين الحقيقية للاقتصاد والسيطرة عليها، وليس عبر نثر النقود بأشكال إحسانية. أي كيف تزداد العمالة المتطورة الرفيعة والأجور الفعلية وتُضبط الأسعار الذاتية غير المعبرة عن قوانين القيمة. تحتاج البرلمانات خاصة في هذه المراحل الأولية إلى تعاون مختلف القوى السياسية والاجتماعية.
تكونُ الفئاتِ والثقافات بما أن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الراهنة العسيرة التطور في طور الانتقال من المجتمع التقليدي للرأسمالية الحرة، وتقعُ في الوسطِ الرافعةُ الاقتصاديةُ السياسية وهي أجهزةُ الدول، فإن حراكَ الفئات والثقافات مهم جداً لخلقِِ هذه الولادات العسيرة. على مدى طليعيةِ ومستقبلية قادةِ الدول والأجهزة والأحزاب يعتمدُ تحقيق هذه القفزة. إمبراطورُ اليابان وأسرتهُ في القرن التاسع عشر إختارا الدخول في التشكيلة الرأسمالية(الحرة)، أي المعتمدة على قوانين السوق لإدارة الاقتصاد، مع قيام الدولة بدورِ القابلةِ الموَّلدةِ للجنين الحديث من بطنِ المجتمع القديم. ولكن الدولة اليابانية غدتْ عفريتاً قُبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها فجاءتْ الضرباتُ لتشكلَ ولادةً دمويةً كارثية، لكن تم فيها قطع حبل السُرة بين القديم والجديد في اليابان. فلا يوجد حلٌ وسط بين دولة رأسمالية حرة ودولة مستبدة. في روسيا إختار اليسارُ مصطلحاً لحزبهم وهو الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي، وكان يعني إختيار الطريق الديمقراطي الغربي لميلاد روسيا الحديث، لكن فصيلاً منهم عصفَ بهذا الطريق، ولا تزال روسيا بعد كوارثِها وتحولاتها تتطلعُ لميلادِ رأسمالية حرة بعد أن بلعتْ الدولةُ المجتمعَ! القادةُ الكبارُ في الدول الشرقية هم الذين يمسكون ببؤر التطور، وبمدى قدراتهم على تبصر الواقع والمستقبل: نهرو إضطرب كثيراً وهو يحورُ رؤيةَ غاندي الديمقراطية إلى إشتراكية، ولكن تراث الشعب الهندي الديمقراطي التنوعي التعددي أعاده لمسار السكة الهندية الأصيلة فحققت الهند ثورتها الصناعية. قد يختار القادةُ العودةَ للوراء وهم يظنون إنهم يقفزون، هذا يعتمد على مدى ديمقراطية الفئة الحاكمة وثقافتها بقوانين التطور الاقتصادي، ولا بد من إنسحابها التدريجي من تملك وسائل الإنتاج، بوضع أسس ديمقراطية لمراقبة هذه الوسائل وتوزيع فوائضها، وبمدى مساهمة القوى السياسية الطليعية في دعم هذا الخيار، وبعدم خلق إضطرابات إقتصادية فوضوية وقفزات خيالية وإعتماد تنامي الموارد والاحتفاظ بوسائل الإنتاج الكبرى ملكيةً عامة، وفتح الطرق للقوى الخاصة لزيادة الإنتاج، وتوسيع ملكياتها. أما زيادة التبذير وتوسيع القوى الاستهلاكية، ونقل الفوائض للخارج، وحدوث تآكل تاريخي لرأس المال الوطني فهو ليس الطريق. أي أن أحجام الفئات المنتجة والفئات المستهلكة يجب أن تكون من نصيبِ الفئات الأولى، مثلما أن وسائل الإنتاج (أ) تكون هي الأكبر والقائدة لوسائل الإنتاج(ب) في نضال صناعي علمي لعقود. وركائزها قواعد تصنيعية جبارة وقوى تحديث علمية ثقافية وتنامي للعمالة الماهرة. دولُ الخليج تجري فيها الأمور بالعكس، وسائل الهدر أكبر والإستهلاك أعظم والقواعد الإنتاجية الحديثة لا تتطور بالسرعة الكافية وبالنوعية المتقدمة: يحدث نزيفٌ على مستوى الإستهلاك، على مستوى ضخامة العمالة الأجنبية، على مستوى خروج الرساميل والفوائض، على مستوى التضخم الإداري، على مستوى بقاء القطاعات التقليدية. الإمكانياتُ الماليةُ تلعب دور طاقية الإخفاء فوق رأس الاقتصاد. أن قوى السياسة – الثقافة لا بد أن تكون قريبةً من فهم كيفية الحراك التاريخي في أي مجتمع، وبدايةً لا يوجد فهمٌ للمسار التاريخي لدى التيارات السياسية، و حتى كبار القادة في تاريخ الشرق تاهوا في ذلك بين أحلامهم الكبيرة والواقع الحقيقي، بين إسقاطات الأماني وسقوط المشروعات المتخيلة. ومن هنا يأتي درس الواقع بحقائقه وحل مشكلاته بحيث توجد نظرة عامة مبنية على حقائق البشرية في القرن العشرين وبداية القرن. الغرب يريد تبعية توظيفية للرساميل الخليجية في ترسانته المالية، فيقتصر على تحليل السطح وإستثماره، في حين أن الخليج يحتاج لأن يغير أعماقه، أن يتصنع، وأن تزدهر القوى الاختصاصية فيه خاصة المهن الثورية في العالم الراهن: تقنية المعلومات وصناعاتها. الغرب يدعو لهدم القطاعات القيادية في الإنتاج الوطني لبلدان العالم الثالث، لهذا يقتصر على الحديث عن الحريات المجردة، والحريات ضرورية في ظل نظرات وطنية قيادية للتطوير الإنتاجي. وكل بلد خليجي لا يستطيع أن يقوم بالثورة النصاعية العلمية لوحده، فتكامل المجموعة هو شرط آخر لهذه الثورة. والواضح أن الثروة النفطية سوف تضيع قبل أن يتحققَ شيءٌ من ذلك، وسوف تبقى لنا (الخردة)، أي بقايا المنجزات الاقتصادية، مع الكثير من المشكلات، كالهياكل الإدراية الهائلة، وعدم تطور القوى الثقافية باتجاه الثورة التقنية، وضخامة الاستهلاك الخ. أي أن المجتمعات الخليجية هي الأكثر بعداً عن فهم العمليات الاقتصادية التحولية في العالم.
حلفاءُ الطبقةِ الوسطى بين الحضورِ والغياب جسدت التحركاتُ العربيةُ في العام 2011 مستويات حضور الطبقة الوسطى في كل بنية إجتماعية. كان القطران مصر وتونس أقرب لتشكيل هذه الطبقة، ونشر مفردات الحداثة والحرية في طبقاتِ الشعب العادية، فيما وجودُ هذه الطبقةِ ملتبسٌ في كلِ من الأقطار الأخرى، وإلتباسُها منوعٌ. في اليمن الوجود ذاته شبه غائب. فيجري الحراك الشعبي العامي المضحي الجريء دون قوتها الاقتصادية السياسية. في سوريا أغلبها منتجٌ من داخل النظام الشمولي نفسه، ويتجسد في بقاء المدينتين الكبريتين حلب ودمشق خارج الحراك. في العراق والبحرين الانقسامُ الطائفي شلَّ المجموعات السكانية من فئات وسطى وعمال عن أي تغيير ديمقراطي مهم، والبَلدَان بصددِ ترميمِ ذاتيهما بدون قراءة عميقة. حين نقرأ تجربة مجموعة المنظمات البحرينية التي تكونت من خلال التأثر بالأنظمة الشمولية العالمية والعربية سندركُ طبيعةَ قوى البرجوازية الصغيرة في تذبذبها. إن أي جماعة بصدد إنتاج وعي ديمقراطي لا بد لها من التخلص من أثواب الماضي الشمولية القديمة، ولكن على مدى سنوات التحول السياسي الراهن دأبتْ هذه الجماعات على التغني بتاريخها الشمولي. بالنسبة للماركسية – اللينينية أُعتبرتْ مرجعاً لا ينفد ولا يزالُ صحيحاً، وهذا يرجعنا للعودة دائماً إلى نظام رأسمالي حكومي شمولي، لم ينتج تجربةً ديمقراطيةً حتى الآن. أي أن مرجعية الجماعات المؤيدة لهذا الوعي لم تستطع نقد هذا المصدر وإنبثاث مفرداته في التجربة المحلية، وبالتالي فإن الحديث عن(الرأسمالية الديمقراطية العلمانية) والتوجه نحوها يعتبرُ خطراً ومرفوضاً في هذا الوعي، الذي تجمد في تجربة قديمة شمولية. لو أن هذا النقد قد حدث وتمت معالجة التجربة والتاريخ فإن التوجه الحداثي يغدو هو المرجعية، دون تفريط في الدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية وتطورها في المستقبل، وبالتالي يتشكل خطٌ آخر بعيد النظر يجمعُ كافةَ قوى وعناصر الديمقراطية الاجتماعية والسياسية. وليست التنويعاتُ الأخرى من فصائل البرجوازية الصغيرة سوى أشكالٍ أخرى من التجاربِ الرأسمالية الحكومية في العراق وسوريا، حيث البعث وإستعادة كيان الأمة، وهو كلامٌ تجريديٌّ تعميمي، ولكنه يعني أن تقومَ دكتاتوريةٌ حزبيةٌ بهذا البعث، في قطر من الأقطار، فتتماهي الدكتاتوريةُ الحزبيةُ مع دكتاتوريةِ الدولة والطبقات العليا، بدلاً من وجود دولة ديمقراطية ينمو فيها وعي الشعب وعناصره السياسية المتعددة ونمط معيشته من خلال مؤسسات ديمقراطية. أي أن هذا الوعي الشمولي حين مضى في التجربة البحرينية الأخيرة راح يستعيدُ مفرداته وهي تتحطمُ أمام عينيه في تجربتي العراق وسوريا وغيرهما وقبلهما مصر، دون أن يقدرَ على مراجعة هذه المفردات، لكونه غيرَ مخولٍ بنقدها وإعادة تغييرها، بل يكون ذلك من قبل منظمات قومية خارج القطر البحريني. والمنظماتُ الدينيةُ لا تختلفُ عن هذا الجوهر الاجتماعي السياسي، حيث هي تقومُ على البعثِ الديني، فتتماهى كذلك مع الدولِ الشموليةِ الحاضنةِ لمذاهبها، في أي مرحلةٍ تكونُ هذه الدولُ المذهبية الشمولية وبتحولاتها وكيفية تجسد سلطاتها وتوزيع مواردها. فهي كذلك تستورد نمطاً شمولياً خارجياً، ولهذا كله لم تقم هذه الجماعات بتنمية عناصر ديمقراطية حتى لو كانت صغيرة وتزرعها وتتوحد مع صانعي هذه البذور في القوى الاجتماعية الأخرى. إن عدم مقاربة تيارات البرجوازية الصغيرة للطبقة الوسطى وإحتمالات تطورها يشكلُ التسرعَ والقفزَ على التاريخ الموضوعي، ويشكلُ أساسَ المغامرات السياسية. إن العناصر الفكرية للماركسية والقومية والإسلام والنهضة ليست ضارة، ولكن المسألة تتحددُ بنزع الطابع الشمولي منها، فلا بد للمسلم أن يقرأَ التنوعَ وحريةَ الجمهور في بداية الإسلام وينقدَ الدولَ والجماعات الشمولية التفتيتية لأمم المسلمين التي نشأتْ بعد ذلك، مثلما يفعلُ الماركسي تجاه التجارب الاشتراكية الدكتاتورية، والبعثي تجاه التجارب القومية الاشتراكية. إن هذه العناصر مهمة ولكن داخل تجربة ديمقراطية وداخل التراب الوطني. كان رفض هذه القوى للتعاون مع القوى التجارية والاقتصادية، على أساس إن هذه غير معارضة وغير قوية في معارضتها بسبب الاستعجال المستمر والذاتية وعدم معرفة التاريخ العالمي والتاريخ الوطني. وهو نفس السياق القديم، بدلاً من وضع السياق الحديثرهن التطبيق، أي كيف يتم التعاون بين القوى السياسية الاجتماعية الوطنية كلها لمحاربة البطالة والفقر والفساد والاستبداد بالنساء وأزمة الريف المعيشية والتلوث وغيرها من المشكلات بصورة واسعة. بل إختارت طريق المجابهة وفرض التحول من خلال خلفياتها وبرامجها الصراعية، أرادت البرجوازية الصغيرة بفئاتها المختلفة أن تكون بديلاً للطبقة الوسطى.
فئاتٌ وسطى عقلانية جديدة لم تستطعْ منظماتُ البرجوازية الصغيرة البحرينية خلال ربع القرن السابق إيجاد شيءٍ تحولي جديد. القوى التحديثيةُ تآكلتْ ولم تعد لديها حتى قوى بشرية كافية للعلاقة مع الجمهور، لكن الأسبابَ العميقةَ تعودُ للأفكارِ المُجمَّدة خلال حقبةٍ طويلةٍ تمتدُ لنصف قرن. العلاقةُ المفيدةُ والجيدةُ مع العمال لم تعدْ للسابق، وأغلبيةُ العمال غدت ريفية أو أجنبية، ولها مسارات مختلفة، وظهر حراكٌ ايديولوجي مضطرب. خلال النصف الثاني من القرن العشرين لم تُعدْ القوى السياسيةُ النظرَ في الايديولوجيا السائدة، وهو النمطُ الآسيويلا الشمولي من الماركسية. فلم تكن لديها قدراتٌ فكريةٌ لفهم ذلك فما بالك بنقده، وحين حدث التحول في الاتحاد السوفيتي أُعتبرَ كارثةً وليس كشفاً لحقائق عميقةٍ كانت مجهولة. وحتى هذه النسخة المسطحة من الماركسية الشمولية لم تكن حتى مُستوعبة قواعدياً، وكانت الخلافات بين الفصائل تتركز في نهج نضالي أكثر مرونة ونهج مغامر؛ نهج يبحث عن سببيات التغيير في الداخل وينمو عليها، لكنه ركز التغيير في العمال، ورفض دور البرجوازية بمختلف شرائحها لتقود عملية تغيير وطني ديمقراطية بالتعاون مع العمال. مع التآكل لقوى المعارضة اليسارية لم تعد ثمة من فروق جوهرية بين نهج متعقل ونهج مغامر، صار النهجان مغامرين. وهذا أمرٌ شائع في قوى السياسة اليمينية عادة حيث تتآكلُ الشعاراتُ المتباينة ويظهرُ الجوهرُ الطبقي المتواري، إنها سياساتٌ يمينية ولكن تبدو بشكل يساري. إن منظومة (المعسكر الاشتراكي) لم تكن سوى سيطرة قوى بيروقراطية استغلالية تتجهُ لليمين بشكلٍ مستمر، وتلغي مصالحَ العمال عبر العقود، حتى رأينا الشكلَ السوفيتي أو الصيني الماوي وكيف يغدوان معبرين عن برجوازيتين حكوميتين فاسدتين بلا أدنى مكياج. عمليات التصاق برجوازيتنا الصغيرة وفئاتها بالمنظومات الاستبدادية العربية والعالمية، تمت من خلال عدم الاستقلال وعدم بقاء الوعي النقدي حاضراً، ومن خلال سيطرةِ الشعارات، وهو ما تفعلهُ الآن البرجوازيةُ الصغيرة الريفية المذهبية تجاه النظام الإيراني وربط أفكاره بعملية التغيير الداخلية. المعسكرُ الاشتراكي والعسكرُ القومي العربي والعسكر (الإسلامي) دولٌ يمينية بشعارات يسارية غير حقيقية، لكنها تخترقُ القانونَ الطبقي وتحيلُ البرجوازيات الصغيرة لقوى برجوازية فاسدة، على المستوى العالمي وعلى المستوى القومي. على المستوى القومي العربي يتذيلُ هذا الوعي حتى يتآكل وينهار ويخترقهُ الوعي الديني البرجوازي الصغيرُ المغامرُ المماثلُ ويكون بديلاً وإستمراريةً له. على المستويين الإيراني والبحريني يبدو الفارق بين الأصل والانعكاس واضحاً، الأصلُ يتحلل، والانعكاسُ لا يفهمُ الأصلَ وتناقضاته وفساده. هذا كله أدى إلى غيابِ الفكرِ التأصيلي الماركسي الوطني العميق، أي لم يحدثْ إنتاجٌ فكري للتجربة البحرينية وتُقرأ المساراتُ المختلفة وتكون الرؤية المستقبلية حاضرة في الراهن، وغيابُ ذلك هو أيضاً من سببياتِ الخسائر في الأعضاء ومن أسبابِ التآكل في البُنى التنظيمية، ومن استمراية التجربة المذهبية في الفشل والخسائر ومنع التوحد. عدم التطور الفكري السياسي من جهة وتبدل المنظمات السياسية العالمية، أي ظهور الطابع الطبقي للمعسكر الاشتراكي كرأسمالياتٍ حكومية غير ديمقراطية، والاضطراب حيال هذا الظهور وعدم اتخاذ موقف ديمقراطي عميق، والعودة لجذور الماركسية الديمقراطية، والانفصال عن النسخة اللينينية والنسخة الماوية، المشوهتين للمنابع الحقيقية، هذا كله أوجد الميوعة السياسية النظرية والسماح باستمرار عقلية البرجوازية الصغيرة المتذبذبة الانتهازية. الآن نعيشُ لحظةً جديدةً وبحاجةٍ لدعمِ فئاتٍ وسطى مختلفة، مقاربةٍ للديمقراطية رافضةٍ لاستغلال المذهبية في الصراع السياسي، وهذا يعتمدُ على ما تقدمهُ للجمهور العمالي والفقير من تحولات اقتصادية واجتماعية. مجيءُ فئاتٍ وسطى وتطويرها للبرلمان باتجاه الوحدة الوطنية وباتجاه الدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية، مسألةٌ مهمةٌ لابدَّ من تطويرِها ودعمها ونقدها، واثرائها في السنوات القادمة عبر تغيير وضع العمال وجذب العمال الريفيين للديمقراطية والوطنية والعلمانية.
الفئاتُ الوسطى في حراكِها التداولي الفئاتُ الوسطى الراهنةُ كأجنةٍ للطبقاتِ الوسطى العربيةِ القادمة هي في حراكٍ متسارعٍ مضطربٍ متعددِ الايقاعات والتداخلات، لأنها ذاتُ رساميل مالية، وأهلية في بلدانها، وذات صلات وثيقة ببعض الدول العربية الإسلامية والعالمية. وكما يتشكل الإسلامُ المعاصرُ من نشاطٍ في العديد من الدول العربية والإسلامية عبرَ الدعوةِ والفقه وليس من خلال الفلسفة والعلوم، فكذلك يتشكل حاضرُ الفئاتِ الوسطى من رأس المال المالي. مستوياتُ الدعوةِ الفقهية تتقاربُ ومستوياتُ الرساميل، ومن هنا غلبةَ البنوكِ على المصانع، وهي كذلك غلبةٌ للتفسيرات الفقهية الجزئية على التفسيراتِ الكلية الفلسفية، وهي حراكٌ آني متذبذب بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، بين النص والعقل، بين التقليدية والمعاصرة. وكما أن الواقع هو تفككٌ للأسواق العربية هو كذلك تفكك للوعي وعدم قدرته على رؤية كافة العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. التفككُ الرئيسي هو تفككُ الرأسماليةِ في كل بلد، عبر وجهيها العام والخاص، فالرأسمالياتُ الحكومياتُ سعتْ لتشكيلِ رأسماليات كلية من داخلها، ونقض تشكلها من خارجها، لكنها لم تستطع، لأن الرأسمالَ داخلها تآكل، وعجزَ عن الإحاطة بجميع حقول الاقتصاد وبُنى المقاولات والصناعات والبنوك الخاصة والتجارة، كما أنه تقلص بشكلٍ مستمر، وقد حاولت تجاربٌ إزالةِ الرأسمالية الخاصة كلياً في مرحلةٍ فتعثرَ الاقتصادُ، وهُزم في مثل هذا الواقع في حروبٍ وإحتاج ثانية لرأس المال الخاص والأجنبي، وتفجرت تناقضاتٌ إجتماعية داخلية لم يُحسبْ حسابها السياسي في تجارب أخرى، وهي كلها مظاهرٌ للتعبير عن أزمةِ الرأسماليات الحكومية العاجزة عن التحكم في قوانين الرأسمالية المعتمدة على حرية السوق والديمقراطية والعلمانية. محاولات الرأسمال العام لنقض الرأسماليات الخاصة كنظام متكامل جاءت على أساس إيديولوجي حداثي مستورد؛ قومي، وشيوعي، وبعثي، وطائفي تحديثي شكلي، وأطروحاته هي هدم الماضي والتراث والتخلف، عبر القفز عليه، فلم تستطع. الآن ثمة عودةٌ للتراث، وللرأسمال الخاص، ولمشكلاتِ البُنى العربية العتيقة مجدداً من مواقع إيديولوجية مختلفة بتطرفٍ حيناً وبإعتدالٍ حيناً آخر، لكنها ترفضُ كذلك قوانينَ الرأسمالية. الفئات المعارضة الدينية القائدة للتحولات الراهنة هي نابعةٌ من أوساطٍ غير حكومية تتبادل المعرفةَ والفقه والدعايات السياسية فوق الحدود الوطنية، ففي كلِ دولةٍ هناك مشروعاتٌ تاريخية متباينة ومن الممكن أن تغذي تطوراتٍ في بلدان أخرى، مثلما هو رأس المال الديني عابر للحدود والدول والأزمان، ولكون طبيعة هذه الرساميل مالية تجارية.(راجع بهذا الصدد ما كتبه الأستاذ خليل علي حيدر عن خيرت الشاطر مرشح رئاسة الجمهورية في مصر وعلاقته بالبنوك وحركة الأخوان المسلمين معاً، الأيام 13 أبريل 2012) إن دولةً سلفيةً ونصفَ ليبرالية من الممكن أن تغذي حركةً دينية ليبرالية في بلد آخر، والجسمان يرتبطان بطبيعة الأجسام الدينية المتراوحة بين الإقطاع والرأسمالية. هذا يحدث أغلبه في بلدان الثورات ما عدا ليبيا التي هي جسمٌ جزيري خليجي في شمال أفريقيا. ففي بلدان الثورات لعبتْ القطاعاتُ الخاصة بقياداتها الدينية دور تفكيك الرأسماليات الحكومية الشمولية بأفكارها السياسية، عائدة للماضي، مناوئةً للغرب بشكل من الأشكال. ففيما كانت التجارب القومية واليسارية تهدف للقفز نحو الغرب، أي أن تقفز للمستقبل والحداثة، فإن التجارب الدينية الراهنة تقفز إلى الماضي، إلى الإقطاع، حسب تلونات ودرجات الفئات المؤثرة. عند الأخوان والسلف تنشدُّ الحركةُ التاريخية نحو الماضي. عند الليبرالية والأخوان تنشد الحركة للحاضر وللرأسمالية. غياب الطبقة الوسطى غير الموجودة التي يتشكلُ قلبُها من الصناعات، يجعل الحركة متذبذبة، الطبقة الوسطى المتجذرة في الصناعة وذات العلاقة الوطيدة بالعاملين التحديثيين، تجعل الحركة السياسية التاريخية قوية، أكثر رسوخاً، لا تندفع للماضي بحدة، ولا تقفز نحو المستقبل برعونة. لكن علاقات أنظمة الثورات والتحولات بالعالم المحافظ كبيرة سواء من داخلها أو خارجها، من داخلها بوجود بُنى إجتماعية وإقتصادية ما قبل رأسمالية، ومن خارجها عبر العلاقات مع دول الجزيرة العربية حيث لا تزال جذور المحافظة قوية، ومن هنا فإن شركات الأموال والبنوك والعقارات والمصانع الصغيرة المتداخلة عاشت بين مستهلكين ومنتجين ومدخرين يعيشون تقاليد ما قبل الحداثة، وتداخلت هذه مع العلاقات الاقتصادية الحديثة. حداثيون شكلاً يعيشون في الماضي وماضيون يعيشون في الحداثة. إن كبريات التجارب التحولية تتباين بين مصر والعراق على سبيل المثال، ففيما تتأثر مصر بالسعودية يتأثر العراقُ بإيران، أي أن رأسماليات الدول المذهبية لا تزال تلعب دوراً مهماً في التأثير على دول التحول(الثوري)أي الدول المتجهة لسيادة المُلكية الخاصة في الإنتاج، ويتجسد هذا في المذهبية السياسية التي هي شكلٌ إيديولوجي للحيرة السياسية، وعدم الحسم التاريخي في إختيار طريق الحداثة، والتردد بين الماضي والحاضر، بين الإقطاع والرأسمالية، بين الشمولية والديمقراطية العلمانية، والتي هي ذات سببٍ موضوعي هي فقدانُ الطبقات الوسطى وحين تتشكل يتبدلُ البناءُ الفوقي.
فئاتٌ صغيرة تابعة في البلدان المنقسمة طائفياً وقومياً كالعراق والبحرين ولبنان لعبت الفئات البرجوازية الصغيرة في الحراك السياسي مفجرة الألفاظ الثورية الهائلة لكن دون قدرة على تحريك طوبة واحدة للتوحيد الوطني والتقدم الاجتماعي. لكن حراكها الحقيقي مدعاة للمراقبة لما يثيره من كوميديا سياسية ومشكلات اجتماعية وسياسية خطيرة معاً. إن الصراع العربي الإيراني، المتمظهر صراعاً طائفياً، والمعبر عن سبل مختلفة بين رأسمالية دول في طريقها لليبرالية ورأسمالية دولة إيرانية شمولية عسكرية، يرسم جداراً صلداً بين الجانبين. الطبقات الوطنية الصناعية من برجوازية وعمال غير موجودة بقوة وإتساع اجتماعي سياسي مؤثر، فيما بلدان عربية أخرى قد قاربت ذلك وتضع أقدامها على بدء مسيرات الحداثة الديمقراطية العلمانية. ولهذا فإن مناظر البرجوازيين الصغار وهم يتقافزون على حبال الثورة الشعبية الكاسحة ويهددون بزوال دول هي عجيبة فيما بلدانهم تغرق في أزمات الانقسام والانهيار. هم بين الإقطاعين السياسي والمذهبي، حين يرون مصلحة في الأول تقاربوا معه، وحين يجدون منافع في الثاني جلجلوا بشعاراته. لكنهم في كل التيارات هم مع منافع الرأسمالية بدرجة أساسية. محامٍ أو طبيب سيجد أن زبائنه هم من طائفة ما فيلقي مرساته السياسية في بحرها، وسوف يتحدث عن شقائها وعذاباتها وفقرها بشكل جزئي، قاطعاً هيمنة قوى معينة عليها، وعدم كشف اللوحة العامة للمسألة، ولأن هذه الجماعة غير قادرة على أن تكون مستقلة سياسياً، وأن تحفر في واقعها وتخلق تراكمات ديمقراطية حسب ظروفه وتوحد شعبه. وسوف يظل هذا المحامي أو الطبيب أو الاقتصادي يكرر هذه المحفوظات ربع قرن، وتجد أنه قطع علاقته بالثقافة السياسية الحديثة الديمقراطية وغرق أكثر فأكثر في ثقافة ما قبل الحداثة، وتقطعت أدواتُهُ الفكرية عن التحليل، فهنا لا فرق بين قومي وماركسي وليبرالي فقد تقطعت أدوات هذه المدارس الخصبة عن تحليل الأرض، وتحول صاحبها لفقاعة سياسية يطير في سماء المصلحة الذاتية. والجانب الآخر لا يختلف كثيراً عن هذا حيث سيجد فرصاً أكبر في العيش، إذا كان مع الحزب الحاكم أو الدولة المذهبية، فسوف تكون ليبراليته أو ماركسيته أو قوميته أو مذهبيته على قياس المصلحة، ينفخ في جهة معينة من النار، ويستفيد من رأس المال، فيؤسس شركة أو يؤجر بناية فيكَون رأسَ مال صغير أو كبير حسب قدراته وعلاقاته. وتتقابل الفئات الصغيرة في الصراخ وتوجيه الضربات وفي الانفعالات اليومية الصاخبة وكأنها تعيش نضالاً عظيماً، موجهة أصابع الاتهام بالخيانة دائماً للطرف الآخر. البرجوازيات الكبيرة في هذه الدول والمماثلة لها رفعتْ يدَها عن السياسة والإنتاج الفكري السياسي العميق، وربما حتى تغرق السفنُ العربية والإيرانية في بحار السياسية المتلاطمة، فإذا وصلت لنفس مستوى البرجوازية الكبيرة السورية التي حين حاوطتها بحار الدماء وحاصرها الإفلاس رفعت أصواتها! فعل المصالح الخاصة القصيرة الرؤية هي التي تتحكم في هذه القوى الاجتماعية، أي المصالح المباشرة المحدودة غالباً، والتي يكون العمل من خلالها وتأجيج الاختلاف بغير الأسس الموضوعية هادماً لهذه المصالح بل مُفجراً للعيش ومدمراً للبناء الاقتصادي الذي يحوي الجميع. ضيق الأفق في رأس المال يقود لضيق الأفق في الجملة السياسية، الرأسماليات الحكومية التي تسيطر على الأسواق بشكل عام لا تتيح للبرجوازيين الصغار والعمال فرص العيش الواسعة وإمكانيات الدخول في التجارة والصناعة والزراعة، ولا تعرف كيفية السيطرة على الأبنية الاقتصادية الاجتماعية بحيث يتم الاستفادة من الفوائض المالية الكبيرة لتغيير عيش هذه الفئات ونقلها لمستويات اقتصادية أرفع. والفئات الصغيرة نظراً لتدهور وعيها الفكري السياسي خلال ربع القرن الأخير من ظهور التحول في إيران تقوم بشق المنظمات اليسارية والقومية والليبرالية، عبر مناهجها الجزئية في التحليل والتركيز على جانب من اللوحة وطمس الجوانب الأخرى، حتى يتجه الأمر لشق الدول والبلدان. عمليات وحدتها تغدو صعبة نظراً لهذه المناهج المربوطة بمصالح ذاتية قصيرة النظر، وتتحول لطائفيةٍ مقيتة تحجبها بالألفاظ الثورية المجلجلة عساها تخدع نفسها والآخرين. إن قوانين الحداثة تغير هذه الأزمات، فتبادل السلطات يوزع الثروات على الطبقات، والعلمانية تفكك الارتباط بين المذاهب والدول والأحزاب لتغدو معبرة عن توجهات المواطنين المختلفة المتصارعة المتوحدة في الكل الوطني. والعقلانية تقرأ التراث بأشكال نقدية وتضع الخطط والبرامج الحقيقية المتقدمة على الأرض. لكن هذا يتطلب قبل كل شيء الوطنية وصدور الأفعال الفكرية والسياسية من أرض البلد.
من الفئاتِ الوسطى إلى الطبقةِ الوسطى إن التطورَ العربي لا ينسخُ التجربةَ الغربية في الحراك الاجتماعي السياسي، مثل حال الأمة العربية المتكونة من أقطارٍ متعددةٍ ذات بُنى ومسارات مختلفة، وفي خضمٍّ تحولي مشترك متداخل، متقطع. ولهذا فإن بعضَ الدول العربية تصلُ تجربتُها لمستوى أكبر من الأخريات، دون أن تكتملَ شروط التحول الديمقراطية، المعتمدة على ظهورِ طبقات وسطى صناعية ذات تجذر جماهيري. الفئاتُ الوسطى في هذه الدول متعددةُ الأصولِ الاقتصادية الاجتماعية، من فئاتٍ مالية، وتجارية، وعقارية، ولا تخضعُ الفوائضُ لقانونٍ واحد، ولا تتوجه معظمها للصناعة الوطنية، بل للخارج، ولإعادةِ توسعةِ المؤسسات العقارية والخدماتية، والمالية وغيرها. هذا يشكلُ تفككاً في بنية الفئات الوسطى، وضعفاً في البناء الاقتصادي الاجتماعي، فلا توجد الفئةُ القائدة القادرة على إعادة بناء المجتمع المتخلف، من حيث تجاوز مستوى صناعة المواد الخام، ومن حيث جذب أغلبيةِ السكان للتصنيع، وتغييرِ الزراعة الراكدة وأدوات إنتاجها وظروفها الاجتماعية المتخلفة. لقيام الفئة الوسطى الصناعية بالقيادة الاقتصادية ثم السياسية شروطٌ موضوعيةٌ وذاتيةٌ عديدة، من أهمها بدايات توافر المجتمع الديمقراطي، من حيث الاقتراب من تبادلية السلطة، وقدرة الجماهير على التصويت للقوى القادرة على تغيير الانتاج لمصالحها ومصالح تطور المجتمع، وظهور ثقافة تحديثية سياسية واجتماعية تجعلُ المصانعَ مراكزَ التحول والتجمع والصهر للسكان من تخلف التعليم واللامساواة بين جنسي الرجال والإناث وتطوير الأطفال في تعلم مهني حديث. تلعب المصانعُ هنا دورَ الثورة الصناعية الاجتماعية الغربية في ظروف مختلفة. مقاربة بعض البلدان العربية للتحول التحديثي النوعي يعتمد على قيادات الفئات الوسطى والعمال في فهم ضرورات التحول المشتركة، ومقاربتها للتحالف التحديثي، وجعل رأس المال الصناعي رأسَ المال الوطني الرئيسي، الذي يقوم بإعادةِ إنتاجٍ اقتصادية سياسية ثقافية كبرى، وينقل قوى الانتاج إلى مستوى جديد. ليس لكون الرأسمال الصناعي هو مطور المواد الخام الموجودة في البلد، أو المجلوبة من الخارج فقط بل لكونه كذلك قادرا على بسط العيش الجيد للجمهور وتطوره في بلدها، فلا يتآكل مثل هذا الرأسمال في الخارج، أو يضيع في الاستهلاك الترفي. الثقافةُ الاقتصادية الحديثة تتطلبُ تطورَ الثقافة السياسية وفهم مختلف شرائح الفئات الوسطى والعمال الضرورات التاريخية في صهرِ فئات السكان المختلفة في ملحمةِ التنمية العربية الكبرى وتغييب الشرائح الهامشية وحثالات البروليتاريا المتسولة للعيش، وتغلغل أشكال الثقافة الحديثة بين الأميين والمُغيّبين. ولصعوبة توافر رأس المال المتجه إلى المخاطر فالمشاركة في السلطة وسن قوانين جديدة للتطور الاقتصادي تجمع بين تنمية الصناعة وبقاء الحريات الاقتصادية المتنوعة، وتغيير طابع التعليم(الأدبي) النظري لتعليم مهني علمي متقدم، تغدو التحالفاتُ السياسية البرجوازية العمالية، بين الفئات الوسطى والشرائح العمالية، مهمةً وجوهريةً في العملية الديمقراطية، وللحصول على الأصوات وتنفيذ برامج التحول الصعب الذي لن تأتي ثماره بسرعة. ولهذا فإنه على المستوى القومي يمكن لهذه الأقطار المتقدمة في هذه العملية والأقطار التي لم تنضج فيها هذه الشروطُ التحولية بعد أن تجلب منها الرساميل والمساعدات لتلافي النقص الداخلي. كما أن هذه العملية تتم في البناء المشترك للأمة العربية بمستوياتِ دولِها المتعددة في التطور الاجتماعي السياسي، حيث تقدم تلك الأقطار المتقدمة النموذج التحولي المطلوب، وتستفيد الأخريات من تجربتها وتتقدم العمليات السياسية الاقتصادية الفكرية المنوعة في تلاقح منوع مشترك. ومما يعرقل من هذا التطور صراع الفئات المختلفة على قطف الثمار والتسلط، وهي الظروف الذاتية التي تؤدي إلى هدر جانب من الثروة المادية والزمن، كما أن الصراع بين البرجوازية الصناعية الصاعدة تاريخياً يصطدم بأوضاع العمال الصعبة وكل منها له شروطه المختلفة في العيش والعمل، ويمكن أن يؤدي الصراع الذاتي هنا إلى تصدع جبهة الحداثة السياسية، واستغلال القوى المحافظة ذلك، كما أن هيمنة القطاع العام وتقزيم القطاع الخاص وبروز المؤسسات البيروقراطية والعسكرية والدينية يمكن أن تؤدي إلى العرقلة أيضاً.
رموزٌ معتمةٌ لفئةٍ وسطى كان التيارُ القومي نشيداً حماسياً واعداً، كان يخطفُ قلوبَ الطلبة والصبايا من تُربِ الذلِ والأمية والحبو على التراب، كان يحولهم لطيور مقاتلة في السماء العربية، فماذا حدث؟ هل لأن بعض العائلات الميسورة تؤجرُ بيوتَها القديمة لوزارة التربية والتعليم، والتي كانت تشابه موقعا لو ظهر فيها جان جاك روسو لم يستطع كتابةَ مذكراته؟ لم يكلف أحدٌ من تلك العائلات نفسه قراءة ودراسة هذه المدارس والكتابة عنها، كان يمكن أن يحفر في اكتشاف عالم التعليم النصوصي، ويشكل كتاباتٍ نقديةً تتابعُ مجرى التعليم ومشكلاته، وتشكل ثقافة تعليمية ديمقراطية موازية، وكان الأمر يحتاج لسماع أصوات الصغار اللاعبين فوق السطوح وقرب السيارات. لهذا فإن الطبيب لا يغادر مستشفاه، وينحصر بين الجدران والمرضى، لا يتوجه للصيدليات ليكشفَ أسعارَ الأدوية، ليكتبَ عنها، وليناضل من أجل أدويةٍ رخيصة، وعلاج مجاني فيدور على القرى والأحياء ليعرف هل يذهب العجزة والمتسولون إلى الغرف الطبية؟ لم نرَ طبيباً شعبياً، ولهذا فإن الطبيبَ القومي لا يحتكُّ بالجماهير، يعيشُ في قلعته البيروقراطية، لا يخرقُ نسيجَ الواقعَ الصدئ بمشارط التحليل. نظراتهُ القومية وليدة القلعة، والمدرسةُ الحكومية المؤجرة والعائلةُ ترتفع دخلاً. لم نرَ مهندساً يعمل لبيوت الفقراء، والمهندسُ البارزُ يصنعُ بيوتاً حكومية تُباعُ بثلاثةِ أضعافِ ثمنها ثم ينهار البناءُ ليقوم المالكُ ببنائهِ مرةً أخرى حسب ذوقه الجميل وأمانته الخاصة القوية. المهندسُ الزراعي لم يظهر لأن الزراعةَ ماتت منذ عقود، وكمْ مِن درّس الزراعةَ، ولكن لم يتجول في القرى، ولم يكتب عن مسلسل انهيار الأرض الزراعية، وكيف تُباع لتتحول لفلل غناء، والمساحات الصحراوية واسعة متعطشة لقطرة مطر. فكيف تريدُهُ أن يكتبَ عن الضمان والإقطاع ويسندُ زنودَ الريفيين بصياغةِ روايةٍ كالأرض؟ وليمضي بينهم يقيمَ ثقافةَ إصلاحٍ زراعي ممكنة، تجعل قطعَ الأرضَ المتشظية تتماسكُ ولا تُباع أو تطيرُ في الهواء أو يأكلها التصحر؟ الإصلاح الزراعي هام، هو حجر الزاوية للتحالف بين الفئات الوسطى المدنية وجمهور الأرض الذائب. لو كان ذلك قد حصل ما خرجَ العاطلُ الزراعي من بين الأعشاب الصحراوية، ليقيمَ مدرسةَ الخرافة في رأسه، ويحرقُ الأرضَ بدلاً من أن يستثمرها. المجنونُ القروي وليدُ البخيلِ الغني المدني. لهذا فإن تكاثرَ أشباهِ المتهورين في أرض محروقة ممكن، فالمدرسةُ التي أنتحرَ فيها جان جاك روسو عرفت صمودَ موسوليني بين زنزاناتها. الطبيبُ القومي لا يذهب للحارات الشعبية ويرى أمراضَ ضغط الأسعار وإنخفاض الأجور، والاحتباس الحراري في الغرف، وتجمعات العاملين تحت الأرض الدنيا للعيش، وعلاجاتها لديه روشتة واحدة ووصفة سحرية تدعو لمجيءِ المنقذِ المخلص من الجيش، ومن المكائن الحكومية القوية، فالشعوبُ كوماتُ ترابٍ قابلةٍ للصياغات النارية المختلفة كما هي من زمن حمورابي، وربما كان حمورابي هذا أفضل لأن ليس لديه الأفران الحرارية لشيّ البشر. انهارت المدرسةُ على رؤوس الطلبة والشعوب، والمنقذ القومي يعيش في ذاته المتضخمة منفصلا عن العالم، سجين حالة انفصام كلية، يتداخل فقط مع الذوات المتضخمة والأنظمة الشمولية التي تفاقم حضورها مع تحول الشعوب أكثر فأكثر إلى تراب بل حتى إلى رماد! الآلات المالية والأنظمة فوق البشرية لم تعد تجعل من القومية سوى فراغ وسراب، الكائنات القومية العربية ذابت في قوميات أكبر قوة ونفوذاً، تلاشت القومية العربية في الطائفية والحكومات الرأسمالية الكبرى، ولهذا فإن الخطابات القومية تغدو أقرب للهذيان مؤكدة الانفصال المريع عن الواقع.
فئاتٌ وسطى متصارعةٌ عبر التاريخ كيف تحطم الفئاتُ الوسطى مستقبلَها عبر الصراعات الاجتماعية السياسية الفوضوية سواءً في الحاضر أم الماضي؟ لماذا تعجز عن إنتاج نظامٍ حداثي مستقبلي مماثل لما يجري في العصر الحديث؟ لماذا عجز البرجوازيات العربية عن تشكيل نظام رأسمالي متقدم يعيد تشكيل كل بلد عربي؟ في الماضي تتقوقع كلُ فئةٍ في محارتها الفكرية وتتآكل، القَدريون يركزون على القَدر والصراع الحاد ضد كل من يؤمن به، دون قدرة على قراءة السببيات التي تسيطر على حركة الواقع، ويوسع المعتزلةُ الوعي بالسببية، دون أي توسع في فهم المذاهب الأخرى وظروف الناس، فيما تنعزل الفئاتُ السنية كلٌ منها في فهم طريقة وحيدة من الفقه، فهناك إجتهادٌ مخصوصٌ محدودٌ في فئةٍ وهناك إجتهادٌ أوسع في فئةٍ أخرى، وهناك تقلبٌ في مستوى الاجتهاد في فئةٍ ثالثة وهناك رفضٌ للاجتهاد في فئةٍ رابعة ويجري فيها الاعتمادُ الكلي على النصوص، وهناك لا إجتهاد ولا إعتماد على النصوص بل الاعتماد على نصوصٍ مروية من الجماعات الخاصة. تقوقعتْ الأحكامُ حول الاجتهاد وإنتاجِ أحكامٍ من النصوص القديمةِ للحالات الاجتماعية الجديدة التي ليس فيها نص. أهذا هو المدى الذي يستطيع أن يطير فيه العقلُ بحثاً عن التقدم والحرية والتغيير؟ المدى الذي كان ينتجُ التغييرَ هو رؤية الإرث الإسلامي كإرثٍ ثوري أنتجَّ حداثةً وجمعَ التجار والعاملين لتشكيل مجتمعٍ حداثي بمستوى الزمن، فما يتعارض مع ذلك التحول يُعادُ تفسيره ورؤيته في ضوء جديد. الانحباس في النصوص داخل نظام يهيمنُّ عليه أغنياءُ الأرض الزراعية والحكم السياسي المطلق، الذين رموا الفتاتَ للفئاتِ الوسطى لتتعاركَ حوله، وهي فئاتُ الفقهاء والأدباء والعلماء والفلاسفة وغيرهم، جعلها تتآكل وتجمد وراحت تصارع النصوصَ التحديثية المحدودة لدى المعتزلة والباحثين وتقمعها، فهي كانت تدمرُ العقلَ النصوصي الاجتهادي الديني المحدود داخلها وتحطمُ العقلانيةَ الضئيلةَ التي نشأت لدى الفئات التحديثية التي لا يتمحور كلُ كيانها على المذهبية الدينية. تحطيمُ الأنوار أمتدّ للعلماء والحِرف بحكم تعميم الجهل ورفض السببية وقوانين المجتمع والوجود، وتجميدُ الحِرف بحكمِ إنقطاعِ العلوم عنها وبحكمِ جمود معلمي الحِرف هدمَ بواكيرَ الصناعة! هكذا قامت الفئاتُ الوسطى بالصراع ضد بعضها البعض، وكسرت القناديلَ التي يحملها كلٌ منها، لتعمَّ الظلمات وتتفكك الوحدات السياسية العربية الإسلامية. ويكرر المعاصرون من الفئات الوسطى صراعَ التآكل والفوضى، وحبس العلوم عن الصناعة، وتجميد المُلكيات الخاصة عن الثورة التقنية، والثورة الاجتماعية الديمقراطية، وصرف العقول عن الاجتهاد. العسكر والإخوان والجهاديون وولاة الفقيه والطائفيون والقَبليون أشكالٌ من الفئات العليا والوسطى المتداخلة الآن، يجمدون النصوصَ الفقهية، ويتوجه كلٌ منهم لجهة تضاريسية مختلفة ومتضادة، ويحاربون التحديثَ الشامل كلهم، فتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ للقواقع السياسية هذه عبر تمترس كلُ فئةٍ في شكلِ إقتصادها وإجتماعها الضيق، مناوئةً الأخريات متجهةً لهدم وجودها، بدلاً من إعتبار أنفسها نويات للاقتصاد الحديث المتداخل المتعاون. الصراعات المستمرة لا تؤدي فقط للتآكل السياسي الاجتماعي بل للتآكل البشري والمادي وتصاعد العنف والتخريب ولهدم هذه القواقع نفسها حيث تفوقت على الفئات القديمة بتفجير الحروب الأهلية مما يعبرُ عن مدى أخطر من التعصب والعدمية التاريخية والتضخمات الذاتية غير المعقولة.
مراحل الفئات الوسطى عقب أحد القراء على مقالة سابقة لي فذكر: (صحيح أن البرجوازية كطبقة لعبت دورا مهما في هزيمة الإقطاع والكنيسة، ولكن من قبيل الغبن والجحود أن نتجاهل الدور العظيم الذي لعبه عصر الأنوار السابق للبرجوازية بعدة قرون. الديمقراطية ما كان لها أن تنتصر لو لم يمهد الأنواريون الأرضية لها من خلال بث الثقة في إمكانية الإنسان في تقرير مصيره بدون أية إرادة غيبية والوقوف في وجه اللا تسامح الديني والحكم المطلق، بالإضافة طبعا إلى الفتوحات العلمية التي شككت في (حقائق) الكنيسة. وكلها قام بها رجال شجعان، لا علاقة لهم بالبرجوازية، بل إن بعضهم خرجوا من رحم الأرستقراطية الإقطاعية والكنيسة بالذات (كوبرنيكوس، جيوردانو برونو، ليونار دي فينشي). لهذا يجب أن نولي أهمية أكبر للتوعية وتحرير الأبدان قبل تحرير العقول وتجاوز العقلية اليسارية التي لا تزال تصر على أولوية العامل المادي الاقتصادي الذي لا يصدقه الفرز الحاصل في مجتمعاتنا هذه الأيام، حيث إننا نجد العمال والبرجوازيين منقسمين على أنفسهم بين مؤيد لقوى دينية معادية لمصلحتهم وبين معاد لها حتى استولى الإسلاميون على النقابات العمالية بخطاب يدعو إلى تآخي الذئب والخروف تحياتي) موقع الحوار المتمدن. لم يكن العلماء والفنانون الغربيون في فترات التحول من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر سوى فئات من الطبقة الوسطى التي لم تتكون بعد، فتكون الطبقات الوسطى في مجموع الدول الغربية عمليات مركبة متدرجة، إن هؤلاء المثقفين يسهمون في تكون الرأسمال الفكري الثقافي، إنهم معزولون عن الانتاج المادي لكنه يجذبهم إليه حيث يغدو مصدر المعيشة الرئيسية، فتتطور تخصصاتهم بحسب تطور الانتاج، يغدو رأس المال صاهراً لهم، وهو يستغل ويجذب العمال اليدويين مثل العمال الذهنيين، ويحيلهم لبروليتاريا ذات ياقات سوداء وبيضاء. يقوم المثقفون بتحرير الثقافة من أسر العصور الوسطى، وتغيير العلاقات الاجتماعية، وحين تتفجر الثورة الصناعية تكون هذه القوى قد غدت القوى الرئيسية للتحول الاجتماعي. إنها عملية تاريخية طويلة، وأنسنة المتنورين لا تعني عدم علاقاتهم بتطور الانتاج الرأسمالي الذي ينمو بشكل تاريخي مرحلي ولا تعني عدم معارضة الاستغلال فيه، مثلما فعل ماركس بتحليل رأس المال ونقده، فغذى تطوره وبين آفاقه، ويلعب المثقفون العلمانيون الديمقراطيون دورهم الرئيسي في نقد الثقافة الإقطاعية وتحرير العقول وخلق التنوير وهي الأمور التي تحرر النساء من العبودية المنزلية والمدارس من الكهنوت والثقافة من الظلامية وهي عمليات مركبة في تطور البنى الرأسمالية لكل بلد. تحول الفئات الوسطى إلى طبقات وسطى يجري حين تسيطر على الانتاج الصناعي وتكرس فوائضه لإعادة الانتاج الموسعة في المجتمع. إن العلماء والفنانين هم الفئات الوسطى الصغيرة كانوا ملحقين بالقصور ثم استقلوا وقادوا ثقافة النهضة والحرية!
غموضُ خطابِ (الطبقة) الوسطى البحرينية لا شك أن الاتجاهات المذهبية السنية أقرب للوسطية وخاصة الحنفية والمالكية والشافعية، لكن هذه التقسيمات الفقهية لم تعدْ موجودةً بوضوح فيما يتجسد التباينُ بين اتجاهين فهناك الاتجاه الاقرب للحداثة وهو الإخوان المسلمون والاتجاه التقليدي السلفي. وعُرفَ عن هذه الاتجاهات الارتباط بالدول الخليجية المحافظة وسياساتها ولم تنتج ليبراليةً مهمة، في حين ظهرتْ الليبراليةُ في الاتجاهاتِ القومية الأولى حين كانت فئات تجارية حرة في زمن الاستعمار البريطاني، ثم توقف نمو الليبرالية فيها مع تداخلها بأنظمةِ الرأسماليات الحكومية العربية والبحرينية، التي سحبتْ الأبسطةَ من تحت الاتجاهات الليبرالية والديمقراطية مما أدى إلى تصاعدِ الاتجاهاتِ المذهبية السياسية التي راحت تعبرُ عن الدول الإسلامية الكبيرة وخاصة السعودية وإيران، حيث توافقت هاتان الدولتان في زمنٍ ثم تصاعدَ التباينُ بينهما مما ولّدَ انقساماً بين الحركات المذهبية السياسية وانقسامات في الحركات السياسية المختلفة البحرينية والخليجية عامة. ولهذا فإن آراءَ الجماعات المذهبية السنية لم تكن مؤثرةً في تطور الحركة الديمقراطية البحرينية، وكانت تؤيدُ المواقف المحافظة، ومع خفوت دور الحركات الوطنية اليسارية، وتصاعد دور القوى المذهبية السياسية، اكتسبتْ الحركاتُ السياسيةُ الشيعية طابعَ المعارضة بديلاً عن دور المنظمات الوطنية السابقة، لكن مع الارتباط بالسياقين الحكومي والمعارض الدينيين الإيرانيين. هذا جعل من دور الجماعات السنية السياسية ملتبساً أكثر ولم تستطع تجاوزَ الدور الرأسمالي الحكومي الشامل، عبرَ تصعيدِ دور الفئاتِ الوسطى والعمالية نحو الاستقلال السياسي والنمو الديمقراطي. تكونت قواعدُ الجماعاتِ السنيةِ من البرجوازية الصغيرة في الغالب مع تناميها في الفئاتِ الأكثر غنىً وفي المناطق المدنية، فيما جاءتْ أغلبيةُ قواعد الجماعاتِ الشيعية من العمال والبرجوازية الصغيرة وفي المناطق القروية الغالبة. يغلبُ على الجماعاتِ المذهبية المختلفة الارتباط بالنظام التقليدي، من هيمنة الدول والذكور المطلقة والقراءة المحافظة المحدودة للمراجع الإسلامية، وهذه مشتركة أساسية بين هذا الجماعات التي تولدتْ مع تحول الحضارة الإسلامية نحو التقليد والجمود وعدم تحولها للرأسمالية الديمقراطية، أما الاختلافات الفقهية فهي جزئية لا تدخلُ في المضمون العميق لها، وجاءَ الصراعُ في المنطقة بسببِ الصراع القومي العربي الفارسي أكثر منه تبايناً فقهياً. ومع حل هذا الصراع يمكن أن تتطور الأوضاع السياسية باتجاه الديمقراطية بصورة أعمق، لكن لا يمنع هذا من القيام بنضالات في هذا السبيل. ولهذا فإن غيابَ التوحيد الاسلامي وبروز الصراع بين اتجاه ليبرالي لدول مجلس التعاون لم يتبلور بعد ولم ينضج في صعود طبقات وسطى قوية، وبين النظام العسكري الإيراني عبر رأسمالية دولة شمولية حادة، أدى إلى تعثرِ مشروعاتِ النهضة الديمقراطية العميقة في كل هذه الدول. الاتجاهان السياسيان العربي والإيراني المختلفان في مسائل جوهرية كالموقف من دول الغرب والديمقراطية والحداثة، انعكسا في الاتجاهين المذهبيين السياسيين الرئيسين، حيث مالت المذهبياتُ السنيةُ نحو مقاربةِ الليبرالية فيما توجهت الجماعاتُ الشيعيةُ نحو الشمولية والتجاور مع القوى اليسارية والقومية المتشددة. لا شك أن أوضاعَ الفئاتِ الوسطى الصغيرة والمتوسطة التي تكوّنُ مجملَ الفئات السنية والتي تعطيها ظروفَ عيشٍ أفضل، وبتقارب مع المؤسسات الحكومية، تراوحتْ مواقفُها السياسية بين المحافظة والانفتاح، ولم تستطع أن تطرح مشروعاً وطنياً ديمقراطياً جامعاً. ولهذا حين ظهرتْ في السياسة بشكلٍ جماهيري لم يكن لهذا الشكل جذوره في الشارع ولم يُعدْ اللحمةَ الوطنية الفاعلة. الفئات الوسطى والبيوتات التجارية المتقاربة مع الدولة والجماعات السنية لم تعضد كثيراً مشروع الليبرالية والديمقراطية، وظلت متخندقة في مصالحها وهذا إحدى البؤر الكبرى في ضعف مشروع الديمقراطية وتكون الطبقة الوسطى. نجد أن أغلبية العمال الأجانب يعملون لدى هذه الفئات التجارية والمالية الكبيرة: بحسب تصريح لوزير العمل الأسبق سنة 2010، بلغت نسبة العمال كالتالي: (وصل عدد العاملين البحرينيين في القطاعين العام والخاص إلى 150 ألفاً، ولدينا 450 ألف عامل أجنبي). (وبحسب إحصائيات رسمية استحوذت العمالة الأجنبية على نسبة تتراوح بين 85 و95 في المائة سنوياً من إجمالي الوظائف التي يولدُها القطاعُ الخاصُ من 2006 حتى 2010)، جريدة الوسط، 7 ديسمبر، .2011 هذه البنية العمالية الأجنبية تجعل من حضور العمال البحرينيين ودعمهم لليبرالية والديمقراطية محدوداً، في حين تستطيع الاتجاهات المغامرة أن تستميلهم عبر تصعيد خطابات الانقسام وغياب أي تحول اجتماعي سياسي على الأرض. ويأتي نشر البروليتاريا الأجنبية الدنيا عاملاً آخر في إيجاد فرص أقل أمام العمال البحرينيين: (أما الوظائف التي تقل عن 50 ديناراً، فتركزت في قطاع الإنشاءات بأكثر من 20 ألف وظيفة، وقطاع تجارة الجملة والسلع الشخصية بأكثر من 11 ألف وظيفة، وكذلك قطاع الصناعات التحويلية بأكثر من 11 ألف وظيفة، يليها قطاع الفنادق بنحو 4 آلاف وظيفة.)، المصدر السابق. هذا إذا تغاضينا عن الذين لا يتسلمون أجوراً ويعيشون على الخدمة ويُنشرون بشكل فوضوي في الأسواق والشوارع. هذه الظروف وغيرها تكوّن انقسامات في البناء الاقتصادي الاجتماعي ولها تأثيراتها الكبيرة في الوعي السياسي. الانقسامُ السياسي بين المسلمين في المنطقةِ العربية الإيرانية، والانقسامُ بين التيارين السني والشيعي السياسيين البحرينيين، متداخلان. لقد رأينا الخلافَ بين الدولتين الكبيرتين السعودية وإيران ينعكسُ على تباينات الحركات المذهبية السياسية، لكن لهذا التباين سببيات بحرينية داخلية، وله علاقةٌ بنمو الرأسمالية وانقسامها بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة. لقد رأينا ضخامةَ أرقام العاملين الأجانب في القطاع الخاص، وهي أرقامٌ متصاعدة كذلك في السنوات الأخيرة. فالقطاع العام كان ينمو عبر احتكاره أغلبية الثروة وتوزيعها، وله خطط في الصناعة ومختلف جوانب الحياة، وعبر عقود القرن العشرين كانت الحرفُ والزراعة تنهار، وتوجه أغلبيةُ العاملين للأعمال الجديدة، عبر استيعابهم حكومياً إلى أن حدثَ التشبع وبدأت البطالة والفيض السكاني الريفي خاصة يبحثان عن علاجات وظيفية، حدتْ منها عمليةُ التشبع الحكومية، ونوعيتا المهن البسيطة والمعارف وكذلك التضخم العائلي. لكن الرأسمالية الخاصة كانت بمحدودية علاقاتها بالموارد الرئيسية في البلد تتجه لجلب العمال الأجانب بشكلٍ واسع، وغدت التجارة بالقوى العاملة الأجنبية عمليات متعددة، وعبر التداخل بين الرأسماليتين العامة والخاصة، من دون شفافية كافية. إن عدم ضبط تطور الرأسمالية بشكليها العام والخاص، وعدم تشكل طبقة قيادة ديمقراطية حرة بينهما، تقوم بتوزيع الموارد حسب خطط هيكلية اقتصادية اجتماعية، وعدم وجود برلمان يلعب دور القيادة لعمليات التطور الاقتصادية السياسية المتداخلة، أو مع وجوده ونقص دوره المحوري، فإن هذه العفوية التي تغدو تناقضاً وارتباكاً في العمليات الاجتماعية العامة وفي السوق خاصة، تجعل من الوعي السياسي بمظاهره المذهبية السياسية غيرَ واعٍ بمثلِ هذه التطورات والتأثير الايجابي العقلاني عليها. إن الاتجاهات المذهبيةَ السياسية هي بذاتِها أشكالٌ من هذا الاضطراب بين الدول الإسلامية لعدم وجود معايير ديمقراطية نهضوية توحيدية بينها، مما يدفعها للصراعات المضرة بها جميعاً، ويظهر هذا في التطرف وعدم عقلانية الأهداف السياسية المطروحة أو عدم عمقها الكافي ومقاربة المعايير العالمية، ولغياب المقاربة والتعاون البناء وإزاحة الخلافات عبر العمل المشترك. إن الشرائح الوسطى والعليا المتعددة المنقسمة، تضربُ بعضَها بعضا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالتوازن في استخدام العمالة الأجنبية، وتصعيد دور الرأسمالية الخاصة وإعطاؤها حريات وأعمالاً في البناء الاقتصادي الحكومي، وتشغيلها هي نفسها للمواطنين بأشكال واسعة، وتطور التعليم التقني العلمي، وتطور دور البرلمان كقائدٍ للعمليات السياسية الاقتصادية، هذه وغيرها من الأهداف لا تتناقض ويمكن حدوث مقاربة وتضافر بينها. هذا ينعكس بالضرورة على الوعي السياسي، الذي يقود العمليات المُفترضة، ويتقدمها بدلاً من أن يكون ضحيةً لعدم فهمها أو أن يضعَ العصيّ في عجلاتها. إن الجماعات المذهبية السياسية التي هي أغلبيةُ الوعي السياسي، حيث تملك القسمَ الأوسع من الجمهور وتتحكم في مساره، يشكلُ انقسامُها تعبيراً عن انقسام الناس وانقسام الفئات الوسطى المؤثرة في هؤلاء الناس بقوة وعدم قدرتهم على العمل المشترك لتغيير الواقع. إن وضعَ الأفكار الدينية المُبسطة في قيادة الوعي السياسي هي بداية أسباب التفكك، لأن هذه المذهبية هي تعبير عن انقسام عتيق ومرتبط بهيكل اقتصادي تجاوزه الزمن كثيراً، كما تعود للماضي المحافظ حين عجز المسلمون عن التوجه للحداثة وتصارعوا قومياً من خلال المذاهب، لكن البدء من مقولات الحرية والديمقراطية والعقلانية والوطنية والتخطيط الاقتصادي ووحدة الشعب وتعاون الطبقة الوسطى والعمال وتصعيد طبقة وسطى وطنية متلاحمة، هذه الأفكار الأساسية وغيرها هي الأسسُ التي ينبغي أن تُوضع بدايةً في تشكيل الجماعات السياسية. بطبيعة الحال إن هذا التحول المطلوب لا يخص فقط الشعب البحريني لكن يخص الشعوب المجاورة وقياداتها كذلك، لأن أعمالَها السياسية القائمة على المذهبيات وشعاراتها الفوقية المبسطة، وعدم الدخول الواسع العام في الليبرالية والديمقراطية يعوق هذا التحول الديمقراطي في الخليج وإيران. لكن من الممكن القيام بأعمال ومهمات ضمن الممكن تمهد وتسهم في التحول الديمقراطي الواسع القادم، وخاصة فيما يتعلق بتطور العمال المواطنين وتطور ظروفهم العملية والمعيشية والقضاء على مزاحمة العمالة الأجنبية الدنيا وتدني أجورها، وتوسع استخدام النساء في مختلف أشكال العمل، مثلما أن الفئات الوسطى بحاجة إلى إشراكها في مشروعات البنية التحتية وتطور الاقتصاد والمجتمع عامة. من أجل بناء دولة حديثة ديمقراطية لابد من القطع مع التوظيفات المذهبية في السياسة وبناء الأحزاب والدولة، والتحرر من العلاقات الأثنية والعشائرية والمذهبية، التي ستؤثر في بناء الفئات الوسطى والعمالية وخاصة تجاه الوطنية والحداثة، وهذا التبدل سوف يتيح لها تطوير البنائين الاقتصادي والسياسي. إن قوانين الديمقراطية والعلمنة لا بد أن تأخذ طريقها للتطبيق وهي ضمانة لتوحيد الفئات الوسطى وتغيير طابع المنطقة المتوجه عبر الطوائف وسياساتها وصراعاتها إلى كوارث كبرى. وإذا كانت الفئات الوسطى لا تنتج هذه المعرفة وتحيلها للتطبيق فمن سيقوم بذلك؟
تتفتق وتتشظى التنظيماتُ السياسيةُ في اللحظات الاجتماعية العسيرة على الشعوب، ليس لتزرع تطوراً جديداً نوعياً، بل لتعبر عن طموح قادتها، ورغباتهم في تملك التنظيمات والزعامات! تتشابه هذه اللحظات والتشظي بما حدث لتنظيمات الخوارج وغيرها في العصر الوسيط حيث راح زعماء الفرق يؤكدون ذواتهم الفردية الحادة وكلٌ منهم له طموح يقومُ بشق التنظيم ويؤكد تباينه الفكري المميز عن صاحبه الذي كان وهو لا يحمل شيئاً من ذلك. فعرف المسلمون وقتذاك آلاف الفرق السياسية والدينية بحيث كان هذا نذيراً بالانهيار العام. القوى ما قبل الرأسمالية غير قادرة على الصعود للعصر الحديث، وغير قادرة على الانحياز للطبقات الحديثة، التي لها رؤى وبرامج تاريخية، وهي حالات الشرق خاصة الذي يعيش مخاضات الانتقال. الخطوط العريضة التي صنعها الغرب والتي تبلورت في الخطوط الاشتراكية والرأسمالية المتعددة، قبلها كان ثمة مخاض طويل للفوضويين والقوميين وأصحاب العنف والنخب المغالية بفرديتها وللروحانيات ذات الشطط، لكنها كلها ذابت عبر قرون التطور وتبلور المجتمعات وظهور الاصطفاف الاجتماعي بين البرجوازية والعمال. هنا نجدُ استمراريةَ عقليات القرون الوسطى وقيام كل نخبة بصنع تنظيم، معبرةً عن طابع الاقتصاد غير المتبلور، وتضخم الفئات البرجوازية الصغيرة والحرفيين والموظفين، وعدم وجود صناعات مركزية خاصة كبرى. حين يقوم أي تنظيم من هذه التنظيمات الذاتية غير الموضوعية لن نجدَ فلسفةً وراء هذه العملية الانشقاقية، والفلسفةُ الجديدةُ هي المبرر الموضوعي لنشوء تنظيم مختلف، بمعنى انه قامَ بذلك لأنه يعبرُ عن رؤيةٍ جديدة للوجود والمجتمع، وعن صعودِ طبقة مختلفة أو تكوين اجتماعي مهم في الحياة له أسس في الاقتصاد والحياة الاجتماعية. الانشقاقُ وهو فعل تفتيتي للناس، وإذا كان بلا رؤية فكرية معبرة عن غليان اجتماعي ذي تراكم معرفي سياسي طويل مُبرر يكونُ نقيضهُ تمزيقاً مدمراً. هنا تكون طموحات الأفراد واختلافاتهم ورغباتهم في الصعود والظهور والحصول على مغانم ما، هي أساسُ الانشقاق، وبالتالي فإنها تزيد المجتمع اضطراباً وتوسع الخلافات غير الموضوعية بين جماعاته وأفراده. وغالباً ما يحدث ذلك في التنظيمات الدينية التي لم يكن لها أساسٌ شرعي من البداية، حيث قامت خلافاً لرؤيةِ الإسلام التوحيدية التجميعية الشاملة السياسية للمسلمين، التي لم يكن غيرها سوى تفتيت، وقد بدأتهُ المذاهبُ الكبرى المتحولة من فقهٍ شرعي متنوع مطلوب في فهم العبادات والمعاملات، إلى قفزة سياسية تفكيكية للجموع من قبل المسيسة المنتفعة، وعبر تكوين الفسيفساء التي بدأتْ من كبريات الفرق حتى ذراتها الصغيرة الذائبة في الغبار السياسي للتاريخ. وكانت هذه العمليات تعبر عن اقتصادات مفككة، تزداد اهتراءً وذوباناً في المناطقية والمحليات الضيقة، ويمكن ملاحظة المفارقة المأساوية الكبرى بين ضخامة دعوة التوحيد وتشكيلها الامبراطورية وعقليات الفرق والطموحات المريضة لقادتها، وتشكيلها ذلك الغبار الاجتماعي السياسي! وفي هذا العصر راحت الأمم تبني الاقتصادات الكبرى وتجمع الملايين وتحتاج إلى أحزاب كبرى تعبرُ عنها، وتقرر سياساتها التحويلية، وسياسات التوحيد العالمية تتصاعد بشكل خطر ينذرُ الدولَ الصغيرة التي تقل عن ثلاثين مليونا بالخروج من الخريطة الجغرافية السياسية العالمية. هذه توحيديةٌ معبرةٌ عن وعي الصناعة، وتلك تفكيكية معبرة عن عقلياتِ الدكاكين. نجدُ ملامحَ الأحزاب الرأسمالية تأخذُ بُعداً كونياً حين تتجمع أحزاب اليمين الغربية معبرةً عن سياسات وتحتدم بينها الخلافات تعبيراً عن صراعات الأسواق والأمم ولكنها تضع خطوطاً عريضة لدول كبرى، تماماً كما تفعل الأحزابُ الاشتراكية لكن من مواقع اجتماعية أخرى، ولمصالح قوى العمال والمنتجين والرأسماليات الوطنية المطحونة من صراعات العمالقة. ولهذا نجدُ في بلداننا بعد زمنٍ يسير من تشكل الجماعات السياسية ان عددها زاد عن أعداد أحزاب الدول المتقدمة وهي لا تضم سوى بضع عشرات من الأفراد، وتغيبُ عنها أي رؤى فلسفية سياسية، والعديد من قادتها يريد البروز ولا يقدر على تغيير أي شيء في الواقع، ودع عنك أن يكون قادراً على تغيير الظروف المادية للجمهور. كما أن هذا دليل على التضخم الذاتي، وعدم وجود دراسات جدية للأوضاع العامة وتشكيل رؤى نقدية تحويلية خاصة بأصحابها. ثمة فرق هائل بين الفقاعات السياسية وبين التنظيمات التي تتجذر في الأرض والناس وتطرح سياسة تحويلية يلتف الجمهور حولها وتأخذ طريقها للتنفيذ، وتصعيد مجتمع المالكين والعاملين المتصارعين بشكل حضاري.
تعود عدم قدرة الشرائح الوسطى العربية في أن تكون بورجوازية حرة، وبالتالي أن تعيد تشكيل المجتمع العربي التقليدي باتجاه الحرية والحداثة، إلى كونها تابعة للإقطاعين السياسى والدينى العربيين، وفى العصر الحديث لعبت التبعية للغرب دوراً آخر. ولهذا فإن المنطمات القوموية المختلفة ظلت مرتهنة بهيمنة الإقطاع؛ وأحياناً؛ يتجلى بشكل خارجي، عبر تبعية الفروع للمركز فى بغداد أو دمشق، فى حالة البعث خاصة، أما القوميون فمع تحولهم إلى فتات سياسي أخذوا يقتربون أكثر وأكثر من المراكز السابقة. وكما يحدث في المركز أي في بغداد أو دمشق أو طرابلس من إلحاق شرائح الطبقة الوسطى بملكية الدولة وسوقها وهيمنتها، فكذلك يحدث في الدول العربية الأخرى، حيث تلتحق هذه الشرائح بهيمنة الدولة العربية الإقطاعية، ولهذا لا تجد هذه الجماعات السياسية اختلافاً بين المركز والأطراف، حيث يقوم فكرها على التبعية للمركز المسيطر وعدم القدرة على إنتاج الفكر الحر. إن عدم قدرة هذه الشرائح على إنتاج الفكر الحر يتجلى في عجز البرجوازيات العربية حتى عن مقاربة فكر البرجوازيات الغربية في زمن النهضة، وفي طرح خطاب سياسي فكري ونهضوي متسق، فعملية التبعية لأجهزة الدول تقود إلى تحلل هذا الخطاب من أية قدرة على التحليل والشجاعة الفكرية والنقد، هذا إذا تذكرنا شخصيات زمن النهضة الأوروبية قبل بضعة قرون كجان جاك روسو وديدرو وفولتير، وقدراتهم على نقد الدين والإقطاع والتخلف. إن هذا الخواء الفكري هو الذي ينتج شخصيات دكتاتورية أمية على شاكلة صدام حسين، التي لا تقوم بإنتاج الحداثة، بل تستعيد الهياكل القبلية والعشائرية المتخلفة، ودع عنك مسألة القدرة على تشريح المجتمعات ومواجهة الشمولية بشتى تراكيبها ومستوياتها . إن عمليات الالتحاق بأجهزة الدولة الإقطاعية الدينية العربية تقود هذه الشرائح إلى الانتهازية وبذخ العيش والأنانية والسطحية الفكرية، وبالتالي تسويق اي مشاريع ما دامت تابعة للمركز، سواء كان القومي أو المحلي، وتغييب النقد والعقل الفاحص الموضوعي، ومن هنا تتعايش هذه الشرائح مع الخرافات والأساطير ولا تعود قادرة على السير في منحاها العلماني المغترض، وتغدو دينية، أي مذهبية، فتعجز حتى عن تنمية الدين باتجاه عقلانى تحرري، ولهذا نجد طبيعة الخطاب المواجه للأمريكيين كيف غدا أسطورياً، وعاجزاً عن فهم الواقع، وعشائرياً، وقادت هذه الدكتاتورية الضخمة على مستوى السلاح وهياكل الدولة الأسمنتية، إلى خواء شعبي، وفراغ بشري وفكري داخلى عميق. أنا الشرائح البورجوازية الصغيرة الضائعة فكراً بشكل أكبر، فهي تتناثر كالغبار وراء هذه التبعية وهذا الوعي التقليدي. ولهذا تتوجه كذلك للقطب الديني، فهي تنشد إلى القوة المغناطيسية القوية عادة. وسابقاً كانت تبالغ في اليسارية، وهكذا يغدو «الفكر» حسب الموضة والدفع. شرائح الطبقة الوسطى التي غدت تابعة للإقطاع تعيد إنتاج نماذج القرون الوسطى العربية، حيث لا يترتب تغيير هيكلي أساسى فى بنية الاقتصاد، أي حين تكون ملكية الدولة هي الأساس؛ وهكذا رأينا تأميم النفط العراقي يخدم أسر بعض العشائر الإقطاعية، ويشكل خلافة ودولة بوليسية. ولا تختلف بقية البلدان العربية عن هذا التنميط، وإن كان بألوان أخرى.
ثورة برجوازية بقيادة شعبية
يتضح أكثر وأكثر في المسار العربي القومي والوطني في آن، عجز شرائح الطبقة الوسطى عن إنتاج الحداثة وتبعيتها المستمرة للإقطاعين السياسي والديني، مما يترتب عليه تشكيلها أشكالاً من الوعي تميع التطور السياسي العربي الراهن. وإضافة إلى جهلها بمسار التطور المطلوب، فإن تبعيتها للإقطاعين السابقين، تقود إلى تشويشها للوعي الجماهيري الانتقادي المتنامى، وتخريب محتواه الاجتماعي، فهي لا ترى وجوداً للإقطاع السائد، لكون استثماراتها ومصالحها تتشكل من ذلك. إن المسار الراهن المتوجه من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، أي من الإقطاع إلى الرأسمالية، يتطلب إجراء ثورة ديمقراطية على مختلف الأصعدة، وهي ثورة غدت ملامحها ترتسم في شتى نواحي الحياة، لكن عملية الانتقال السياسية تتطلب قيادة اجتماعية ذات رؤية واضحة غير مشوشة، أي قيادة غير تابعة للإقطاعين السياسي والديني، أي قيادة تشكل العلاقات الرأسمالية الحديثة كبنية سياسية وقانونية حاسمة ومقارفة للعصر الوسيط العربي. إن المقردات الرائجة العربية حول الديمقراطية مثل: تداول السلطة، والمساواة بين الأجناس، وخلق المواطنة المتجاوزة للطوائف والعشائر، وإيجاد دولة القانون الخ.. إن هذه المفردات صحيحة بلا شك ومهمة، إن تداولها بهذه الكثرة دليل على أهميتها الراهنة، وإن ثمة حاجة موضوعية ماسة لدى طيف واسع من القوى الاجتماعية لتجاوز الوضع المتخلف الراهن للدول العربية. لكن هذه الحاجة إلى التغير الواسع والعميق عادة لا تجد الوسائل السياسية والاجتماعية لتحقيق هذه الأهداف، فالقوى الليبرالية خائرة وهي عاجزة عن المساهمة على مستوى الشارع والمستويات العليا في طرح صوت ديمقراطي ثابت، على الصعيدين الداخلي والخارجي لأي بلد عربي، ودع عنك تشكيل منظومة على مختلف المستويات لبنية الحداثة المنشودة، بالرغم من أنها تساهم في ذلك ولكن بطرق مواربة، تجعلها مستعدة لمسايرة التيار الغالب. أما القوى الدينية فهي ترفض المشروع، لكونها جزءا من التركيبة الماضوية التي يريد العرب تجاوزها، وهي غير قادرة على فهم عملية التحول بشكلها الاستراتيجي، لكونها المعبرة عن الوجه الاجتماعي من المنظومة الاقطاعية العربية، مثلما أن الدول تعبر عن المستوى السياسي للمنظومة، ولهذا فإن هذين المستويين يتداخلان ويدعم كل واحد الآخر. لكن شرائح من القوى الدينية ستنفصل عن نواتها المتشددة، متى ما كان ثمة صوت ديمقراطي عميق وثابت في أي مجتمع عربى، تنشد إليه المجموعات الطامحة إلى التغيير. ولا توجد مجموعات اجتماعية قادرة دائما على رفد هذه الطاقة السياسية بالحرارة النضالية غير المنتجين والنساء، الذين يعانون أكثر من غيرهم أعباء المرحلة وتخلفها، ولكننا نرى أنه حتى مستويات عديدة من القوى العاملة منشدة إلى التركيبة التقليدية وإلى هيمنة القطاعات العامة البيروقراطية وإلى عمليات فسادها، أو نجد أنها تابعة للمحافظين أو للحياة الأبوية والإقطاع المنزلي كحالات النساء، فحتى تحرر الطبقات المنتجة من أسر الحياة التقليدية يحتاج إلى زمن نضالي موضوعي، أو نجد عملية إغراق السوق بالقوى العاملة الأجنبية أو الريفية الخ… بحيث تعجز القوى المنتجة الوطنية عن تشكيل صوت خاص وحديث. لكن عمليات صعود الدور الإنتاجي، سواء من قبل البرجوازية الصناعية أو العمال على المستويين الوطني والقومي هي مسألة وقت، فدون ذلك انفجار النظامين الاجتماعي والسياسي. في هذه المسألة الخطيرة والحاسمة من التطور لا بد من مراجعة المواقف (التقدمية) في هذه المرحلة باعتبارها الحلقة المركزية في هذا الزمن المتخثر. هناك غلالة من الرؤى المشوشة عند القوى التقدمية العربية تعكس تخلف وعيها الفكري وضعف نشاطيها السياسي والفكري. ففالباً ما يُطرح هنا عدم فهم نظري بدرجة أولى، أي عدم استيعاب لتطور المجتمعات العربية، وبالتالي عدم فهم المرحلة المعاصرة وقضاياها وأولوياتها. فبعض القوى يقول كيف نناضل من أجل إنشاء نظام رأسمالي وهو موجود؟ وفي رأيهم ان الخطوة الصحيحة هو تجاوز هذا النظام الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي. ومثل هذا الرأي يعطينا سلة من الأخطاء الفكرية والسياسية، لأنه يفتقد توصيفا موضوعيا للمجتمعات العربية الراهنة، فهو رأي قد نقلها إلى المجتمع الحديث بجرة قلم، وفي حين تتجه المجتمعات العربية إلى الوراء في وعيها، كظاهرة واضحة على سيطرة الإقطاع السياسي واستغلال الإقطاع الديني في تخريب التطور، بسبب عجز القوى السائدة عن حل الإشكاليات والانتقال إلى المسار الحديث، فإن بعض التقدميين يساهم في هذه البلبلة وتقوية القوى التقليدية، فربما هو ذاته يعيش الحياة التقليدية ويساهم في النظام الإقطاعي العربى الراهن، سواء بحبس النساء أو المساهمة في الوعي السياسى المذهبى المتخلف، أوالتبعية لقوى سياسية متشددة. فهو تقدمي شكلاً محافظ مضموناً، لديه قدمٌ في الإقطاع وقدمٌ أخرى في الرأسمالية، ولهذا ومن أجل تمويه موقعه الحقيقي، يطرح مهمات غير ممكنة، لا يقود طرحها سوى إلى تقوية المحافظين. إن طرح المهمات الديمقراطية بشكل حقيقي، سوف يعرض تنظيمه «التقدمي» إلى الكشف، سواء على المستوى الفكري، حيث العجز عن فهم المرحلة الانتقالية، أو على المستوى التنظيمي، حيث يتم منع فهم المرحلة بأدوات الحوار والتنظيم الداخلية. ويكفي ارتباط بعض هذه الجماعات «التقدمية» بأنظمة دكتاتورية لكي نضع علامة استفهام كبرى حول عملياتها السياسية والمالية، ناهيك عن دورها في تشويش الوعي الوطني التقدمي الإسلامي. من المؤكد ان طرح مهمات ديمقراطية عميقة وواضحة، في مسائل السلطة، والمساواة الجنسية، واستبدال سلة من قوانين الإقطاع، يسمونها زوراً بقوانين الإسلام، وإقامة الدول الديمقراطية العلمانية العربية الخ. . إن مثل هذه المهمات سوف تفضح القوى السياسية الشمولية وتجعلها على محك الانتقال إلى الحداثة. إن البنية العربية الإقطاعية معقدة ويكفي من التباسها ان بعض التقدميين ينتمون إليها، وظواهر مثل: الأبوية، الهيمنة الذكورية، القبلية، الطائفية، هي من فسيفساء هذه البنية، وهي متغلغلة في الجماعات الاجتماعية والسياسية المختلفة، بحيث يغدو النضال ضد هذه البنية عملية فصل بين بنيتين: التقليدية الُمراد تجاوزها، والحديثة المراد تشكيلها. إن التحالفات بين بعض القوى الدينية والتقدمية هي جزء من هذه التداخلات؛ وإذا كان التعاون السياسي مطلوبا فينبغي ألا يكون على حساب المبادئ؛ بحيث يكون من أجل تصعيد بنية الحداثة، والعلمانية، والإسلام والمسيحية التقدميين، كما أُسسا كثورتين اجتماعيتين، وليس كردتين عن الثورة وأداتين للإقطاع، أي جعل كل ما يضع الميراث الإنساني الكفاحي في خدمة قضايا الحرية. إن ارتباط هذه الجماعات الشمولية المختلفة بالإقطاعين السياسي والديني، يجعلهما في موقف المتراجع والمتخلخل من ضربات العصر المتلاحقة، وإن انفكاكهما من هيمنة الدول وكذلك تطور البُنى الاجتماعية باتجاه التحديث، يجعل ظهور اتجاهات جديدة وإعادة النظر في الموروث الديني والسياسي التقليدي مسالة مستمرة ودائبة. ولكن دون وجود قطب اجتماعي وسياسي وفكري تقدمي يعمل على المستويات كافة من أجل بلورة وتصعيد هذا المخاض، تكون الحلقة الرئيسية مفقودة. تغدو المساهمات الشعبية التقدمية في مسألة تبلور أنظمة الحداثة العربية هي المحك الرئيسي للانتقال من عصر التقليد إلى عصر التقدم. فالطبقات العاملة العربية، والمالكة المنتجة، هي القوة الاجتماعية القادرة علي صنع هذا التحول، ولهذا لابد من ردم الهوة بين التقدميين والطبقات العاملة، والتي تشكلت في ظل الأنظمة الشمولية السابقة بمختلف تجلياتها. ولكن الطليعة هنا لا يقصد بهها الوصول إلى نظام دكتاتوري باسم هذه الطبقات لإقامة فترة تحول إلى الاشتراكية، بل الوصول إلى المجتمع الحديت، بمواصفاته السابقة، فذلك الذي يؤدي فعلاً إلى تطور هذه القوى المعرقلة كغيرها من البنية التقليدية والمتخلفة، وهي التي تقوم باضطهاد نسائها، وعرقلة تطور أسرها، والنوم في بحر من الغيبيات والكسل وعدم التضحية والإنانية وعدم البحث عن التطور العلمي الخ… إن النضال الذي تقوم به من أجل تغيير أجورها وظروف عملها ومعيشتها، لا ينفصل عن تطوير الديمقراطية الاجتماعية في المعمل والإدارة الحكومية والحي. إنه نضال ديمقراطي شامل تقوم فيه القوى العاملة بتأسيس هذه البنية الديمقراطية التى لا هى المتنفس الوحيد للقوى العاملة لكي تتطور وتزدهر فكرياً ومعيشياً. وقد أثبتت التجارب العربية خلال السنوات الأخيرة ان السلطات العربية في مهرجاناتها الشكلية الديمقراطية كانت تناور في اللعبة السياسية، أكثر منها تقوم بإرساء تجارب ديمقراطية حقيقية.حيث إن الغرب قد رفع حمايته عنها، وأصبحت مكشوفة ولهذا دخلت لعبة المناورات الداخلية والخارجية لكي تكسب وقتاً في الوضع الدولي الصعب لها. ولهذا تصبح دعاوى الماضي المميز للإمة والدين والتقاليد الخاصة بالعرب وغير هذه من الشماعات التي تُعلق لعدم تطبيق ديمقراطية حقيقية وشاملة، ولكن من يعلق جرس الديمقراطية ومن يشكل دولاً ديمقراطية حقيقية؟ من الواضح ان الفئات الوسطي غير قادرة على خوض نضال صلب من أجلها، وهي تتطلع إلي أنصاف الحلول التي تقيدها، في حين ان الجمهور العربي الواسع مشغول بلقمة العيش. كذلك فإن جذور الإقطاع السياسى قوية بسيطرته على ملكية الدولة، لكن من الواضح أيضاً ان هذه السيطرة علي الأملاك العامة تتجه بالمجتمعات إلي الإفلاس أو الحروب الكارثية على طريقة العراق. كما أن هذه السيطرة البيروقراطية الفاسدة أصبحت غيرمقبولة لتطور السوق العالمية. من هنا تغدو السيطرة على الأملاك العامة من قبل المجتمعات العربية المختلفة هي بؤرة النضال الراهن، ولهذا تغدو برامج القوى التقدمية العربية هي استمرار سيطرة الدول على الملكية العامة الأساسية والصناعية الكبرى عبر نقل السلطة السياسية إلي البرلمان، وتشكيل الوزارات من خلالها، وبالتالي لا تملك القوى التقدمية العربية في خيارها هذا سوى المراهنة على وعي الجمهور، المستمر في تحولاته وتطوره. وقد يقول قائل إن فتح باب الانتخابات المطلقة هذه يقود إلي صعود القوى المتشددة. فلا بد من المرحلية وطبخ الانتخابات. والواقع انه بعد التحولات في المنطقة لم يعد هذا الخوف مبرراً، فاي أنظمة إرهابية أودكتاتورية عنيفة سوف تواجه من المجتمع الدولي، وكذلك القوى الغربية المتنقذة. ولهذا لم تعد مثل هذه الحرية السياسية موضع خشية من تسلل قوى الإرهاب تحت مظلات الديمقراطية. بل إن عقلية الديمقراطية الجزئية وعلى مراحل أصبحت عائقاً للتطور الديمقراطي الواسع في العالم، ولا توجد مدرسة أفضل لتعليم الجمهور السياسة ومعرفة الأحزاب وبرامجها ومحتواها الحقيقي سوى الديمقراطية. إن مضمون هذا التحول يستدعى أشكالاً ملائمة له، فثورة برجوازية تعني استكمال مهمات التحول إلى الرأسمالية والحداثة بادوات القانون؛ الأمرالذي يعني تحالفات سياسية ونضالاً متعدد المستويات للتغيير من داخل المؤسسات الرسمية ومن خارجها. مثلما يستدعي ذلك تبدلات على صعيد الوعي بتغلغل الديمقراطية في النسيج الاجتماعي العام، وفي المؤسسات الفكرية والسياسية، وإعادة النظر في الموروث، وتصدر القوى الشعبية لإنتاج ديمقراطية عربية تحديثية.
مرحلة البرجوازية التجارية
على مدى القرنين العربيين السابقين لعب الرأسمال التجاري الدور الأكبر من بقية أقسام الرساميل في التجارة والحياة الاقتصادية العربية. لم يتح الغربُ هذا الانتشار الواسع للرأسمال التجاري العربي إلا باعتباره وسيطاً بين بضاعتين، مادة خام رخيصة في بلده يقوم بتصديرها، وسلعة ثمينة مستوردة يقوم باستيرادها من الغرب ويقوم بتسويقها في بلده، وبهذا يقوم بالمشاركة باستغلال المنتجين علي الطرفين، الربح من الزراع والحرفيين، والربح من فائض القيمة في البلدان الرأسمالية المتطورة. ولهذا فإن الوضع الموضوعي لهذا الرأسمال هو العيش الاقتصادى من تشكيلتين مختلفتين، متناقضتين، وهو ينمو عبر ظروف الفقر والاستغلال لمنتجي بلده، ويقيم عازلاً نفسياً وفكرياً بين الانتماء إليهم، وكذلك يغض الطرف عن بلدان المنشأ التي تغدو له النموذج والمثال، لكن الذي لن يحتذيه بكليته، بل سوف يأخذ عبر أبنائه في الجامعات ومراكز الثقافة، بعض الموضات منه، فيغير ملابس الفلاحين والبدو ويلبس الملابس الأفرنجية، وكذلك تتغير ملابس النساء من الملاءات والثياب العتيقة إلى الفساتين. وهكذا سيظهر تناقض أولي بين أبناء البلد والافندية أو بين أبناء الذوات. وكذلك ستظهر الفلل الحديثة بعيداً عن الأحياء والأزقة الفقيرة. وفي السياسة سيأخذ أشكال الحياة السياسية الغربية، لا مضامينها التي تولدت عبر مخاضات اجتماعية خاصة، وسيكون للتحديثي وجه ليبرالي وكذلك قفا ديني مذهبي. وسوف يستورد الشعارات والمدارس الفكرية والسياسية مثلما يستورد الصابون والثلاجات والمكيفات. وإذا كان لكل بلد عربي فئة تجارية فإن لبنان اتخذ ككل سمة التاجر بين الشرق والغرب؛ ويقوم الرأسمال التجاري الثقافي هنا بتصوير هذه السمة وكأنها هي لبنان كله وأنه لا ينتمي لعروبة أو شرق، فيقول الشاعر اللبناني المسيحي ميشال شيحا «إن لبنان قد لعب دوراً فريداً في إنشاء الحضارة العالمية: ففكرة النشاط الاقتصادي؛ والتفكير المجرد، والمحبة المسيحية، وتجسد الحقيقة في الكنيسة؛ وفن السياسة الذي بلغ كماله علي يد الأمويين، كل هذا وهبته مدن لبنان للعالم» . إن تراكم أرباح البضائع المستوردة وإنشاء قشرة من الحداثة ونقل المنتجات الغربية من لغة وفنون وعلوم، تعطي انطباعاً بأن البلد المتخلف قد رحل من موقعه وذاب في نهر السين . لكن كل هذه المنتجات الحداثية تقفُ فوق أرض إقطاعية – مذهبية، ويتقسم الوطن إلى مزارع طائفية يحكمها أناسٌ جمعوا بين عصرِ عمل الفلاحين واستغلال هامش الربح في البضاعة، ولا تستطيع لهذه أن تماثل دور المصنع في النهضة الأوروبية وتحويله للعالم التقليدي. حيث قام المصنع بإزالة المزارع الطائفية وتحويل الأمة أو الشعب إلى سوق موحد، لكن عملية الانصهار لا يتيحها الرأسمال التجاري الذي يعيش على فتات نظامين اجتماعيين متناقضين . ولهذا من الممكن في مثل هذه القشور الحداثية أن ينتفخ البعض، ويتصور ما بلغه وكأنه القمة كما يقول سعيد عقل الذي يصور لبنان بأنه «عاصمة العالم الروحية ومستودع تراثه الفكري». هذا الانتفاخ الشعري تماثله انتفاخات فكرية واجتماعية عديدة عند الحداثيين العرب فحين يستلفون بعض الكراسي والالات والجمل والأفكار يتصورون أنهم لم يعودوا رعاة أغنام وأنه عبر بعض الفساتين والأضواء الخلابة أنهم حققوا التماثل مع مسارح العالم الراقي. إن الرأسمال التجاري ينقل المنتوجات ولكنه يتوهم أنه يصنعها .
البرجوازية المنفلتة والشموليون
لم تتعلم الفئات الوسطى الغنية الكبيرة أياً من دروس الماضي العربي السياسي القريب، فغياب الذاكرة الاجتماعية هو بسبب أن كل إدارة مصنع أو معمل أو شركة تشتغل من دون الالتفات إلى ما هو خارج هذه الإدارة أو المصنع أو الشركة، إلا إذا كانت سوقاً لتفريغ البضائع ومصادر للتمويل، أما ما يجري من ورائها من تفاقم فقر أو نمو اتجاهات متطرفة، فهى غير معنية بذلك، كالبيت المغلق مشغول بذاته ولا يهمه المزابل أو الحدائق المجاورة! حين نشأت الفئات الوسطى الغنية عبر تراكم الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، لم تعتن سوى بتدفق الأرباح الهائلة، التي وفرها انكماش الواردات ونمو الصادرات المحلية، وتركز نظرها الاقتصادي في تكاثر المواد الأولية كالقطن والتمر والفوسفات واللؤلؤ والنفط، وتركز نظرها السياسي في احتلال مقاعد البرلمانات وتصعيد أحزابها، لكن سياستها لم تعدُ سوى الحفاظ على مكاسبها الخاصة بكل السبل الممكنة التي فيها كل أساليب الحفاظ على المصالح الخاصة، أي الحفاظ على البيت الداخلي، وترك أي اشتغال بالحفاظ على البيت الوطني المشترك. كانت الفئات الوسطى الغربية أكثر تجذراً فهي قد سيطرت على السوق، ثم جعلت آلياته تشتغل من دون تحكم من الدولة التقليدية المهيمنة. أما الفئات الوسطى العربية فقد اندفعت لمصالحها من دون أن تقدر على فرض آليات السوق الحرة على مجمل النظام. لا شك أن المصنع الغربي لم يكن يلتفت إلى ما هو خارجه كذلك إلا إذا كان سوقاً أو تمويلاً؛ لكن كانت الدولة خارج التدخل، فيغدو الصراع مركزاً بين إدارة المصنع والعمال عبر البرلمان والنقابات، وهذا الصراع هو الذي يفرمل غلواء إدارات المصانع. أما الفئات العربية فهي تعمل في غياب الأنظمة السوقية الصارمة وفي وجود برلمانات غير قادرة على تقنين الحياة الاقتصادية، وهذا الغياب المتعدد الأشكال هو الذي جعل أرباب العمل يحضرون الأعدادَ الهائلة من العمال الأجانب، متصارعين على الأرباح في أسواق ضيقة وتنافسهم فيها الدول ذات الصولجان، كما أن تطور العولمة جعلهم قادرين على ترحيل الأرباح والرساميل في أي لحظة أحسوا فيها بالخطر الداهم، بل قادرين على نقل مؤسساتهم بالكامل! هذا كله جعل شعارهم المصلحة الخاصة فوق كل شيء. لقد كانت طبيعة هذا الرأسمال الاجتماعية قد جاءت من دول الشرق الاستبدادية، أي أن جذوره كانت جبانة سياسياً، ومتداخلة مع قوى بيروقراطية، وإذا كان رأسماليو انفتاح القرن الماضي لم يعبأوا بالضباط الأحرار والأحزاب اليسارية, فتمكنت هذه القوى من مصادرة اموالهم، وتحويلها لهاً، فإن الرأسماليين الحاليين يحاولون مجاملة الأحزاب الدينية عبر بناء مساجد أو إطلاق اللحى والتظاهر بالتدين، مؤيدين هذه الجماعات في تركها الاقتصاد يجرى كما يجري، لكن إلى متى؟ سوف يلتفت هؤلاء بعد أن تقوى قبضتهم على السلطات سواء أكانت فقهية أم تشريعية أم حكومية، إلى التدخل المتزايد في عالم الاقتصاد، وتطبيق معايير غير اقتصادية، وسوف يعملون على تشكيل أنظمة شمولية بهذه الدرجة أو تلك، إلا إذا حدثت تطورات داخلية عميقة داخلهم باتجاه الحداثة. وفي كل الأحوال فمن دون أصوات لتشكيل نظام اقتصادي حر يتم التوافق على أساساته الاجتماعية الوطنية بين العمال وأرباب العمل، أي يدعم رأس المال الوطني والعمالة الوطنية معاً، فإن الأرض العربية تائهة بين عولمة فوضوية وتشدد ديني. إن تكوين تيار سياسي وسطي تدعمه كتلٌ واسعة من الأحزاب والنقابات هو خيارٌ لا بد منه لتغيير استراتيجي عميق.
حراكُ الفئاتِ الوسطى
تقوم الفئاتُ الوسطى بقيادة الحراك التاريخي حسب الظروف والقوى البشرية المضطهَّدة والعاملة في كل زمن. قدرات هذه الفئات الفكرية والسياسية تتيح لها إنتاج المعرفة والتحرك بين الشخصيات والجماعات لدعوتها من أجل الأهداف والبرامج التي تطرحها. لا تستطيع القوى العاملة أن تقود لغياب تلك الإمكانيات المعرفية والسياسية، لكنها حين تشارك بقوة فيها يكونُ التاريخُ قد تحرك. ولهذا فإن كلَ الحركاتِ التاريخيةِ والثورات تمتْ من خلالِ قيادة الفئات الوسطى، بدءً من ثورة النبوة حتى الماركسية المعاصرة. (الفكرة حين تدخل عقول الجماهير تصبح قوة مادية)، لكن من أين تأتي الفكرة ومن القوى البشرية التي تصنعها؟ لا شك إنها هؤلاء المتعلمون والمثقفون الذين أتيحت لهم الموارد وأوقات الحياة لصنع المعرفة وخلق تراكم الفكرة المضني الذي يصطدمُ بالجهلِ والبؤس وبكلِ الظروف المحيطة ومقاومة الآخرين والظروف. وحتى بعض العاملين والعاملات يستطيع أن يصل لذلك، لكن ظروف المنتجين رهيبة، فالفكرة تحتاج إلى تراكم مضنٍ من المعلومات المُستقاة من مصادر شتى، والتي توجه الأنظار لرفض علاقات متخلفة أو ظروف قاهرة، وتخلق تحولات. ومن الممكن للفئة الوسطى القائدة أن توجه الناس لأحلامٍ غير متحققة وغير ممكنة التنفيذ، كما هي الأمور في الأديان والاشتراكيات، لأن مسار التاريخ هو غير أحلام المبدعين والثائرين، وهم يدعون لتحولات عامة مجردة يكون التاريخ له الكلمة الفصل فيها. الأنبياء دعوا لسعادة الإنسان وحريته وتعاونه، لكن البشرية كانت تنتقل من حالةٍ عبودية إلى حالة إقطاعية، كانت آلاف السنين في شراء وبيع الإنسان، وتكوين إمبرطوريات العبيد العنيفة الساحقة، فجاءت الأفكار التي هي تراكم هائل لمعاناة البشر مشكلة ومصورة في التعاليم الدينية. لم تنته المعاناة ولم تقل الظروف قسوة لكن حدث تحول كبير في التاريخ، وظهرت حضارات مختلفة. لم تستطع الفئات الوسطى في عصر الإقطاع الديني أن تقيم تحولات جذرية، حتى تشكلت ظروف موضوعية لنقل الإنسان من مجتمع إلى آخر. مثقفون إكتشفوا ذلك وربطوا أحلامهم وأماني الملايين في تصورات أفكار الثورة الفرنسية والإشتراكية الحالمة المزيلة لكل إستغلال، وتظل الملايين صابرة منتظرة للكلمة المنقذة، للإمام، للبطل، لكن هذا يتوقف على الفئات الوسطى ومدى توحدها وغزارة علومها وتداخلها مع العاملين. العاملون ينتظرون من ينقذهم، ومن يحسن أحوالهم، ومع ذكاء رأسماليي العصر سواء كان غربياً ديمقراطياً أم شرقياً إشتراكياً شمولياً، من سيقدم لهم الإنجازات الأوسع، من يعطيهم الأرض، من يوسع لهم الرزق، العاملون لا يرون الآفاق التالية، ينظرون لما تحت أقدامهم، فإذا إنتشرت بعض النقود هللوا، ومثقفو التحولات يصيبهم التغيير، بعضهم يرتفع، بعضهم ينزل، وبعضهم يُحلل ويعري، وبعضهم ينافق، وآلاتُ الدولِ تهضم التحولات والمتحولين وتدخلهم في البناء الفوقي، أو تبعدهم عن إنتاج المعرفة وتوزيعها، وأدوات الحفر تتكسر في التُرب القاسية. أنظمة الإستغلال في التاريخ المعاصر لن تنتهي، فلا يوجد نظامٌ نهائي، لكن الفئات الوسطى حالما تجد نظاماً يتلائم مع مصالحها، تصوره أبدياً. لكن لا يوجد نظام يتطابق والحقيقة، إلا بشكل إيديولوجي مضلل وذلك حين تصل فئة للسلطة وتمنع غيرها من التعبير والتنظيم. ومن يحدد إنه نظام إستغلالي هم من يقع عليهم الإستغلال وهم القوى العاملة. نجد إن الفئات الوسطى العربية في حالات سيئة كبرى بالنسبة لغيرها في العالم، فلا يوجد حد أدنى من العمل المشترك الموجه لتغيير البنى الاجتماعية الغارقة في التخلف، ويتحدد ذلك بعجزها عن التعبير عن العاملين وأحوالهم وأهدافهم، بالعمل بينهم، ولهذا فإن قوى العاملين لم تصهرهم في بوتقتها، وهذا أيضاً نتاج العجز لدى القوى العاملة وعدم توصيل أصواتها، وبسبب بيروقراطية منظماتها النقابية، وفي العمل النقابي يتبين مدى وصول الفكرة إلى الجمهور، هل حركتهم أم سممتهم؟ وبسبب اللامبالاة واليأس من حدوث تغيير، أو بسبب الحماس الأهوج والإندفاع المؤقت. صراع القوتين التاريخيتين، صراع الفكرة والمادة، صراع النخبة والجمهور، هو مفجرُ الطاقةِ التحولية الاجتماعية، حين يتحول من صراعٍ وإكتشافٍ وحوار، إلى أن تصير الفكرة المثقفة فكرة الموظف والفراش، أي أن تغدو شعبية. ولم يعد الحراك في فضاء مجرد ومن أجل أحلام الاشتراكية وعمل الخير ونشر الفضيلة ومن أجل الحق والعدل، بل من أجل أهداف إقتصادية وإجتماعية محددة في ظل ظروف بنية إجتماعية معينة، وهذه البرامج يصيغها الجمهور لكي يغير أوضاعه المادية الاقتصادية وخدماته وتعليمه وثقافته.
تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني
في زمنيةِ الرأسماليات الحكومية القومية (الاشتراكية) كان تسلق البرجوازيات الصغيرة على أساس الشعارات اليسارية التوحيدية، حيث كانت الأنظمة بحاجةٍ لتوحد شعبي واسع من أجل بناء البُنى التحتية. لكن التسلق على ظهور العمال والفلاحين عبر رفع شعاراتهم لم يؤدِ لتغييرٍ كبير في حياة هؤلاء العاملين. والبرجوازيات الصغيرة العسكرية من ضباط وموظفين ومثقفين إغتنى بعضُها وفرشتْ الأرض الاقتصادية السياسية لرأسمالياتٍ نصف ليبرالية وفوضوية في أغلب نماذجها، ولم تخلُ من القبضة الحديدية، إرتفعتْ فيها جماعات حكومية إلى مصاف النبلاء وتهدمت فيها شعارات الجمهورية والاشتراكية. وحين أفلستْ شعاراتُ القومية والاشتراكية الحكومية الشمولية ظهرتْ البرجوازياتُ الصغيرة بديكوراتٍ جديدة هي الديكوراتُ الدينية. لم تستطع أنظمةُ الرأسمالية الحكومية إزالةَ الإقطاع، وأدت فوائضُ النفط الوفيرةِ التي جرتْ في البلدان الصحراوية إلى إنعاش الإقطاع الديني مجدداً حيث سال لعابُهُ من التحول الجديد. وهو إنعاشٌ غذى الشركات المالية والنصوصية الدينية وعودة الأساطير الخرافية للطائفيين السياسيين. فجأة ظهرت دعاوى الإيمان وحجَّ اليساريون المتطرفون الذين كانوا يزعمون أن الإسلامَ دين وثني، وتحول آخرون لفتح المكتبات الدينية يستوردون الكتب والأشرطة الصفراء يعيدون الجمهور بها الجمهور للعصور الوسطى. وفيما كانت بعض المكتبات تزخر بالمؤلفات الإنسانية الأدبية والعلمية صارت على كل الواجهات الكتب الدينية المطبوعة في مطابع حكومية. وفجأة إختفت الفروق بين التنظيمات الوطنية العلمانية والتنظيمات السياسية الطائفية. وتبدل المروجون للسياحة والمشروابات الكحولية كذلك إلى مروجين للتدين وطاعة ولي الأمر والاقتداء بالسلف الصالح، مثلما يكتشف قادةُ بعض الفصائل أهمية اللحى لمنع إنتشار الجراثيم في الذقون. الترويج للجماعات الطائفية السياسية من قبل هذه المجموعات التي إنهار وعيها النضالي الديمقراطي الحديث جاء في أعقابِ ظهور قطبي الصراع الحكوميين السني والشيعي في المنطقة حيث يزخُ كلُ قطب ماكينته الطائفية بالمواد المطبوعة والمروجين المتنقلين بين الجمهور بشكل مكشوف أو مقنع ثم صارت الفضائيات والوسائط الحديثة تغذي بشكلٍ هائل نقل التخلف والعداوات بين المسلمين. عودةُ الإقطاعِ أو إستمراره في البلدان الصحراوية والقروية النفطية قبل البلدان العربية الحكومية العسكرية المتجهة للأزمة ثم الانهيار، هو بسبب عدم تحولاتها مثل البلدان الأخرى العسكرية التي أجرت ضربات أكبر للحياة التقليدية، فجاء تأخرُها الفكري السياسي بسببِ عدم وجود فئات وسطى وعمالية تحديثية واسعة، فكانت أشكالُ الوعي والثقافة غيرُ منتشرة بتوسع بين الجماهير، فيسهلُ خداعها من خلال بعض الشعارات وإستثمار تقاليدها وإرثها وجرها للنشاط السياسي العنفي الكامن أو الظاهر، كما أن جذورَ المنظمات الطائفية السياسية وأعتبار هذه البلدان مركز الهروب للجماعات الدينية، كل هذا جرّ جماهير هذه البلدان للحراك السياسي الجماهيري الفوضوي. ولهذا فإن الجماعات البرجوازية الصغيرة المتذبذبة بطبيعتها وعدم رسوخ الرؤى التقدمية والديمقراطية داخلها تنجرُّ للسائد دائماً، ولكن قفزة هائلة من الاشتراكية والقومية والحداثة إلى الطائفية وثقافة الإقطاع كانت مفضوحة. ضخ الأنظمة لجزء من ثروات البلدان لهذه الجماعات وتوسيعها وهي الواسعة أصلاً كجزء من بُنى الحرف ومعامل ومصانع المواد الأولية التي تغدق الفوائض على القوى المتنفذة نظراً لعدم وجود أسلوبِ إنتاج وطني متجذر يغذي مختلف الطبقات، يؤدي لتحولات الفوضى والانقلابات الخطرة على التطور. وهكذا تنقلبُ تنظيمات كانت تتعيش على التسول من الأنظمة إلى أن تكون عدوة لها وتجد سببيات واهية للفوضى السياسية، وتتحالف مع تنظيمات يسارية كانت تعتبرها لوقت سابق قصير ملحدةً خطرةً على الإسلام! اللاعقلانيةُ والذاتيةُ والمصالح العابرة وإنتهاز الفرص والتلاعب بالمذاهبِِ والأديان والقيمِ والركوب على ظهور الجماهير غير الواعية وعدم خلق التراكمات التحديثية بصبر وحكمة وبإقناع للشعب وكل هذا لكي تصبحُ هي في مركز الزعامة والسيطرة ويتفق معها أناسٌ لهم مثل هذا الطموح الذاتي وعدم التجذر في المصالح والمبادئ العامة. إستخدم العلمانيون المرتدون نفس طرق الكهنوت في إستغلال الدين وإفراغه من مضمونه النضالي وتأجيره للقوى الاستغلالية للهيمنة على الناس بدلاً من الانتاج العقلاني التحديثي وتطوير الوعي.
البرجوازية الصغيرة والطوائف
يمثل جسم فئات البرجوازية الصغيرة أغلب الأجسام الاجتماعية المتذبذبة بين الطبقات والتيارات في كل مرحلة، وليست مرحلتنا هذه بمغايرة في هذا. في المرحلة السابقة كان الصراع بين الوعي الاشتراكي الحكومي من جهة والرأسمالية الخاصة المنكفئة من جهة أخرى، كانت الفئات الصغيرة الصاخبة تزايد على الاشتراكية وإزالة الطبقات الاستغلالية أو تطرحها بعقلانية مثالية فاقدة لأسس المادية التاريخية. كانت رأسمالية الدولة بأقصى أشكالها في سحق المُلكية الخاصة هي ذاتها قفزة متطرفة، وهي ستقوم بهدم التحالف العقلاني الصراعي المنتظر والذي ومض في بداية القرن العشرين العربي بين البرجوازية والعمال لتحويل الأنظمة التقليدية التابعة، في ديمقراطيات متنامية. لكن تطرف هذه المجموعات قطع الطريق على التدرج والتنامي الإصلاحي، مما خلق ثنائية الحرب الباردة التي كانت تحطيماً نارياً على القوى الديمقراطية المناضلة الصغيرة في أحشاء المجتمعات التقليدية النامية، وعلى الطبقتين المنتجتين العمالية والبرجوازية في الدول (الاشتراكية) الحكومية الشمولية. وبعد أن إنقشع السراب الاشتراكي المتطرف عادت المجتمعات لمستويات إيديولوجية سياسية محافظة متطرفة في الرجعة للوراء كما كان تطرفها في القفزات إلى الإمام! المجتمعات التي تطورت إقتصادياً وإجتماعياً بعض الشيء تراجعت للوراء كثيراً في الفهم الإيديولوجي للحياة والصراعات. فما تستخدمه ليس هو الإسلام أو الاشتراكية أو الليبرالية، بل هو مصطلحاتٌ معلبةٌ وشعاراتٌ غير متجذرة في تُربٍ موضوعية، بل مسلوقة ونيئة، ومقدمة بأعداد هائلة صاخبة للجماهير. وطريقة السلق هي واحدة في هذه المجموعات رغم مواقعها الإيديولوجية المتنافرة. فهي ترفض النمو المتدرج في بنى رأسمالية متخلفة شرقية واضحة القسمات، وتقدم تصوراً إيديولوجيا من خيالها الواسع، فبداية هي لا تقرأ هذه البنى الشرقية، بسبب أن مشاعرها الحادة وجملها الصاخبة ترفض الواقعَ الموضوعي، فهي تريد القفز لنموذجها الذي يقف كالعصفور على يدها، فالاشتراكية والإسلام والغرب المتطور هي بمتناول اليد عبر تدفق الجمهور العاطفي الساحق نحو الهدف المنشود العزيز، والذي سوف يتحقق بوثبات. لكن ما هو الواقع الموضوعي؟ هذا لا يهم. وحين فشل مشروع القفزة الاشتراكية الذي تأسس على حزب طليعي منصهر في التعبير عن الطبقة العاملة، حيث البرجوازية الصغيرة لا تعترف عملياً بصراع الطبقات، بل تفرض ذاتها في الجماعة فتغدو معبرة عن العمال، ولاتقبل بصراع الاتجاهات والديمقراطية، لأن الهدف في متناول اليد عبر التضحيات ولكن البرجوازية الصغيرة ستجد نفسها بلا عمالل وأنهم ذهبوا لغيرها!
ثورةٌ تقودُها البرجوازية الصغيرة
هذا عنوانٌ كتبهُ الكاتبُ المصري الراحل ميشيل كامل في أعقاب النتائج الكارثية لحرب يونيو 1967، وكانت دراسةٌ مفصلية في الوعي العربي الراقد على مخدة الأحلام السياسية المتحولة لكوابيس، ونحن نستعيرُهُ هنا لكون الطبقة التجريبية الانتهازية ما زالت تلعبُ دوراً رئيسياً خطيراً ولكن من خلال وعي إيديولوجي مختلف شكلاً هو الشكل المذهبي السياسي. هيمنةُ القوى العسكرية في المرحلة السابقة التي رفضتْ التراكمات الديمقراطية والعقلانية والعلمانية في الأنظمة المَلكيةِ التي ثارتْ عليها وأعلتْ المراهقةَ والمغامرة فأدخلتْ تلك البلدان في تجريبياتٍ حارقة. وبعد حراك الأنظمة العسكرية خلال عقود نجدُ أن الُبنى الاجتماعية في تلك الأنظمة العربية ما زالت على نفس تركيبتِها الأساسية دون تغييرات عميقة، وإن جماعات الإخوان المسلمين لا تقدم تحولاً نوعياً ديمقراطياً، مثلها مثل ولاية الفقيه الإيرانية التي هي النظام العسكري الدكتاتوري الأخير في المنطقة العربية الإسلامية ولم يسقط حتى الآن كأشباهه من الأنظمة العسكرية العربية والإسلامية بسبب خلطه الأوراق التاريخية والدينية. تتضح من الدراسات العربية المختلفة بأن الأنظمة العسكرية التي ثارت عليها الشعوبُ العربية لم تغير البُنى الاجتماعية بعد تلك العقود. (.. إذا انتقلنا إلى توزيع المنشآت في الاقتصاد المصري طبقاً لفئات عدد المشتغلين، يُلاحظ أن الأغلبية العظمى من المنشآت(92%)،(إثنان وتسعون بالمائة) هي منشآت صغيرة الحجم أو متناهية الصغر، تستخدم من واحد إلى أربعة عمال، بينما المنشآت التي تستخدم من خمسة عمال إلى تسعة لا تزيد عن 6.2%(ستة واثنين من عشرة بالمائة) من جملة المنشآت، مما يدل على غلبة الانتاج السلعي الصغير في الاقتصاد المصري)، رأسمالية المحاسيب، د. محمود عبد الفضيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب. لقد قامت القوى العسكرية خلال العقود السابقة بالاستحواذ على مصادر الثروة وكونتْ الرأسماليةَ الكبيرةَ البيروقراطية ولم تُعدْ الفوائضَ الكبرى للانتاج، فبقيت البُنى الاجتماعيةُ الاقتصادية في نفس التكوين السابق. ومن هنا فإن المصانعَ الكبرى لم تتحول إلى الخلية الاقتصادية الأساسية فتغيرُ طابعَ الاقتصاد المتخلف. إن نسبة المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر تصل إلى 92% (اثنين وتسعين بالمائة) فيما المنشآت الكبيرة لا تشكل سوى 4% (أربعة بالمائة)، وهذه الأرقام تبين حجم الفئات البرجوازية الصغيرة الواسعة سواءً عبر المُلكيات الصغيرة الحِرفية والصناعية والتجارية الصغيرة أم حسب الموظفين والمثقفين الذين ينتمون إليها في مواقعهم الاقتصادية وبإنتماءاتهم الفكرية. فهناك زحامٌ كبير من الفئات الصغيرة كذلك فإن سكان الريف أكبر من المدن وكذلك تغلغل الريفُ في الأحياء، وغدت الصناعاتُ الكبرى المحدودة تتوجه لفائض كبير يُستخدم كثيرٌ منه في البذخ، وإنتاج رأس المال العكسي أي يعودُ بالمجتمع للوراء. هذه الأسباب كلها جعلت من القوى المذهبية السياسية منتشرة ومؤثرة بقوة على الطبقتين المنتجتين العمال والرأسمالية الصناعية. ولهذا نجد حسب الاحصائيات المصرية إن عددَ الفئات الوسطى يتجاوز إحدى عشر مليوناً وأغلبها من الفئات غير الصناعية أي موظفين متوسطين وحرفيين وباعة وغيرهم، وهي فئاتٌ معسرة رغم كل شيء وتسعى بقوة نحو السلع المعمرة الأحدث طرازاً والغالية ولهذا حدثت الهجرة للخارج وتضخمت أعدادُ السيارات الحديثة وتصاعدت الدورُ الخاصة والفلل ونأت البرجوازية الكبيرة عن المدن الداخلية وأقامت أحياءها الخاصة ومدنها الخارجية وعزلتْ نفسَها بالرفاهية الكبيرة ولم تتواجد أحزابٌ واسعة قوية لها، وهذا ينطبق على العمال ولكن بشكل آخر معكوس، حيث ازدهرت المناطق السكنية العشوائية وتغرب العمالُ بالهجرة وفي العمل بالمنشآت الصغيرة ذات الأجور المحدودة والتي لا تشكلُ فيها نضاليةُ العمال درجةً عالية من التطور هذه الظروف كلها جعلت من حراك الفئات الصغيرة المالكة العاملة، المترجرجة بين الأغنياء والفقراء، وبين المادية والمثالية، بين الديمقراطية والدين، بين بلدانها وبين الخليج، بين الثورة والثورة المضادة، بين العلمانية والاستبداد الديني، بين العقلانية والفوضى، أن تكون هذه الفئات هي الأوسع إنتشاراً والأقوى صوتاً. إن الأرقامَ المستفادة من البنية الاجتماعية المصرية السابقة الذكر هي الأنشط عربياً في تسجيل تحولاتها الرقمية، وهي لا تعطينا لوحةً لكل بلدٍ عربي آخر، فالبلدانُ العربية تختلف في درجاتِ تطورها ولكن الجوانب الاجتماعية الهيكلية تتقارب، فالصناعاتُ الكبرى لم تستطع أن تعيد تشكيل السكان تشكيلاً حديثاً، والفئات الوسطى الصغيرة هي الغالبة، وهي مأزومة بحدة وتريد أن تقفز للثراء والسلطان دون أن تمتلك الأسس الموضوعية للتغيير العميق! وبعد أن كانت تكويناتها السابقة المتقلبة المتذبذبة تصرخ من أجل الاشتراكيةَ وحكم العسكر صارت تبغي الحكم الديني الذي يسوسُ الناسَ كأسنانِ المشط! لكن المقاومةَ التحديثية الديمقراطية العلمانية ليست سهلة، فقد راحت قوى كثيرة ترفضُ التجريبيةَ وعدم تحول البُنى الاجتماعية تحولاً عقلانياً متدرجاً مدروساً. وكثير من هذه المقاومة من فئات أخرى هي من نفس الطبقة، وتفيدنا الأرقامُ المصرية السابقة في رؤية عدم وجود الكم الواسع الراسخ من الطبقتين المنتجتين ثمرتي الصناعة وقواها السياسية ذات الحضور الواسع ولهذا فإن التقلبات الحادة بل والعواصف والحروب الخطيرة تنتظرها. إن التطور السياسي العاصف قاد إلى صعود قوى البرجوازية الصغيرة الطائفية المغامرة. إن جوهر الأنظمة العسكرية السابقة أعتمد على قفزة هذه الطبقة على التطور الديمقراطي العلماني والقيام بمغامراتٍ سياسية كان اللبُ فيها هو الوصول للكراسي ونهب الثروة العامة. فمع عدم وجود مصانع لديها وثروات قوية كان غرضُها الوصول إلى المؤسسات الرأسمالية العامة والأثراء عبرها، وقد نجحتْ في ذلك لكن هذا لم يؤدِ إلى الصناعات المتقدمة بل إلى إستمرار البنية الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة كما رأينا عبر الأرقام المصرية حتى أنكهت الأنظمة وتعرضت للهزائم ثم للثورات أخيراً. وتتطلب الظروف من القوى السياسية في بلدان الثورات العربية توقيف المغامرات السياسية والفوضى وتصعيد القوى المنتجة سياسياً وصناعياً، إلا أن نفس الطبقة المشكلة من التيارات البرجوازية الصغيرة الطائفية راحت تكرر نفس السياق السابق من الهيمنة الشمولية وعدم تكون الجبهات الوطنية المتعاونة في الحكم وعدم التوجه للخطط الاقتصادية الكبرى للتغيير الصناعي العلمي فيما تعجز القوى السياسية الأخرى عن التصدي لهذا السيناريو وتغييره حالياً. التجريب وغياب الرؤية الفكرية وقطع العلاقة مع التجربة الديمقراطية العلمانية الإنسانية والاعتماد على وعي ديني طائفي محافظ ومشوش والقفز نحو المنافع الخاصة هي سماتها، وقد تصدت بعضُ الأنظمة المَلكية لتغلغل هذه الحركات داخلها وأوقفتها عبر طرح بذور الاقتراب من السمات الديمقراطية الوطنية العلمانية العقلانية السائدة في التجارب البشرية الحديثة. إن الأنظمة الجمهورية العربية هي مجردُ شكل خارجي فارغ، والمهم هو سمات الحداثة المجسدة فيها والتي تنعكسُ في صعود الجمهور الحديث من طبقةِ عمال وطبقة وسطى صناعيتين مشاركتين في صنع الديمقراطية الوطنية، فوجودُ تنظيمات قائدة للدول من فئات وسطى صغيرة لا تقود الانتاج وليست لديها رؤية حديثة للديمقراطية وهي متذبذبة وطائفية يعني وضع الدول تحت التجريب الحارق. ولهذا فنأي دول مجلس التعاون عن هذا الأعصار مفيد ولكن المشكلات والأخطار قائمة، حيث حاول الشكلُ الجمهوري الفوضوي للبرجوازية الصغيرة المغامرة أن يطلَ برأسه ويحدث الزوابع، ولكن أغلبية الجمهور في الخليج يعيش في وضع مختلف موضوعياً عن دول الربيع. ولكن لا بد من مقاربة سمات الحداثة وتحول الشيوخ لطبقة وسطى خاصة حرة تنأى بنفسها عن البيروقراطية وقيام التجار بدورهم الديمقراطي التحديثي القيادي، وتوطين وتعريب العمال وتعميق الصناعات المتطورة، والتدرج بالمؤسسات الديمقراطية لمواكبة هذه المضامين.
تكوينُ برجوازيةٍ هجينة
الحالمون بالأخاء والحرية والمساواة، وهي شعاراتُ الثورةِ الفرنسية المنقولة للثورات العربية، يعيشون في الوهم الاجتماعي. لم تحقق الثورةُ الفرنسية ذلك إلا في نظام رأسمالي يقدم مساواةً قانونية فقط. في عالم تشكل منذ القرن السادس عشر الميلادي غربياً فعالمياً يجري تكوين الطبقات الرأسمالية الحاكمة حسب طبيعة النظم وتطوارتها. الإدارةُ العليا: المؤسساتُ السياسيةُ والبرلمانية والاقتصادية والثقافية للطبقاتِ التي تملك. العمل في المصانع والخدمات وإنتاج العلوم والثقافة هي للعاملين باليد والذهن. ثنائيةٌ إستمرتْ لملايين السنين ولا تتغير بشعارات ودخان سياسي وديني مرحلي. ولهذا فإنه يجري في كلِ ثورةٍ خلط الأوراق وصنع الأحلام بالمساواة المطلقة وإختفاء مواقع من يملكون ومن يعلمون. ليست الثورةُ الفرنسية في هذا إستثناءً. والثورةُ الروسية بلغتْ من هذه المساواة والأحلام الخيالية حداً هائلاً لم يسبق إليه أحد. لكن حقائقَ الحياة الاقتصادية والاجتماعية هي غير ذلك، وتطرح القوى الصاعدةُ هذه الأحلامَ لحاجتِها لمن يعملون ولتضحياتِهم في الميادين والشوارع وفي المعامل، ثم حين تستوي أوضاع السلطات يكون الكلامُ شيئاً آخر. الطبقاتُ المالكة ونصفُ الغنية والفئاتُ الطموحة التي تأمل عبر التغييرات السياسية الوصول للسلطات ولمواقع متقدمة في صنع القرار وإعادة تشكيل المؤسسات الاقتصادية لصالحها تصلُ بالشعارات لمدى هائل وتجعل القوى العاملة تتصور أن العالم وصل للقيامة وتكوين الجنان على الأرض، وكلها من أجل أن تضحي هذه القوى العاملة، وتُدخلُ في رؤوسِها مفاهيمَ ضبابيةً مثل أن كل البشر متساويين، وأن الثروة للجميع، وأن الثورة الراهنة ستحل كافة المشكلات. لكن النظر الموضوعي يقول بأن هذه أوهام، وأن كل ثورة هي صراع بين المالكين، وأن على الطبقات العاملة المنتجة أن تكون حذرة، وأن تجعل تضحياتها وأنشطتها لتطوير أحوالها، وأن ترى الواقع الحقيقي للصراعات السياسية. فما يجري في الثورات العربية هو صراعٌ بين أشكال من الرأسماليات داخلية وخارجية. الرأسمالياتُ الحاكمة العامة في مواجهةِ رأسمالياتٍ خاصة، وأجنحةٌ من الرأسماليات العامة تتصارع مع بعضها البعض ومع قوى رأسمالية ريفية محافظة تريدُ تغييرَ الخريطة الاقتصادية المدنية لصالحها بشكل كبير وربما كلي. الصراعُ الوهمي يجري في دوائر الأفكار والإيديولوجيات، بالقول بأن هؤلاء إسلاميين وأولئك علمانيين، وأن المعركةَ هي من أجل الفضيلة والخير والحق، وأن العلمانيين يريدون تخريبَ الدين، وهؤلاء يردون بأن الإسلاميين متخلفين رجعيين يهدمون الدولةَ العصرية. فعلينا بالفرز والتحليل، فهؤلاء الدينيون القرويون يهجمون من أجل توسيعِ أملاكِهم والسيطرة على الشركات العامة مستخدمين جمهورهم الريفي والمتدينين في المدن، وأولئك التحديثيون المدنيون يصدونهم سواء كانوا أكثر تطرفاً أي أعضاء الأحزاب (الاشتراكية) المنهارة البيروقراطية، أم المتعاونين معهم من موظفين وأرباب عملٍ دخلوا معهم في أعمال مشتركة، أو أناس مناضلين يدافعون عن القطاع العام والمبادئ التحديثية وعدم إستغلال الدين في الصراع على الثروة الوطنية. القوى المالكة والقريبة من الغنى سوف تتقارب بعد ذلك، والشعاراتُ المتألقةُ عن الدين والمبادئ الخالدة سوف تتبدل، وأصحابُ المصالحِ من هذه الفئات المختلفة المتصادمة على الدرب السريع لتكوين الرأسمالية الوطنية الجديدة، ستبعدُ الضحايا والمشاركين من الطبقات العاملة، وستدخلُ في صفقاتِ الطبقة الجديدة التي ستغدو قدمٌ لها في القرية وقدمٌ لها في المدينة، قدمٌ في التراث وقدم في الحداثة، وقدمٌ في المُلكية العامة وقدم في المُلكية الخاصة، وقدم في الدستور وقدم في السيطرة الشمولية. فيما الطبقاتُ العاملة التي حطمَ بعضُها الأملاكَ العامة وأدى توقفه عن العمل ومشاركته في المظاهرات المليونية لضعف الاقتصاد، ستدفعُ كلُها خسائرَ المرحلة الجديدة من إرتفاعِ الأسعار وهبوط قيمة النقد الوطني والقيمِ المادية لتكون فئتين مختلفتين للطبقة الجديدة هما الدينية والتحديثية، المشاركتين في الأجهزة والوزارات وإدارة المؤسسات الاقتصادية، سواءً في حكومة مشتركة أم في حكومات مختلفة متصارعةحسب الانتخابات والرؤى البرامجية. لكن التاريخَ الاجتماعي هو نفسَهُ فرزٌ مستمرٌ بين من يملكون ومن يعلمون. بين من يصعدون ويتحدثون ومن يضحون ويدفعون الضرائب السياسية.
تفتت صفوف البرجوازية الصغيرة
تعبرُ حالات تفتت صفوفِ البرجوازياتِ الصغيرة بين الاقطاعين السياسي والديني عن الموروثِ الشمولي في الاتجاهات السياسية العربية وعدم قدرتها على إيجادِ ثقافةٍ تنويريةٍ ديمقراطية داخلها خلال العقود السابقة. حين يتقارب التصويت لمرسي وشفيق وينقسم المصوتون هذا الانقسام الكبير، يعبرُ ذلك عن هيمنةِ النظام السياسي على الجمهور خلال عقود، والمعارضة الوحيدة الممكنة عبر النصِ الديني التقليدي. الدولُ غدتْ قطائعَ لمن يحكم، وكأن ذلك حدث من خلال القَدر الديني، أو بإرادة سماوية، بل من خلال أسباب اجتماعية، وهو موروثُ القرون الوسطى لم يتبدل. ولهذا فإن النصَ على أن دين الدولة الإسلام هو تأكيد على هذه القَدرية وأن الحكمَ هو استمرار سلفي، وتغدو المادةُ مجردةً ضبابية لا تخصُ أناساً محددين، وتشملُ الفقهَ والعادات والتقاليد والتفسير وغير هذا، مما يحيلُ الدولَ إلى كائناتٍ غيبية مخصصة للبعض، ولا يكون للدول المختلفة تأثير حول هذه المادة الدستورية، والتي يمكن أن تُفسر من خلال ليبراليين يُحجّمون من التدخلات الدينية في الأحكام أو من خلال المتشددين الذين يرفضون الفنون ويحطمون التماثيل. هذه المادةُ غدتْ عامةً مجردةً مطاطية يمكن أن تكون في نظامٍ دكتاتوري دموي أو في نظام ليبرالي محدود، مما يعبرُ عن هلامية التطور الاجتماعي السياسي، وعدم التوجه للحداثة الديمقراطية، والمادةُ كذلك تعبيرٌ عن عدم قدرة الأنظمة والحركات السياسية المختلفة خلال اثني عشر قرناً عن تحديد ما هو النظام السياسي في ظل الإسلام؟ كما أنها تعبيرٌ عن عدم تكون الطبقات الحديثة وهيمنة الطوائف، واستمرار المسلمين في العصور الوسطى، وهو لا ينطبق على الدول بل على المنظمات المعارضة لهذه الدول فهي لم تخرجْ عن نسيج العصور الوسطى. من هنا لا يغدو للمعارضة تراث تراكمي ديمقراطي، فهي لا تعبر عن طبقة وسطى تمتلك مصانع وتجذر الديمقراطية والحداثة، وما الدول سوى مزرعة، كانت زراعيةً يسودها الخراجُ، والآن هي حِرفيةٌ استخراجية لمواد، وتُعطي فائضَ القيمة الأكبر للطبقة السائدة. وتحويل فائض القيمة للصناعات الخاصة والعامة والثورة التقنية هو البرنامج المفقود. ولهذا فإن الفئات السياسية البرجوازية الصغيرة تتذبذبُ بين قطبين، قطب الحاكم وقطب المعارض الحاكم. الأولُ يحكمُ عبر أدوات الدولة، والثاني يحكمُ عبرَ أدوات النص الديني. الأولُ يحولُ المادةَ الأولى في الدساتير إلى أحكام واسعة متناثرة، متعددة، رجراجةٍ بين الماضي والحاضر، بين التراث والعصر، يشير إلى أن حقيقة الإسلام متنوعة، سمحة على ما يذكرون دائماً. فيما المعارضُ الديني يحكم من خلال النصوص فيشددُ على معانٍ محددة نصوصية برامجية في العادات والتقاليد ويشدد على موروث مذهبي محافظ بعينه، وهو من خلال ذلك يسبب مواجهةً مع الدول (المنحرفة)عن النص الذي يملك هو تفسيره فقط. لقد اشتغلتْ الاتجاهاتُ السياسيةُ العربية (الثورية) الشمولية على وهم الخروج عن هذه الثنائية، فهي رفضتْ القرونَ الوسطى خيالاً، وهي جاثمةٌ فيها، وانطلقتْ مثل الصواريخ في الفضاء السياسي السحري، ثم تفتت، لكونها لم تشتغل على تغيير هذه الثنائية القطبية السابقة الذكر بل القفز عليها ووضع مهمات نضالية خيالية. وهذه الثنائية الاستقطابية على المستوى الإسلامي العام وعلى مستوى الدول والمجتمعات الداخلية، لا تتغير إلا حين يتحول بئرُ الماء والمزرعة وحقل النفط ومنجم الفوسفات ليغدو رأسمالاً وطنياً وليس فقط رأس مال طبقة، حينئذٍ من خلال البرلمان والسوق وتداول السلطة يحققُ حداثةً ديمقراطية، لتغيير طابع القرون الوسطى. إن الفئات السابقة المتوجهة للشعارات الكبيرة انقسمت بين فريقين، كل فريق يؤيد قطباً من القطبين. لهذا تستعمل مفردات التشنج والحدة والانتقائية ويغيبُ المنهجُ التاريخي في تحليل القطبين وجذورهما وكيفية تغييرهما معاً نحو الحداثة. القطبان في انفصالهما لا يكوّنان ثروة وطنية متكاملة ولا حداثة، بل من خلال انصهارهما وتكوين دولة حديثة. لكن القوى الاجتماعية السياسية الكبيرة جاءت من هذين القطبين: الإقطاع السياسي والإقطاع الديني، حيث تمكن القطبان من خلق الجماهيرية لهما عبر الموارد والنصوص المهيمنة معاً. ومن هنا هذه الحالات من تكرار التخلف المستمر، وغياب نشوء القوى الوسيطة المعتدلة التي تقرب وتلغي الاستقطاب سياسياً واجتماعيا.
ديمقراطيةٌ بدون برجوازية
يستمر العربُ في التجريبِ السياسي مهدرين السنوات والجهود. وتعطينا الانتخابات التي جرت في عدد من الدول العربية هذه الذبذبات المتعددة بين العودة للوراء والقفز للإمام، بين المحافظة والديمقراطية، بين التقدم والرجعية. التذبذب الكبير بين الإقطاع السياسي والديني يجد تجسيده في ثنائية أمير المؤمنين الحاكم السياسي ومستشاره الديني، وقد كرس المسلمون هذه الثنائية فجعلوا الحاكم هو القائد السياسي، لكنهم من جهة أخرى جعلوه كذلك متدخلاً في الشرع، ولكن نظراً لأنه غير متخصص في الفقه، أو نظراً لانشغالاته الاجتماعية والسياسية والخاصة، فقد صعدَ رجلُ الدين ليكون حاكماً في الأحوال الخاصة بدرجة أساسية رغم أنه كذلك له رؤيته السياسية في قضايا الخلافة وأحوال الناس وتاريخ الإسلام. هذه الثنائية التي وافقت زمن الحضارة التحديثية الإسلامية التي لم تتجذرْ بسبب فقدان طبقة وسطى وصناعتها وعلومها الحديثة، إنشرختْ في زمنيةِ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي هزتْ أسلوبَ الإنتاج الإقطاعي، فتصورت الثقافةُ الدينيةُ الكلاسيكية أن الحلَ يكمنُّ في تبادل الأدوار بين الخليفة والمُلا، بين أمير المؤمنين وقادة الفرق المذهبية، فلأنَ طابعَ الثقافةِ ديني ويتصورُ بأن المشكلةَ تكمنُ في عدم وجود الأخلاق الحسنة لدى الخلفاء وولاة الأمور، فإنهم حين يتمسكون بالشرع تكون المسألةُ قد حُلت. وهنا قد وقع الخطأُ المزدوج التاريخي بعدم فهم الإسلام وعدم فهم السياسة. ولهذا فإن الفِرقَ وجماعات الطرقِ والتصوفِ والمغامرين راحتْ تقفزُ على السلطات بدون أن تقوم بأي دور تحويلي حقيقي، لأنها لم تفعل سوى أن كررت أفعالَ الخلفاء السابقين وزادتْ الطينُ بلةً. هذه الثقافة الدينية المحافظة الخيالية إستمرت بعد أن ظهرت الثقافةُ الاشتراكية الخيالية العربية التي أعتمدتْ جوهرَ هذه الأسس، فهي كذلك ذاتُ ثقافةٍ دينية محافظة متوارية، ومن هنا رفضتْ الرأسماليةَ والطبقةَ الوسطى والحداثةَ العصرية الغربية، وجعلتْ الطبقةَ العاملة تختصرُ الوجودَ الاجتماعي بشكل متخيّل. وأسستْ شرعاً هو غير الشرع، وإشتراكية تفضي لرأسمالية فاسدة، فكان لا بد أن يزدهرَ الشرعُ المحافظ التقليدي مرة أخرى، ويفقد العمالُ الثقةَ في الاشتراكية. هذه التجريبُ السياسي من اليمين واليسار المتخِلفَين أدى للثورات العربية المترددة بين التقليد والحداثة، بين الإقطاع والرأسمالية الحديثة، بين التراث النصوصي وواقع الإنسانية المعاصرة. فلا توجد طبقاتٌ وسطى قويةٌ ولا طبقات عمالية منظمة تحديثية، والحراك السياسي بين الفئات الوسطى الصغيرة، والحطام الاجتماعي البشري المقذوف من الأرياف والبوادي والأزمات الاقتصادية والحروب وصراع الطوائف. لهذا فإن نتائجَ الانتخابات تعكس هذا التقلقل والتذبذب، فرأسماليةُ دولةٍ قوية في الجزائر يسندها نفطٌ وحزب منظم وبيروقراطية متجذرة تعطي إستمراراً لنظام رأسمالية الدولة الشمولية. وتغدو شرائحُ الدينيين غير قادرة على تحريك الفئات الوسطى الصغيرة التي سئمتْ الفساد وتخاف من مغامرات الدينيين. فيما تونس ذات التراكم الليبرالي جمعتْ فئات وسطى صغيرة متعددة الرؤى الليبرالية والدينية وتعكس عدم قدرة البناء الاقتصادي على إنتاجِ برجوازية صناعية خاصة موّحدة خلال العقود السابقة، وما الأجنحةُ الإيديولوجية سوى تعبير عن هذه الشرائح الصغيرة غير المنصهرة إقتصادياً. مصر نسخةٌ أخرى من تونس أكثر تعقيداً ولم تستطع أن تحسمَ الصراع بين الإقطاع السياسي الذي صار هو قيادة الجيش، والإقطاع الديني الذي تجسدَّ في الإخوان، فيما الفئاتُ الصغرة والوسطى ضائعة بين القطبين وتتحرك هنا وهناك في إضطراب وبلبلة، وكلٌ من الطرفين يحسن ويتشبث كذلك بأمتيازاته وموروثه. ذهب زمنُ الخلفاء وصار رجالُ الدين وقادة الجيوش كذلك يتدخلون في إدارات الحكم، ويجري دفع الأمور نحو حكم البرلمانات، والعودة لسيطرة الإدارات كذلك، ويتحرك الناسُ لتصعيدِ هذا أو ذاك، وتندفع قوى القطاعات العامة الخربة للدفاع عن مصالحها، ويضيعُ رجالُ الأعمال بين الطوفان ويقبض الرجالُ على الصولجان وتحاول النساءُ الخروجَ من الخيام. فيما ليبيا المثقلة بحكمٍ دكتاتوري فظيع لا تريد أن تكرره وتجري نحو ليبرالية غير واضحة المعالم. إنها حالاتُ سيولةٍ تاريخية في أبنيةٍ مترددةٍ بين الحِرف والصناعة، بين الصناعاتِ الصغيرة والصناعات الكبيرة، بين الإنتاج الوطني والتبعية، بين الارستقراطيات والبرجوازية، بين الثقافة الدينية النصوصية والثقافات العقلانية الضعيفة.
البرجوازيةُ الصغيرةُ والعدالة المطلقة
إعتمدت الثوراتُ الإنسانيةُ على وحدةِ فئاتٍ متوسطة صغيرة مع العاملين، لكن أفكار هذه الفئات تخضع لمستوى العصر سواءً من حيث التطور الاقتصادي أم من حيث تطور البنية الثقافية. في المسيحية والإسلام كان هناك ذلك الخيال الخصب بإنهاءِ عصور الظلام والاستغلال ومجيء الزمن الحر العادل المطلق، فالفئات الصغيرة المتواجدة بين كبار الأغنياء والفقراء، تصورت زوال الظلم والإستغلال، لكونها تعيش لحظات ثورية خصبة وإلتفاف الجمهور المتعطش للتغيير حولها. لكن لماذا تغلبتْ الدولةُ الرومانيةُ ولماذا إنتصر بنو أمية؟ هذا يعود لطبيعة العصر الجوهرية العميقة، وربما ساهمتْ بعضُ الأخطاء والأحلام من جهة وقوة الدهاء والخبث من جهة أخرى، لكن الأسباب الموضوعية أبعد من هذه الحيثيات الظاهرة على السطوح، فكان العصر الإقطاعي قد سار فوق ضلوع القبائل والشعوب والدول، فتظهر دولة رومانية مسيحية وتظهر دولةٌ إسلاميةٌ أموية، مثلما يجري للبوذية في الصين. تمكن ملاك الأراضي الخاصة في أوربا وملاك الأراضي العامة في ديار المسلمين من خلق شكلين من التطور المتقاربين في الجوهر المختلفين شكلاً. أحلامُ المساواةِ والعدالة المطلقة ومملكةُ السماء التي يدخلها الأخيارُ هي أحلامٌ نضاليةٌ مؤقتة، ينزل بعدها الواقعُ المرير، لكن هذه الأحلام تبقى في أذهان البشر الذين يأتون لاحقاً، يريدون تحقيقها. لحظة التوافق بين البرجوازية الصغيرة والعمال تحدث في أوربا حين نزل أسلوبُ الإنتاج الرأسمالي بحدة على القوى الفقيرة المعوزة، وظهر عبر الاشتراكية وظهر الحلمُ الذي قارب القراءة الموضوعية بصورة أحلام المساواة والعدالة التي يمكن تحقيقها لكن الظروف الموضوعية لم تتحقق، وربما في سبيلها للتحقق في هذه الدل الغربية المتطورة أكثر فأكثر. في الثورات الاشتراكية والدينية والقومية الشرقية التي رددت أحلام العدالة المطلقة وقامت بها نفس الفئات، رأينا طبيعة الأنظمة وإنقلاب مثل العدالة المطلقة والجنان إلى كوابيس. إن خلق المثالية والتصورات الخيالية بالعدالة الكلية لعبت دوراً في التطرف وأن كون المرحلة هي مرحلة رأسمالية لا يتيح مثل هذه العدالة الطوباوية، وأن الثورات بدءً من الثورة الروسية مروراً بالثورة الإيرانية إلى الثورات العربية الحالية تظل في المرحلة الرأسمالية من شمولية حتى مفتوحة غير معروفة التوجهات، والتي ليس فيها مثل هذه الخيالات المحلقة. لكن هذا لا يعني عدم نضال الطبقات العاملة من أجل المساواة السياسية والديمقراطية والتطور الاقتصادي لها، بل هو تحديد لواقعها الموضوعي. ومن هنا فإن مصادر الخيالات الطوباوية والأحلام السابقة تظل ميراثاً نضالياً مقرؤاً بأشكال نقدية، لكنها ليست برامج عملية، فالنسبي أفضل من المطلق، وتطور حياة القوى الشعبية الحقيقي أفضل من إرتكازها على أشكال من الخداع السياسي الطبقي. حين تدور الصراعات على الأرباح والأجور وتنمية المناطق الشعبية وعلى تحجيم البطالة ومستوى تمثيل القوى الشعبية في البرلمانات ومقاومة الفساد أفضل من الكلام عن تطبيق الشريعة بمختلف أصنافها. بطبيعة الحال تظل هناك جماهير تعيش في الماضي، ولا تزال تردد نفس الشعارات وتريد تحقق العدالة المطلقة.
برجوازياتٌ موسعةٌ بعد الثورات
الانتصاراتُ الكبيرةُ للقوى الدينية السنية المعتدلة والمحافظة في الفصل الأول من الثورات العربية المظفرة العظيمة يذكرنا بالتاريخ الطويل الذي قطعهُ الفقهُ والمذهبيات السياسية وتذبذبها بين الحكام الشموليين والتجار الواعدين بالنهضة. فهي لم تبلور مواقف ديمقراطية أو فلسفة عقلانية تورثها للأجيال القادمة. لم تستطع هذه المذهبيات خلال قرون أن تتخذ مواقف مستقلة أو تدعو لأنظمة ديمقراطية لكن الحركات السياسية المتخذة صبغة المذاهب بدأت تشتغلُ بسياسةٍ مستقلة ولم تجعل الفقه والتشريعات أساس علمها، بل إنغمرت في السياسة وصراع الأحزاب والعمل مع أو ضد الحكومات عبر الشعارات الأخلاقية المثالية المحافظة المفصولة عن الحقائق والظروف. صار لها قدمٌ في دورِ العبادة وقدمٌ في السياسة، ولم تنشىء فقهاءَ كباراً، بسبب أن الفقه يحتاج إلى سنوات طويلة من الدرس، وهو أمرٌ يفصلُ الباحثَ المتدينَ عن السياسة التي تتسم بأنها حراكٌ يومي، والفقيه عالمٌ بينما السياسي الديني مستغلٌ للشعارات والعبادات الدينية لصعود جماعته. حين نقرأ سيرَ الفقهاء الكبار لعصر النهضة العربية القديمة مثل مالك بن أنس وأبي حنيفة النعمان وجعفر بن محمد وغيرهم سنجدُ الغرقَ في الفقه والبحث المتقصي فيه، والبعد عن السياسة والفلسفة رغم لمحات مؤسس الحنفية فيها والمُنتَقَدة من قبل المحافظين، وحين جاء التابعون لهم قلَّ البحثُ كثيراً وزادتْ السياسةُ وأصبحوا مُسيسين مؤدلجين للدول المسيطرة أو التي في طريقها للظهور القومي المختلف عن العرب. فظهرتْ الحركاتُ المُسيِّسةُ الجديدةُ للإسلام وهي ترثُ وعي الأواخر وجمود عصر المحافظين والأتراك العثمانيين والحركات السلفية البدوية في الصحارى العربية. وكعهدِها القديم لبدتْ بقرب الدولِ والطبقات الحاكمة شاعرةً بأن الحكامَ الجددَ بمختلفِ مذاهبهم الرسمية ينأون عن الدين الذي حفظتْ أحكامَهُ التقليدية ووظفته، وجعلتْ من نفسِها وصيةً عليه وعلى المؤمنين به، متصورةً أو متوهمةً أنهم يبتعدون عنه، وينزلقون لعوالم الغرب العدو التقليدي لديار الإسلام كما تتصور. ومهما إختلفت مع نظام من الأنظمة الذي يكون قد إتخذ سياسة مغايرة، قومية أو يسارية، فإنها تجدُ في بلدان أخرى ملاذها، وتظلُ تمارسُ فيه عملها السياسي، وربما تأثرت بما فيه من تقليديةٍ أو بذخٍ أو تقشف أو مال أو مشروعات سياسية عابرة للدول، ولكنها طوال هذه العقود لم تعد النظر العميق في الأسس التي قامت عليها، ولم تنفصل عن الفقه المحافظ والتنفع به. والذي حدث خاصة بعد تدفق الثروة النفطية أن العديد من نخبها قد تبرجز، ودخل في المشروع الغربي الرأسمالي التحديثي المرفوض كلياً سابقاً، فزمنية البدو الفقراء، والحارات الفقيرة، والبيوت الضيقة، هو غير زمن الشركات والمتاجر والبنوك، ولهذا نجدُ الرسملةَ الواسعة للمنظمات الدينية وقيام البنوك(الإسلامية) فحدث ظهورٌ واسع لفئات وسطى جديدة، فقدمٌ لها في الإرث المحافظ، وقدمٌ أخرى في المشروعات الاقتصادية الحديثة، تتحدث بنصوصية سلفية أمام البسطاء والأميين، وتتكلم بليبرالية دينية محافظة أمام رجال ونساء الأعمال. وهي تشتغلُ أساساً بالسياسة مثلما كانت خلال قرون، أما مع الحكام أو كظلٍ لهم؛ أولئك يحكمون البلدَ وهي تحكمُ الشرعَ أو الدين، والحكام صاروا يتدخلون في الشرع، فراحت هي تتدخل في الحكم. ولكن الإقطاعَ السياسي والإقطاعَ الديني يقتربان من الرأسمالية، كلٌ من موقعهِ، ومن أحجام رأسماله، ومن صلاتهِ بالناس وتأثيره فيهم ومحاولاته سواءً بالتشبث بالسلطة أو بالقفز إليها! إن دخول الدينيين كأجنحةٍ محافظة يمينية للطبقات الرأسمالية الجديدة الصاعدة محولين الشرعَ لرأسمال سياسي، هو توسع كبير للطبقات الرأسمالية الضيقة السابقة، وينشىء مسارات جديدة للأعمال، ويتسم بإدخال الاحتيال على نطاق واسع كذلك، والقمع الاجتماعي للمدنية الحديثة، لأن العامة المحافظين بطبيعتهم الاجتماعية لديهم ثقة في الدين وما يظهر فيه، فيختلط الاسثتمارُ السياسي بالاستثمار الديني، ويصعد الدينيون للشركات والبرلمانات فيتحكمون أو يؤثرون في التشريعين السياسي والديني. جناحا الطبقات الرأسمالية المتكونة وهما المدني والريفي، الإنتاجي وغير الانتاجي، الجديد والقديم، الليبرالي والديني، المجدد والمحافظ، سيظلان لعقود وهما يتصارعان حسب البُنى الاجتماعية لكل بلد، وحسب ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومدى دوران رأس المال في كل بُنية، وكيف يقوم بالتجديد الموسع للبنية أو لا يقوم، ومدى تبادل السلطة بين الجناحين والعامة، ودور قوى الإنتاج في هذه السيطرات تغييراً وعملاً. سيظل الدينيون يتحركون ببطء في الرأسمال العائلي، ولا يقبلون بسهولة بتحرر النساء وتحولهن لقوى إنتاج كبيرة، وعملية التجديد في الإنتاج المادي تتطلب تجديداً في الإنتاج الروحي، في تغيير نمط العائلة والوعي العقلي القديم، وتبديل مستوى المدارس والمناهج، وهي كلها ستفتح معارك فكرية وسياسية وإجتماعية طويلة في إطار خروج المسلمين من العصر الوسيط إلى العصر الحديث. إذا تجذرت الديمقراطية عبر التداول وتم مقاومة الاحتيال بالمال والدين، فإن تحول شعوب عربية للحداثة والتقدم ورفعة الطبقات الشعبية مسألة وقت.
البرجوازية الصغيرة والقفز إلى الثروات
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح من المتعذر إقامة أنظمة تسيطر عليها البرجوازيات الصغيرة لتقيم أنظمة رأسمالية حكومية، حيث كان آخرها الفاقع هو النظام الإيراني. أعطى النموذج السوفيتي إمكانية لذلك حتى في اليمن والحبشة، لقدرة حراك هذه الفئات وتخلف الشرق، ولإقامة نهضات سريعة غالباً ما تنتهي بكوارث. كان ذلك النظام رافعة لنهوض وتسريع التطور، ولكن الافتراق بين مصالح الفئات الحاكمة التي أستأثرت بالثروات، وحدوث الانفصال بين البرجوازية البيروقراطية والعمال، أدى إلى إنكسار أهم رؤية لعبت دوراً تحويلياً في القرن العشرين وهي الماركسية، التي تفتت بسبب هذه المصالح الذاتية للطبقات الحاكمة في هذه البلدان، بحيث غدتْ عاكسةً للمصالح القومية العليا في هذه البلدان وتغيبتْ قراءتُها للقوانين الاجتماعية الموضوعية والدفاع عن العاملين، وتنوعت حسب الخياطات الخاصة لكل دولة وجماعة وظروف بحيث فقدت في هذه التطبيقات قدرة إكتشاف القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي. لكن حدث في خلال ذلك كله صعود حركات التحرر الوطني وحطمت التبعية المباشرة، وأمكن لكثير من البلدان أن تتطور بأشكال مستقلة. إن الضخ الإيديولوجي العاطفي وفرضها بأشكال دكتاتورية كل هذا جعل من الأفكار الموضوعية حطاماً، ومهد لصعود الأفكار الخيالية والقومية العتيقة، بل وحتى التصورات السحرية الخرافية لإدارة دول من العالم الثالث تمتلك أسلحة هائلة، بحيث إنتقلنا من التطبيقات الميكانيكية والانتهازية الفكرية إلى الدجل الطائفي نظراً لعدم وجود بُنى عقلية جماهيرية موضوعية تحديثية. هذا الأمر ينعكس بقوة الآن على إستخدام الإسلام في التحولات العربية، فتحدت نفس الأدلجة، ويتم إستغلال المذاهب وتعبئتها بأشكالٍ عاطفيةٍ حادة من أجل الثروات، لكون الفاعل الأساسي لا يزال الفئات البرجوازية الصغيرة الفاقدة للرأسمال سوى رأس المال الكلام والتلاعب على حبال الطبقات والمذاهب. قامت الثوراتُ العربية على تقدير الديمقراطية والشفافية والصحافة الحرة وهي جوانب أساسية لمنع ذلك المنزلق الذي سد وحجَّم الماركسية، لكن ثمة مخاطر لا تزال كبيرة فالجماهير العربية ليست ذات ثقافة ديمقراطية متأصلة، والمنظمات السياسية تشتغلُ على الأفكار المذهبية المحافظة غير الديمقراطية وتحولها إلى أدواتٍ للوثوبِ للسلطات والمنافع، وتستغلُ التخلفَ في الفئات الريفية والنساء والمهمشين والهياكل النقابية الجامدة أو النفعية البيروقراطية والأحزاب المتكلسة ونخب عبادات الأفراد. إن التبلور الطبقي كما هو في الغرب ووجود المؤسسات العريقة وفصل الدين عن الدولة كل هذا أتاح تطور الديمقراطية الطويل في الغرب، أما في الشرق فإن حراك البرجوازيات الصغيرة للتلاعب بالأيديولوجيات والمذاهب، ثم التكالب على الثروات وسد منافذ التحول السياسي، مما عرقل التنمية وفجر صراعات دامية، حيث قامت حتى إعادات البناء في بعض الأنظمة كالعراق وإفغانستان بسرقة مليارات من الدولارات. لم يعد نظام البرجوازية الصغيرة حتى إستنساخاته في مصر يوليو واليمن وموزمبيق وكوبا وغيرها قادراً على البقاء أو قادراً على ظهور نسخ جديدة، لكن المذهبيين السياسين في العالم العربي قادرين على إيجاده عبر مرتكزات إيديولوجية مختلفة، فيظهر الاستبداد وتراكم الثروة لدى الفئات الحاكمة عبر تخريجات فقهية، ويحتاج الأمر لمراقبة هذه التجربة ومدى قدرتها على تجاوز نسخ الشموليات الشرقية والاعتراف بديمقراطية حقيقية وتعددية سياسية وفكرية. إن إنهيار الأشكال الشمولية للاشتراكية من جهةٍ، وتصاعد المذهبيات المحافظة من جهةٍ أخرى، هي قضيةٌ واحدة ذات وجهين، تعبرُ عن عن إنتقائية وإنتهازية البرجوازية الصغيرة، ولهذا فإن دخولنا إلى مرحلة إحتراق جديدة باسم الدين بعد أن كانت باسم الإشتراكية، يدعونا لرفض الشكلين معاً، فلا يخدعنا نزع القبعة ولبس العمامة، وإعادة إنتاج الدكتاتوريات بيافطات مختلفة شكلاً.
البرجوازية الصغيرة والفقراء
هو ذات السيناريو الجامد غير المتغير، لأن نوابضه الداخلية ليست ثقافية تحليلية وطنية مغيرة، بل فوضوية وخالية من المعرفة العميقة وقراءة الوقع والمنطقة. وليس غريباً أن تتجمع مع قوى البرجوازية الصغيرة التي لم تتغير، لم تستفد من براكين التحولات في العالم، وتعتبر العمال والفقراء جسوراً تنط من فوق ظهورهم للثراء والسلطان. أي أن ليس ثمة لدينا من يعبر بعمق وموضوعية وبعد نظر عن الفقراء. فإذا كان سبيل التحول السياسي الكبير مسدوداً فهل نقف مكتوفي الأيدي وونناطح ونترك مشكلات الناس محلك سر، وتزداد تأزماً مع كثرة التحولات الاقتصادية السلبية، ولكن الجمهور الفقير هو ذاته مسطح الوعي لا يستطيع أن يستوعب قادته البرجوازيين الصغار المحتالين، ويطالبهم بخطط لتغيير أوضاعه ليس على المستوى البعيد فقط بل على المستوى القريب كذلك. أن يدرسوا الأجور والأسعار والشركات والبنى الاقتصادية ويقدموا حلولاً على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إنهم يستغلون هذا التوق الشعبي المفهوم للتغيير في الظروف المعيشية والإسكانية والصحية، ويجردونه ويغيبونه في شعارات سياسية لا برامج فيها عملية. إنه مستواهم السياسي الفكري الاقتصادي المحدود، وتلقائيتهم وعفويتهم الحماسية غير الصالحة للقيادة، وعلينا في كل سنة أن نقدم وجبة من البشر ومن الخسائر الاقتصادية وأن لا نعارض هذا الساطور الماشي في لحمنا الوطني تمزيقاً وتعذيباً.
البرجوازية الحديثة وضعف الليبرالية
إذا كنا في حلقات سابقة قد قرأنا أسباب ضعف الفئات الوسطى العربية في العصر الكلاسيكي! فإننا هنا لا بد أن نذكر الخصائص الموضوعية التى اتسمت بها، وأهمها ذيليتها وتبعيتها للأنظمة الإقطاعية. ولم تحدث في أثناء هذه التبعية أي مواقف جذرية شاملة نحو وعي ديمقراطي ليبرالي بطبيعة الحال. وفي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين, أتيح للفئات الوسطى نمو كبير في التجارة والعمليات الاقتصادية الأخرى المختلفة بسبب نشوء نظام عالمي جديد هو النظام الرأسمالي الغربى، الذي أخذ من العقود الأولى من هذا الفرن بالتوسع الاستعماري منتقلاً من مرحلة تصدير البضائع إلى مرحلة تصدير رأس المال. وإذا كانت هذه المرحلان قد ركزت غربياً على جلب المواد الخام المهمة، فإنها قد وضعت سقفاً لنمو الرأسمالية في العالم العربي، كذلك فإن الاحتلالات العسكرية الغربية لم تقوض الأنظمة الإقطاعية . المذهبية، بل جعلتها أساساً للنظام التابع الذي أنشاته فى كل بلد عربى، ولهذ ا فإن (الإصلاحات) الرأسمالية التي قامت بها كانت تسهيلاً لتدفق التجارة بين البلد التابع والمتروبول. أي أن الدولة كمهيمنة على جانب رئيسي من الثروة لم يتم إزالتها، ولم يفعل الاستعمار سوى أن يجعل الدولة الإقطاعية – المذهبية المحلية كشريك في عمليات الاستغلال المشتركة للمنتجين. أما الجوانب الأكثر تخلفاً كملكية العبيد والحجر الكلي على المرأة فلم يكن بالإمكان استمرارها في المناطق المدنية، وهي المراكز الاقتصادية الكبيرة التي هي بحاجة إلى استقرار لهذا النظام الملفق، فهو إقطاعي – مذهبي، تسود فيه الشريعة التي تم إنتاجها في قرون هيمنة الإقطاع المطلقة. ولا هي القوانين والنظم الليبرالية الغربية المستوردة. فى مستوى هيمنة الإقطاع، بقيت الأسر الحاكمة التي تملك الخزينة الملكية شرعاً، ولكن الإصلاح الاستعماري جعل هيمنتها غير مطلقة، وهنا لأول مرة تطبق مسألان الميزانية العامة، ويتم الفصل قليلاً بين جيوب الحاكم وخزانة البلد، لكن هيمنة الأسر الإقطاعية الحاكمة تم في جوانب عديدة من الاقتصاد، ببقاء الأملاك الكبيرة والتحكم في جانب كبير من موارد الخزينة، والموارد التى ستأتي لاحقا، كالبترول. لقد رفض الاستعمار الغربي نقل الثورة البرجوازية إلي العالم العربي. عبر جعل الدولة جسماً غير اقتصادي، فقد استمر في جعل الدولة الماكينة الاقتصادية الأساسية، فهي ضمناً تمثل المالك الأكبر، ويجب ألا يغيب عنا بعض الجوانب الرأسمالية التحديثية التي هي جوانب جزئية لا تلغي كون الدولة هي المالك الأكبر. إن الملكية العامة التي كانت للأرض يتم التخلي عنها، فتصبح الأملاك الزراعية الكبيرة من ملكية طبقة الأعيان أو الشيوخ، حسب التسميات فى كل منطقة. وبهذا يحدث لأول مرة في التاريخ هذا الانفكاك الواسع بين ملكية الدولة والأرض الزراعية، مما يسمح بنمو للملكيات الخاصة الزراعية بشكل واسع في العصر الحديث. ولكن هذا لا يعني سقوط الإقطاع الزراعي، فهو يصبح الآن مباشراً، بدلاً من الشكل العام واللامباشر الذي اتخذه في الغالب الأعم من التاريخ القديم. ولهذا فإن الأسر الحاكمة عبر تزعزع بعض جوانب سلطتها فى النظام السياسي، تقوم بالتعويض عنها من خلال ملكيات الريف والدخول في الحياة الاقتصادية، وبشكل يساعد فيه الموقع السياسى المتنفذ. هنا نجد ذلك التآلف بين الإمبريالية والإقطاع، وهو الأمر الذي سيضع أساساً للتعاون السياسي والأيديولوجي بين الجانبين في فترات كثيرة من هذين القرئين 19، 20. إن العمليات التحديثية التي يقوم فيها الاستعمار وشريكاه في السلطه، الإقطاع السياسي، والأقطاع الديني، عبر إدخال التعليم النظامي وخروج المرأة المحدود إلى الحياة العامه، والعمليات التحسينيه الأخرى، إنها تبقى من أجل وظائفيتها الاجتماعية والسياسية، فظهور الجيوش الوطنية المحدودة، والمهيمن عليها من أبناء الأسر الأشراف، على الأقل فى النصف الأول من القرن العشرين، لا يمكن أن يحدث دون تعليم وإنشاء أجهزة، وكذلك دون مجيء المصانع والأدوات التي تنقل المواد الخام، او تصنعها بعض التصنيع المحدود، والموانئ التي تنقلها الخ.. إنها سلسله وظائفيه لحمايه المواد الخام، ووصولها إلى البلد المسيطر، ولهذا فإن الإقطاعين السياسي والديني يلعبان دوراً في ركود البنيه السياسية الاجتماعية، واستمرار إعادة إنتاج المواد الخام، والسوق الوطنية كسوق تابعه. إن التعليم والإدارات السياسية والدينية والسوق… الخ هي أنظمة حماية لتدفق السلعه الصَّدرة للمتروبول كسلعه رخيصة، ولمجيء السلع المصنعه، ودون هذا التشكيل المتضاد بين القديم والعصري، بين البلد التابع والبلد المسيطر، لا تنشأ علاقه مستمرة. إن هذا التآلف بين الاستعمار والأقطاع قد اتخذ جوانب عدة. فالاستعمار الذي هو قمه تطور البرجوازية الأوروبية والأمريكية، يقاوم تشكل مثيلته في البلدان التابعه، أي يقاوم نشوء برجوازية صناعيه يمكن أن تستولى هى على السوق. وإذا قبل بنشوئها فعلى ضفاف النظام الكولونيالي الذي رتب أداوره الأساسية. ومن هنا يغدوالتحالف بينه وبين الإقطاع بشكليه رئيسياً في نظامه الحديث شكلاً والمحافظ والقديم مضموناً . أي أنه يبقي علاقات الأنتاج الإقطاعية سائدة، ويحفر خلالها لقنوات نمو رأسمالية محدودة. إن نشوء نظام إقطاعي ـ مذهبي تابع لبلدان الغرب المسيطرة الرئيسيه، سيكون هو الصيغة الملفقه السياسية والاجتماعية لظهور العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، وبمظهره هذا بدا كأنه غير الماضى، وانه بُنى اجتماعية رأسمالية، وهذا أمر شوش الرؤية السياسية طويلة لدى المثقفين بل الباحثين. إن الاستعمار قد حافظ على البنى الإقطاعية ـ المذهبيه، في الأقطار التي تتنوع فيها المذاهب الإسلامية، وعلى البُنى الإقطاعية الدينية التي تتنوع فيها الأديان، كمصروالسودان والعراق ولبنان وسوريا، أو التي تتنوع فيها الأديان والمذاهب كذلك. ويلاحظ هنا ان المشرق العربي هو الذي مثل هذه الفسيفساء، للجذور القديمه التي تمتد إلى آلاف السنين. إن حفاظ الاستعمار على البُنى القديمة، يؤدي إلى سيطرته على اجهزة الدوله، وبالتالي يلعب دور الإقطاع السياسي المسيطر، كما كان الأمر فى دولتى الأمويين والعباسيين وما تلاهما، لكن (الخراج) المعاصر لا يذهب إلى بذخ القصور كما كان الأمرسابقاً، بل إلى البنوك والشركات الغربية، عبر إتاحة الدولة الإقطاعية الاستعمارية لشركات بلدها استغلال المواد الأوليه والسوق. إننا أمام صيغة اقتصادية وسياسية مركبه، ففي الوقت الذي يلعب فيه النظام الاستعماري دوره الرأسمالي في بلده، عبر ضخ الموارد من البلد التابع، فيطور رأسماله الداخلي، فإنه يلعب دور الإقطاع السياسي فى البلد المستعمَّر. وهى صيفه كما تقوم بتطوير جزئي للبلد المستصمَّر، فإنها تبقي الهياكل، لإقطاعية الأساسية فيه. هنا يلعب الاستعمار دور الأشراف السابقين، فيتحالف مع الأشراف الحاليين، أو الذين يصنعهم كأشراف . وبُحدث ديمومة للعلاقات الإقطاعية ـ المذهبيه. ونظراً لتحول السلطه الاستعمارية إلى إقطاع في البلد المستعمَّر؛ وإلى رأسمالية احتكارية في البلد المستعمّر، فإنها تقوم بالحفاظ على الإقطاع في مستوييه السياسي والديني. كما تحافظ على مستوى محدود من تطور القوى المنتجه. إنها تغدو جزءاً من الإقطاع السياسي، ولهذا فإنها لا تغدو سلطة برجوازيه، بل هي في وجودها الاستعماري تعادي الميراث البرجوازي الغربى الثوري نفسه، أو هى حين تصدره تزيح الجوانب الديمقراطية والعلمانيه منه. لأنها غدت جزءاً من السلطة الإقطاعية. إن السلطة الاستعمارية تحمي وتقوي المستوى الديني من البنية الاحتماعية. إنها أيضاً تفعل كما يفعل الخلفاء الإقطاعيون السابقون بأشكال حديثة، فيذهب (الخراج) إلى البلد المتروبول المسيطر، فيزداد البلد المستعمَّر فقراً، لكون الفائض الاقتصادي لا يعود إلى تطور القوى المنتجة. هناك جوانب أكثر تطوراً من النظام الإقطاعي العربي السابق، فالبنية الإقطاعية ـ المذهبية ـ التابعة، هي غير البنية الإقطاعية العربية المستقلة السابقة، فهى مربوطة بتطور القوى المنتجة الغربية. إن الازدهار المستمر في تطور قوى الإنتاج الغربية ينعكس في البلدان المستعمرة، ولا ننسى هنا ان الحلقة الراهنة حينئذ، هي حلقة تطور الرأسمالية الاحتكارية؛ وهى من نهايات القرن التاسع عشر حتى نشوء نظام الشركات العابرة للجنسية فى العقود الأخيرة من القرن العشرين، الذي يمثل بُنية رأسمالية مختلفة. ولكن انعكاس تطور القوى المنتجة الغربية في البلدان المستعمرة هو استيراد المنتوج والبضائع، في ذلك الزمن الغربي الخاص، أي أن استيراد وسائل الإنتاج التي تصنع وسائل إنتاج، وهو ما يُسمى بالتصنيع االثقيل، كان ممنوعاً فى تلك العلاقات الاقتصادية، ولهذا فإن تصدير البضائع الحديثة من أثاث المنازل والثلاجات وأدوات الاتصال الخ . . كان محتماً وضرورياً من قبل الاستعمار، ولكن هذا لا يعني كذلك انتقال الرأسمالية كنموذج وكبنية واستيراد الحداثة كنظام، لأن استيراد البضائع وتداولها في النظام التابع، سيخضع لقوانين النظام الإقطاعي – المذهبي التابع. فالراديوسيخضع للخطب والأخبار الاستعمارية وللارستقراطية ولكبار رجال الدين.. الخ. ومن هنا فإن نشوء أو تطور الفئات البرجوازية في هذا النظام، لن يحولها إلى طبقة، إن شروط تحول الفئات البرجوازية إلى طبقة هو ظهور رأس المال الصناعى الوطنى وهيمنته على السوق. وكما رأينا في الفئات البرجوازية العربيه القديمة، كيف لم تستطع أن توجد العملية المحورية في تشكيل رأس المال الصناعي هذا. لكن تطور الصناعة الحرفية فى كل بلد عربي يخضع لشروط التطور داخل كل بنية وطنية، بعد التجزؤ الإقطاعي المذهبي؛ ثم الاحتلال الاستعماري، ففى بلد ذي سوق ضخمة هو غيره في بلد صغير، لكن بعض الملامح الأساسية كانت متوافرة، عبر ظهور دلائل على انهيار الحرف القديمة وتدهور الزراعة، حيث لعبت عملية الاستيراد للبضائع الأجنبية دورها في هدم جوانب من قوى الإنتاج الوطنية. فى القرنين ١٩ و٢٠ حدثت عمليات هدم واسعة للحرف والصناعات القديمة، وهذا ما أدى إلى تضخم المدن العربية بالمقتلعين من مهنهم السابقة، كما أن تضخم أجهزة الدول الحديثة وسع هذه المدن، وهذا يذكرنا ببناء الكوفة ثم بغداد والمدن العربية السابقة، وو التضخم المدني الذي ينشأ بقرار إقطاعي، أي أن هذه ليست مدنا برجوازية، بل هي إدارات إقطاعية، غدت الأن مزدوجة اقطاعة – تابعة. إن هذا يجعل هذه المدن تنمو بطريقة مضادة للحداثة، حيث إن المدن الحقيقية تنمو على أساس نمو الصناعة وازدهار أشكال رأس المال المصاحبة لها، لكن هذه لا تنمو على أساس نمو الصناعة، بل على أساس منع نموها. ولهذا فإن جميع أشكال الحداثة في العالم الإقطاعي التابع ستظهر مدى هشاشتها لاحقاً. إنها تحافظ على الهيكل الإقطاعى السابق، وعلى عمليات الاستيراد الرأسماية، ولهذا فإن الفئات البرجوازية الناشئة في العهود الإقطاعية السابقة ستواصل النمو؛ وستظهر فئة كبار التجار مرة أخرى، وستُذيل لذات النظام الإقطاعي ـ المذهبي التابع هذه المرة، وبدلاً من الاتجار في مواد الحرفيين المسلمين، والاستيراد من البلدان الأخرى، سيكون الاستيراد من بلد المتروبول ثم من المنظومة الرأسمالية كوكالات، وسيغدو الوكيل, هـو وجه الرأسمال الأجنبى البضاعى. وستنشأ ثقافة الاستيراد البضاعي ووكلاؤها المعتمدون. سيكون الوكيل جزءاً من الطبقة الإقطاعية التابعه بشرائحها المختلفة، وستجمع بين ثقافتين متداخلتين: ثقافة الرأسمالية القشورية التابعة، وثقافة الإقطاع المذهبي بألوانه في كل بلد. وإذا كان التاجر الكبير في العصر العباسي يورد للأشراف، أي للدولة، (السوق العظمى) فإن الأمر يستمر الآن، ولكن معضلة السوق الإقطاعية تبقى مستمرة، حيث يتم تفقير المنتجين وتوسيع السوق، وهما أمران متضادان، وعلى الرغم من نشوء بعض الصناعات في هذه المرحلة فإنها تبقى في محيط المواد الأولية المصدرة، مما يبقى الأساس الاقتصادي للبنية. وتؤدي مشكلة السوق الإقطاعية، على بذخ على الضفتين، فالأسر الارستقراطية تستمر فى البقاء والبذح، برعاية الاسعمار، والاستعمار نفسه يسوق فائضاً اقتصادياً كبيراً إلى بلده فيجعله مزدهراً ومطلوراً لقواه المنتجة، ولبذخ البرجوازية الغربية، في حين يدمر القوى المنتجة المحلية، ولهذا فإن المدينة الإقطاعية العربية في نهاية المطاف تنفجر من تناقضاتها. فهناك توسع مستمر لهذه المدن من دون أساس إنتاجي راسخ، ومن دون تراكم إنتاجي ورأسمالي، وهي تفقد مواردها بشكل مستمر، وتجلب القوى الريفية والحرفية المُدمرة، وهي تواصل تقوية الهيكل الإقطاعي المذهبي لنظامها، فتدخل المدينة فى نفق أزمة طويل. تحتاج القراءة هنا إلى توصيف اجتماعي وسياسي وثقافي ملموس، وهذا أيضا يحتاج لوقفة أخرى.
البرجوازية القديمة وغياب الليبرالية
رأينا بشكل مستمر الهياكل الاقتصادية والسياسية المترابطة للأنظمة الشرقية وأسباب الاستبداد في البنية الاجتماعية بمستواها السياسي الحاكم، وبمستواها الاجتماعي الديني الحاكم. وقد امتلك التاريخ العربي الإسلامي أقوى شمولية شهدها التاريخ الإنساني، وايصاً أكثر المحاولات الكفاحية للخروج منها، وذلك بسبب طبيعة الحراك الاجتماعي الجغرافي الذي تشكلت فيه الحضارة فى المنطقة، عبر قدرة الصحارى وسكانها على إعادة عجلة التاريخ للوراء دائماً، واعتقال التطور المدني المحدود الذي يتشكل فى المدن. في حين أن مناطق آسيا الأخرى كالصين مثلا، عرفت عبر تاريخها الزراعي ـ التجاري المتعاضد، إمكانية للتراكم الحضاري عبر عدة قرون، مما أتاح للعناصر الشعبية العلمانية تفكيك المنظومة الدينية الشمولية والتخفيف من حضورها في الحياة الاجتماعية؛ وهو المستوي الذي هيمن فيه الاقطاع الديني لدينا بصورة صارمة. ويعد سور الصين العظيم عن هذا التصدي للعناصر الرعوية من فرض قوالبها المتخلفة دائما على الحياة الحضرية. في حين كان من الصعب للعراق أو مصر بناء سور مشابه لأنها هي ذاتها جزء من الصحراء. ولكن الأمر لا يعود لقدرة الاقطاعين السياسي والديني على لجم التطور الحضاري فقط، بل هو يعود أيضا لضعف الفئات الوسطى في إنتاج الليبرالية. وحين ظهرت المدن العربية الكبرى لم تكن من نتاح بناء البرجوازية. وهذا الأصل العربي للبرجوازية، (مدن الأبراح) يوضح الطبيعة الصناعية والتجاريه للمدن التي أنشأتها الفئات المتوسطة الأوروبية لحماية املاكها، عبر الأبراج والأسوار، وكان هذا في تعبيره الجغرافي والرمزي، يمثل القطاعات الاقتصادية التي راحت تستقل عن المركز الاقطاعي الحاكم، والتي أخذت تنمو في وضع سياسي كان الاقطاعان السياسي والديني في صراع بينهما ولم يستطيعا ايجاد هيمنة اقتصادية شاملة. فأخذت مدن الأبراج تتقوى سياسياً وفكرياً عبر عدة قرون. إن الفضاء الاجتماعي الأوروبي يختلف عن الفضاء الآسيوي عامة، فالفضاء الأوروبي لم يشهد التداخل الشديد بين الملكية العامة والحكم، الذي تمظهر دينياً بقدرة الحكم على إفراغ الثورات الاجتماعية التي تتشكل عبر عباءات الدين من مضامينها الكفاحية؛ فقد كانت هناك دائماً في أوروبا قوى الملكية الخاصة الواسعة، التي تنامت خاصة في بداية العصور الحديثة، والتي غدت مدن الأبراج جوهرتها، ولهذا كان ظهور البرجوازية الصناعية هو تتويج لمسار التراكم بين الملكية الخاصة والثقافة والأنتاج الحرفي. إن زمن الحرف الذي استمر طوال العصور الوسطى، وهو النظام الاقتصادي المغلق المعادي للتطور التقني والاختراعات، أخذ يخلي المكان الأساسي للصناعة اليدوية، وهذا ما مثل عصر النهضة؛ ووضع الأسس لعلوم الطبيعة الميكانيكية الرؤية. فمنذ القرن الثالث عشر والتراكمان الصناعي والثقافي يتداخلان، وأدى توسع التجارتين الداخلية والخارجية إلى تبدل أهمية ووزن مدن الأبراج، وانتقال المال من القصر والأديرة إلى خزائن هذه المدن النامية. وهنا يتبدل جمع المال إلى تراكم رأسمالي. والفارق كبير بين الجمع والتراكم، فالجمع يؤدي في أحسن الأحوال إلى إعادة الإنتاج البسيط، وكثيراً ما يقود إلى البذخ والإفلاس، وهما الوجهان المتقابلان المترابطان للحضارات القديمة. يقود التراكم الرأسمالي البسيط في عدة قرون من تكرار الصناعة اليدوية، إلى التراكم الموسع للإنتاج، وإعادة تغيير الهياكل الاقتصادية التقليدية، وقد لعب التقريب المستمر بين العلوم والإنتاج، دوره بدءاً من القرن السابع عشر في تفجير الثورة الصناعية، وهذا ازاح الهياكل التقليدية في الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية، لقد اصبحت مدن الصناعة والعلوم قادرة على إعادة تشكيل نسيج المجتمعات الأوروبية بعد ثمانية قرون من التراكم المدني العسير. إن انفصال المدن الأوروبية الحديثة عن نسيج الاقطاع السياسي والدينى بصور شتى متقطعة ومتداخلة، عضدته المساحة القارية الأوروبية الصغيرة قياساً بآسيا، ولكن أيضاً التراكم الاقتصادي والاجتماعى السابق، وخاصة تجذر مؤسسات الحكم المطلق، في حين وجدت دول آسيا نفسها دائما في كيانات حكومية مُسبقة تسيطر على المدن، وتملك الأرض ووسائل الأنتاج وأحياناً أدواته، ثم تحاصر التجارة والحرف. إن النمطين الأساسيين من التجارة والحرف في العالم العربي الاسلامي، هما نمط التوريد للاستهلاك الترفي الذي تقوم به الطبقة المسيطرة، أو نمط الاستهلاك الإنتاجي والذي تقوم به الطبقات الشعبية الملبي للحاجيات اليومية ذات الاثمان المحدودة. والنمط الأول وهو الاستهلاك الترفي هوعملية إهدار واسعة ومدمرة للثروة الاجتماعية، وهو الذي ترتبط به الفئات الوسطى، ويؤدي إلى إلحاقها وتوسعها أو انهيارها.. الخ. وبخلاف الأمكانية الفريدة لنشوء مدن الأبراج الأوروبية، فإن الفئات الوسطى الشرقية لم تجد إلا التكوين الإلحاقي والتابع للأشراف. إننا نستطيع تخيل مقدار الثروات المهدرة عبر حساب الأهرامات وحدائق بابل والقبور وثرواتها والقصور والمتع الأسطورية وبذخ الأماكن الدينية وعالم الحريم والرقيق.. الخ. ولهذا كان لدينا دائماً نمط التجار الكبار القلة، ونمط التجار المتوسطين والصغار الكثيرين. ولا يتشكل النمط الأول إلا من خلال الاتصال بالدولة، التي يقول عنها ابن خلدون: إنها (السوق الأعظم). في حين يعتمد الآخرون على الاتجار بالمواد الشعبية. ولا يشكل التجار الكبار أي صلة عضوية بالعلماء الطبيعيين والرياضيين والاجتماعيين، لأن نظام الحرف المغلق يظل مجرد أداة للاستيراد، أو التصدير، مثل الأسواق التي تظل مكاناً جغرافياً للسلع فقط. وليس ثمة صلة معرفية بين التجار والعلماء والحرفيين، ولهذا فإن أدوات الاتصال بين التجارة والحرف والتقنية تظل مقطوعة، فيظل التجار الكبار يتبعون خدمات الترف للقصور سواء كانت للملوك أم الوزراء أم كبار الموظفين أم رجال الدين، أي الأشراف عموماً. وهذا ما يجعل التجار الكبار يتابعون كذلك المناخ الديني والثقافي للقصور، أي لا يساهمون في تشكيل أي نوع من الوعي المتحرر. فالسلع والحرف والمال هنا لا تقود إلى التراكم الصناعي والعلمي، فهي جزء من كماليات الترف. إن تبعية مصادر تمويل التجار الكبار للطبقة الاقطاعية يجعل الرأسمال التجاري محافظاً على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التقليدية، وهي الهياكل التي تزداد تخلفاً عبر الهجمات البدوية المتكررة عبر القرون، بحيث تغدو المدن كيانات اجتماعية هشة فاقدة للقدرة على إنتاج التحديث. إن التجار الكبار يتوافقون مع البنية الاقطاعية بمستوييها السياسي والدينى، فمسألة احتكار السلطة والنص الديني والإبقاء على تخلف وعبودية النساء والرق.. الخ تُلغى من أي خطاب لهم، عبر هذا الارتباط الاقتصادي المصيري، حيث كلمة واحدة كافية لاختفاء ثروة كاملة. أما التجار المتوسطون والصغار والحرفيون المماثلون، فإنهم يعيشون أساساً على موارد الشعب؛ وهي السلع المعيشية الُمشتراة بشكل يومي، وهي التي تتيح للسوق البقاء، ولكنها تقوم على الفيض المالي من الطبقة المسيطرة، الذي يقوم أغلبه على منتجي القرى، ولهذا كلما ثار الفلاحون أو تقطعت أراضي الدولة، أو حدثت فيضانات، تدهورت فوائض الدولة وبالتالي تدهورت الحياة المعيشية للجمهور وللتجار الصغار، وحدثت أزمات الغلاء والمجاعات. وغالباً ما تتدهور المدن بعد اتساعها بسبب ان على الريف أن يقوم بإعالة هذه المدن المتضخمة باستمرار، فلا يتحمل ذلك وتبدأ الثورات. وحين تنجح الأرياف والمناطق في تفكيك الدول يتفاقم التدهور في المدن، ولهذا يمكن قراءة مصير تدهور مدينة مثل بغداد، والازدهار المعاكس لمدن الري أو القاهرة أو فاس. ويعد زمن النهضة هنا هو وقت تدفق الفوائض الريفية والتجارية والتوازن بينه وبين الاستهلاك البذخي. وتقود هذه الظروف التجار الصغار والحرفيين والفئات الوسطى عموماً، إلى التمسك بقشور الدين التي كرستها الطبقة المسيطرة بفرعيها، السياسي والديني، ويغدو الزهد ثم التصوف هما البدائل لنظام اقتصادي مضطرب وشحيح وزراعي. كما حددت الطبقة المسيطرة الطابع الاقتصادي والسياسي والثقافي العام للنظام العربي الوسيط, فإنها ستحدد التوجهات العامة للفئات الوسطى منتجة الوعي والثقافة. فإذا كانت سلع الترفيه: سلع البناء كالبلاط والزجاج والعطور والثياب الخ. . حصلت على المكانة الرئيسية بين السلع, وبالتالي تحددت فئات التجار على أساسها, وتحدد البناء السياسي ـ العسكري على أساس جلب الخراج والمكوس, فتمظهرت فئاته حسب ترتيب الجلب والمحافظة عليه وتنميته وهي: الولاة, والقواد, والجباة , وموظفو الدواوين. إذا كان ذلك قد حدد ترتيب الفئات الوسطى العليا, فإن الفئات الأدنى منها, في المجال الفكري والاجتماعي, والمتعيشة من هذا النمط التوزيعى, سرتبط بشكل غير وظيفى مباشر, لكون المهمات الدينية والفكرية يجري ترتيبها في اثناء نمو النظام بآلية السيطرة الفوقية. وهكذا كان تشكل هذا المستوى يجري بتنحية العناصر المضمونية النضالية, وتقوية العناصرالشكلانية الغيبية, أو اشكال الممارسات العبادية, وتضخيم أبنيتها, وكلما نقص المضمون النضالي زاد الشكل الزخرفي والعمراني, وتبقى الجوانب المفيدة من المعاملات التي توسع العلاقات البضاعية وتكرس تقسيم العمل والإنتاج كما تفرضه الطبقة المسيطرة. ولهذا فان فئات رجال الدين تتشكل على أساس القرب والأهمية للقوة المسيطرة السياسية, أي القادرة على تسويق السياسة العامة للخلفاء, فيظهر كباررجال الدين الذين يصيرون جزءاً من طبقة الأشراف, بحصولهم على الأراضى الزراعية والقطائع. فى حين تبقى الغالبية منهم في المستويات المتوسطة والدنيا. ولأن الدين هو المظلة الفكرية التي يستظل بها النظام, تغدو مؤسساته وإرثه وفئاته, الجزء الآخر من النظام, هو مستواه الفكري الغالب, لأن ثمة اشكالا فكرية تزاحمه كالآداب والعلوم والفلسفة لها مساراتها النوعية في النمو, ولكن قانون الهيمنة الاجتماعية ينطبق عليها كذلك, فيتم تنحية العناصرالمعارضة والنقدية والتحليلية للحياة. وإذ تظهر جوانب موضوعية وعلمية ومضيئة في الإنتاج, فإنها تظهر كأشياء وظواهر جزئية, في منظومات غيبية, فتتم السيطرة على الجوانب الموضوعية والنقدية ولا تتحول الى منظومات فكرية تحليلية كاشفة, مثلما تتقطع فئات الطبقة الوسطى الى شرائح عاجزة عن تغيير المدينة الإقطاعية. وتظهرجذورالمفكرين والكتاب المنتمين الى الشرائح الوسطى بدءاً من أسمائهم كالغزال واصل بن عطاء, والنظام المفكرالمعروف بهذا الاسم, والحلاج والاسكافي.. الخ. كذلك فان نسبة الشرائح في فئات الإنتاج الفكري تعبر هي الأخرى عن أدوارها في الحياة, حيث رجال الدين المتوسطون والصغار يمثلون الشرائح ألاكبر, وهذا يعبر عن كون إنتاج الوعي الديني يمثل الإنتاج الأكبر. ولهذا علاقة بالوعي ووظيفيته فالدين هنا يمثل أغتراباً عن الطبيعة والإنتاج والمادة, مثلما يمثل النظام الاقطاعي الزراعي والحرفي البسيط, غياباً عن الصناعة, وتعاملاً بسيطاً مع السلع, مما يجعل هذا الوعي يحافظ على الركود الإنتاجي, وإعادة تكرار العلاقات الاجتماعية التقليدية, وباستمرار تدفقها الرعوي والقروي المتخلفين. وفي الوعي الفكري تتنحى عمليات الكشف والتحليل الاجتماعيين, فابن المقفع يُقتل حيث دفعته رغبته الإصلاحية وموالاته للإشراف الى مصرعه, والاعتزال يتحول الى أعتزال تابع للسلطة, أو زاهد منعزل, وتتوجه المذاهب الدينية الى المحافظة وتنحية الاجتهاد, والمعارضة, في حين تبدأ الإسماعيلية في النشاط والرويج لفكر الإمام المستور الموجود, وبالتالي عدم تحليل الواقع المرئى واللامرئى.. الخ. إن الجوانب الليبرالية والديمقراطية في الوعى العربي القديم تغدو ضئيلة لضخامة المبنى التقليدي المهيمن على الحياة, وأساسه في النظام السياسي, فتعجز الفئات الوسطى عن إنتاج تلك الجوانب لأنها تغدو جزءاً ملتحماً بهذا النظام التقليدي بمستوييه السياسي والديني. وهذا كله على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية سيضع بعض الأسس الرئيسية للبرجوازيات العربية المعاصرة , ولهذا حديث آخر.
البرجوازية والطائفية
استخدم الغرب بشكله الاستعماري القوى الدينية لعرقلة نمو حركة التحرر في العالم العربي والإسلامي، فكانت هذه القوى الدينية بطبيعة الحال قوى طائفية، استخدمت الإرث الديني القديم المُفرّغ من دلالاته النهضوية، وتابعت الفئات الوسطى العربية هذا الاستخدام عبر دعم وتكريس المؤسسات الطائفية المختلفة. وإذ نشأت الفئات الوسطى نفسها في حضانة الأنظمة التقليدية العربية، فإنها واصلت تبعيتها للإقطاع السياسي والديني المهيمنين على الأمة المقطعة منذ ألف سنة. إن طبيعة رأس المال السائد عربياً خلال هذه الألف سنة، تتوجه نحو التوظيفات التجارية والعقارية والمصرفية، والأخيرة إلى مستوى متدن لأسباب معروفة، وهذه التوظيفات كلها ترتبط بالتبعية للدولة، أي أن الفئات الوسطى تغدو تابعة ومعبرة عن النظام التقليدي نفسه. إن النظام السياسي/ الطائفي هو الذي يشكل الفئات الوسطى، بشكل كبير، فعلى ضوء سيطرة القبيلة العسكرية، أو الحكام الغزاة، أو الضباط المتسلمين الأدارة من الاستعمار، فإن الفيض المالي المأخوذ من وسائل الإنتاج الزراعية أو من الضرائب، وفيما بعد من الملكية العامة لوسائل الإنتاج الصناعية والنفطية الخ..، الذي يؤخذ بشكل قسري وشمولي، هو الذي يتيح تكوين الفنات الوسطى وحجمها وتطورها. وتأتى الفئات الوسطى المنبثقة من الإدارة والجيش على رأس الفئات الوسطى، حيث تكون هي الأقرب الى مركز الفيض المالي، أو مركز السرقة العامة، ثم تأتي بعدها الفئات الوسطى الخاصة، والتي لا تستطيع أن تنمو إلا تحت مظلة القوى السابقة الذكر. وهكذا فإن هذا الأساس الاقتصادي هو الذي ينتج المظلة الإيديولوجية، التي عادة ما تكون مذهباً دينياً تم تفريغه من تطوره التحويلى والمعارض، وغدا مجردَ أشكال عبادية للسيطرة على الجمهور، وبالتالي فإن القوى المسيطرة المتعددة من حكام سياسيين وحكام دينيين، و(حكام) اقتصاديين وهم هذه الفئات الوسطى التي أثرت بفضل صلاتها وتبعيتها بالنظام السياسي / الديني، تقوم بإنتاج أشكال الطائفيات المستمرة على الفضاء الاجتماعي والسياسي. يغدو التجار طائفيين بحكم النشأة الاقتصادية الفكرية الاجتماعية المتداخلة، فالمذهب مفروض عليهم من خلال الصلات الاقتصادية المسبقة، وهم يظلون متحجرين في هذه المذهبية إذا لم تطرأ عوامل للثورة الوطنية الديمقراطية، عبر توحد السوق الوطنية ووجود عقبات اقتصادية استعمارية وأجنبية، تحول دون نمو رساميلهم، وهكذا فإن عهود الثورات الوطنية الأولى هي التي شهدت تناميا للوعى الديمقراطي الليبرالي، بقصد تجميع الطاقات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهدم النفوذ الأجنبي. وهذا التجميع لم يكن ممكناً بدون العلمانية والليبرالية، حيث يمكن تجميع المسلمين والمسيحيين، أو تجميع الطوائف الإسلامية، أو تجميع القوميات، وهكذا تغدو الطائفية معبرة عن السوق المجزأة، سواء عبر الطوائف المنقسمة، أو ثنائية الرجل المسيطر الموظف، والمرأة الجاثمة في البيت، أو بيروقراطية وفساد المدينة وإنتاجية الريف، أو نهضة المدينة وتفسخ الإقطاع الريفي، أو تقدم الثقافة النهضوية والتكنولوجية وأمية الجماهير إن الطائفية هى المعبرة فكرياً واجتماعياً وسياسياً عن مرحلة الأقطاع السياسي/ الديني، أي إنها تعبير كذلك عن سيادة الفئات الوسطى الإدارية المتحكمة في الفائض المالي، وهذه لا تقوم سيطرتها إلا على تمزق السوق الداخلية، وتخلفها، وغياب حضور الجمهور عن الإدارة السياسية والاقتصادية. وهذه تقود التوظيفات المالية نحو البذخ ونحو الاستثمارات العقارية والخدمية، أو نحو السوق الخارجية الغربية كأفضل ميدان للربح المضمون، وتأتي الصناعة الخاصة في آخر القائمة، في حين أن القطاع العام بمختلف أشكاله الرأسمالية يكون تابعاً للإقطاع السياسى/ الدينى، فلا يكون لهذا القطاع العام دور مختلف عن أراضي الخراج السلطانية في العصر المملوكي أو العثماني. تابعت الفئات الوسطى العربية إنتاج الإقطاع للدين، مثلما تابعته في الملكية الاقتصادية. فهي قد عاشت على الملكية العامة الزراعية المهيمنة عليها من قبل السلطات السياسية الدينية، ولهذا فان إنتاجها لمقولات الحرية والليبرالية والعلمانية ظل محدوداً، وقد جاءت هذه المقولات والمفاهيم عبر الاحتكاك بالغرب بوجهيه الاستعماري والديمقراطي، نفياً للأول واستثماراً فكرياً عربياً إسلامياً للثاني. أي أن هذه المفاهيم لم تكن نتاج التطور الداخلي لبنية اقتصادية إنتاجية، فالفئات الوسطى أثناء ذلك لم تتحول توظيفاتها إلا بشكل محدود نحو المصانع، وكانت هذه المصانع ذاتها مرتبطة بالمواد الخام الزراعية، مثلما سيكون الحال في المواد الخام النفطية فيما بعد. أي أن الفئات الوسطى وجدت نفسها تابعة دائماً للإقطاع وفضائه السياسي والفكري، حتى لو تم ذلك عبر الاستعمار، لأن الاستعمار ذاته اتخذ شكلاً إقطاعياً، عبر دعم البنية المتخلفة وأساسها الزراعي التصديري للمواد وعلى دعم البناء السياسي/ الطائفي. فحتى المواد التنويرية التي تم استيرادها من الغرب الديمقراطى، كانت خاضعة لهذا الفضاء التابع المحدود، فجاءت الموجة التنويرية الليبرالية الأولى، دون أن تقدر على طرح العلمانية بشكل ثوري وواسع وجماهيري، أي دون أن تفهم الإسلام والمسيحية كدينين تم السيطرة عليهما من قبل القوى الإقطاعية على مر التاريخ السابق، ولهذا لم تستطع أن تعيد إنتاج البذور التنويرية الغربية داخل التربة العربية الإسلامية المسيحية. إن الفئات الوسطى باستمرارها في الطائفية كان هذا تعبيراً عن استمرار استغلالها للجمهور العامل، بأساليب مختلفة، وعبر المحافظة على الأبنية الاجتماعية التقليدية، وعبر تخلف الريف وتدهوره. وفيما بعد جاءت الانظمة الوطنية العسكرية دون أن تستطيع تجاوز المستوى الذي بلغته الفئات الوسطى الحرة السابقة، خاصة فيما يتعلق بالحرية والحداثة والعلمانية، وهكذا أخذ «اليسار» العربي ينزلق تدريجياً في بنية الإقطاع السياسي/ الديني، ثم أخذ بعضه يحتل مواقعه، ويعيد إنتاج هياكله السابقة، عبر جعل الملكية العامة (الخراجية بتعبير سمير أمين) تخضع للفئات الوسطى الإدارية وخاصة كبار الضباط والموظفين، فتدهورت قيم العقل والحرية والعلمانية والديمقراطية، واعادت البرجوازيات العسكرية استخدام الإسلام الذي تم إنتاجه من قبل القوى الطائفية عبر الألف سنة السابقة، وبهذا سارت نحو الكوارث الطائفية وحروبها كالجزائر والسودان ومصر والعراق الخ.. وعلينا أن نرى تدهور العقل الوطني التحديثي عند الجماعات «اليسارية» وعودتها الحثيثة للأبنية الطائفية كأجزاء من ارتباطها بهذه الأنظمة التقليدية، وانهيار مفردات العقل والحرية والعلمانية والديمقراطية داخلها. أي لمشاركاتها في سرقة الجمهور العامل والمالك المنتج ، وبالتالي فإن هذا التدهور ليس غيبياً بل يتعلق بالجيوب. كانت الطائفية هنا تعبيراً عن استمرار سرقة الجمهور بالوسائل الإدارية والقسرية والبيروقراطية القديمة، ولهذا فإن تغيير حياة الفلاحين والعمال والنساء، تغييراً حداثياً كبيراً، لم يحدث، إذا لم يكن قد عاد إلى سابقه. اقتنع الغرب الديمقراطي والاستعماري على حد سواء، بأن استمرار العالم العربي الإسلامي في بناه الإقطاعية الطائفية، أمر محفوف بالمخاطر، وهذا الاقتناع لم يجيء إلا حين صار الغرب نفسه بكل أقسامه ضحية من ضحايا الإقطاع السياسي والديني للعالم الإسلامي بالمجاز. ولا شك أن انتقال البرجوازيات العالمية لهذا الاقتناع يعود لجملة أسباب كثيرة ومعقدة، لكن ما يهمنا هنا إن تصدير العلمانية والديمقراطية الغربية بالقوة إلى هذا العالم التقليدي، لم يعد مسألة دعائية بل صار شيئاً قريباً من روح الإسلام نفسه، كما يقول الحديث الشريف بما معناه حين يقوم شخصٌ ما بثقب مكانه في السفينة فيعرض حياة الركاب جميعاً للفرق، فهل يُترك ليقتل الناس جميعاً ؟
الفئاتُ الوسطى في حراكِها التداولي
الفئاتُ الوسطى الراهنةُ كأجنةٍ للطبقاتِ الوسطى العربيةِ القادمة هي في حراكٍ متسارعٍ مضطربٍ متعددِ الايقاعات والتداخلات، لأنها ذاتُ رساميل مالية، وأهلية في بلدانها، وذات صلات وثيقة ببعض الدول العربية الإسلامية والعالمية. وكما يتشكل الإسلامُ المعاصرُ من نشاطٍ في العديد من الدول العربية والإسلامية عبرَ الدعوةِ والفقه وليس من خلال الفلسفة والعلوم، فكذلك يتشكل حاضرُ الفئاتِ الوسطى من رأس المال المالي. مستوياتُ الدعوةِ الفقهية تتقاربُ ومستوياتُ الرساميل، ومن هنا غلبةَ البنوكِ على المصانع، وهي كذلك غلبةٌ للتفسيرات الفقهية الجزئية على التفسيراتِ الكلية الفلسفية، وهي حراكٌ آني متذبذب بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، بين النص والعقل، بين التقليدية والمعاصرة. وكما أن الواقع هو تفككٌ للأسواق العربية هو كذلك تفكك للوعي وعدم قدرته على رؤية كافة العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. التفككُ الرئيسي هو تفككُ الرأسماليةِ في كل بلد، عبر وجهيها العام والخاص، فالرأسمالياتُ الحكومياتُ سعتْ لتشكيلِ رأسماليات كلية من داخلها، ونقض تشكلها من خارجها، لكنها لم تستطع، لأن الرأسمالَ داخلها تآكل، وعجزَ عن الإحاطة بجميع حقول الاقتصاد وبُنى المقاولات والصناعات والبنوك الخاصة والتجارة، كما أنه تقلص بشكلٍ مستمر، وقد حاولت تجاربٌ إزالةِ الرأسمالية الخاصة كلياً في مرحلةٍ فتعثرَ الاقتصادُ، وهُزم في مثل هذا الواقع في حروبٍ وإحتاج ثانية لرأس المال الخاص والأجنبي، وتفجرت تناقضاتٌ إجتماعية داخلية لم يُحسبْ حسابها السياسي في تجارب أخرى، وهي كلها مظاهرٌ للتعبير عن أزمةِ الرأسماليات الحكومية العاجزة عن التحكم في قوانين الرأسمالية المعتمدة على حرية السوق والديمقراطية والعلمانية. محاولات الرأسمال العام لنقض الرأسماليات الخاصة كنظام متكامل جاءت على أساس إيديولوجي حداثي مستورد؛ قومي، وشيوعي، وبعثي، وطائفي تحديثي شكلي، وأطروحاته هي هدم الماضي والتراث والتخلف، عبر القفز عليه، فلم تستطع. الآن ثمة عودةٌ للتراث، وللرأسمال الخاص، ولمشكلاتِ البُنى العربية العتيقة مجدداً من مواقع إيديولوجية مختلفة بتطرفٍ حيناً وبإعتدالٍ حيناً آخر، لكنها ترفضُ كذلك قوانينَ الرأسمالية. الفئات المعارضة الدينية القائدة للتحولات الراهنة هي نابعةٌ من أوساطٍ غير حكومية تتبادل المعرفةَ والفقه والدعايات السياسية فوق الحدود الوطنية، ففي كلِ دولةٍ هناك مشروعاتٌ تاريخية متباينة ومن الممكن أن تغذي تطوراتٍ في بلدان أخرى، مثلما هو رأس المال الديني عابر للحدود والدول والأزمان، ولكون طبيعة هذه الرساميل مالية تجارية.(راجع بهذا الصدد ما كتبه الأستاذ خليل علي حيدر عن خيرت الشاطر مرشح رئاسة الجمهورية في مصر وعلاقته بالبنوك وحركة الأخوان المسلمين معاً، الأيام 13 أبريل 2012) إن دولةً سلفيةً ونصفَ ليبرالية من الممكن أن تغذي حركةً دينية ليبرالية في بلد آخر، والجسمان يرتبطان بطبيعة الأجسام الدينية المتراوحة بين الإقطاع والرأسمالية. هذا يحدث أغلبه في بلدان الثورات ما عدا ليبيا التي هي جسمٌ جزيري خليجي في شمال أفريقيا. ففي بلدان الثورات لعبتْ القطاعاتُ الخاصة بقياداتها الدينية دور تفكيك الرأسماليات الحكومية الشمولية بأفكارها السياسية، عائدة للماضي، مناوئةً للغرب بشكل من الأشكال. ففيما كانت التجارب القومية واليسارية تهدف للقفز نحو الغرب، أي أن تقفز للمستقبل والحداثة، فإن التجارب الدينية الراهنة تقفز إلى الماضي، إلى الإقطاع، حسب تلونات ودرجات الفئات المؤثرة. عند الأخوان والسلف تنشدُّ الحركةُ التاريخية نحو الماضي. عند الليبرالية والأخوان تنشد الحركة للحاضر وللرأسمالية. غياب الطبقة الوسطى غير الموجودة التي يتشكلُ قلبُها من الصناعات، يجعل الحركة متذبذبة، الطبقة الوسطى المتجذرة في الصناعة وذات العلاقة الوطيدة بالعاملين التحديثيين، تجعل الحركة السياسية التاريخية قوية، أكثر رسوخاً، لا تندفع للماضي بحدة، ولا تقفز نحو المستقبل برعونة. لكن علاقات أنظمة الثورات والتحولات بالعالم المحافظ كبيرة سواء من داخلها أو خارجها، من داخلها بوجود بُنى إجتماعية وإقتصادية ما قبل رأسمالية، ومن خارجها عبر العلاقات مع دول الجزيرة العربية حيث لا تزال جذور المحافظة قوية، ومن هنا فإن شركات الأموال والبنوك والعقارات والمصانع الصغيرة المتداخلة عاشت بين مستهلكين ومنتجين ومدخرين يعيشون تقاليد ما قبل الحداثة، وتداخلت هذه مع العلاقات الاقتصادية الحديثة. حداثيون شكلاً يعيشون في الماضي وماضيون يعيشون في الحداثة. إن كبريات التجارب التحولية تتباين بين مصر والعراق على سبيل المثال، ففيما تتأثر مصر بالسعودية يتأثر العراقُ بإيران، أي أن رأسماليات الدول المذهبية لا تزال تلعب دوراً مهماً في التأثير على دول التحول(الثوري)أي الدول المتجهة لسيادة المُلكية الخاصة في الإنتاج، ويتجسد هذا في المذهبية السياسية التي هي شكلٌ إيديولوجي للحيرة السياسية، وعدم الحسم التاريخي في إختيار طريق الحداثة، والتردد بين الماضي والحاضر، بين الإقطاع والرأسمالية، بين الشمولية والديمقراطية العلمانية، والتي هي ذات سببٍ موضوعي هي فقدانُ الطبقات الوسطى وحين تتشكل يتبدلُ البناءُ الفوقي.
من الفئاتِ الوسطى إلى الطبقةِ الوسطى
إن التطورَ العربي لا ينسخُ التجربةَ الغربية في الحراك الاجتماعي السياسي، مثل حال الأمة العربية المتكونة من أقطارٍ متعددةٍ ذات بُنى ومسارات مختلفة، وفي خضمٍّ تحولي مشترك متداخل، متقطع. ولهذا فإن بعضَ الدول العربية تصلُ تجربتُها لمستوى أكبر من الأخريات، دون أن تكتملَ شروط التحول الديمقراطية، المعتمدةِ على ظهورِ طبقات وسطى صناعية ذات تجذر جماهيري. الفئاتُ الوسطى في هذه الدول متعددةُ الأصولِ الاقتصادية الاجتماعية، من فئاتٍ مالية، وتجارية، وعقارية، ولا تخضعُ الفوائضُ لقانونٍ واحد، ولا تتوجه معظمها للصناعة الوطنية، بل للخارج، ولإعادةِ توسعةِ المؤسسات العقارية والخدماتية، والمالية وغيرها. هذا يشكلُ تفككاً في بنية الفئات الوسطى، وضعفاً في البناء الاقتصادي الاجتماعي، فلا توجد الفئةُ القائدة القادرة على إعادة بناء المجتمع المتخلف، من حيث تجاوز مستوى صناعة المواد الخام، ومن حيث جذب أغلبيةِ السكان للتصنيع، وتغييرِ الزراعة الراكدة وأدوات إنتاجها وظروفها الاجتماعية المتخلفة. لقيام الفئة الوسطى الصناعية بالقيادة الاقتصادية ثم السياسية شروطٌ موضوعيةٌ وذاتيةٌ عديدة، من أهمها بدايات توفر المجتمع الديمقراطي، من حيث الاقتراب من تبادلية السلطة، وقدرة الجماهير على التصويت للقوى القادرة على تغيير الانتاج لمصالحها ومصالح تطور المجتمع، وظهور ثقافة تحديثية سياسية وإجتماعية تجعلُ المصانعَ مراكزَ التحول والتجمع والصهر للسكان من تخلف التعليم واللامساواة بين جنسي الرجال والإناث وتطوير الأطفال في تعلم مهني حديث. تلعب المصانعُ هنا دورَ الثورة الصناعية الاجتماعية الغربية في ظروف مختلفة. مقاربة بعض البلدان العربية للتحول التحديثي النوعي يعتمد على قيادات الفئات الوسطى والعمال في فهم ضرورات التحول المشتركة، ومقاربتها للتحالف التحديثي، وجعل رأسَ المال الصناعي رأسَ المال الوطني الرئيسي، الذي يقوم بإعادةِ إنتاجٍ إقتصادية سياسية ثقافية كبرى، وينقل قوى الانتاج لمستوى جديد. ليس لكون الرأسمال الصناعي هو مطور المواد الخام الموجودة في البلد، أو المجلوبة من الخارج فقط بل لكونه كذلك قادر على بسط العيش الجيد للجمهور وتطوره في بلدها، فلا يتآكل مثل هذا الرأسمال في الخارج، أو يضيع في الاستهلاك الترفي. الثقافةُ الاقتصادية الحديثة تتطلبُ تطورَ الثقافة السياسية وفهم مختلف شرائح الفئات الوسطى والعمال الضرورات التاريخية في صهرِ فئات السكان المختلفة في ملحمةِ التنمية العربية الكبرى وتغييب الشرائح الهامشية وحثالات البروليتاريا المتسولة للعيش، وتغلغل أشكال الثقافة الحديثة بين الأميين والمُغيّبين. ولصعوبة توافر رأس المال المتجه للمخاطر فالمشاركة في السلطة وسن قوانين جديدة للتطور الاقتصادي تجمع بين تنمية الصناعة وبقاء الحريات الاقتصادية المتنوعة، وتغيير طابع التعليم(الأدبي) النظري لتعليم مهني علمي متقدم، تغدو التحالفاتُ السياسية البرجوازية العمالية، بين الفئات الوسطى والشرائح العمالية، هامةً وجوهريةً في العملية الديمقراطية، وللحصول على الأصوات وتنفيذ برامج التحول الصعب الذي لن تأتي ثماره بسرعة. ولهذا فإنه على المستوى القومي يمكن لهذه الأقطار المتقدمة في هذه العملية والأقطار التي لم تنضج فيها هذه الشروطُ التحولية بعد أن تجلب منها الرساميل والمساعدات لتلافي النقص الداخلي. كما أن هذه العملية تتم في البناء المشترك للأمة العربية بمستوياتِ دولِها المتعددة في التطور الاجتماعي السياسي، حيث تقدم تلك الأقطار المتقدمة النموذج التحولي المطلوب، وتستفيد الأخريات من تجربتها وتتقدم العمليات السياسية الاقتصادية الفكرية المنوعة في تلاقح منوع مشترك. ومما يعرقل من هذا التطور صراع الفئات المختلفة على قطف الثمار والتسلط، وهي الظروف الذاتية التي تؤدي لهدر جانب من الثروة المادية والزمن، كما أن الصراع بين البرجوازية الصناعية الصاعدة تاريخياً يصطدم بأوضاع العمال الصعبة وكل منها له شروطه المختلفة في العيش والعمل، ويمكن أن يؤدي الصراع الذاتي هنا لتصدع جبهة الحداثة السياسية، وإستغلال القوى المحافظة ذلك، كما أن هيمنة القطاع العام وتقزيم القطاع الخاص وبروز المؤسسات البيروقراطية والعسكرية والدينية يمكن أن تؤدي للعرقلة أيضاً.
بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة
تترابط طبقتا الانتاج الحديث البرجوازية والعمال في بناءٍ إقتصادي إجتماعي متداخل، ورغم أن الطبقة المالكة لوسائل الانتاج تعمل على تخفيض الأجور بشكل دائم، والأخرى على رفعها، إلا أن الصراع والتعاون يتطلب النمو المشترك في ظروف كل من الطبقتين ودون ذلك يعني بقاء أساليب ما قبل الرأسمالية متغلغلة مؤثرة معيدةً التاريخ للوراء. لقد بينت التجارب الغربية الترابط الوثيق بين المكونين رغم التباين الكبير في مستويات المعيشة، وبقاء فرص المغامرات الاقتصادية لدى المالكين. لكنهم لا يستطيعون السيطرة الكلية على البناء الاقتصادي. فعلى مسار تطورهما الذي يتحدد بمدى تقدم وسائل الانتاج والعلوم ومستوى الحياة الاجتماعية تتقدم عملياتُ تغيير التخلف وازدهار نمو الطبقات المختلفة. ولم يستطع العالم العربي خلال القرن الماضي أن يتقدم في هذا الأسلوب عميقاً، لدور الفئات الصغيرة والعليا الارستقراطية كذلك في عرقلة تنامي هذا التطور وإتخاذها الدور الوسيط المتذبذب، وفتحها المجالات للأشكال ما قبل الرأسمالية وغير المنتجة في التنامي وعدم قراءاتها للواقع الموضوعي. لهذا نلاحظ الطبيعة الاجتماعية الاقتصادية الضعيفة للطبقتين المنتجتين، فقد إنتشرت فئات العمال متدنية الأجور، وسادت مصانع العمالة غير الكثيفة في القطاعات الخاصة، ومصانع المواد الخام المُهيمَّن عليها حكومياً والمؤدية للرأسمالية الحكومية وهيمنة البيروقراطية وهروب الفوائض للخارج. فقامت هذه القوى بإستقدام العمال الريفيين من الداخل والخارج، للحفاظ على أجور متدنية، وينعكس ذلك أيضاً في معيشة العمال حيث المساكن الصغيرة أو الجماعية الرثة، وإستمرار العائلة الممتدة، وعمل النساء المنزلي الواسع، وتصاعد ظاهرات الهجرة، وتوجه الفوائض الاقتصادية نحو الأشكال الرأسمالية غير الانتاجية للحصول على الأرباح السريعة، وهذه الأشكال لا تحتاج لعمال متطورين، وكذلك أستمرت هيمنة العمل اليدوي معبرة تخلف قوى الانتاج، مما يؤدي إلى إستمرار البنية الاقتصادية الاجتماعية المتدنية. كما أن سيادة هذه الأشكال من الرأسمالية غير المنتجة يزعزعُ الأشكالَ المنتجة، فتتدهور المُلكية الزراعية الانتاجية، عبر تحويل الأراضي الزراعية للبناء، وتنهار الحِرف، وتتدهور أسعارُ المواد الزراعية عامة، مما يدهور حياة الأرياف ويُحدث هجرات إلى المدن، وخلق عروض واسعة من القوى العاملة الرخيصة، الأمر الذي يؤدي لمزيد من تدهور أسلوب إنتاج المواد الخام الراهن. سيادةُ العمال الزراعيين والمهاجرين والعاطلين والاعتماد على المواد الخام المركزية، يضعفُ الرساميلَ الاقتصادية الصناعية والمنتجة، ويخلق فوضى إجتماعية فكرية سياسية في المجتمعات تتصاعدُ على مر السنين، بأشكالٍ غير ملاحظة بدقة عبر بقاء مستويات الأجور المحدودة والعيش الضيق وضعف التعليم والأمية وتدهور الثقافة العقلانية. الجمهورُ العامل المتخلف المنهمر على المدن ينقل مستويات وعيه وعاداته مما يؤدي للارتداد التاريخي للوراء، وهو أمرٌ يتداخل مع تدهور الوعي الديني وتصاعد الخطابات النصوصية غير العقلانية والطائفية، عبر المؤسسات العبادية المتاحة والمتداخلة مع الكثافة البشرية المأزومة. فيما تُحاصرُ البرجوازية الخاصة الصناعية، ويغدو الرأسمال الصناعي في المستويات الدنيا من أشكالِ رأس المال، حيث تتغلب الأشكال المالية والعقارية والتجارية، وهي أشكالٌ لا تتجذر في الأرض، وليس فيها نسبة المخاطرة والتعامل مع مواد الجغرافيا المحلية وكنوز الأرض والبحر وتصعيد الاكتشاف لها وتنمية عناصرها والارتباط الوثيق القوي بالعلوم الوطنية. كذلك فإن الشكلَ الصناعي الخاص من رأس المال يغدو مُحاصَراً من القوى الرأسمالية العالمية الكبرى التي تدفقُ منتجاتِها المختلفة، المتطورة، وتقيمُ التحالفات مع الأشكال الأخرى من رأس المال، وتستوعب فوائضها لبلدانها. لهذا تغدو الرأسماليات الحكومية المنتجة للمواد الخام هي الشكلُ التابعُ للرأسماليات العالمية غير المُنافس، وغير المؤدي لتحولات صناعية كبرى تقوم بإستيعاب العمال الكثيرين الضائعين في الأسواق، مما يعمق الأزمات الاقتصادية الاجتماعية مع تدفق المواليد الذين يتكاثرون خاصة في الأرياف والبوادي، وهي أمور تتواكب مع تدهور الوعي الجماهيري. مع الغياب الواسع للبرجوازية الصناعية والعمال الصناعيين، وتدهور أشكال الوعي الاجتماعي، يتوسع حضور القوى السياسية غير المعتمدة على العلوم وقراءات الواقع ورؤية التطور الموضوعي المأزوم وتصويبه، فتظهر المشروعاتُ السياسية التجريبية ومشروعاتُ التبعية، ومشروعات الرأسماليات الحكومية البيروقراطية المتدهورة المؤدية لتفاقم الأزمات العامة.
البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية
يقوم أفرادٌ متميزون من الفئات البرجوازية الصغيرة بتبني طموحات الطبقات المنتجة، كما فعل التنويرون كروسو وفولتير بتبنى آفاق تطور البرجوازية، لكن التشكيلةَ الرأسمالية كانت قد صعدتْ في بعضِ الأقطار الغربية الرئيسية، وإنكشفتْ العديدُ من مشكلاتها، ولهذا فإن أفراداً متميزين آخرين تجاوزوها وعبروا عن الطبقات العاملة، لكن هذه الطبقات كانت بلا تراكم فكري مثل البرجوازية، ولهذا فإن هؤلاء الأفرادَ من البرجوازية الصغيرة يطرحون مناهجهم السابقة عبر المادية ويراكمون ثقافةً لهذه الطبقات البسيطة الوعي والتي لا تملكُ الفرصَ لانتاج ثقافة، وهي تترابطُ مع نتاجات هؤلاء عبر الطلائع فيها، أي من يمتلكون الوعي والحماس والوقت خارج العمل الشاق لربطِ نتاجات المتنورين المتحولين لثوريين إلى صفوف العمال، حينئذ يبدأ الأفرادُ المتنورون بالانفصال عن تراثِ فئاتهم ويغربلون ما كتبوه سابقاً وينقدوه. لهذا سنجدُ كتابات ماركس الهيغلية تتخلى عن طابعها التجريدي المثالي، لتغدو ماديةً آلية في البدايات، ثم تنصهرُ أكثر في الجدل، ورومانسيةُ الثورةِ العمالية المطيحة بالاستغلال دفعةً واحدةً تتشكلُ واقعياً عبر نضال إشتراكي ديمقراطي طويل الأمد والبناءُ الديمقراطي والدراساتُ الموضوعية تعطي النظريةَ حياة برهانيةً ومعرفةً بقوانين البنيةِ الأولية في البلد الواحد، وهو الأمرُ الذي أستغرق عقوداً، دون أن تكتملَ حتى قراءة البلد الواحد لمصيرِ التشكيلة في سياق العالم، لكون القراءة تاريخية متقطعة، خاصةً مع رحيل الأفراد المؤسسين ذوي الخبرة الطويلة، الذين يسلمون أوليةَ النظرية لبرجوازيين صغار جدد كلاسال وقيادة عمالية أكثر وعياً وصلابة. الانتقالُ من نشاطِ البرجوازية الصغيرة إلى أجيالٍ من الطبقة العاملة بسبب مستوى القواعد الاقتصادية والسياسية والثقافية لبلد متطور ديمقراطياً بصعوبات كبيرة مثل ألمانيا يختلفُ في سياقهِ التاريخي عن روسيا المتجمد في الدكتاتوريات، فهنا في روسيا إحتاج إنتقال النظرية من البرجوازية الصغيرة للعمال أ للكثير من العقود ولا زال مضطرباً! إن الأفراد المناضلين المغيرين للنظام القيصري عاشوا في ظروف الشمولية ولم تحصل النظرية على الظروف الديمقراطية ونضال العمال المستقل، ولهذا فإن الرومانسية بسحق الطبقات كلفتْ كثيراً، فيما كانت الطبقات الاستغلالية تظهرُ من خلال الدعوات(الماركسية). إن الأفكار الثورية المرتبطة بالانعطافات التاريخية معروفة على مر التاريخ، ولكن ما هو مميز في الماركسية أنها غدت إنعطافةً كبرى مختلفة في التاريخ البشري، فقد كشفتْ أساليبَ الانتاج ولم يعد التاريخ مبهماً، ولكن مع هذا فإن الطبقات الاستغلالية تعقبُ المراحلَ الثورية، وتصبح النظريةُ في وجودها الحر عند أفراد متطورين فكرياً وسياسياً صعبة، فالنظريةُ تمتلكها الطبقاتُ الاستغلاليةُ وتمنعُ حراكَها الحر الحافر في الواقع، وإنتاج معرفة موضوعية، فهي تغدو إيديولوجيةً مشوهة، والارتباطُ بين النظرية وإستقلال العمال ينتفي، حيث تتم السيطرة على العمال وتوجيههم لمصالح البيروقراطية، وهم في عملم الشاق يغدون غير قادرين على تحرير الماركسية من البيروقراطية، ووجود المثقفين الأحرار المميزين ينتفي، ولهذا كان إعدامُ المثقفين البارزين في المكتب السياسي البلشفي، لقطعِ العلاقة بين النظرية والعمال، وبين النظرية وتحليل الواقع. فيما إستطاع الغرب المعادي أن يطور الماركسية عبر مفكرين أحرار مستقلين قدموا الثروة الفكرية المتطورة لهذه المدرسة، ولكن يظل إنتاجهم غير معروف ومحاصر. في العالم الثالث تغدو العلاقات أصعب، وضخامة حجم البرجوازية الصغيرة أكبر، وهنا لا تتعرقل النظرية من فقدان الطبقات العاملة المترابطة فحسب بل ومن هيمنة الطوائف كذلك، ويمكن هنا أن ينقسم (الماركسيون) حسب الطوائف، وتصبح هنا نقابية شيعية ونقابية سنية ونقابية مسيحية، فالعمال أنفسهم يعيشون حسب وعيهم في زمنية الاقطاع، وتُطرح مهمات أكبر من مستوى وعيهم وظروفهم. ولهذا فإن الأحزابَ الماركسية تصبح طوائف موالية لهذا المحور الطائفي القومي أو لذاك المحور الطائفي القومي، مع إستمرار ضخ المادة الماركسية الصلبة من التاريخ السوفيتي! إذا كانت الماركسية وجدت صعوبات هائلة في وجودها في الغرب الديمقراطي، وغدت أحزاباً أما تابعة للرأسماليات الشرقية الشمولية وأما إنتهازيةً مؤيدة لرأسمالياتها الخاصة، وصعب عليها إنتاج معرفة موضوعية، وخلق سياسات شعبية تحولية، فكيف الأمر في التشكيلات السياسية الهشة في الشرق؟ وكيف كانت الأمور في هذا الشرق بأن تلتحق الجماعات السياسية المعارضة بدول شمولية كثيرة الكرم على الانتهازيين وبخيلة على شعوبها، وسرعان ما تمسح الطلاء الماركسي الوطني الزائف وتستبدله بالولاء الجديد ولا يحس العمال بالفروق وهم جماعات ريفية في أغلبهم لم يلتحقوا بنقابات إلا مؤخراً ولم يعرفوا الحياة السياسية الحديثة. غدت الاصلاحات الوطنية وترابط الشعوب والطبقات وتطور الديمقراطية خارج البنى التقليدية مهمة لإعادة التطور الفكري المستقل ولتتطور المدارس الفكرية خارج هيمنات الدول.
الديمقراطيةُ البرجوازيةُ العماليةُ
إذا كان المصنعُ هو أساس الحياة الاقتصادية للمجتمع، فإن المستثمرين والعمال هم أساس تطوره الاجتماعي السياسي على مدى العصر الحديث حتى ينطفئ هذا الأسلوب تدريجياً. هذه الضرورة لا تتكشف من أول وهلة بل عبر مجرى الزمن الاجتماعي الصراعي الطويل. في البدايات لا يكون للعمال وجود إجتماعي سياسي، فهم كم مهمل، لكن الضرورات الاقتصادية وتطور الصناعة وإنتشار التعليم والوعي النقابي والسياسي، يجعل لهذه المجموعات المفتتة كيان طبقة بعد عقود طويلة. أما الوجود السياسي وكونها طبقة مؤثرة ليس في المصانع فحسب بل في البرلمان والمؤسسات السياسية فهي مسائل تتعلق بمدى تطور الديمقراطية الاجتماعية السياسية في المجتمع: تغير طبيعة العائلة الكبيرة، وإنتشار الثقافة الموسوعية وسط العمال، وظهور العائلة العمالية المكثفة المتطورة، وتحول العمال اليدويين المستمر لعمال تقنيين وخبراء وعلماء، وهذا يتعلق بمجرى تطور الثورة العلمية التقنية. زمنيةُ العمالِ اليدويين الأكثر تخلفاً تحددُ زمنيةَ البرلمانات التي تملأها البرجوازية وفئاتها المتعددة، في هذا الزمن لا يستطيع العمالُ فهمَ السياسة وتنتشر الأمية بينهم، هذه الزمنية تؤجج الأحقاد وإستعمال العنف من قبل فئات من العمال، وفي هذا الزمن النقابات ضعيفة والأحزاب الاشتراكية ذات نهج شمولي. تتطور البرجوازية والعمال في مجرى الصراع التعاوني، فالأولى تقودُ تطور وسائل الانتاج، وتربط المصانع بمعاهد البحوث، وتطور العلوم المرتبطة بالانتاج، وهو أمر يقود لتوسع فهم العالم، وتنشأ فئاتُ العلماء المنفصلة عن الانتاج في بادئ الأمر، ثم تتغلغل العلومُ في المصانع وفي فئات العمال، فتتضاءل الشمولية وسط الطبقات العمالية وتغدو منتجة في الوعي السياسي الديمقراطي. تعتمد تطورية البلدان على تطور المصانع وعلاقاتها بالعلوم والتقنية، ووجود الأسواق والمواد الخام، وتضيق الأسواق بشكل دائم فتتوسع البلدانُ الرأسمالية المندمجة مع بعضها البعض، مثلما يصبح العمال قوة إجتماعية قارية. ولهذا فإن أوربا الغربية تغدو أكثر ديمقراطية فيما يلعب الحجم الاقتصادي الضخم في الولايات المتحدة دوره في التوسع والاستعمار وخسارة الفوائض الاقتصادية على التسلح والحروب، ويبقى العمال فيها قوة غير مؤثرة على التطور الاقتصادي السياسي. ولهذا فإن أزماتها الأكبر في الطريق. الاعترافُ المتأخرُ بالعمال كقوة سياسية يخلف قوى الانتاج ويؤزم التطور سواءً في الغرب أو الشرق. في بعض البلدان النامية ترتفعُ راياتُ العمال الحمراء والمتعددة الألوان كقوةٍ سياسية مجردة فالمستوى الاجتماعي المتخلف لهم والهيمنة السياسية الإيديولوجية الزائفة عليهم يجعلان الفئات الوسطى الصغيرة أو الارستقراطية أو الإقطاع تزيح الطبقتين المنتجتين وتتحكم في الفوائض، ويختنق التطور الاجتماعي السياسي الديمقراطي لعقود حتى يظهر مجدداً ويغدو العمالُ أكثر الخاسرين وتتشوه البناءات الاقتصادية: ضخامةٌ في الرساميل غيرِ المنتجة وتقزمٌ في المنتجة منها؛ سواءً كان ذلك بسبب البذخ أو التسلح أو التوجهات للأرباح السريعة، لكن السبب الأهم هو غياب الجدلية الصراعية التعاونية بين المستثمرين والعمال، وعدم تحول الديمقراطية لترشيد إقتصاد السوق نحو تطوير قوى الانتاج البشرية والمادية. في البلدان النامية ضخامة أعداد العمال الهامشيين والعاطلين وغير المؤثرين في الحياة الاجتماعية، تعبيرٌ عن ضعف الانتاج، وإنهيار الانتاج القديم وعدم التمركز في المصانع وضعف صلاتها بالعلوم والتقنية، ولا توجد برجوازية صناعية هنا، بل فئات وسطى صغيرة تفتقدُ القدرة على تكوين الرساميل الصناعية ولهذا تكون ذات وعي ديني، حيث لم يندغم الوعي هنا بالعلوم وقراءة الطبيعة وتطوير العمال والمصانع. الضرورات تكسرُ الأشكالَ الحِرفية الصغيرة، مثلما تتضخم رؤوس الأموال، ويتمركز العمال، وتتصل المصانع بالتقنيات والمعارف الحديثة، فيكرر الشرقُ مسارَ الغرب بصور أسرع، وتصبح القاراتُ السكانيةُ قادرةً على تجاوزه حين تطور صراع المستثمرين والعمال التعاوني الديمقراطي، فيصبح القرن الواحد والعشرين بدايات العصر البرجوازي العمالي العالمي المشترك المديد في القرون القادمة.
البرجوازية الصغيرة والعمال
تحالفُ البرجوازيةِ الصغيرة والعمالِ يشكلُ الثورات، لكن البرجوازيةَ الصغيرة تريدُ إستغلالَ العمال ونمو ثرواتها فتتخلى عن التغييرِ والنمو المشترك بين الحلفاء وتضعُ حداً لتاريخ الثورة. في تاريخ الأديان تنظم للحكام وتتخلى عن الحفر النقدي، وفي تاريخ الثورات البرجوازية الغربية تنظمُ للرأسماليةِ الكبيرة ولا تطور فلسفات النهضة والنقد والعلوم، في البدان (الإشتراكية) الشرقية تُلغي قيادةَ العمال وتحيلُ الأنظمةَ لرأسماليةٍ شمولية وهي تصير برجوازية متعددة المتسويات، في بلدانِ التحررِ الوطني تنظم للانقلابات وللأحزاب الدينية الشمولية وتكرس الرأسماليات الحكومية المحافظة. هي قادرةٌ عادةً على خداع العمال والفقراء مثلما هي قادرة على قياداتهم في ثورات تاريخية نادرة. إذا كانت الأمورُ تجري في أنظمةٍ وتنظيماتٍ ديمقراطية فإن العمالَ يستطيعون الانفصالَ عن قياداتِ البرجوازية الصغيرة، ويتركونها تنمو لوحدها. لكن في ضبابِ الأنظمةِ والتنظيمات الوطنية والثورية والدينية فإن مستوى العمال الفكري لا يسمحُ لهم بإكتشافِ ثوريةِ البرجوازية الزائفةِ أو الصادقة، فهم مع شعاراتِها النبيلة إلى حين، خاصةً أنها تشددُ على إنسانية العبيد وإنه لا فرق بين عربي أو أعجمي، أو على دكتاتورية العمال والنضال الذي يقود ليكونوا الطبقة الوحيدة في المجتمع ولهم السيطرة والثروة، وهي تشيعُ في الدين أجواءً من الغيبيات والأساطير والقراءات الحرفية المحدودة المستويات، وفي القوميات التعصب. مثلما قالتْ البرجوازيةُ الفرنسية في ثورة يوليو في القرن الثامن عشر، نحن نعملُ من أجلِ الإخاء والمساواة والرخاء. لكنها ركزت على صعود طبقة واحدة هي المالكة للثروة. ومثلما تعب المسلمون من الجهاد بعد عصري النبوة والصحابة ومن التضحيات التي بذلوها، وأراد بعضُهم أن يجنيَّ الثمارَ، وأن يواصلَ صعودَ تجارته، فصعدَ خلفاءٌ دون خلفاء، وتفتتْ التحالفُ بين البرجوازية الصغيرة وبين الفقراء والعبيد وجاء الحكمُ العضوضُ في العهد الإسلامي الأول. هي سببياتٌ وظاهراتٌ في التاريخ موضوعيةٌ تتم لظروفٍ، مختلفة متناقضة، متمثلة في الجوهر العابر للعصور وهو حاجة العمال والفقراء لقوى المثقفين التي تتقلبُ بين ثورةٍ وثورة مضادة، بين تضحيةٍ وإنتهازية. عظمةُ الثوراتِ تتجلى حين يتحدُ المثقفون والسياسيون المضحون والعمال، هذا يشكلُ عصوراً كفاحيةً لشتى الأمم، وفي مختلفِ المراحلِ، وعلى مرِ الأزمنة، صحيح أن أشكالَ المثقفين والتجار الصغار والعمالة تختلف حسب تطورات العصور وأساليب الإنتاج، وحسب أشكالِ ومحتوياتِ الثقافةِ وهي تعودُ لمستوى تطور الوعي الموضوعي التاريخي، إلا أن الكفاحَ لتطويرِ الأممِ والشعوب وخدمة النضال هو نفسهُ من حيث إحداثِ تحولٍ وقفزة في التطور، تجعل تواريخ الأمم والشعوب مختلفة بعد تلك التحالفات التاريخية التضحوية الكبرى. في أزمنةِ ما بعد الثورات يقول الموظف دعوني أعيش من أجل تجارتي وعائلتي، ويقول الشاعر إنتهى زمان التضحيات، والكتابة عن البؤساء، ودعونا نرتقي بلغتنا ونحصلُ على معيشةٍ أفضل، وتتغير مصطلحاتُ الشعرِ والنثر، ويعيشُ الحجازُ فيما بعد الثورةِ الإسلامية مُرسِخاً شعرَ الغناء الجميل والحبَ العذري المستحيل ويَطردُ الصعاليكَ، ويَحدث التفككُ في العقلانية النضالية النسبية الشعارية في العصر الحديث، فالنقدُ يكفُ عن التحليلات العميقة للأدب والفن كنوعين يتنفسان في بُنى إجتماعية متناقضة تعلي الأغنياء وتفقرُ الفقراءَ، وبضرورة إعتبار كل جنس إبداعي خلية حية أو ميتة تبعاً لدورها في التغيير أو في التبرير، ويُقال الثقافة أكبر من الصراعات الاجتماعية والروحية، ودعونا نعيشُ ونكسب!
البرجوازية الصغيرة الشرقية العالمية
قامت البرجوازيات الصغيرة الشرقية بقيادة شتى التحولات في الشرق ثم إنساحت في الغرب في قارة أمريكا الجنوبية خاصة. كانت الطبقتان الكبريان البرجوازية الخاصة والعمال غير موجودتين بقوة وإتساع في المجالات الفكرية والسياسية خاصة، فالأسلوب الرأسمالي لم يتغلغل صناعياً في شتى الحقول إلا بشكل يسير. وكان الحراك الفكري السياسي هو لهؤلاء المثقفين الطالعين من مختلف الطبقات خاصة من الفئات المالكة الصغيرة، التي لديها قدرة على العيش مع مختلف الطبقات، وعلى الحراك بينها. تلعب عناصر الثقافة، والإمكانيات الاجتماعية المتاحة من تعليم وأسر صغيرة، ومن غياب للأملاك الكبيرة، ومن غياب البؤس الساحق، أن تقوم هذه الفئات البرجوازية الصغيرة بالنيابة عن القوى الاجتماعية الرئيسية في التوجه للقيادات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأن تطرحَ نفسها كبدائل عن الطبقات الكبرى الصانعة للتشكيلات الاجتماعية. من لينين وماو وبومدين وعبدالناصر إلى حسن البنا وعفلق والخميني وغيرهم كثير طرح البرجوازيون الصغار أنفسهم كمنظرين وصانعين لأنظمةٍ كلية متجاوزة للرأسمالية الغربية، وشكلوا أنظمةً وتنظيمات شمولية بهذه الدرجة أو تلك من الثورات الاقتصادية. تصل هذه البرجوازيات أحياناً للسلطة وأحياناً لا تصل، وتشكل إيديولوجيات متناقضة، تحوي التناقض بين رأس المال وقوى العمل، وهي أي هذه الفئات تقول إنها قادرة على حل هذا التناقض، وتجاوزه والإنطلاق بالبشرية خطوات مغايرة للرأسمالية الغربية. تتعدد مستويات الطرح فبعضها يتوجه لحل كافة التناقضات وإلغائها المفترض، بعضها يتطور، وبعضها ينهار. البرجوازي الصغير هو مالكٌ وعاملٌ في نفس الوقت، في بنيته الأساسية خاصة عند صغار الفلاحين والحرفيين، وهذا يماثل في سمات معينة مع الموظف الصغير، والمثقف منتج ومالك المعرفة وبائعها. وهو لهذا يقف وسطياً، ثم يصنعُ الأنظمة الخاصة الشرقية بقيادته، كما يصنع(الفلسفات) الهجينة كذلك، ويريد أن يلغي الرأسمالي والعامل في نفس الوقت، ويصيرُ هو المالك والقائد، فيتحول في مجرى التاريخ إلى مالكِ الرأسماليةِ الحكومية، ويصعدُ من الوظائف الدنيا والرتب العسكرية الصغيرة والمتوسطة إلى رئاسةِ الشركات والبنوك الحكومية ومؤسسات الثقافة والإعلام. وعلى الإيديولوجية التي صنعها في ضباب الشرق الاجتماعي ومن أية مواد: دينية وقومية وإشتراكية يعتمدُ مسار التحول، وإلى أي مدى تمضي الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يقوم بها. وكلما تعمقت التغييرات التي يقوم بها يكون ثمنها باهظاً ودموياً. لكونها جاءت من كرسي البرجوازي الصغير وهو على قمة السلطة، وداخل الدبابة. فتقوم بإختراقات كثيرة للحم البشري وللحم الاجتماعي، وتحتاج بعد ذلك لعمليات جراحية وتطبيبية كبيرة. إن التناقضَ بين رأس المال وقوى العمل لا يزول، بل يتعمق ويتسع، ويصير داخل أجهزة الدول، وفي ثنايا الأفكار، وفي أدمغة الثقافة العصابية، ويصير أمراضاً باطنية، وهلوسات دينية، وإنفجارات قومية أو عمالية. يتحول البرجوازي الصغير إلى رأسمالي حكومي كبير، وتحدث هنا إختزالات للنظريات والعلوم وتجميع فوقي للثروات، وإفقار مستمر للقواعد العمالية، مثلما يحدث إفقار للثروة الثقافية. إن الدولة تصير رأس المال، وقوى العمل تتغرب عنه، والسلع تضعف وتفقد قدرتها على التطور، والمنافسة، وفي حالات أخرى من الممكن جلب عمالات أجنبية رخيصة تقوم بسد النقص في ضعف العمالة المحلية أو قصورها أو لرفضها لأجور متدنية. في أحاديث البرجوازي الصغير الأولى عن تجاوز التاريخ، يستندُ إلى الإيديولوجية السحرية المعمولة في المصانع الحزبية الشمولية، إنها إيديولوجيات لا تتعرض لديمقراطية فاحصة مضيئة طويلة، ويتم إستقطاب الجمهور الفقير مادياً وثقافياً إليها، لتحويلها إلى أدوات للبرجوازي الصغير، ليغدو برجوازياً كبيراً، مع إستمراره في قمع الفقراء والعمال!
قياداتٌ برجوازية مخنوقة
أدت التحولاتُ الدراماتيكية في آسيا إلى إضعافِ مواقع القطاعات العامة المسيطرة خلال عقود، والتي نشأت معها الأنظمةُ الشموليةُ الحديثة، وأتاحتْ تلك التحولات صعود شخصيات لا ترتكز على الأفكار الشمولية بكل تجلياتها الدينية والعقائدية الجامدة، لكن في روافد صغيرة مخنوقة بسبب الميراث الديني الشمولي الطويل والميراث السياسي الاستبدادي(العريق)! شخصيات مثل موسوي وكروبي وعلاوي وقيادات بعض الأحزاب المصرية والسودانية وغيرها، عبرت عن ظاهرات جديدة في المنطقة، أهمها إنها تسبحُ في ضباب فكري، وكأنها مجموعةٌ من الأشباحِ تتردد بين القديم والجديد، غير قادرة على الظهور بمظاهر سياسية وفكرية واضحة مبهرة! وفي البلدان المُفتَّتة طائفيةً وقومياً والتي لا تمتلك أغلبية شعبية لمذهبٍ أو قومية، لا تُستثمر العناصرُ الديمقراطيةُ والليبرالية في إنتاجِ سياسةٍ نهضوية ديمقراطية، فتجد الزعماء الطائفيين يتقلبون من وجهةِ نظرٍ إلى وجهةِ نظرٍ مضادة، ويهرولون من معسكر إلى آخر، ليس لديهم من حراك سوى (حماية) الطوائف أو قلْ حماية مصالحهم داخل الطوائف الجامدة العائشة في تقاليدٍ غيرِ ديمقراطية وفي عوالمِ الجهل والتخلف الاجتماعي وإضطهاد النساء والركض وراء المصالح والغني مهما كانت الأسباب يبيعون الدينَ والمبادئ، ويقومون بإستغلالِ ألعاب الطوائف لبقاء كراسيهم وأحزابهم الديكورية وهذه الكهوف المعتمة من القرون الوسطى ويضحكون على هؤلاء البسطاء الجهلة! الحراكُ السياسي هنا حراكُ فقاقيعٍ تطير حسب الرياح اليومية السياسية! ودعك من الكلمات الضخمة عن الاشتراكية والقومية والإسلام والوطن العزيز فهي مجردُ يافطاتٍ تخفي الفقر السياسي المبدأي وراءها! أما قوى الزعماء المرتبطة بالقوى الوسطى التي بدأت تطلُ برؤوسها داخل بلدان تجري فيها معارك إجتماعية وسياسية عميقة وحادة كإيران والعراق ومصر وغيرها، فقد دخلت في صراعات متباينة مع أنظمة دكتاتورية وجهت أهدافها لتحقيق تحولات ديمقراطية عميقة في حياة السلطات المهيمنة الرافضة للتغيير الحقيقي، والتي تواصل أبنية القرون الوسطى وإعتقال الشعوب والنساء والعقول تحت لافتاتٍ لم يُنزل بها من سلطان سوى سلطان الإستئثار والتحكم في الشعوب المتخلفة وإبقائها في هذه الزرائب التي صنعوها باسماء الاشتراكية والأوطان المبجلة والإسلام والقومية وقيادة الثورة المظفرة والدفاع عن الأمة ضد الكفر والتغريب، وما هنالك من مسميات إخترعوها لتضليل العوام السذج عقوداً طويلة! دساتيرٌ خُيطتْ على مقاسات الأقزام، وظلمات صوروها كالأنوار، وما هي بأنوار بل حروب إجتماعية متخلفة تتفجر ذات يوم بأشكال دموية مدمرة! لا يريدون الإلتحاق بالبشرية الديمقراطية ولا يرفعون أحكامَ الطوارئ عن النساء والعوام والدين، ولهذا فإن قيادات الطبقات الوسطى التي تقفُ أرجلُها على قواعدٍ إجتماعيةٍ هشة، هي نفسها لا تعلن الشعارات العظيمة من علمانية وديمقراطية وعقلانية، بصلابة وبتحليلات عميقة في كل شؤون المجتمع لتضرب الخرائبَ الآيلةَ للسقوط، فتختطفُ حدثاً سياسياً مهماً وتحوله لنهر سياسي يتلف حوله الناس، بلا ثقافة تنوير سياسية واسعة، وبلا مهمات إجتماعية كبرى، لضخامة الجور المحيط ولغياب أساطير العائلة الوطنية الواحدة، والمذهبية الشقيقة المتحدة! موسوي يركز على تغيير مجرى الإنتخابات المزورة، وعلاوي يكاد يختنق بين القوى الطائفية العريقة في التحايل والتلاعب بالدين والأحزاب الديمقراطية المصرية تغرقُ في الفساد! إن الخطابات السياسية التجديدية مخنوقة لأن المصانع الخاصة مخنوقة، والفضائيات الحرة ممنوعة، والوزارات الفاسدة أبدية، والميزانيات موجهة لكراسي العسكر، وللبذخ السلطوي، ومشروعات الحروب التي لا تتوقف لأن في توقفها زوالهم، وفي سلام الناس عمارٌ يخنقهم! العملية الرأسمالية الكونية ذات الأشكال والمستويات المختلفة، لها مصائبها كذلك، ويواجه الشرقيون سلبيات البلدان الرأسمالية المتطورة وكوارث الرأسماليات الشرقية المتخلفة، وكلها تصبُ عليهم محولةً بلدانهم إلى مستنقعات للسلع البائرة، والغالية، وللجنس الأبيض والمخدرات ولتجارة المنظمات الإرهابية التي لا أحد يعرف أرباحها من الأموال ويعرفُ خسائرَها من البشرِ الجثثِ الملقاة في الطرق مثل الذبائح وللحكومات التي تغتني وتزداد الشعوب فقراً ومعاناةً! هي الشعوبُ الجاهلةُ المُفكَّكة طائفياً ودينياً مسئولةٌ عن كل ذلك وتترك الجزارين يقطعون من لحومِها كالمقاصب وتقول هل من مزيد؟!
1 العقل هو الثمار الفكرية الصائبة التي تنتجها القوى الجماعية والأفراد خلال الفترات والحقب والتي تستفيد منها الأجيال، وتوظفها للمزيد من التطور والحرية. وقد وقع العقل في الجزيرة العربية أسير التكوين الطبيعي القاسي وأسير البنية الاجتماعية التي تكونت في قيود هذه الطبيعة. ولم تستطع الحضارات القديمة في ما قبل الإسلام أن تنتج نهضة جزيرية عربية مترابطة متكاملة، في حين إستطاع الإسلام ذلك لقيادة مدنه الحجازية إستيعاب العناصر النهضوية للشمال العربي في مبنى تحويلي عربي عالمي. فيما بعد مكة والمدينة لن تظهر مثل هذه المدن التحويلية النهضوية الشاملة. وعادت الجزيرة العربية لإمكانياتها الرعوية والمدنية المحدودة. إن العناصرَ الجوهريةَ في العقلانية الإسلامية هي قيام العقل النقدي بقيادة طليعة الجمهور في أعمال نضالية متدرجة وإشراك الجمهور في المنافع الاقتصادية والتطور الثقافي، بالمواد الفكرية والاجتماعية السائدة وقتذاك. الإسلام كثورة أقام سلطة ليس ثمة بينها وبين الناس حواجز، قام بتوزيع أملاك الغزوات لمنع تركيز المُلكية، أي قدم جملة مفاتيح لدولة غير إستبدادية، وهذا الوضع تغير بعد الفتوحات والإنتقال للشمال العربي. عنصر التجار الأحرار المتحالف مع الفقراء، شكَّلَ تلك النهضة، ولكنها إنساحت خارج الجزيرة العربية أكثر مما تكرست داخلها. ولهذا فإن التراكمية العقلانية لن تكون من نصيب الجزيرة العربية، بل سوف تظهر في المدن الجديدة كالبصرة وبغداد والقاهرة. في الجزيرة العربية فضاء جغرافي واسع، لكن الحرية صعبة، لأن تاريخَ البداوةِ المديد خلق سيطرات كثيفة: فحتى المركزية التي شكلها الإسلام لم تستمر وظلت العاصمة الدينية للمسلمين رمزاً غير محمي في كثير من الأحيان. إن العقل كأرث فكري وقوانين ومؤسسات سياسية مدنية يحتاج إلى مدنٍ وإلى مدينة مركزية على الأقل، لكن هذا لم يتوفر للجزيرة العربية بعد قرن من الفتوح. فمع تراكم الثروة في بلدان الشمال العربي تفاقم الفقرُ في الجزيرة وخاصة في نجد والبحرين وعمان واليمن. فهل ظهرت إمكانيات للحرية؟
2
كان إنتاجُ الجزيرةِ العربية الفقيرة عبر تلك الإقاليم (اليمن والبحرين ونجد وعُمان) هو خلق التمردات والثورات المنقطعة عن خلق التراكمات الحضارية. لماذا كانت الثورة منقطعة عن العقل؟ لماذا لم تشكل تجارب تراكمية باقية ومفيدة للقرون؟ لقد إعتمدت التراكمية النقدية النهضوية في قلب المدن العربية الإسلامية وفي عالم الخلافة على فئات وسطى من التجار والمتعلمين والحرفيين، وهي القوى التي شكلتْ المدارسَ والتيارات الفقهية والمنطقية والثقافية والفلسفية، وهي التوجهات التي وقفتْ وسطاً بين النظام الإقطاعي الحاكم بخلفائهِ وأمرائهِ وجواريه وبذخه وتمزقاته الكثيرة فيما بعد، وبين القوى الخارجة على القانون الداعية لإنشاء أنظمة خلافة بديلة، وشكلتها في الصحارى، وهي لم تبدلْ نظامَ الخلافةِ الإقطاعي بل جعلتْ من أمرائِها خلفاءَ تفتيتٍ وفقر مدقع. من هنا كانت الصحارى في الجزيرة العربية هي الملاذُ لهؤلاء وهو أمرٌ كرّسَ الوضعَ المتصحر للعقل في هذه المنطقة الخليجية، وأغلب تلك الفرق قامت على النصوصية الشديدة. في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى. إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة الأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة. وجاء تطور المذاهب الإمامية متدرجاً عبر قرون، وبعد فشل الزيدية ثم القرامطة فإن الإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل الاجتماعي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين. وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ. وضع المذهبُ الجعفري أسسَ نمو الحياة الريفية في المدن الساحلية الشرقية البحرينية بالمعنى القديم، ولكن في هذه الأثناء جاء المذهب الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وتغلغل في الجزيرة العربية وفي نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً شديد المحافظة، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً. علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك. يمكن أن نرى في قبيلة عبدالقيس المسيحية قبل الإسلام المسلمة بعده هذا التضفير بين الجذور الإحيائية ومصالح الفلاحين وإحتفالية الأرض المتخلصة من الوثنية كذلك والمتمايزة عن الارستقراطية الحاكمة البدوية. لكن كان الصراع الاجتماعي السياسي هو الأساس، ومثلت أملاك الفلاحين وأهل المدن مطمعاً للبدو وهي حالة عيش ضارية طالما اعتمدتها القبائلُ البدوية الغازية في معيشتها، ولكنها هنا اتخذت أشكالاً دينية. وهذه أدت لمفارقات وسجون إجتماعية تاريخية للغالبية من المنتجين الشعبيين. وعوضاً عن أن تنتشر في الجزيرة العربية ثمار الشمال النهضوية جاءتها الإشكاليات الفكرية له، وثمار هزيمة التطورات العقلانية الفقهية.
3 إنني أقدمُ هذا التحقيبَ الاجتماعي التاريخي بغرضِ التمييزِ هنا بين الإسلام كثورةٍ فتحتْ الآفاقَ النهضوية للعرب وللمسلمين وبين الإسلام كعقيدةٍ قامتْ من تشكلِ أبعادٍ غيبيةٍ ميتافيزيقية وتجسيدات تاريخية سياسية وعبادات ومعاملات بناء على ذلك المنظور الغيبي، فكافةُ حركاتِ الإسلام تبدو نتاجاً للغيب، فيما هي كذلك ثورةٌ إجتماعية بظروفِ البداوة العربية في الجزيرة وقتذاك. ولكن هذا الفصلَ بين المنظورين لم يكن متيسراً عبر العصور، ولهذا فإن الحركات التمردية كانت محافظة، ولم تقم تمرداتها بشيءٍ عميق يمكثُ في الأرض، بل على العكس أحدثت القلاقل، نظراً لأنها لم تأخذ العناصر النهضوية في الإسلام وتشتغل عليها، وهو الأمر الذي قامت به الحركات الفكرية في المدن الإسلامية دون أن تطوره ليكون حركة تغييرية شعبية. وعمليات الخلخلة التي قامت بها للعناصر المحافظة في الإسلام لم تُحدث نقلات، فحدث فشل كبير لها، قامت على أثره المذاهب وخاصة المذهب الشيعي والمذهب السني في شرق الجزيرة العربية ، بملء الفراغ المترتب على ذلك الزوال لحركات التمرد. هذا لا يعني عدم وجودهما من قبل لكن نقصد هنا الانتشار والاكتساح. اعتمد المذهبان على المبادئ العامة المحافظة عامة، أي لم يطرحا مسائل الثورة وتبديل حال العامة الفقيرة، ركزا على الشعائر والعبادات والفقه الخاص بكل منهما. وخلقا في ذلك تطوراً إجتماعياً مديداً رغم الغزوات والصراعات.
4 أدت التطورات السياسية في العصر الحديث إلى إنتصار الحنبلية السياسي والاجتماعي في أغلبية الجزيرة العربية، وتحولت لغة التمرد للفرق السابقة المهتمة بالغزو وثماره الاقتصادية إلى هذه الفرقة الحنبلية وشكلت جموداً إجتماعياً كبيراً لأغلبية الجزيرة العربية، فيما حُبست مدن الشيعة في مناطق معزولة أو متقطعة أو متنابذة، حاولت على مدى عقود أن تنفتح على الخارج. كما قلنا ذلك تشكل من خلال قفزات القبائل البدوية ذات الطابع العسكري، فيما كانت المناطق الريفية ذات إستقرار طويل الأمد. ولهذا حدثت قفزات القبائل البدوية نحو المناطق الساحلية بسرعة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. يمكن ضرب المثل بقبائل آل ثاني وآل خليفة وآل صباح، وتتعدد طبيعة هذه القبائل المهاجرة حيث يغلب على بعضها الطابع التجاري المدني كآلخليفة وآل صباح بينما آل ثاني* يغلب عليهم الطابع البدوي.
ـــــــــــ مصادر * ولقد كان طبيعياً أن تتأثر قطر بهذا المذهب نظراً للصلة المستمرة التي تجسدت في كون قطر ذات حدود برية مع الدولة السعودية التي انطلقت منها هذه الدعوة، ولا يزال القطريون يكنون احتراماً بالغاً للمملكة العربية السعودية باعتبارها موطن الإمام محمد عبد الوهاب مؤسس الوهابية، ولا غرو، فإن قاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر نفسه كان سلفياً وهابياً، وكان الشيخ رشيد رضا يعلم السلفية لأهالي قطر، كما قام بنفس المهمة أناس آخرون في كل من البحرين والهند، وذلك في محاولة للتصدي لموجة التبشير التي أطلق عنانها في البحرين بأيدي مبشرين من الأمريكيين والإنجليز على حد سواء.
حدثت تعميمات لدى الباحثين العرب تجاه الفئات المتوسطة، عبر سلق تعبير (الطبقة البرجوازية)، فالفئات المتوسطة في العصر العربي الكلاسيكي، كانت في حالة تبعية شبه كلية للإقطاع، في حين إن في الزمن المعاصر تتشكل في حالات متعددة تبعاً للتبعية أو الإنسلاخ من الإقطاع. عند العديد من المفكرين والباحثين المعاصرين هناك التعميم، وسواء كان ذلك في الفكر الفلسفي كما عند مهدي عامل، أو كان في التأريخ الثقافي كما عند الدكتور سيد النساج في مصر في دراساته عن القصة القصيرة المصرية خاصة. لا بد من تحقيب قراءة الفئات الوسطى، بمعنى أن نعرف إن لها حقباً، مرتبطة بتطور قوى الإنتاج وعلاقاته. في الفترة الحديثة الأولى كانت مرتبطة بالاستيراد، ولهذا كنا نقرأ لمفكريها شطحات نهوضية كبيرة، فشبلي شميل أو إسماعيل مظهر وسلامة موسى يدعون لحداثة غربية ناجزة، وهي حداثة التاجر المستورد، الذي لم يشكل قوى إنتاج صناعية عربية، والذي يحولُ النهضةَ إلى استجلاب للبضائع الفكرية ويعتقد إنها تحلُ إشكال التخلف. إنها مرحلة رأس المال التجاري. في البحرين نجد ذلك يتقارب مع فترة مثقفي هيئة الاتحاد الوطني، رغم إن استيرادهم كان أقل تطوراً من قرنائهم العرب بطبيعة الحال. في الفترة الثانية والتي حدثت في البلدان العربية (المتطورة) حين لم يعد الاستيراد هو العلامة الميزة للإنتاج والوعي الطليعي، هنا حدث الانتقال من الاستيراد الكلي إلى الاستيراد الجزئي ونشوء بدايات التصنيع، والذي أرتكز على المرحلة السابقة، وزمن الحربين العالميتين اللتين ساعدتا على استنهاض كوامن الإنتاج، وفي هذا الزمن استطاع الفكر عبر طه حسين وأحمد أمين ومن ثم حسين مروة وغيرهم على إنتاج قراءات عربية إسلامية. إنها مرحلة رأس المال الصناعي الخاص – العام الأولي. إن الفترتين السالفتي الذكر شكلتا ما نسميه بالنهضة الوطنية والتقدمية، رغم إن الكم النقدي ليس بمستوى الفترة الثالثة، لكن كان هذا الكم النقدي يتجه في كثير منه إلى قواعد الصناعة، ويمكن أن ندخل في حساب ذلك الأنظمة الوطنية التي تشكلت والتي وسعت الصناعات، وهي كلها فترة وجهت النظر العقلي نحو نقد الواقع والتراث، بمستويات متعددة ومقاربات مختلفة. ثم جاءت المرحلة الثالثة الراهنة والتي اعتمدت على فورة صناعات الاستخراج، وخاصة النفطي منه، وهي مرحلة اعادت الاستيراد بقوة، سواء على مستوى الإستيراد من الغرب، أو إلى مستوى الاستيراد من الماضي العربي. وهي صناعة إستخراج لا تغير جذور المجتمع السحرية والأمية لكنها تتنج مردوداً مالياً كبيراً. ولم تعتمد على تطوير قواعد الإنتاج السابقة، بل أدت في العديد من البلدان إلى تحطيمها، كتصفية الصناعات الشعبية، أو تخريب الصناعات المؤممة، أو نقل المصانع الخربة الملوثة من أوربا الخ.. وهذه كلها أدت إلى صعود الطفيليات الإدارية الكبرى التي أفسدت الثقافة. هنا نجد الوفرة النقدية في بعض البلدان لم تؤد إلى نهضة، إلا بشكل إستيراد الكماليات بصورة بذخية مدمرة. الاستيراد الجديد هو الذي شكل الجماعات المذهبية السياسية، التي راحت تجتر ما قاله القدماء الجامدين في فهم الدين. إن الوفرة المالية هنا ساعدت على اعتقال العقل، في حين كان زهد طه حسين أو سلامة موسى أو حسين مروة أو جمال عبدالناصر أو عبدالكريم قاسم مشابهاً للتراكم النقدي المطلوب لدى برجوازية التصنيع الأولي وتقشفها. إن المراحل التالية التي قد تستمر في الماضي أو قد تصححه، مرهونة بمدى تعزز مواقع القوى الديمقراطية في المجتمعات العربية، ومدى تحويل صناعات الإستخراج والصناعات الخفيفة إلى صناعات كبرى، وتغيير الهياكل السكانية المتخلفة. والمرحلة الثالثة نجد تجلياتها الفكرية في النقل الآلي من الغرب والنقل الميكانيكي من التراث، وضخامة الاستيراد على الجانبين، فهنا راقصة مغنية بأحدث موضة وهناك مقنعة تخاطب القبور، شكلان متضادان يعبران عن أن القوى الشعبية لم تتمكن من السيطرة على الموارد وجعلها من إجل الإنتاج العربي. لا بد من رؤية حلقات التداخل بين المراحل العربية الثلاث التي أسست النهضة منذ القرن التاسع عشر الميلادي. لقد كانت مرحلة رأس المال الخاص والعام متداخلة، فهذان الرأسمالان الموظفان في الصناعة الخاصة والعامة، تصادما في المستوى السياسي، فكان صناعيو المرحلة التي وقعت فيها الانقلابات العسكرية يرفضون المشاركة في دعم الإنتاج، خوفاً من دعم هذه الأنظمة التي بدا فيها الواقع السياسي مقلقاً وخطراً على التوظيفات الرأسمالية. إن عدم دعم الصناعيين لخطط التنمية التي طرحتها الحكومات العسكرية، بدا لهذه الحكومات العسكرية الوطنية بمثابة تآمر وحصار، ومشاركة في الموقف الاستعماري الرافض للتصنيع. لكن الحكومات العسكرية من جهةٍ أخرى لم تعِ بأن التصنيع غير مرفوض غربياً لكن المرفوض هو التصنيع بيد الحكومات العسكرية، فهذا كانت له نتائجه الحربية والسياسية على خريطة المنطقة، ولو أن العسكريين سلموا السلطة لحكومات منتخبة لما كان الأمر كذلك. وهكذا فإن التصنيع العام الذي ظهر بيد الحكومات العسكرية كان يمثل قطيعة مع التصنيع الخاص الذي تشكل بيد الرأسماليين الأفراد والشركات والبنوك الخاصة، واحتلال الحكومات للفضاء الاقتصادي كان من شأنه أن يرعب الرأسمال الخاص الجبان بطبيعته، وهذا ما أدى على المستوى الفكري إلى نهجين متضادين كلياً، فهناك الشعار الاشتراكي الحكومي، وهو بمثابة غطاء لفشل التعاون بين البرجوازية الحرة وبين الفئات الوسطى الحاكمة العسكرية، وهو بمثابة رد وإلغاء لدور هذه البرجوازية التاريخي، فتم إعدام وجودها من الثقافة والتاريخ، ولم يعد ثمة من فكر سوى فكر الاشتراكية الحكومية التي صُورت على إنها نهاية التاريخ الطبقي. إن عدم القدرة على تشكيل تعاون بين هذين الرأسمالين كان يعني توقيف نمو بذور الوعي الديمقراطي العربي والإسلامي المنتج، وهو الوعي التحرري الموضوعي، الذي طلع بشق النفس، ولكن أدوات التحليل لديه لم تتطور ولم تتجذر، فظل نائياً عن الجدل وفهم تناقضات التطور الموضوعية. فكان الجانب الثاني من الوعي المعبر عن الرأسمال الخاص، قد تعرض للتآكل فنرى طه حسين والعقاد وأحمد أمين وغيرهم يتوقفون عن درس ونقد الواقع، بينما كان الفكر الماركسي العربي يتوه في زفة الاشتراكية الحكومية، ويفقد أدوات التحليل بشكل آخر، فيذوب ذيلياً في هيمنة القطاع العام الدكتاتورية، والتي في تصوره كما في تصور العسكر، تلغي وتزيل الطبقات! إن الفكرين الوطنيين المعبرين عن رأس المال العام والخاص، تصادما وعجزا عن التعاون، مثلما أن المصنع الخاص الصغير تعرض للإنهيار من العملقة الحكومية، والتي توجهت لهدم التصنيع الخاص، وترك الأشكال الأخرى كتجارة الجملة والمفرق والعقار والصرافة تعيش مؤكدة سيطرة الجوانب الطفيلية من الاقتصاد على الجوانب المنتجة. وهكذا فإن الإنتاج على مستوى الصناعة وعلى مستوى الوعي، تعرضا للتآكل التدريجي، فالصناعة الخاصة تعرضت للحصار، والصناعة العامة تعرضت لسرقات البيروقراطية الحكومية المتنفذة، في حين كان الوعي الوطني الديمقراطي بمختلف أجنحته يتعرض هو الآخر للتآكل، لأنه هدم التصنيع الخاص الحر وأوقف النظر التحليلي الموضوعي في رؤية الاقتصاد، وراح يشكل قصوراً في الهواء. إن القفزة التصنيعية الكبيرة كان لها نتائج هامة وعظيمة، وقد مثلت نقلة أخرى في دعم القاعدة الاقتصادية، لكن غياب الحرية والنقد ومجيء المشروعات بالقوة من الأعلى، وعدم ترابط التصنيع مع تغيير الريف، وانفصام ذلك كله عن تغيير الثقافة الشعبية والأسرة الأبوية، هذا كله أدى إلى توقف التصنيع العام عن دوره الثوري الواعد. وعبرت الهزائم العسكرية وعدم القدرة على تغيير خريطة المنطقة لصالح الاستقلال العربي، عن عجز القطاع العام بصيغته البيروقراطية غير الديمقراطية، عن تشكيل النهضة والتحكم في المصير، فعاد القطاع الخاص للسيادة مع صراع شديد ضد العام، ومع تدخلات مالية أجنبية وطفيلية هائلة.