الأرشيف الشهري: أكتوبر 2023

الغموض الإبداعي عزل للشكل عن المضمون، وللكاتب عن المجتمع

عبدالله خليفة
أمين صالح: ملاحظات حول مجموعة : الفراشات

أمين صالح: ملاحظات حول مجموعة : الفراشات

هذه هي المجموعة الثانية للقاص أمين صالح الصادرة عن دار الغد بالبحرين، والتي تعتبر امتداداً وتعميقاً للخط الذي شقه لنفسه في ميدان القصة . اننا لن تعتبر هذا الامتداد تطوراً وقفزة إلى الأمام ، بل سنجد فيه استمراراً لأزمة هذا العالم الأدبي الفكرية والفنية .
إن إطلاق النعوت الفضفاضة والتعبيرات الشعرية والمصطلحات الغريبة غير المفهومة . لن تؤدي إلا إلى عزلة أكثر لهذا الأدب وتفاقم أكبر لموقفه الصعب، وعرقلة تطور الكاتب. علينا أن نتحاور كأصدقاء، لنكتشف مواقع ضعفنا ونساعد بعضنا البعض، في غيبة النقد العلمي . وهذا النقد ليس منافسية وصراعاً لتدمير الوحدة الأدبية، بل هو لتعميقها، واكتشاف مواقعنا على نحو أفضل وتوجيه كلماتنا للتأثير المشترك في الواقع.
سوف نناقش هذه المجموعة من زاويتين، الزاوية الأولى هي زاوية البناء ومدى قدرة الكاتب على خلق بناء قصصي متماسك. ولا يعني هنا أن الرؤية المتجسدة في هذه الأعمال ــ‏ سواء المتماسكة أم الضعيفة ــ إيجابية، فقط أننا بتركيزنا على هذا الجانب نستطلع جوانب التشكيل المختلفة حتى نعثر على جوانب الخلل التي تقودنا الى خلفية هذا التشكيل وأسباب جفافه وضعفه. الزاوية الثانية هي زاوية الرؤية أو تناقضها، هذه الرؤية التي تؤدي إلى التشكيل بهذه الصورة. أي أننا ننتقل من الشكل إلى المضمون ونرى علاقة التأثير بينهما.
بين التداعيات والقصة القصيرة:
العديد من قصص المجموعة عبارة عن صور متناثرة لم يستطع الكاتب أن يخلق المعيار الفني الذي يوحدها ويعطيها الدلالات المبتغاة. انها تداعيات ربما وحدتها أحاسيس ما، لكن لم تأخذ فرصة النضوج الكافية للتبلور في هيكل حدثي متناسق، فانطلقت الصور المقطوعة؛ والتعبيرات المباشرة في كل اتجاه.
أن التداعي والانطباعات حينما تتحول الى انطلاق عفوي، لا تضبطها الهندسة الفكرية يتبعثر المحور الذي يربط كل الجزئيات ويوحدها . ليست المسألة مسألة التخطيط والمنطق الحسابي، ولكن ذاك التفاعل الخلاق بين الوعي والعفوية، بين المنطق والتدفق.
سوف ننتقل مباشرة من النظرية الى التطبيق .
في (انفعالات طفل محاصر) نجد عشرات الصور المبعثرة والتداعيات لكن لا نجد هيكلا حدثياً نامياً .
في البدء تطالعنا صورة الراوي والفتاة التي تجلس قربه . ليس بينهما وبين البحر سوى جداد سميك . بينهما حب ولكنه حب خارج على القانون، وهو حب سخي، تلاحقه معاطف المخبرين و . . . و. . . يخرجان من المقهى، يستلهمان الماضي والمستقبل، وكانا مأخوذين بسحر العرائس، ولكن يعود الحصار فجأة ويعود الجدار السميك .
ثم ننتقل إلى صورة أخرى، لا تأتي كتوليفة وتركيب؛ بل كقطع في البناء. فثمة غرفة موصدة وخالية إلا من طائرات تقذف قنابلها في لحظات خاطفة، نجد عيناً في الأرض وأخرى في الرأس . الطفل المحاصر يحصي أصابعه فيجدها سبعة .
الصور الثانية جاءت ولم تحدث تركيباً بنيوياً، انفصلت عن الصورة الأخرى؛ وتأتي الصورة الثالثة أولا كأقوال تقريرية (أعشق الريح والخليج والوقت الآتي والرمل والبحر والمراكب)، تقريرية لأنها لم تتجسد تصويرياً، فنحن نبغي الخليج ولكن أين هو؟ وهذه الانفلاتات التقريرية تأتي لتزيد الفصل بين الصور، وليس لها من قيمة بنائية . والكاتب مولع بهذه الجمل غير القصصية وهي جزء من حالة عدم النضوج الفني للقصة.
ثم نرى امرأة أيضاً. تبقى بذات الحالة التجريدية الأولى . ( ساعدها ثمرة شهية لها طلعة بهية يعشقها كل الأطفال )، الكاتب لا يبني، يبقى بحالة التداعي الأولى، لا يطور من هذه المرأة، لا يجسدها بشكل خاص وحميمي، لكي يحولها من أوصاف عامة تنطبق على أشياء كثيرة إلى إنسان ذي ملامح . اللغة الناعمة الملمس المنتقاة، تقيده . لا ينتقل إلى الإنسان، إلى تركيب صورة تكشف أعماقه .
يقفز إلى الملهى الليلي ويدع تقريريته تتحدث . فهو يمقت الرقص الشرقي في العلب الليلية وامتهان الأجساد ويكره مدير الملهى واللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف . لقد جاءت هذه الصورة أيضاً بلا توليف، فلا تطور جانباً حدثياً سابقاً . بل تنقلنا إلى أشخاص جداد وموقع جديد مضيعة الفرصة للتركيز على الأشخاص السابقين . إن هذا الانتقال لا يضيف فنياً أي شيء . ويمكن الانتقال أيضاً إلى أصحاب المزارع والقصور والقضاة وغيرهم ولكن ما فائدة ذلك بنائياً؟
النقلة الأخرى الى شخصية ( أبي ذر). ودائماً تكون الأوصاف العامة ذات الرنين الشعري، كدقات الطبل، هي المدخل إلى الشخصية أو الحدث . أنه لا يدخل لها ببساطة، لأنه يكره أن ينزل إلى الملموس والعادي، فلغته يجت أن تكون محلقة، مجردة، فهي عبء يعانيه، وليست أداة تساعده لخلق الشخصيات والأفكار .
أبوذر يرسم وطناً دامعاً ويكاتب عالماً مجرداً هو الوطن والأمهات . إن هذه المكاتبة لا قيمة لها، تبقى شعاراً، لأنه لا بد من أم ما، خاصة؛ تتم إليها المكاتية. عندئذ مع وجه ذي قسمات معينة تتشكل علاقة حدثية قصصية، والعلاقة لها شروط أيضاً . أهم هذه الشروط صلتها بالصور السابقة وتناميها في الصور اللاحقة. فالمسألة ليست اعتباطية فثمة قوانين للأبداع.
وأبوذر يطبع قبلة على جبين فتاة كانت تزوده خلسة . ولكنها تختفي . انه يصورها كعادته مركزاً على تعبير (المطر المالح) لا الانسان الرائع .
أبوذر يدخل هكذا بلا مقدمات . الصور الأولى لم تشيده، عبارة عن كلمات لم تتآزر وتتشكل في بناء عضوي . والإحساس بالاضطهاد أو الحصار لا يشكل هيكلا . فكل صورة لها قيمة في ذاتها، وليس في العلاقة بينها، والعيب هو في هذه الصورة لأنها مبنية بشكل «ميتافيزيقي»، أعني أنها منفصلة وساكنة، وليست جدلية؛ مرتبطة ببعضها البعض، مؤثرة ومتأثرة، خالقة بذلك لوحة عامة.
وفي المقطع الخامس نقرأ مانشيتات إخبارية لا علاقة لها بالصور والبناء السابق . إن الحديث عن الشهداء والاعتقال لا يكفي ليشكل قصة فما بالك بقصة ثورية، في ضوء عدم الاهتمام بالتكنيك القصصي أولا ؟
وتكملة لهذا المقطع نعثر على صورة . يصادف الراوي قاطع طريق . القاطع يقدم أكلا قليلا، وكان كلاهما جائعين؛ فلم يشبعا . تحدث عن نفسه فأوضح أنه يحارب عصابه احتكرت مياه الشرب عن الأهالي، فيسلب مواشيها وعربات المياه، ثم يوزعها على الناس . وهو منكر لذاته أيضاً، فيراوغ عن قول اسمه .
هذه صورة لا علاقة لها بالحدث أيضاً . وسندرس في جانب آخر دلالة قاطع الطريق هذا.
أما في المقطع السادس فيخرج الكاتب عن الموضوع تماماً . يصور لنا حكاية رجل يبيع ذراعه الوحيدة بعشرة فروش . ان من الممكن كتابة عشرات المقاطع مثل هذه ولكن ما وظيفتها ؟ ما الإضافات التي تقدمها للبناء ؟
وفي المقطع السابع نقرأ نداءات متكررة الى المرأة المطهمة بالنار والماء . وهي بلا قيمة فنية، وتبدأ الصورة حين تزمجر الذئاب في وجه أبي ذر، وهو ممدد ومقيد على الأرض . الدماء تغادر جسمة والذئاب تلحس ما تبقى .
ولا يطور هذه الصورة بل ينطلق في تداعياته وانثيالاته، يرتفع ويتوغل في الوقت، ويمضي معه .
وفي المقطع الثامن استمرار لهذه التداعيات . الجمل الناعمة، الشاعرية، لكن قصصياً، الفارغة .
وفي المقطع الثامن يصل أبوذر إلى موقع لا ماء فيه ولا شجر . ولكن قبل أن يكمل أو ينشىء الصورة يزوغ إلى التداعيات والاقتباسات ثانية . يكتب عن سفر الرؤيا . ولا يتم مسيرة «بطله».
نرى أن الكاتب لا يتحول إلى قصاص، يمتلك كيفية البناء القصصي، فهو لم يقم بإنضاج الفكرة/الصورة لكي تصل الى معمار محدد المعالم، فقبل أن تتشكل وتكون بناءها، أجهضها وأخرجها الى «النور» .
ولأن البناء غير مكتمل تنهمر العبارات المباشرة وترفع اللافتات، فلم تنصهر هذه الشعارات في لحمة الحدث، بل بقيت كدليل على التسرع وعدم إتقان التكنيك.
وجانب آخر من عدم الاكتمال هذا نجده كما قلنا في عزل الصور عن بعضها البعض، فالنظرة التركيبية هي وحدها التي ستحيل هذه الشظايا إلى منظومة . أن (شخصية) أبي ذر كان يمكن أن تتحول إلى محور، فتتجمع حولها كل الجزئيات غير المنجذبة إلى مركز .
إن الكاتب أضاع الشخصية من التاريخ والواقع المعاصر . لأنه بكل بساطة لم يرسم شخصية . فهو لم يجهد نفسه تكنيكياً من أجل خلق هذه الشخصية، واستساغ لعبة التداعيات والأجزاء المبعثرة والجمل الشاعرية؛ ونسي واجبه كخالق للشخصية، فتلاشت الشخصية والقصة والشعر معاً .
اللغة الجميلة البعيدة عن اليومي لها دور في الاتجاه إلى التجريد، فالكلمات تتدافع بقانونها المستقل غير موظفة لبناء الحدث، وحينئذ تفرض شروطها عليه . هي تبقى كغاية؛ بدلا من أن يكون الحفاظ على جمالها يأتي بالدرجة الأولى من خلال دورها ووظيفتها في البناء .
ــ (العواء) أيضاً عجزت عن التشكل كقصة . ثمة بطل يوحد الصور المبعثرة، وهو الراوي، وهذا التوحيد ليس المعمار المطلوب، فهذا الراوي لا يختلف عن صوت المؤلف . فكأن الكاتب يفكر ويحلم و يمشي .
نرى أولا صورة المقهى، يبدأ الكاتب كالعادة بعبارات كبيرة، فلا يخلق حدثاً منذ أول كلمة، بل يفتتح المشهد بأبهة الكلمات الفخمة ( توقفنا عند حدود الكلمات المنطوقة والمهربة). ( لنكتشف لغة أخرى بلون أحداق الشمس) .
رواد المقهى أجادوا لغة الكلام فصمتوا . لذا يقرأ أحدهم ملصقاً سرياً . ثم يقفز كهل ويقوم برقصة عنيفة تمثل بدوياً أنهكه البحث عن خيمة وعشب .
خيبة الراوي تتجلى في الشارع البارد أيضاً . يطارده عواء فيفزع ويجري. تحتويه الغرف الخالية . ليس فيها سوى ذكرى حبيبة، وهي ليست حبيبة حقيقية بل مجرد نداءات تطلق الى شيء غير محدد بالمرة . فالمرأة لدى الكاتب ــ عبارة جميلة وليست انساناً ــ عنصر المرأة لا يتضافر مع الصورة السابقة لكي تنمو حدثياً، بل هي تداعيات يجمعها إحساس بالضجر والخواء .
الصورة الأخرى التالية تشكل نمواً؛ وهي صورة الصديق الذي قرأ الملصق وهو ملقى في سرداب قذر تمزقه الطعنات . وهذا النمو تجسيد لبشاعة الواقع المحيط بالبطل وليس أكثر من ذلك . بمعنى أنه لا يتشكل مع المرأة والبطل ليشكل علاقة قصصية . وبدلا من هذا التشكيل ينطلق في حديث مباشر لغيمة «ثورية». حديث غير عضوي، مجرد استطراد للملصق .
و بشكل مفاجئ يدخل الجنود أيضاً مسرح التداعي . تحدث مجزرة فيأتي صوت من بعيد هو العواء . لم يكن تردده سابقاً إلا إيذاناً بمجيئه هذه المرة ولكن بشكله المجسم في هيئة جنود وعلى شكل أسلحة . وهذا الصوت ليس وحده، فثمة صوت آخر ؛ هو الأغنية . اللغة المضادة للعنف .
يرقد الراوي، هناك أصابع خشنة تتجول في جسده وجروحه .
مقطع الحوار التالي يدل على تغير موقف الراوي، على انتقاله إلى الغناء، ولكن بغموض؛ فليس ثمة تغلغل في نفسه؛ أو كشف للابن الذي يخاطبه، عبارات مبهمة لا تروي شيئاً .
أما النداء الأخير الى المرأة/العبارة فيكشف موت الراوية أو استشهاده، وذلك سيان .
إن هذه الصورة الباهتة، التي تفتقد إلى الحرارة العاطفية والتشكيل المتفجر حيوية، لا تشكل قصة . إن الصراع بين هؤلاء الأشباح والمضطهدين نراه في قصص عديدة، ولكنه ليس مشجباً يعلق عليه الكاتب كسله الفني، لا بد من تشكيل بنية ذات علاقة عميقة، تميز هذه القصة عن تلك، تخلق أبطالا لهم شيء محدد خصوصي، يعطيهم نكهة، ويعطي علاقتهم مناخاً متميزاً .
لكن الكاتب ينثر تداعياته، مقهى، امرأة، غيمة، جنود، منزل، غير قادر على خلق علاقة حدثية بين هذه العناصر . مضيفاً إلى هذا التبعثر جواً مجرداً يعمق هذا التبعثر.
ــ قصة (ولم ينته هذا الحلم البلوري) تختلف بعض الشيء عن المحاولتين السابقتين؛ فالمجموعة المتناثرة من الصور نجد أنها تتألف وتتضافر حول البطل وهو الرجل البرجوازي وخادمته . هذا الرجل وهذه المرأة يؤلفان نقيضين، أي قطبين متنافرين في الصراع الاجتماعي . ومن خلال «شخصيتيهما» ومن خلال الصراع بينهما ينمو المحور ويتشكل .
هو رجل مذعور ووحيد في منزله . وهي امرأة تعمل وتقرأ . في انطلاقة المذعور من البيت يقابل (صديقه) وزوجته. وحين يشتهي المرأة لا يتردد بينما يقف الصديق مغطياً عينيه المفتوحتين . ولكن حين يشتهى الخادمة ترفض وتقاوم.
هذه هي العلاقة المحورية لدينا، الرجل رغم كثرة المقاطع عنه ظل غريباً، بعيداً مجرد رمز ك/ س/ مثلا، وهو رجل بملامح غربية . فهو لم يتشكل بمناخنا وتربتنا الوطنية، تشكل من قراءات القاص، ليس كنتاج للواقع المحلي، والخادمة أيضاً هي رمز لا شك أنها تتمتع بمزية المقاومة، ولكن لم تخرج عن كونها شيئاً مجرداً، وليست إنسانة، فنبع البطلين واحد.
لن نناقش الأسباب الفكرية وراء هذه الظاهرة الآن، بل سنقتصر على رؤية التشكيل . وبهذا الصدد نقول: إن العلاقة الرئيسية لم يمعمقها الكاتب نفسياً واجتماعياً. لم يركز على ذات البطل لينتزع ملامحها وخصائصها الجوهرية، وليكشف من ثم أساسها الاجتماعي؛ ليتشكل البطل كشخصية حيه ــ وكذلك البطلة . إن الكاتب لا يزال يبعثر أجزاء القصة، غير قادر على لحم الأجزاء بمهارة . وبدلا من إتقان التكنيك يلخص بعض قراءاته وينثرها في القصة . فهنا مقتطع من سيناريو وهناك مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي وأيضاً مشهد من فيلم ! هذه «التوظيفات» لا قيمة لها على الإطلاق . لأنها لا تضيف شيئاً لتعميق رؤيتنا للشخصية أو لتطور الحدث بالإضافة إلى أن ثمة صوراً أخرى لا تقوم بهذه الوظيفة أيضاً، رغم صلتها بالحدث . كأمثلة : منظر المصنع؛ المحكمة، الجنود . هذه كلها تدلل على أن الكاتب لا يختار الزوايا الهامة والدقيقة لاكتشاف شخصياته، لأن رؤيته لا تتركز على (الإنسان) بالدرجة الأولى .
ــ (ايزادورا . . دعوة للمشاركة)، هذه ليست قصة، ثمة امرأة راقصة ذات اسم معروف، لكننا نجهلها في الحقيقة. لم يصهرها القاص في حدث ساخن؛ فنرى أعماقها وطبقتها الاجتماعية وصراعها. الصورة عبارة عن منظرين صغيرين لا أبعاد لهما. الرجل الغربي البرجوازي في القصة السابقة تحل مكانه امرأة غربية. وليس ثمة صدى لواقعنا، فنحن ضيوف غرباء على المنظر .
المرأة لا تفعل شيئاً سوى أن تتعرى وترقص تحت رذاذ المطر، ثم يلقى القبض عليها قبل أن يحضنها حبيبها.
هذه الصورة قطعت إلى ثلاثة مشاهد، وهناك أيضاً استشهاد بأحد أقوال راقصة عاصرت ايزادورا ولحسن الحظ وضع الاستشهاد خارج القصة هذه المرة . تقطيع الصورة الصغيرة الى ثلاثة مشاهد ترينا سيطرة الشكل على وعي الكاتب . الفكرة ظلت باهتة، لكن الشكل ظل يتمتع بالاهتمام الأول .
ــ يصل الكاتب في العديد من القصص إلى التماسك الشكلي، فتتشكل عضوية موحدة، وتتآزر العناصر المختلفة لتبلور فكرة .
في (النافذة) تبقى ملامح الصراع ذاتها. الخادمة هي المرأة المضطهدة التي تعاني يومياً شراسة السيد ووقاحته. تفتح النافذة فيستقبلها الهواء ويدعوها للطيران . والطفل يضحك أمامها فتحاول أن تقلده فلا تستطيع، والنهر يدعوها لتتعلم الكفاح فلا تقدر أن تفعل شيئاً، ويبقى السيد سيداً وتبقى الخادمة عبدة . . وتغلق النافذة.
هنا ليس ثمة شيء زائد، كافة العناصر البشرية والطبيعية تؤدي دورها في انسجام عضوي، ولكن هناك أشياء ناقصة . يتضح في القصة دور العوامل الطبيعية كالهواء والنهر في إعطاء المرأة صورة أخرى لوضعها من أجل أن تغيره . أيضاً (الطفل) وهو عنصر رومانسي في أدب أمين، يومئ لها نحو الطريق ولكنها عاجزة عن الضحك والسير . إن هذه العوامل تتشكل كرموز، وليس كعلاقات بشرية مع المرأة . القاص يقطع صلتها بالناس، بالحياة الاجتماعية الغنية، ويترك لها علاقة شاحبة مجردة؛ وعليها أن تثور من خلالها. أن اضاءة تاريخها بشكل ومضات سريعة، ووضعها في إطارها الاجتماعي، قد يكشف محدودية قدراتها للتطور؛ وقد يفتح لها أفاقاً جديدة .
القاص بوضعه «البشر» في ثلاجات يريدهم أن يزخروا بالنار . فقط في حالة ذوبان الجليد واكتشاف الكاتب للمناطق الحارة في منطقتنا، سوف تتشكل نفسية حية لهؤلاء الشخصيات المطمورة بذاك التشكيل المدمر لقدراتهم وإمكاناتهم .
ــ ملاحظات صغيرة :
نستطيع أن نحدد ملاحظات أخرى على التشكيل نكمل بها الصورة :
أولا : هناك تباين بين عنصرين مختلفين وهما عنصرا التجريد والمباشرة . فبقطع جذور الشخصيات عن واقعها الملموس، وافراغها من محتواها الاجتماعي، يتضاءل التوجه الثوري للعمل الأدبي وتضعف مهمته التحريضية، فتظهر العبارات المباشرة تعوضاً عن نقص في البناء والتوصيل.
ثانياً : الاهتمام بالشعر والسينما يأتي ضد القصة، فهذان الفنان لا يندغمان في التكنيك القصصي، بل يظلان طافحين فوق السطح، ولهذا يكون لهما أثر مدمر على التشكيل القصصي، أن أي وسائل تستخدم يجب أن تساعد الشخصية والحدث في التكون والتطور وأن تذوب في الهيكل العام للقصة لا أن تكون مفردات طافية على وجه القصة .
ثالثاً : ثمة تناقض في هذه القصص، وهو التناقض بين «الحالة الشعرية» والوعي «الموضوعي» الذي تتطلبه الكتابة القصصية، فتلك الحالة تعطي غنائية ونطلاقاً غير مخطط الصور؛ وهذا الوعي يتطلب تخطيطاً وبناء فكرياً لخلق شخصيات في حركة وفعل . والقاص حينما يثبت قدماً في القصة وقدماً أخرى في الشعر تختلط الحالتين في عمله، فلا يكون قصة أو قصيدة .
رابعاً : الكاتب في محاولته للوصول إلى العام والجوهري يخفق تماماً، لأنه يضع طريق الوصول اليه دون المرور بالملموس والثانوي .
إن تصوير الحدث والشخصية بعمومية وإطلاق يؤدي إلى عدم واقعيتها، أن الواقعية تتطلب مزجاً بين الملموس والمجرد، بين الثانوي والجوهري، وبدون هذا المزج نتحول الى مدرسة أخرى .
ــ المناخ الغربي :
قاد تجريد الشخصيات والأحداث من واقعها المحلي والعربي، الكاتب إلى سيطرة أجواء قراءاته ومشاهداته لنتاج الثقافة الغربية . كان التصور السابق أن القاص بقطع الجذور الاجتماعية والوطنية لكائناته الفنية انه يجعلها مطلقة، مجردة، غير محددة الجهات، ولكن اتضح أن ثمة واقعاً آخر يجذبها ويجعلها تدور في فلكه، فغدت هذه الكائنات تعيش في أجواء غربية . فانقطعت عن واقعها الذي تستمد منه الماء والضوء .
ستتناول عناصر مختلفة لرؤية هذا المناخ .
ــ (هنالك امرأة تطل من الشرفة وترمق البحارة الذين يتزاحمون داخل وخارج الحانة . . ص 5)
ــ (. . ومدير الملهى يفتح زجاجة الشمبانيا في تخب زوجته التي تعاقر اللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف جهراً . ص 13).
ــ كان بضعة رجال يرتدون ملابس عسكرية غريبة؛ منهمكين في صنع صليب خشبي ص 33).
ــ ( الغرفة خالية ، بدون أثاث أو لوحات عصرية أو تماثيل افريقية ص 42).
ــ (عارية ورذاذ المطر يداعبها ويعانقها).
ــ ( ضباب شفاف يدور حولي . امرأة بيضاء قادمة نحوي . ص 50).
ليست المسألة مسألة كلمات مثل «الحانة»، «الصليب» ، «التماثيل الافريقية» فحسب، ولكنه جو شامل يغطي معظم مساحة المجموعة . المرأة في قصة «الفراشات» تظل بلا نكهة شعبية، فهي ترمق بحارة في حانة ذات مواصفات غربية . تظل المرأة باهتة وغريبة، ليس لأنه مسخ شخصيتها فحسب، بل لأنه وضعها في مناخ غير مناخها . لم تلتهب بنار أرضنا، رغم أن زوجها سجين، ظلت في غرفتها الباردة وشرفتها البعيدة ولم تر حاراتنا وحاناتنا . هذا الجو الناعم الغربي جعلها غير واقعية فماتت .
البطل البرجوازي في (ولم ينته هذا الحلم البلوري) هو من قراءات القاص وتأثراته بالثقافة الغربية، فهذه الشخصية لا يجمعها جامع باناسنا، حيث أن الكاتب شكلها في جو غربي صرف . علاقته بالخادمة، واقع السهرة، لقطة الفيلم الفرنسي، مضاجعته للزوجة أمام زوجها، منظر المحكمة ووجود عنصر المحلفين، مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي . هذه العناصر المتعددة «تغرب» الموضوع والحدث . إضافة الى عنصر التجريد المتفاعل معها، فهذا كله يساهم في إخراج القصة من التربة المحلية .
مناخ القصص يميل عادة إلى البرودة، والمطر ليس قليلا؛ أما الصيف والحرارة الشديدة ــ وهي السمة الغالبة في مناخنا ــ فقلما نعثر لها على أثر .
والشخصيات هي مثل و«تجنسكي» و«ايزادورا» حيث البروز الأكثر وضوحاً لسيطرة القراءة لا الواقع، وسيطرة موضوعات لا تمثل هاجساً لإنساننا . تتلاشى ملامح الخليج بتراثه ورجاله ونسائه ونضاله وأجوائه، لا أثر للزنج والغواصين وعمال البترول . بل هي وجوه شاحبة وخطوط مجردة وأجواء غربية .
ــ الموقف المأزوم :
أن تأثر الكاتب بالثقافة الغربية ليس الا تأثراً بمواقف معينة في هذه الثقافة، وهي تلك المواقف المأزومة ذات التوجه البرجوازي والبرجوازي الصغير .
في (نجنسكي . . حنجرة الرعد) نكتشف بعض جوانب هذا الوقف .
نجنسكي يرقص رقصة الحرب . يمثلها بحركة جسده . اللغة الشفافة تمثل الحركة الخارجية وسطح الموقف. نجنسكي يركض وينزف ملحاً . يغادر نجنسكي خندقاً ‏ــ قبراً إلى خندق ‏ــ‏ قبر آخر . ثمة جنود وضباط يخطبون بحماس وقتلى .
القاص صور ساحة حرب، ولكن لم يتغلغل إلى أية أبعاد اجتماعية وراءها. فبالنسبة إليه يقف المعتدي والمعتدى عليه على صعيد واحد . المناضل كالفاشي، لا فرق، هي مجرد حرب لا أبعاد لها . الراقص، والكاتب؛ ضد هذه المجزرة ولكن من سببها ؟ وما هي أسبابها ؟ أنه لا يجيب، فقط يتعرى، متخلياً عن توجيه الاتهام الى عدو محدد ، متجهاً الى لعن الزيف ومن أجل البراءة . هذا الموقف الهروبي يتستر بالمجردات، فيبدأ درجة درجة صاعداً نحو الجنون والانفصال عن الواقع والبشر .
تجاه الحرب يرقص عارياً، وتجاه متعهد حفلاته يغمغم في ذاته . ليس لديه موقف حقيقي تجاه الإثنين، وفي هذا الفراغ المرعب وانعدام الوعي للنضال ضد الشرور الاجتماعية وخالقيها يفتح له الكاتب باباً عريضاً وهو باب الصوفية تجليه الأول من خلال الرعد الذي يبحث عن حنجرة له . أنه لا يصل إلى حالة فقدان العقل حتى يتحد في هذه اللحظة، بل يستمر في تحديه للناس . الصالة غاصة بالجمهور وهو واقف كالتمثال لمدة نصف ساعة . ثم أخذ ينزع ملابسه قطعة قطعة. الجمهور ينسحب . زوجته تبكي، فلا يجد الا الطفلة يراقصها. يتمنى أن يظل الأطفال أطفالا حتى الممات، معبراً بهذا عن فشله وأزمة طريقه .
ويتعمق بهذا طريق الصوفية والجنون . ولا يصور القاص هذا الطريق كأزمة بل كتطور خطير وعملقة للبطل . أن الله نار في رأسه !!
نبذه الناس فانطلق في الهواء والفراغ فاحترق والتقى بالرعد حنجرته . الكاتب حول الأزمة إلى موقف عظيم والانهيار الى تألق،‏ والهروب الى بطولة .
وعوضاً عن كشف موقف نجنسكي وجذوره الاجتماعية الضاربة في تربة طبقية قلقة، يقوم بوضع أكاليل الغار على هذا الانحدار .
لغة الشعر المستخدمة والتمثيل الصامت والعناوين الجانبية والأقواس كلها عجزت أن تحول هذه الصور الي عمل حي رائع . لأنها ارتكزت على موقف طمس القضايا الحقيقية لتمجيد بطل فردي لا يمتلك أياً من مميزات البطولة .
ولكن ليس هذا وحده مما يشكل موقف الكاتب فهناك جوانب أخرى فيه . في قصة (انفعالات طفل محاصر) رأينا وجود قاطع طريق . انه ليس قاطع طريق حقيقة بل هو شخص متمرد على امتيازات الأغنياء واستغلالهم . يعطي البطل جزءاً من طعامه القليل ويكشف له عن مهنته . وهي أنه يحارب عصابات من الأغنياء احتكرت مياه الشرب عن الأهالي فيسلب مواشيها وعرباتها المحملة بالماء ثم يقوم بتوزيعها على الأهالي . وحين سأله عن اسمه راوغ وتحدث عن الحصاد وأغاني الراعيات ورؤيا الأنبياء.
هذه «الشخصية» تمثل إضافات أخرى إلى نجنسكي، فإذا كان ذاك في موقف غائم ضد المعسكرين المتصارعين دون وعي عميق، فإن هذا يقف بشكل أكثر وضوحاً وتطوراً ولكن بطريقة تمردية وفردية . وتختلط في وعيه الاحلام الجميلة والمشاعر الدينية . وهو بهذا نموذج آخر لذات التركيبة الاجتماعية .
في (هذا فرحي . . اغتالوه وهو طائر) نجد صوراً عديدة وكلاماً إنشائياً ولكن لا نعثر على قصة، البطل يحلم وهو في المهد بأنه طائر يقطف نهود جنيات البحر؛ ولكن الواقع يؤكد لغة أخرى، فبين المقهى والمقهى قتيل جائع؛ ومقصلة تمضغ رأس طفلة . انه شخص مأزوم، نفسيته تضطرب بين الرفض والاستسلام . والكاتب لا يصور هذه الأزمة ويبينها في حدث متكامل بل هو كالبطل لا يستطيع أن ينضج أزمة بطله، ويعرضها من خلال معادل ما، بل يلقيها وهي في حالة الاجهاض هذه .
وتتحول هذه الأزمة في كلمات خاطفة إلى صرخات ومحاولات للقضاء على الصحراء المحتضنة للأعداء والسجون والكلاب ومؤسسات الإبادة . الآن يعود حاملا بندقيته مع رفاقه ليعلن الغزو . في لحظة أخرى نراه يبحث عن لبن الأم . لم يجد سوى ملصقات واعلانات . الأم ، المرأة ، كانت مسجونة في قفص وأحياناً يعرضونها في السيرك وفي البرلمانات . قال الصديق : العنف باب الأبجدية . تبقى المسافة بينه بين الصحراء وتغدو الأم قتيلة .
إذا كان نجنسكي ضد الحروب بشكل مطلق . فهذا البطل في قصتنا هذه مع العنف بشكل مطلق، انه ينزل إلى المدينة مع رفاقه معلنين بدء الغزو ولكن لا يتم من ذلك شيء . ليس ثمة عمل صغير يعملة، في ضوء هذا الحصار الشكلي الذي قيد فيه .
إن هذا التناقض في الموقف بسبب اضطراب الرؤية وانعدام الانسجام في أساسها الاجتماعي . وهذا الاضطراب لا نلاحظه فقط في الرؤية الفكرية بل وفي التشكيل الفني أيضاً . حيث الاضطراب في البناء وبروز الخلفية السينمائية والشكلية .
الاضطراب في المضمون يقود إلى الاضطراب في الشكل . فالقاص بملاحقته البعيدة لواقع غير واقعه يشحب المضمون الفكري لعمله، فيصاب بالجفاف، فلا يبقى سوى ملاحقة الأشكال الجديدة، مع الرغبة الدائمة غير المجدية لتحطيم استقلالية الأنواع الأدبية، هذا كله يؤدي إلى أزمة العمل ككل .
الرجوع الى الينابيع؛ الى الوطن والناس، برؤية تبحث عن علاقاته وبشره، مع الاستفادة من التكنيك الجديد للتغلغل أكثر في الحياة والارتباط أكثر بصناع الحياة الحقيقيين لا الوهميين، هذه فحسب تضع الشروط الأساسية لحل التناقض بين الشكل والمضمون في أدب القاص .
ــ نلاحظ الأثر السيء للأسلوب في قصة (ارتجافات عناقيد الماء في الهواء)، القصة متماسكة، صورها تخلق أثراً هاماً موحداً؛ والكاتب يوظف حادثة أسماء وابنها عبدالله بن الزبير التاريخية ليعطيها دلالات جديدة معاصرة ومضيئة .
يقترب من خلق «أسماء» كشخصية حية ولكنه يتوقف في منتصف الطريق، فالأسلوب ببلاغته الشعرية يجعله على سطح الشخصية والموقف، تجذبه الصور الجميلة فتتولد من البحر الجنيات والزنابق بينما لا تلد الشخصية شيئاً . الصور لم تساهم في التغلغل في الذات، وهنا يقيد الشكل المضمون ويكبحه .
الكاتب يبتعد في أحيان عديدة عن التجريدات فيصور أسماء كامرأة عادية تنشر الغسيل وتشتري الخبز وعبدالله كعامل يضرب مع المضربين . وللأسف فهذا الصعود الحقيقي إلى الشخصية يضيع في غمرة عبادة الجملة ذات الرنين الموسيقي، وبسبب التوجه المباشر أيضاً. أخذنا مونولوج عبدالله تحت سقف الحانة كمثال، فماذا سنجد ؟
(نخب الانتفاضة المطعونة . في الظهر، نخب النتائج، نخب الشواطئ ، التي استهلكت بكارتها فعربدت ثم نامت مفتوحة الساقين، أضحت البنادق خنادق وفنادق نعاقر فيها خيبتنا ونضحك ملء أفواهنا رمل …).
إن هذا ليس بمونولوج فهو تعبيرات عامة واضحة ليس فيها من صور البطل الشخصية وذكرياته وتداعياته شيئاً، فيها الصدى الجميل وفيها الطرح المباشر رغم أنه لا علاقة له بالحدث . فالقضية قضية اضراب فاشل وليست انتفاضة مطعونة في الظهر . فأين هذه الانتفاضة في القصة؟ ومن طعنها ؟
بدلا من مسك الخيوط الفنية و تنمية الشخصية بأعطاء لمحات نفسية تحولها الى لحم ودم ينجرف الكاتب مع شلال الخطابة فيأسره التدفق اللغوي فيضعف التغلغل في الشخصية والواقع بالتالي .
يأخذنا للتفاعل المتبادل بين الشكل والمضمون، نرى شحوب هدف العمل الأدبي، نتيجة التجريد و«التغريب»، ولهذا تتركز اهتمامات الكاتب في تطوير الشكل، وهذا التطوير نتاج الثقافة الغربية وفنونها. وبالأخص الفرنسية، ولكن القاص في محاولاته للوصول الى مضمون أعمق، وفي لحظات اقترابه من واقعنا، يكبح الشكل الذي اعتاد عليه هذا التطور .
وهنا ضرورة وجود حلقة «كسر» لهذا الشكل . ولكن ذلك يتطلب تعميقاً للنظرة وتغييراً لاهتمامات عديدة . يتطلب عناية بالتكنيك القصصي، وكسر الجو الغربي . هذا يعني تغلغلا في الواقع المحلي، والدخول الى تاريخ المنطقة وتراثها وحكاياتها الخ . .
ان مشاكل القصة عند أمين هي ذاتها مشاكل القصة العراقية في الستينات. يقول برهان الخطيب في مقالته (الاتجاه الواقعي في القصة العراقية القصيرة) «كثير من قصاصي الستينات كان يكتب بهذه الطريقة الحرة، وهذا الأسلوب كما نرى نموذج لخضوع الكاتب لمؤثرات خارجة عن عمله، فإن مسايرة الإيقاع اللفظي هنا لا تقود إلا إلى الابتعاد عن خط الموضوعة.» _ راجع الأقلام ؛ العدد 12، 1980.
ليس هذا فحسب بل غلبة الفكرة المنتشرة في الأدب الفرنسي المعاصر وهي فكرة اتحاد النثر بالشعر، والاتجاه نحو صهر كافة الأنواع الأدبية في كل واحد، نجد صداها لدى أمين .
أن الأنواع الأدبية من الممكن أن تستفيد من بعضها البعض أما الصهر فغير ممكن ومدمر لكل الأنواع الأدبية .
ــ الحصيلة :
بعد جولتنا في هذه المجموعة ما في خلاصة الموضوع ؟
أولا ــ‏ نرى أن العديد من القصص ما هي إلا محاولات لم تتشكل في هيكل ما . وهذا التبعثر في الصور نجده لسببين . الأول: الكاتب لم يقم بإنضاج فكرته الأولية بحيث ترسم من خلال تقنية القصة فحدثت لها عملية إجهاض . الثاني: وقوف هذه المحاولات بين الغنائية والتشكيل الموضوعي القصصي، بسبب أفكار الكاتب المتأثرة بتيارات معينة في الأدب الفرنسي .
ثانياً ــ‏ في حالة تشكيل القصة فنياً نجد تحول شخصياتها إلى خطوط مجردة تعيش في بيئة غير بيئتنا وتتنفس هواء غير هوائنا . الكاتب لا تملكه رغبة ملحة في تجسيد تجربة شعبه وأرضه .
ثالثاً ــ ‏ بهذا يقف الكاتب على العكس من المدارس الواقعية بمختلف تشكيلاتها، فهو لا يقوم باكتشاف واقعه وقوانين تطور هذا الواقع، بل ينفصل عنه، فلا نجد «الإنسان» في قصصه لأنه ينطلق من التعالي على الواقع الذي يشكله .
رابعاً ــ‏ تعويضاً عن افتقار المضمون إلى حرارة الواقع والحياة تتركز ابداعات القاص في استخدام وسائل تكنيكية عديدة، ومعظم هذه الاستخدامات تأتي غير مصهورة في البنية القصصية .
خامساً ‏ــ أن ثمة تبعية في الموقف من الثقافة الغربية وعالم الكاتب الفني يحتاج إلى موقف نقدي تجاه هذه الثقافة كشرط أساسي لتطوره . وما دامت هذه التبعية ملازمة له فسيكون بعيداً عن الواقعية، سواء كانت نقدية أم اشتراكية، قديمة أم حديثة، لأن الواقعية تعني اكتشاف القوانين الموضوعية لتطور بلده وشعبه، وليس في نقل النتاج الثقافي الغربي وشكليته المتغيرة دوماً تعبيراً عن أزمة مغايرة لواقعنا وتطورنا وثقافتنا.
هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق.

عبدالله خليفة عالم قاسم حداد الشعري : كلمة الغلاف

عالم قاسم حداد الشعري : كلمة الغلاف

في الدواوين الجديدة الصادرة في الثمانينيات بعد الخروج من السجن، تنقطع التجرية للعقد الماضي، على نحو متقطع متداخل مركب، فقد أخذت ما تسمى بـ(قصيدة النثر) المساحة الأكبر إن لم تكن الكلية، فيما تراجعت قصيدة التفعيلة التي ارتبطت بالوهج الأساسي للشاعر، خاصة مرحلة الغضب والثورة، والتي اتسمت بوعي حاد في المراحل الأولى فأما النار أو الرماد، أي رفض جدلية الأشياء، لينتقل الشاعر إلى وعي هادئ وعميق وهذه مثلته دواوين مرحلة السجن المدروسة سابقاً، بحيث غدت تلك هي الفترة الأخصب والأكثر حرارة، والصادرة عن توهج، في حين إن المرحلة التالية تتكون في ظل إشتغال عقلي تأملي عامة، تدفعها قدرة مستمرة على الكتابة، لكن تلك الحرارة المتوهجة تظهر بين عمل وآخر وتسيطر مسحة التأمل والهدوء.

وحتى لو أن قصيدة النثر بدأت من قلب الحب والقيامة فإن الديوانين تشكلا في ظلِ زمنيةِ المعاناة الساخنة، وفي ظل وعي بطولي بالحياة، والعلاقة مع الذات الجماعية، طليعة التغيير موجودة بعض التواجد، لكن بعض دواوين الثمانينيات وما بعدها تشكلت في حياة جديدة، تم الخروج فيها إلى الحياة العادية، وقد تغير البناءُ الاجتماعي الفقير بشدة إلى بناء تحققت فيه معدلات معيشة جيدة خاصة للفئات الوسطى والصغيرة التي تنامت مع تحول الجهاز البيروقراطي الحكومي إلى الحوت الأكبر الملتهم للدخل العام، وعبر تصعيد الفساد ودهس القوى التحديثية المعارضة وفتح الأبواب للجماعات المذهبية السياسية تشتغلُ بحرية، وقد توجه قاسم حداد من ظلمة ومعاناة السجن إلى الجهاز الإعلامي الحكومي، فمن النقيض إلى النقيض، من رسالة الثورة الآنية إلى العمل في الحكومة المراد سابقاً هدمها، وهذا التغير قاد إلى التحول من مناخ شعري تصادمي صراعي إلى موقف صراعي بعيد المدى يتسمُ بخلقِ تراكميةٍ ثقافية تنويرية وبالبعد عن كتابة الصراع الساخن السابقة، وكان موقف قاسم دقيقاً في تلك المرحلة الشمولية الكاسحة، فهو قد أُنهك من عالم السجن صحياً ونفسياً وتعبت عائلتهُ من العسف غير المبرر، لكنه كسب من السجن أفضل أعماله الشعرية وكون له رصيداً أدبياً لامعاً في الساحة العربية.

وبهذا فإنه في الخلق الأدبي لم يتهالك ساقطاً نافخاً في سلطة أضطهدته، ولم يتحول إلى إدانةِ جماعتهِ بل ركزَّ على الخلق الأدبي والثقافي سواء عبر العمل الثقافي الإداري من خلال عضويته في أسرة الأدباء والكتاب أو من خلال رئاسته لمجلة (كلمات) أو من حركته الثقافية العامة، وأساساً باشتغاله على تجربته الشعرية يواصل في رفدها بالجديد، وينتقل في مواقف عديدة من ثورة الشكل إلى التطور الداخلي المتعدد الأبعاد.

وهذا الموقف الصعب كان لا بد أن يركز على الشكل إلى اقصى انقطاعاته عن تحليل الصراع الطبقي شعرياً، إلى درجة (الثورة) التي تغدو شكلاً تعويضياً عن ثورة لم تتحقق على صعيد النضال الواقعي، وهي ثورة شكلانية لا تضر السلطة الشمولية بل على العكس تريحها، لأنها توجه الثقافة بعيداً عن عمليات الحفر في البناء الاجتماعي النخر.

وفي هذه الفترة الانتقالية لم يشغلهُ ما يجري من عمليات صراع بقدر ما يركز على أدواته الشكلية التي يتصور إن في التوغل فيها إلى اقصى مدى أمر يحقق العملية الثورية الأدبية.

وفي أحيانٍ عديدة يفلت من رقابة الشكل الصارمة وينساحُ في نقد دلالالي ساخن، ويبحث للشعر عن فتحات للهجوم، لكن المناخ التجريدي مسيطر، والعلاقة بجمر الصراع والثورة تباعدت، وهي العلاقة المؤسسة، فراح النثرُ الهادئ ينتشر باتساع والمخيلة تتوجه لحفريات ذاتية – جمالية.

كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

القدس في عيني – سلمان زيمان

سلمان زيمان:
مطلوب منا في أجراس ان نقوم بنشاط واسع تلحيناً واتصالاً
كلنا موظفون غير متفرغين للغناء والتلحين!
نريد صالات وأستوديوهات غير مكلفة
كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

نافذة
ليست الأغاني التي تخلقها «أجراس» سوى الأغاني والموسيقى الجميلة التي نحتاجها .انها اغانٍ ليست ذات علاقة مباشرة بالهواجس السياسية والصراخ الاجتماعي، لكنها تتجه عميقا الى هواجس الروح.
ما هو الخط الذي فجره «جندول» محمد عبدالوهاب وامتد إلى الشجن النوبي عند محمد منير، أليس هو اغنية الحب المريرة، تلك الأغنية التي تتوحد بالطبيعة، بالذات. بالجراح العميقة للنفس؟
لسنا بحاجة إلى أغنيات تخفف وجبات العشاء الثقيلة، وتتوحد مع برامج مكافحة السمنة. ولا الى أصابع تدغدغ الحواس العابرة.
فماذا بقى من الأغنيات التي ذابت خارج النهر الخالد، وطارت مع الهزات الخفيفة، ولم تصل أبدا الى
قاع الألم والأمل؟.
هناك قائمة كبيرة من المطربين مستعدة للنقوط، لكن من هو مستعد للوصول الى مشاعر عميقة؟ والتحليق؟.
يتوحد خليفة زيمان بالشابي ويهتف : «هاتها. فالظلام حولي كثيف، وضباب الاسى منيخ علّي».
هذا ياس مرير، ولكن لا نستطيع أن ننكر هذا الظلام المتراكم فوقنا، ولابد ان نسمح لمشاعرنا أن تعبر عنه؛ وتعبره.. وكأن كلمة «هاتها» دعوة لا للغرق. بل لنشوة روحية، سامية، تصعد فوق الجراح وتكبر.
وحين تغني هدى عبدالله لأزقة المحرق المعتمة، والحزن فيها، والحب المتلاشي، فكأن المدينة كلها تضاء بصوت هدى الأخاذ، النوراني، المتغلغل في الحس عميقا، وكانه ينسج من جديد اغنية حب لا تموت.
ولكن الفرح مساحته، ولدبيب الأقدام الراقصة فوق الشواطئ مكانها، ولإيقاعات النشوة والمرح تلويناتها المتفجرة، وبقعها المضيئة أبداً..
ع.خ.

مرت على تكوين فرقة «أجراس» عشر سنوات؛ وفي خلال هذه السنوات العشر قامت الفرقة بإنتاج العديد من الاشرطة؛ وخلقت في منطقة الخليج اغنية جميلة ذات طابع جديد، مختلف، راق، عميقة ‎التعبير عن مشاعر الإنسان، ملونة الإيقاعات. وقد أثارت التجربة الكثير من الجدل الخصب والحوار. في إحدى بروفاتها، أجرينا الحوار مع سلمان زيمان.

جديد أجراس
عبدالله خليفة: ما هو جديد اجراس؟
سلمان زيمان: جديد أجراس فيه «انطباعات موسيقية» من تأليف الاستاذ مجيد مرهون وخليفة زيمان. وهي مجموعات من المقطوعات. كذلك سوف تسمع الناس مجموعة من الأغاني الجديدة؛ مثل اغنية من تأليف ابراهيم بوهندي وقد تمت دراستنا لمجموعة من القصائد لأكثر من شاعر محلي وعربي مثل ابراهيم بوهندي وصلاح عبدالصبور وابوالقاسم الشابي واختيارات مختلفة لشعراء آخرين. اختيار القصائد هو الطور الأول من تنفيذ الأغاني الجديدة.
كذلك من مشاريعنا الجديدة تنفيذ مجموعة من الأغاني الكثيرة، التي تم غناؤها في مهرجانات أجراس السابقة، لكن لم يتم وصولها الى أذن المستمع من خلال شرائط الكاسيت، وهي حوالي خمس وعشرين اغنية أو ثلاثين. وهي أغان لم يتم تنفيذها لمشكلات عديدة مرت كحرب الخليج ومشاكل المنتجين.
نحن اتفقنا الآن مع المنتجين لإخراج هذه الاغاني وتنفيذها في القاهرة والكويت وسوف تظهر على شكل عدة أشرطة؛ فهناك شريط لهدى عبدالله وشريط لي وشريط للفرقة تتخللها الأغاني الجماعية وبعض الاغاني الفردية وهناك شريط لسلوى وشريط لمريم زيمان.

نقص الصالة
عبدالله خليفة: ماذا جرى بشأن المهرجان الذي يعتزمون إحياءه في الأشهر القادمة؟ وماذا تم بشأنه؟
سلمان زيمان: تم تأجيل المهرجان لأسباب تتعلق بتنظيم المهرجان، وخاصة عدم وجود الصالة المناسبة. نحن كنا نتوقع أن تكون الصالة قادرة على استيعاب عدد كبير من الجمهور، لكن وجدنا أن الصالة التي اتفقنا عليها، لا تتحمل سوى ‎500 ـ 600 شخص فقط. هذا العدد المحدود هو عدد غير كاف لمهرجان تقيمه أجراس. ويحتمل أن نقيم حفلاً بديلاً عن المهرجان في شهر يونيو، في نفس الصالة ونؤجل المهرجان
المزمع الى ما بعد الصيف.
لقد اتفقنا على ثلاثة حجوزات لهذا الحفل.
عبدالله خليفة: لماذا لا تؤجلون الحفل بحيث تعطون المهرجان حقه؛ ليظهر بصورة مختلفة عن المهرجانات السابقة؟
سلمان زيمان: من ضمن برامجنا أن يكون بين كل مهرجان ومهرجان حفلان نلتقي فيهما مع الجمهور، نؤدي الاغاني بشكل عام سواء كانت قديمة أو جديدة. ولكن المهرجان يظل المناسبة التي نعرض فيها للجمهور اشياءنا الجديدة. خاصة وأن مهرجان هذه السنة يصادف مرور عشر سنوات على ميلاد الفرقة. فأردنا أن يكون لقاؤنا بالجمهور متميزاً.

تقييم للانتاج

عبدالله خليفة: كيف تقيم الآن نشاط أجراس وعملها بعد العشر السنوات هذه؟
سلمان زيمان: لقد أنجزنا الكثير مما أردنا أن نحققه ولكن يبقى ما لم ننجزه الاكثر والأوسع؛ الذي يظل حلماً نسعى دوماً لإنجازه. والذي نتمنى أن نحققه على أحسن صورة.
أول الأشياء التي حققناها تأكيد استمرارية الفرقة وسط ادغال من الصعوبات.؛ وخلق مجموعة من الموسيقيين تتبنى أعمالاً فنية متجانسة مع ذواتهم؛ وطموحاتهم وعوالمهم النفسية والاجتماعية المختلفة. والظروف التي تحيط بهم. أعتقد أن فرقة أجراس حققت أشياء هامة.

تغيير كبير

عبدالله خليفة: دائما هناك من يقول أن فرقة اجراس لا تزال في نفس مكانها السابق مثلما بدأت؛ وان الكلمات التي اختارتها أول ما ظهرت هي نفسها الكلمات التي تواصل اختيارها، وان الالحان هي ذاتها التي تمتاز الإيقاع البطيء..
سلمان زيمان: أنا أتصور أن فرقة «اجراس» تغيرت بشكل كبير وواسع. هناك أشياء كثيرة تطورت. ولولا هذا التطور لانتهت. من يقول أن الأغاني ليس فيها تغيير. ولا تحمل شيئا مختلفا أو أن الايقاع بطيء.. تحكم رأيه أسباب عديدة، من ضمنها كما اتصور ان انتاجنا متقطع؛ فآخر شريط أنزلناه في السوق كان لهدى عبدالله سنة 89، والان مضت أربع سنوات. وفي خلال هذه السنوات الأربع تم تقديم أعمال كثيرة لأجراس، لم تنفذ ولم تصل الى المستمع بشكل جيد. إنه لم يسمع هذه الاغاني إلا في ليالي المهرجانات القليلة، بالتالي فإن احساسه بهذه الاغاني، ورأيه فيها، سيكون محدوداً. كما أن المهرجانات لم تستوعب إلا الفين، ويبقى الجمهور الواسع خارج الصالة. لا يعلم ولم يسمع هذه الاغاني ويتذوق تطورها. من جانب آخر، فلا شك أن لدينا اسلوبنا في الاغاني، واختيار كلماتنا، وأنا أعتقد أن القصائد التي نغنيها جيدة؛ وينبغي علينا المحافظة على هذه الاختيارات الشعرية الجميلة، وتوسيعها وتطويرها. ولا نتدنى وننحدر إلى مستويات أخرى.

نمط جديد

عبدالله خليفة: هل تعتقد ان مثل هذه الكلمات، ومثل هذه الالحان. وسط الذوق الجماهيري المتدني نسبيا، وانتم تغنون القصيدة الراقية، الكلمة الشعرية، ذات اللحن المختلف .. هل هذا النمط؛ في رأيك، يستطيع أن يخلق جمهوره الخاص، وان يوسع علاقته بالجمهور..
سلمان زيمان: اعتقد ان الايام القادمة لهذا النمط من الاغنية. فمستوى التعليم والوعي المتجه للتطور. ينعكس باستمرار على تذوقه الغنائي والفني بشكل عام. والواضح أن الناس تتجه أكثر نحو التطور المعرفي والتعليمي، ولابد ذوقها ومداركها سيتغير أيضا، ولن تقبل الاغاني الادنى من ذوقها ومستواها.
من جانب آخر. فإن العالم يتجه الى الترابط اكثر. وعالمنا العربي ومنطقتنا تتجه إلى الوحدة. وأهم ما يوحدنا هو اللغة العربية. ولهذا فإن اختياراتنا، التي يكون الجزء الكبير منها باللغة العربية الفصحى،
ساهمت في تكوين جمهور لنا في الوطن العربي.
المطلوب منا كفرقة، في أجراس، أن نقوم بنشاط أكبر، سواء في عملية التلحين او التواصل مع الجمهور. هذا هو الذي سوف يخلق التذوق الاوسم لأغانينا بين الناس.
عبدالله خليفة: هناك كما تلاحظ عقبات عديدة لتطور الفرقة. لعل بعضها عقبات خارجية؛ وأخرى داخلية..؟
سلمان زيمان: أهم هذه العقبات عدم التفرغ. فمعظم الأعضاء موظفون، ويبقى النشاط الذي نقوم به هو نشاط في أوقات الفراغ؛ وكثير من الايام تمضي بناء دون أن يجد الملحن الوقت الكافي لكي يجلس مع نفس ويلحن، ويؤلف. هذه المسألة حساسة جداً، فتجد بيننا من يعمل في مجال التدريس، صحيح انه يدرس الموسيقى، لكن ذلك أيضاً بعيد كثيراً عن التفرغ للإبداع في الموسيقى.
خذ مثلا : محمد باقرى يعمل منذ الصباح الى الظهر، ثم يذهب للعمل في مركز سلمان إلى المساء فماذا يبقى منه للتأليف والإنتاج؟ الوقت عامل أساسي خاصة للمؤلفين الموسيقيين الذين ينتجون ويبدعون.

هذه مشكلتنا
عبدالله خليفة: وهذه المشكلة تتطبق عليك وعلى خليفة زيمان ..؟
سلمان زيمان: بالضبط. هذه مشكلتنا. نحن نتمنى أن تتوفر صالات خاصة للقيام بأعمال موسيقية، وفنية، وأن تكون مخصصة المهرجانات. أن تكون صالحة. فنحن نريد بقدر الإمكان الابتعاد عن الفنادق. لكن نجد أنفسنا مضطرين في النهاية لكي نعود الى الفنادق.
فالصالات خارج الفنادق تنقصها ميزات مختلفة كالميزات الصوتية أو الهندسية التي تنعكس على الصوت، كالصدى الذي يحدث في الصالات الرياضية؛ أو محدودية المقاعد، أو الصالات المفتوحة في الهواء الطلق، ذات السلبيات والايجابيات المختلفة. كذلك من الصعوبات عدم وجود استديو يوفر الخدمات الفنية بشكل معقول، فالأستوديوهات الحالية غالية التسجيل، ولا توجد فرق موسيقية محلية.
ونحن لدينا مقر ولكن نطمح في تطويره مستقبلا.
عبدالله خليفة: كيف تقيم تطور الفرقة من حيث التطور الموسيقي واستخدام الكلمة، ولماذا التركيز على الكلمة الرومانسية؟
سلمان زيمان: اختيارات القصائد والتفاعل معها هو حق مطلق للفنان الملحن، او المؤلف الموسيقي نفسه. حين يتفاعل مع قصيدة معينة؛ مهما كانت هذه القصيدة؛ مهما كان نوعها ومفرداتها، فإنه يقوم بتلحينها بتفاعل ذاتي، بغض النظر عن أن تغنى هذه الاغنية في الفرقة أم لا. حين يعرضها على الفرقة يتم تبنيها إذا كانت صالحة لتمثيل المجموعة. صحيح إن معظم كلمات الاغاني ذات طبيعة رومانسية، لكن هذا يعكس نوعية الفنان الذي قام باختيار وتلحين القصيدة. إذا كانت القصيدة حزينة لو فرحة أو متفائلة وغير ذلك من السمات، فإنها بالتالي تعبير عن صاحب الاغنية. ولا يوجد هنا افتعال.
عبدالله خليفة: يمكن أن يتم الاتجاه كذلك الى قصائد مرحة أو ساخرة؛ مثل أغنيات فيروز أو مارسيل خليفة حين تدور الأغنية حول حواريات تجريها امرأة الشارع أو نداءات الباعة أو غير ذلك من الاغاني ذات الطابع الشعبي والعاطفي المرح..
حيث تضفي سخرية وجمالية خاصة..؟
سلمان زيمان: هذا من ضمن الطموح؛ نحن حاولنا تغيير بعض الانماط لدينا. مثل اغنية «يا ابوالفعايل يا ولد» التي ظهرت في المهرجان الاخير، التي كانت فيها روح انفعالية ومرحة. رغم ما في كلماتها من تحد للظروف الحياتية الصعبة؛ وهي نشيد للفخر بالإنسان الذي يعمل ويصنع العجب.
أو مثل اغنية «لم تمت في اغاني فمازلت اغني» التي تجسد الأمل والقوة. وكلمات مثل:
ما سكت حس النشامى / ولا سكت حس اليهال / وما غرقت كل المنامة، الخ.. نحن نحاول أن ننمو بالأغنية تجاه التفاعل مع الحياة والمستقبل بأمل. كذلك نحن استطعنا أن نلون في ايقاعاتنا استخدمنا إيقاعات مختلفة، ايقاعات شعبية، مثل «الصوت» و«الفجري» و«الليوه» «والطنبورة». ؛ «البستة».
وايضاً استطعنا أن نستعمل أكثر من إيقاع من الإيقاعات العربية كإيقاع المعمودي الكبير، وايقاع الموشح. إضافة إلى استخدام الإيقاعات العالمية كالرومبا والسامبا .
هناك تلوين معقول في كلماتنا وايقاعاتنا، ولم يظهر هذا إلا عبر تطور عملنا المستمر.
الاضواء 20 يونيو 1992

ذكرى مرور 9 سنوات على رحيله : عبدالله خليفة.. كم أثـرت في حياتي!

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

إضاءة لذاكرة البحرين

أنت لا تستطيع أن تصنع العقول والأرواح كلُّ إنسان له خياراته وقدراته

#عبدالله_خليفة

العنفُ مبررٌ ضد الصهيونية

لم تتشكل تجربة حضارية ديمقراطية كبرى راسخة عميقة متوارثة لدى قبائل اليهود المشتتة عبر خرائط الأرض. ثمة قدراتٌ فذةٌ تراكمتْ في مجال العلاقات التجارية والنقدية، فنجد القبائل اليهودية وهي تخرجُ من أحضانِ التجمعاتِ القرابية المتماسكة المنغلقة لا تندمجُ بالمجتمعاتِ الحضارية شبهِ الرأسمالية وشبهِ الديمقراطية في المدن والدول التي تنزحُ إليها.
وسواءً كان ذلك بنزوحِ القبائل من فلسطين إلى مصر أو إلى بابل، فإن التجمعَ التحديثي شبه الرأسمالي أو المُـقاربِ للحداثةِ في ذلك الزمن، يبقى منعزلاً عن الاندماج. إن القبليةَ الدموية السلالية تبقى مهيمنةً على العلاقاتِ الماليةِ البضائعية، وتعيدُ فوائضَها إلى أحضانِ الجماعة القبلية – الدينية المتماسكة.
هناك جوانبٌ عقيدية تتأس من البذور الأسرية والقبلية، برفضِ الاندماج مع (الأغيار). فهناك اليهودُ وهناك الأغيار. ولا مجالَ للخلطِ والاختلاط والتداخل والنمو المشترك. ومن هنا تغدو العقيدة مشبعة بالتفاصيل الخاصة المميزة؛ في رسم الوجود، في ذكر السلالة والأنبياء والحكايات الحقيقية والخيالية والمحرمات والطقوس، لكي تبقى القبيلة – الشعب، في وصاية الكهنة.
لعل بعض الاختراقات المحدودة أو الواسعة تمت لهذه العرقية الزرقاء، المتعالية فوق الشعوب، ولا يعقل أطلاقاً أن يحتفظ أي عرقٍ بنقائهِ الأبدي.
ونلاحظُ هذه العقيدةَ بعدمِ الاندماج مع الأغيارِ حتى في الرمزياتِ القصصيةِ المقدسة للأديان، فالقائدُ اليهودي يتاجر ويجمعُ ثروةً ويصلُ لمنصبٍ كبيرٍ في الدولة، لكنه لا يختلطُ بالخاصةِ أو العامة الأهلية في البلد الذي ارتفع فيه من الحضيض لذروة عالية، والعلاقة الأسرية تقومُ على استدعاء أهله، وجلبهم للبلد الغريب، ويرفضُ العلاقةَ الجنسيةَ الانصهاريةَ مع هؤلاء الذين احتضنوه!
إن تجميعَ المال بصورةٍ مقترة متراكمة، والعيش في القواقعِ الاجتماعية أو الزرائبِ السياسية، والتمدد المستمر نحو عروقِ الذهب والفضة، نحو الأمكنة التي تتفجر فيها الثروات هي خصائص البقاء والصعود الاجتماعيين.
وكذلك الحفاظ على القرابية لكونها تحتفظُ بتراكمِ رأس المال، والاختلاط مع الأغيارِ يزيلُ ليس الدم النقي بل عروق الذهب التي تشتهي أن تصيرَ جبالاً!
لقد كان الترحالُ الأوليُّ في التاريخِ المبكرِ للقبائل الشديدة المحافظة بحثاً عن موقعٍ خصبٍ بعيد عن سنابك الإمبراطوريات الداهسة لها، وكان حلمُ النهرِ الخصب والأرض الخضراء هو الجنة الأرضية التي تريدها.
لكنها في ذلك الموقع، في أرضِ فلسطين نفسها، الجنة الموعودة، حلم
الأجداد والآباء، رأتْ الكوارثَ الساحقة لها.
مرة أخرى حافظتْ على مصارعةِ الأغيار، ورفضِ الاندماج بالشعوب، ورفض تقاليدها وميراثها، وفي العمقِ كان هناك توظيفٌ لذلك التراث واستلاله من نسيجهِ المغاير، والتزاوج الخفي والاختلاط غير المكتوب في سيرة القبيلة – الشعب الذهبية النقية.
هذا التاريخُ الانفصالي الصراعي مع الشعوب ربما تضَخمَّ وتوسع كثيراً في مملكةِ الخزر، الواقعة قرب بحر قزوين، هذه التجربة اليهودية التي حاولتْ الإدماج في شعوب الشرق وتنامت في التاريخ بشكلٍ كبيرٍ ومتحضر، لكن الخلايا السرطانية كانت موجودة كذلك.
في هذه التجربةِ التاريخيةِ الكبيرة نجدُ أن القياداتِ اليهوديةَ لم تستطعْ أن تستثمرَ هذا الموقعَ ومواردَهُ الكبيرةَ والشعوبَ الخام التي كانت تقدم قوى عملٍ ضخمة، بسببِ عدم قدرتها على خلقِ نسيجٍ توحيدي عقائدي أو ثقافي منفتح، وفي حين حقق المسلمون ذلك بانفتاحهم على الشعوب الوثنية ودمجها في حضارتهم، تهاوتْ تجربةُ مملكةِ الخزر، يقول باحثٌ عربي ملخصاً هذه التجربة الفريدة:
(ومن المؤكد أن الخزر لم يكونوا عِرقاً واحداً أو ينتموا إلى قبيلة معينة، ولكنهم تجمع سياسي وعسكري من الشعوب والقبائل، وكانت اليهودية التي تجمع دينياً بين قادتهم ونخبهم الحاكمة والمؤثرة، فكان اليهود الخزر ينتمون إلى أعراق وشعوب وقبائل متعددة، فقد كانوا هم أيضاً تجمعاً نخبوياً يشملُ قيادات ونخب الخزر أنفسهم)،(تاريخ يهود الخزر، عرض إبراهيم غرايبة)
إن النخبَ اليهوديةَ لم تكن قادرةً على صهرِ الشعوب التي تحكمها، لغيابِ الفكرة المنفتحة الإنسانية، غير العرقِية، وتقوم الشعوب الأخرى بصهرها فيها.
وهنا يظهرُ العصابُ الأسطوري، تتفجرُ صور فلسطين، الجنةُ الأرضية الصاهرة لما هو مشتت، وتظهرُ مشروعاتُ العودةِ التي تبقي القبيلة الذهبية الغيبية موحَّدةً تحكمُ نفسَها وتطردُ الأغيارَ من بينها.
ويظهر عمق التعصب اليهودي والعقلية الاسطورية من خلال سرقة الموروث المصري والموروث الرافدي الغيبين وترك جوانبهما الموضوعية والإنسانية ونشر هذا التراث الديني الغيبي الاسطوري على شعوب الشرق وخاصة العرب الذين أخذوا هذا الإرث الاسطوري ونشروه بينهم بل وتبنوه !
لقد تم اختيار فلسطين كغيتو كبير يمنع انصهار اليهود في المجتمعات الحديثة، ولهذا فإن عملية النضال التوحيدية بين العرب والإسرائيليين ضد الصهيونية تلاقي الفشل الكبير حتى الآن.
4/8/2014

#عبدالله_خليفة

اليهودُ من التراث إلى الواقع

ظهر اليهودُ والعربُ وبعضُ الأقوام الأخرى في منطقة المشرق كقبائل نازحة بدوية باحثةٍ عن المناطق النهرية الخصبة، لكن ذلك لم يحدثْ في أول النزوح بل بعد مئات السنين.
في حراكِ اليهودِ المتوجهِ نحو البلدان الخصبةِ كانوا في البدءِ قبائل بلا هوية محددة، بل كانوا يشكلون هويتهم، عبر الاحتكاك بالحضارات والأقوام الراسخة في المنطقة، ولهذا كان عبورُهُم المستمرُ الذي أعطاهم فيما بعد اسم العبرانيين، مثلما أعطى العربَ تعبيرهم، يَتسمُ بالبحثِ عن المنافع والخصبِ لكنهم كانوا بداةً غلاظاً.
رؤوساءُ العشائر الكبار اتخذوا لهم أسماء تاريخية وهم: إبرام، وإسحاق ويعقوب.
عبّرَ حراكُ العشائرِ اليهوديةِ عن البحث عن المناطق الفارغةِ من السكان والشعوب الكبيرة مثلهم مثل شعوب كثيرة مترحلة وَجدت في منطقة الأنهار هذه قبلة إقتصادية، ولكنهم دائماً كانوا يجدون الأمكنةَ مليئةً، وأقل الأماكن من الشعوب الكبيرة كانت الصحارى فكانت شمالُ الجزيرة العربية هي الامتدادُ التاريخي لهم. وهي تمضي من جنوب العراق حتى سيناء والصحراء المصرية الشرقية. بل وحتى هذا المكان الكبير الوسع الشظف كان فيه العرب أقرانهم والمتداخلين المتصارعين معهم، والذين انحدورا للجنوب، وهناك العماليق كذلك، أما مناطق الخصب في العراق وفلسطين وسوريا ومصر فكان الدخول فيها عسيراً، وقد تم إقتحامها والصراع مع الكنعانيين في حران وأريحا لكن السيادة والعيش الرغد لم يأتيا.
القلة العددية لمؤسسي العبرانيين فيما بعد، والبداوة، والترحال، وهجمات الأقوام الأخرى، جعلتهم على هامش الحضارات التي قاربوها.
والجثومُ على الحدودِ المصريةِ من قبل هذه القبائل كانت البدايةُ الفعليةُ للتاريخِ اليهودي كما سيُعرفُ لاحقاً. لهذا كان التاريخُ السابقُ المليءُ بشذراتِ القصص هو مجردُ بدايةٍ غامضة، وإفتتاحية شبه مجهولة، وكان تاريخاً غائب الملامح رغم أن التأصيلَ اللاحقَ سوف يضخمه.
لهذا كان ظهورُ النبي موسى واقعياً في المسار التاريخي الحقيقي هنا، فهذه الأقوامُ من الرعاةِ والخدم وأصحاب المهن الدنيا الجاثمة على هامش الدولة المصرية، من الصعب أن يظهرَ فيها مثقفٌ بارزٌ بمستوى موسى، ولهذا كان موسى مصرياً بكلِ شخصه، كما يدلُ عليه اسمهُ وثقافته، أما التهويدُ الطفوليُّ له فقد جاءَ لاحقاً. فهو في اللغةِ المصريةِ القديمة بمعنى(وليد).
وثمة فترةٌ مهمةٌ بين ظهورهِ التاريخي وبين ظهوره الواقعي، حيث كان قد تزوج صفوره ابنة الكاهن في أرض الميدانيين وهي في المنطقة القريبة من التجمع السكاني الكبير للعبريين، وانجب منها ولدين وكَبُرا وتداخلت حياتهما بالحدث التاريخي، مما يُعطي مساحة زمنية للتداخل العميق مع هذه الحشود المهمشة.
وهذا السردُ الذاتي تداخلَ مع التحولاتِ التاريخية على الجانبين المصري والعبري. حيث أن الحضارةَ المصريةَ كانت في حالةِ مخاضٍ متنقلة من الوثنيةِ التعددية الكثيفة إلى التوحيد، وكانت تلك هي لحظة إخناتون التوحيدية الفاشلة، وتوجه موسى للتوحيد ومفارقته أرض مصر وحمل هذه الأقوام لرسالة التوحيد. انهما جانبان وحدا الذاتي والموضوعي، لكن حشود المرويات وألغاز التاريخ والنظريات، كلها تشوشُ هذه اللحظة المركبة المعقدة.
لكن توحيد موسى ورسالته وتحميلها لشعب وثني من قبائل صغيرة فقيرة في خضم إمبراطوريات المشرق، يظل لغزاً كبيراً. لكن الجانبين المتضادين، موسى والعبريين، ظلا يتصارعان، فأن نقل الثقافة المصرية التوحيدية البازغة لقبائل بربرية كانت عملية غير ممكنة عملياً، لكنها غدت مهمة قرون، وقد بدت المرويات الموسوية الموجهة لتثقيف وتديين هذه القبائل غير محبوكة على الجسد القبلي المفتت البدائي الذي ظلتْ الأرضُ الموعودةُ التي تفيضُ لبناً وعسلاً هي الوجهة التي تشده دون سواها.
إن التاريخَ اليهودي يبدأ هنا بإستخدام اسم الإله (يهوه)، إن النبي موسى هو الذي صاغهُ على جسم هذه القبائل ورَكّبَ موادَهُ الشعائرية والعبادية وأنتج بعضَ مواده الفكرية الدينية، لكي تصهرَ الكيان المفَّتتَ في كلٍ موّحد، وجاء اسمُ الإلهِ مفارقاً لإرث القبائل، ولكن الاسم القديم التجسيدي الطالع من ثقافةِ الخصوبة الزراعية الوثنية لم يعد ملائماً، فجاء اسمُ الإلهِ الجديدِ المُجرد، غيرِ المرتبطِ بالموروثِ الزراعي الخصوبي وعاداته، ويحملُ طابعَ القوة والتحدي ويجلجلُ بتراثِ منطقة البراكين لشمال الجزيرة العربية، مما يُعطي شجاعةً لهذه القبائل المُداسة على الشارع العام للأمم، ويدفعها للأرض الموعودة. ومن المؤكد إن إعادة تكوين ديانة أمر يحتاج لوقت طويل. كما أن الأرض الموعودة مليئة بالسكان المدافعين عنها، ولهذا قيل أن ثمة تيهاً قد حدث لأربعين سنة، وهو ليس تهياً بل هو تكون للدين الجديد العام دون إنفصال كلي عن القديم، كما أن ذلك كان عجزاً عن الدخول إلى فلسطين وتراكماً للمواليد وإستعداداً صعباً للغزو!
أدت ظروفُ النشأةِ اليهودية وصغرِ حجمِ السكان وسيطرة رجال دين غرباء على العبرانيين، إلى حكمٍ سياسي مفكك، فاللاويون وهم رجالُ الدين المجلوبين من مصر شكلوا طبقةً مسيطرة شبه أجنبية، إستغلتْ السكانَ العاملين حتى إنتفضوا عليها وإستبدلوها بعصرِ الملوك الذي لم يكن أفضل.
مثّل طابعُ الدينِ اليهودي أولَ حكم ديني عميق الاستبداد، يمركزُ قوة سكانية صغيرة محدودة المعرفة والجذور في المنطقة في مواجهة شعوب واسعة وثنية، فكان لا بد أن يتوقع بقوة، وفي زمن إنكسار الدولة عبر الغزو العراقي، أتيح لرجال الدين الجدد في بابل أن يعيدوا صياغةَ اليهودية بحيث تتجذر في تراثِ المنطقة الخصوبية بدون أوثانها، فكانت إعادةُ نظرٍ شاملة مؤدلجة مسيسة إستلهمت التراث المناطقي الواسع الضارب في الجذور عبر مسحة تهويدية قُدمت فيما بعد للعالم المسيحي.
لكن بعد هذا كان زمنُ الشتات، الذي ترسختْ فيه القوقعةُ الدينيةُ لدرجة العصاب اليومي، وكل هذا العصاب يجري من أجل العودة لفلسطين الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، أرض الأجداد والتاريخ(العظيم) الذي زُخرف وبُولغ في عظمته وبطولاته.
التقوقعُ خلقَ رغبةً عارمة في تشكيل وطن قومي ديني، مفارق للبشرية، أتاحته القدرة اليهودية في تكوين رأس المال، لكن حين ظهر الوطن ظهر كقوقعة محصنة معادية للمحيط، وبقاؤه ك(جيتو) كان لا بد أن يهيمن عليه رجالُ الدين المتعصبين المنتجين لهذا المجتمع عبر عدة آلاف سنة، فكان لا يمكن أن يكون علمانياً، وأن يغدو ديمقراطياً يقبل بتنوع المواطنين الديني.
ونظراً لنشأته العسكرية فإنه إعادَ إنتاجَ نفس موديل الزمن القديم، حيث الهيمنة العسكرية- الدينية المتداخلة، وهذا هو ذات التركيب للمجتمعات المتعصبة والفاشية، حيث العرق أو المذهب هو المحدِّدُ لتكوين الدولة الإلهية أو الطائفة المنصورة.
لكن الإنشاء من قبل الرأسمال الكبير المتكون في ذروة الغرب كرّسَ من الخارج شكلاً حداثياً متطوراً، وهو بناءٌ إقتصادي متطورٌ لكن عبر شكلٍ سياسي إيديولوجي يعودُ لقرون غابرة ويفرضُ نفسَهُ بهذا التسلط التراثي المرعب، فالمضمونُ لم يغير الشكل والشكلُ يخربُ المضمون. وكأن الرأسمالَ الأمريكي عادَ لبيتِ أيل ويغتسلُ تحت مطر إلهِ البراكين.
الطابعُ العسكري الديني المحافظ العنيفُ المكرّسُ في الماضي والحاضر، وسببُ خرابِ الحكم القديم هو نفسه يزعزعُ إسرائيل المعاصرة، حيث قاد ويقود لتكاليف رهيبةٍ على كل جبهات النزاع فلم يؤدِ التطور الاقتصادي لرفاهية السكان المنتظرة، ولم تغدُ أرضُ الحلم التي تفيضُ عسلاً ولبناً، بل هي أرضُ الحروب والخصومات المستمرة، وإرتفاع تكاليف المعيشة بحيث أن ثمن شقة في يافا يصل إلى مائة وخمسين ألفاً من الدولارت.
التقوقع الداخلي الذي لم تهزمه الحداثة والديمقراطية، ما زال مصراً على الأنا المطلقة المتحدثة مع الإلهِ وحيدةً دون الأغيار، لكن الصراعات الاجتماعية ومطالب الأغلبية العاملة تكسرُ جزءً من هذا الإنكفاء التاريخي، وها هي تثور مثل العرب سكان العالم الثالث، تطالبُ بأقل بكثير من تلك الأرض الحلم، تطالب بالإسكان وتخفيض الأسعار.
ويتضح النهجُ اليميني المتطرف أكثر في عدم القبول بالعيش المشترك مع الفلسطينيين في دولةٍ علمانية واحدة أو في بلدين منفصلين، وتحميل الفلسطينيين تكاليف الأزمة الاجتماعية الناشئة من سلسلة طويلة من الحروب بتوسيع المستعمرات وحصار غزة.
ولم يستطع التكون الحداثي أن يفرض تحولاً في هذه الثقافة الدينية الرجعية المتكلسة بل هي التي تخترقُ التيارات الحداثية الظاهرية وتحيلها لأشكال أخرى من المقاربة الدينية.
فكلما كانت التربية المحافظة مسيطرة منذ الطفولة في أشكال حادة عصابية فإنها تحيلُ المواطنَ الحداثي إلى كائنٍ يعودُ يومياً لعصور الهامشية على حدود مصر ويمضي (التيه) في سيناء ويعيشُ الكراهيةَ الدائمة للأمم الأجنبية. ولهذا فإن اليسار الحكومي يشترك مع اليمين الديني المتطرف في حكومة واحدة تغتصبُ الأرضَ وتحيل الاقتصاد إلى إقتصاد عسكري يقع عبئهُ على السكان الذين لا يجدون قوة سياسية كبيرة ترفض إقتصاد الحرب ودولة الدين العسكرية.

#عبدالله_خليفة

اليهودية كدكتاتورية شرقية

لم تتشكل تجربة حضارية ديمقراطية كبرى راسخة عميقة متوارثة لدى قبائل اليهود المشتتة عبر خرائط الأرض. ثمة قدراتٌ فذةٌ تراكمتْ في مجال العلاقات التجارية والنقدية، فنجد القبائل اليهودية وهي تخرجُ من أحضانِ التجمعاتِ القرابية المتماسكة المنغلقة لا تندمجُ بالمجتمعاتِ الحضارية شبهِ الرأسمالية وشبهِ الديمقراطية في المدن والدول التي تنزحُ إليها.
وسواءً كان ذلك بنزوحِ القبائل من فلسطين إلى مصر أو إلى بابل، فإن التجمعَ التحديثي شبه الرأسمالي أو المُـقاربِ للحداثةِ في ذلك الزمن، يبقى منعزلاً عن الإندماج. إن القبليةَ الدموية السلالية تبقى مهيمنةً على العلاقاتِ الماليةِ البضائعية، وتعيدُ فوائضَها إلى أحضانِ الجماعة القبلية – الدينية المتماسكة.
هناك جوانبٌ عقيدية تتأس من البذور الأسرية والقبلية، برفضِ الإندماجِ مع (الأغيار). فهناك اليهودُ وهناك الأغيار. ولا مجالَ للخلطِ والأختلاط والتداخل والنمو المشترك. ومن هنا تغدو العقيدة مشبعة بالتفاصيل الخاصة المميزة؛ في رسم الوجود، في ذكر السلالة والأنبياء والحكايات الحقيقية والخيالية والمحرمات والطقوس، لكي تبقى القبيلة – الشعب، في وصاية الكهنة.
لعل بعض الاختراقات المحدودة أو الواسعة تمت لهذه العرقية الزرقاء، المتعالية فوق الشعوب، ولا يعقل أطلاقاً أن يحتفظ أي عرقٍ بنقائهِ الأبدي.
ونلاحظُ هذه العقيدةَ بعدمِ الإندماجِ مع الأغيارِ حتى في الرمزياتِ القصصيةِ المقدسة للأديان، فالقائدُ اليهودي يتاجر ويجمعُ ثروةً ويصلُ لمنصبٍ كبيرٍ في الدولة، لكنه لا يختلطُ بالخاصةِ أو العامة الأهلية في البلد الذي إرتفعَ فيه من الحضيض لذروة عالية، والعلاقة الأسرية تقومُ على إستدعاءِ أهله، وجلبهم للبلد الغريب، ويرفضُ العلاقةَ الجنسيةَ الانصهاريةَ مع هؤلاء الذين إحتضنوه!
إن تجميعَ المال بصورةٍ مقترة متراكمة، والعيش في القواقعِ الاجتماعية أو الزرائبِ السياسية، والتمدد المستمر نحو عروقِ الذهب والفضة، نحو الأمكنة التي تتفجر فيها الثروات هي خصائص البقاء والصعود الاجتماعيين.
وكذلك الحفاظ على القرائبية لكونها تحتفظُ بتراكمِ رأس المال، والأختلاطُ مع الأغيارِ يزيلُ ليس الدم النقي بل عروق الذهب التي تشتهي أن تصيرَ جبالاً!
في التبعثر الشرقي لليهود يُلاحظ هذا السكن القريب من الأسواق، والتواجد في المدن، لكن أبداً لا يحدث ذوبان، ولا تقومُ المدنُ بإعادةِ تفكيكِ القبيلة، ولا تتحول إلى فئات وسطى ضمن طبقة برجوازية حداثية، تقومُ بتغييرِ بلدٍ ما.
إن الفئات اليهودية المالية تنسحبُ من عملياتِ التوحدِ الديمقراطي سواءً كانت الوطنية التحررية أو الرأسمالية الديمقراطية الصاهرة لكلِ دينٍ وطائفةٍ في كل إجتماعي موحد.
وهناك عناصرٌ ديمقراطيةٌ وإنسانيةٌ يهوديةٌ عديدةٌ وهامةٌ وملفتة للنظر بتاريخِها النضالي أو العلمي أو الثقافي، لكنها تبقى مجردَ عناصرَ فرديةٍ غيرِ قادرةٍ على تحويلِ مجموع القبيلة – الدينية – المالية، فلا هي منتجةٌ لوعيٍّ يهودي ديمقراطي إنساني كلي، ولا هي قادرة على الصمود بفرديتِها المميزةِ داخل عالم القبيلة المالية المتقوقعة. فتُهزمُ أو تتبنى ديناً آخر أو فكرةً مغايرة، أو تعيشُ منعزلة.
بطبيعة الحال لعبَ الموقعُ الذي إنبثقَ منه اليهودُ وهو فلسطين في خلقِ ذاكرةِ التجمعِ الخيالية الأسطورية والواقعية عبر تاريخ الشتات، كرمزيةٍ للبقاء الموحد.
لقد كان الترحالُ الأوليُّ في التاريخِ المبكرِ للقبائل الشديدة المحافظة بحثاً عن موقعٍ خصبٍ بعيد عن سنابك الإمبراطوريات الداهسة لها، وكان حلمُ النهرِ الخصب والأرض الخضراء هو الجنة الأرضية التي تريدها.
لكنها في ذلك الموقع، في أرضِ فلسطين نفسها، الجنة الموعودة، حلم الأجداد والآباء، رأتْ الكوارثَ الساحقة لها!
مرة أخرى حافظتْ على مصارعةِ الأغيار، ورفضِ الإندماج بالشعوب، ورفض تقاليدها وميراثها، وفي العمقِ كان هناك توظيفٌ لذلك التراث وإستلالهِ من نسيجهِ المغاير، والتزواج الخفي والإختلاط غير المكتوب في سيرة القبيلة – الشعب الذهبية النقية.
هذا التاريخُ الإنفصالي الصراعي مع الشعوب ربما تضَخمَّ وتوسع كثيراً في مملكةِ الخزر، الواقعة قرب بحر قزوين، هذه التجربة اليهودية التي حاولتْ الإندماجَ في شعوب الشرق وتنامت في التاريخ بشكلٍ كبيرٍ ومتحضر، لكن الخلايا السرطانية كانت موجودة كذلك.
في هذه التجربةِ التاريخيةِ الكبيرة نجدُ إن القياداتِ اليهوديةَ لم تستطعْ أن تستثمرَ هذا الموقعَ ومواردَهُ الكبيرةَ والشعوبَ الخام التي كانت تقدم قوى عملٍ ضخمة، بسببِ عدم قدرتها على خلقِ نسيجٍ توحيدي عقائدي أو ثقافي منفتح، وفي حين حقق المسلمون ذلك بإنفتاحهم على الشعوب الوثنية ودمجها في حضارتهم، تهاوتْ تجربةُ مملكةِ الخزر، يقول باحثٌ عربي ملخصاً هذه التجربة الفريدة:
(ومن المؤكد أن الخزر لم يكونوا عِرقاً واحداً أو ينتمون إلى قبيلة معينة، ولكنهم تجمع سياسي وعسكري من الشعوب والقبائل، وكانت اليهودية التي تجمع دينياً بين قادتهم ونخبهم الحاكمة والمؤثرة، فكان اليهود الخزر ينتمون إلى أعراق وشعوب وقبائل متعددة، فقد كانوا هم أيضاً تجمعاً نخبوياً يشملُ قيادات ونخب الخزر أنفسهم)،(تاريخ يهود الخزر، عرض إبراهيم غرابية).
إن النخبَ اليهوديةَ لم تكن قادرةً على صهرِ الشعوب التي تحكمها، لغيابِ الفكرة المنفتحة الإنسانية، غير العَرقِية، وتقوم الشعوب الأخرى بصهرها فيها.
وهنا يظهرُ العصابُ الأسطوري، تتفجرُ صور فلسطين، الجنةُ الأرضية الصاهرة لما هو مشتت، وتظهرُ مشروعاتُ العودةِ التي تبقي القبيلة الذهبية الغيبية موحَّدةً تحكمُ نفسَها وتطردُ الأغيارَ من بينها!
لم يستطع اليهودُ بعد إنهيارِ مملكة الخزر أن يشكلوا دولةً أخرى، وقاد إنهيارُ المملكةِ إلى شمِّ روائحِ النقودِ الزكيةِ المنبعثة من خرافِ أوربا المُعَّدةِ للذبحِ الرأسمالي، فكانت الدولةُ العثمانية وغزوها وكان الإستيلاءُ الذي قامت به على أجزاءٍ من شرقِ أوربا، والقبائلُ اليهودية تسيحُ مع حملاتِ العثمانيين المحتاجين دوماً للصرافةِ اليهودية، وكان التغلغلُ والدخولُ في شرايينِ القارةِ – المستقبل، حيث ستصيرُ اليهوديةُ ديناً مالياً لكلِ الشعوب.
هذه القارةُ كان من مصيرِها أن تجعلَ من الرأسماليةِ ديانةً مقدسة، وأن تحولَ اليهودي إلى المواطنِ الأوحدِ النموذجي، وقد صبرَ اليهود في إستغلالِ عروقِ القارةِ الإقطاعية الأوربية المريضةِ مثل إستغلالهم إمبراطورية الرجل المريض العثمانية المفلسة تدريجياً، فكان الذهبُ ينتقلُ من الشرقِ للغرب، فتغلغلوا في عروقِ أوربا وأمتص رأسُ المال الربوي اليهودي عروقَ الناس والفلاحين المعدمين وحولها إلى مانيفاكتورات ومشاغلَ ومصانعَ وبنوك!
إن الدور التأسيسي للرأسمال الربوي اليهودي في تاريخ أوربا التحديثي كان مهماً بغضِ النظرِ عن الأساطير والوقائعِ الدموية الحقيقية، وسواءً كان ذلك في تاجر البندقية أم في كتاب كفاحي لهتلر، ولكن التجارَ اليهود وهم يشاركون في نهضة أوربا الرأسمالية الحديثة، رفضوا أن يندمجوا فيها، فما زالتْ القبيلةُ الربويةُ الموحَّدةُ ترفضُ أن تذوبَ في الأغيار، وما زالتْ الفوائضُ تعلي من شأنِ القبيلة، الذي صار(غيتو) الآن وهو الحي اليهودي المنعزل عن المدينة القروسطية الأوربية الرأسمالية المتحولة للحداثة والتي تقودُ العالمَ!
وإذا تفككت الأحياء الدينية والقبلية الأخرى فإن الغيتو لم يتفكك، وإذا تفكك إحتفظ سكانه بتقاربهم الديني. إن رؤوساء القبائل والعائلات يخلون المكان أكثر وأكثر للكهنة والسياسيين المؤدلجين للعقيدة.
وقد رفض بإصرار هذا الحي أن يذوبَ في الكل الأوربي الديمقراطي، لقد أعطتهُ الرأسماليةُ الغربيةُ كلَ إمكانيات أن يتفتحَ إستغلالياً وأن تزدهرَ ينابيعُ الفضةِ والذهب من حوله، رغم قيام الرأسمالية المسيحية بإدراكِ الفضائلِ اليهودية الإستغلالية فيما بعد، وأعترافها مؤخراً بأنها قامتْ على هذا الربا اليهودي العريق! لكنه من جانبه رفضَ أن يلغيَّ ذاتَهُ، أن يلغيَّ القبيلةَ – الماليةَ- الرأسمالية الكونيةَ الآن!
هذا التوحدُ تشكلَّ رمزياً تقديسياً منذ العصر الوسيط نفسه، بين المسيحية واليهودية. المسيحيةُ التي حاولتْ أن تجاملَ اليهودية وأن تقولَ أنها جزءٌ من العهدِ القديم(التوراة)، وأنها إمتدادٌ لتاريخِ اليهودِ النضالي المقدس، لم يعترفْ بها اليهود. ويَصعبُ لفئةٍ مجهولةٍ أن تصعدَ إلى مسرحِ الديانةِ المبجلِ بدون أن تكون لها سمعة مشرفة معروفة متجذرة. فالتصقتْ المسيحيةُ باليهودية، وتشكلَّ الكتابُ المقدسُ من جزأين، يهودي ومسيحي، التوارة والأنجيل، السِفر القديم والسِفر الجديد، وكأن القَدرَ المالي قد جمعَ الديانتين في رحلةٍ إستغلالية مشتركةٍ لشعوبِ الأرض، والمسيحيون إذ يشدون أنفسَهم للروابطِ القديمة، وللأساطير التي تم تشكيلها في المشرق العربي، فهم مرابون جددٌ يتحولون لرأسماليين يستغلون العمال والفقراء في أوربا وأمريكا ثم في العالم بأسره، وتشكلتْ مع اليهودية المالية روابطُ المصانع والبنوك، وهي الأساسُ الحديثُ لوحدةِ الكتاب المقدس بجزأيه القديم والجديد.
وفي حين كانت المسيحية تنتقل للعلمانية والدول الموحّدة وتذوبُ الأعراقَ والمذاهبَ في كلٍ موحدٍ وتبعدُ الأديانَ عن أن تكون سياسةً حكوميةً مهيمنةً وتغدو أهلية مهمة كذلك، فتحتفظ بوحدة الطبقة الحاكمة، ولا تبعد الأديانَ عن دورها الإيديولوجي لتخدير عامة الشعب حسب بفهمها، وسواءً كان ذلك على مستوى كل بلد أو على مستوى قارات الغرب الثلاث، لكن كانت اليهوديةُ السياسيةُ متشبثةً بذاتِها العليا ثم تظهرُ بأسم الصهيونية، رافضةً هذا الذوبان.
في التوحدِ الغيبي على مستوى النصوص الدينية ثمة إبقاء للجمهور العامل المسيحي أو اليهودي في ظلماتِ الماضي الجميلة، إبقاءً لما لا تستطيع الرأسماليةُ الحديثةُ أن تحققهُ من أحلامٍ عظيمةٍ في العيش السعيد، فتقدمُ له أساطيرَ عن بناءِ الكون وعن الآباء المؤسسين والأنبياء العظام الذين صنعوا هذه الحضارة المشتركة اليهودية – المسيحية، وتخلق ثقافة مشتركة، ذات ترميز لأهمية القوى العليا الإستغلالية ودورها الوحيد في التاريخ، والتي تغدو مؤسساتها موضع هيمنة وسؤدد وبخور عابق بروائح القداسة، والمرتبطة بالقوى الماروائية الأبدية.
وفيما تدورُ في الواقعِ الأرضي معاركٌ ماليةٌ نجسة، فإن اليهوديةَ لم تعترفْ بكلِ هذه الثقافةِ الأوربيةِ المسيحية، وبمحاولاتِ إلتصاق الأخيرة الملوث بها، خائفةً بشكلٍ متزايدٍ من إبتلاعِها من قبل الديمقراطية المسيحية، وتذويب اليهود في بخور المواطنة المجرد. وفيما كان المسيحيون يقولون إن اليهودَ قتلة المسيح كانوا في ذات الوقت يتمسحون بأذيالهم.
أخذت اليهوديةُ السياسيةُ تستغلُ كلَ أخطاء الديمقراطية الأوربية، خاصة المذابح التي كانت تجري هنا وهناك ضد اليهود. فتطورُ الرأسماليةِ الأوربية في الدول الإقطاعية – خاصة في شرق أوربا – كان يجري على عظامِ المرابين وكنوزِهم المخبأة، مثلما كان خلفاءُ الدولةِ العباسية يجددون الميزانيات المنهوبة من قبلهم، عبر المداهمات لليهود والتجار عموماً.
إن عدمَ إندماجِ اليهوديةِ في المسيحية السياسية المنتصرة لا يعني عدم تأثرها بالحداثة، فثمة مسحةٌ حداثيةٌ جرتْ لها، والكثيرُ من اليهود كانوا عمالاً ودخلوا الأحزاب الاشتراكية والنقابات، وشاركَ الرأسماليون اليهود في صنعِ الحضارة الغربية الرأسمالية في مرحلتها البنكية التوسعية، لكن قوى كبيرة ظلت في الجيتو، ظلت في عالمِ الطقوسِ الدينية وفي التماسكِ الاجتماعي اليهودي الصلد كسورٍ كبيرٍ لمنعِ هجمات القوى الأخرى.
وكانت هجماتُ القوى الأخرى مستمرةً بشراسةٍ ضد اليهود، لأتخاذِهم مبرراً لتفاقم الإستغلال، ولزيادةِ مشكلاتِ الاقتصاد والفقر، فكان البوليسُ القيصري الروسي يقومُ بمذابح لهم، وحولَّ هتلر ذلك العملَ البوليسي الدموي إلى فلسفةٍ مروعة له!
تنصلتْ اليهوديةُ الغربية – الأوربية – الأمريكية من ثمنِ الحداثة الذي لا بد من دفعه داخل صفوفها. فلا هي تستسيغُ بطبيعةِ الحال الأفكارَ الإشتراكية المتصاعدة بحكمِ إهتمامها الكبير بتنامي النقود، وترفضُ بقوةٍ كذلك سحبَ قواعدها العمالية والاجتماعية من وحدانية الشعب الديني المقدس.
وإذا كانت الرأسمالياتُ الغربيةُ مقبولةً بعض الشيء إلا أنها تقوم بتذويب اليهود في هذه العلمانية الاجتماعية المتصاعدة التي تطفئُ الأديانَ والمذاهبَ المتحجرةَ إجتماعياً تدريجياً في ثقافةٍ بشريةٍ ديمقراطيةٍ موضوعية موحدة.
كما أن المجازرَ الرهيبةَ التي حدثتْ في العصر الحديث الأوربي لليهود، خاصةً حمامات الدم في ألمانيا، أعطتها مبرراً لذلك البقاء الموحَّد، وفلسطينُ الأسطورةِ تظهرُ بقوةٍ في زمنِ المجازر وسياساتِ الفشلِ والعجز عن التوحد السياسي في كيان، وهي المتوحدة مع العهدِ القديم الرافض للتاريخ الحديث.
كما أن الصهيونيةَ كحركةٍ سياسية اعتمدت بقوةٍ سياسةَ رفضِ الأغيارِ الدينيةِ العتيقة الأسطورية، كإنقطاعٍ كلي عن البشرية، وعن تدفقِ الديمقراطيةِ الحضارية الكونية التي أخذتْ توحدُ العالم.
وبهذا فإن الهجرةَ إلى فلسطين باتتْ هي الخيارُ من مجملِ التناقضات التي يحياها اليهودُ كقوى منغلقةٍ، عجزتْ في عصرِ الديمقراطيةِ عن الديمقراطية، وحلقتْ بطائرةِ القبيلة الذهبية في أرضِ ما قبل الرأسمالية التحديثية، ما قبل العلمانية، وحطتْ على أجسادِ الفلسطينيين التي إحترقتْ وتفتتْ وتشردتْ من هذا الهبوطِ الأسطوري التحديثي الدموي.
إن روؤساءَ العشائر تراجعوا في خضمِ تحولاتِ اليهود، وتصاعدَ بشكلٍ واسعٍ جداً دورُ رجالِ الدين والسياسيين(الوطنيين)، ثم ظهر على الأرض المقدسة، أرض السلام، الدور الأبرز للجنرالات المهيمنين سفاكي الدماء.
إن العقيدةَ الوطنيةَ الإسرائيلية يكمنُ في قلبِها هذا الإنغلاقُ الجنسي، ذلك الغيتو الذي حَملَ من أزقةِ أوربا إلى المشرق العربي، (الاشتراكيةَ) و(الرأسماليةَ) اللتين هما يهوديتان، فهنا لهما معنيان مغايران، فهنا هما ترضعان كلتاهما من حليب رفض الأغيار والعنصرية، بشكلين متفاوتين كماً.
في التأسيس الأولي الذي أُقيم على إستلهامِ ثقافةِ العدو الهتلري، ظهرتْ المستعمراتُ لتُصَّعد قوةَ العمل عند اليهودي الربوي، فتحولتْ أرضُ المعيادِ لنهضةِ الرأسمالية، والشركات الخاصة.
وصعدتْ إسرائيلُ بقوةٍ خلال عقود ضد حركات التحرر العربية و(الإشتراكية) العالمية لتغدو عملاقاً رأسمالياً صغيراً خارج الغرب، ولتؤدي دور المرابي المناطقي اليهودي البخيل الدموي التابع للرأسمال المسيحي الذي صار أمبرياليةً، وهي تقفُ على علاقاتٍ دكتاتوريةٍ متأرحجةٍ بين رفضِ الأغيارِ وطردِهم وسحقِهم وعزلهم ثم نفيهم، وبين علاقات تعاون بشرية مترددة متقلبة.
إن الشعب – القبيلة المالية التي أوجدتْ لها مكاناً مشتركاً تخافُ باستمرار من التمزقِ، من الذوبانِ في الأغيار، ويصبحُ الفلسطينيون حتى بوجودهم الجسماني المتكاثر مشكلةً كبيرة. إن تجربةَ مملكةِ الخزر تم تجاوزها عبر هذا المشروع، لكن ما زال الأغيارُ يحيطون بالمملكة، ويتغلغلون فيها.
لم تتغلغلْ العلاقاتُ الديمقراطيةُ الإنسانية في الوجودِ الاجتماعي اليهودي العميق ويمثل تحالفُ الحاخامات والجنرالات والشركات البُنى الإستغلالية التي تراكمتْ رساميلُها الماديةُ والثقافية وعلاقاتُها الدولية هيمنةً على العمال اليهود والشعب الفلسطيني، وخوفاً من تفكك هذه السيطرة وتفكك اليهودية الجوهرية المنغلقة في قوقعتها الأبدية.
يقول إسرائيل شاحاك العالمُ الإسرائيلي المناضلُ الديمقراطي في كتابهِ التاريخ اليهودي:(في سنة 1985، اعتمد الكنيست بأغلبية ساحقة، قانوناً دستورياً، يعذرُ المشاركةَ في الانتخابات البرلمانية على كلِ حزبٍ يعارضُ صراحةً في برنامجهِ مبدأ “يهودية الدولة”، أو يقترحُ تعديله بطرقٍ ديمقراطية. فإسرائيل لليهود؛ ولهم فقط، حيثما وجدوا).
مضت قرونٌ طويلة وهذه القبائل مُنغلقة ومضطَّهدة ومكروهة وهي تعتمدُ الإستغلالَ الأقصى في حياتها الاجتماعية، تحملُ في عروقها بذور الرأسمالية بدون إنفتاحها وعلمانيتها، تجثمُ دائماً على ضفاف الحضارات، وتزدهر في الأمبريالية بدون أن تتخلى عن قوقعتها، وتريد في أقصى يمينها أن تطرد بقايا الفلسطنيين من أرضهم فهم يلوثون نقاءَ الدم اليهودي، لكنها في الواقع تؤجل المعركة الاجتماعية بينها وبين العمال اليهود أنفسهم، بينها وبين الوعي الديمقراطي العلماني الإنساني، حيث يُسحب تداول الأديان من السياسة، وحيث البشر متساوون أمام القانون العالمي.
أعطت مجموعاتٌ من المنظمات الفلسطينية والعربية لمشروع الغيتو اليهودي بعضَ دفقِ الحياة والمساعدة وهي تقول أنها تناضل ضده، لكن عبر توحيد (العنصرية) اليهودية، فلم يفرقوا بين مكوناتها الاجتماعية ويشتغلوا على أنسنتها، وجعلوها تلتحم، لكونهم هم أيضاً غير ديمقراطيين وعنصريين كذلك، لكن تبقى العنصريةُ اليهودية متفوقةً بسببِ التقنيات والرأسمال الكبير المتجذر في الأرض الذي شكلَّ شعباً صغيراً متقدماً، ومن أسرٍ صغيرةٍ غيرِ باذخةٍ، ومن قدراتٍ علمية وصناعية كبيرة.

صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران،
#عبدالله_خليفة

هتلر يحكم إسرائيل