أرشيف التصنيف: عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي

كريستين هانا (Kristin Hannah)، الروائية الامريكية المعروفة، تكتب عن عبدالله خليفة

اليوم 10/21/ الذكرى لــ 11  لوفاة عبـــــــدالله خلـــــــيفة

في رسالة بعثتها الى موقع عبـــــــدالله خلــــــــيفة

مرحبا

 أنا كريستين هانا، مؤلفة كتاب «النساء»، و«العظيم وحده» و«العندليب» وأكثر من عشرين رواية أخرى تستكشف الحب والشجاعة ومرونة الروح البشرية. بدأت رحلتي في الكتابة قبل وقت طويل من أي قوائم من أكثر الكتب مبيعا أو تعديلات للأفلام.  بدأ الأمر بشغف بسيط لرواية القصص وحلم بدا مستحيلا ولا يقاوم.

على مر السنين، تعلمت أن كل كتاب هو مغامرته الخاصة، والتي تتطلب الصبر والضعف والإيمان بقوة الكلمات لربطنا. أعرف مدى صعوبة العثور على صوتك، ومواجهة الرفض، والاستمرار في الإيمان بقصتك عندما يبدو الطريق إلى الأمام غير مؤكد.

لهذا السبب أحب أن أسمع منك. ما هي التحديات التي واجهتها في رحلتك الكتابية، وما هي الخطوات التي اتخذتها للمضي قدماها؟

مسار كل مؤلف فريد من نوعه، لكنني أعتقد حقا أنه مع المثابرة والقلب، تجد كل قصة قرائها في الوقت المناسب. أتطلع إلى سماع رحلتك والدروس التي شكلتك على طول الطريق.

تحياتي الحارة ،،،

كريستين هانا

عزيزي عيسى، شكرا جزيلا على رسالتك المدروسة ومشاركة الإرث الرائع لعبدالله خليفة. لقد تأثرت حقا عندما قرأت عن حياته وشجاعته وإسهاماته الأدبية العميقة في البحرين والعالم العربي .تعكس مجموعة أعماله فهما عميقا للنضال والأمل والقوة التي لا تنضب لقيم الروح البشرية التي يتردد صداها لدى الكتاب في كل مكان.

لقد ألهمتني بشدة كيف تشابك رواية قصصه بين الفن والتاريخ والوعي الاجتماعي، مما يوفر صوتا للحقيقة حتى في أوقات التحدي الكبير. إن تفانيه في الأدب على الرغم من المشقة هو شهادة على ما يعنيه أن تكون كاتبا ملتزما بالهدف.

سيكون شرفا لي أن أتعلم المزيد عن رحلته الإبداعية، وكيف تعامل مع قصصه، وما كان يأمل أن يحمله القراء معهم من عمله. يذكرنا كتاب مثل عبدالله خليفة بأن الكلمات يمكن أن تدوم أكثر من الزمن وتتجاوز الحدود.

مع التحيات الحارة والإعجاب،،

كريستين هانا

,Hi

I’m Kristin Hannah, author of The WomenThe Great AloneThe Nightingale, and more than twenty other novels that explore love, courage, and the resilience of the human spirit. My writing journey began long before any bestseller lists or film adaptations. It began with a simple passion for storytelling and a dream that felt both impossible and irresistible.

Over the years, I’ve learned that every book is its own adventure, one that demands patience, vulnerability, and faith in the power of words to connect us. I know how challenging it can be to find your voice, to face rejection, and to keep believing in your story when the path forward feels uncertain.

That’s why I’d love to hear from you.
What challenges have you encountered in your writing journey, and what steps have you taken to move through them?

Every author’s path is unique, but I truly believe that with persistence and heart, every story finds its readers in time. I look forward to hearing about your journey and the lessons that have shaped you along the way.

Warm regards,

Kristin Hannah
Award-Winning, #1 New York Times, USA Today, Wall Street Journal & International Bestselling Author

Author of The Great Alone and The Women

Firefly Lane – Now a hit Netflix series
The Nightingale – In production with TriStar

,Dear Isa

Thank you so much for your thoughtful message and for sharing the remarkable legacy of Abdulla Khalifa. I was truly moved reading about his life, his courage, and his profound literary contributions to Bahrain and the Arab world. His body of work reflects a deep understanding of struggle, hope, and the unyielding power of the human spirit values that resonate with writers everywhere.

I’m deeply inspired by how his storytelling intertwined art, history, and social consciousness, offering a voice for truth even in times of great challenge. His dedication to literature despite hardship is a testament to what it means to be a writer committed to purpose.

It would be an honor to learn more about his creative journey, how he approached his stories, and what he hoped readers would carry with them from his work. Authors like Abdulla Khalifa remind us that words can outlast time and transcend borders.

With warm regards and admiration,

Kristin Hannah
Award-Winning, #1 New York Times, USA Today, Wall Street Journal & International Bestselling Author

Author of The Great Alone and The Women

Firefly Lane – Now a hit Netflix series
The Nightingale – In production with TriStar

أدونيس ـ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

  • عبدالله خليفة: ‏‏‏‏‏‏الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث فصل تحديثيون معاصرون ص 345.
  • نشر هذا المقال في جريدة أخبار الخليج البحرينية في سنة 1995، مع تعديلات طفيفة حالية 2008.
    (1): (البيانات) كتاب أصدرته أسرة الأدباء والكتاب البحرينية سنة 1995، ص40).
    (2): (ص 45).
    (3): (ص 47).
    (4): (راجع حول نسبية الجوانب الإيجابية الغربية في الثقافة الديمقراطية كتاب (روح الأنوار) لتزفيتان تودوروف، الذي يقرأ تلك الجوانب بشكل تاريخي، وهو كتاب من إصدار مجموعة دور عربية، تعريب حافظ قويعة، سنة 2007).
    (5): (الثابت والمتحول، دار الساقي، سنة 2002، ج 1، ص68، ط 8).
    (6): (المصدر السابق، ص 69).
    (7): (المصدر السابق، ج 1، ص 13).
    (8): (المصدر السابق، ص 15، 16).
    (9): (المصدر السابق، ص 22).
    (10): (المصدر السابق، ص 21).
    (11): (المصدر السابق، ص 21).
    (12): (المصدر السابق، ص 21).
    (13): (المصدر السابق، ص 23).
    (14): (المصدر السابق، ص 23).
    (15): (المصدر السابق، ص 34).
    (16): (المصدر السابق، ص 32).
    (17): (المصدر السابق، ص 32).

https://www.facebook.com/share/1BDgGykBcj

https://www.facebook.com/share/1CkK5BxEw3

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية كتب عمر كوش

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
مؤلف هذا الكتاب هو عبدالله خليفة، الكاتب والروائي البحريني، له العديد من الأعمال الروائية والدراسات.

وفي كتابه «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، يحاول خليفة تلمس ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة، وبجذور هذا الوعي الأولى، التي تمتد من مرحلة الجاهلية وظهور الإسلام، ثم تشكل الدولة الإسلامية، وصولاً إلى نهاية الدولة الأموية.
ويأمل في أن يحمل عمله رؤية جديدة إلى «الوعي العربي»، الذي بدأ في الظهور بصفة وثنية، ثم انحاز إلى الطبيعة الدينية التوحيدية، وهو أمر غير معزول عن إطاره التاريخي، وعن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها، جدلاً مع التاريخ، وحفراً في الحاضر.
هذا الموضوع الواسع، وغير المقيد، يتطلب التركيز على بنية فكرية واجتماعية واسعة وممتدة ومتحولة، تشمل جملة الأفكار التي كانت سائدة في المجتمع العراقي الجنوبي القديم، وعلى الخطوط العرضية لتطور الوعي الديني في مصر الفرعونية، لاكتشاف طبيعة النظام الاجتماعي التي كانت سائدة وقتئذ، وتبيان دور ذلك النظام الاجتماعي في التطور التاريخي.
ذلك أن الوعي العربي، بمعناها الإجرائي، ومن ثم تطوره اللاحق: الوعي الإسلامي، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصور القديمة، سواء عبر علاقته المباشرة، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان: الوثنية، واليهودية، والمسيحية.
لكن دراسة البنية الاجتماعية، عليها أن لا تجعل الباحث مأسوراً في طابعها التقني، أي اعتبار الوعي مجرد اتجاهاته فكرية وسياسية، بل يتوجب اعتباره علاقات حية، اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة.
وإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي المجتمع العربي الرعوي فلابد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع، ولكنه عبّر ـ من حيث الإتجاه ـ عن تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا، ويستهدف تخطيطه وتمدينه.
وعليه تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة (مكة) كقاعدة حضارية لهؤلاء الرعاة. علماً أن بين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
وفي العهد الراشدي كانت البنية السائدة تستند إلى ظهور ملكية الدول للأراضي العامة (الصوافي)، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية، ومع ترسخ هذه البنية واستعادة الهياكل الاقتصادية العائدة إلى العصر القديم، تبدأ اجتماعات سياسية عميقة في هذه البنية، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وعليه يتوغل خليفة في دراسة في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها، بحيث يقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي ـ الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة، من خلال قراءة عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة.
وتبيان طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها، وصولاً إلى دراسة التشكيلية الاقتصادية ـ الاجتماعية التي استقر عليها. والمنطلق في ذلك هو أن تبعية الإنسان للطبيعة هنا وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه، كانت تقود إلى سيطرة القوى الماورائية المختلفة، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
غير أن إنسان العصور القديمة أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في عملية الإنتاج الروحي، كشكل أولي سحري من المثالية، أي عبّر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدر على السيطرة على الداخل الإنساني، سواء كان هذا الداخل تنظيما اجتماعيا أم أفكارا ومشاعر.
ويمكن القول أن المثالية أخذت صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية، حيث القوى الغريبة المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة، فتهندس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع القوى الطبيعية الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ .
لكن خليفة يعتبر أن الغيبية الدينية كانت الأم الأولى للمثالية، التي ستغدو المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد، والتي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود، ومرد اعتباره هذه الأفكار الغيبية نظرات وأفكار مثالية، هو إعطائها القوة الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية، الدور الأول في صياغة العالم.
لذلك اعتمدت الفلسفات المثالية، التي ستتشكل فيما بعد، على هذه الجذور الدينية والأسطورية، حيث تتراكم المعارف ويكتشف التجريد والتعميم النظري، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة. فضلاً عن أن هذه العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
والمعروف أنه في سياق التحول التاريخي للبشر، حدث تمايز بين شكلين من الوعي المثالي، الأديان ـ الأساطير والفلسفة، لكن حين تأقلمت الأخيرة في بلاد المشرق، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها، فقامت الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية، مثلما قامت الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
ويرى خليفة أن العلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الإشراف والفئات الوسطى، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما.
ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأولى الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الفئات الوسطى في مدن حرة، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الفئات الوسطى إلحاقها بالدولة وصعود طبقة ملاك العبيد.
إذن، يهتم خليفة بقراءة الجذور القديمة لتشكيل الوعي العربي في مرحلتيه، الوثنية والإسلامية، لكن السؤال يبقى حول إمكانية العثور على وعي غير الوعي الديني بمرحلتين وببنيتين، وعن المرحلة التي وضعت وصنعت القواعد الأساسية للوعي في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الإسلامي.
وبعيداً عن مثل هذه الأسئلة يبحث خليفة في الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي. ثم ينتقل إلى بحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وفي سياق تلمس مراحل تطور الوعي الديني في المشرق القديم يرى خليفة أن مرحلة الانتقال إلى يثرب هي التي ستجذر الدعوة الإسلامية، وتجعلها تتغلغل في البنية الصحراوية، فالقبائل العربية في يثرب، الأوس والخزرج، التي وجدت أنفسها تُأكل في حروبها الداخلية، وتحاصر بإمكانيات اليهود الاقتصادي.
وتغدو مدينتها مهمشة وضعيفة تجاه مكة المستحوذة على السيادة على الحجاز، رأت إن مناصرتها للدعوة الإسلامية سوف تجعل مدينتها في مركز الصدارة.
ومثل أي دين غدا الإسلام التأسيسي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية شاملة، فاتحد الفكري بجهاز الدولة الوليد، وغدت العبادات والمعاملات والغيبيات في كتلة واحدة، وكلها تستهدف عبر ترابطها العقيدي أن تنقل العرب من عالم المختلف والتفكك إلى حضارة.
ثم ظهر التفكير بالقدرة، والتاريخ العربي ـ الإسلامي يشكل أولى خطواته، وقد غدا هذا التاريخ هو موضوعه، وبدأ هذا التفكير أولياً مضطربا متسائلاً عن هذا القضاء المهيمن، وعن مدى حجم الإرادة فيه، ثم راح هذا التفكير الأولي بالنمو مع اتساع حجم الصراعات السياسية والاجتماعية .
وكان تشكل علم الكلام داخل الإطار الديني جعله محكوماً بالمقولات الدينية الأساسية، وبالفهم المحدد للعصر، باعتبار الوجود مخلوقاً بشكل كلي لله، سواء في ماضيه أم مستقبله، وبهذا فإن التاريخ الإسلامي نشأ من هذه الإرادة الكلية.
ومن هنا يستنتج خليفة أن الفلسفة لم تولد مع المعتزلة، رغم أنها استفادت من حركتهم الدينية ـ السياسية الداعية للحركة والعقل، وقد كان للفلسفة أن تنشأ على انقاضهم، بعد أن عجزوا عن استثمار التراكم المعرفي في إنتاج رؤى فلسفية شاملة.
كما أن الاختلاف بينهم وبين الفلاسفة، الذين سيكونون دينيين كذلك، إذا استثنينا الدهريين الذين أزيلت أقوالهم من الذاكرة التاريخية، أن المعتزلة لم تكن لديهم فلسفة كونية شاملة، أي نظرة تشمل مختلف حيثيات الوجود، ونمت آراؤهم داخل تلافيف النص الديني، متأولين الجوانب الشديدة الغيبية أو الكثيرة الخوارق، وغير المعقولة، بشكل نسبي وعفوي.
وينصب جهد خليفة على الأمور المتعلقة بالجانب الديني التي يربطها بالبنى التحتية، وفاء لمقولات انحسر أنصارها وزمانها، حيث أن تشكل العقل الديني الإسلامي جرى فوق تطورات اجتماعية مركبة متضادة، فهناك محاولات لجعل البنية الاجتماعية في خدمة الإنسان، وبرغم إن هذه المحاولات كانت تحوي رموزاً غيبية كثيرة، حيث لا عقل ممكن في ذلك الحين بدونها.
لكن كافة الرموز الغيبية والإرث الغيبي الواقعي واللحظة التاريخية، توحي بأن التاريخ حينئذ يعبر عبر عقل واقعي متحكم في سيرورته، وليس ذلك سوى مظهر لهيمنة الأكثرية على الثروة فالمصير.
ولا يجهد خليفة نفسه في البحث والفلسفة ولا علم الكلام السابق عليها، إذ كان علم الكلام وليد المناقشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى: اليهودية والمسيحية، والتي كان معتنقوها يعيشون بأمان في دار الإسلام.
وقد ساهم التعايش وبين الفرق والمدارس الإسلامية في شحذ العقول وحثها على العلم والدرس، وفي تحرير الأذهان من أسر التقاليد الدينية الضيقة. وأدى الحوار والجدل بينهم إلى بروز دور العقل حكماً أعلى في المناقشات اللاهوتية.
وفي فهم العقائد الدينية نفسها. وفي سياق هذه المشادات ظهرت وتطورت النزعة العقلانية في علم الكلام، أول التيارات الفلسفية في الفكر الإسلامي، الذي طوره مفكرو المعتزلة، ومن ثم الأشاعرة.
كما لا يعطي خليفة أية أهمية للفلسفة المشائية، حيث يعتبر الكندي الذي لقب بـ «فيلسوف العرب» أول العرب الذين اشتغلوا بـ «علوم الأوائل» اليونانية ونشرها، وجاءت أعماله لتعكس خليطاً واسعاً من المذاهب التي تنحدر إلى أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبرقليس والفيثاغوريين.
كذلك فإن الحكمة الصوفية والتصوف بشكل عام لا يجدان متسعاً من البحث، مع أن ظهور التصوف يعود إلى فجر الإسلام، وقد تطور من سلوك الزهد والتنسك إلى القول بالمحبة والفناء والحلول، فالتأمل الفلسفي. وظهرت في المرحلة الفلسفية للتصوف مدرستان أساسيتان، هما: الإشراقية التي أسسها السهروردي، والوجودية التي أرسى أسسها ابن عربي.
كل ذلك كان غائباً في «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» على حساب قراءة الأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية، وكشف حراك «الطبقات» وتحولات الأديان، وتحققات الوعي العربي، هذا الوعي الذي بقي يحلق في سماء خالية من المفاهيم، ولم يجد أرضاً يعيد عليها أقلمته.
عمر كوش
الكتاب: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2005
الصفحات: 599 صفحة .

    القرامطة .. الجذور التاريخية ( الاتجاهات المثالية …)

    #الاتجاهات_المثالية_في_الفلسفة_العربية_الإسلامية


    لا بد لكي نعرف حياة أقليم البحرين في العصر الوسيط وتطوره ، لا بد من إلقاء نظرة موجزة ومكثفة على الظروف العامة لتشكله ، ففي ذلك الحين كان إقليم البحرين الممتد من جنوب البصرة حتى مشارف #عُمان ، وفي قلب هذا الإقليم يقع ساحل #هجر وجزر أوال ، وما يحيطهما من صحراء وبحر . وهذا الإقليم وحده بين شرق الجزيرة والعالم الذي يجمع النقيضين وهما بحران من ماء عذب وملح أجاج ، وقد جاء ذلك في القرآن .
    نشأت أسس المعارضة الطويلة في الإقليم بسبب الظروف التي لابست تطور الدولة الإسلامية ، فقد جاء في معاهدة #العلاء_الحضرمي بأنه :
    [هذا ما صالح عليه العلاء الحضرمي أهل البحرين على أن يكفونا العمل ويقاسمونا الثمر] ، ولم تعجب أهل البحرين هذه القسمة فارتدوا مع من ارتدوا عن سيطرة المركز في المدينة ، ولكن جعل الفتوحات الأولى لفارس عن طريق البحرين جعل هذا الإقليم جزءً من عمليات الفتوح الكبرى وآثارها المختلفة ، و في عصر الدولة الأموية تم تجاهل هذا الإقليم تماماً ، حيث غدا جنوب العراق وخاصة البصرة هو مركز التجارة والاستيراد والتصدير ، مما جعل الإقليم مهمشاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي .
    [ أما الزراعة فكانت مزدهرة هي الأخرى خصوصاً في ساحل هجر وفي جزيرتي أوال وتاروت، وتحيط بهذه المنطقة بادية كان يسكنها #عبد_القيس وبكر بن وائل وتميم قبل الإسلام ، وكان جل اقتصادهم يرتكز على الرعي والغزو أو أعمال القرصنة.] ، (1) .
    إن موارد الإقليم مهمة في الزراعة والرعي ولكنها تكاد تكفي للحياة الداخلية ، فقد عُرف هذا الإقليم بالفقر الشديد ، ولكنه كان يرسل الخراج بصورة منتظمة إلى العاصمة دمشق ثم بغداد ، مما جعله يتحول إلى مركز دائم للمعارضة والثورات ، فأنتج الخوارج ثم القرامطة وهما أكبر حركتي معارضة في التاريخ الإسلامي والعالمي القديم .
    إن هذا يعود لتأثرات القبائل الفكرية والسياسية البحرينية بموجات المعارضة الكبرى التي كانت تنتجها إيران ، والتي كانت تمر أو تختمر في جنوب العراق، ثم تنمو في إقليم البحرين البعيد عن السيطرة المركزية .
    فقد عُرفت قبائل عبد القيس وتميم خاصة بالصلة المستمرة بالسواحل الفارسية ، نظراً لتداخل المصالح والهجرة والانتقال السكاني المتبادل على مر التاريخ ، ولم تكن هذه المنطقة ذات كثافة بشرية كبيرة ، فأثر فيها الفرس وحكموها ردحاً طويلاً من الزمن .
    وقد تأثرت قبيلة تميم خاصة بالأفكار الثورية القادمة من فارس ، خاصة أفكار #المزدكية و#المانوية ، وعبر هذه القبيلة تغلغلت أفكار الزهد عند بعض الشخصيات التاريخية العربية ، لكن هذه القبائل وقد رأت الحكم يتركز في #قريش أعلنت التمرد، وطرحت شكلاً شعبياً للحكم رفضت فيه الاحتكار القرشي ، ثم تحولت هذه العملية إلى حركة سياسية كبرى ، انتقلت من العراق إلى موطنها الطبيعي ، ومركز قبائلها وهو إقليم البحرين ، الذي قام بحماية الحركة على مدى قرون في حين كانت الحركة تذوب وتتلاشى في الأقاليم العربية الشمالية . ولعل حركة التمرد الطويلة هذه من الأسباب التي زادت هذا الإقليم فقراً على فقره . وأخذ ينعزل عن حركة التطور الاقتصادي الواسعة في الإمبراطورية الإسلامية حينذاك .
    لا نستطيع أن نفعل كما يفعل المؤرخون والباحثون بالتركيز على العوامل الفكرية باعتبارها المحرك الأكبر لبعض سكان إقليم البحرين بالتوجه إلى حركات المعارضة العسكرية الكبرى ، بل نرجعها إلى ظروف الفقر الشديد والشظف والبداوة والحرمان وعزل المنطقة عن التجارة المزدهرة وعن الإصلاح التي جعلت هؤلاء السكان يتعاطفون بسرعة شديدة مع تلك الحركات .
    فمن الصعب تصديق الرواية القائلة بأن أبي سعيد بن بهرام الجنابي مؤسس الدولة القرمطية في البحرين بأنه شخص يمثل أفكاراً كبيرة وناضجة، فنحن نجد الرجل يلتقي بحمدان الأشعث ثم يعتنق الأفكار التحولية هذه ويندفع إلى البحرين في ظرف زمني قصير ثم يشكل دولته العتيدة .
    ولكن إذا حاولنا تفحص هذه المسألة بدقة ، فسنجد إن أبا سعيد كان شخصاً مغامراً يبحث عن فرصة سياسية للصعود، وهو بدلاً من أن يتجه لدعوة فكرية طويلة نراه يبحث عن قبائل الغزو والجريمة لكي يضمها إليه:
    [وحين توجه أبو سعيد الجنابي بالدعوة إلى العرب أجابه بنو الأضبط من كلاب.. وهؤلاء ليسوا من قبائل البحرين القديمة ..فجمعهم أبو سعيد فضم إليهم رجالاً وساروا فأكثروا من القتل] ، (2) .
    هكذا نجد أبا سعيد وهو يشكل حركته من القبائل المجهولة ومن قطاع الطرق، وكانت أول حركة سياسية عسكرية له هي تدمير مدينة هجر، [ ولم يوفق بالسيطرة عليها إلا بعد أن قطع الماء عنها وفر بعض أهلها في البحر ودخل بعضهم دعوته وخرجوا إليه وبقيت طائفة لم يفروا لعجزهم ولم يدخلوا في دعوته فقتلهم . وأخذ ما في المدينة وخربها فبقيت خراباً وصارت مدينة البحرين هي الأحساء]،(3) .
    وفي حين نجد الحركات الثورية والإصلاحية تقوم ببناء المدن وتشكل نهضة مدنية، نرى أبا سعيد يبدأ تاريخه بهدم مدينة عريقة ، عبر تحالفاته مع القبائل الفقيرة والأعراب وتحويلهم إلى قوة عسكرية ضاربة ، وجعله الغزو المدمر علامة لسياسته التخويفية .
    بطبيعة الحال هناك تشنيعات كبيرة بحق القرامطة، لكن ثمة خيطاً من الحقيقة في هذه العمليات العسكرية . فالرجل بعد إنشائه مدينة الإحساء طور الحياة الاقتصادية عبر إصلاح المزارع ومساعدة الفقراء المحتاجين وجعل الإحساء عاصمة كهجر السابقة ، وفي رأيي فإن أبا سعيد لم يفعل ذلك إلا ليؤمن الجبهة الداخلية لنظامه العسكري استعداداً لجعل سياسة الغزو المورد الاقتصادي الحقيقي والواسع للدولة .
    ولم يكن غزواً يؤدي إلى توسع الدولة ونمو علاقاتها وتطور مدنها وثقافتها ويشكل انقلاباً حضارياً في جسم الدولة العباسية الشائخة والمتعفنة وقتذاك ، بل كان الغزو هجمات على المدن بغرض السلب والنهب ، فحين غزا القرامطة البصرة سنة 307 هـ [ نهبوها وقتلوا وسبوا أهلها] ، [وضعوا السيف في أهلها وأحرقوا البلد الجامع ومسجد طلحة وهرب الناس وألقوا بأنفسهم في الماء فغرق معظمهم] ، (4) .
    لا نستطيع أن نفهم هذه العمليات العسكرية بغرض البناء السياسي وإنتاج بديل لنظام قديم أو نعتبرها محاولات لتشكيل نظام في حالة من البحث والمخاض ، فهؤلاء الغزاة لا يحملون فكراً أو علاقات اقتصادية وسياسية جديدة ، إنهم مجموعات من قبائل الغزو والإغارة ، فقد كان بالإمكان حكم البصرة وإعطاء سياسية اقتصادية جديدة ومفيدة للمدينة ، ولكنهم لا يملكون هذا الوعي لقراءة واقع وحياة المدينة ، وبالتالي استبصار مسار الدولة العباسية وتقديم بديل لدولة إقطاعية شائخة . أي لو كان هؤلاء متطورون فكرياً واقتصادياً لوضعوا التاريخ العربي على مسار آخر .
    كان البديل سوف يـُنتج لو أنهم حرروا فلاحيهم البحرينيين من الاستغلال والإقطاع ، ولكن نظام السخرة والعبودية واستغلال الفلاحين ظل مستمراً ، فكان هناك [ السادة ] وهي الفئة الحاكمة التي تملك العبيد والخزائن والأراضي والمطاحن ، وبقربها طبقة من الملاكين الخاصين ، وفي القاعدة جمهور الفلاحين والعبيد والبدو .
    كان توسع القرامطة في استخدام العبيد تعبيراً عن فقر المنطقة في إنتاج علاقات اقتصادية متطورة وثقافة متطورة ، وكان الاعتماد على القبائل الرعوية المتخلفة يجسد كل ذلك .
    تعبر الاختلافات السياسية والفكرية بين الفاطميين والقرامطة عن المدى الكبير بين المستوى الحضاري والمستوى الرعوي المحدود . وحين يقال بأن القرامطة والفاطميين هم نتاج حركة واحدة هي الإسماعيلية فإن ذلك صحيح بالأجمال ، فنجد إن أساس المغامرات السياسية والعسكرية متشابه في نمو هذه الحركة بفرعيها الفاطمي والقرمطي ، حيث اعتمدت كلتاهما على الأفكار الإمامية الإسماعيلية ، وعلى مغامرين سياسيين يتوجهون إلى مناطق التوتر الاجتماعي والسياسي ، فيدّعون رسالات ويزعمون اتصالاً بالغيب الخ.. ويقومون بتنظيم القبائل الرعوية ودمجها في حركتهم والارتكاز عليها لتشكيل دولة وعبر إعطائها الغنائم .
    ولكننا نجد إن مسار الفرعين جد مختلف ، فبينما شكل الفاطميون حضارة وثقافة رفيعة ، وتوسعوا ، وأعطوا مصر ركائز لتطور حضاري عميق تال ٍ، نجد القرامطة بلا إرث ثقافي وبلا تشكيل لنهضة مستمرة ، بل قاموا بإفقار المنطقة وتحويلها إلى منطقة بدوية متخلفة بشكل شامل .
    وتعود هذه الأسباب ، بطبيعة الحال لمستوى تطور البلدين الاجتماعي : مصر وإقليم البحرين ، ولكن أيضاً للممارسات السياسية المختلفة للجماعتين ، فقد توجه الفاطميون في غالب حياتهم التاريخية للبناء السياسي والاقتصادي والفكري ، في حين عاش القرامطة أغلب تاريخهم على الغزو والحروب .
    وإذا كان للفاطميين مشروعهم السياسي الذي لا يحيدون عنه وهو تشكيل دولة موحدة تضم العالم الإسلامي بأكمله ، في حين إن القرامطة كانوا بلا مشروع ، وكانوا قد اقتربوا من بغداد العاصمة تماماً ، ولكن حولوا المعركة إلى مذابح . والأمر لا يعود لقطع أحد الجسور عليهم ، بل لغياب الجسر الفكري والاقتصادي مع السكان ، وعدم قدرتهم على تشكيل بديل حضاري ، بل أن السكان وجدوا في العباسيين على جبروتهم واستغلالهم نظاماً أكثر حماية للنفس والعرض والوجود عامة . لكن الفاطميين هم كذلك لم يستطيعوا حل التناقضات الاجتماعية التي وعدوا بحلها ، لكنهم حافظوا على العلاقة بين الظاهر والباطن ، بين الأحكام الإسلامية العامة وبين الوعي الغيبي الذي يؤمنون به ، في حين عجز القرامطة عن تشكيل جسر بين الظاهر والباطن ، بين السيرورة الإسلامية العبادية والمعاملاتية وبين أفكارهم .
    وإذا قيل بأن الدول التي جاءت بعد القرامطة والفاطميين أزالت آثارهم ومحت سيرتهم من ذاكرات الأجيال ، وهذا صحيح ، ولكنها لم تستطع أن تزيل التاريخ الفاطمي والإسماعيلي، نظراً لكثرة التأليف والإنتاج فيه ، واستمراره التاريخي ولكن القرامطة لم يورثوا شيئاً .
    ولهذا لا نجد أبنية لهم أو مؤسسات اقتصادية وعمرانية باقية ، مثلما نجد للديلمونيين مع بُعد الحقب بيننا وبينهم و رغم استمرار القرامطة على مدى أكثر من قرنين .
    من المؤكد إن ذلك يعود لطبيعتهم الاجتماعية كجماعة مغامرة سياسية ارتكزت على الرعاة والأعراب المتخلفين ، وكان قرامطة #البحرين أفضل حالاً من قرامطة سوريا الذين كانوا أكثر عنفاً ، في حين كانت بداية الحركة على يد حمدان بن قرمط في جنوب #العراق أكثر تطوراً ، لكونها تحولت إلى حركة تعاونية فلاحية ، وهذا يعود كذلك إلى المستوى الحضاري العراقي ، قياساً بالجزيرة العربية وهيمنة البداوة عليها .
    وفي دراسة موثقة بعنوان [ #الفاطميون وقرامطة البحرين]، كتبها وماد لونغ، وهو أستاذ العربية في جامعة أكسفورد، ومن المختصين القياديين في الدراسات الإسلامية، وهو مرجع مختص بالحركات الإسلامية في العصور الوسطى كما تعرفه دار النشر، يثبت فيها تباين #القرامطة عن الفاطميين، ويفند الصلة بينهما ، (5) .
    في هذا البحث نجد إن الارتباطات بين الحركتين هي ارتباطات فكرية في بداية الأمر ، ثم ما لبثت كل حركة أن نمت في منطقتها ، بحيث إن الفاطميين تحركوا ليس على المستوى العسكري فحسب ، ولكن على مستويات المعرفة والعلوم والإنتاج الثقافي عموماً ، فظهر مفكرون وباحثون وفلاسفة ، ثم امتدت الحركة إلى سوريا ، وشمال إيران ، وحين وقعت هذه الحركة في مناطق جبلية وقروية ضيقة ، وكان رمزها قلعة الموت، أصيبت بما أصيبت به الحركة القرمطية في البحرين من ضيق فكري وقصر نظر سياسي ، فاعتمدت الإرهاب والاغتيال أداة للتغيير .
    وعموماً فإن الحركة #الإسماعيلية ذاتها لم تطرح برنامجاً اجتماعياً تقدمياً لتطور العرب والمسلمين ، وتجمدت عند المستوى التقليدي للحركات الدينية.
    تبدو ضخامة أخطاء القرامطة في كثرة الحروب والموقف من الدين ، والوجهان معبران عن رؤية داخلية مأزومة.
    ومنذ أن تكونت بنية اقتصادية في الإقليم والدولة توجه طاقتها نحو الحرب التي اتسعت رقعتها ؛ من شن الهجمات على العراق وسوريا حتى مصر ، ثم السيطرة على طرق الحجيج ، وكل هذه العملية الاستنزافية هي من أجل المال ، نظراً لأن دولة القرامطة كانت ذات موارد محدودة ومشروعاتها العسكرية لا تتوقف .
    وفي الحروب لم تكن لها مواقف ثابتة ، فكانت هجماتها الأولى لسلب المدن العراقية الجنوبية ، ولم تطرح على السكان تبديل نظام الحكم ، والعمل من أجل مشروع سياسي جديد ، لأن حكام الدولة لا يمتلكون أي تصورات مهمة .
    واضطراب المؤرخين والباحثين بكون حركة القرامطة منبثقة من الاتجاه الإسماعيلي أو الاتجاه الحنفي ، أو إنها جاءت تحت تأثير الثورة البابكية التي انفجرت ضد المأمون ومن بعده من الخلفاء ، فكل هذه المحاولات للبحث عن شخصية فكرية هي غير مجدية لأن الحركة بلا هوية عميقة ، فهي نتاج مجموعة سياسية عامية ، ازدادت عاميتها وأميتها الفكرية مع اندماجها المتواصل مع أعراب الجزيرة ، واعتمادها على أسلوب عيشهم المتكرس بالغزو .
    ويبدو غياب المشروع والأمية والعدمية الثقافية من اعتماد العنف وسيلة للبقاء ، وكذلك الهجوم على الدين ، ويبدو الهجوم هنا ليس نقداً أو تحليلاً واكتشافاً لجذور الأديان في المنطقة ، ومعرفة سببياتها وأهدافها ، بل هي عملية إنكار أمية لها ، تتجاهل شعائرها وقراءة أفكارها ، ثم تصبح استهزاءً بها وعنفاً ضد مظاهرها .
    إنها أرستقراطية من نوع جديد ، فهي قطع مع التراث بصورة دكتاتورية ، وهي تعالي على المؤمنين ومقدساتهم ، وسيطرة عنفية على حياتهم وتوجيهها نحو الحرب .
    ومن هنا نجد #الفاطميين أصحاب مشروع فكري وتنظيم توحيدي بينما هؤلاء مجرد قطاع طرق تاريخية ، ولهذا كان لا بد أن يصطدم الفاطميون والقرامطة ، فالقرامطة كان يخربون المشروع السياسي التوحيدي الفاطمي ، ولهذا كان الإسماعيليون مؤمنين إسلاميين ، لهم رؤية خاصة في هذا الإيمان ، أما القرامطة فأناسٌ عدميون لم يستطيعوا أن يشكلوا لهم رؤية خاصة في #الإسلام ، لأن تشكيلهم لرؤية إسلامية خاصة يعني تجذرهم في المنطقة واستيعاب تراثها وطرح برنامج ما لتحويلها ، وإقامة علاقة بالمؤمنين ، وحماية أرواحهم وليس هدر دمائهم .
    ويبدو إن القرامطة هم أناسٌ من بقايا ومتشردي الحركة البابكية الفرس الذين انتقلوا للضفة العربية بعد فشل مشروعهم في إيران ، ولهذا نجد معظمهم بأسماء فارسية، كأبي سعيد بن بهرام أو دادويه أو #حسين_الأهوازي الخ ثم واصلت القيادة القرمطية حياة العزلة العميقة عن المحيط العربي مع هيمنتها على الأموال والأرواح .
    وقد وقعت جزر #أوال مثل بقية إقليم البحرين في قبضة القرامطة ، لكنها لم تكن عاصمة الحكم ، وفي مركز القرار ، فهي ثالثة الأثافي بعد #الأحساء و#القطيف ، وقليلة هي الإشارات التي نجدها في الكتب القديمة عن جزر أوال ، وأسم أوال هو في الواقع يعبر عن مرحلة من التداخل بين انتهاء العصر القديم والعصر الوسيط . وهناك إشارات محدودة لأسم أوال في هذه الدراما الرهيبة :
    في سنة 361 هـ – 972 م وقعت في أقليم البحرين الذي يسيطر عليه القرامطة ثورة سابور الذي كان أكبر أولاد #أبي_طاهر_الجنابي ، قائد الدولة البارز والراحل ، وسابور وأخوته كانوا قد أبعدوا عن الحكم ، فلم يرض سابور بذلك ، وقام بانقلابه الذي لم ينجح فيه ، فأودع هو وأخوته جزيرة أوال .
    وقد وجه المعز حاكم مصر رسالة شديدة اللهجة إلى الحسن الأعصم الحاكم يحتج على وضع أولاد أبي طاهر في السجن بجزيرة أوال ، (6) .
    لا يعني ذلك إن أوال كانت سجناً فقط ، بل كانت كالقطيف وجزيرة تاروت تجمع بين الزراعة والغوص من أجل اللؤلؤ ، وتقوم بإرسال دخلها إلى الأحساء . ومن هنا كانت كبقية أجزاء الدولة القرمطية توظف أموالها لحروبهم التي تستنزف الموارد القليلة
    .

    دخول العرب إلى التاريخ العالمي (الاتجاهات المثالية …)

    كـتـب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

    أولاً ، هل هو الأسلوب الآسيوي للإنتاج ؟
    بعد أن بلغنا هذا المستوى من رحلة التحليل ، ورأينا العرب ينتقلون من البداوة إلى الحضارة ، من نظام ما قبل التاريخ إلى الدخول في التاريخ ، وليس هو التاريخ المحلي والمناطقي فحسب ، بل العالمي ، فلا بد من إعادة النظر في المادة الاجتماعية التاريخية السابقة لربطها بالتحولات العالمية ، أي رؤية النظام الاجتماعي الذي حمله العرب ، أو الذي انخرطوا فيه ، أو النظام الذي هو مزيج من ما حملوه ، وما كان سائداً وغيروه.
    إن الوصول إلى تعميمات تاريخية يتطلب مادة أولية واسعة سابقة تجعل الحديث عن نظام إنتاجي معين أقرب إلى الموضوعية.ولهذا سوف نعرض شيئاً من المادة السابقة ، ولكن في إطار جديد ، ذي منحى اقتصادي ـ اجتماعي ، وليس فكرياً كما كان الحال في السابق.
    لقد تضاربت الآراء النظرية حول تطور الشرق تضارباً واسعاً عميقاً ، وأتجه مفكرون إلى إعطاء تطور الشرق منحنىً خاصاً مستقلاً كلياً عن تطور الغرب ، في حين أكد آخرون النمط المشترك للتشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية في تاريخ الإنسانية.
    لقد كان كارل ماركس وفردريك أنجلز هما مكتشفا التشكيلات الخمس وتعاقبها وهي : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية.
    ولكن اكتشافهما هذا خضع لتطور معرفتهما بالتاريخ البشري ، ففي سنوات ما تسمى بسنوات الشباب قالا أيضاً ب ” الأسلوب الآسيوي للإنتاج ” ، الذي يعقب المشاعية في الشرق ويختلط اختلاطاً غامضاً بالعبودية والإقطاع ، بحيث يغدو مساراً خاصاً للأمم الشرق ، ولكن في سنوات النضج النظري ، والذي يتحدد عموماً بكتاب ” رأس المال ” فقد اختفى أسم أسلوب الإنتاج الآسيوي هذا ، مما يدلل على مراجعة ماركس لسيرورة الإنتاج البشري عامة ، ولكن هذه المراجعة لم تظهر بشكل نظري واضح.
    والواقع إن معلومات ماركس وانجلز عن تطور الشرق كانت معلومات قليلة ومحدودة لم تسعفهما في إنتاج تصور نظري شامل للتاريخ فيه ، رغم أهمية اكتشافهما لدور وسائل الري كمفتاح لفهم تاريخه.
    ولكن استنتاجهما حول الأسلوب الآسيوي للإنتاج ظل في الوعي التاريخي العام وتبناه العديد من الباحثين في الشرق.
    كما أن القائلين بالتشكيلات الخمس ظلوا يقدمون أبحاثهم حول تطور الشرق عبر هذه المراحل التاريخية الكبرى.
    إن الباحثين في أسلوب الإنتاج الآسيوي يحاولون اكتشاف خصوصية الشرق ومسارات التطور فيه ، ويبرزون هذه الخصوصية.
    وسوف نستعرض هنا بعض هذه الآراء الهامة المفيدة في اكتشاف سمات الشرق بالتقابل مع الغرب.
    يقول الياس مرقص : ( هل انتهى ماركس فعلاً إلى إخراج الأسلوب الآسيوي ـ من حيث انه أسلوب متكامل ـ من نموذج التاريخ الأوربي ؟ .. هذا ما نتصوره ، وهو واضح عند أنجلز وبليخانوف ، وإلا فما هو معنى الصفة الركودية للأسلوب المذكور ؟ هذا إذاً ما نتصوره .. ونعتقد أن الصفة الركودية مفتاح لا غنى عنه ، ومعناها واضح بالتقابل مع نموذج ” نموذج التطور ـ تعاقب الأنماط في أوربا.
    ويقول مقارناً بين النموذجين ” الآسيوي والغربي : وهذا النمط الاجتماعي لا يفسح المجال لحركة نمو صاعدة كتلك التي عرفها ” نموذج ” الملكية الخاصة والتي نقلته من نمط إلى آخر ، في حقبة قصيرة نسبياً”. لقد اكتفى ماركس بمفهوم الأسلوب الآسيوي أو الشرقي كنموذج مخالف لنماذج الملكية الخاصة المهيمنة في التاريخ الأوربي ” ، ” هذا الأسلوب الذي يسمح بإنشاء منجزات عظيمة عند ظهوره وفي حقب ازدهاره الدورية ، في العلم والتكنيك وسائر ميادين الحضارة المادية والفكرية ..يصبح في مرحلة لاحقة عامل جمود طويل ، ويتكشف عن ضعف مخيف في مواجهة عالم الملكية الخاصة وديناميكيته ومنجزاته .) ، (1 ).
    في هذا المقطع يعطي المفكر العربي الياس مرقص الأسلوب الأسيوي تعميماً يجرده فوق الطبقات والمسار الملموس للتاريخ فتتشكل صفات خاصة به ، فله طابع دوري من النهوض والركود ، وتهيمن فيه الملكية العامة عبر تقابل مضاد مع الغرب المتنامي والمتطور عبر التاريخ وذي الملكية الخاصة.
    ويؤكد إن الملكية الخاصة موجودة في ( المجتمعات الشرقية كما في المجتمعات الغربية ، إنما الفرق يكمن في إن هذه القوى لا تنجح في الشرق) ، (2 ) ، كما يقول ( إن صراع الطبقات في الأسلوب الآسيوي طرح محدود ، صراع من نوع آخر لا يفضي إلى حركة التقدم التاريخية ) ،(3 ) ، ويضيف ( إن المجتمع الآسيوي في موضوع الطبقات وصراعها ـ حالة وسط بين المجتمع الشيوعي البدائي الخالي من الطبقات والمجتمع الطبقي العبودي أو الإقطاعي وإن صراعه الطبق المحدود لا ينمو ولا ينبسط ..في صراع طبقي كامل يسير وفق ديناميكية صاعدة مبيدة لا منشئة ،(4).
    أما الباحث نايف بلوز فيعتبر أسلوب الإنتاج الآسيوي هو ( أول مجتمع طبقي عرفته البشرية) ، أي هو تشكيلة اقتصادية للمجتمع نشأت في أعقاب إنحلال المجتمع البدائي ، بل في أحشائه) ، ويضيف ( لقد نشأت في الشرق مع ظهور التمايز الاجتماعي وفي قلب علاقات الإنتاج الآسيوي ” سلطة عليا ” أخذت تشرف على الجماعات الريفية.. وكانت هذه السلطة بمثابة دولة تنفذ مهمات مركزية مشتركة لهذه الجماعات مثل فتح الترع والأقنية وتنظيم مجاري الأنهار وقيادة الحرب الخ .. لقد تحول موظفوها إلى الطبقة المستثمرة).
    وقد جاءت الإقطاعية ، حسب بلوز ، في أعقاب هذا الأسلوب الآسيوي ( والإقطاعية الشرقية قد اتصفت بالاعتماد على الري الاصطناعي وبوجود بقايا عبودية ، كما اتصفت بوجود بعض خصائص الجماعة الريفية البطريركية التي ظلت قائمة في قلب العلاقات الإقطاعية والتي تكيفت أكثر فأكثر مع أسلوب الاستثمار الإقطاعي ) ، (5 ) .
    أي أن نايف بلوز يرفض فقط وجود العبودية كتشكيلة متميزة في تاريخ الشرق ، بخلاف الياس مرقص الذي يحتفظ بها ، لكنه يجعلها تالية للأسلوب الآسيوي ، وبلوز ينتقل مباشرة من الأسلوب الآسيوي إلى التشكيلة الإقطاعية ، التي يعتبر التاريخ العربي ـ الإسلامي هو مجسدها في العصر الوسيط.
    إن الباحثين مرقص وبلوز يتفقان على تسمية مرحلة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي بأنها الأسلوب الآسيوي للإنتاج الذي نعرف بعض خصائصه ، غير إنه ليس أسلوباً عبودياً ، حيث يتصوران إنه لا بد أن يكون النظام العبودي ذا أغلبية من المنتجين العبيد .
    أما سمير أمين فإنه يشكل تعبيراً آخر للتشكيلة ” الآسيوية ” ، وهو تعبير ” النمط الخراجي ” ، وهو يحدد التاريخ البشري بأنماط خمسة هي:
    1 ـ نمط الإنتاج المشاعي ( الجماعي البدائي ) السابق على الأنماط الأخرى.
    2 ـ نمط الإنتاج الخراجي ( الأتاوي ) الذي يربط المشاعة القروية بجهاز اجتماعي سياسي لاستغلال هذه المشاعة بواسطة اقتطاع خراج ، وهو النمط الخراجي الأكثر شيوعاً الذي يسم التشكيلات الطبقية الما قبل رأسمالية.
    ويميز في هذا النمط مستويان :
    1 ـ الأشكال المبكرة ، كما في الطراز الإفريقي.
    2 ـ الأشكال المتطورة ، كما كانت الحال في الصين والهند ومصر وكما هو نمط الإنتاج الإقطاعي ، حيث تفقد المشاعة القروية ملكيتها للأرض لصالح الإقطاعيين وتبقى المشاعة العائلية.
    3 ـ نمط الإنتاج العبودي ، وهو نادر ويجده في حضارة الإغريق والرومان.
    4 ـ نمط الإنتاج الرأسمالي الغربي ، ( 6) .
    يقيم سمير أمين رؤيته للتاريخ الشرقي عبر نمط (التوزيع ) فيبدأ من كيفية توزيع الفائض الاقتصادي ، ويقسم مجتمعات الشرق حسب هذا الخراج ، ويلغي العبودية كلياً من تاريخ الشرق القديم ، معطياً تسمية الإقطاعية المتطورة لتشكيل هذا الخراج ، وعبر هذه الرؤية يعيش الشرق في ركود تاريخي ، أو تحجر سياسي واجتماعي وثقافي .
    ومن الملاحظات الملفتة للباحث سمير أمين هذا التعميم: ( إن الطبقة الحاكمة في هذا العالم مدينية مكونة من رجال بلاط وتجار ورجال دين ومن حولهم كل هذا العالم الصغير من الحرفيين والكتبة الذي يطبع بطابعه الخاص المدن الشرقية ) ويضيف: ( تشكل الطبقة القائدة ملاط هذا الكل ، لقد تبنت في كل الأنحاء اللغة ذاتها ، والثقافة الإسلامية الأرثوذكسية السنية .. هذه الطبقة هي التي أنتجت الحضارة العربية ، إن ازدهارها ناجم عن ازدهار التجارة البعيدة ، والتجارة هذه في أصل تحالفها مع القبائل البدوية ، وقادة قوافله وفي أصل عزلة المناطق الزراعية التي حافظت على شخصيتها الخاصة بها ـ اللغوية ( على مستوى البربر ) أو الدينية ( على مستوى الشيعة ) ، لكنها لم تلعب دوراً مهماً في النظام ) ، ( 7 ).
    إن الملاحظات والتعميمات الأخيرة أو السابقة تحتاج إلى فحص تفصيلي ، وفي هذا الفصل سوف نتابع تحليل مسالة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي ، باعتبارها مسألة محورية في الانتقال العربي ـ الإسلامي إلى الحضارة ، ولا بد من قراءة نماذج محورية نموذجية في المشرق لكي نرى مصداقية هذه التعميمات النظرية، مرجئين فحص تعميمات المذاهب إلى الجزئين التاليين.


    ثانياً ، العبودية المعممة في الشرق
    يؤيد العديد من الباحثين في العالم الثالث والمتقدم نظرية الأسلوب الآسيوي للإنتاج ، باعتبارها مرحلة مميزة لتطور الشرق وأمريكا قبل كولمبس.
    يقول الباحث الماركسي الفرنسي م . غوديليه :
    ( يبدو لنا إن ماركس إذ يصف أسلوب الإنتاج الآسيوي ، فهو يصف ، دون أن يعي ذلك بدقة ، شكل التنظيم الاجتماعي الذي يميز الانتقال من المجتمع اللاطبقي إلى المجتمع الطبقي.. ويبدو لنا إن بنية أسلوب الإنتاج الآسيوي توافق مراحل معينة من الانتقال إلى المجتمع الطبقي وتنتشر على نطاق تاريخي وجغرافي أكثر شمولاً بكثير مما تصوره ماركس : إمبراطوريات أمريكا قبل كولومبس ، الممالك الإفريقية ، ممالك الميكناي ” الإغريقية ” ) ، (8 ) .
    ما هي السمات الجوهرية لأسلوب الإنتاج الآسيوي الانتقالي هذا ؟
    إن ملاحظات الكثير من الباحثين تحددها في :
    إن هذا الأسلوب يتصف بالتمازج التناقضي بين البنية المشاعية للمجتمع ، والمُـلكية القبلية ، والمشاعية ، والجماعية للأرض ، من جهة ، وبين استغلال العاملين من قبل الدولة الاستبدادية ، من جهة أخرى.
    ويرفض باحثون عالميون آخرون مقولة الأسلوب الآسيوي ، ويؤكد هؤلاء بأنه منذ أول انقسام طبقي للمجتمع وحتى الثورات البرجوازية كانت الإقطاعية هي السائدة في جميع البلدان ، وعلى إن تاريخ البشرية يعرف أربع تشكيلات فقط هي : المشاعية ـ الإقطاعية ـ الرأسمالية ـ الاشتراكية، ( 9 ) .
    ويطرح الباحث ف. تيوكي مقولة الطريق ” الطبيعي ” للتطور والطريق ” الاستثنائي ” للتاريخ ، ويؤيد ج . شينو هذا الرأي ، ويبينان إن النظام المشاعي تبعه النظام ” الآسيوي ” وعلى هذا المسار سارت جميع شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا حتى أوائل العصر الحديث .
    أما بلدان أوربا فقد تطورت على طريق استثنائي ، فلقد جاء بعد النظام المشاعي النظام العبودي ثم الإقطاعي فالرأسمالي .
    لكن أسباب هذا التحول ( مازالت بحاجة إلى تحديد وبحث ) ، (10 ).
    يكتب تيوكي ” برأينا .. في آسيا وفي كل مكان ، باستثناء أوربا ، تشكلت أنظمة المشاعات الزراعية والأنظمة الخراجية على أقرب ما يكون إلى الشكل الطبيعي على أساس ملكية الأرض المشاعية البدائية ، بدون تأثير أية عوامل تاريخية خاصة. إن هذا التطور ، رغم إنه في تفاصيله يمكن ويتوجب إرجاعه إلى تأثير عوامل كثيرة ومختلفة ، إلا أنه في أساسه يعتبر طبيعياً. إن النموذج اليوناني في التطور بالتحديد ( وهو ، على ما يبدو ، وحيد من نوعه في تاريخ البشرية ) ، وهو وحده الذي كان نتيجة تأثير عوامل تاريخية خاصة ( خاصة بالمعنى الفلسفي لهذه الكلمة ) ، 11) .
    ويؤيد م . فابر هذا الرأي ويقول بأن تاريخ البشرية ” يتأرجح بين قطبين ـ قطب أسلوب الإنتاج الآسيوي وقطب آخر يمكن تسميته بالخط الأوربي للتطور ” ، (12).
    وتؤيد ج . فيلسكوب هذا الرأي كذلك وتضيف بأن العلاقات الإنتاجية التي تشكلت في الشرق القديم وهي استغلال المشاعات ، والأعمال الاجتماعية ” أعمال الري ” التي تدار مركزياً ، وغير ذلك هي ” تطور تاريخي خاص ” ، أما في أوربا ، وعلى أساس لا مركزية الإنتاج ونمو الملكية الخاصة ، فقد ” أمكن لتطور ذي طابع آخر أن يشق طريقه ويستمر في الإقطاعية الأوربية والرأسمالية الأوربية ” ، ( 13 ).
    ويعتبر غ . ليفين بأن تاريخ الصين تطور على طريق مختلف كلياً عن تاريخ أوربا ، فإذا كانت أوربا بعد المشاعي اجتازت التشكيلات العبودية والإقطاعية والرأسمالية ، فغن الصين اجتازت تشكيلات مختلفة مبدئياَ ، ففي البداية كانت هناك ” التشكيلة الآسيوية ” ، وبعدها ” ما قبل الرأسمالية ” التي لا يجد المؤلف لها تعبيراً أدق ، ( 14 ).
    يلاحظ مؤلف كتاب ” عبودية ، إقطاعية أم أسلوب إنتاج آسيوي ” ، يوري ف . كاتشانفسكي بأن العديد من الباحثين يستخدمون معايير تقليدية في فهم تاريخ الشرق ، فهم يتصورون بأن العبيد في ظل أسلوب الإنتاج العبودي الحقيقي أو المفترض يجب أن يكونوا محرومين من حيازة أي شيء ، ومحرومين من العائلة ومن أية حقوق أخرى.
    كما أن التصور التقليدي المستقى من التاريخ الأوربي ، والذي يؤكد بأن الإقطاعية تتصف ب ” التسلسل الهرمي للحيازات الزراعية ” ، وهو الأمر الذي تحقق في فرنسا بين القرن التاسع والثالث عشر الميلاديين ، لم يكن قائماً في الصين بين القرنين الخامس والسابع أو في ظل الخلافة العباسية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين ، وهو أمر يلغي وجود الإقطاع في الصين وفي التاريخ العربي ـ الإسلامي.
    كذلك فإن رؤية بعض الباحثين لأحد الشروط الأساسية في الإقطاع الأوربي وهو ملكية الأرض الخاصة ب ” السنيور ” وهو الأمر غير المتوفر في تاريخ الشرق حسب قولهم ، وسيطرة ملكية الدولة ، ينفي وجود الإقطاع في تاريخ الشرق.
    ونقترب أكثر من قراءة تاريخ الشرق عبر النظرية الوظيفية ، فما هو ملخص رأيها حول عمليات الانتقال الأولى في الشرق ؟
    إنها ترى بأنه ( في ظل أسلوب الإنتاج الآسيوي كانت الطبقة السائدة هي مجموعة من الناس برئاسة الملك ، تقوم ببعض الوظائف العامة الهامة ، ويدير هؤلاء الناس بناء الري ، والطرق ، والمنشآت الدفاعية ( سور الصين ) ويديرون الحياة الاقتصادية كلها.. وبالنتيجة ، فإن الناس الذين كانوا يقومون بالوظائف المُشار إليها اكتسبوا سلطة على السكان الباقين وأخذوا يستغلونهم ) ، ( 15 ).
    ويقول ل . ي . ماديار ( كان ظهور المجتمع الطبقي مرتبطاً بضرورة تنظيم الري الاصطناعي. إن خدم المشاعة ـ عشيرية كانت أم زراعية أم دينية ـ الذين كانوا يؤدون وظائف تنظيم الري ، يتجمعون في مسار التطور في طبقة سائدة تستغل المشاعة أو القبيلة وتتملك العمل الإضافي للمنتجين المباشرين) ، ( 16 ).
    ونعرض أخيراً الرأي المنتشر في أوساط علمية أخرى ، وهو ما طرحه الباحث شارل بارن حول (العبودية المُـعممة).
    ( يعدد بارن الخصائص التالية للعبودية المعممة ( الشاملة ):
    1 ـ استغلال قوة العمل المجانية تقريباً. فإذا كان مالك العبيد في العبودية التقليدية مضطراً لإنفاق مال لشراء العبد واطعامه واكسائه وتوفير مأوى ، فإنه في العبودية المُعممة يجبر المستغلون جماهير ضخمة من الفلاحين المنتزعين من عوائلهم وأشغالهم لفترة معينة على العمل لديهم.
    2 ـ في العبودية المعممة يجري هدر قوة العمل بشكل تدميري ، فإذا كان مالك العبيد الخاص في العبودية التقليدية يحاول استخدام عمل المنتجين من أجل الحصول على ربح ، فإنه في ظل العبودية المعممة يجري إنفاق قوة العمل ليس فقط على إقامة المنشآت النافعة اجتماعياً ( القنوات ، السدود وغيرها ) وإنما أيضاً على إقامة منشآت لا فائدة منها إطلاقاً ( أهرامات مصر ، القصور الهائلة ، المعابد وغيرها).
    3 ـ في ظل العبودية المعممة تجبر جماهير واسعة من المنتجين على العمل الفيزيولوجي غير المؤهل الشاق في أعمال الزراعة ، وفي جر ورفع الأثقال.
    4 ـ في ظل العبودية المعممة تجبر السلطة الحكومية الاستبدادية المشاعات الفلاحية على تخصيص قوة عمل من عندها من أجل الأعمال الاجتماعية الضخمة .. أما في ظل العبودية التقليدية فإن مالك العبيد الخاص يجبر العبيد على العمل في أرضه لمصلحته الخاصة .) ، (17 ).
    ويقول مؤلف ( عبودية .. ) كاتشانفسكي بأن العديد من الباحثين دعم وجهات نظر شارل بارن ، وهو رأي طرح بدءً من سنة 1966 ، وقد دعم شينو أفكار بارن بقوة ، قائلاً بأن أسلوب الاستغلال الذي يتحدث عنه بارن ” يتميز بشكل أساسي عن العبودية التقليدية وعن القنانة أيضاً ” ، وبأن بارن أقترب بذلك أكثر من الجميع نحو التحديد النظري لأسلوب الإنتاج ( الأسيوي ) واكتشاف قانونه الاقتصادي الأساسي ، ويقف ج . ج . غوبلو موقفاً قريباً من موقف بارن إذ يرى بأن الازدهار الذي شهدته مدنيات الشرق الأدنى بعد ” ثورة العصر الحجري الحديث ” تحقق على حساب ” استغلال لا مثيل له لجماهير الكادحة ” ، هذا الاستغلال الذي أتخذ شكل ” العبودية المعممة ” ، (18 ).
    وأما الباحثون الروس ( والسوفييت ) الذين لا يميلون إلى نظرية أسلوب الإنتاج الآسيوي في صورتها التقليدية فإنهم ينظرون إلى ” العبودية العامة ” من زوايا مختلفة ، فقد أشار ف . ف . ستروفه إلى الطابع العبودي في المجتمعات الشرقية القديمة ولكن عبر شكلين : عبودي وبطريركي ، ففي مصر كانت الدولة القديمة تجمع الريع ـ الضريبة من المشاعات الزراعية بطريقة بالغة القسوة.
    ويرى آ . ي . تيومينيف بأن العبودية المعممة لم تكن مصطلحاً أستخدم مصادفة ، وإنما هو تعبير عن أهم الخصائص المميزة للنظام الاجتماعي في الشرق ويضيف ” لقد أطلق على مصر أسم ( بيت العبودية ) (… ) لا لأنه فيها الكثير من العبيد ولكن بالدرجة الأولى لأن جميع السكان هناك كانوا يعيشون في ظروف العبودية ” ، ويعتبر تيومينيف الدليل الهام على هذه العبودية المعممة الوثائق عن الإكراه الواسع لسكان مصر على العمل في أشغل الري والبناء ، ويذكر عبارة الملكة حاشيبسوت التي تنص على أن مصر بكاملها ، رأس محني ، يجب أن تعمل من أجلها.
    إن هذه الآراء الأخيرة عن العبودية المعممة ستكون إحدى المفاتيح لقراءة تاريخ المشرق ورؤية سيرورته حتى ظهور العرب ودورهم في تغييره.

    أولاً ، هل هو الأسلوب الآسيوي للإنتاج ؟
    بعد أن بلغنا هذا المستوى من رحلة التحليل ، ورأينا العرب ينتقلون من البداوة إلى الحضارة ، من نظام ما قبل التاريخ إلى الدخول في التاريخ ، وليس هو التاريخ المحلي والمناطقي فحسب ، بل العالمي ، فلا بد من إعادة النظر في المادة الاجتماعية التاريخية السابقة لربطها بالتحولات العالمية ، أي رؤية النظام الاجتماعي الذي حمله العرب ، أو الذي انخرطوا فيه ، أو النظام الذي هو مزيج من ما حملوه ، وما كان سائداً وغيروه.
    إن الوصول إلى تعميمات تاريخية يتطلب مادة أولية واسعة سابقة تجعل الحديث عن نظام إنتاجي معين أقرب إلى الموضوعية.ولهذا سوف نعرض شيئاً من المادة السابقة ، ولكن في إطار جديد ، ذي منحى اقتصادي ـ اجتماعي ، وليس فكرياً كما كان الحال في السابق.
    لقد تضاربت الآراء النظرية حول تطور الشرق تضارباً واسعاً عميقاً ، وأتجه مفكرون إلى إعطاء تطور الشرق منحنىً خاصاً مستقلاً كلياً عن تطور الغرب ، في حين أكد آخرون النمط المشترك للتشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية في تاريخ الإنسانية.
    لقد كان كارل ماركس وفردريك أنجلز هما مكتشفا التشكيلات الخمس وتعاقبها وهي : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية.
    ولكن اكتشافهما هذا خضع لتطور معرفتهما بالتاريخ البشري ، ففي سنوات ما تسمى بسنوات الشباب قالا أيضاً ب ” الأسلوب الآسيوي للإنتاج ” ، الذي يعقب المشاعية في الشرق ويختلط اختلاطاً غامضاً بالعبودية والإقطاع ، بحيث يغدو مساراً خاصاً للأمم الشرق ، ولكن في سنوات النضج النظري ، والذي يتحدد عموماً بكتاب ” رأس المال ” فقد اختفى أسم أسلوب الإنتاج الآسيوي هذا ، مما يدلل على مراجعة ماركس لسيرورة الإنتاج البشري عامة ، ولكن هذه المراجعة لم تظهر بشكل نظري واضح.
    والواقع إن معلومات ماركس وانجلز عن تطور الشرق كانت معلومات قليلة ومحدودة لم تسعفهما في إنتاج تصور نظري شامل للتاريخ فيه ، رغم أهمية اكتشافهما لدور وسائل الري كمفتاح لفهم تاريخه.
    ولكن استنتاجهما حول الأسلوب الآسيوي للإنتاج ظل في الوعي التاريخي العام وتبناه العديد من الباحثين في الشرق.
    كما أن القائلين بالتشكيلات الخمس ظلوا يقدمون أبحاثهم حول تطور الشرق عبر هذه المراحل التاريخية الكبرى.
    إن الباحثين في أسلوب الإنتاج الآسيوي يحاولون اكتشاف خصوصية الشرق ومسارات التطور فيه ، ويبرزون هذه الخصوصية.
    وسوف نستعرض هنا بعض هذه الآراء الهامة المفيدة في اكتشاف سمات الشرق بالتقابل مع الغرب.
    يقول الياس مرقص : ( هل انتهى ماركس فعلاً إلى إخراج الأسلوب الآسيوي ـ من حيث انه أسلوب متكامل ـ من نموذج التاريخ الأوربي ؟ .. هذا ما نتصوره ، وهو واضح عند أنجلز وبليخانوف ، وإلا فما هو معنى الصفة الركودية للأسلوب المذكور ؟ هذا إذاً ما نتصوره .. ونعتقد أن الصفة الركودية مفتاح لا غنى عنه ، ومعناها واضح بالتقابل مع نموذج ” نموذج التطور ـ تعاقب الأنماط في أوربا.
    ويقول مقارناً بين النموذجين ” الآسيوي والغربي : وهذا النمط الاجتماعي لا يفسح المجال لحركة نمو صاعدة كتلك التي عرفها ” نموذج ” الملكية الخاصة والتي نقلته من نمط إلى آخر ، في حقبة قصيرة نسبياً”. لقد اكتفى ماركس بمفهوم الأسلوب الآسيوي أو الشرقي كنموذج مخالف لنماذج الملكية الخاصة المهيمنة في التاريخ الأوربي ” ، ” هذا الأسلوب الذي يسمح بإنشاء منجزات عظيمة عند ظهوره وفي حقب ازدهاره الدورية ، في العلم والتكنيك وسائر ميادين الحضارة المادية والفكرية ..يصبح في مرحلة لاحقة عامل جمود طويل ، ويتكشف عن ضعف مخيف في مواجهة عالم الملكية الخاصة وديناميكيته ومنجزاته .) ، (1 ).
    في هذا المقطع يعطي المفكر العربي الياس مرقص الأسلوب الأسيوي تعميماً يجرده فوق الطبقات والمسار الملموس للتاريخ فتتشكل صفات خاصة به ، فله طابع دوري من النهوض والركود ، وتهيمن فيه الملكية العامة عبر تقابل مضاد مع الغرب المتنامي والمتطور عبر التاريخ وذي الملكية الخاصة.
    ويؤكد إن الملكية الخاصة موجودة في ( المجتمعات الشرقية كما في المجتمعات الغربية ، إنما الفرق يكمن في إن هذه القوى لا تنجح في الشرق) ، (2 ) ، كما يقول ( إن صراع الطبقات في الأسلوب الآسيوي طرح محدود ، صراع من نوع آخر لا يفضي إلى حركة التقدم التاريخية ) ،(3 ) ، ويضيف ( إن المجتمع الآسيوي في موضوع الطبقات وصراعها ـ حالة وسط بين المجتمع الشيوعي البدائي الخالي من الطبقات والمجتمع الطبقي العبودي أو الإقطاعي وإن صراعه الطبق المحدود لا ينمو ولا ينبسط ..في صراع طبقي كامل يسير وفق ديناميكية صاعدة مبيدة لا منشئة ،(4).
    أما الباحث نايف بلوز فيعتبر أسلوب الإنتاج الآسيوي هو ( أول مجتمع طبقي عرفته البشرية) ، أي هو تشكيلة اقتصادية للمجتمع نشأت في أعقاب إنحلال المجتمع البدائي ، بل في أحشائه) ، ويضيف ( لقد نشأت في الشرق مع ظهور التمايز الاجتماعي وفي قلب علاقات الإنتاج الآسيوي ” سلطة عليا ” أخذت تشرف على الجماعات الريفية.. وكانت هذه السلطة بمثابة دولة تنفذ مهمات مركزية مشتركة لهذه الجماعات مثل فتح الترع والأقنية وتنظيم مجاري الأنهار وقيادة الحرب الخ .. لقد تحول موظفوها إلى الطبقة المستثمرة).
    وقد جاءت الإقطاعية ، حسب بلوز ، في أعقاب هذا الأسلوب الآسيوي ( والإقطاعية الشرقية قد اتصفت بالاعتماد على الري الاصطناعي وبوجود بقايا عبودية ، كما اتصفت بوجود بعض خصائص الجماعة الريفية البطريركية التي ظلت قائمة في قلب العلاقات الإقطاعية والتي تكيفت أكثر فأكثر مع أسلوب الاستثمار الإقطاعي ) ، (5 ) .
    أي أن نايف بلوز يرفض فقط وجود العبودية كتشكيلة متميزة في تاريخ الشرق ، بخلاف الياس مرقص الذي يحتفظ بها ، لكنه يجعلها تالية للأسلوب الآسيوي ، وبلوز ينتقل مباشرة من الأسلوب الآسيوي إلى التشكيلة الإقطاعية ، التي يعتبر التاريخ العربي ـ الإسلامي هو مجسدها في العصر الوسيط.
    إن الباحثين مرقص وبلوز يتفقان على تسمية مرحلة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي بأنها الأسلوب الآسيوي للإنتاج الذي نعرف بعض خصائصه ، غير إنه ليس أسلوباً عبودياً ، حيث يتصوران إنه لا بد أن يكون النظام العبودي ذا أغلبية من المنتجين العبيد .
    أما سمير أمين فإنه يشكل تعبيراً آخر للتشكيلة ” الآسيوية ” ، وهو تعبير ” النمط الخراجي ” ، وهو يحدد التاريخ البشري بأنماط خمسة هي:
    1 ـ نمط الإنتاج المشاعي ( الجماعي البدائي ) السابق على الأنماط الأخرى.
    2 ـ نمط الإنتاج الخراجي ( الأتاوي ) الذي يربط المشاعة القروية بجهاز اجتماعي سياسي لاستغلال هذه المشاعة بواسطة اقتطاع خراج ، وهو النمط الخراجي الأكثر شيوعاً الذي يسم التشكيلات الطبقية الما قبل رأسمالية.
    ويميز في هذا النمط مستويان :
    1 ـ الأشكال المبكرة ، كما في الطراز الإفريقي.
    2 ـ الأشكال المتطورة ، كما كانت الحال في الصين والهند ومصر وكما هو نمط الإنتاج الإقطاعي ، حيث تفقد المشاعة القروية ملكيتها للأرض لصالح الإقطاعيين وتبقى المشاعة العائلية.
    3 ـ نمط الإنتاج العبودي ، وهو نادر ويجده في حضارة الإغريق والرومان.
    4 ـ نمط الإنتاج الرأسمالي الغربي ، ( 6) .
    يقيم سمير أمين رؤيته للتاريخ الشرقي عبر نمط (التوزيع ) فيبدأ من كيفية توزيع الفائض الاقتصادي ، ويقسم مجتمعات الشرق حسب هذا الخراج ، ويلغي العبودية كلياً من تاريخ الشرق القديم ، معطياً تسمية الإقطاعية المتطورة لتشكيل هذا الخراج ، وعبر هذه الرؤية يعيش الشرق في ركود تاريخي ، أو تحجر سياسي واجتماعي وثقافي .
    ومن الملاحظات الملفتة للباحث سمير أمين هذا التعميم: ( إن الطبقة الحاكمة في هذا العالم مدينية مكونة من رجال بلاط وتجار ورجال دين ومن حولهم كل هذا العالم الصغير من الحرفيين والكتبة الذي يطبع بطابعه الخاص المدن الشرقية ) ويضيف: ( تشكل الطبقة القائدة ملاط هذا الكل ، لقد تبنت في كل الأنحاء اللغة ذاتها ، والثقافة الإسلامية الأرثوذكسية السنية .. هذه الطبقة هي التي أنتجت الحضارة العربية ، إن ازدهارها ناجم عن ازدهار التجارة البعيدة ، والتجارة هذه في أصل تحالفها مع القبائل البدوية ، وقادة قوافله وفي أصل عزلة المناطق الزراعية التي حافظت على شخصيتها الخاصة بها ـ اللغوية ( على مستوى البربر ) أو الدينية ( على مستوى الشيعة ) ، لكنها لم تلعب دوراً مهماً في النظام ) ، ( 7 ).
    إن الملاحظات والتعميمات الأخيرة أو السابقة تحتاج إلى فحص تفصيلي ، وفي هذا الفصل سوف نتابع تحليل مسالة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي ، باعتبارها مسألة محورية في الانتقال العربي ـ الإسلامي إلى الحضارة ، ولا بد من قراءة نماذج محورية نموذجية في المشرق لكي نرى مصداقية هذه التعميمات النظرية، مرجئين فحص تعميمات المذاهب إلى الجزئين التاليين.

    ثالثاً ، العبودية المعممة في العراق
    بدأت الحضارة في منطقة المشرق ، وكان ذلك يعني بروز مدن سيادية في جنوب العراق . لكن المدينة لم تكن ظهرت كسوق ، بل كتطور اقتصادي وفكري من القرية. أن القرية الزراعية ذات الأراضي الخصبة هي مملوكة للمعبد ، أي للإله ، أي للقبيلة. والقبيلة التي تقوم بالزراعة تجد انقساماتها الجنينية وترابطها معاً في كل مشترك ، والكاهن أو الساحر الذي يقوم بالهيمنة على المعبد ، وهو مركز الملكية العامة ، يغدو مع سيرورة التطور ملكاً.
    ولكن هذا التطور يتصف بجوانب تركيبية معقدة ، فالمدينة تظل لفترة طويلة بين البنية المشاعية الزراعية وبين الانقسامات الاجتماعية ، وإن هذا الانقسامات الأساسية تظهر في وظيفية المؤسسات الدينية والاقتصادية المهيمنة ، في حين إن الترابط الاجتماعي والقبلي يظل مستمرا ومعتمداُ على الملكية المشتركة للأرض.
    و لا تتحول المؤسسات الحاكمة بشكل سريع إلى القهر ، بل هي تنمو عبر الأشكال الديمقراطية القبلية المتوارثة ، ولهذا فإن مجالس المدن أي مجالس شيوخ المدينة تظل لفترة طويلة وهي متداخلة مع السلطة التنفيذية ، معبرة عن التعاون بين رؤساء القبيلة أو القبائل المتحالفة الحاكمة في المدينة أو المدن ، وهذا يشير إلى السمات المتداخلة بين المشاعية الغاربة والمجتمع العبودي القادم.
    إن الملكية العامة على الأرض تعطينا بعدين متناقضين دائماً ، الأول هو بعد التعاون والمشاركة ، حين يكون الحاكم أو الحكام أو مؤسسات الشورى والحكماء ، تقوم بدور إيجابي مع المنتجين.
    لكن عوامل الانقسامات الاجتماعية تظل متنامية بشكل مستمر ، عبر سيطرة حكام ينتزعون الثروة لأنفسهم وعائلاتهم ، ويدفعهم ذلك إلى الاستغلال بشكليه الأفقي والرأسي ، والأول يقوم على التوسع الجغرافي للمدينة ، والثاني بزيادة وتيرة استغلال المنتجين.
    وتشكل عوامل السيطرة على الأراضي الخصبة وإقامة منشآت الري العامة التي هي أساس الوضع الزراعي في الجنوب العراقي ، ومطاردة البدو والدفاع عن المدن وغيرها ، أسباباً في تطور جهاز الدولة وانفصاله عن المنتجين وهيئات الشورى ، وبروز الملكية المطلقة ، التي كانت دائماً تنمو مع الدين ، حيث الكاهن كان في البدء هو الحاكم.
    لا يعني ذلك عدم ظهور الملكية الخاصة . إن الملكية الخاصة تنشأ من الملكية الشخصية في الأرض والاقتصاد المدني ، حيث تبدأ المدينة في النمو كسوق في مناطق معينة ، وبعد ذلك تنشأ الفئات التجارية والحرفية المختلفة.
    ولكن كل ذلك لا يعني عدم وجود نظام اجتماعي ، فنظام العبودية المعممة يبدأ من سيطرة القوى السياسية ـ الدينية الحاكمة على المنتجين ، حيث تظهر عملية الخضوع المطلقة للمعبد ، الذي يمثل في المرحلة الأولى ازدواجية السلطتين السياسية والدينية ، فإن انفصام السلطتين وبروز الملكية قوة مطلقة ، يعزز طابع العبودية المعممة ، ويحول الكهنة إلى فئة تابعة للملك.
    إن سيرورة المنتجين عبيداً دينيين وسياسيين ، يتأتى إذن من التضافر بين المعبد وملكية الأرض.والتداخل بين السيطرة الدينية والسياسية على الفلاحين.
    إن بروز الفلاحين بطابع شبه مستقل في بدايات التاريخ الحضاري ، لا يعني انعدام العبودية العامة ، التي تتنامى مع تعمق التناقضات الطبقية ، ووجود فئات حرة وبرجوازية تجارية لا يمنع من رؤية التطور الشامل للبنية الاجتماعية وسماتها الرئيسية التي تبرز بصورة تدريجية.
    إن تطور المدينة كحقل مملوك مشاعياً وكمعبد ، يعبر عن الخصائص الجوهرية ، التي هي بمثابة قوانين موضوعية ، كامنة في الخلية الأولى ، حيث نرى عبودية الحقل ومنتجيه للمعبد ورموزه والمسيطرين على هذه الرموز.
    وهذه السيطرة المطلقة التي لا تبدو مطلقة يوضحها التطور ، حيث تتمركز السلطة المطلقة في الآلهة المحددين والملك ، ثم تتسع المُلكية وتتجذر الملكية مطيحة بالمدن الحرة والفئات المستقلة والأنواع الثقافية ، جاعلة كل شيء تحت سيطرتها.
    لهذا فنحن لا نجد مجالس الشورى والحكام المستقلين في عهود حمورابي و ، كذلك فنحن لا نجد ملحمة جلجامش إلا في زمنه التاريخي ، حيث مدينة أور بمربعاتها.. المحددة. إن ابتلاع العبودية العامة للثروة المادية يقود إلى تدهور الأنواع الفكرية والإبداعية المستقلة ، وتحول العلوم إلى ملاحق للقصور والمعابد ، كما أن الإبداعات الدرامية والملحمية التي حصلت على بعض البذور في أزمنة المدن الحرة تختفي كلياً. ولا يجد الوعي طريقاً لاكتشاف تناقضات الوجود الاجتماعي إلا عبر الدين ، المؤسسة الفكرية الشاملة المرافقة للعبودية العامة.
    ولا يتعارض هذا مع الازدهار المؤقت للمملكة أو حتى الإمبراطورية ، فاتساع المملكة يترافق ونمو التجارة والعلوم والآداب الجزئية ، ولكن الدولة المقامة على الغزو المستمر ، وتحويل الشعوب الأخرى إلى عبيد ليسوا سياسيين فقط بل عبيداً كاملين. ، يؤدي إلى زيادة النفقات العسكرية والبذخية والمنشآت ” الأسطورية ” كالأهرامات وحدائق بابل المعلقة والقصور والأبراج الخ.. ثم يؤدي إلى انتفاضات الشعوب الأخرى وحروبها المضادة ، وانهيار الممالك المزدهرة.
    وكما أن نمو وازدهار المجتمع يرتبط بنمو مؤسسة الملكية وتوسعها الجغرافي والتجاري و” الصناعي ” ـ حيث البحث المستمر عن الخامات النفسية ـ فإن الانهيار مرتبط بهذه المؤسسة نفسها ، حيث يغدو المجتمع كله تابعاً وعبداً ، للملك الإله ، الرجل المعبود ، للفرعون ، أو لنبو خذ نصر الذي ينحني ملوك الأرض كلهم تحت قدميه.
    إن هذه السمات تحدث في أول حضارة بشرية بجنوب العراق ، التي يزداد عنفها مع هذا التصاعد في نمو مؤسساتها الحاكمة ، وتغلغل القبائل السامية البدوية في عروقها السومرية وهي الحضارة المسالمة السابقة. وهي المماثلة للحضارة المصرية قبل أن يأتي الهكسوس ، ويدفعونها للعنف المتزايد والتوسع واستئجار المحاربين والانطفاء في خاتمة المطاف.

    رابعاً : الكعنانيون ( الفينيقيون ) الرأسمالية المهزومة
    تحددت إذن الملامح العامة للمشرق (العربي) بالنظامين العبوديين العامين ؛ الرافدي والمصري ، عبر سيطرتيهما على أكبر الأنهار والشعوب المجاورة لهما.وكان النظام الرافدي ، عبر دوله المتعاقبة ، هو البادئ في التوسع وضم المناطق الأخرى القريبة ثم البعيدة ، بسبب نشوئه المسبق وتطوره من حيث الإنتاج والمواصلات ، وعبر هذا الإلحاق كان النظام العبودي المعمم يمنع تطور المدن والشعوب المستقلة ، وبسبب ذلك كان تراكم عمليات التطور الاجتماعي والفكري تتوقف على المدى البعيد.
    كانت المحاولة الكبيرة في المشرق للخروج من نظام العبودية المعممة تتمثل في خروج شعب نشط من الجزيرة العربية للسكن على ساحل البحر البيض المتوسط الشرقي ، وهم الذين عرفوا بالكنعانيين أو بالفينيقيين حسب التسمية الإغريقية.
    لم يستطع الكنعانيون السكن في العراق أو مصر ، فاختاروا موقعاً وسطاً هو ما يعرف الآن بسوريا ولبنان.
    كانوا قادمين من جنوب الجزيرة العربية ويبين مؤرخٌ إن شعباً قدم : ( في الألف الثاني قبل الميلاد جاء يستقر فوق رقعة الأرض الضيقة بين البحر الأبيض المتوسط وجبال لبنان .. من شبه الجزيرة العربية ، وهذا الشعب كان يدعى ب ( الشعب الأحمر ) أو ب (الحميريين ) ، الجذر الثلاثي ، (ح م ر ) الذي مازال في أيامنا هذه يعني في العربية الاحمرار ) ، (19 ).
    وقد استطاع هذا الشعب بخروجه عن هيمنة النظامين المستبدين العريقين في المشرق أن يؤسس مدناً مستقلة هي دويلات مدن.
    فهي : ( مدن مستقلة عن بعضها البعض شكلت كل منها شبه دولة لنفسها وخضعت بشكل أساسي عند إقامة علاقاتها الخارجية لرغباتها المحلية ومصالحها الخاصة ) ، ( 20 ).
    أسس الفينيقيون إذاً المدن المزدهرة على الساحل المتوسطي الشرقي في البداية ، وكانت جذورهم الرعوية تضعف لصالح استقرارهم الزراعي والحرفي والتجاري ، ثم تغدو التجارة هي ذروة تطورهم.
    كانت التعددية الوثنية هي أساس تصوراتهم مثلهم مثل بقية أه المنطقة ، وشكلوا تميزهم داخل هذه المنظومات الدينية ، عبر وجود أبرز الآلهة ” إيل ” ثم ” شمش ” وهو إله الشمس و” عليان بعل ” إله الحياة و ” موت ” أله الموت ، ولديهم عشتروت وأدونيس وهو الإله المخصص للخصب والربيع ، والطبعة الفينيقية من تموز وأوزوريس.
    إن الشريط الجبلي على ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي لم يستطع أن يحمي هذه المدن ـ الدول المتناثرة من الغزوات المستمرة من الإمبراطوريات ، ولا أيضاً الأسوار المنيعة قدرت أن تحمي الثروات المادية ، ولا الأنظمة الملكية وجيوشها الصغيرة من الأهالي ، لهذا فإن التراكم المالي لم يستطع أن يبلور طبقات متوسطة قوية تنافس وتحوز الحكم من الملوك الآلهة ، فظلت الحكومات المستبدة والإرث القبلي وضعف الإنتاج الفكري التحرري سائداً في المدن الفينيقية العديدة ، سواء على الساحل المتوسطي الشرقي أم على طول خطوط المستعمرات الفينيقية في شمال أفريقيا.
    ولكن حتى هذه الحرية الاقتصادية الهامة تم فقدانها عبر استيلاء الإمبراطوريات المختلفة على هذه المدن ، فكان ذلك إضعافاً متقطعاً على مدى قرون ، ثم انهياراً كلياً على أيدي الإغريق والرومان.
    أعطت هذه المدن إنجازات كبيرة للبشرية فجبيل ( بيبلوس ) اعتبرت ( المدينة الأم للكتابة ، ومنها أيضاً بقيت تسمية Bible ـ الكتاب المقدس في اللغات العالمية حتى اليوم ، وهي مدينة الأبجدية الحديثة الأولى ، ( 21 ).
    وغدت صور من أكبر المدن التجارية وأهمها ، وفي العهد القديم نقرأ عن العلاقات التجارية الواسعة لصور بالمدن المختلفة والقبائل والشعوب في سفر حزقيال ، الإصحاح السابع والعشرين.
    كذلك فإن مدينتي صيدا وبيروت لا تقلان عن السابقتين أهمية وبروزاً في التجارة.
    لقد استطاع الكنعانيون تحقيق إنجازات كبيرة في تشكيل ملاحة عالمية في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي ، وتقدموا في علم الفلك وفنون تشييد المعابد والمدن ، وصناعة الحلي وفن الصياغة وصناعة النسيج وإنتاج الصبغة الأرجواني و وصناعة الزجاج.
    يقول عنهم القاموس المنجد :
    ( تمكنوا بفضل سيادة صور من مد نفوذهم التجاري حتى حماة ودمشق وأسسوا على شواطئ المتوسط المصارف والمتاجر والمستعمرات المصرفية ف يكل مكان وبلغوا أسبانيا ( بلاد ترشيش ) بحثاً عن الفضة والقصدير ، شيدوا مراكز هامة على الشاطئ الإفريقي أهمها قرطاجة وسبراطة وحضروميت ، وعلى الأوربي ملقة وقادش ( أسبانيا ) ومالطة في المتوسط ..
    اصطدموا بالآشوريين (…) تعاقب على بلادهم المصريون ثم الفرس فاليونان بعد أيسوس 333 ق . م ثم الرومان 94 ق .م . ) ، (22 ).
    توضح هذه الفقرات الطبيعة التجارية الواسعة ، والإنجازات السياسية والثقافية المحدودة ، فنحن نرى رأسمالية تجارية ممتدة جغرافياً ، تجري نحو المواد الخام والأسواق والأرباح ، لكنها لا تشكل مدناً حرة تعيش مستقلة ، وبالتالي فإنها لا تجذر تجربتها الرأسمالية في الصناعة أو في العلوم أو في المنجزات الثقافية الكبرى كالدراما والملاحم ، فالطبقات التجارية تخضع للمصادرات المستمرة من قبل الدول الخارجية ، فترحل نحو مواقع جديدة لا تلبث أن تتعرض للحروب والمنافسة من قبل الإغريق والتدمير الروماني في خاتمة المطاف. وقد ساهم تبعثر المدن والمستعمرات الفينيقية في عدم تمركز رأسمال وعدم انتقاله للصناعة بشكل عميق .
    لقد كان الساحل الشرقي للمتوسط على مرمى حجر من قلاع العبودية المعممة ، فجعل المدن الكنعانية قلاعاً أخرى ، ذات بُنى دينية ، يحكمها ملوك ـ آلهة فخضعت لنسيج المشرق الفكري والسياسي .
    ( إن قدسية الملوك كانت تستمد قوتها من اعتبارهم أبناء الآلهة ، لقد ” كارت ” الملك الكنعاني ، أبن أيل ” الإله الأكبر) ، (23 ).
    لم تستطع التجارة أن تخترق هذا الغشاء العبودي المعمم السميك.إنها كانت بحاجة إلى تجذر في المدن الحرة وتشابك مع الصناعة والعلوم ، وبحيث إن التراكم المالي والمعرفي لا يُقطع على مدى قرون ، وكان ذلك مستحيلاً في ذلك المدى الجغرافي.

    خامساً ، حضارة الإغريق : ازدهار الرأسمالية
    بدأت تتشكل الحضارة الإغريقية في زمن الفصل الأخير لأنظمة العبودية المعممة في المشرق ، وهي كجارتها ومنافستها الحضارة الفينيقية اتخذت من الشواطئ الشرقية والشمالية للبحر الأبيض المتوسط ومن الجزر اليونانية والبر اليوناني ، مدنها وتطورها.
    تأسست المدن اليونانية القديمة ، في القسم الأوسط بالقسم الجنوبي من اليونان ( المعاصرة ) ، على شاطئ آسيا الصغرى لبحر إيجه ، وفي العديد من الجزر ) ، (24 ).
    يقول هيرودوتس : إن الفقر كان شقيق هلادة بالرضاعة ، ولم يلبث اليونانيون أن انصرفوا إلى الصناعة اليدوية والتجارة ، نظراً إلى أن المداخيل المتأتية من الزراعة كانت زهيدة ، وقد قادهم تكاثر السكان في الحواضر إلى إنشاء المستعمرات في أراض غير مأهولة ، في الجوار أولاً ، ثم في أمكنة أبعد.) ، (25) .
    وحوالي نهاية القرن السابع ق . م . تجاوز البحارة والتجار اليونانيون الإطار الأولي للتجارة ، مع الدول المجاورة ثم مع بلدان أبعد ، فظهروا في أسواق الشرق وأخرجوا الفينيقيين ، منافسيهم الماكرين ، من البحر الأبيض المتوسط ) ، (26 ).
    علينا أن نرى الحضارة الإغريقية كحضارة ذات جذور شرقية كبيرة ، فقد سكنها الكنعانيون والمصريون ووضعوا الأسس للحضارة الأممية وجذور المدن الأولى ، ثم جاءت القبائل الذكورية من العنصر الهندو أوربي لتكتسح التكوينات القديمة وتهضمها ، وتكونت المدن اليونانية الأولى في آسيا الوسطى عبر التأثير الفكري الشرقي المتعدد الصور. ( راجع : ملامــح من التلاقــح الحضاري بين الشرق والغرب لعلي الشوك ، الذي يدرس ما أخذه الإغريق من أساطير وآداب المشرق ، مصدر سابق).
    لكن الإرث الأدبي والفني والديني خضع للتحولات الداخلية لتطور المجتمع اليوناني المتكون من عدة مدن ـ دول ، ذات أنظمة متباينة.
    وإذا كانت الدول ـ المدن الكنعانية تنمو تحت رحمة أنظمة العبودية العامة المكتسحة لها دائماً ، فإن الإغريق استفادوا من الطبيعة الجغرافية الجزرية التي تحولت على إلى القلب للبلد بالانتقال من آسيا الوسطى ، فغدت خط الدفاع الأول .
    إن الكنعانيين أعطوا اليونانيين ، إضافة إلى كل المنجزات الاجتماعية والثقافية ، حرفة صناعة السفن ، وهي الأداة الأولى للتوسع التجاري ومراكمة الفائض النقدي ، وكذلك منجزات التجارة نفسها.
    عبر هذا التجاور القرابي واستيعاب وهضم إيجابيات الفينيقيين ، قام الإغريق بإزاحة هؤلاء ، واحتكار تجارة المنطقة البحرية وشواطئها الواسعة.
    هذا الرأسمال التجاري كان عليه لا أن ينمي مدناً متفرقة معرضة باستمرار لسطو الفراعنة والرافديين والفرس ، بل أن يطور البنى الاقتصادية ” المدنية ” عبر هذه القرون الممتدة من القرن الخامس عشر ق . م . حتى بدء الميلاد ، أي أن رأس المال أحدث تراكمات عميقة في البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية ـ الثقافية ، خاصة في مدينة أثينا والمدن الديمقراطية الأخرى.
    يقول كارل ماركس :
    ( لقد كانت الاستثمارة الريفية الصغيرة والحرفية اليدوية المستقلة ، القاعدة الاقتصادية للمجتمع الكلاسيكي في العصر الذهبي) (27).
    وعلينا أن نضيف بأن هذا الأساس الإنتاجي الوطني مدعم ومغذى عبر التجارة ، وحين كان العمل العبودي من داخل اليونان وخارجها ، لم يصبح بعد مهيمناً وكاسحاً ، كذلك هو متشكل داخل تعددية المدن وديمقراطياتها الداخلية ، ولكونها خارج نطاق هيمنة دول العبودية المعممة الشرقية ، وحيث الحاكم لم يصبح إلهاً كما هو الحال في تلك الدول ، وحيث منصب الملك ضعيفاً ، وقد بدأت الفئات التجارية والحرفية المختلفة بالنمو ، في مواجهة ملاك الأرض المتنفذين ، والمحولين الجمهور الفلاح إلى فقراء عبيد يعملون في أراضيهم.
    وتقوم الفئات البرجوازية المختلفة بالاستيلاء على حكومات بعض الدول ـ المدن ، ويبدأ عهد الديمقراطيات المزدهرة رغم وجود بعض الحكام المستبدين الناطقين بأسم هذه الفئات أحياناً.
    إن هذه البنية الاقتصادية المدنية المتناغمة بين الإنتاج والتجارة والديمقراطية ، يقابلها في المستوى الفكري نشؤ الفلسفة المادية ، فلسفة طاليس وديمقرطيس وهيرقليطس والمثالية الموضوعية والعلوم الرياضية والطبيعية ، والفكر الفلسفي رغم نشوئه من مواد الأساطير الدينية المشرقية في البدء ، فقد قام بوضع الأسس لنشؤ الفلسفة المادية (الساذجة ) عبر تفسير الكون تفسيراً طبيعياً ، فطاليس يفسر العالم من مادة الماء ، فكل شيء في هذه الفلسفات المادية المتعددة جاء من الماء و التراب والنار والهواء والعناصر المتضادة.إ
    إن الفلسفات المادية اليونانية بافتتاحها الوعي الفكري كانت تحلل الوجود من عناصره المادية الخام ، تعبيراً عن بداية تفسير العالم بصورة موضوعية ، وعبر مستوى العلوم ، وفي أجواء المدن الناهضة المستقلة عن حضارات العبودية المعممة ذات الشمولية الدينية الكلية.
    إن بنية المنتجين الصغار الزراعيين والحرفيين وفي عالم المدن الديمقراطية ، ستتضاءل لصالح بنية أخرى تسود فيها العبودية ، وهذه ستعمل على انفصال منتجي الوعي عن تطور الإنتاج والتقنية ، وإلى صعود المؤسسات السياسية ـ الدينية القاهرة .
    سوف نقرأ فيما بعد الصلات الوثيقة الدقيقة بين الاتجاهات الفلسفية الإغريقية والوعي العربي ـ الإسلامي ، ولكن هنا نحن نرى كيف قادت الأسباب الجغرافية والاجتماعية المتضافرة والنادرة إلى تميز اليونان في العصر القديم ، ولكن أسلوب إنتاج العصر ، سواء كان عبر اقتحام أنظمة العبودية المعممة ممثلة في الفرس ، أو عبر تنامي العبودية الخاصة في بلاد اليونان نفسها ، ثم انفجار الحروب الأهلية وسيطرة الشمال المقدوني الرعوي على المدن ، كلها وضعت حداً للعناصر الرأسمالية ـ الديمقراطية في الحياة.

    خامساً ، الرومان : تعميم العبودية
    مع فشل الإغريق في تشكيل ثورة رأسمالية لم تتوفر لها العلاقات والقوى المنتجة الملائمة ، رغم وجود عناصر ديمقراطية ورأسمالية واسعة ، فإنهم قاموا بتوسيع العلاقات العبودية في دولتهم الموحدة ، ثم انتقلوا إلى غزو آسيا وأفريقيا.وكان ذلك يعني تدهور الملكية الصغيرة المنتجة التي كانت أساس العصر الذهبي كما قال ماركس آنفاً ، وظهور المزارع الكبيرة الواسعة التي تقوم على عمل العبيد ، وكذلك تم إدخال العبيد في الورش والحرف المهنية ، مما كان له أثر مدمر على تطور التقنية والفلسفة والإنتاج على المدى البعيد.
    وحين سيطر الإغريق على الشرق وشمال أفريقيا فإنهم حافظوا على أنظمة العبودية المعممة المشرقية ، فصار الإسكندر الأكبر أبناً للآلهة وإلهاً ، وكان هذا تعبيراً رمزياً عن تدهور العناصر المادية التي بدأت وتنامت في بداية النهضة ثم حلول الأبنية المثالية الموضوعية لسقراط وخاصة أرسطو ثم بدأت الفلسفات الغنوصية واللاعقلانية المتطرفة في الهيمنة على الفضاء الفكري اليوناني تعبيراً عن هزيمة مشروع المنتج الحرفي والزراعي الصغير وعدم إمكانيات تحوله إلى المشروع الصناعي الكبير.
    وحين جاء الرومان كانوا استكمالاً للجوانب الأسوأ في الحضارة الإغريقية ، فلم يشهدوا مناخ دول المدن الحرة الديمقراطية ، إلا بشكل سريع في عصر الجمهورية ، ثم جاء عصر توسع العبودية والمزارع الواسعة التي يشتغل فيها العبيد ، وكذلك المعامل التي يشتغلون بها ، والاستيلاء على الشرق وثرواته وإدامة العبودية المععمة فيه. وبالإضافة إلى صراع القادة والأباطرة في قمة الدولة في تأزيم الإمبراطورية فإن الدولة :
    ( فشلت في إنجاز ثورة صناعية ولهذا السبب تفاقمت الأزمات الاقتصادية في أواخر القرن الثاني ( الميلادي ) ، وقد بقيت الأساليب الصناعية على حالها ، ومعنى ذلك إن الصناعة ظلت معتمدة على العمالة اليدوية ، ولم يتم تطوير سوى عدد قليل من الآلات بعد بداية العصر المسيحي).( 28 ) .
    ويضيف المؤلف :
    ( وكان هناك خطأ ما في الفلسفة السائدة بين القادة الأرستقراطيين الذين لم يحبذوا مثل تلك الأساليب ، ولم يكن هناك دافع قبل نهاية القرن الثاني يحث على اكتشاف مصادر جديدة للطاقة ، كما انه لم تكن هناك حاجة إلى ذلك طالما أن طاقة العبيد المجلوبين من البلدان المستعمرة كانت كافية للإنتاج ، وكان يمكن مضاعفة الإنتاج عن طريق مضاعفة عدد العاملين من العبيد ، كما أن سهولة الحصول على الطاقة الإنتاجية من أعمال العبيد لم تشجع على اختراع آلات أو أساليب صناعية جديدة ) ، ( 29 ) .
    وعبر تجميد تطور الإنتاج وتوسيع العبودية الخاصة عبر غزو المناطق الرعوية والريفية وتحويل أهلها على عبيد للعمل في المدن والمزارع الرومانية ، نشأت أرستقراطية رومانية مرفهة غاصت في البذخ ، وكان هذا يشكل نزيفاً اقتصادياً مزدوجاً ، فعبر تجميد تطور القوى المنتجة وتخريبها في المناطق ” المستعمرة ” ، كان البذخ يؤدي إلى الإفلاس المالي لخزينة الدولة نفسها.
    ( ولما لم يكن لدى روما من السلع الجيدة ما تقايض به السلع الشرقية الفاخرة ، فقد كان عليها أن تدفع ثمن هذه السلع الشرقية بالنقد ، ومن ثم كان هناك نزيف ملحوظ للذهب في اتجاه الشرق ، مما أحدث صدعاً في نظام الإمبراطورية الاقتصادي ) ، ( 30 ) .
    كان تعميق مسار النظام الإغريقي المتأخر متواصلاً ، فالمزارع الكبيرة تتسع ، والصغيرة تتدهور ، والحرف والصناعات تعجز عن التطور ، والطبقة الوسطى الصناعية والتجارية تتضاءل ، فكان اعتماد الدولة على الحروب لجلب العبيد والثروات الجاهزة ، وكان هذا التمدد العسكري لا بد أن ينتهي عند حدود معينة هي حدود الدولة الفارسية المعادية ، و عند الصحارى الكبرى والغابات التي يعجز الرومان عن السيطرة عليها أو التوغل فيها كالجزيرة العربية والصحراء الكبرى أو في مناطق الغابات والجليد في شمال أوربا عند القبائل الجرمانية الوثنية البربرية.
    لم توجد قدرة حقيقية للإمبراطورية الرومانية إلا عبر الجيش ، فهو الأداة الوحيدة لبقاء النظام ، لكن كان أبناء المواطنين الأحرار يتهربون من الخدمة العسكرية ، فكان لا بد من اللجؤ هنا أيضاً إلى القوى المستأجرة والعبيد ” والبرابرة ” ، وهكذا كان النظام العبودي بشقيه الخاص الأوربي ، والشرقي المععم يخضع للتدهور والأزمة العميقة.
    وكانت هناك طريقة واحدة لترشيد الإنفاق هي استخدام الضرائب الجديدة وتطوير الجهاز البيروقراطي وفي ذلك تقوية للإمبراطورية ، ولكنه يؤدي إلى استمرار تقليص الطبقة الوسطى . ( 31 ) .
    ويعالج المؤلف نورمان كانتور أسباب تدهور الحضارة الرومانية ، فيقول :
    ( يوضح بعض الباحثين إن روح الحضارة القديمة نمت وتقدمت في المدينة ــ الدولةCity State ومع التدهور الحضري المطرد ، انهارت الحضارة وتلاشت روحها ) ، ( 32 ).
    ( وثمة نظرية أخرى تقول إن الاستشراق هو سبب الانهيار الروماني (…. ) ، أي تسرب روح جديدة وحضارة جديدة من الشرق إلى كيان العالم الروماني ، وهذه النزعة الصوفية الجديدة جعلت الناس يتخلون عن اهتمامهم بأمور هذا العالم ) ، ( 33 ) .
    لا شك إن هذه العبارات العامة المجردة تشير إلى مسارات البنية الاجتماعية للإمبراطورية الرومانية ، لكن لم يكن كيان المدينة ـ الدولة إلا كياناً قائماً على طبقة وسطى منتجة ، مرتبطة بمستويات من الوعي ” العقلاني ” ، بطبيعة حرفها وصناعاتها ومزارعها ، ومع هذا التدهور في أسسها المادية والفكرية ، ونزول الثروات بوفرة عن طريق العبيد والغزوات ، أطيح بالوعي المرتبط بمعالجة المادة والطبيعة والمجتمع ، وهو الوعي المرتبط بالإنتاج ، وبالأسس السياسية القائمة على تعددية الأصوات في الدولة ، وغدت هناك الأجهزة الشاملة المهيمنة عبر المركز ، أي عبر العاصمة السياسية ، ثم عبر الإمبراطور وحيداً ، ذي المصدر الإلهي ، فتدفق هنا الوعي الغيبي ، وعي الآلهة المتعددين وإرادة الغيب والأرواح ، حيث صار الإنتاج وتدفق الثروة نتاج القدر العسكري وحظوظ الجيش ، فخرج المصير السياسي من يد الناس الذين يضبطونه في صراعاتهم وأصواتهم ، وغدا معلقاً بإرادة إمبراطورية إلهية وبعلمية النهب الوحشية للأمم ونتائجها وثوراتها.
    إن المصير التاريخي الذي كان مهيمناً عليه عبر صوت العقل النسبي في المدن ـ الدول ، والذي كان لتطور خاص في الجغرافيا والاقتصاد ، بين التجربتين اليونانية والرومانية ، دوره الهام في تشكيله ؛ إن هذا المصير سُحق عبر النمو الكبير لملاك العبيد الحاكمين ، الذي صار يمثلهم وينمذجهم الإمبراطور الإغريقي والروماني ، والذي تجاوز سلبياً التراث العقلاني حيث فتحت شهيته المستعمرات ، كما داست آلة الإنتاج العبودية المتسعة نمواً على جزر الإنتاج الخاصة ، وسحبت الشعوب المستقلة إلى طاحونتها العنيفة والمستقلة ، فتآكل إنتاجها المادي المستقل هي الأخرى ، وعُصرت طبقاتها الوسطى واتسعت العبودية في جماهيرها ، ولكن هذا الفيض الاقتصادي لم يوظف في الإنتاج مرة أخرى ، أو في تطور التقنية والعلوم ، بل صرف أكثره في الحروب والبذخ.
    أما الثقافة الإغريقية والرومانية العقلانية فإن مساراتها وتوغلها في المشرق ، فلم يُدرس بشكل دقيق ، و سوف نحاول في الجزء الثاني التالي رسم الحدود وعمليات التداخل بينهما ، ولكن في هذه الفترة فإن العناصر المادية حصلت على بعض التطور في إيران حيث برزت الأفكار الدهرية.( 34 ).
    إن انتشار هذه العناصر المادية والعقلانية بشكل واسع ، إذن لم يكن ممكناً ، فالغزاة اليونان والرومان كانوا هم أنفسهم قد انقطعت علاقتهم بذلك الإرث ، وبدءوا في استغلال الاتجاهات الدينية الوثنية واللاعقلانية ، تعبيراً عن هذا الصعود الأرستقراطي الباذخ والمتعالي ، وهنا كان المشرقيون يعيدون إنتاج نموذج الإله المعذب ، الذي كان متفرقاً ، بشكل أدونيس وتموز وأوزوريس.

    سادساً ، المسيحية : التفكيك السلمي للعبودية
    كان نشر الرومان للعبودية إذاً يمثل إفقاراً للإنتاج المادي والروحي القائمين على الصناعة والعقل ، وهذا يعني ملء المدن بالعبيد والمقلوعين من مراكزهم الإنتاجية ، وللفلاحين المنتزعين من أراضيهم وحرفهم ، وكان هذا يعني نشراً للغيبيات والأساطير ، ويغدو هذا انتصاراً للشرق ، الذي لم تستطع العناصر العقلانية فيه ، والديمقراطية السياسية أن تحوز فترة تشكل مهمة ، كما حدث للإغريق ، فلا يملك إذاً من أدوات مقاومة سوى الرجوع إلى عناصره الغيبية والأسطورية وتفعيلها ، فأمام هذا السحق الروماني العام والصلب للعاملين ، صعد الإله المُعَّذب تعبيراً عن معاناة الفلاحين والعبيد ، والفلاحون كانوا عبيداً سياسيين ، والعبيد أناساً مملوكين كلية ، تعبيراً عن هذه المعاناة ، ورفضاً للهيمنة ” الغربية ” الرومانية ، وتجميعاً لكل المنطقة المشرقية في بناء فكري ـ سياسي موحد.
    إن عناصر مثـل الطفل المعجزة والمطلوب من الحكام القتلة ، والطفل الإله المنقذ للبشرية ، وأسرار مثل التعميد بالماء ، أي اعتبار المياه مقدسة ومطهرة ، والعشاء الرباني حيث يتحد المؤمنون بأكل وشرب جسد الإله المعبود ، يمكن ملاحظتها في تراث المشرق الخاص بالاحتفالات الخصوبية الربيعية .
    تغدو للمسيحية عبر هذه المواد العتيقة في المشرق جذور شعبية تسمح لها بالانتشار واستيعاب تقاليد الماضي والنمو بها ، ولكن هناك عنصر الثقافة الإغريقية ـ الرومانية ، الذي هو أكثر تطوراً وتعقيداً من تلك العناصر المشرقية ، فهذا العنصر هو الذي قام بالتكييف الفكري لتلك العناصر وتسييسها ، وكذلك هناك الأساس اليهودي للديانة المسيحية.
    حول العنصر المشرقي القديم يقول سيرغي م . توكاريف مؤلف موسوعة [ الأديان في تاريخ شعوب العالم ] :
    ( كما إننا نعرف عدداً كبيراً من عبادات الآلهة ـ المنقذة في مصر ، وبابل ، وسوريا واليونان فيما بعد ، مثل أوسيريس ، تموز ، أدونيس ، أتيس ، ديونيس. لقد كانت آلهة الطبيعة أيضاً وتجسد روح الإنبات .. كانت هذه عزيزة بشكل خاص لدى فقراء المدينة دون أن يكون لهؤلاء معها أي مصلحة مباشرة ، إنها بدأت كآلهة ترتبط بأمور العمل في الأرض ، وقد أشار إلى هذه الناحية بشكل صائب تماماً المؤرخ أرشيبا لدروبرتسون ) ، ( 35 ).
    ويلخص هذا الباحث تصوره حول المسيحية ” كدين للعبيد والمضطهدين ” ـ ص 518 ـ قائلاً :
    ( أما المزيج الذي تكونت منه فيتألف من المبدأ اليهودي عن الإله الواحد مالك كل شيء ، وكذلك الفكرة اليهودية عن المخلص ، الذي تحول في الحقيقة إلى المخلص المفكر الروماني واختلط بنماذج الآلهة الزراعية التي تموت ثم تبعث حية ، والتعاليم الغنوسية حول التضاد بين الروح والمادة وحول الوسيط الإلهي فيما بينهما لوغوس ، والإيسكالوجيا [ تعاليم نهاية العالم والإنسان ] المزدكية والإيمان بملكوت النعيم مستقبلاً للصالحين ، وكذلك التصور المزدكي عن روح الشر ـ الشيطان ، والعبادة القديمة للإلهة الأم ” وهي أيضاً أم الرب “) ، ( 36 ) .
    ويعتبر فردريك أنجلز إن المسيحية كانت نتاج العجز عن مقاومة [ الدولة الرومانية العالمية الجبارة ] يقول مضيفاً [ مخرج كهذا متوافر ولكن في غير هذا العالم. ]، ( 37 ) .
    ويتساءل مؤلف كتاب الأديان : ( لم كانت هناك ضرورة إذاً لدين جديد ، ولم كان متعذراً تحقيق الطمأنينة في الأديان القديمة؟ كانت الأديان القديمة قبلية ووطنية ، كما يشير ” أنجلز ” ، ( نشأت عبر الظروف الاجتماعية والسياسية الخاصة بكل شعب والتحمت به ) ، ( 38) .
    يعبر هذا الكلام عن تصور جزئي محدود لعملية تطور المسيحية المتسعة والشاملة ، والتي ستبدأ صغيرة ثم تكبر ضامة قوى اجتماعية ووطنية وإنسانية واسعة ، في مجرى من التحولات يغير النظام العبودي الأوربي ، الشمالي الخاص ، وينتج نظاماً آخر بعد عدة قرون من المساهمات الاجتماعية والقومية المختلفة.
    في البدء ، لا بد أن نقول كلمة حول طبيعة الإله الذي قالت به المسيحية والأديان [ السماوية ] عموماً ، ولماذا كان مختلفاً عن آلهة الأديان القديمة ، فهذا الإله الرئيسي هو وحده الخالق للعالم ، فتغدو الكائنات البشرية ، سواءً كانت حكاماً أم محكومين ، كلها عبيداً له ، ولا يعود من اتصال به سوى عبر الرسل ، الذين ينقلون رسائله إلى البشر.
    إن المسيحية بهذا تلغي العبودية لبشر ، ويصبح الأب والابن والروح القدس ، هم المعبودون فحسب ، وبهذا فأن العبودية المعممة المنتشرة والعبودية الخاصة ، وحيث القيصر إله ، تلغى.
    إن هذا الافتراق الأساسي عن الأديان القديمة الوثنية سيمثل عصراً جديداً للإنسانية .
    إن المسيحية ، كما عبرنا في فصول سابقة [ أنظر فصل الخطوط العريضة لتطور المشرق وفصل تداخل السكان والأديان ] ، سيكون دورها هو تفكيك إمبراطورية الرومان ، في حين سيكون دور الإسلام هو تحطيم هذه الإمبراطورية في القسم الشرقي وبناء إمبراطورية جديدة. إن المسيحية والإسلام سيلتقيان في عملية تاريخية عالمية مركبة ، معقدة ومتداخلة.
    إن المسيحية وهي ترتكز على العناصر اليهودية ” القومية ” في البدء عبر الاعتماد على فكرة المخلص المسيح ، تتوجه إلى استكمال الثورة اليهودية ضد الرومان ، فتنتشر بين الأمم غير اليهودية ، وتحدث مرحلة تداخل بينهما ، لكن المسيحية تتوجه نحو الانفصال عن الدين اليهودي المحدود ، مطورة العناصر الطقوسية المرتبطة بالأديان الزراعية القديمة ، وبجماهير الفلاحين ـ العبيد ، ويؤدي هذا المخاض إلى انتشار المسيحية ويتحول إلى صراع مع المركزين ، مع الإمبراطوريتين الرومانيتين الشرقية والغربية ، كل حسب مستوى الصراع وشروطه فيهما، ففي القسم الشرقي يحيل الإمبراطور قسطنطين المسيحية إلى إيديولوجية للدولة ، فيتم امتصاص المحتوى الثوري للمسيحية وتتحول إلى أشكال لاهوتية ، وفيما بعد إلى أداة قمع ، وفي الغرب يتشكل مصير آخر.
    إن دمج المسيحية في النظام العبودي الشرقي المعمم لم يحل جوهر المشكلات ، فكان ظهور المسيحيات المشرقية صراعاً متجدداً بين الشعوب التابعة والمركز في القسطنطينية .
    كان التفكيك المسيحي السلمي المشرقي هو نخر داخلي طويل ، لم يستطع أن ينظم جماهير العبيد والفلاحين في جيوش تطيح بالنظام العبودي المعمم ، بسبب طبيعة هذه النظام ، وقد راحت قوى اجتماعية من الملاك والتجار والمثقفين تستولي على المسيحية الاحتجاجية وتحولها إلى دين متلائم مع العبودية ، مثلما حدث في جذورها السابقة وكيف احتوت السلطات أساطير تموز وأوزوريس ووظفتها في بنيتها المستغلة.
    كانت الظروف مهيأة في المشرق المتجه إلى التعريب المستمر لقوة رعوية ، مشابهة للجرمان المسيحيين ، الذين أزالوا الإمبراطورية الرومانية الغربية ، هذه القوة هي العرب المسلمون.
    الجرمان والعرب هم قوى التفكيك والتغيير العسكري المتنوع للعبودية المعممة في المشرق ، وللعبودية الخاصة في الغرب.

    سابعاً ، الجرمان والعرب : الهدم العسكري للعبودية الخاصة والمعممة
    يقول مؤلف [العصور الوسطى الباكرة] ، نورمان كانتور في تحديده لظهور الجرمان:
    ( فقد كشفت هذه الدراسات الأثرية من أن الغزاة الجرمان الذين اقتحموا الإمبراطورية الرومانية قد وفدوا في الأصل من سكنديناوة ، ومن ثم فإن الفايكنج Viking الذين ظهروا في فترة لاحقة ، وهاجروا من مواطنهم في القرن التاسع إلى أوربا وغزوها ، وكانوا من الشعوب نفسها التي عرفها الرومان بأسم الجرمان من حيث أصلهم العرقي. وحوالي سنة1000 قبل الميلاد بدأ الجرمان يتحركون من مواطنهم الأصلية في الدانمارك وجنوب النرويج والسويد الحالية صوب الجنوب ، وحوالي سنة100 قبل الميلاد وصلوا في انتشارهم صوب الجنوب إلى نهر الراين.( 39 ) .
    لقد أخذت هذه القبائل تستقر بالقرب من الحدود الرومانية ، وكرست نفسها للزراعة ، كما تبادلت على نطاق واسع مع التجار الرومان. (40 ).
    لقد اعتنقت هذه القبائل مذهباً مسيحياً معارضاً هو الآريوسية ( نفسه ص 175) ، وقد تأثرت قليلاً بنمط الحياة الرومانية ، وظلت على ” بداوتها ” ” كما كان أبناء هذه الشعوب برابرة بكل معاني الكلمة ” ( 41) .
    وفي بدء تاريخهم كانت روابط الدم والنسب هي التي تجمعهم على شكل قبائل ، وهي التي جمعتهم أثناء فترة الغزوات وبعدها ، ثم أخذت روابط القربى في الضعف لصالح روابط الولاء.
    وهذا النظام الذي كان سائداً عند الجرمان قرب نهاية القرن الرابع الميلادي كان يتألف من الرئيس أو الملك ، ومجلس الحرب الذي يدين له بالولاء ويقدم له الخدمات لقاء الحماية والعطايا التي يقدمها الملك ، وكان باستطاعة الرئيس الذي يحكم مدة طويلة ، أو يتمكن م إحراز نصر عسكري كبير ، أن يؤسس أسرة ملكية حاكمة ( 42 ) .
    ثم أخذت القبائل الجرمانية تغير مصير أوربا من ذلك الحين ، فقد استعان الرومان الغربيون بها كجنود ، ثم أخذت هذه القبائل تغير على الإمبراطورية الغربية ، وأخذت تستولي على إيطاليا وألمانيا وإنجلترا وأسبانيا ، ناقلة هذه القارة إلى عصر جديد.
    وملامح هذا العصر تتلخص في اختفاء العبودية السابقة ، وتحول الجنود إلى فلاحين أحرار. وبطبيعة الحال كان هؤلاء الفلاحون في بداية سيطرتهم مختلفين عن خضوعهم وتحولهم إلى أقنان مع نمو ماكينة الإقطاع. وهذه مشابهة مهمة مع أقرانهم العرب ، الذي استنكفوا في البدء عن العمل في الزراعة وغدوا فلاحين فيما بعد.
    ولكن الاختلاف بين الطرفين يكمن في توجه العرب إلى بناء دولة مركزية واسعة تشكلت فيها مدن مزدهرة ، في حين كان الجرمان يقومون بتفتيت الدولة المركزية الجبارة.وعلى المدى القريب سيتفوق العرب وفي المدى البعيد سيتفوق الجرمان.
    ويقول مؤلف العصور الوسطى الباكرة بأن القن كان أسعد حالاً من عبيد الضيعة الرومانية ، وربما كانت كمية طعامه أقل ، لكنه تمتع بقدر أكبر من الحرية الشخصية. (43 ).
    لكن التجارة والطبقة الوسطى والصناعة وكل مفردات الرأسمالية ستتعرض للتضاؤل الشديد على يد الجرمان.
    في سنة 600 م كانت أعداد الطبقة الوسطى في كل من المجتمع الفرنجي المبكر والمجتمع الفالو ـ روماني قد تناقصت إلى حد بعيد ) ، ( ومع تدهور فرنسا الاقتصادي ، والتناقص السريع في عدد المدن الذي حدث في أعقاب الغزوات الفرنجية اختفت الطبقة البورجوازية تماماً ) ، ( 44) .
    لقد كان مسار الإقطاع الأوربي تغييراً للعبودية ولكنه أيضاً إلغاء للازدهار التجاري والثقافي الموروث ، وتوسع واسع لزراعة الأرض عبر الأقنان وتفكك للدول وتحولها إلى إقطاعيات مختلفة ، لكن ستنمو العملية الرأسمالية الصناعية فيما بعد خارج سيطرة الإقطاع ، معتمدة على تراكم مالي وعلمي طويل ، في حين ستكون الرأسمالية الحرفية في العالم الإسلامي تابعة للإقطاع.
    وهذا المسار الاجتماعي ـ الثقافي ارتبط بعدئذ بمسيحية كاثوليكية ، بعد إزاحة المرحلة الآريوسية المعارضة ، تعبيراً عن هيمنة الإقطاع الكلية في الاقتصاد والوعي .
    و لا يأخذ المؤلفون والباحثون العلاقة الوطيدة المتداخلة والمركبة بين الجرمان والعرب ، ففي المناقشات التي عرضناها سابقاً في هذا الفصل عن الأسلوب الآسيوي للإنتاج رأينا بعض الباحثين يعترفون بدور القبائل الجرمانية في تشكيل المرحلة الإقطاعية ، بدون أن تمر هي في المرحلة العبودية ، لكنهم لا يعطون العرب مثل هذا الإنجاز.
    يعرض بوعلي ياسين رأي الياس مرقص الذي يقول عن هذه التحولات ما يلي:
    ( يعيد فيه الكاتب نشؤ النمط الإقطاعي [ الفيودالي ] إلى عمليتين تاريخيتين اثنتين تلتقيان عند نتيجة واحدة: من جهة تداعي مجتمع الرق ” تحرر العبيد الجزئي ” ، ومن جهة ثانية ، انحلال المشاعية الجرمانية ..، بعد غزوات الجرمان واستيطانهم في الإمبراطورية الرومانية الغربية.) ، ثم يلخص مرقص فكرته قائلاً:
    ( في الحقيقة ، النمط الإقطاعي جرماني الأصل ، قام مباشرة على أرضية المشاعة الريفية الجرمانية دون المرور بالنمط العبودي ، وإذا كان العالم العبودي بزعامة روما قد أصبح بعد انهياره إقطاعياً ، فذلك بتأثير الجرمان المنتصرين ، كما هو حال البلدان الآسيوية الآن بتأثير الإمبريالية الرأسمالية الغربية ) ، ( 45 ) .
    كانت المقارنة مع العرب المعاصرين للجرمان أجدى من القفزة إلى العصر الحديث ، فالعرب كانوا أيضاً خارجين من عالم المشاعية ، ولم يدخلوا التاريخ بقوة إلا حين نضج تناقضات العبودية ، ولكن أي عبودية ؟ فالعبودية هنا هي نظام عالمي متعدد المستويات كانت الشعوب على مدى القرون السابقة تحاول تجاوزه ، وكانت الأديان [ السماوية ] هي الشكل الفكري لعملية تجاوزه ، ولكن المسيحية لم تتناسق والقبائل العربية الصحراوية ، بخلاف الجرمان الزراعيين ، وهكذا كان الإسلام حلقة هدم العبودية المعممة ، إلى نظام جديد أخذ شكله من خلال الصراعات الاجتماعية السابق ذكرها.
    ولكن نظام العبودية المعممة يبقى غامضاً على عكس نظام العبودية الخاصة ، لكن أي نظام اجتماعي في المشرق سيرتبط دائماً وجهاز الدولة المركزي ، وتتعلق المركزية وأحجامها بطبيعة المرحلة. فإذا كان العصر انحلالاً للمشاعية فذلك سيكون عبر الدولة المركزية ، ” الوطنية ” في كل قطر ، وإذا كان العصر انتقالاً للعبودية فسيكون عبر الدولة المركزية ، وهكذا الإقطاع ، ثم الرأسمالية الحديثة.
    وهكذا فإننا نرى مشاعية متحولة إلى عبودية بشكل سياسي ، مما يعبر عن ديناميكية جهاز الدولة وأثره المسيطر ، وسنرى كذلك القفز إلى المرحلة الجديدة يحوي الكثير من النظام القديم ، ولهذا نجد الإقطاع يتحول إلى إقطاع مركزي إسلامي عام ، حاملاً الكثير من العلاقات العبودية ، ثم سيتشكل إقطاع لا مركزي ، أي إقطاع ” وطني ” بكل قطر ومركزي كذلك ، وهكذا دواليك.
    العبودية المعُممّة هي إذن استعباد النظام السياسي للجمهور العامل ، ولهذا نجد تلخيصها الرمزي في ” الفرعنة ” ، ولكن لا يمكن تعميم سمات النظام في أول تشكله مع مساره القادم ، حيث إن حرية القبائل العربية وهي تخرج من الجزيرة هي غيرها حين تنقطع جذورها الرعوية كلياً.
    إن جهاز الدولة إذن يسمح بالقفز على التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية ، وتجاوزها دون القيام بالمحو التام لآثار الماضي ، وهذا هو الذي يطبع تطور العلاقات التاريخية في المنطقة.ولهذا ستتسم التطورات بالطابع السياسي المهيمن والمر واحة بين الأطوار والتراجعات الحادة والقفزات ، وستغدو التشكيلات متصفة بهيمنة الدولة ، فالعبودية ستغدو عامة ، أي عبر سيطرة الدولة ، والإقطاع سيغدو مركزياً ، أي تحت هيمنة الدولة المركزية الأموية ـ العباسية ، وسيغدو لا مركزياً عبر سيطرة الدول الأندلسية والإخشيدية والأيوبية والحمدانية والصفوية الخ..
    إننا بهذا نكون قد حللنا لغزاً تاريخياً ظل مهيمناً على الوعي وعلى قراءة التاريخ في هذه المنطقة.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    المصادر :
    ( 1) : ( بوعلي ياسين ، العرب في مرآة التاريخ ، دار المدى ، الطبعة الأولى ، 1995 ، ص 82 ـ 83) .
    (2 ) : ( نفس المصدر ، ص 98)
    ( 3 ) : ( نفس المصدر ص 99)
    (4 ) : نفس المصدر ص 83).
    (5 ) : ( السابق ص126).
    ( 6 ) : ( المصدر السابق ص 151 ـ 152).
    (7 ) : ( السابق ص156 ـ 157).
    ( 8 ) : ( المصدر : عبودية ، إقطاعية أم أسلوب إنتاج آسيوي ؟ دار الطليعة ، الطبعة الأولى ، 1980 ، بيروت ).
    ( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 20).
    ( 10 ) : ( السابق ، ص 21).
    ( 11 ) : ( المصدر السابق ، 21).
    ( 12 ) : ( المصدر السابق ، 21).
    ( 13 ) : ( نفسه ، ص22).
    ( 14 ) : ( نفسه ص 22).
    ( 15 ) : ( السابق ص154).
    ( 16 ) : ( نفسه ص 155).
    ( 17 ) : ( نفسه ص 147).
    ( 18 ) : ( نفسه ص 147).
    ( 19 ) : ( جان كازيل ، تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، سوريا ، الطبعة الأولى ، سنة 1998 ، ص ).
    ( 20 ) : ( نفس المصدر ، ص66).
    ( 21 ) : ( المصدر نفسه ص43) .
    ( 22 ) : ( المنجد ، مادة فينيقيون ص 539، الطبعة الحادية والعشرون).
    ( 23 ) : ( ملامح من التلاقـح الحضاري بين الشرق والغرب ، على الشوك ، دار المدى للثقافة والنشر ، ص 49).
    ( 24 ) : ( جذور المادية الديالكتيكية : هيراقليطس ، تأليف : ثيو كاريس كيسيدس ، دار الفارابي ، الطبعة الأولى 1987 ، ص 10).
    ( 25 ) : (( المصدر السابق ، ص 11).
    ( 26 ): ( نفسه ص12).
    ( 27 ) : ( نقلاً عن المصدر السابق ص 15 ، ومقطع ماركس مأخوذ من رأس المال ، المجلد الأول ، الجزء الثاني ، دار التقدم ، طبعة موسكو سنة ، ص26).
    ( 28 ) : ( العصور الوسطى الباكرة ، القرن الثالث ـ التاسع الميلاديين ، نورمان . ف . كانتور ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، ص 37 ) .
    ( 29 ) : ( المصدر السابق ، ص 38 ).
    ( 30 ) : ( المصدر السابق ، ص 41 ) .
    ( 31 ) : ( السابق ص 42 ).
    ( 32 ) : ( نفسه ص 42 ) .
    (34 ) : يلاحظ أحمد أمين في موسوعته عن الإسلام بروز الدهرية في الفكر الإيراني سواء قبل الإسلام أم بعده ، وهذا أمر ملفت للنظر في الشعب الإيراني وتجربته التاريخية الكبيرة.
    ( 35 ) : دار الأهالي ، ترجمة د. أحمد م . فاضل ، الطبعة الأولى 1998 ، ص 501).
    ( 36 ) : ( السابق ص 518).
    (37 ) : السابق ، ص 496 ) .
    ( 38 ) : ( السابق ، ص 496 ).
    ( 39 ) : ( السابق ، ص168 ).
    ( 40 ) : ( نفسه ، ص175).
    (41 ) : ( نفسه ، ص175 ).
    (42 ) : ( نفسه ، ص177).
    ( 43) ( نفسه ، ص122).
    ( 44) : ( نفسه ، ص213 ) .
    ( 45 ) : ( العرب في مرآة التاريخ ، مصدر سابق ، ص 84 ).

    الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية: تطور الوعي الديني في المشرق القديم

    فصل من كتاب: انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة/ الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية، والذي يعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية.


    جذور الصراع


    لقد حدث الاستقرار الزراعي في منطقة المشرق بعد العصور الحجرية القديمة والمتوسطة ، التي كان الناس فيها صيادين وجامعي ثمار ، وفي العصر الحجري الحديث ، وفي قمته ، بدأ الانقلاب الزراعي ، ونجد في الحضارة (التاسية) المصرية الشكل المزاوج بين الصيد والزراعة ، وفي حضارة (البداري) ، المصرية كذلك ، حدث الشكل الزراعي المكتمل ، فظهرت القرية الزراعية ، (1) .
    من هذه القرية الزراعية الأولى تطورت المدينة المهيمنة على بقعة زراعية ما ، وظهرت فيها دولة المدينة ، وتشكلت السلطة الأولى في المعبد الديني التي يبرز فيها الكاهن أو الساحر. لقد كان لهيمنة المعبد على الإنتاج دورها في التضفير بين الدين والدولة ، وفي السيطرة المركزية في دولة المدينة. إن ازدواجية دور الكاهن/ الحاكم ، أو الساحر / الملك ، يضفي سيطرة شاملة من قبل الدولة على المدينة من خلال الدين . والحقيقة إن الآلهة ليست هي التي تحكم المدينة حقيقة ، ولكنه الساحر ـ الحاكم أو الملك ـ الكاهن ، ولكن السحرة والكهنة لا يحكمون إلا من خلال هذه الميثولوجيا ، فهذه الأساطير هي التي تبقى دائمة ، ويتم عبرها تشكيل السيطرة السياسية المتحولة الملموسة. إن الملوك والكهنة في المدينة وهم يسيطرون على المعبد ، مركز الملكية الإنتاجية العامة ، يسيطرون كذلك على إنتاج الوعي وخطوطه العريضة .(2).
    ومن المؤكد إن ثمة جذوراً عميقة وبعيدة لهذه السيطرة ، في الملكية المشاعية وفي الأدوار الهامة التي تلعبها العناصر المثـقفة ، والتي هي من ثمار الانقسام بين العمل الذهني والعمل اليدوي ، وهي التي ستشكل المدخل للانقسام الاجتماعي بين المالكين والعاملين ، فالسحرة والملوك وإداريو المعابد ، وهم يسيطرون على إدارة المعابد يمثـلون هذه القوى الذهنية وقد بدأت بالتحكم في العمل اليدوي والخيرات التي ينتجها. إن الانقسامات الاجتماعية الأخرى تبقى متوارية ، فالانقسام بين الرعاة والمزارعين لا يتضح هنا ، لكون القبيلة التي انتقلت إلى الزراعة بدأت ذلك من زمن موغل في القدم ، ويعتمد الأمر على إنتاجية الزراعة الهامة المركزية في هذه الحقبة ، وكون الرعي يظل مهنة صعبة وملحقة بالقرية أو المدينة .(3).
    وهذه السيطرة المتوارية للزراعة على الرعي ، تغدو سيطرة واضحة متصاعدة للرجال على النساء ، عبر هذا الانقلاب الذكوري المستمر . لكن في قلب الانقلاب يظهر العنصر المثقف والسياسي ، يظهر العمل الفكري وهو يسيطر على العمل اليدوي ، مثلما تتركز السلطة الروحية والسياسية تدريجياً في نموذج وحيد في دولة المدينة.
    إن الإنفكاك الذي حدث في صيغة الكاهن ـ الملك ، باتجاه هيمنة الملك ، تعود إلى تنامي أجهزة الدولة ، وأتساع مهماتها ، من إدارة الدفاع وشن الحروب وتوسع الدولة ـ المدينة ، فالصرف المستمر على الطبقة المسيطرة المتشكلة حديثاً ، أو قديماً ، يتطلب التوسع في الأراضي المملوكة للمعبد ، وسيكون هذا قانون من قوانين التطور والهلاك في المدينة / الدولة المسيطرة . فهذا التوسع يتطلب النمو المتواصل للقوى العسكرية، وسيعتمد ذلك على حجم القبيلة أو القبائل المستقرة ، ويؤدي إلى ضم مناطق الجيران وإلحاق المناطق الرعوية أو الزراعية بسيطرة المدينة ـ الدولة ، مما يقود إلى أتساع الموارد والسوق التجارية ، وهذا يؤدي إلى المركزة في إدارة الدولة السياسية ، وتغلب الملك على الكاهن ، وصيرورة الكاهن ملكاً ، والملك كاهناً . لكنه يؤدي من جهة أخرى ، إلى الاصطدام بالجيران وقيام المناطق الأخرى والمدن والقبائل الرعوية بالهجوم على المدينة / الدولة ، التي غدت (الكنز) الذي تجمعت فيه تراكمات العمل المحلي والمناطقي ، لتتشكل عملية إعادة توزيع.
    إن هذه العمليات الطويلة من الصراع والإنتاج والتراكم تؤدي إلى التوسع المستمر في دولة المدينة نحو التكوين الكبير ، سواء كان على هيئة دولة من عدة مدن ، أو على شكل إمبراطوريات ، تجري فيها هذه العمليات الصراعية التحولية على نطاق المنطقة ، لكن قانون هيمنة القصر / المعبد يظل سارياً ، فالقصر هو الذي يهيمن على المعبد ، فالسوق ، فالإنتاج وكافة مظاهر الحياة الأساسية .
    وفي الوقت الذي تجري فيه هذه العمليات الصراعية الاجتماعية ، فإن الجانب الديني لا ينفصل عنها ، فهو جزءٌ رئيسي من تكونها ، من حيث إنه نتاجٌ عامٌ لتشكلها وأداة لترابطها ولوعيها بالعمليات الاجتماعية ، فيظهر بأنه هو الذي يصوغ تاريخها ، وليست هي التي تشكله.
    ( إن الآلهة كانوا يرقبون عن كثب أحداث الساعة وقضاياها البارزة عند قيامهم بالتحديد السنوي لمصير بابل وأهلها ، كما كانوا يؤكدون وجودهم الطاغي في كل مكان ، وتأييدهم أيضاً للنظام السائد وسلطاته المستمدة منهم. ) ،(4) .
    ومن الواضح إن الآلهة لم يكونوا يؤكدون ذلك عبر وجودهم المباشر ، بل عبر الأجهزة السياسية والكهنوتية . لقد تم ظهور (مجمع للآلهة) الذي يباشرون منه سلطاتهم المتعددة ، والمجمع يشير إلى العائلة الملكية الإلهية ، أو القبيلة النوار نية الحاكمة في الأعالي ، وهي ترميز للطبقة الملكية / الكهنوتية التي يتمثـل فيها النور والعلو والسيادة . وإذا جئنا إلى قراءتها ، في بعدها الاجتماعي ، فالأسرة الإلهية المتعددة المتصارعة المتضامنة ، تشير إلى تعدد المستويات السياسية في المدينة ، فهناك الأسرة الملكية الحاكمة الحقيقية ، وهناك الكهنة في المعابد المختلفة والإدارات المختلفة . وإذا كان الرجال قد فرضوا سلطتهم العامة على النساء ، إلا أن النساء متواجدات في الأعمال الزراعية وفي الحياة العامة بقوة ، وهذا ما يشير إليه الحضور الهام للإلهة الأنثويات ، أنآنا، وعشتار ومثيلاتها في المشرق.
    لكن ظهور الإله المهيمن في الأسرة الملكية الإلهية يبدو واضحاً في كل تشكل سياسي عام ، بهيمنة (آنو) وتصاعده المستمر في الميثولوجيا الرافدية ، حيث يشير إلى هذه الوحدة السياسية المتعاظمة في جنوب ووسط العراق . إن أنليل يظل مستمر الوجود معبراً عن عدم الانطفاء للمناطق السومرية النهرية ، كذلك فإن (مردوخ) يكبر مع تعاظم نفوذ الدولة البابلية ، وكذلك يتصاعد إله (أشور) مع أتساع إمبراطوريتهم.


    السلطة والمجتمع الزراعي


    إن هذه المجمعات من الآلهة تشير كذلك إلى عدم الانصهار في عملية سيطرة دولة المدينة على المدن والمناطق الأخرى ، حيث تقوم بترك السلطات المحلية في سيطرتها ، وتأخذ (الغنائم أو الأسلاب أو الخراج) منها ، فتتحول الآلهة المناطقية إلى المجمع العام للآلهة وكتوابع للآلهة الكبرى ، مثـلما يحدث بالنسبة للمناطق التي تغدو مُلحقة بالمدينة ـ المركز ، أو مثـلما يحدث بالنسبة للحكام الإقليميين الذين يغدون ولاة أو نواباً للملك. (5).
    إن المدينة / الدولة ، حيث الزراعة هي العمل الإنتاجي الأساسي ، وتأتي الحرف والتجارة كمهن مُكملة ، تقوم بإعادة إنتاج نفسها على مستوى دوائر تتسع دوماً ، ملتهمة الدوائر الأخرى دون أن تلغيها ، وهدف العملية الحصول على الفوائض المالية دون أن تحدث عمليات تقدم كبرى في الإنتاج.
    فكما أن الحرف الهامة متخصصة في الإنتاج للقصر ، وكما تتبع العمليات الثقافية من تنجيم وفلك وطب حاجات الأرستقراطية المختلفة ، فكذلك تتبع الآلهة تبدلات وأهداف الحكام . وعلينا أن نرى التبدلات الكبرى للآلهة كحصيلة للصراعات الشاملة غير المرئية في العراق ، بمعنى أن نقرأ أسباب العلو المستمر للإله (آنو) والانطفاء التدريجي للآلهة الأخرى.
    لقد أعطى السومريون أولى الملامح والملاحم لكيفية نشؤ الآلهة ، لقد ازدهرت ( الثقافة السومرية في الجزء الأسفل من حوض دجلة والفرات وحول الشواطئ العليا للخليج العربي ، منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد ) .(6).
    وتقول أسطورة الخلق السومرية بأنه في بدء الكون ، لم يكن ثمة أحد سوى الآلهة الأنثوية( نمو) ، وهي المياه الأولى التي أنبثق عنها كل شيء ، وقد أنجبت الآلهة نمو ولداً وبنتاً ، والأول هو (آن) إله السماء المذكر ، والثانية (كي) آلهة الأرض المؤنثة ، وكانا ملتصقين مع بعضهما ، وغير منفصلين عن أمهما ، وتزوج الأخوان وأنجبا (أنليل) إله الهواء الذي كان في مساحة ضيقة بينهما ، حتى قام بإبعاد أبيه عن أمه . رفع الأول فصار سماءً ، وبسط الثانية فصارت أرضاً، وكان يعيش في ظلام دامس ، فأنجب أبنه نانا إله القمر ، الذي أنجب بدوره (أوتو) إله الشمس .
    ويفسر فرس السواح هذه الأسطورة بشكل طبيعي ، فيقول إنه في البدء لم يكن سوى المياه التي صدر عنها كل شيء وكل حياة ، وفي وسط المياه ظهرت أرضٌ ، متحدة بالسماء ، ومن اتحادهما ظهر الهواء ، ولم يكن القمر السابح في الهواء إلا أبناً له الخ .. (7) .
    لا شك إن التفسيرات الطبيعية والاجتماعية والنفسية التي ساقها المؤلف فرس السواح (8) ، لها جذورها ، ولكن الآلهة تعبير كذلك عن السلطات المختلفة ، وهنا نجد الأسطورة الدينية تحدد التحولات السياسية التاريخية بين المجتمع الأمومي والمجتمع الذكوري . حيث مثلت الأم ذلك المجتمع الراكد المحدود ، من وجهة نظر صائغي الأسطورة ، وهي التي كانت فيه سيدة الوجود المائي الزراعي ، والمجتمع الأمومي هو الذي شكل الزراعة عند شواطئ الأنهار ، وعبر تراكماته الاقتصادية والبشرية ، أوجد العائلة الأبوية الأولى ، حيث لا تزال الأم قوية فيها ، ولكن الابن شكلّ الانقلاب الذكوري عبر الانفصال عن سلطة الأم والأرض والزراعة فيها ، وعبر الصعود إلى السماء . إن ظهور السماء المنفصلة عن الأرض ، وتشكل السلطة الأولى المفارقة للمنتجين ، عبر الإله (آنو) ، حيث سيهيمن في الأعالي ، تعبر عن الانقلاب الذكوري القديم الأول ، الذي وضع التمايزات الأولى بين السلطة السياسية والمنتجين المزارعين. لقد كانت السماء في وعي القدماء هي مصدر المطر والنور والهواء ، أي كل ما يغذي الأرض والزراعة ، فهي الأصل في وجود هذه الحياة . ويعبر ذلك عن وعي المهيمنين على المعابد والمدينة ، الكهنة والملوك ، الذين ارتفعوا عن العمل في الأرض ، وصاروا قوة مسيطرة فوقية، أصبحت تتماها والسماء الرفيعة، وتضع السمات (النورانية) على وجودها الاجتماعي ، لكنها بعد لم تستطع الانفصال الكلي المطلق عن الأم والمنتجين.
    هكذا فإن انبثاق (آنو) يضع الانقسام العام في التاريخ الديني الأسطوري والاجتماعي ، بين السماء والأرض ، بين الرجل والمرأة ، بين المالكين والمنتجين ، بين المسيطرين ذهنياً وسياسياً و العاملين . ولهذا فإن صفات الخلق والنور ستعطى للوعي ، أي للقابضين على إنتاج الفكر والسلطة ، في حين إن صفات المادة والطين والعمل والعبودية ستعطى للمنتجين الماديين.
    إن عناصر التضاد بين السماء والأرض ستلعب أدواراً كبرى في مختلف تجليات الوعي الديني ، وستغدو الأرض والمرأة أكثر فأكثر، مصدراً للشر والفساد وتتشكل من طبقات الأرض السفلى مستويات الجحيم الخ ، في حين ستكون السماء مركزاً للنور والقوى المشعة الخيرة والملاذ للأرواح الطاهرة.
    إلا إن ذلك كله تعبير عن السلطة السياسية والفكرية والاجتماعية ، وتمركزها في الطبقات العليا ، التي ستعيد إنتاج النور والعلو والسيادة ، عبر المقولات المنتجة في كل عصر ، وهي هنا في العصر السومري المتداخل في فضاء العراق الجنوبي البابلي لاحقاً ، تستعين بمواد الأسطورة في تفسير نشؤ الكون وتشكل السمات الرئيسية للمجتمع .
    كذلك تشكل الإله السومري الخاص وهو (أنليل) . إن صعود أنليل مترافق مع تبلور سلطة المدينة / الدولة ، الشكل الأولي لظهور السلطة والحضارة في بلاد الرافدين ، ويعبر هذا التواصل بين الأب آنو والابن أنليل عن هذه السيرورة الاجتماعية المتراكمة بين المجتمع الأبوي في انقلابه الأول بالسيطرة على النساء والفضاء الاجتماعي ، وبين تبلور ذلك كسلطة مدنية محددة في الأجيال اللاحقة.
    وتقول الأسطورة الشعرية : أنظر إلى نيبور عماد السماء والأرض هي / أنظر إلى نيبور المدينة / ترى أسوارها العالية /.. هناك أنليل فتاها الغض / هناك ننليل فتاتها الشابة) ثم تبدأ الأسطورة في تمجيد الإله المسيطر : ذو العينين البراقتين ، السيد ذو العينين البراقتين / الجبل العظيم ، أنليل الأب../ الراعي ، سيد المصائر ..) .( 9) .
    لقد تشكلت المدينة كدولة ذات موارد زراعية ومائية وفيرة وتجارة ولها أسوار ويهيمن فيها المعبد والإله الذكوري ذو الأهمية القصوى (الراعي ، سيد المصائر) التي تقول عنه قصيدة أخرى (أنليل مليكك ، أين مضى؟) . وبهذا فإن الخطوط العريضة بين المستوى الديني والمستوى الاجتماعي التاريخي قد تشكلت ، وصار الوعي وهو يستهدف إجراء العمليات التغييرية ، يعيد إنتاج الأسطورة ، أو إنه يقوم بعملياته التحويلية السياسية ثم يضفي على الأسطورة التغيرات المناسبة لهيمنته.
    مستويات الغيب المهيمن
    تمثـل صيغة التحول السابقة الخلية الأساسية في البنية الاجتماعية للمجتمع الطبقي ، في المشرق ” العربي ” ، كما يظهر في التاريخ المكتوب ، بجانبيه المادي والروحي ، فحيث يغدو الكاهن / الملك مهيمناً على المعبد والملكية العامة الزراعية ، فإن الجوانب الثلاثة : السياسية والفكرية والإنتاجية تتداخل ، وتصير نظاماً اجتماعياً يتبادل التأثير بين مستوياته الثلاثة.
    إن الملكية الزراعية المعتمدة على الري ، تتطلب تسارع أدوات السلطة لضبط عملية الري في الجنوب العراقي ، الذي بدونه لا تتشكل الزراعة ، مما يؤدي إلى تـنامي الأجهزة العامة ، وإبقائها على الملكية العامة القبلية والقروية ، وتصاعد نفوذ الدولة على المناطق المجاورة ، وجعل إله المدينة يشكل الوحدة الفكرية لأهلها ، ثم يتمدد إلى المدن والمناطق التالية ، فيصعد على الشبكة الواسعة من الآلهة الصغرى المختلفة ، فيبدو الإله وكأنه هو الذي يصنع التطور ، وتبدو الحركة الطبيعية والاجتماعية كنتاج لمجّمع الآلهة ، أي لهذه القبيلة الإلهية الترميزية للوجود البشري القبلي المسيطر في سيرورته التاريخية.
    إن الانقسام بين آنو وكي ، بين الإله الذكوري المهيمن والآلهة الأنثوية المهيمن عليها ، يشير إلى التضاد الواسع بين الرجل والمرأة ، بين الإدارة السياسية ـ الدينية والعامة ، متخذاً من المظهر الطبيعي بالتضاد بين السماء والأرض جسده الفكري ، فيتشكل هنا التضاد كذلك بين الغيب والمرئي ، بين التصورات الذهنية المفارقة والحياة ، بشكل أولي وغير تجريدي ، لكون كافة الآلهة تتكون في الملموس ، في التجسيدات المادية والتمثلات البشرية. أي لكون الوعي البشري عند المنتجين الذهنيين والمنتجين اليدويين متقارب ، مثل التقارب الاجتماعي بين الحاكمين والمحكومين.
    وإذا كان ثمة غيب سماوي يبرز في الأعالي ، فإن ثمة غيباً يتشكل في طبقات الأرض السفلى ، حيث يغدو هذا الغيب السفلي مسئولاً عن ظاهرات الموت والأمراض والغياب البشري الأرضي ، ويتوحد هذا الغيب الأدنى بالكائنات [الدنيا] ، أي بالحشرات والزواحف ، والعديد من الحيوانات التي ترافقت مع الموت . إن الموتى في هذه الحقبة ينزلون إلى طبقات الأرض السفلى حيث (ويخاطب الرجل العقرب كلكامش الذي يريد النزول إلى عالم الأموات قائلاً : إنه من غير مستحيل ، يا كلكامش، لم يعبر أحدٌ مسالك الجبال الوعرة . حتى بعد مسافة اثني عشر فرسخاً يحلك الظلام ، ولا يعود هناك نور) ، (10) .
    وفي الزمن السومري فإن الآلهة الأنثى هي التي تنزل تلك الطبقات السفلى الرهيبة ، مما يؤكد استمرار بقايا المرحلة الأمومية ، معطية دلالة تفسيرية للزمن ولتحولات الطقس ، حيث الغياب والحضور للشمس والقمر والشتاء والربيع ، وفيما بعد سيكون هذا النزول للإله الذكر (تموز) ، معرباً عن التغلغل الذكوري الواسع في المنظومة الإلهية ، وعن توظيف هذا العالم السفلي لتحولات أخرى كبيرة.
    إذن فإن الغيب ، المعبر عن سيطرة الطبقة العليا، وسواء كان سماوياً أم أرضياً سفلياً ، هو الذي يمسك بدفة الوجود البشري ، عبر تمثلات المرحلة الراهنة . إن التضاد القصي بين السماء والأرض السفلى ، هو تضاد تجسده الصور الحادة بينهما ، فالأولى لها النور والمطر والهواء ولها الوجود السرمدي ، في حين إن الأخرى تتصف بالظلام والفساد والأمراض . إن الوعي البشري هنا يتمثل تناقض الحياة والموت ، والصحة والمرض ، والربيع والجفاف ، والحلم والواقع الخ .. ولا شك إن هذه التضادات الوجودية والاجتماعية مرتبطة كذلك بالتناقض بين الناس والسلطة ، فالسلطة السياسية والكهنوتية هي الحياة والنور والبقاء الأبدي ، حيث أعطى الملوك لأنفسهم صك التوحد مع الآلهة ، والإلغاء التام للناس ، مثلما يحدث في الحياة السياسية حيث تتصاعد الهيمنة المطلقة للحكام . إن ثمة هوة إذن بين السماء والأرض السفلى . لكن كلتيهما تمتلكان الحضور والسيادة في الوعي الغيبي ، بلونين متضادين ، في حين تبقى الأرض غائبة . وفي التضاد المطلق بين السماء والأرض السفلى ، بين النور الأقصى ، والظلام والمرض والموت يتشكل التضاد بين الإله النوراني الخير والشيطان ممثل الشر ، وهذا التضاد الذي سيتطور في إنتاجه عبر ثـقافات شعوب المشرق المتداخلة.
    إن هذه الخطوط العريضة لتشكل الدين ستغدو هي الملامح الجوهرية للمراحل اللاحقة. فوجود مدينة تطلع من عماء المياه الأولى ، من الغمر ، ومن الزراعة الأمومية ، ليسود فيها الذكر وقوته العضلية ، ملتحماً بالثور الحيوان الأقدر على شق التربة ، عبر الأدوات المعدنية ، لتتكدس الثروة في المعبد فيديرها الملك الكاهن ، فترسم في السماء الرموز الإلهية لهذا التحول الأرضي . إن هذه المدينة التي تلحق الريف والأقسام الرعوية بسلطانها ، ستعيد إنتاج نفسها في جغرافيا وتاريخ المشرق ، وفي البدء ستكون هذه المدينة مدينة زراعية خارجة من فيض المياه ، وسيشكل هذا وحدة صراعية بين المؤسسة السياسية الصاعدة المتحكمة ، وبين القاعدة السكانية الفلاحية .
    إن الجغرافيا الطبيعية أعطت لهذه المدينة مصدراً للثروة ، فتصاعد دور المعبد فيها ، وفي المراحل الجنينية الأولى يحدث التداخل بين الكهانة والملكية ، حتى إذا ازدادت ثروة العمل البشري ، حدث الانفصال بين فئتي الهيمنة السياسية والدينية ، دون أن يُـلغى التداخل ، وبدون أن ينتهي الصراع.
    والمدينة ليست مدينة صناعة ، بل مدينة زراعة وتجارة وحرف ، ويلعب القصر [وتابعه المعبد] دور الفاعل الرئيسي في تطورها أو اندثارها ، فمختلف تجليات الإنتاج تــُلحق به ، لكونه يسيطر على الملكية العامة ، مثلما يسيطر على الملكية العامة الثقافية ، أي الدين ومنتجاته.


    صعود التضاد بين الزراعة والرعي


    إذا كانت الحرف والتجارة لا تستطيع أن تكون إلا داخل المدينة ، فإن الرعي لابد أن يتشكل وينمو خارج المدينة . وفي البدء أيضاً كانت الزراعة هي أساس تشكل المدينة ، فظهرت المهن الأخرى في أسواقها ومركزها . لكن الرعي أمتلك خاصية تجاوز المدينة وحقولها ، والنمو في البراري. وقد أعطت التطورات الإنتاجية خاصة ، الرعي ، إمكانية الانفصال المستمر عن المدينة والزراعة ، دون القدرة على الإنفكاك الكلي منهما . وعبر ظهور تقسيم العمل والتبادل راحت هذه الأقسام الاقتصادية بالنمو ، كل حسب موقعه من علاقات الإنتاج . لقد تحرر الرعي من الهيمنة المباشرة للسلطة واستغلالها ، رغم عدم قدرته الكلية على الخروج من الاستغلال في عملية التبادل مع هذه المدن.
    ومنذ بداية تشكل الإرث الفكري الديني في المنطقة كان هناك استشعار لتشكل التناقض بين الرعي والزراعة ، بين المنتج الرعوي الذي يبدأ بأستنئاس الحيوان والعيش في البراري وصنع سلع خاصة ، وبين المدينة ـ الدولة ذات المحيط الريفي الزراعي ، والتي تغدو دائرة إنتاجية وسياسية متكاملة . إن الرعاة يغدون خارجها باستمرار ، تدفعهم عملية البحث عن المراعي إلى الانتشار في المناطق البعيدة ، حيث تتوسع الرقع الزراعية وتنمو المدن ملقية إياهم أكثر فأكثر في الصحارى الكبرى . ويصبح النمو الطبيعي لهذين الفرعين من الاقتصاد الواحد تضاداً عميقاً ، فالمدينة تقوم بالانتشار وتوسيع رقع سيطرتها ، وهي في بداية تشكلها تجمع بين الزراعة والرعي ، حينما تكون أقرب للقرية ، ولكنها بعد ذلك تغدو متخصصة في إنتاجها ، مما يجعلها بحاجة إلى الإنتاج الرعوي . إن التخصص يؤدي إلى نمو الإنتاج المتنوع ، ولكن الرعاة يصيرون مشكلة عبر مستواهم الاجتماعي والفكري المختلف والمضاد للمدينة . والمدينة باعتبارها مركز التراكم المالي والثقافي ، تغدو في مواجهة للأقسام الريفية والرعوية ، التي تزداد انفصالا عنها.
    وإذا كانت المدينة هي قرية في البداية ، ثم تنمو قدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، نافية الأقسام الرعوية ، فإنها كذلك تعلو على أساسها الريفي ، وبعدئذ تنفصل بشكل كبير عنه ، عبر تكدس الفوائض المالية فيها. لكن القرية تظل في المحيط الحضري المسيطر عليه ، في حين يفلت الرعي من هذه السيطرة ، ويتخذ لنفسه مسارات مختلفة.
    وفي البدء نرى في الأساطير السومرية تنافساً غير دموي بين الآلهة الزراعية والآلهة الرعوية في [الأسطورة السومرية ، تحكي لنا أن الإله إنليل Enlil أراد أن يعمر الأرض ، فخلق لذلك مخلوقين أخوين ، «إيميش» للعناية بالحيوان ، و«إيتين» وجعله فلاح الآلهة] .( 11) .
    إن المدينة السومرية التي لا تزال لا تعرف التضاد التناحري بين الزراعة والرعي ، تشكل وحدة تناغمية بين الاقتصاديين الوليدين ، ولهذا فإن الإله أنليل ممثل دولة المدينة السومرية ، يجعل للفلاحة إلهاً تابعاً له ، بينما الآخر هو للعناية بالحيوان . ونجد الجانبين الزراعي والرعوي متداخلين بصورة كبيرة : فإينتين [وجعل سمك البحر يلقي بيضه في المستنقعات والأهوار/ وجعل من نتاج النخيل والأعناب الدبس والخمر / وأكثر من ثمار الأشجار حيثما نبت الكلأ / وجعل الحقول تكثر من غلا لتها ] في حين إن إيميش هو الذي [ أوجد الشجر والحقول / وجعل حظائر الماشية والأغنام كثيرة / وأكثر من نتاج المزارع / وجعل الكلأ يغطي الأرض / وملأ البيوت بغلال الحصد/ وجعل الأهراء زاخرة ممتلئة] ، (12).
    إن التداخل كبير بين الشخصين الرمزين ، كالتداخل في المستويين الاقتصاديين ، إلا أن الفلاحة هي التي لها الألوهية ، وفيما بعد سينمو التضاد وسيعلو الراعي في الأساطير. فالآلهة أنانا السومرية تعتزم اختيار زوج فيشير لها الإله أوتو إله الشمس باختيار الراعي المكتنز أشياء كثيرة والذي يزخر باللالىء والأحجار الكريمة ، لكنها تفضل الفلاح «أنكيميدو» (الذي يكثر من إنتاج الزرع / الفلاح الذي يكثر من إنتاج الحبوب) ، (13).
    وفي نهاية القصة تفضل أنانا الراعي.
    وتفضل التوراة كذلك الراعي على الفلاح ، [وكان هابيل راعياً للغنم وكان قايين عاملاً في الأرض . وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من ثمار الأرض قرباناً للرب ، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها ، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر] (تكوين 4 / 12) . ولكن الحدث المساق عبر الرؤية التوارتية الرعوية هنا يحيل الفلاح إلى قاتل.
    إن ذلك يعبر عن المسارات التي تشكلت في المشرق [العربي] بتعمق الانقسام بين المزارعين والرعاة.
    إن المزارعين المستقرين في بيوتهم وفي مدينتهم المحصنة ، أخذوا يتخوفون من القبائل غير المستقرة التي تعيش في الصحارى ، والتي تواجه مواسم متباينة من نزول المطر أو عدمه ، وتدفعها ظروف الفقر والمجاعات إلى الهجوم على المناطق الزراعية والمدنية. وتشكل المناطق الحضرية الجيوش لملاحقة وإبادة الجماعات [البربرية] و[الوحشية] ، وتتشكل مناطق زراعية ، ومناطق رعوية ، وتنمو القبائل والجماعات و«الأمم» منقسمة بين التكوينين الكبيرين.
    ونجد كيف نظر المصريون القدماء وهم في واديهم الخصب إلى الأمم الرعوية كأجانب ، ووضعوا الإله (أست) الشيطاني كرمز للرعاة ولعالم ما وراء النهر. ولم يحدث تداخل كبير بين العالم المصري الزراعي والرعاة إلا عبر الهكسوس وشعوب البحر الغازية ، ولهذا لم تتفاقم القوى العسكرية والعنف في المجتمع المصري مثلما حدث في المجتمع العراقي ، حيث التداخل الكبير بين المزارعين والرعاة . ولكنهم بعد طرد الهكسوس خرجوا إلى المشرق وكونوا الإمبراطورية ، ثم اعتمدوا على القوى العسكرية المرتزقة فحدث انهيار عميق في الحضارة المصرية . ولكن لا بد من القول هنا إن الرعاة كانوا دائماً يعيشون على أطراف الوادي وفي سيناء.
    وإذا كان الجمهور الفقير أو الغني في دولة المدينة ، أو المملكة ، المحكوم بأجهزة القهر ، أو بفائض المال ، لا يستطيع تاريخياً أن يغير النظام الاجتماعي ، حيث إن الدولة هيمنت عليه وقسمته ، فإن الرعاة المنتشرين في الفيافي وهم الأحرار والمسلحون يستطيعون ذلك حين يمتلكون العناصر البشرية والمادية والفكرية التي تجعلهم في مستوى أقوى .
    ولهذا نجد إن [الأمم الزراعية] فقدت كثيراً من القدرة على التغيير الثوري الداخلي ، في حين صار الحراك الاجتماعي في أغلبه من [الأمم الرعوية].
    إن ذلك يعود إلى أن الطبقة المنتجة الفلاحية ُمفككة في قراها الكثيرة المتباعدة ، وليس لديها قدرات عسكرية كبيرة ، في حين تستطيع الطبقات الحاكمة تخصيص جيش مُجهّز منفصل عن المزارعين ، وهي تجده عادة في القبائل أو الأقسام غير العاملة في الزراعة وفي المرتزقة ، ثم إنها تطبق العيش الإجباري في القرية وتمنع الخروج منها، فتجعل الفلاحين عبيداً في الأرض . وهذا هو النمط المسمى العبودية المُعممة.
    وحين تأتي قوى غازية تكون غالباً من هذه القبائل المسلحة الحاكمة أو المنتشرة في الصحارى ، أو أن المدن العبودية المسيطرة تستخدمها أو تستأجرها . لقد كانت الأقوام السامية الأولى كالبابليين والآشوريين والآراميين والعبريين ، أو القوى الإقليمية الغازية فيما بعد كالفرس والمقدونيين والرومان ، أو الأمة السامية الأخيرة وهي العرب ، هم حلقات من الأندياحات الرعوية الكبيرة ، وقد فطن إلى ذلك مؤرخنا أبن خلدون ، (14).
    إن الفترات والمراحل التاريخية تعطي لكل حملة رعوية طابعها ومداها وآثارها ، وهي إذ ترتبط بمستوى تلاحم القبائل الفكري والعسكري ، عبر المناطق الرعوية التي تكونت فيها ، وبصلاتها وبتحولاتها و بمستوى إنتاجها وثقافتها ، فإن سيطرتها وديمومتها تتحدد بمستوى مقاومة المزارعين كذلك ، الذين لم يكونوا خارج التاريخ ، رغم إن الأمم المسيطرة ستجعل الأمر يبدو كذلك .
    صراع الرعاة والفلاحين على مستوى إقليمي
    إن الأمم الغازية [الرعوية] قد مرت بمراحل وتطورات اجتماعية وفكرية كبيرة ، ولا يمكن دمغها في تكوين مجرد كلي ، ولهذا فإن علينا تتبع الخطوط العريضة لنموها ، والمحصلة الأخيرة لتحولها إلى قوى غازية ، ولماذا تعجز أفكارها الأكثر تطوراً ربما من وعي المشرق [العربي] أن تخترق نواته الصلبة.
    فالاخمينيون الإيرانيون ، القبائل الرعوية الفارسية ، والتي سيطرت على المناطق الإيرانية ، وحدث التمايز بين إدارتها الملكية وجمهورها القبلي ، اعتمدت على الفكرة المجوسية في الصراع بين إلهي النور والظلام ، لكنها لم تتدخل في صياغة أديان المنطقة المستعبدة لها ، تاركة الجمهور الشرقي في معتقداته ، ولكنها استمرت في استغلال الشعوب بالطريقة القديمة ، عبر ترك المناطق الزراعية في انفصالها ، وإرسالها للضرائب أو الخراج ، وكأنها عبر حفاظها على هذه الفسيفساء واختلافاتها ، تضمن صراعاتها الجانبية وتبعيتها. وكان هذا بخلاف الأسلوب الآشوري المعتمد على الاستغلال البشع وفرض الإله واعتماد العنف كوسيلة وحيدة للسيطرة.
    لاشك إن للفرس الاخمينين دوراً في تطور المنطقة الفكري رغم هذا الاستعباد ، ففكرة النور والظلام ، و مسألة إله الخير والشر ، قامتا باختزال الشبكة المعقدة من آلهة الخير والشر ، وبلورتها في الإله الواحد أو الشيطان ، ولا شك إن هذا مثـل تقدماً روحياً على صعيد الوعي ، مما يعبر عن تقدم المنطقة باتجاه الوحدة السياسية والثقافية. وقد وضع ذلك [الحدود] الفكرية بين إيران والعالم الخارجي ، المعادي أو التابع ، وجعلها جزءً مهماً من المشرق.
    وتتشكل عبر هذا الوعي الصراعي بين النور والظلام اتجاهات الحركة الاجتماعية الإيرانية المختلفة ، فحدود النور ودوره أو اختلاطه بالظلام وغير ذلك من المسائل الغيبية ، تلعب دوراً هاما للوعي ، الذي يحولها إلى فعل اجتماعي ، وتتمكن هذه المسائل المجردة من إقامة التحالفات [النورانية] ، حين يتسع الأفق الوطني الإيراني لشعوب مؤثرة أخرى.
    وعرفت تجربة الشعب الإيراني غنى خاصاً في بلورة سمات المشرق ، فالزرادشتية مثلت المرحلة الأرستقراطية في الهيمنة المنفصلة عن الناس العاملين وتكوين الدولة [القومية] ، ثم تشكلت المانوية كاتجاه صوفي غنوصي معبر عن فئات وسطى رافضة لاستبداد الملكية المطلقة وبذخها وحروبها ، وتتوجت العملية الثورية الإيرانية بالمزدكية وهي التي جسدت نضال الفلاحين من أجل الأرض .
    لقد عبرت المسيحية عن الآهات العميقة للفلاحين ، ولكنها تراوحت بين الثالوث الإيراني ، أي بين قوى الأشراف والفئات المتوسطة والفلاحين ، فالأب ، مثل آن أو أيل ، الإله المفارق الذي يغدو غير مفارق ، بالتحامه بالابن الذي هو مثل تموز وأدونيس ، يختزل كل ديانات واحتفالات الربيع ، فلا ينفك عن إرثه الأمومي ، لكنه يعبر عن القوى السياسية والثقافية الفاعلة في خلق الصلات بين الأب [السلطة المطلقة المفارقة] والناس ، وهم حينئذٍ الفلاحون الغامضون في المنظومة.
    إن حدوث التداخل بين المسيحية والمانوية أمر يشير إلى الطابع المعبر عن الفئات الوسطى حينئذٍ ، وخاصة لأولئك المثـقفين المكافحين بصورة سلمية ، والذين يحاولون تشكيل علاقات مختلفة عن نظام العصر القديم ، أي عن نظام الآلهة / الملوك ، إلى نظام الآباء / الأبناء ، وهو أمر يشير إلى الأضرار الفادحة ودمار ثروات المنطقة بالبذخ والحروب ، فيغدو نموذج المتقشف والراهب الذي يعمر الصحراء بالزراعة مؤشراً لضرورة تجاوز نظام العبودية المعممة في المشرق .
    لكن غزاة آخرين يقدمون من مناطق تداخلت فيها العلاقات الرعوية / الزراعية ، فالمقدنيون الذين هيمنوا على الحضارة الإغريقية كانوا نفياً قبلياً أرستقراطياً لحضارة المدن الحرة المتنوعة ، فوضعوا حداً لاضطراب هذه المدن بين طرق مختلفة للتطور ، ولم يعد بالإمكان نمو الطريق الرأسمالي ، وقد كانت الحضارة الإغريقية بتناقضاتها العميقة ، تتوجه إلى انهيار نموذج دولة المدينة الديمقراطية ، وبدء العودة إلى الدولة الاستبدادية المهيمنة على العالم الزراعي ، في حين تتآكل الحرف والصناعات ، فتتدهور الأسس المادية للعلوم ، وتتزايد في الفلسفة الاتجاهات المثالية ، وتتويجها المعروف هو الصوفية .
    ولم تنتشر الثقافة الإغريقية في المشرق ، بشكل متساوق لمراحلها، فالمشرق الذي يحضر نفسه للعودة إلى ديانة الخصب بشكل موسع ، والذي رأى رعاة غزاة جدداً ، كان يتوجه لنفي التعددية الوثنية المفتتة لصفوفه [الوطنية] ، وكان يبحث ويؤكد العناصر شديدة الغيبية ، المعارضة لثقافة الحضارة اليونانية العقلية المختلفة ، فالعقل اليوناني عنى للسواد الأعظم استغلالا وظلاماً. وحين عكف الرهبانُ و«الصابئة» على هذا الإرث اليوناني فإنهم قاموا بوضعهِ على سرير المشرق الديني ، فقطعوا أطرافه الماديةَ وضخموا في اتجاهاته المثالية والصوفية.
    لقد رأوا في اتجاهاتهم حماية لاستقلالهم السياسي وانبعاثا لهم ، وتفكيكاً لدولة الخصم الناهبة المسيطرة ، عبر مستوى موادهم الفكرية ، ومستوى جمهورهم الأمي الزراعي والبسيط.
    وكانت الدولة الرومانية شكلاً متطرفاً من سابقتها . وقد أدت أعمالها العنفية والاستغلالية إلى التحضير لصعود القوى الإقليمية [الوطنية] ومن الداخل الرعوي هذه المرة.
    وقد مثـلت هذه الفقرة قفزة في التحليل ، بسبب التداخل الشديد بين الخارج والداخل في المنطقة ، ولكننا نعود في الفقرة التالية لمتابعة مسار التطور الرعوي الداخلي.


    بداية حضور الرعاة


    في أسطورة الخلق البابلي المسماة [اينوما ايليش ، أي عندما في الأعالي] المكتوبة في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ، نجد بعض الثيمات المشابهة للخلق السومري ، فلا تزال الأم هي الخصم ، وهي هنا (تعامة) لكن يوجد إلى جانبها إله ذكر هو أبسو ، وقد حدث نمو الآلهة الشابة الجديدة في أحشاء الآلهة القديمة مما سبب إزعاجاً لها ، ويحاول أبسو إبادتها ، لكن الإله الشاب (أيا) ينزع العمامة الملكية عن رأس آبسو، ويضعها على رأسه ثم يذبحه. فخططت تعامة لإبادة الآلهة الشابة التي ذعرت ، ثم أرسلت إليها الإله [مردوخ] الذي قتلها ، والذي صنع الأرض والسماء من جسدها ثم خلق الإنسان من دماء إله سجين وقتيل الخ ..
    إن بابل وهي تتحول إلى مدينة مهيمنة تستعيد الأسطورة السومرية في مرحلة حضارية مختلفة ، مثلما تعيد تشكيل السيطرة السياسية في وسط وجنوب العراق ، ولكنها أيضاً تبدأ من الأسس العامة السابقة للمجتمع السومري ، حيث القصر والمعبد يتحكمان في الملكية العامة ، والملك يصعد ليتحد بالإله مردوخ ، لقد أعطى البابليون الإله [أيا] مكانة الأب الأول ، إرث الانفصال الاجتماعي والسياسي عن المجتمع الأمومي ، ولكن آبسو يشير إلى صعود الرجل في هذه القبائل الرعوية الأكدية التي استولت على العالم الزراعي بشكل متدرج ، مثلما استولت على ثروته الروحية .
    إن هذه العملية التغلغلية الرعوية في عالم الفلاحين ، ستتكرر بشكل مستمر ، وتعيد إنتاج نفسها في طبعات متعددة ، ويتكشف الطابع الرعوي في هذه الدموية التي يتصف بها الإله مردوخ ، التي تبتعد كثيراً عن الروح المسالمة التي اتصفت بها الأساطير السومرية الأولى ، وستقوم الدولة البابلية بتوسيع المدى الجغرافي للحضارة السومرية ، دون تغيير الأسس العامة للنظام الاجتماعي ، ولكن الطابع التوسعي المستمر لسلطة المدينة / الدولة ، سيؤدي إلى التهام الجيران، بحثاً عن الفوائض المالية والثروات ، ويقود هذا إلى الحروب ، وظهور مدينة ـ دولة جديدة ، عبر قبائل أو أمم جديدة ، يغلب عليها الطابع الرعوي ، لتقوم بالتوسع وإعادة إنتاج الإرث الديني السابق ، عبر إلهها الخاص ، أو ملكها الكاهن الخ..
    إن الرعويين الساميين وهم يبدأون التحكم التدريجي في منطقة المشرق [العربي] سيكونون متداخلين مع الأقوام الزراعية الأولى، بشكل كبير . ولكن الرعاة فيما بعد سيتسعون ويهيمون . إن الأكاديين ، بفرعيهم البابلي والآشوري سيكونون القوى الأولى من الأقوام الرعوية المهيمنة وسيجعلون السيطرة تعم المشرق ، وهم الذين سيقومون بالتوسعات الحربية والسرقة المسلحة الواسعة والدموية للمناطق الأخرى ، فيتعزز الطابع الإمبراطوري ويتحول الإله ـ الملك إلى الضراوة والوحشية الهائلة.
    ولاشك إن العبرانيين هم أيضاً من هؤلاء الرعاة الذين تاهوا بين الأمم القوية ، ثم سيأتي الكنعانيون ، الذين سيندغمون بالزراعة والتجارة ، ثم سيأتي الآراميون ، الموجة قبل الأخيرة للرعاة ، وأخيراً سيكون العرب التتويج النهائي لتطور الرعاة وانتقالهم إلى المناطق الزراعية.


    مقاومة أولى للاستبداد


    في هيمنة الملك / الكاهن على المدينة لا تتشكل السلطة الشاملة الدموية إلا بصورة تدريجية تاريخية ، فهذه السيطرة المتشكلة في عالم زراعي ، لم يفقد ترابطه القبلي ، ولا جذوره الأمومية ، تتوقف على النمو المتواصل لرقعة المدينة ـ الدولة ، وقد أعطى السومريون هذا الاتساع البطيء الطويل للانتقال من المدينة / الدولة إلى الدول / المدن المتعددة . وقد لعبت قوى الإنتاج ووسائل المواصلات النهرية والحيوانية المحدودة دورها في النمو البطيء للتوحيد السياسي . لكن الأكاديين، القبائل الزاحفة على الوسط العراقي قامت بتسريع العملية التوحيدية . ولهذا فان الفئات التجارية المختلفة ، كانت تنمو وتتسع . وكان هذا مجالاً للتطور الفكري والاقتصادي المتنوع.
    وكذلك كانت مجالس القبائل والمدن الاستشارية تشارك الحكام في إدارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
    لكن الصعود المستمر لآلة الدولة العسكرية كان يقضي على هذه الأشكال الجنينية من الديمقراطية ، حتى إذا وصلنا للحكام المطلقين فإن هذه المؤسسات تتوارى ، وتصبح البنية الاجتماعية ، بمختلف مستوياتها موظفة لهؤلاء الملوك، الذين يجرون بلدانهم للحروب التوسعية التي تعود على سكان الدولة بالكثير من الموارد والعبيد ، وتوسع المداخيل والتجارة ، والإنتاج الثقافي ، غير إن الشعوب المغلوبة والأقوام الرعاة البعيدة ما يلبثوا أن يشنوا الحروب ويثوروا ، ويؤدي ذلك كله إلى الخراب للمالك الزاهرة ، وإلى سؤ الأحوال والمذابح.
    في الصعود المستمر للطغيان السياسي، أو في أزمنة صعود دور الملوك والكهنة الحضاري [التقدمي] في البدء ، تتشكل الأدبيات الدينية، التي لا تضع في اعتبارها دور الناس ، وهو الجمهور المؤسس للمدينة وإنتاجها ، حيث ذوبان جمهور القبيلة في سيطرة زعماء العشائر ، المترافق مع نمو الأجهزة القسرية ، وعبر غلالة الدين التعميمية السحرية، وفي الاحتفالات الطقوسية ، خاصة طقوس الربيع والخصب ، ولكن مع تفاقم الآثار السلبية لهذا التفرد المطلق للطبقة الملكية / الكهنوتية ، والاستغلال البشع ، وكوارث الحروب ، فإن كل هذا يؤدي إلى تململ بعض المثقفين والأصوات المتفردة الحساسة ، مثل شكاوى الفلاح المصري الفصيح ، والمثقف البابلي الذي يقول مخاطباً إلهه بلغة شكوى واحتجاج: الطعام وفير في كل مكان ، لكن طعامي الجوع/ في اليوم الذي قسمت الأنصبة على الناس / كان نصيبي هو الألم والعناء..
    إلا أن أفراد المثـقفين هؤلاء يختلفون عن الجمهور العام ، إنهم قادرون على إنتاج وعي غير ديني ، ولكن الجمهور العادي الأمي المنخرط في آلة الدولة العسكرية والاقتصادية والفكرية، لا يستطيع إلا أن يتقبل الوعي الديني المكرس عبر آلاف السنين ، ويتحسس مظاهره وأدواته عله يجد منفذاً ُيسّرب من خلاله معاناته. وهكذا وجد في طقوس الخصب ، التي فيها الموت والميلاد ، وعذاب إله ما ، صلة روحية واجتماعية غامضة ، بهذا الإله على مستوى ملموس ، يلغي به الاستقطابية الشديدة بين السماء والأرض ، بين الفوق والتحت ، بين الحاكمين والمحكومين ، حيث يتحمل الإله جزءً من عذاب الجمهور ، ويكون معه في احتفالاته الطقوسية ، ولا يشكل ذلك خطورة لدى الطبقة الحاكمة من أتساع ونمو مكانة هذه الإله ، الذي سيكون مسؤولا عن العالم السفلي ، أو يعطى أية وظيفة غيبية أخرى تبعده عن المسألة الأرضية للحكم وموارد الخصب.
    إن المجمع الإلهي قادر بعد زمن من الصراع على إعادة تشكيل الإله ، وتوظيفه بما يخدم سيرورة النظام الاجتماعي والديني ، ولكن هذا لا يمنع من احتواء النظام الغيبي على تمردات من قبل بعض الإلهة الذين يسرقون أشياء مقدسة ومن خيانة بعض الآلهة للأوامر المركزية من قبل الإله المهيمن ، الذي أراد فناء البشر لأنهم أزعجوه بكثرة شغبهم ، مما دفع الإله لأن يخبر بموعد الطوفان القادم ، فقام هذا ببناء سفينة استطاعت أن تنقذ الجنس البشري من الغضب الإلهي . إن هذه الثغرات التي تتشكل للفعل البشري داخل المنظومة الإلهية المهيمنة في عليائها ، ليست من فعل البشر ، بل من فعل الآلهة ، حسب بناء الأسطورة ، ولكن بعض البشر يحصلون على مكانة خاصة لدى هذه الآلهة ، تجعل آلهة ما يساعدونهم أو ينقلون لهم أخباراً أو أدوات وقوى مهمة.
    هكذا نجد البشر وهم يخلقون المجمع الإلهي المسيطر عليهم ، حسب مراحل سابقة طويلة ، يخلقون كذلك أشكال التأثير على هذا المجمع ، حسب فعل بشري جديد ، ولحاجات جديدة ، وفي داخل المنظومة الغيبية المسيطرة خلال هذه المرحلة . ومن هنا فإن الاستغلال الطويل للطبقة المسيطرة ومغامراتها العسكرية وتفردها بالحكم و[ الخراج ] ، يقود الجمهور الفقير إلى تصعيد آلهة المعاناة والتحول كتموز ، الذي يتجاوز آلهة الانفصال والانعزال ، خاصة آن أو أيل ، ذلك الإله الذكر ممثـل السلطة المفارقة ، ولكن هل يستطيع تموز أن يتغلب على الهوة بين الحكام والمحكومين ، وهل تستطيع الاحتفالات الطقوسية الربيعية ، بما فيها من أفراح واندماج بين الملوك والفلاحين ، أن تشكل تحولاً في حياة الجمهور المستغل ؟
    إنها بكل تأكيد تضع أسساً ثقافية جديدة لعالم المشرق [العربي] ، عبر صعود دور الفلاحين ، المُسيّطر عليهم كذلك من قبل القوى المهيمنة ، التي تدخل الإله المعذب المتضافر مع الدورة الزراعية ، والذي يكون جزءً حميمياً من عالم هؤلاء ، فتخلق أدوات جديدة للسيطرة عليهم ، وكذلك مخارج ومتنفسات للحلم ، بحيث يصير الغيب القادم ، جزءً من الحلم الشعبي بديمومة جديدة ، ويبدأ العالم الآخر في الصعود بحيث يغدو ملكية عامة مشاعة ، وبديلاً عن الملكية العامة المسروقة . ويظهر توحد المشرق [العربي] هنا في تشكل نموذج شبه موحّد للإله المعّذب ، فتموز نجد إلى جنبه أدونيس في فينقيا أو بلاد كنعان ، أو أوزوريس في مصر . إن وحدة الآلام والأحلام هذه تشكل خلفية هامة لوحدة السكان في المنطقة ، ولما هو مشترك بين المنتجين. كما تعبر كذلك عن الاغتراب وهيمنة الدول والمستغلين . (16).
    إن الغيب القادم المأمول ، وبطبيعة الحال لم يأت بلا نضال ، إذا كان مشاعاً بشكل كلي فلن يفيد النظام الاجتماعي وسيطرة الحكام الذين قبلوا به ، بعد مسيرة طويلة من الرفض واحتكار اليوم الآخر ، ولهذا فإن تعديلات وتحويرات هامة تشكلت على هذا القبول ، بحيث يكون المنتقل إلى العالم الخالد ، مواطناً صالحاً في حياته ، لم يهن الآلهة ووصاياها ، أي لم يتمرد على نظام السيطرة الذي وضعه الملوك ــ الكهنة. ولا شك إن ثمة قيماً إنسانية هامة في هذه الوصايا ، فليس الأمر مخططاً شريراً ، بل هو عملية صراع معقدة ، متداخلة ، بين ما هو استغلالي أناني وما هو شعبي باحث عن الخير ، وعلى العموم فإن حصول منفذ من نظام القهر [الدنيوي] ، الذي سدت الآفاق في تبديله والقضاء عليه ، سيكون كذلك عملية معقدة تنمو عبر التفاعلات ، بين جنة ديلمون التي صنعها الخيال والحلم السومري ، في مياه الينابيع والنهر وعلى جزيرة البحرين ، وبين المحرقة ـ المزبلة التي ظهرت شرق القدس ، والتي أسمها [جهنم] ، (17).
    إن تصعيد عناصر المقاومة في الدين تم على نحو بطيء وطويل ، فاليوم الآخر لم يكن إلا من نصيب الطبقة العليا في مصر ، ومع صعود عبادة أوزوريس تمت «دمقرطة» البعث ليكون من نصيب الجميع ، وأخذت الأعمال الحسنة تغدو هي المعيار ، وبطبيعة الحال فإنها لم تكن تفلت من ميزان المسيطرين ، لكن عبرها تشكلت عجينة مشتركة للمؤمنين.
    وفي هذه المادة الثقافية المشتركة تتم عمليات التعبير عن الآلام والصبر والانتظار والغضب والحلم.


    الدين كوعي (وطني) متباين


    يغدو الدين كفكرة مصاغة من قبل القوة الاجتماعية العليا فكرة قبلية و(مدنية) ووطنية ، لأنه كشكل للوعي لم ينفصل عن وعي الجماعة ، لكن يُلاحظ الفرق الكبير بين الدين في المشاعية والدين في المجتمع المنقسم اجتماعياً ، حيث كانت سمات الأمومية والخصوبة والتعاون تظلل آلهته ، في حين تصاعدت جوانب القوة والعنف والهيمنة مع آلهة النظام الطبقي ، مما يعبر عن تصاعد دور الدولة كجهاز قسر وتحكم.
    وفي الفترة الأكادية التي يظهر فيها عنف الألوهية وشراستها ، تبدو كمرحلة مختلفة عن ألوهية العصر الأمومي الخصوبية ، وعن المرحلة اللاحقة وهي التي ستنمو بالتضاد مع آلهة الساميين الرعويين الباطشة ، والتي تغدو تركيباً من مرحلة الأمومية وصعود الإله الذكر المعبر عن مرحلة الدولة والطبقات ، في توليفة متجاوزة للعهد (السامي الأكادي) وسيكون ذلك تجميعاً مشرقياً ، وإن كان بصورة متفرقة ، لإله الخصوبة وقد صار ذكراً ، وتجلت فيه فعل الطبقات المقهورة كذلك ، بعد أن كانت الصياغة الأساسية في المجتمع المشرقي الطبقي ، من فعل الطبقات القاهرة.
    لكن فعل هذه الطبقات المقهورة يتجلى من خلال إرثها الزراعي ، حيث تتشكل الآلهة المقاومة المعَّذبة المتمزقة ، وهو ما يعكس تغييب الفعل البشري في الطبيعة ، وجعل ذلك في رموز متفردة مفارقة في نهاية المطاف ، تزيل ملامح ما هو سياسي واجتماعي .
    إن الدين لا يعبر فقط عن القاهرين بل عن المقهورين أيضاً ، فالطبقات المتعددة ترى الإرث الديني بصور مختلفة ، وقد عكست المرحلة التموزية على سبيل المثال ، فعل الطبقات الشعبية ، خلافاً للعصر السابق ، ولكن القوة المسيطرة تقوم دائماً بالتسلل إلى البنية الدينية التي غدت شعبية فتوظفها لما لم تكن لها بداية ، عبر نزع المضمون النضالي العميق لها ، وتحويلها إلى أشكال عبادية مُفرغة من ذلك المضمون ، ومؤدية إلى التهدئة الاجتماعية والاستسلام.
    ولهذا سنجد في الميراث الديني عموماً هاذين الجانبين المتضادين المتداخلين ، جانبي المقاومة والاستسلام ، جانبي الكفاح للتغيير أو تأجيل الأهداف إلى الغيب.
    وإذا كان الجمهور ، حسب وضعه التاريخي ، لا يجد سوى المادة الدينية ، فإنه سيقاوم داخل غيبها المموه ، وسوف يكسر بعض المحرمات والمقدسات السابقة ، ويشكل مقدسات جديدة يحرك بها التاريخ المجّمد ، في امتيازات الحكام ، وهذه اللحظة هي التي تنفث حرارة بنقد الظالمين ، فترى إن التاجر لا يدخل من خرم إبرة حسب الإنجيل ، وإن المرابين والمستغلين مدانين وإن للفقراء ملكوتاً قادماً ، وبعدئذٍ حين يكون الدين في موقع تاريخي مختلف ، وتتغير علاقته بالطبقات المتصارعة ، وينتقل من التعبير عن طبقة مستغلة إلى التعبير عن النظام الاجتماعي ، أو عن كل القبائل ، أو عن الوطن كله ، حينئذٍ تتبدل صياغاته وتستقر توجيهاته العامة في شكل تصالحي غامض ، ثم تبدأ الطبقة المسيطرة ، أو الطبقات المسيطرة ، حسب المناطق والدول ، في إعادة تشكيله ونزع مضمونه الثوري الذي تشكل في المرحلة الأولى ، حين كان وليد الطبقات المقهورة.
    ولكن عملية إعادة إنتاج الدين لا تتوقف ، فهذا التكييف الفوقي ، يقابله تشكيل تحتي ، والأشكال الخارجية من العبادات التي تحاول الطبقة المسيطرة تحويلها إلى قيد اجتماعي للسيطرة اليومية والأهداف السياسية قد تتحول إلى شكل مضاد الخ..


    الزراعة كاقتصاد مهيمن


    إن مساهمة فرعي الاقتصاد الأساسيين: الزراعة والرعي في تطور المنطقة ، يعتمد على عناصر مختلفة كاستئناس الحيوان وتطور الأدوات المعدنية ، وهذه العوامل كبيرة الأهمية لكون عالم الزراعة سيبقى بلا تطورات جذرية ، في حين إن استئناس الإبل والخيول وجلب المواد الحديدية ، الذي سيكون من مساهمة الأقوام الأكثر بربرية وهم (الهكسوس) ، ملوك الرعاة ، والذين جاءوا في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وأحدثوا الكثير من الخراب كذلك ، إن هذا سيؤدي إلى الفعالية الكبيرة للرعاة على حساب المزارعين. إن انتشار الحديد والخيل وتغلغل الإبل في الجزيرة العربية ، سيروض المناطق الأكثر أتساعا وصحراوية في المنطقة ، والتي ستتمتع باستقلالها شبه المطلق ، في منطقتها الصعبة الوعرة، وقد حاول الرومان مرة واحدة غزوها في حملة فأصيبوا بكارثة (18).
    لقد كانت الزراعة وتوابعها: الحرف والتجارة، هي سيدة المنطقة فيما قبل غزو الهكسوس ، لكن القرون التي تلت بدأت تصعد أقوام الرعاة كالآراميين ، الممهدين الأخيرين للعرب جنساً ولغة.
    وإذا كانت الزراعة لم تنفصل كلية عن الرعي في حقبها الأولى ، وقد حدث الانفصال حين تمكن الرعاة من استئناس الحيوانات ذات الأهمية القصوى في تطورهم وهي الخيول والإبل ، فإن الرعي لم ينفصل كلية عن الزراعة ، فحين تتواجد الظروف المائية الكافية كان يمكن الجمع بين الاقتصادين ، إلا أن الانفصال الكبير قد حدث ، ووجدت الساحة الأكبر لتطور الرعاة ، وهي الجزيرة العربية ، فيما بعد مجيء الهكسوس.
    ويلاحظ أن الممالك العربية الأمومية في شمال الجزيرة العربية ،(19) ثم الممالك السواحلية المتعددة في اليمن والحجاز والبحرين وعمان ، كانت أقل رعوية من الداخل ، وذلك بسبب نشؤ المدن والزراعة. إلا أن العمق الرعوي هو الذي كان يتحكم في الحركة التاريخية للعرب ، حيث لم تستطع أي مدينة أن تفرض نفسها على الرعاة الأشداء وعبر المنطقة الهائلة الاتساع.
    ويمكن ملاحظة بدايات التطور الحضاري لدى العرب الشماليين القيسيين ، في مدائن صالح ولدى المناذرة والغساسنة والأنباط ، وفي الشريط الحضاري للحجاز، والذي تناثرت فيه المدن التعدينية ، حتى جاءت مكة تتويجاً لمخاض اقتصادي واجتماعي طويل ، (20).


    الزراعة والفروع الأخرى من الاقتصاد


    تشكلت المدن في المشرق من القرية الزراعية ، التي كان المعبد ثم القصر شكلي التطور السياسي الديني المهيمن فيها ، فمن الزراعة في المشرق الخصب تشكلت السلطة السياسية التي سيطرت على خريطة المدن والمجتمع ، ومن خلال فائض الزراعة ثم الحرف والتجارة كانت تتشكل الحياة الاجتماعية والثقافية المختلفة.
    إن الزراعة لا تمثل تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية ما ، مثلها مثل الرعي، والحرف ، فهي مهن وعمليات إنتاجية وتوزيعية متعددة ، لكنها كانت حرفة واسعة ، بل المصدر الأساسي للإنتاج ، حيث تواجدت الأنهار الكبري ، وأنتجت أوسع الحقول الزراعية. وقد هيمنت الدولة هيمنة مطلقة ، بسبب ما رأيناه من صعود سريع للأجهزة الاقتصادية والسياسية ، فخضعت الحرف والتجارة للتطورات الزراعية مستفيدة من فيضها ومؤثرة عليها بن ، إلا أنهما خضعتا لتطورها في النتيجة النهائية ، فعلى طريقة توزيع الفائض الزراعي يتحدد التطور الحرفي والتجاري.
    لقد كانت الطبقة المسيطرة تستلم الفائض الزراعي بصورة عينية أو بصورة ـ عينية نقدية ، ثم تركزت الفوائض بشكل نقدي شبه كلي في سيرورة التاريخ ، حيث يمكن تحويل النقد إلى أي بضاعة أخرى. وعبر هذا الاستلام تتكون مؤسسات الدولة ، فهي ليست سوى خزانة لتراكم استغلال الفلاحين ، وبعد الخزانة تتشكل المؤسسات التي تقوم بحسابها أو الدفاع العسكري عنها.
    ولا تلعب التجارة والحرف دوراً مستقلاً في تطوير الاقتصاد ، فهما مربوطتان بفوائض الزراعة ، التي تتحكم بها الخزينة الملكية ، والتي تغدو مشروعاتها الاقتصادية والاجتماعية رهن بذاتية الحاكم المطلق ، أي بأسباب مرحلته ، وأسرته ، ورغباته ، وأفكاره ، وسنه الخ..
    وهكذا فإن الزراعة التابعة للطبيعة تبعية شبه مطلقة ، ستهيمن على الحرف والتجارة من خلال تحكم الأسرة الحاكمة أو القصر ، مما يلحق هاتين المهنتين كذلك بالتبعية للطبيعة و” أقدارها “. وكأن كل شيء سيتعلق بالحاكم المطلق «الإله».
    إن ذاتية الحاكم لا تنفصل عن طبقته ، ومرحلتها وصراعاتها ، وهي لا تلعب دورها الحاسم إلا من خلال هذه العوامل الموضوعية. وإذا كان الحاكم قد توحد بالإله ، وغدا جزءً منه ، أو امتدادا أسرياً ، أو تجسيدا نورانياً له ، فما ذلك إلا شكلاً للسيطرة الشاملة للحاكم على المدينة و(الرعايا)، أو المملكة ، أو الإمبراطورية الخ ..
    إن التجارة بالتحاقها بالقصر تكون قد فقدت قدرتها على تفكيك الملكية الزراعية العامة الشاملة. فرأس المال الكبير لا ينمو إلا عبر الأرباح المتراكمة وهي التي ستأتي من التجارة بالمواد الهامة والثمينة التي يستعملها القصر ، ثم القصور الملكية المتعددة ، ومن ثم بذخ الطبقة الحاكمة كلها من وزراء ورجال دين وتجار كبار الخ.. ولهذا فإن رأس المال لا يتعامل علمياً بالحرف وأدواتها وآلاتها إلا إذا كانت ستلعب دوراً في إنشاء قصر أو عمل مركز رصد للحاكم أو قبر الخ .. ولهذا فإن العلوم ستغدو مجموعات من المعارف المُفككة ، وليست مناهج علمية تغربل المعلومات المختلفة وتنميها.


    نمو الرعي في الجزيرة العربية


    وإذا كانت الزراعة هي أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي وتوزيعه ، في المناطق الحضرية النهرية ، فإن الرعي هو أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي في المناطق الصحراوية . ورغم أن الفوائض هنا قليلة ومحدودة ، إلا أنها تظهر وتتدفق على المدن والأسواق . فالرعي لن يكون سوى ملحق أخير باقتصاد المدينة ، حيث يسيطر الحاكم المطلق ، وسيقوم بتبادل سلعه التي ينتجها من قطعانه مستبدلاً بها السلع الضرورية كالمواد الغذائية والملبوسات والأسلحة. ولن تلعب هذه الفوائض دورها إلا في المدن الصحراوية والقرى ، التي ستمد الرعاة بالوسائل التي تجعلهم يتغلغلون أكثر وأكثر في الصحراء ، وخاصة رعاة الإبل ، الذين عبرهم ستتم عملية الانتشار الأوسع في الصحراء ، وخلق القبائل الأشد فقراً وتوحشاً. وسيبدو هؤلاء الرعاة الجماعات الأكثر تضاداً مع بذخ المدينة ومراكزها الكبيرة خاصة .
    وكلما أنتشر هؤلاء الرعاة ، احتاجوا إلى المزيد من الأبناء الرجال ، فتتسع قبائلهم ويشتد الفقر في مستوياتها التحتية ، في حين ينفصل رؤساء القبائل والعشائر ، ويكونون أرستقراطية خاصة ، تشكل مصدراً آخر لاستغلال الرعاة ، ويستطيع هؤلاء الزعماء أن يحولوا القبائل إلى شرطة سياسية وعسكرية واقتصادية للدول التي تريد خدماتها ، أو لخفر قوافل التجارة ، أو إنهم يتحولون بأنفسهم إلى لصوص وقطاع طرق فيشنون الغارات على القبائل الأخرى أو المدن العامرة بالثراء.
    لكن لحمة القبائل لا تتفكك مهما كانت عمليات التخلخل الاجتماعي داخلها ، ومهما ظهر الصعاليك والمتمردون ، ومهما أستغلهم رؤساؤهم ، فالوحدة القبلية أقرب للتكوين البيولوجي منها بالتكوين الاجتماعي ، فهي التي تكونت وتحجرت في الصحراء وقاست وصمدت لقسوتها. إن القبيلة تغدو هي الرحم الطبيعي للفرد ، ولهذا فإن القبائل عبر هذه الوحدة الصخرية تغدو قوى اجتماعية كبيرة منظمة في مواجهة مدن مستغلة ومفككة.
    إن القبيلة هي أشبه بوحدة عسكرية متنقلة ، قادرة على الترحال والصمود في أقسى الظروف المناخية والاقتصادية ، وهي قوة موحدة وقتالية جاهزة ، وتمتلك مواردها واستقلالها الروحي والمادي ، وهي لهذا تصبح قوة مؤثرة في مواجهة المدينة ذات المصالح المتباينة ، خاصة عندما تبدأ مؤسسات المدينة في التفكك والضعف . وتصبح الأمور أشد خطراً حين تتآلف القبائل وتتحالف ، وتكون قبيلة كبرى.


    ظهور الرعاة على المسرح التاريخي


    وقد تباينت التطورات الدينية بين القسمين الحضاري الزراعي والرعوي الجنوبي ، مثـلما حدث الانقسام الاقتصادي بين الجانبين ، ولكن التكوينين لم يكونا متضادين بشكل مطلق ، فالجانب الرعوي والذي يمكن أن يتحول إلى قرى ، أو قد يسكن المدن فيتحضر ، يتأثر بمنتجات المدن المادية والروحية ، لكن هناك تباينات واسعة مع ذلك ، فنحن نجد الهكسوس في احتلالهم لمصر يعبدون الإله الشيطاني فيها (ست) ، متوجهين إلى شبه توحيد ، رافضين شبكة الآلهة المصرية المعبرة عن حشود من العالم الزراعي المسالم ، وظهر التوحيد اليهودي بعد الانقلاب التوحيدي الاخناتوني ليعبر عن حلم هؤلاء الرعاة المشردين بتكوين دولة.
    هنا نجد مثالاً ملموساً حول تضادات الأمم الرعوية والزراعية ، فالقبائل اليهودية عبر توحيدها ، تحاول أن تشكل سلطة سياسية وفكرية داخلها أولاً عبر الالتفاف حول إلهها (يهوه) ، رغم إنها لم تستطع بعد أن تتخلص من عبادتها لأيل الإله الكنعاني ، وهو الصيغة الأخرى لآن الرافدي ، الإله المتعالي الذي لم ينفصل كلياً عن بقية الآلهة المتشكلة في مناخ الخصب ، فهو إله المدينة ــ الدولة، التي رأينا كيف ظهرت بالهيمنة على الملكية العامة الزراعية.أما يهوه فهو إله المدينة التي لم تتشكل بعد ، أي إله الرعاة الحالمين بتشكيل دولة. وحين قام الإله بذلك عبر تشكل الدولة ومؤسساتها ، نجد التوراة تشكو من ملوك إسرائيل الذين لم ينفصلوا كلياً عن أيل وعن تقاليد المشرق (العربي) ذات التعدد الإلهي.
    فقد عاد الإله الرعوي إلى منطقة أيل ذات الخصب الزراعي .
    إن ظهور اليهود والعرب على مسرح التاريخ في المنطقة أحد المؤشرات على صعود دور الرعاة . وصحيح أن الرعاة كانوا قد ظهروا عبر عمليات الهجوم والاكتساح من قبل الهكسوس و«الكاسيين» ، والعديد من المؤرخين والباحثين يقول بأن اليهود والعرب هم من هؤلاء الغزاة ، (21) ، إلا أنه لأول مرة نجد الرعاة كجسم اجتماعي وسياسي مستقل ، وينبثق من داخل تكوين المنطقة ، أي من مفرداتها الثقافية.
    وتتمكن القبائل اليهودية من تكوين دولتين مستقلتين بعد قرون ، إلا أن الدولتين اليهوديتين المقامتين لا تفلحان في الصمود على مسرح المنطقة ، بسبب وقوعهما بين الدولتين الكبريين الرافدية والمصرية ، أساس الكيان الاستبدادي الراسخ في المشرق.
    هنا نجد الإله الرعوي يتحول إلى إله دولة ، دون أن يستطيع الإفلات من تقاليد المنطقة لقد أوضحنا كيف انبثقت الدولة ـ المدينة في المنطقة الزراعية عبر نماذج العراق وسوريا ، مما مثـل وحدة صراعية بين الإله المتعالي الذكوري المسيطر وبقية الآلهة الذكورية والأنثوية ، فهذه الوحدة يشدها قطبان دولة مسيطرة متعالية واقتصاد زراعي بتقاليده الأسطورية ، مما يمنع الأنفكاك بين قطبيها. إن آنو لا ينفصل عن تموز ، وآيل لا يلغي بعل. ورع لا يزيل أوزوريس.
    ومشكلة الإله يهوه إنه يحاول أن يلغي أيل بعد أن جثم في موقعه ، لكون التميز اليهودي ومشروع احتلال فلسطين يصطدم بتواجد هذا الإله . وليس هذا فحسب بل أن كراهيته لبعل أشد ، حيث تتجسد التقاليد الطقوسية الفلاحية. وهو إله يسعى في ذله الطويل أن يعوض عن هذا الاستعباد والدونية ، دون أن يمتلك القدرات البشرية والمادية الكافية لكرامته. ولا تفعل سلسلة الأنبياء والمعجزات في تصعيد التكوين السياسي الزراعية ، وفيما بعد ، في عهد الأسر البابلي يعتبر ذلك التداخل هو سبب الكوارث والنكبات التي حلت على بني إسرائيل ، دون أن يخطر بباله إن وقوعه على طريق مرور الإمبراطوريات ، ومحاولته التميز والتفرد الإلهي بقدرته البشرية القليلة في ذلك المكان هي أ سباب كوارثه المتلاحقة.


    تناقضات يهوه


    هكذا رأينا الإله الرعوي محملاً بالبروق والرعود ، أي بعناصر القوة الرمزية، وهو يخرج من مصر بتقاليدها الزراعية ، داخلاً في منطقة زراعية أخرى ، فلا يستطيع الإنفكاك من شريط العالم الأخضر بتقاليده الطقوسية ، إلا عبر تكريس نفسه في العزلة ، والعيش في الصحراء ، واستثارة التقاليد الحربية حتى يقتحم الأرض (الموعودة). إن هذا الحراك الرعوي أنتج الإله شبه المجرد ، رغم إن المرحلة الفكرية للشعب (المختار) لم تكن قادرة على تجسيد الإله إلا بشكل حسي . فالرعاة مثلهم مثل الفلاحين ، لا يستطيعون الوصول إلى التجريد ، خاصة وإن الإله المجرد غير ممكن تشكيله في المرحلة الدينية الأولى في المشرق ، حيث تتطلب العلاقة بين القائد السياسي (النبي) والجمهور الأمي ترابطاً قوياً يتيح للقائد تحريك الجسم الرعوي، الذي يتم تدريبه وتوجيهه، لاحتلال المنطقة الزراعية المقصودة. ولهذا فإن تشكيل الإله المجرد أمر غير ممكن وغير مفيد، ومع هذا فإن هذا الإله لا بد أن يكون مختلفاً عن آلهة الأمم المجاورة ، وهي الفضاء الفكري الوحيد المتاح.وهي كلها آلهة مجسدة ومنظورة.
    إن المهمات السياسية المطلوبة من نمط الإله ، والمستوى الفكري لحملته المدعوين لتنفيذ تلك المهمات ، هي التي تجعل صورة الإله اليهودي تنوس بين التجريد والملموسية ، بين أيل وبعل. إن هذه الانفصالية غير ممكنة للشعب العادي ، وإذ تحدث العملية شبه التجريدية للإله فهي لا تدوم ، سواء إذا غاب النبي لوقت وجيز ، أو إذا أسس خلفاؤه مملكته.
    إن الرعاة أنفسهم مرتبطون بالتقاليد الزراعية الأقوى حضوراً حتى ذلك الحين.وهم في ذات الوقت مرتبطون بالفضاء الفكري للمنطقة ، والمتسم بالتجسيم المادي للآلهة ، والتجسيم ليس سوى تعددية للآلهة تعكس تعدد مستويات السلطات في العالم القديم المفكك اقتصادياً ، سواء على مستوى المدن أم الأقاليم أم القبائل أم الأسر ، وكل هذه تخلق آلهة، والآلهة المضادة كذلك وهي الشياطين والعفاريت ، فالأبيض النوراني يخلق الأسود الشرير ، وقد نشأت الدولة الاستبدادية في المشرق عبر تجاوز هذه التقسيمات وعبر السيطرة عليها ، فآن أو أيل يهيمن بشكل علوي ، ويترك شبكة الآلهة الأقل ، أو السلطات المحلية المختلفة، تعمل وتستقل ذاتياً، وهذا ما يتيح الوحدة و التعددية والاختلافات والصراعات بين الآلهة ، مما يشكل إمكانيات للدراما المسرحية والسياسية والفكرية ، مثـل هذا المناخ يمكن أن يبرر الصدامات والتباينات في العالم الأرضي ، الذي هو حسب الوعي السائد ، لا يمتلك إمكانية تشكيل مصائره بنفسه ، بل يعتمد على القدر الإلهي ، وعلى خرق هذا القدر عبر مساعدة آلهة أخرى ، فيمكن رد مختلف تباينات الوضع الإنساني ، إلى اختلافات علوية ما.
    إن ألواح القدر التي تكتب وتقدم في بدء موسم احتفالات الخصب في بابل ، معبرة عن مقادير الإنتاج التي يقدمها الناس ، هي التي تحدد مصائر السكان لسنة كاملة غير قابلة للنقض ، وقد يكون في هذه الألواح طوفان أو هجوم أجنبي أو خير عميم ، وفي الواقع فإن الأقدار لا تعرف إلا بعد حصولها ، ومن ثم تكتب لاحقاً ، ولكن هذه الطريقة توضح الحالات التجسيمية التعددية للوعي الديني ، ولكن مع صعود الإله الواحد المسيطر بشكل مطلق على الوجود ، تدريجياً أم دفعة واحدة ، فإن هذه الإمكانيات للصراع والتباين الإلهي ـ البشري تزول ، حيث يغدو الوجود من صنع إله واحد ، ويحدث التساؤل في الوعي الديني التوحيدي عن أسباب الخلل والتناقض في الحياة المخلوقة من صنع إله واحد .
    إن الضرورات السياسية في مصر في عهد إخناتون ، حين أراد أن يجهز على سلطة الكهنوت ويمركز السلطة في يديه ، وجهته نحو تعميم عبادة آمون ، مثلما قادت الضرورة القبائل اليهودية إلى إله واحد مخصص لها ، لم يصبح الإله الكوني الوحيد إلا بعد أن تفاقمت الهزائم والكوارث على هذا المشروع السياسي ، فوجه الحاخامات الشعب اليهودي نحو الإله الواحد تجسيداً مطلقاً لحلم زال.
    لكن توجيه الأمور نحو ظهور إله واحد لا بد أن يعيد النظر في الإرث الديني التعددي والتجسيمي السابق ، فيزيل كل عوامل الصراع الإلهي ـ السياسي ، ويمركز السلطة في ذات وحيدة ، في سلطة واحدة مطلقة.
    إن الفلاسفة فيما بعد سوف يتصارعون بشدة حول هذا الإله الوحيد ، الذي رأينا كيف تتجه صورته إلى التجريد أكثر فأكثر ، نظراً لحاجات الشعوب للمركزة السياسية أو تكوين دولة جديدة، ولن يعرف هؤلاء الفلاسفة كيف يجمعون بين إله مجرد، وهو أيضاً ذو تدخل وملموسية وحضور مادي ، عبر مناهجهم المجردة واللاتاريخية.
    إن الحاجة تدفع لبروز الوعي بإله وحيد مجرد ، لتذويب الوحدات السياسية ـ الاقتصادية المتباينة وتشكيل دولة موحدة ، ولتجمع السلطات بين يديها، ولكن تجميع السلطات في لحظة تاريخية ما لابد أن يقود في لحظة أخرى إلى تفكيك هذه السلطة المركزة ، فتتراوح صورة الإله المجرد بين لحظتين متضادتين: التجريد الأقصى والوحدانية ، وبين التعددية والملموسية المباشرة.
    في التجريد الأقصى تقع صورة في العزلة والنأي عن الوجود المادي ويستحيل معرفة كيف تتم العلاقة بين المجرد الكلي والأشياء ، وفي التعددية والملموسية ، تقع صورة الإله في دائرة الامتداد والحركة والتجسيم.
    إن الرعاة وهم يريدون تشكيل دولتهم يستعينون بفكرة الإله الوحيد ، تعبيراً عن الرغبة في الدولة الموحَّدة ، وحين يقتحمون البلاد الزراعية ، يريدون الاحتفاظ بهذه الواحدية ، التي يرفضها سكان المناطق الزراعية.
    إن صورة الإله الوحيد المطلق تظهر إذن وهي لا تزال في دوائر التجسيم ، لم تصر شيئاً مجرداً، لكونها تمثـل تطوراً في نمو الأساطير ، وليس نتاج الفكر المجرد. إن الأسطورة العبرية ، وقد تشكلت من رغبة في تشكيل دولة وإله خاص مسلح ، تحتك وتصارع أساطير أمم المشرق (العربي) ، ثم يقوم مثـقفوها بالاستفادة من التراث الرافدي والمصري ، ليغنوا صورة إلههم الفقير روحياً ، والمنتزع من براكين البحر الأحمر ، فيأخذوا من هذا الإرث مسألة الخلق الأول لأبي البشر وقصة نوح وأيوب وغيرها من القصص والعناصر ، وتلغى تعددية الآلهة بما يتوافق مع مركزية السلطة وواحدية الإله. ثم يعود هذا الإرث إلى فلسطين ليبدأ نزاع جديد.
    لقد أنتصر الإله الرعوي بإرث المناطق الحضارية ، فعرف العبرانيون كيف يستغلون ثروة أمم المشرق الروحية والمادية ، ودون أن تتشكل الدولة ـ الحلم.
    ولكن حين جاء الإغريق ثم الرومان المحتـلون لم يستطع هذا الإله أن يكون أداة مقاومة ، فهو لم يكن موجهاً للأمم الغريبة (الأغيار) ، وهو مع تواجده في منطقة الخصب الزراعي ، وقف نائياً ورافضاً تقاليدها وطقوسها الاحتفالية الربيعية ، وهي ذات المكانة المركزية في حياة الفلاحين ، إن عداءه لأيل وبعل ، كان يدفع أمم المشرق لإنتاج وعي جديد يتجاوز الديانات الوثنية من جهة ، والديانة الرعوية الانعزالية اليهودية ، من جهة أخرى.
    إن نمو المسيحية من رحم اليهودية لم يحدث إلا بسبب إنتاج اليهودية لصورة لإله غير وثـني ، وهي التي ستكون تجاوزاً للتفتيت السياسي ، ففيها حلم توحيد المشرق (العربي) عبر سلطة واحدة، هي نفي للماضي المتشرذم ، وللهيمنة الأجنبية ، وهي كذلك استعادة لآن وأيل ورع ، وقد تخلصوا من ثيابهم الوطنية ، ولكن المسيحية هي أيضاً تموز وبعل وأدونيس وأوزوريس ، هي الابن الفادي ، والإله الذبيح ، أي هي أيضاً استمرار للاحتفالات الطقسية القديمة ، إرث شعوب المشرق الزراعية الطويل. هكذا يغدو الأب والابن تجاوزاً للمسميات وتوحيداً لها في أسمين عائلين مجردين وعامين ومخصوصين. لكن المسيحية وقد اعتمدت اللاعنف ، وتغلغلت بين الفلاحين وسكان المدن والعبيد ، عجزت عن الوصول لتوحيد سكان المشرق العربي ، مركز الفعل الحضاري في الشرق الأدنى ، وخاصة الأقسام الرعوية الواسعة ، التي أصبحت تمتلك قدرات سكانية كبيرة. ثم دخلت المسيحية في انقسامات وتم استيعابها من قبل الإمبراطورية الرومانية ، فلم تستطع القيام بمهمات توحيد المنطقة و«تحريرها».
    إن الأديان المشرقية : اليهودية والمسيحية والإسلام تمثـل إذن درجات المقاومة المتصاعدة من الحلقة الأقل حضوراً إلى الحلقة الأوسع والأقوى سكاناً.


    التوحيد العربي


    كانت هذه المهمة من نصيب القوم الرعاة وهم العرب ، الذين أتاحت ظروف جزيرتهم العربية ، المحكمة الإغلاق أن يتكاثروا فيها ويتطوروا ، ولا توجد منطقة رعوية بها هذه الخصائص الفريدة ، حيث القرب من المناطق الحضارية المركزية ، واستيعاب منجزاتها ، والنأي أيضاً عن سيطرتها .إن عشرة قرون من الاحتلالات الأجنبية للمشرق الذي أخذت تتشكل فيه جذور للعروبة ، والتي تمتد من عمق الجزيرة حتى بوادي الشام ، لم تظهر فيه قوة محلية قادرة على طرد الغزاة ، وقد أصبحت السيطرتان الرومانية والفارسية عبئاً ثقيلاً على المنطقة ، حيث تذهب الفوائض المالية إلى العاصمتين فتهدرانها في البذخ والحروب ، ولهذا فإن المناطق الرعوية والريفية تعيشان أزمة اقتصادية . ومن المعروف كيف تدهورت حياة أسرة هاشم بن عبد مناف ، وكيف تفاقمت الديون وحياة الفقر في مكة على سبيل المثال.
    وقد أخذت الجزيرة العربية منذ زمن بعيد الإرث الثقافي للمشرق ، وخاصة للقبائل والشعوب السامية الشمالية ، وقد كان الاحتكاك بين الجانبين كبيراً وعميقاً على مر التاريخ.
    (يبدو أن مفهوم «آن» ـ (السيد) ظهر في التاريخ في حوض النهرين الأدنى قبل الألف الرابع ق . م. وظل كصفة للقوة والسلطة المطلقتين اللتين توحي بهما السماء (الله بمفهومنا) مترسخاً في الذهنية الحضارية السورية لأكثر من ألفي سنة. وفي العصور المتأخرة ساد هذا المفهوم أيضاً في العربيتين الشمالية والجنوبية) ، (22).
    ويذكر المؤلف في العديد من الصفحات الأماكن التي التصقت بآن وأيل في مختلف أنحاء المشرق كظهران وجيزان وغمران ، أو سعد إيل وتيم إيل (23) .
    إن تحرك إيل أو آن نحو المناطق الأشد رعوية كان لا بد أن يؤدي إلى تغيرات في بنيته ، فقد ظهر في عالم المدينة ـ الدولة ذات المحيط الزراعي ، وداخل شبكة من الآلهة المتعددة ، تعبيراً عن الوحدة الصراعية بين الدولة المتعالية والجسم الفلاحي.
    لم يحدث الإنفكاك بين صورة الإله المجردة ومحيطه الزراعي إلا في لحظتين سياسيتين ، هما لحظة الإله آتون ولحظة الإله يهوه ، وكلتا اللحظتان تشيران إلى مشروعين سياسيين تحوليين هامين في المنطقة ، فإخناتون حاول الإطاحة بتعددية السلطات الدينية والسياسية ، وتركيزها في يديه ، فواجه الكهنة ولكن لم يستطع أن ينتصر لأسباب تاريخية واجتماعية عميقة ، فتكوين الإله المجرد المفارق كلياً للأرض الاجتماعية الزراعية التي تكون منها ، وظل على علاقة صراعية متداخلة بها ، أمر لم يحدث ولم يتشكل.
    إن هذه الإمكانية ممكنة فقط في حالات مخاض العالم الرعوي عن مشروع تكوين سياسي جديد ، ولعل ثمة علاقات بين إخناتون والعالم الرعوي ، أي أن ثمة مواداً مشرقية تغلغلت في الوعي المصري السائد وراحت تحفزه للتوحيد الاجتماعي وتذويب الوحدات الاقتصادية والسياسية والفكرية المفككة ، في تكوين سياسي واحد وصلب . إلا إن هذا يحتاج إلى أساس اجتماعي مختلف ، أي إلى تنام لعلاقات اقتصادية لا تسود فيها الحياة الزراعية. وكان هذا أمراً غير ممكن موضوعياً في مصر.
    واللحظة الثانية ، وقد أشرنا إليها سابقاً ، وهي لحظة الإله يهوه ، المنتزع من عالم غير زراعي، والتي أعطته فترته السياسية التكوينية ، بين المشروع وتجسيده ، إمكانية التجريد والعلو فوق العالم الزراعي وبنيته ، دون أن يتمكن من المفارقة والتجريد الحقيقي ، فظل إلهاً ملموساً لقبائل تريد غزو أرض زراعية ، وحين حكمتها ، لم تستطع إلا أن تتردد بين صورتي الإله المختـلفتين. ولم يصبح هذا الإله مجرداً ومنفصلاً عن البنية الزراعية إلا حين أصبحت الجماعات اليهودية مالية وتجارية ، وانفصلت بشكل كبير عن فلسطين ، وغدت قوة النقود واستغلال الأمم الأخرى هو ما يوحدها.
    ونستطيع أن نلاحظ إن ثمة قوة مقاومة للاحتلال الروماني والفارسي عبر هذا الحراك الفكري الذي تشكل من المخاض الاجتماعي السياسي الطويل في المنطقة على مدى عشرة قرون ، فإذا كان اليهود قد جمعوا فسيفساء الوعي الديني وأدلجوه لصالح تجربة القبائل اليهودية لتشكيل وطن أو للعودة إليه ، فإنهم كذلك ناضلوا من أجل الإله الواحد الذي يحاول أن ينسحب من التقاليد الزراعية الوثنية التعددية ، فيدعو للقوة وعسكرة القبائل ، لكن المادة البشرية اليهودية المحدودة لم تكن مؤهلة لخلق الوحدة وطرد الغزاة.
    في حين إن المسيحية التي كانت أبنة التطور الفكري والسياسي للمنطقة ، استطاع مثقفون ينتمون للحضارة الإغريقية ـ الرومانية أن يحولوها إلى استجابة فكرية أيديولوجية لحاجات الإمبراطورية الرومانية في التوحيد والتجميع. ومن هنا تغلغلت المسيحية في العالم المسيطر والعالم المسيطر عليه ، في البلد المهيمن والبلدان المهيمن عليها والمنهوبة. ولم يعد ثمة فرق بين من يستغل ويتلقى العذاب ، ومن يقوم بالاستغلال والتعذيب ، عبر مجموعة من الأفكار التي راحت تنمو وتتجير لصالح توليفة من الانسجام والتوفيق بين الأطراف المختلفة المتصارعة ، سواء عبر أفكار تتجاوز اليهودية المحصورة ، أي عبر إلغاء «الخطيئة» الأصلية الذي يعني تجاوز اليهودية واستيعابها ، ومن خلال نشر ثـقافة اللاعنف والتسامح ، بحيث يتشكل مخرج تاريخي لنظام العبودية المتعدد الألوان بين الغرب والشرق ، وتستعيد الزراعة دورها التاريخي ويتم تخفيف العبودية الخ .
    وهكذا فإن المسيحية عبر تطورها ، الخاضع لهيمنة الثـقافة الإغريقية ـ الرومانية ، انفصمت حينئذٍ عن الحاجات السياسية والاجتماعية الملحة للمشرق ، وغدت وعياً سياسياً يتجه لتغيير بؤرة السلطة في العاصمة السياسية للإمبراطورية. وغدت تخفيفاً من الهدر الإلهي التعددي الوثني وتركيزاً له واختزالاً لبذخه ، فصار انتصار التثـليث موظفاً للحاجات السياسية للإمبراطورية أكثر منه للشعوب ، وخاصة المشرقية ولشعوب شمال أفريقيا المستغلة كذلك ، وسوف يكون تغلغل المسيحية في عالم الغرب الزراعي أكثر منه في عالم المشرق الزراعي ـ الرعوي.
    وقد أستمر الغليان المسيحي في المشرق ، مركز إنتاج الفكر الديني ، وظهرت حركات المعارضة المسيحية الكبيرة فيه ، مما يعبر إن صراع المصالح ، صراع الطبقات ، لم توقفه المظلة التسامحية ، وعبرت النسطورية عن مهاجمة قلب العقيدة الرسمية التي شكلتها الدولة ، فألغت التثليث الإلهي ، وهذا ما فعلته الفكرة الآريوسية بإنكار أن يكون المسيح إلهاً.
    إن هذه الإنشقاقات الفكرية كانت الشكل الفكري للاستقلال السياسي ، ولكن كما أوضحنا أعلاه ، كان المسيحيون العرب والمشرقيون بلا قوة عسكرية كبيرة ، وكما قلنا كذلك فإن التغيرات الثورية الداخلية كانت شبه مستحيلة للسكان المزارعين والعامة المدنيين ، ومثـلت المسيحية ذاتها شكلاً للتوافق والتصالح والمسالمة.
    لقد أخذت الاتجاهات التوحيدية تنمو في الجزيرة العربية ، بسبب المصالح المشتركة لقبائلها العربية ، ولتنامي العلاقات الاقتصادية والفكرية بينها ، وكانت العبادات الوثنية ، التي عبرت عن مصالح مستقلة للقبائل والمناطق، لم تعد تستجيب لعلاقات التوحيد الاجتماعية والسياسية المتصاعدة.
    إن شبكة الإلهة الوثنية عبرت عن مكانة مركزية منهارة للمرأة ، فقد سيطرت الإلهات الأنثى : اللات والعزى ومناة ، على القبيلة الإلهية ، ولكن الإله الذكوري (هبل) كان يتمتع بمكانة خاصة، غير أن سيطرة الآلهات الأنثويات يمثل تناقضاً كبيراً مع تنامي العلاقات الأبوية الذكورية القوية، ولم يكن ثمة من المرحلة الأمومية سوى بقايا أسماء ، وكانت كافة أسس الحضارة قد تشكلت بين القبائل المسماة عدنانية ، وهي التي كانت ضاربة في البداوة ، بخلاف القبائل القحطانية التي استقرت في اليمن وكونت دولاً ، غير إنها لم تستطع القيام بالتوحيد السياسي للمنطقة ، لأسباب تتعلق كذلك بالبنية الزراعية المفككة ، وقد ضعفت الزراعة مع انهيار سد مأرب ، وعودة الكثير من القبائل اليمنية للارتحال والبداوة. إن هذا قد وضع كذلك أسساً للتقارب بين التجمعين العربيين الكبيرين ، إلا أن التمايز القبلي سيظل لفترة طويلة.
    لقد أدى هذا إلى المزيد من التدهور المعيشي لغالبية السكان ، وأزداد ذلك باستمرار الحروب ، كما أشرنا ، بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكذلك الحروب الأهلية العربية .
    لقد تضخم عدد القبائل الرعوية في الجزيرة ، وأصبح العدنانيون (القيسيون) القوة الكبرى فيها ، وتشكلت لهم مدن هامة ، خاصة مكة التي أخذت تلعب دوراً توحيدياً تجميعياً ، وكان موقعهم المتميز الواسع في الشمال والغرب قد جعلهم قادرين على توحيد الجزيرة وقبائلها.
    كيف كانت استجابة الوعي الديني للعمليات الاقتصادية والاجتماعية التوحيدية ؟
    بطبيعة الحال كان العرب في وضع استقبال طويل للمؤثرات العربية الشمالية خاصة ، حيث كان التداخل والتفاعل الطويل.
    (في أوغاريت ، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد ، قام أتباع إيل وبشكل حاسم ، بإلغاء كل حضور للأرباب من الطقوس الدينية للبلاد ، فبعل أقوى الأرباب الأوغارتيين ، صار الآن شيطاناً أكبر ، وزعيماً للأبالسة ، وكذلك عشتار التي أصبحت علة للانحلال الخلقي ومصدراً للإباحية الجنسية.)، (24).
    إن حصول الصراع بين أتباع أيل وبعل ، بين الإله الممثل للسلطة العليا ، وآلهة البنية الزراعية، هو ظاهرة أخذت تتنامى في المنطقة الشمالية من المشرق ، بسبب تصاعد العمليات التوحيدية السياسية ، وبسبب تدفق الرعاة المستمر ، الذين أخذوا يجعلون المنطقة بدوية أكثر فأكثر. كذلك فإن مهمة توحيد المنطقة وطرد الغزاة ، كانت تنمو عبر القرون. لكن هذا الصراع ظل مستمراً دون حسم بسبب التداخل بين البنيتين الرعوية والزراعية ، وعدم قدرة المؤسسات السياسية على الانفصال الكلي عن الجمهور.
    لقد رأينا كيف توغلت الآلهة الشمالية في الجزيرة العربية ، وكان إندغام أسمي أيل وآن بمناطقها ومدنها وأسماء البشر والآلهة فيها مؤشر على الترابط والتلاحم بين الجزئين العربيين ، ولكن تطور مكانة أيل خاصة ، يعبر عن النفوذ الفكري المتزايد للشمال السوري مثلما أخذت البادية السورية تصبح امتداداً لتدفق الرعاة من الجنوب.
    (لاحظ جورجي كنعان في كتابه (تاريخ الله) أن النقوش التي عثر عليها في الإمارات الآرامية تتضمن إشارات واضحة إلى التطور الذي لحق باللفظ (إيل) منذ الألف الأول ق. م . من حيث البنية والمدلول ، فمن حيث البنية ترددت في النقوش صيغ متعددة لــ «إيل» مثل (ال ه) ، (ال ها) ، (ال هه) ، (ال هم) ، (اله ى ا) . ومن حيث المدلول تحولت الصفة (إيل) عند العرب القدماء إلى لفظة (الله) فكان من الطبيعي أن يدخلوه في تركيب أسمائهم مثل : ماء الله ـ سعد الله ـ الخ) ، (25).
    وفي اليمامة كانت عبادة (الرحمن) منتشرة ، وهو أسم يجمع بين الرحم ، وهو صلة القرابة المقدسة ، والإله آن .
    لا نستطيع أن نقول إن إيل قد تخلص من الآلهة الزراعية ، وصار تجريداً كاملاً ، فالبقع الزراعية قد شهدت الاحتفالات الطقوسية الاخصابية ، وقد كانت جذور الحج الوثني إلى مكة تحمل سمات ذلك ، عبر شرب الخمور ولبس ملابس قليلة وتقديم الذبائح إلى الأصنام.
    لكن ضخامة الجسم العربي الرعوي ، وضآلة المناطق الزراعية ، وعملية التوحيد المستمرة في بنية الجزيرة العربية ، والدور القيادي المكي في ذلك ، جعلت عملية التجريد الواسعة تكبر في رمز الله ، نفياً للإلهة الأنثى الملحقة به وهي (اللات) ، تعبيراً عن الانفصال الحضاري الكامل عن المجتمع الأمومي ، ولكافة شبكة الآلهة المفتتة للجسم الاجتماعي ، و تعبيراً عن تشكل المؤسسات السياسية الحاكمة وصعود الحاكم الفرد كذلك ، والانتقال إلى الحضارة.
    هنا حدثت عملية التجريد الثالثة دون صعوبات هائلة كما حدث في عمليتي آمون ويهوه ، بسبب محدودية الإرث الزراعي وطقوسه ، والدور الكبير الذي تلعبه القبائل الرعوية ، فغدت عملية التوحيد الدينية والسياسية عسكرة لهذا القبائل وتوجيهها نحو التوسع وتغيير طابع المنطقة وطرد القوى الأجنبية منها وإحداث عملية تقدم حضارية كبرى بها.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    فصل من كتاب: انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة/ الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية، والذي يعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية.
    المصادر :
    (1): (راجع: تاريخ الشرق الأدنى القديم، د. محمد أبو المحاسن عصفور، دار النهضة العربية1984، بيروت ص 60 ــ 62).
    (2): (فبما أن البشر قد خلقوا لخدمة الألوهة (…) فان كل مدينة دولة قد كانت استثمارة للألوهة خاصة ببنية قرابية (مجتمع) مخصوصة، ومكرسة للألوهة المطلقة في شخص أحد أرباب الكون المخلوق) (الميراث العظيم، أحمد يوسف داود، سلسلة القسام الفكرية،1991 دار المستقبل، دمشق، ص302).
    (3): حول هذه المدينة المسيطرة على الفضاء التاريخي نقرأ: (مساحة المدينة ميلاً مربعاً، وبساتينها ميلاً مربعاً آخر، وتبلغ حفر الطين ميلاً مربعاً، وكذلك أرض الفلاة المحيطة بمعبد عشتار. ثلاثة أميال مربعة ومساحة من أرض الفلاة تكون مدينة أوروك) (ملحمة جلجامش، من كتاب (أساطير من بلاد الرافدين، ترجمة نجوى نصر، دار بيسان،199، ط 1).
    (4): ( جذور الاستبداد ، عبد الغفار مكاوي ،عالم المعرفة ، العدد192 ، ص59، الكويت).
    (5): إن هذه البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية هي أساس النظام، في حين تتبدل الهياكل السياسية دون مس كبير لأسس البنية، يقول مؤلف كتاب (الميراث العظيم) حول تجربة مصر: (لكن وجود الدولة المركزية لم يكن يعني ـ على ما يبدو ـ تغيير الشيء الكثير في جوهر التركيب الجمعي وحتى الإداري. فقد ظلت المدينة ـ الدولة أساساً في تكوين الدولة القطرية، وهو ما تتكشف عنه متابعة الدراسات المكتوبة في تاريخ مصر القديمة.)، ( الميراث العظيم، ص 299.).
    (6): (مغامرة العقل الأولى، فرس السواح، دار علاء الدين، ط1، ص31.)
    (7): ( المصدر السابق صفحات:32، 33 ).
    (8): (راجع كذلك المصدر السابق، ص94 ـ 97).
    (9): (المصدر السابق، ص 39).
    (10): (أساطير من بلاد الرافدين، دار بـيسان، ترجمة د. نجوى نصر،1991 ، ص 124).
    (10): (الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة، تركي علي الربيعو. المركز الثقافي العربي، ط1،1992، ص114.).
    (11) :(المصدر السابق، ص 115.).
    (12): (المصدر السابق، ص 119.).
    (14): (يقترب أبن خلدون من رؤية تاريخ المنطقة وهيمنة القوى الرعوية فيها في كلامه عن ضرورة الاعتبار لما:(وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً ومن بعدهم الإذواء كذلك جاءت الدولة لمضر وكذا الفرس لما أنقرض أمر الكينية ملك بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذا اليونانيون أنقرض أمرهم وأنتقل إلى إخوانهم من الروم وكذا البربر بالمغرب الخ ..)، (المقدمة، فصل في الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت العصبية، 116، طبعة دار العودة).
    (15): (جذور الاستبداد، ص 168).
    (16): (وكان طبيعياً أن يصنع خيال الحكماء الشعبيين في وقت المحنة والظلم، إلهاً يشاركهم محنتهم ومظلمتهم، فيموت جوراً، كما يموت المسخرون حول الأهرامات العتيدة، وتنطبع الأسطورة الجديدة بطابع جديد على الفكر المصري، فتحول همها إلى الفقراء، ومشاكل العوز والحاجة، وآمال الضعفاء وطموحاتهم، وتصور الحل الأمثل لهذا الوضع الاجتماعي المختل، لتصبح الأوزيرية هي التعبير الأيديولوجي عن الثورة الشعبية)، ( أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة ، سيد محمود القمني ، كتاب الفكر ط 1، 1988، ص144.).
    (17): (تاريخ جهنم، جورج بنوا، منشورات عويدات، ط 1، بيروت).
    (18): (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، الجزء الثاني، الفصل الثامن عشر : العرب والرومان ).
    (19): (أشارت تلك النصوص الرافدية، المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد ، إلى ملكات عربيات ..)، كتاب (رب الزمان، سيد محمود القمني، الناشر مدبولي الصغير، الطبعة الأولى، ص 194).
    (20): (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، سيد القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، الجزء الثاني، ص 238).
    (21): (يقول لويس عوض في كتابه ( فقه اللغة العربية): (ولا شك أن العرب حين نزلوا شبه الجزيرة العربية إنما نزلوا على سكان أصليين كانوا فيها من قبل ، كان منهم العماليق الذين نعرف من قصة ” الخروج ” في التوراة أنهم كانوا مستقرين من الحجاز إلى جنوب فلسطين من قبل خروج بني إسرائيل وهؤلاء أستطعنا تحديدهم بجحافل الهكسوس المطرودين من مصر في القرن الخامس عشر ق. م.)، (سينا للنشر ، ط1، ص52 .).
    (22): (تاريخ الله: إيل ـ العالي ، جورجي كعان ، بيسان للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط 2 ، ص 179.).
    (23): (راجع الصفحات180 ــ 204 من المصدر السابق).
    (24): (فرس السواح، لغز عشتار، ص349).
    (25): (الأحناف ، عماد الصباغ، دار الحصاد، ط 1، ص 26).

    1. المقالات العامة
    2. جذور_الرأسمالية_عند_العرب
    3. عبدالله_خليفة القرامطة .. الجذور التاريخية
    4. عبدالله_خليفة : كائنات مستأنسة
    5. عبدالله_خليفة : ما هو حبل الله؟
    6. عبدالله_خليفة : إنساننا البسيط المتواضع
    7. عبدالله_خليفة : إيران بين الحصارِ والتراث
    8. عبدالله_خليفة : الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية
    9. عبدالله_خليفة : الرقص ودلالاته الاجتماعية
    10. عبدالله_خليفة : حلقي مليءٌ بالنارِ على وطني
    11. عبدالله_خليفة وداعاً صديق الياسمين
    12. عبدالله_خليفة وطنيون لا طائفيين
    13. عبدالله_خليفة إعادة إنتاج العفاريت
    14. عبدالله_خليفة الماركسية الأديان
    15. عبدالله_خليفة الإنتاجُ الفكري وضياعُهُ
    16. عبدالله_خليفة الانتهازيون والفوضويون
    17. عبدالله_خليفة تلاقي المستغِلين فوقَ التضاريس
    18. عبدالله_خليفة عدم التطور الفكري وأسبابه
    19. عبدالله_خليفة: تطورات الرأسمالية الحكومية الروسية
    20. (علمية) فيورباخ وتوابعهُ
    21. ‏‏‏‏‏‏مكونان لا يلتقيان
    22. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أفــق ـ مقالات 2008
    23. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي
    24. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بلزاك: الروايةُ والثورةُ
    25. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ
    26. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: دوستويفسكي: الروايةُ والاضطهادُ
    27. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
    28. 𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆 𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙
    29. في الأزمة الفكرية التقدمية: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    30. قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي
    31. قد بيان الحداثة لــ أدونيس
    32. قصة الأطفال عند إبراهيم بشمي
    33. قصص من دلمون
    34. كتاب ايديولوجي لعبدالله خليفة
    35. كريستين هانا
    36. لينين في محكمةِ التاريخ
    37. لينين ومغامرة الاشتراكية
    38. من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية
    39. من ذكرتنا الوطنية عبدالله خليفة
    40. موقع عبـــــــدالله خلــــــــيفة على You Tube
    41. ماجستير الأدب البحريني ـ آثار عبدالله خليفة
    42. ماركس الرمزي وشبحية دريدا
    43. مبارك الخاطر: الباحث الأمين المسؤول عن بقاء الضوء في الماضي
    44. محمود أمين العالم والتغيير
    45. محمد أمين محمدي : كتب – عبدالله خليفة
    46. مراجعة للعنف الديني
    47. مراجعةٌ للعنفِ الديني
    48. مستويات السرد .. الدلالة والسياق عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    49. مسرحية وطن الطائر
    50. مسرحية الأطفال عند علي الشرقاوي
    51. نموذجانِ مأزومان
    52. نحن حبات البذار
    53. نحن حبات البذار عبدالله خليفة
    54. هل حقاَ رحل صاحب القلب الأبيض؟
    55. وهي قد تكسرُ البشرَ وخاصة المبدعين والمثقفين!
    56. وعي محمود إسماعيل
    57. وعي الظاهر والباطن
    58. وعبادةُ النصوص
    59. يوسف يتيم : دراسة تطبيقية لرواية الجذوة على ضوء المنهج الواقعي
    60. يحيى حقي: كتب – عبدالله خليفة
    61. أيوب الإنسان: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    62. أخوان الصفا
    63. أدب السجون: إجابة على أسئلة جريدة الوطن
    64. أدب الطفل في البحرين
    65. أزمة اليسار
    66. أسلوب القصة عند الجاحظ في (البخلاء)
    67. أسلوب الإنتاج الكولونيالي أو رأس المال الحـكومـي الشـــــــــرقي
    68. أسباب الانتهازية في اليسار
    69. إنتاجُ وعيٍ نفعي مُسيَّس
    70. إحترام تاريخ اليسار – كتب: عبدالله خليفة
    71. الفكرة ونارها: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    72. القائد والمناضل عبـــــــدالله خلـــــيفة ‏‏‏‏‏‏ مفكراً وأديباً وروائياً بحرانياً
    73. الكلمة من أجل الإنسان
    74. الليبرالية في البحرين
    75. المفكر اللبناني كريم مروة
    76. المنبتون من الثقافة الوطنية
    77. المذاهب الإسلامية والتغيير كتب: عبـدالله خلــيفة
    78. المرأة والإسلام
    79. الولادة العسيرة لليسار الديمقراطي الشرقي
    80. الوعي والمادة
    81. الوعي الجدلي في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري
    82. اليسار في البحرين
    83. اليسار في البحرين والانتهازية
    84. اليسار والميراث الديني
    85. اليسار البحريني يخسر «عفيفه الأخضر»
    86. الأعمال الصحفية الكاملة. أفـــــق، 2024
    87. الإسلام السياسي كمصطلح غربي
    88. الانتهازية الفكرية عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    89. الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية.
    90. البطل الشعبي بين الماضي والحاضر
    91. التحرير تبقى عاليا ومضية كتب عبدالله خليفة
    92. التضحوي والاستغلالي
    93. التطور الفلسفي العربي الحديث المبكر .. عبــدالله خلــيفة
    94. الحدثُ الأوكراني ودلالاتُهُ الديمقراطية
    95. الحربائيون
    96. الرواية الخليجية لم تتجذر في الأرض بعد
    97. السودان بحاجة إلى الديمقراطية والسلام
    98. الساقطون واللاقطون ــ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
    99. الصحراويون والزرع
    100. الطبقة العاملة الهندية في البحرين
    101. العناصر الفكرية في الشيوعية العربية
    102. انتصار للطبقة العاملة في العالم بتنصيب الرئيس لولا دي سيلفا رئيسا للبرازيل
    103. اتحاد الكتاب العرب في سورية| ينعي الأديب البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏
    104. بيع كتب ومؤلفات عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    105. تكويناتُ الطبقةِ العاملةِ البحرينية : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    106. تناقضات الماركسية – اللينينية
    107. تآكل التحديثيين ونتائجه
    108. تجاوز الشللية والقرابية ــ كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
    109. تحدياتُ الحداثة في الوعي الديني
    110. تحدياتُ العلمانية البحرينية
    111. تداخلات جبهة التحرير والمنبر الديمقراطي – كتب: عبدالله خليفة
    112. تعريف العلمانية
    113. تعريف العلمانية عبدالله خليفة
    114. ثقافة الانتهازية: كتب – عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    115. جمعية التجديد الإسلامية
    116. جورج لوكاش … تحطيم العقل !
    117. جبهة التحرير الوطني البحرينية باقية والمنبر التقدمي شكلٌ مؤقت وعابر
    118. جذور الرأسمالية عند العرب
    119. حكمٌ دستوري وإلهٌ عادلٌ
    120. حوار مع الكاتب عبدالله خليفة: المؤلف الجيّد عاجز عن الوصول الى الناس
    121. حوار مع عبدالله خليفة
    122. حوار المفكر العلماني صادق جلال العظم
    123. رفاق الطريق
    124. رفعت السعيد والسرد السياسي
    125. روسيا ودعم الدكتاتوريات
    126. روسيا الدكتاتورية
    127. رأس المـــال الحـكومــــي الشـــرقي ــ أو أسلوب الإنتاج الكولونيالي
    128. سردية الانكسار والانتصار في رواية  «التماثيل»: عبدالله خليفة
    129. صراع الطوائف والطبقات في فلسطين : كتب-عبدالله خليفة
    130. ضيعة الكتب ضيعة كبيرة. أصدقاء الكاتب لا يعرفون عناوين كتبه.
    131. طفوليةُ الكلمةِ الحارقة
    132. طفوليةُ الكلمةِ الحارقة : عبدالله خليفة
    133. ظهور المادية الجدلية: كتب- عبدالله خليفة
    134. علي الشرقاوي
    135. عودةُ الحداثيين لطوائفهم
    136. عبـــــــدالله خلــــــــيفة
    137. عبـــــــدالله خلــــــــيفة .. الفكرُ المصري ودورُهُ التاريخي
    138. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : «الكلمة من أجل الإنسان»
    139. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : في الأزمة الفكرية التقدمية
    140. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فيلم الشاب كارل ماركس
    141. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فالح عبدالجبار
    142. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فصيلٌ جديدٌ لا يعترفُ بالحداثة وقوانينها
    143. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : قانون الإنتاج المطلق
    144. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كلمة من أجل الكاتب
    145. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كاتب أدبيات النضال
    146. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لماذا يموتُ الشعرُ؟!
    147. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لولا تخاذل الحداثيين ما جاء الطائفيون
    148. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لويس أرمسترونغ ــ موسيقى الحياة الوردية
    149. عبدالله خليفة: ملاحظات حول مجموعة ــ الفراشات لأمين صالح
    150. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية
    151. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من ذاكرتنا الوطنية
    152. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : منعطفٌ تاريخي للعرب ‏‏
    153. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ميراث شمولي
    154. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نقادٌ مذعورون
    155. عبدالله خليفة: نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية
    156. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نضال النساء في البحرين
    157. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : و(الفولاذ) بعناه!
    158. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : وردة الشهيد
    159. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أفـــق ـ مقالات 2010
    160. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أن تكتب الأدب في السجن
    161. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أسباب تمكن الحركات الطائفية من الاختراق
    162. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أشكال الوعي في البنية العربية التقليدية
    163. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : إنّهُ المثقفُ العضوي!
    164. عبدالله خليفة: إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في ساعة ظهور الأرواح
    165. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفقه والدكتاتورية المنزلية
    166. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفنون في الأديان
    167. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : القصة القصيرة الطلقة
    168. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكلمة من أجل الإنسان ــ كارل ماركس
    169. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكائنُ الذي فقدَ ذاته
    170. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكتابة وظروفها إجابة على أسئلة
    171. عبدالله خليفة: المناضل والأديب والإنسان ــ تقديم المحامي عبدالوهاب أمين
    172. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المنبتون من الثقافة الوطنية
    173. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المثقفون العاميون
    174. عبدالله خلـيفة : المجموعة القصصية ــ ضــــوء المعتــــــــزلة
    175. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المرأة بين السلبية والمبادرة
    176. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : النساء وضعف الخبرة السياسية
    177. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : اليهودُ من التراث إلى الواقع
    178. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : اليسارُ الديمقراطي واليسارُ المغامر
    179. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأفكار والتقدم
    180. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأديان والماركسية
    181. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الإصلاحيون الإيرانيون
    182. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البنية والوعي
    183. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البناء الفلسفي في أولاد حارتنا
    184. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البرجوازية والثقافة
    185. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التفككُ الثقافي
    186. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التبعية للدينيين
    187. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثقافة والمثقفون البحرينيون
    188. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثلاثة الكبار
    189. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثورية الزائفة لمحطة الجزيرة
    190. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الحداثة مشروعان فقط
    191. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الدكتور عبدالهادي خلف مناضل أم ساحر؟
    192. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الدين والفلسفة عند ابن رشد
    193. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الرموزُ الدينيةُ والأساطير
    194. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الرهان على القلم
    195. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي
    196. عبـــــــدالله خلــــــيفة: الساقطون واللاقطون ــ المنبر اللاتقدمي مثالاً
    197. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الشاعر الكبير يوسف حسن و زهرة الغسق
    198. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العقل والحريــــــــــــة
    199. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العلوم والإنتاج والفلسفة
    200. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العمل والعمال والمصنع
    201. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العناصر الفكرية في الشيوعية العربية
    202. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العائلة والديمقراطية
    203. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تنوير نجيب محفوظ
    204. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تآكل الماركسية أم الماركسيين؟
    205. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تآكلُ الماركسيةِ في البحرين
    206. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني
    207. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تطورٌ حديثٌ حقيقي
    208. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تعدد الزوجات والحرية
    209. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ثقافةُ الديمقراطيةِ المتكسرة
    210. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جورج لوكاش وتحطيم العقل
    211. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة
    212. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : حكاية أديب
    213. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: خفوتُ الملاحم
    214. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: رموز الأرض
    215. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: روحُ الأمة!
    216. : رأس المال الحكومي الشرقي – الطبقة العاملة في البحرين
    217. عبدالله خليفة : شقة راس رمان التي عاش فيها 21 عاماً وتوفى فيها.
    218. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف والطبقات في فلسطين
    219. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ظهور المادية الجدلية
    220. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: علم الحشرات السياسية
    221. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عن الديمقراطية
    222. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عالم قاسم حداد الشـعري
    223. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عبادةُ الشخوص
    224. عبـــــــدالله خلــــــــيفة كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟
    225. عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي
    226. عبـدالله خلـــيفة الأعمال الكاملة القصصية والرواية والتاريخ والنقدية
    227. عبـــــــدالله خلــــــــيفة السيرة الذاتية
    228. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي
    229. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: كلنا إسلام سياسي!
    230. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: لينين في محكمةِ التاريخ
    231. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أفكار سياسية دينية
    232. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ألفُ ليلةٍ وليلة . . السيرة السحرية
    233. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أغلفة الكتب
    234. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: النظر بموضوعية في تاريخ الإنسان
    235. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الوعي الديني والبنية الاجتماعية
    236. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأيديولوجيات العربية والعلم
    237. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأزمة العقلية للثورة
    238. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الانتماءُ والغربةُ
    239. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الباحث عن أفق تنويري عربي
    240. عبـدالله خليفة: البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم
    241. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الخيال والواقع في الأديان
    242. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الرمزيةُ وأهميتُها
    243. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: العصبيةُ والعمرانُ
    244. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بؤرةُ الوهمِ قديماً وحديثاً
    245. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة
    246. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تفتيتُ المكونات
    247. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تبعية العلمانيين للدينيين ــ جذورها ونتائجها
    248. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تحليلٌ لكلامٍ مغامر
    249. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تحديث نجيب محفوظ
    250. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تدهور مكانة المرأة واتساع الرقيق
    251. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تركيب حضاري
    252. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تطور الوعي الديني في المشرق القديم
    253. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ثرثرةُ الوعيِّ اليومي
    254. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: حريات النساء مقياس للديمقراطية
    255. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: دعْ الإنسانَ حراً
    256. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: رؤيتان للدين
    257. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل
    258. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سذاجةٌ سياسيةٌ
    259. عبـــــــدالله خلــــــــيفة(تفتيتُ المكونات)
    260. عبـــــــدالله خلـــــــيفة : مسيرة نوال السعداوي
    261. عبـــــدالله خلــــــــيفة : اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية
    262. عبــداللـه خلـــــيفة . . الأقلف والبحث عن الذات
    263. عبــدالله خلـــــيفة .. مقاربة الشعر الجاهلي
    264. عبــدالله خلـــــيفة : قراءة لــ طه حسين
    265. عبــدالله خلـــــيفة : قراءة لـــ إسماعيل مظهر 
    266. عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة لدى الطهطاوي
    267. عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة عند سلامة موسى
    268. عبــدالله خلـــــيفة: إبراهيم العُريّض ــ الشعر وقضيته
    269. عبــدالله خلـــــيفة: المثقف العربي بين الحرية والاستبداد
    270. عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله
    271. عبد الله خليفة: كانت الكلمات عاجزة عن البوح
    272. عبدالله خليفة
    273. عبدالله خليفة «الساعةُ آتيةٌ لا ريبَ فيها»
    274. عبدالله خليفة.. كي لا يُدفن مرتين !
    275. عبدالله خليفة : وحدة الماضي والمستقبل
    276. عبدالله خليفة : الاشتراكية والمستقبل
    277. عبدالله خليفة : البحرين في بدء التحديث
    278. عبدالله خليفة : التنوير الاجتماعي عند فرح أنطون
    279. عبدالله خليفة : التنوير الرومانتيكي عند جبران خليل جبران
    280. عبدالله خليفة : العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي
    281. عبدالله خليفة : بوخارين ومصير روسيا
    282. عبدالله خليفة : تنوير لويس عوض
    283. عبدالله خليفة : تنوير يعقوب صروف
    284. عبدالله خليفة : صراع اليسار واليمين في الإسلام
    285. عبدالله خليفة : صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
    286. عبدالله خليفة – الأعمال القصصية
    287. عبدالله خليفة – الأعمال القصصية – المجلد السابع
    288. عبدالله خليفة – الأعمال النقدية – المجلد الثامن
    289. عبدالله خليفة – الأعمال التاريخية
    290. عبدالله خليفة – الأعمال الروائية – المجلد السادس
    291. عبدالله خليفة قبل رحيله: المحن مؤذيةٌ وصعبة
    292. عبدالله خليفة كل الأشجار
    293. عبدالله خليفة من أجل الشعب اولا
    294. عبدالله خليفة نفعية في الكتابة
    295. عبدالله خليفة وقضية المرأة في الرواية الخليجية
    296. عبدالله خليفة يكتب عن نجيب محفوظ
    297. عبدالله خليفة أحد أهم الكتاب المخلصين لتجربتهم الفكرية
    298. عبدالله خليفة أزمة اليسار
    299. عبدالله خليفة إشكالية البحر والواقع
    300. عبدالله خليفة المخادعون
    301. عبدالله خليفة الوعيُّ القرآني قفزةٌ نوعي
    302. عبدالله خليفة الأعمال الكاملة
    303. عبدالله خليفة الأعمال الكاملة الروائية والقصصية والتاريخية والنقدية
    304. عبدالله خليفة الأعمال النقدية الكاملة
    305. عبدالله خليفة الأعمال الروائية والقصصية والتاريخية والنقدية الكاملة
    306. عبدالله خليفة الإسلامُ ثورةُ التجار
    307. عبدالله خليفة الجمهورُ و(الغوغاء)
    308. عبدالله خليفة الحلال والحرام في السياسة الراهنة
    309. عبدالله خليفة الرعب من الحب
    310. عبدالله خليفة السحر والدين
    311. عبدالله خليفة العقل والحرية
    312. عبدالله خليفة اسكرايب
    313. عبدالله خليفة جريدة النور
    314. عبدالله خليفة رائد الثقافة التنويرية البحرينية
    315. عبدالله خليفة عن المرأة
    316. عبدالله خليفة.. تحطيم الصورة وتكوينها
    317. عبدالله خليفة… حياته
    318. عبدالله خليفة: في التطورِ العربي العام
    319. عبدالله خليفة: فائض القيمة البحريني
    320. عبدالله خليفة: القحط في زمن النفط
    321. عبدالله خليفة: المسكراتُ وأحوالُ السياسة
    322. عبدالله خليفة: المغامرات اللغوية أبعدت القارئ عن الرواية
    323. عبدالله خليفة: الوعيُّ العربيُّ وتطوراته
    324. عبدالله خليفة: العربُ ونقدُ الواقع
    325. عبدالله خليفة: تنوير تقي البحارنة
    326. عبدالله خليفة: تنوير حسن الجشي
    327. عبدالله خليفة: تناقضات الوعي العربي تاريخياً
    328. عبدالله خليفة: تباين طرقِ التطور العربية
    329. عبدالله خليفة: شيعةُ العربِ ليسوا صفويين
    330. عبدالله خليفة: صراعاتُ الوعي العربي تاريخياً
    331. عبدالله خليفة: ضعفُ العقلِ النقدي
    332. عبدالله خليفة: فائض القيمة والاقتصاد السبعيني
    333. عبدالله خليفة: عبيب «مأكول خيره»..!
    334. عبدالله خليفة: عبدالناصر كإقطاعي
    335. عبدالله_خليفة الثلاثة الكبار
    336. عبدالرحمن بدوي

    الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية : قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي

    كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة


    1 ₪ قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي


    توطئة
    يتناول هذا الكتاب ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين : الدين والفلسفة، و بجذور هذا الوعي الأولى ، وهو يتشكل وينمو من المرحلة الجاهلية فظهور الإسلام وتشكل الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة الأموية. إن هذا يمثل الجزء الأول من البحث المطول ، حيث أن ثمة أجزاء أخرى تعالج المراحل التالية .
    وهذا موضوع ليس جديداً ، فهو كان ولا يزال مركزاً لدراسات لا تتوقف ، فلا بد أن يحمل هذا الجهد الجديد شيئاً مختلفاً ، يضيف إلى هذا الكم والنوع الكبير ، مساحة مختلفة من الرؤية.
    وبطبيعة الحال فإن الباحث تجشم هذا العناء من أجل أن يطرح وجهة نظر مختلفة ، فالعمل هو رؤية جديدة إلى الوعي العربي ، تجعله كائناً تاريخياً مركباً ، فالوعي العربي ـ الإسلامي الذي تشكل في الجزيرة العربية ، لم ُتبحث جذوره التاريخية الممتدة إلى التاريخ القديم في المنطقة ، وإلى تضاريسها الجغرافية / الاقتصادية ، وإلى كونه مستوى في بنية اجتماعية متضادة متغيرة دوماً.
    فإن يظهر الوعي العربي ، بصفة وثنية ، ثم ينعطف إلى الطبيعة الدينية التوحيدية ، فإن ذلك لا يتم في إطاره التاريخي المعزول عن الطبقات التاريخية السابقة ، ولا عن التطورات الفكرية في منطقته المشرقية ، التي غدت بعدئذٍ عربية ، ولا عن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها ، جدلاً مع التاريخ ، وحفراً في الحاضر.
    إن بحث الطبقات التاريخية القديمة في المشرق ، عبر رؤية الأنظمة الاجتماعية المتشكلة ، وخاصة جوانبها الفكرية ، يقود إلى تحديد أنماط هذه الحضارات ، وأسباب تحجرها في نمط إنتاجي معين ، ليرى المحطة التي دخل فيها العرب ، والظاهرات المختلفة ، التي جعلت الإسلام يظهر بتلك الصورة التحويلية لهذا العالم المتجمد عند تشكيلته الاقتصادية ـ الاجتماعية.
    إن قراءة التاريخ العربي / الإسلامي عبر تحليله من خلال جذوره في الماضي ، هو أمر سيفتح مستويات وعي البنية العربية / الإسلامية ، فهذا الوعي العربي المتنامي أخذ عناصر فكرية من الماضي كفكرة الآلهة أو الإله الواحد أو دور السماء كمركز لإنتاج الوعي المطلق وبعض أسماء الأنبياء وبعض الأفكار الدينية الخ..
    ونحن نقوم بدراسة البنية الأولى ، بنية العصر القديم عبر هياكلها الإنتاجية ومستوياتها الفكرية ، ونقوم بالربط بين خيوط المرحلتين ، أي نرى كيف تواجدت تلك العناصر الفكرية في بنية الوعي العربي وأسباب تطورها بهذا الاتجاه داخله.
    وقد ركزنا خاصة على بنية المجتمع العراقي الجنوبي ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الإنتاج والوعي فيها ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الوعي الديني في مصر ، بحيث نكتشف طبيعة النظام الاجتماعي المشترك ، ودور هذا النظام الاجتماعي المشترك في تجمد التطور التاريخي ، أي في البقاء ضمن تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية واحدة.
    فالوعي العربي ، ومن ثم تطوره اللاحق ، الوعي الإسلامي ، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصر القديم ، سواء عبر علاقته المباشرة ، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان : الوثني ، واليهودي ، و المسيحي.
    أننا سنقوم برؤية علاقة التداخل هذه ، سواء بالاستفادة من المؤثرات أم بتجاوزها ، وبناء منظومة جديدة . ولكن علاقة التداخل هذه ستكون معقدة وذات مستويات ، ففي المرحلة الجاهلية تكون العلاقة مختلفة عن المراحل التالية ، بحيث إن العلاقة تحكمها تطورات البنية الاجتماعية الداخلية، فاسترجاع الماضي ، أو الاستفادة من المؤثرات القادمة من الخارج ستخضع لهذه البنية الداخلية وصراعاتها.
    إن هذا يقودنا إلى تحديد نمط وتطور البنية الاجتماعية العربية، أي دراسة الخطوط الرئيسية لإنتاجها ، وأشكال الوعي السائدة فيها ، حيث سندرس طبيعة البنية ” الرعوية ” وتأثيراتها الكبيرة على الوعي والتطورات الاجتماعية والفكرية والسياسية.
    ولكن دراسة البنية الاجتماعية لا يجعلنا مأسورين في طابعها التـقني ، أي أن نعتبر الرعي اتجاهات فكرية وسياسية ، بل نحن نعتبره علاقات اجتماعية واقتصادية معينة ، في حين إن الاتجاهات الفكرية والسياسية تعود إلى مستوى آخر ، لكنها ترتبط كذلك بالظروف الاجتماعية السائدة.
    فإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي هذا المجتمع العربي الرعوي فلا بد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع ، ولكنه من حيث الإتجاه هو تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا ، ويستهدف تخطيه وتمدينه. وهنا تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة [ مكة ] كقائدة حضارية لهؤلاء الرعاة . وبين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
    إن سيادة الجسم الرعوي تعبر في حد ذاتها عن مستوى البنية ، وبالتالي فإن الاتجاهات الحضرية فيها لم تقم بحسم عملية التطور الاجتماعي ، والدخول في بنية اجتماعية ذات نظام سياسي محدد، وكان الرعاة ( الساميون ) لهم تجارب في هذا القفز التاريخي، وعبر ذلك كانت العلاقات الاجتماعية العليا تحمل العلاقات الاجتماعية الدنيا، في مركب غير متناسق،(1).
    والإسلام نفسه هو العملية الحضارية الهادفة إلى تغيير هذه البنية الرعوية السائدة ، وهو يظهر من خلال موقع اجتماعي وفكري محدد ، حيث برز كثورة ، أي أنه صعد من خلال تحالف اجتماعي طليعي مقاتل ، وإن هذا التحالف هو الذي جعله يرتبط بأغلبية السكان ، وبالتالي يعيد تشكيل الجزيرة والمشرق والعالم المحيط من خلالها.
    لكن هذا الاتجاه يخضع لعملية التطور والصراع بين الجماعات الاجتماعية ولمستويات تطورها وفاعلياتها ، وبهذا فإن البنية الاجتماعية الرعوية أساساً خاضعة للصراعات الداخلية وللمؤثرات الخارجية ، خاصة عملية الفتوح التي سادتها القبائل الرعوية ومستوياتها الاجتماعية والفكرية ، وقادها المركز القرشي.
    وبهذا فإن البنية الاجتماعية للعهد النبوي تختلف عن البنية الاجتماعية للعهد الراشدي ، من حيث كون الأولى عربية ـ جزيرية بدرجة أساسية ، وكون طبيعة حركتها الاجتماعية وطريقة تقسيمها وتوزيعها للملكية ، وبسبب غياب الدولة وملكيتها ولبداية تشكل أجهزتها ، في حين إن بنية العهد الراشدي اعتمدت على حركة الفتوح وهجرة السكان المقاتلين وعوائلهم إلى الأمصار وبدء تشكل الدولة العربية الواسعة التي تضم المشرق العربي والإسلامي ، الذي لم يصر عربياً وإسلامياً بعد حينذاك.
    إن بنية العهد الراشدي تعتمد على ظهور ملكية الدولة للأراضي العامة [ الصوافي ] ، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع ، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية ، ومع ترسخ هذه البنية واستعادت الهياكل الاقتصادية العائدة للعصر القديم ، تبدأ صراعات اجتماعية وسياسية عميقة في هذه البنية ، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
    وتتوغل الدراسةُ في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها ، بحيث نقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي / الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة ، أي نقرأ عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة ، و طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها ، بحيث نصل إلى دراسة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية التي أستقر عليها.


    2 ₪ موقع الاتجاهات المثالية من التطور الاجتماعي


    إن قراءة هذه الخطوط العريضة والتفصيلية للتطور الاجتماعي لا تفصلنا عن دراسة بؤرة الموضوع ، وهي مسألة الاتجاهات الفكرية المثالية.
    إن المثالية عموماً هي وجهات النظر التي ترى أسبقية الوعي على الوجود ، وهذه الأسبقية قد تكون من خلال أسبقية الألوهية أو الأفكار أو الماهيات والجواهر في صنع العالم ، أو أسبقية الوعي الفردي ، (2) .
    وقد أعطى الإنسان قديماً الأرواح المختلفة القدرة على التحكم في الوجود المادي والمصير الإنساني ، وكان الإنسان ـ الحيوان جزءً مادياً ملتصقاً بالطبيعة عبر مئات الآلاف من السنين ، وحين بدأ الانفصال البطيء الطويل المحدود عنها ، عبر العمل كانت تبعيته مع ذلك للطبيعة عميقة وغائرة في هياكله الاجتماعية والفكرية ، سواء عبر المنظومة العشائرية ، أم عبر سيطرة الأرواح وأرواح الأجداد والطواطم وعبادة الأمهات والكواكب والنجوم ، على وعيه وتنظيم حياته.
    إن انقسام الأرواح إلى خيرة وشريرة كانت تعبر عن الطابع المتناقض للظاهرات الكونية والمادية والبشرية ، وهي تنمو عبر التمحور في كائنات ما ورائية مطلقة ، هي الأرواح والآلهة والشياطين والمسوخ المختلفة الخ..
    إن تبعية الإنسان للطبيعة هنا ، وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه ، كانت تقود إلى سيطرة القوى الما ورائية المختلفة ، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
    وهكذا فإنه أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في هذا الإنتاج الروحي ، كشكل أولي سحري من المثالية ، أي عبر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدرة على السيطرة على الداخل الإنساني ، سواء كان هذا الداخل تنظيماً اجتماعياً أم أفكاراً ومشاعر.
    هذه الطبقة من الرؤى السحرية والطقوسية هي الجذور الأولى للوعي الإنساني ، وهي التي تواجدت مع تشكل الحضارة البشرية في منطقة المشرق ، وبدء تحول القرى إلى مدن وظهور الدولة والطبقات الخ..
    لا بد أن نلاحظ التمايزات التي تشكلت في المشرق [ العربي ] منذ البدء عن المناطق الاجتماعية ـ الفكرية الأخرى ، كالمنطقة الهندية ، والصينية وغيرهما ، حيث لعبت العناصر الطبيعية [ السماوية ] خاصة من نجوم وكواكب ومطر وشمس وأنهار دورها في الانقسامية الكبرى للأرواح الخيرة والشريرة ، ثم في التشكل الثنائي المتضاد لها ، حيث للأولى الجوانب العليا المهيمنة الطيبة الخيرة، وللثانية المستويات الدنيا وحدوث الانفصال الكلي المطلق بينهما .
    كانت هذه تركيبة متداخلة مع العصر الأمومي ، وكانت هذه الأخيرة تشكل آلهة أنثوية إنتاجية ومسالمة ، ولكن مع تشكل الحضارة في جنوب العراق وصعود المدن من قرى المستنقعات ، وظهور السلطات والطبقات ، فإن تلك التركيبة السماوية الشاملة ، سوف تصعد الأرواح والآلهة الصغيرة والقبائل الإلهية لتحكم السماء وتسيطر على تنظيم الكون والحياة الإنسانية ، بشكل شرس وعنيف ومتفرد . كذلك فإن هذا يترافق مع انتقال الحضارة من المجموعات السومرية الزراعية المسالمة إلى القبائل السامية الرعوية العنيفة.
    إن تبلور الأرواح على شكل آلهة عليا ترافق وانقسام العمل إلى عمل يدوي وذهني ، وحصول السحرة والكهنة والملوك على موقع أعلى من المنتجين ، فأخذ الأولون عبر الرموز السماوية كالكواكب والنجوم في تجسيد السلطة المتعالية.
    لقد أخذت المثالية صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية ، حيث القوى الغيبية المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة ، فتنهدس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع قوى الطبيعة الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ..
    ثم هي لا تكتفي بتشكيل الطبيعة في المدة الزمنية القصيرة الممدة على أيام الأسبوع ، بل أيضاً تقوم بتنظيم الحياة الاجتماعية بالصورة التي ترتئيها ، فتضع الرجل والمرأة في الأمكنة التي تريد ، وتصنع الإنسان من طين أو من بقايا إله قتيل ، وتعلن الوصايا الاجتماعية والسياسية التي لا تُخرق أبداً .
    هكذا غدت الغيبية الدينية الأم الأولى للمثالية ، المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد ، التي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود ، وهذه الأفكار الغيبية نقول إنها نظرات وأفكار مثالية ، من حيث إعطائها القوى الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية ، الدور الأول في صياغة العالم ، لكن الفلسفات المثالية ستتشكل فيما بعد ، معتمدة على هذه الجذور الدينية والأسطورية حين تتراكم المعارف ويُكتشف التجريد والتعميم النظري ، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة.
    إن الجانبين يتفقان في أسبقية الوعي وتشكيله للعالم ، والجانب الأول يشكله عبر المواد السحرية والقوى الخارقة المختلفة ، والجانب الثاني يشكله عبر الآلهة والأفكار المطلقة والقوى المجردة والرموز المختلفة.
    والجانبان يعبران عن مرحلتين تاريخيتين ومستويين فكريين / اجتماعيين ، مختلفين ومتداخلين ، فالأول يعبر عن المناطق التي سادت فيها الأديان حيث هي الأفكار التي تتعاضد فيها العمليات العقلية التصويرية والتجريدية.
    ويلعب التصوير دوره الأساسي ، ويتمظهر عبر القصص والملاحم والأناشيد والأساطير الخ .. فيجسد الآلهة والقوى الغيبية المتحكمة في الوجود ، وحينئذٍ تكون العلاقة بين الجمهور المنتج والسحرة والكهنة والملوك علاقة هيمنة مطلقة من قبل الأخيرين ، وتتمظهر عملياً عبر المعابد والطقوس ، فيسود فيها الانفعال وتغييب عقل الجمهور ، ومن الممكن أن نجد هنا عناصر مادية كالهواء والماء والنور وغير ذلك ، ولكنها مجرد عناصر مسيطر عليها وذائبة في القدرات الخارقة للآلهة والشياطين التي أخذت تهيمن بشكل أساسي ، على الوجود السياسي / الإيديولوجي ، حيث إن الآلهة معبرة عن الخير وقوى النظام والصحة والحساب الخ .. ، والقوة الثانية أي الشياطين معبرة عن قوى الشر والرفض والمرض الخ..
    إن قوى الطبقات المسيطرة المتجسدة في المشرق ، ثم في امتداداته المناطقية والعالمية ، تحيل عناصر المادة إلى عناصر مهيمن عليها وذائبة ، مثلما تفعل في العناصر المادية الاجتماعية كالمدن الحرة والصناعة والتجارة ، فهي تُلحقها بالطبقة المهيمنة بفرعيها الملكي / الديني.
    ولهذا فإن العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري ، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد ، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
    إن التحام العناصر السحرية والدينية بالنظام السياسي العبودي المُعمّم ، حيث السلطة السياسية معبودة وملتحمة بالآلهة ، يجعل هذا النمط من المثالية الفكرية ، ينيخ على الفضاء الفكري للناس ، جاعلاً إياهم جزءً من حيوانات الإنتاج ، فلا تعطى مفردات العالم الموضوعي : الطبيعة ، المجتمع ، الوعي ، استقلالياتها وتفرداتها ، وتغدو كلها تابعة للآلهة والكائنات الغيبية المطلقة.
    لهذا تغدو الأديان مهيمنة على الوعي على مدى آلاف السنين ، مع نمط الإنتاج العبودي العام ، وبنائه التقني وهو الزراعة ، ولكن تشكل الدول الكبيرة ونمو المدن واتساع التجارة والحرف ، يشكل نمواً مختلفاً للوعي ، وفي الدول العبودية المعممة القديمة المشرقية ، لم تتشكل الفلسفة ، أي هذا الوعي المتميز النوعي المستقل عن الدين ، كبنية فكرية تنظيمية ، وليس كاتجاه ، أي إن الدول المشرقية العبودية منعت حتى انبثاق هذا الوعي ذي الصفة الاستقلالية عن الغيبيات الدينية ، والذي يغدو إنتاجاً فردياً مميزاً ، في إطار تذويبها للأفراد وللعقل المستقل والنقدي. لكن الوعي المعارض والثوري يتمظهر عبر الدين نفسه في صراعات متعددة ومتداخلة، تشكل مسار التطور الاجتماعي والفكري المتضافر.
    في المدن الحرة اليونانية الديمقراطية التي تحميها الموانع الطبيعية والعسكرية الشعبية ، عن هيمنة الدول العبودية المعممة المشرقية ، أمكن لهذا الوعي المستقل أن يتشكل بصفة نسبية هامة عبر صعود دور التجارة و [ الصناعة ] ، دون أن يتحرر كلياً من الغيب الديني والأساطير، ومستفيداً من الثروة العلمية والأدبية الكبيرة التي تشكلت في المشرق.
    ولهذا حدث التمايز بين الشكلين من الوعي المثالي ، الأديان /الأساطير ، والفلسفة ، وحين ذهبت الأخيرة للمشرق ، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها ، فتقوم الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية ، مثلما تقوم الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
    إن الشكلين من الدين والفلسفة ، هما الشكلان المتميزان الرئيسيان من الوعي المثالي ، في المشرق ، ويعتبر الدين حجر الزاوية في البناء الفكري ، نظراً لارتباطه بالعمليات السحرية في الوعي والبناء الاجتماعي ، وبأشكال جماعية طقوسية ، مؤد لجة لحماية الأنظمة العبودية المعممة ، والإقطاعية فيما بعد ، وحيث تجد القوى الشعبية المعارضة أصواتها الجماهيرية كذلك ، في حين إن الفلسفة هي نتاج ثـقافي فردي وجماعي لم يظهر في عمليات الطقوس والشعائر السحرية والغيبية ، بل عبر الوعي ” العقلي ” للأفراد والنخب الثـقافية والفكرية ، ولهذا فهو كنوع نتاج الاستقلال عن البنية الأسطورية والدينية ، المعبرتين عن الدولة ، بجناحيها السياسي ـ الديني ، المفارقة والمطلقة ، والمتحكمة كلياً ونهائياً في البشر، وكذلك عن التمردات والثورات ضد هذه الدولة بمستوييها السياسي والديني.
    فالآلهة والشياطين الخ ليست في النهاية سوى تمثلات للسلطات والاتجاهات المختلفة ولقوانين التطور الطبيعية والاجتماعية المُغيبّة ، وعمليات تبدلها المستمر عبر العصور ، ولكن من حيث إفقادها الطبيعة والمجتمع والوعي كياناتها المستقلة وتطوراتها الموضوعية.
    إن هذه الأنظمة العبودية والإقطاعية التي ألغت الوجود البشري ، وألحقت المنتجين بالتالي بحيوانات الحقول ، عبر جعل كائنات الأديان والأساطير تهيمن بشكل مطلق على الوجود ، ستناوئ الفلسفة كقوة فكرية للمثـقفين المستقلين والأحرار ، ولكنها أيضاً ستتدخل في هذا الشكل الجديد من الوعي القادم من بلاد اليونان .


    3 ₪ الدين والفلسفة كشكلين متميزين للوعي :


    في كلا الجانبين الدين والفلسفة ، تكمن النظرة الشاملة للوجود. فالدين يقوم بتنظيم الحياة والكون عبر ترتيب قصصي أو ملحمي ، أي معتمداً على المادة التصويرية ، لإنتاج منظومة فكرية تهيمن على السلطة ومن ثم المجتمع والبشر وتحاول تأبيد وديمومة وجودها إلى الأبد.
    ورغم إن الدين هو من تبليغ أو تشكيل أو بناء شخوص محددة هي الأنبياء أو القادة ، فإن المصدر الفردي لا يعتبر جوهرياً، فالفرد ذاته هو صوت للغيب ، أو للأرواح ، فهو رسول القوى ألما ورائية ، مما يعبر عن قوى غير فردية، ولهذا يكون عادة جزءً من المرحلة القبلية البطولية ، فيتداخل النسيج الغيبي والأسطوري بالدين ، متجسداً عبر مادة تصويرية غالباً ، ويكون بناؤه أقرب للشعر منه للنثر.
    وليس في هذه المادة التصويرية برهان أو تسلسل منطقي ، وإنما هي مادة موروثة التحمت بالطقوس والعبادات. وإذا أخذت بنموها الفكري والاجتماعي في البنية التي ظهرت فيها ، يمكن رؤية تطورها السببي ، ولكن باعتبارها مادة منزلة من السماء ، أو باعتبارها نتاج القوى الخفية ، فليس هنا أية سببية برهانية متسقة لها.
    ولهذا يحدث التمايز هنا بينها وبين الفلسفة ، التي تعتبر نتاجاً فردياً عقلياً محضاً ، فتتشكل على أساس المنطق والحجج والبرهان ، وهذا بحد ذاته يؤدي إلى الصدام بين هذين الشكلين من الوعي ، فالدين الجماهيري السلطوي الغيبي أو الجماهيري التمردي يتشكل بلا برهان ، ومن مجموعة من القصص والحكم والمواعظ ، في حين إن الفلسفة المكونة من خلال الأفراد والمعتمدة على أبنية فكرية متسقة ، تبدو أعلى في كيانها ومرتبتها من الدين ، نظراً لتشكلها عبر العلل واعتمادها على ثمار العلوم المختلفة ، وهي بهذا العلاقة المتوارية الضمنية ، تقوم بالهجوم على الدين ، أو على الأقل بالاختلاف والتمايز معه ، وتغدو كبناء فكري نتاج مرحلة بشرية أكثر تقدماً.
    ويغدو نموها في الطبقة الوسطى ، أي في شرائح المتعلمين والمثقفين والتجار ، عاملاً آخر في تناقضها مع الدين الذي يلتحم مع المؤسستين السياسية والدينية. أي مع الطبقة الحاكمة بفرعيها الأساسيين. أي أن كافة الاتجاهات الدينية تقوم بالتوغل في الفلسفة ، وهذا يرتبط بمستوى التطور ومدى فاعليات الطبقات الوسطى والشعبية.
    والعلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري ، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي ، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الأشراف والطبقة الوسطى ، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما . ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأول الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الطبقة الوسطى في مدن حرة ، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الطبقة الوسطى وإلحاقها بالدولة و صعود طبقة ملاك العبيد .
    إن عمليات التعاون أو الصراع تعتمد على الظروف السائدة في البنية الاجتماعية واتجاهات التطور فيها ، وعلاقات التداخل والتباين بين مستوياتها وأشكال الوعي فيها ، ولهذا فليس من الممكن المعرفة المسبقة بعلاقات الدين والفلسفة ، وهما كشكلين من الممكن أن يحدث تعاون وتداخل بينهما ، حسب رؤية المفكر ، فيحدث توظيف كل منهما للآخر ، ومن الممكن أن يحدث الصراع .
    إن الاتجاهات السائدة في البنية هي التي تلعب دوراً كبيراً في علاقة الدين بالفلسفة في المشرق ، نظراً لأن الفلسفة تالية والدين قديم وراسخ ، فهذه الاتجاهات السحرية والأسطورية والدينية نظراً لخمسة آلاف من الحضارة العبودية المعممة الاستبدادية هي التي كونت القواعد العقلية الجماهيرية ، في مناطقها الزراعية المنعزلة ، وتغدو المدن مكان إدارة الطبقة الحاكمة بمؤسساتها السياسية والدينية ، وتصير فئات التجار والمثـقفين والإداريين الخ ، ذات علاقة تابعة بالطبقة الحاكمة ، ومن ثم تصير الفلسفة تابعة للدين .
    ولكن أيضاً من الممكن مع اتساع الدولة والتجارة والحرف ، أن تظهر فئات إنتاجية وتجارية ومالية غير تابعة للدولة ، أو أنها ُترهق وتعاني من استغلال الحكام ، فتقوم بإنتاج وعي مختلف ، نقدي ، أو تشككي ، أو معارض بصورة مبطنة دينية أو صوفية أو عقلانية الخ ..
    ومن المؤكد إن حجم ونوع هذا الاختلاف يعتمد على مدى تطور الفلسفة باتجاه القراءة الموضوعية للطبيعة والمجتمع والوعي ، ومدى شمولية الدين وتداخله مع السلطة أو السلطات ، واتساع أو ضمور المواد العلمية الناتجة من الأبحاث وتطور التقنية والترجمة ، ومدى دور وأهمية النزعات المادية في داخل الأبنية المثالية أو خارجها الخ..
    وتقود الصراعات في البنية الاجتماعية إلى تفكك المنظومة الدينية الشاملة الوحيدة إلى مذاهب متعددة ، تعبر عن النزاعات الاجتماعية والقومية غير المعبر عنها سياسياً ، وتتخلق بشكل مذاهب وربما أديان الأقليات المختلفة ، وهذا كله يتغلغل في الفلسفات ، لتغدو اتجاهات متعددة ، وللجسم الإمبراطوري شكله التطوري الخاص ، بخلاف زمنية التفكك والدويلات ، بحيث إن التعميمات الفكرية والاستخلاصات المجردة المتعالية فوق البُنى التاريخية المحددة ، تقود إلى استنتاجات غير دقيقة.
    فحين نناقش ـ على سبيل المثال ـ تيار المعتزلة ينبغي أن لا يُؤخذ فوق البُنى التي تتشكل وتتنامى داخل تضاريسها ، ففي عصر الدولة الأموية كان الاعتزال يتطور بشكل ، هو بمثابة المرحلة التأسيسية له ، ولكن هذا الطور الأول ليس متماثلاً مع الطور الثاني ، رغم وحدة المفاهيم الأساسية ، لأن البنية الاجتماعية الجديدة قامت بإعادة تشكيل الاتجاه ، فقد كان في الطور الأول قيادياً طليعياً ، أما في الطور الثاني فكان تابعاً للدولة ، وهذا مرتبط بعملية الصراع الاجتماعية ـ الفكرية ، ولهذا سوف نقرأ التباينات الاتجاهية والمعرفية في الطورين ، وسنرى علاقة ذلك الوثيقة بالبُنى ومدى هيمنة الدولة ـ الدين فيها، والفروق بين الطورين والجوانب المتضادة فيهما .
    أي أن اتجاه المعتزلة سيُؤخذ ليس كاتجاه فكري له جذوره الموضوعية فحسب ، بل كفاعلية فكرية وسياسية داخلة في البنية ومراحلها المختلفة مؤثرة ومتأثرة بها، ومن هنا ستتضح الفوارق الدقيقة بين كل مرحلة ، والعمليات التي تؤسس الوعي ، وعمليات الوعي في الحياة.
    وسندرس كل اتجاه حسب هذه الطريقة ، وتفاعل الاتجاهات المختلفة ، داخل البنية الإمبراطورية ثم في البنى الإقليمية ، وسنقرأها في ضؤ التفاعلات بينها ، مستعيدين جذورها وجذور المنطقة والأقاليم المختلفة ، لتتشكل لوحات مركبة للدين ، وللاتجاهات الفكرية ـ الدينية وللمذاهب والعلوم والفلسفات.
    ولهذا فإن هذا الجزء من البحث سيقوم بقراءة الجذور القديمة والمعاصرة لتشكل الوعي العربي بين مرحلتيه الوثنية والإسلامية، وحيث لا يوجد هنا سوى وعي ديني بمرحلتين وببنيتين، وهي المرحلة التي ستضع القواعد الأساسية للمرحلة التالية للعصر العباسي الأول .
    في حين سيبحث الجزء الثاني الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي الثاني .
    أما الجزء الثالث فهو يختص ببحث أبنية الفلسفة المختلفة .
    وهذا التقسيم سوف يضعنا على التشكلات المعقدة لبنية الوعي المتطورة، والملتحمة بالتطورات الاجتماعية والفكرية المختلفة، بحيث نكتشف ظاهرات الوعي المتعددة، في نوعيها الرئيسين: الدين والفلسفة، ومن بذورها الصغيرة وكيف تتنامى في أشجار كبيرة .
    أننا حين نبحث في المذاهب الدينية سنرى أسباب انقساماتها وتدرجاتها ، حسب الوعي والجغرافيا، وعلاقاتها بالصراعات الاجتماعية و [ القومية ] والمستويات الفكرية للمناطق ، وعلاقاتها بالعصر القديم والمادة الإسلامية.
    أو حين نتتبع تياراً فكريا سنقرأه عبر مراحل تطور البنية الاجتماعية العربية / الإسلامية ، حيث سيبدو مضمراً وصغيراً في مرحلة ، كما يحدث للصوفية على سبيل المثال ، حيث ستبدو اتجاهاً زهدياً في المراحل الإسلامية الأولى ، ونقرأ أسباب التشكل بهذا المستوى ، ثم سنرى الصوفية في مرحلة أخرى وقد أعطاها التطور الاجتماعي والفكري القواعد الأساسية لتغدو اتجاهات مستقلة عن البنية ، وكظاهرات وعي متميزة.
    إن التداخل المعقد بين ما هو اجتماعي وفكري سوف يتيح لنا تفكيك هذه الاتجاهات والفلسفات بصورة جديدة في القراءة المعاصرة .
    إن مصادرنا القديمة والمعاصرة تحفر بدرجات متفاوتة في هذه المادة ، فالمصادر القديمة تقدم المادة بصورتها الخام بهذه الدرجة أو تلك من الأمانة والعرض ، وبدرجة محدودة من العرض التاريخي والقولي ، لكن تغيب عنها البنى المركبة الاجتماعية والفكرية لكل مرحلة ، وفي العصر الحديث تم التوجه إلى التوغل في التسلسل التاريخي وبعض سببياته المحددة و المباشرة كموسوعة أحمد أمين الهامة ، أو رؤيته من خلال البنية الصراعية للعصر دون الجذور التاريخية المركبة للمنطقة ومراحلها المختلفة ، أي دون التضفير بين الصراعات الاجتماعية والتضادات الإنتاجية البارزة للأقسام الرعوية والزراعية ، كما كتب الباحث حسين مروة في النزعات المادية ، إلى الكثير من المساهمات المفيدة والعظيمة، والتي تحتاج في الآونة الراهنة إلى التغلغل الأعمق إلى تضاداتها العميقة والمركبة .
    لو أخذنا الأستاذ أحمد أمين كنموذج لقراءة الوعي الديني والفلسفي فما سنجد؟
    يعتبر الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين العرب الذين أعطوا الكثير للبحث العلمي في مجال التاريخ الفكري والفلسفي العربي، فقد غربل هذا الرجل لوحده مئات المجلدات العربية القديمة، وفحصها أيضاً على ضؤ الدراسات الأوربية في عصره ومن خلال شخصيته المنفتحة ، وليقدمها مشروحة مكثفة منتقاة، باحثاً عن خيوط النور والوعي فيها، غير متجاهل لأثر البيئة والوسط والأحوال المادية والفكرية وتلاقح الأجيال والعصور والأفكار.
    جهدٌ كبيٌر وعملٌ عظيم ، فأياديه بيضاء على الباحثين ممن جاءوا بعده ، فتلمسوا الأرض الممهدة والجهد الخلاق ، فأضافوا وحفروا وشقوا دروباً جديدة.
    استطاع أحمد أمين أن يرى تداخل العصور الفكرية ، فهو لا يصور المنتجات الفكرية وكأنها منقطعة السُبل عن بعضها البعض ، بل يراها كمعاناة اجتماعية بشرية لإنتاج وعي جديد ، وتمثل موسوعته : فجر الإسلام، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، ذروة عمله العلمي الذي عكف عليه طوال حياته ليضع التاريخ الفكري للأمم الإسلامية رهن المادة المتداولة المدروسة .
    في استعماله لألفاظ : الفجر، الضحى، الظهيرة ، تعبير زمني عن جدلية التطور ، فهو يدرس تطور الوعي وكأنه في لحظة نمو نهاري ومتوقف عند سمت الشمس العمودية وليس الغاربة ، وفي هذا حدس بالصيرورة الاجتماعية وقد اتخذت صفة اليوم، ومن هنا تراه يعكف على بلورة التطور العام للفكر ، مموضعاً إياه في ظاهراته المختلفة ، مقسماً إياه في شرائحه الفكرية والاجتماعية المختلفة الكثيرة، فهو يدرس الأدب والفلسفة والدين والحياة الاجتماعية الخ..، بحيث يقود هذا التشريح الموضعي إلى فهم الصفات المشتركة .
    ومن هنا لن تجد لديه التعميمات والصفات العامة، فكلمة [ عربي ] لن تُؤخذ بإطلاق، بل في مكانها الاجتماعي والتاريخي ، ولهذا يقول عن أبن خلدون :
    [ فترى من هذا أن أبن خلدون في حكمه على العرب خلط بين العربي في عصوره المختلفة ، وأصدر عليه أحكاماً عامة ، مع أنه هو نفسه القائل بأن العربي يتغير بتغير البيئة.]، (3).
    إن أحمد أمين وهو يقوم بقراءة التاريخ المحدد، أي المُنتَّج في فترة تاريخية ما، سيبحث عن العوامل البشرية المؤدية إلى تشكيله، ولن يعطي لأحد العوامل أهمية استثنائية، ولهذا فهو يعرض العوامل والظواهر جنباً إلى جنب بموسوعية، وحتى الظواهر الغيبية سيضعها داخل صيرورتها الإنسانية، دون أن يغفل الطابع المركب لهذه الظواهر، حيث سنرى جذور الماضي تتدلى قرب رؤوس الحاضر، والحاضر بدوره يحمل مواليد الغد، وهذه الجدلية المركبة ، لن تعترف بالمطلقات كالقول بالعقل اليوناني والعقل العربي والهندي وكأنها براميل مستقلة ، تحمل موادها الكيميائية الخاصة المتجوهرة على ذواتها ، وسيجد إن العقل العربي في مرحلة البادية مختلف عن عصر المدن ، دارساً الظاهرات المتحدة والمتنوعة له ، وهو يلاحظ هنا عمليات معقدة تجري للوعي العربي، فحين يتناول أبا ذر الغفاري كشخصية داعية للمساواة، يتتبع أثر الأفكار المنتشرة والقديمة والمتداخلة بين الشعوب فيقول : [ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط ]، (4).
    ومهما كانت صحة آرائه هنا، أو كذلك تحامله على عبدالله بن سبأ، فنحن يهمنا هذا الالتقاط للشعيرات الفكرية والاجتماعية المتداخلة.
    ويعبر كل هذا عن قراءة التداخل بين الوسط والوعي بشكل زمني متصاعد، يرجع للوراء قليلاً ، لكنه ينمو دوماً إلى الأمام، وليس هذا الوسط إلا حدود الجغرافيا الطبيعية والاقتصادية والفكرية ، متقطعة في المراحل السياسية المعهودة في التأريخ: العصر الجاهلي ، فالإسلامي، فالأموي الخ..
    وهنا تلعب المرجعيات الفكرية الليبرالية لعصر أمين دورها ، فمفاهيم الوسط والبيئة والعوامل المختلفة المؤثرة، هي التي تقوم بالتحليل المتضافر المنساب عبر الزمن، أما مفاهيم البنية الاجتماعية وقوانينها ، فهي مرحلة لم تصل لها هذه المنهجية بطبيعة الحال ، (5).
    والفارق بين المنهجيتين ، أي بين منهجيتي البيئة والبنية ، يعبر عن أدوات التحليل بين زمنين ، فمفهوم الوسط البيئي لدى أمين لا يعبر عن صراعات القوى الاجتماعية في ظل بنية محددة، يقوم العلم بدراستها ، ثم يتتبع البُنى التالية وأسباب ظهورها وتشكيلاتها، فلا يغدو التاريخ الفكري مجرد مؤثرات على وسط غامض الملامح ، بل تأثيرات على بنية أو بُنى تزداد تناقضاً ثم انفجاراً متيحة الدرب التاريخي لبنية أخرى.
    فنظرة أحمد أمين لا تستطيع أن تفسر بعض القضايا المركبة ، كالقول بأن الإمامية هي ذات جذور فارسية ، وأن [ ثانوية الفرس كانوا منبعاً يستقي منه رافضة الإسلام ]، (6) ، فمسائل التيارات الفكرية أعقد من ذلك، وظروف الصراعات العربية الداخلية كانت هي الأساس في إنتاج مثل هذه التيارات ، مع أهمية المؤثرات الخارجية.
    إن فترات العصر النبوي والراشدي ، والفترة الأموية ، والعصر العباسي الأول ، والعصر العباسي الثاني، التي يتخذها أمين كفترات معروضة في أجزائه، هي بحد ذاتها بُنى اجتماعية لها قوانين تطورية مختلفة عن المراحل الأخرى، وميزته إنه يقوم بعرض ظاهراتها المختلفة ، بدون التوصل لقوانين الصراعات الاجتماعية فيها ، فليس لديه مفهوم البنية وترابطها، لأن هذه البنية هي التي تحدد تشكل الظاهرات الفكرية التي يدرسها، ولكنه يأخذها مستقلة عنها غير متضافرة بسبب علل جوهرية، مع أهمية المعلومات والمواد التي يقدمها عنها.
    ومثال آخر نقرأه لدى الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل، فالباحث الدكتور محمود إسماعيل هو من القلائل في مصر الذين اعتنوا طويلاً بالبحث في التاريخ والفلسفة العربيين ـ الإسلاميين ، وكان أول كتاب له عن [ الحركات السرية في الإسلام] وهو الكتاب الذي صدر في بداية السبعينيات ، وقد افتتح فيه تحليل التاريخ الإسلامي من وجهة نظر كشف تطور الصراع الاجتماعي ، ثم تتالت كتبه عن ظاهرات الفرق والاتجاهات خاصة في شمال أفريقيا التي درّس فيها حقبة هناك ، ثم أصدر كتابه الأساسي [ سيوسيولوجيا الفكر الإسلامي ] وهو أربعة أجزاء يتناول فيها تطور الوعي في التاريخ العربي الإسلامي وكيفية نشأة الفرق والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة ، مستخدماً أسلوباً سهلاً في العرض ، معززاً إياه بمئات المراجع والنصوص ، مما يعتبر مرجعاً لأي دارس لهذه الظواهر .
    وإذا كان أسلوبه يمتاز بسلاسة العرض وبساطته نظراً لاستمراره في العملية التدريسية وثورية أفكاره ، إلا أن التبسيطية في النظرة إلى التاريخ الفكري تنتشر لديه في الخطوط العريضة لرؤية هذا التاريخ.
    فهو يقسم التاريخ الاجتماعي إلى قوتين متصارعتين هما البرجوازية والإقطاع ، والتطور والحداثة والعلم تأتي من الأولى ، أما القوة الثانية فهي قوة تخلف وارتداد ، وهو حكم صحيح في عموميته الواسعة ، ولكن إلى أي مدى كانت البرجوازية تستند إلى أسلوب إنتاج بضاعي وصناعي ، وما هي تداخلاتها مع التيارات الفكرية والفلسفية ، فإن هذه مسائل مركبة يبسطها الدكتور محمود إسماعيل ، فلا يقوم بتوصيفها التوصيف الدقيق المتداخل ، لأنه يلجأ عادة إلى التعميم.
    في الجزء الثالث ، على سبيل المثال ، وهو المختص بدارسة أفكار الفلاسفة والفرق الفلسفية ، يتعرض لمدرسة [ أخوان الصفا ] ، وهي المدرسة الفكرية السرية التي ذاعت أفكارها في العالم الإسلامي عبر التاريخ.
    وحول الاختلافات في تاريخ ظهور هذه المدرسة وعن صحته يقول الباحث : [ وعندنا أن ظهور المعلومات الأولى هذه عام 360 هـ لا يخلو من دلالة على ارتباط هذا الظهور بعصر الصحوة البورجوازية الثانية ـ من حول منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري ـ وهو عصر المد الليبرالي الذي شهد ظهور كيانات سياسية كبرى تمثل في الدولة البويهية والدولة الفاطمية والخلافة الأموية بالأندلس ، وهي كيانات ذات طابع بورجوازي حققت الكثير من طموحات إخوان الصفا ]، (7).
    إن هذه الكلمات العامة عن الصحوة البرجوازية والمد الليبرالي، يجب أخذها بحيطة موضوعية وتدقيق بالغ ، فهل يمكن اعتبار عصر الدولة البويهية عصر [ صحوة ] ، وما معنى الصحوة في سياقات البحث الاجتماعي ، وهل الدولة البويهية دولة بورجوازية؟ إن كلمة [ صحوة ] تقابل النوم ، فكأن العلم الاجتماعي يتحول هنا إلى استخدام التعبيرات الفضفاضة المتعلقة بنوم واستيقاظ الفرد ، وليس بقراءة تشكل الفئات والطبقات الاجتماعية.فمن المعروف إن الدولة البويهية كونها أمراءٌ فرسٌ زيديون تلاعبوا بالخلفاء العباسيين وحولهم إلى دمى، وقد عاثوا بميزانية الخلافة على بذخهم ولهوهم ، وانحصرت الخلافة حول بغداد ثم بضع دويلات فارسية ، وعموماً تحول الأمراء البويهيون إلى إقطاع متحكم في الثروة.
    وإذا أردنا قراءة الوضع البويهي على حقيقته فلنستمع إلى باحث ثقة في هذا المجال وهو عبدالعزيز الدوري ، فحول وضع الفلاحين نقرأ: [ فمن آثار سياسة معز الدولة تجاه الأراضي أن ” فسدت المشارب ، وبطلت المصالح ، وأتت الجوائح على التناء {الفلاحون} ورقت أحوالهم ] في حين أرتفع دخل أفراد الجيش البويهي المسيطر ، [ والخلاصة، فإن عصر العصر البويهي كان خالياً من الخدمات الاجتماعية باستثناء الفترة بين 369 ـ 372] ، [ وكان الفقراء يأكلون الجراد أيضاً، وخاصة في السنين العجاف] ، [ وكانت معيشة البدو صعبة] ، [ ورأى بعض الوزراء في المصادرة مورداً أساسياً للخزينة وتصرفوا بموجب ذلك ] ، (8).
    هكذا غدا هؤلاء الأمراء البويهيون الغزاة إقطاع عسكري ، ينتزع الفوائض عبر الجيش ، وهو ــ أي الإقطاع ــ لا يعرف كيفية توسيع الإنتاج وتحديثه، ولكن ما هي علاقة أخوان الصفا الذين ظهروا في هذه الفترة بالبويهيين وهل كانوا من تأثيراتهم؟
    إن أخوان الصفا تجمع ثقافي سري ليس له صلة بالحكام ، وهو يتشكل من شرائح الفئات الوسطى المعارضة للاستغلال الإقطاعي السياسي والديني والعسكري ، وقد أمكن لهذه الجماعة أن تكتب وتدس كتبها في غيبة من أعين السلطات ، واستفادت من صراعاتها الفوقية وغياب ملاحقاتها ، ولهذا فإن كلمة [ الصحوة ] تبدو بلا معنى هنا ، ففعل أخوان الصفا فعل كفاحي استمر في فترات طويلة ولا علاقة مباشرة له بنظم الحكم الراهنة، فالمستوى الفكري ليس انعكاساً مباشراً للحظة السياسية، بل له صيرورته الخاصة ، فهو إجابة على الأسئلة التي طرحها الإسلام عبر حركاته المختلفة ، خاصة حركة الاعتزال ، وحركة أخوان الصفا مرتبطة بالتقاليد الكفاحية الفكرية للمناطق العراقية الجنوبية القديمة وهي محاولة لتجاوز عقلانية الاعتزال بصورة مختلفة . أما إلى أي مدى هي بورجوازية فإن ذلك لا بد أن يقوم على دراسة دقيقة في مدى تعبيرهم عن ذلك. وعادة كانت الشرائح الوسطى والصغيرة غير ذات استقلال عن الإقطاع الديني والسياسي ، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن فكر بورجوازي مستقل وبشكل واسع لديهم.
    لكن الدكتور محمود إسماعيل بعد هذه الملاحظات العامة يسوق الكثير من الأفكار المتغلغلة في تحليل فكر أخوان الصفا ، بصورة دقيقة متتبعاً تجليات وعيهم في مختلف الظاهرات السياسية والعلمية والفلسفية ، بحيث جاءت هذه الملاحظات بغنى مختلف عن التعميمات التي لم ترتبط بها.


    4 ₪ خاصية هذا الجزء وموقعه:


    يتناول هذا الجزء الجذور الاجتماعية البعيدة والقريبة لتشكل الفلسفة العربية ـ الإسلامية. فالجذور البعيدة تعني الأسس التي أقيمت عليها الأديان في منطقة المشرق العربي، فهذه المنطقة التي عرفت الحضارة مبكراً، كانت لها أسسها الخاصة في تكوين الوجود الاجتماعي والفكري، نظراً لقيامها على دول استبدادية شاملة بسبب عمليات الري الحكومية المبكرة ، فظهرت فيها الآلهة الشاملة المسيطرة على الوجود كليا ً، وقد تنامت هذه السيطرة من الجزئي إلى الكلي، من الطبيعي حتى الروحي، وقد تمثل ذلك في وعي المشرق وأوربا بخلاف البشرية الأخرى ، أي غدا ذلك متجذراً في الوعي الأسطوري المشرقي القديم ثم في الديانات : اليهودية، والمسيحية ، والإسلام.
    ولن يكون تناولنا لهذه الجذور البعيدة إلا لوضع بعض الأسس الموضوعية لظهور عمليات التدين، حيث ستقوم الأديان السماوية بوراثتها وتجاوزها . فهنا تقع التخوم بين العصر القديم والعصر الوسيط ، وتجري عمليات التوارث والتداخل والتجاوز ، ويقوم الوعي باستعادة الموروث القديم حسب المواقع الاجتماعية والجغرافية المختلفة ، أي حسب لحظات تطور الشعوب في كل بقعة ، وعمليات الصراع الداخلية التي تجري فيها.
    فيحدث التأثر والتجاوز حسب مهمات التطور لكل شعب ، فالتراث السابق يقع في لحظات الغربلة المستمرة والتجميد المقصود واللامقصود ، ومن هنا سنأخذ التاريخ العربي باعتباره يتشكل في حضن القديم ويقوم بتجاوزه ، ويقوم هذا الجزء بتحليل كيفية تشكل ذلك ، فهنا توجد الجذور الاجتماعية والفكرية الأولى ، فهي المرحلة التأسيسية القاعدية للتطور التالي ، ولا بد من رؤية قوانين تشكلها ، حيث ستقوم بإعادة إنتاج نفسها في المناطق الأخرى ، ليس بشكل مجرد ولكن من خلال سيرورتها الاجتماعية المفروضة على تلك المناطق ، ثم عبر تفاعل تلك المناطق ومقاومتها وإعادة تشكيل نفسها.
    ولهذا يتصف الوعي هنا بخضوعه لعمليات الصراع السياسية والاجتماعية المباشرة ، ويؤدي تكون الإسلام في الجزيرة العربية ومحاولة مدنها للتقدم ، إلى التصاق هذه المرحلة بالعمليات المختلفة القادمة ، فتغدو المرحلة بمثابة الجذور الفكرية ـ الاجتماعية الأساسية لهذا الوعي الديني ، وتغدو تطوراته التالية مرتبطة بإنتاج هذه المرحلة وإعادة النظر فيها ، أو على العكس بتجميدها في المناطق واللحظات التاريخية الأخرى ، تبعاً لكيفية القراءات ومواقعها. وهنا يقف هذا الجزء الأول فيما سيتابع الجزء التالي ، الثاني ، المرحلة التالية والتي نعرض الآن خطوطها العريضة.
    فإذا كانت المرحلة الإسلامية والأموية قد حددت جسم الظاهرة وأبرزت مضامينه الاجتماعية الأساسية المتضادة ، حيث ستغدو المرحلة التالية هي بمثابة النمو الكمي في التطور الاجتماعي ـ الاقتصادي ، فلن يكون العصر التالي : العصر العباسي الأول ، سوى امتداد واسع وتثبيت له ، ولكن دوره ينتقل إلى المستوى الفكري ، فهو يتجاوز النمو الفكري السابق ويشكل ظاهرات فكرية عميقة واسعة ، تغدو تحولاً نوعياً في مسار الوعي ، ولكن هذا المسار النوعي للوعي يستند على التطور الاجتماعي السابق وعمليات الانتشار والتعميق له.
    وفي هذه المرحلة تبدو عمليات التضاد بين المرحلتين ؛ المرحلة التأسيسية برؤاها البسيطة ، ذات النسيج الديني والسحري والأسطوري والواقعي ، وبين المرحلة الراهنة حينذاك ذات البنية الثـقافية المتطورة التي تقوم بتسجيل الإرث السابق وحفظه ، أو تقنينه وعقلنته ونقده ، لكن عملية الاستعادة والتجاوز المتصارعتين ، تعتمدان على مجمل الصراعات في البنية الواسعة التركيبية ، فالطبقة المسيطرة ، بفرعيها السياسي والديني في العصر العباسي الأول تقوم بحفظ التراث السابق بشكل حرفي ، كجزء من الحفاظ على النظام السياسي / الاجتماعي الذي يضمن لها الحياة الرغدة ، ويمنع القوى الاجتماعية المستَّغلة من الانفصال ، ولهذا يغدو الإسلام الرسمي في هذه المرحلة عامل وحدة للأمم الإسلامية المتكونة تدريجياً ، فيشكل العمود الفقري لعالمها القادم .
    وتتراوح عمليات الحفاظ على الموروث السابق بين الشكلانية شبه الكاملة وتوجهات التجديد التي لا تشكل إعادة نظر جذرية لأسباب تتعلق بمواقف هذه القوى السياسية والدينية الحاكمة ، وهي التي غدت الآن تكرس نظاماً شمولياً يستعيد النظم الاستبدادية القديمة في المنطقة .
    ومن هنا تغدو عملية الحفظ [ الشكلية ] لمرحلة التأسيس الإسلامية مرفوضة من قبل الشعوب المستَّغلة من تلك الطبقة الحاكمة ، وهي تحاول الدخول إلى العمليات المضمونية العميقة للنصوص الإسلامية الأولى ، ونزع قشرتها الشكلانية التي فرضتها القوى المهيمنة على الدولة والمجتمع .
    لكن عمليات التأصيل الجديدة حينذاك تقوم على استعادة الموروث القديم لمنطقة المشرق ، وليس على العمليات التحليلية الموضوعية للإرث القديم بشكليه الإسلامي أو الديني القديم ، فالتناقض بين المستوى الحضاري للمرحلة الرعوية الدينية والسياسية السابقة ، و المستوى الحضاري للمرحلة الزراعية الراهنة يتمظهر بشكل صراع مذهبي إسلامي ، أو بصراع ديني بين الإسلام وبين المانوية والمسيحية واليهودية.
    فالرعاة العرب الذين فرضوا تراثهم على المنطقة الشمالية الزراعية ، واصلوا استعادة تاريخهم السابق في جميع أشكاله ، وتغدو النواة الصلبة لعملية هذه الاستعادة والتثبيت جزءً من رفض سيطرة البنية الزراعية الراهنة وقتذاك بظلالها الفكرية والسياسية.
    والأمر ليس تناقضاً تقنياً بل هو أيضاً صراع مصالح بين الجمهور الذي استفاد من الفتوح والجمهور الذي واصل الإنتاج والعذاب . وحين تثبتت تلك المصالح في طبقة حاكمة بفرعيها السياسي والديني ، فأخذ الوعي القديم ما قبل الإسلامي باستعادة دوره الكفاحي ، في ظل معطيات جديدة ، حيث صار الدين الجديد مقبولاً ، خاصة لتأثيرات دعوته وممارسته الكفاحية الأولى .
    ولكن هناك من ورثة هذا التاريخ الرعوي / التجاري من أقترب من فعل الإسلام الحضاري ، ومضمونه الثوري الأولي ، عبر التركيز على عناصر توحيدية وعقلانية دينية ماضوية وحديثة ، ولكن هذا يعتمد على إنتاج حرفي لم يتطور بشكل صناعي وعلمي شامل.
    إن اتجاهات هذه المرحلة وتراكماتها المعرفية هي التي تضع الأسس لمرحلة التطور الفلسفية التالية ، التي هي تتويج للتطور الفكري في ظل الإسلام ، والمسيحية واليهودية ، والنزعات الدهرية المختلفة ، فهنا ستصل الصراعات الاجتماعية والسياسية الكامنة في ظل المرحلتين السابقتين إلى ذروتها.
    إن نمو المثالية أو المادية يعبر عن اتجاهات التطور الفكرية والاجتماعية ، فالمثالية هي تطوير للدين من زوايا جديدة ، فهي تظل مندغمة في أسسه الأولى ، أي هي تشترك معه في اعتبار الوجود مصاغاً من قبل قوة فكرية سواء كانت خالقاً أم كانت المحرك الأول أم وعياً ذاتياً .
    إن إخراج معطيات فهم الحياة إلى الغيب أو السماء أو العقول المفارقة ، لها مساراتها التاريخية الطويلة وجذورها ، عبر سيطرة الأشكال السحرية والأسطورية في فهم العالم ، وهي المعتمدة على اقتصاد الصيد وجمع الثمار ، حيث تصبح المادة الطبيعية ليست في متناول التجربة ، ومع الاقتصاديات الأكثر تطوراً حيث يتعامل الإنسان مع الأشياء ويقوم بإنتاجها ، تبدأ المعرفة العلمية في التسلل إلى عمليات الفهم ، وهي تخضع للبنية الاجتماعية وقوانينها ، ففي الدول المشرقية الاستبدادية يخضع العلم لحاجات الدولة ، ويبقى شكل الوعي المهيمن هو الدين [ البدائي هنا ] ، فلا تتشكل حتى الفلسفة ، فلا تتواجد إمكانية لظهور الوعي الفردي الحر ، وهذا يحدث في التجربة اليونانية التي أمكن فيها الاستفادة من المعلومات العلمية الهائلة التي أنتجها المشرق ولم يفلسفها، أي لم يضعها في تصورات فكرية واسعة نقدية للأسطرة ، وهكذا فإن المشرق الذي شكل وعياً أسطورياً مهيمناً ، عبر عن الحراك الواسع والوحيد للملوك ، فجعل نتاج العلم في خدمة الأساطير ، وخلق المثالية الدينية بصورها المختلفة ، التي تجعل إمكانات فهم العالم أو تغييره من ضمن مسئوليات الغيب ، حيث الواقع بمادته وفكره وإنسانه خارج الوعي والسيطرة العقلية .
    في حين أمكن في بعض المدن اليونانية أن تؤدي الحريات والحرف والعلوم إلى تعميمات فلسفية تستند إلى العلم ، وهكذا ظهرت المدارس المادية التي اتجهت لتفسير الطبيعة بعناصر طبيعية ، ولكن كانت مثالية أرسطو هي الحل الوسط للعالم القديم والوسيط ، حيث الاعتراف بخالق للكون واعطاء الكون سببياته الداخلية التي يمكن عبرها نمو العلوم ، أي تنمية قدرات الإنسان الموضوعية المختلفة.
    إن سيطرة [ المثالية ] الأسطورية في المشرق ثم عودة المثالية بشكل فلسفة كبرى موضوعية إلى المشرق من خلال أرسطو بشكل خاص ، يعبر عن عمليات الكفاح التي تمت على مختلف الأصعدة العلمية والاجتماعية ، لزحزحة الحكام السياسيين ـ الدينيين المطلقين المتوحدين بالشريعة، ولكن هذه العملية لم تتوج بالانتصار في التاريخ العربي القديم .
    إن المثاليات الدينية والمثاليات الفلسفية المترجمة أو المشكلة عربياً تعبر كلها عن تناغم ما، أي عن فاعليات القوى العليا.
    ولهذا فإن تحليلاً مستمراً للوعي الديني والفلسفي المعاصر هو أمر مطلوب لمتابعة خريطة التطور الفكري ودورها في إعادة تشكيل العالم العربي ـ الإسلامي باتجاه الحداثة والديمقراطية.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    المصادر:
    (1) ( حول تعبير [ الساميون ] يكتب هادي العلوي : ورغم الشك في تاريخية الاسم فانه، كمصطلح ، يبقى صالحاً للتعبير عن هذه الكتلة التاريخية من الشعوب التي ترجع إلى منشأ واحد وتتكلم بلغات متفرعة من لغة واحدة وهي شعوب الجزيرة العربية والهلال الخصيب) ، ( هادي العلوي، من قاموس التراث ، دار الأهالي ، ط 2، ص 145 ـ 146 ).
    (2) : ( يعرف قاموس المنجد المثالية بأنها : مذهب فلسفي ينكر حقيقة ذاتية الأشياء المتميزة من ” أنا ” ولا يقبل منها إلا الفكر ، من مادة مُثُل.) ، ويضيف في مادة ” العنادية” بأنها أيضاً : مذهب المنكرين حقيقة الأشياء فهم يزعمون إنها أوهام وخيالات باطلة كالنقش على الماء ويقولون بصدور المعرفة من التصور [ايديالسم ].
    في حين يعرف رأي آخر المثالية عبر نقيضها وهو المادية، يقول:
    (وللمسألة الأساسية في الفلسفة وجهان، الأول ـ أنطولوجي ، يدور حول مسألة الأولوية في العالم ، هل هي للمادة أم للروح، للوجود أم للفكر. وتبعاً للإجابة على هذا السؤال انقسم الفلاسفة إلى تيارين ، معسكرين . فالفلاسفة ، الذين يقرون بأولوية معسكر المادة، أو الطبيعة، أو الوجود، أمام الروح، أو الوعي، أو الفكر، يؤلفون معسكر المادية Materialism . أما أولئك الفلاسفة، الذين يزعمون أن الوعي، أو الفكر، أو الروح (…) هو الأسبق، فيؤلفون معسكر المثالية Idealism.)، ( موجز تاريخ الفلسفة ، تأليف جماعة من الأساتذة السوفييت، تعريب: توفيق إبراهيم سلوم ، إصدار دار الجماهير الشعبية ، دار الفارابي ، ط3 ،ص 10).
    (3) : ( فجر الإسلام، ط 11 ، دار الكتاب العربي، بيروت، ص36 ).
    (4) : ( السابق نفسه ص 110).
    (5): ( ويكتب د. أحمد فؤاد الأهواني في مذهب أحمد أمين (( أعلن فيما يخص الدين عدة آراء تعد ثورة حقيقية في هذا الميدان، أولهما الرجوع إلى مبادئ المعتزلة أي تفسير الدين بالعقل، والثاني فتح باب الاجتهاد حتى لا نظل عبيداً لأبي حنيفة والشافعي ومالك وأبن حنبل ..))، ( نقلاً عن د. محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 100، هامش 1).
    (6) : (الفجر ص112).
    (7):( ص179 ، ط 1 ، سينا للنشر.).
    (8): (راجع الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3 ، المقتطفات من صفحات:284، 296،297 على التوالي).

    حول كتاب : الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية..

    فكرة المشروع

    كان البحث في تاريخ التطور الفكري والاجتماعي العربي يراودني منذ فترةٍ مبكرة ، حيث نشأنا على خلاءٍ من البحث في الجذور الكبرى للتاريخ سواءً في المنطقة الجزيرية الخليجية أم في العالم العربي – الإسلامي عموماً ، فكانت قراءتنا المبكرة للمصادر الماركسية توجهنا للسؤال عن موقع بلداننا من هذه الكتابات ، وكانت الإشارات في المصادر هذه تجلعنا نحاول الحفر فيها علنا نلقى إجابات حول تشكل الإسلام وظهور الأمة العربية والأمم الإسلامية الأخرى لكن بدون الحصول على تلك الإجابات .
    مثل كلام أنجلز في رسائله إلى كارل ماركس كان ينبه لعوامل استثنائية في ظهور الإسلام كمسألة دور الري في تشكل الإمبراطوريات في الشرق واختلاف ذلك عن التطور في الغرب .
    كما لاحظنا بعد ذلك توجه بعض الباحثين العرب إلى الحفر في هذا التاريخ السياسي والاجتماعي ، وفي سنوات الدراسة والتحاقي بمعهد المعلمين والتخصص في اللغة العربية والدين ، صار من متابعاتي المستمرة قراءة الأبحاث العربية حول تاريخ الإسلام ، خاصة لدى أحمد أمين في موسوعته حول التاريخ الإسلامي وطه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) وغيرهما .
    وفي تلك الفترة قبل اعتقال سنة 1975 كانت مجلة الطريق تنشر دراسات مجزأة للأستاذ حسين مروة ، قرأت منها دراسته حول المعتزلة ، وفي سنوات السجن عزت المصادرُ ، لكن في السنة الأخيرة 79 – 80 ، لاعتقال مجموعة حل البرلمان ، سُمح لنا بالكتب فكان كتاب جواد علي ( المفصل في تاريخ الإسلام ) من عشرة أجزاء ، و كتاب ( النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ) الذي أنجزه مروة خلال تلك السنوات ، من أثمن الكتب التي وصلتنا بتوصية مخصوصة . وغيرها من الكتب التي تتناول التراث والأدب بصفة خاصة .
    لكن ظلت مثل هذه القراءة غير وافية ، كما أنها لا تجثم في بؤرةِ الاهتمام بالنسبة لي ، كما أن أسئلةَ الواقع والعصر لم تطرحْ نفسها بحدةٍ علينا ، فلم يزل المعسكر ( الاشتراكي ) موجوداً ، وكان تصورنا حول ( الماركسية – اللينينية ) لم يزل مدرسياً شعارياً ، استيرادياً ، وحين حدثت التغيراتُ الكبرى فيما بعد أصبحت هذه المسائل تنتقل إلى بؤرة الوعي .
    وخارج السجن الذي انتقلنا إليه كانت المصادر أكثر ، فتتابعت عمليةُ البحث في الجذور ، وقد بدأتُ ذلك بشكل قصصي ، بمحاولة كتابة رواية عن العهد الراشدي والفتوحات ، وذلك قبل عشر سنوات من الآن ، فرحتُ أستجمع أفكاري عن المرحلة الإسلامية ، لكن الرواية كانت تحتاج إلى معلومات ملموسة وليس فقط أبحاثاً عامة ، فقلتُ يجب أن أكتب تصوراتي عن ظهور الإسلام وأوضاعِ العرب وكيفيةِ نشوء الفتوح ، فرحت أكتبُ مقالات عن ذلك في جريدة أخبار الخليج ، في الملحق الثقافي وكانت أول مقالة بعنوان ( قريش تؤسس وحدة العرب ) ، وهكذا كان في كل أسبوع أنشر مقالةً تواصل الحلقة السابقة ، وراح الهدف يتغير من كتابة رواية إلى كتابة تاريخ تطور الوعي العربي دينياً وفلسفياً ، وكذلك فإن بحث الدين كان يقودُ إلى بحثِ كيفية نشوء الفرق ، وأسباب ذلك ، والفرق السياسية تقود إلى تشكل الفرق الفكرية ، فيتشعب البحث وينمو .
    لكن هذه الكتابة الأولية الُمبسطة ، كانت تتعرض باستمرار للتبدل والتوجه إلى جذور الموضوعات ، حيث أن عرض الأحداث لا يكفي فلا بد من معرفة أسبابها الكامنة العميقة ، وهذا يقودُ إلى دراسة البُنى الاجتماعية ، وما يسمى ماركسياً بالتشكيلات التاريخية .

    لماذا الاتجاهات ولماذا النزعات

    قام كتاب المفكر التقدمي حسين مروة في كتابه ( النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ) على البحث عن البذور المادية في الفلسفة العربية الدينية عموماً . والبحثُ عن البذور ( المادية ) يعني فكرياً البحث عن العناصر الموضوعية والعلمية في الوعي السائد ، والتي غالباً ما ينتجها مفكرون يعبرون عن القوى الشعبية ، فهم يكشفون داخل الفلسفة عناصر مضادة للتفكير المثالي الذي يجعل جذور الوعي موجودة في الغيب ، أو في المطلق .
    لكن مثل هذه العناصر تغدو استثنائية لأن الفلسفات العربية – الإسلامية كانت فلسفات دينية عموماً ، والوعي الديني لا يسمح باتساع الفكر المادي داخله ، فهو يفسر ظهور الدين مثلاً بعوامل غير اجتماعية وغير واقعية .
    لهذا فإن البحثَ في وجود الوعي المادي داخل فلسفات دينية عموماً يؤدي إلى عدم كشف الطابع المثالي السائد في هذه الفلسفات ، ومن هنا أردت استكمال مشروع حسين مروة وغيره من الباحثين التقدميين في جوانب أخرى ، هي جوانب الفكر المثالي المسيطر ، ولماذا هو مسيطر .
    إن الاهتمام بالفكر المادي في العصر الإسلامي التأسيسي يوجه البحث إلى تضخيم العناصر المادية والثورية ، وهذا التضخيم ينعكس على الحركات السياسية الاجتماعية في ذلك الوقت ، وبالتالي يجري إعطائها صفات ليست فيها ، والمبالغة في اقترابها من الفكر المادي الجدلي الحديث .
    فمثلاً يجري تصوير المعتزلة بأنهم قريبون من الفكر العقلاني وأن لديهم عناصر فكرية مادية كبيرة ، وأن بعض الفلاسفة كانوا مضادين للدين بشكل متوارٍ ، وهذه العملية تقود إلى تفسير أي توجه فكري مثالي لديهم بأنه قناع وأن الفيلسوف بسبب الاضطهاد والقمع يحمل فكراً مادياً متوارياً .
    هذه المبالغات في رأيي هي بسبب العقلية السياسية السائدة في سنوات الستينيات والسبعينيات حيث الاعتقاد بالانتصار الوشيك للاشتراكية على الرأسمالية وأن التراث الإسلامي يحملُ الكثيرَ من الاقتراب من هذا الفكر المادي وأن الحركات السياسية في الماضي هي حركات قريبة للحركات التقدمية العربية المعاصرة .
    ومع تصدع هذه الأفكار ، وظهور الواقع أكثر ارتباطاً بالدين وفي اتجاهاته المحافظة ، وابتعاد النموذج الاشتراكي ، أخذت نظرتنا للواقع وللتراث في التغير .
    ومن هنا كان العنوان ( الاتجاهات المثالية ) أي هو البحث في السائد ، فما هي الجوانب المثالية المسيطرة في الفلسفة العربية ، ولماذا هيمنت هذه العناصر على الوعي ؟
    والبحث في سيطرة ( المثالية ) يقود إلى بحث تشكل الأديان في المنطقة وعلى أية أرضية تشكلت هذه الأديان ، حيث قامت أنظمةُ العبودية العامة في الحضارات القديمة في الشمال الزراعي العربي خاصة وهي : الرافدية والمصرية والكنعانية وغيرها ، بخلقِ هيمنة الفكر الديني الواحد ، المتداخل مع هيمنة الدولة ، والتي يجري تغييرها عبر فكر ديني مضاد ، والذي يصبحُ منتجاً لدولة مستبدة بعد حين ، وهكذا دواليك .
    أي كان لا بد من أخذِ العناصر الإنتاجية والجغرافية والتاريخية المتداخلة المركبة التي شكلت الإسلام ، وفكره في سيرورة صراعية خاصة به .
    ولهذا توجهتُ للبحثِ عن الجذور السياسية والدينية عند القدماء ، ورحتُ أبحث العناصر المشتركة في مثل هذه الثقافة ، حتى ظهور الإسلام ، وما هي العناصر الخاصة التي أحدثها .
    في الأديان ثمة عناصر تمثل القوى المسيطرة وعناصر تمثل القوى المعارضة ، لكنها كلها تتشكل في مناخ مثالي ، أي يعيد سببيات التطور إلى عناصر غيبية في نهاية المطاف ، وإعادة هذه العناصر للغيب ، تعني إعادتها للقوى العليا المسيطرة ، وهذا ما فعلته كذلك الفلسفات العربية الإسلامية ، حيث قامت على الدين ، ولكنها بدلاً من تفسير الكون والحياة بعناصر غيبيةٍ دينية كفكرةِ الإله فإنها تفسرُ الكونَ إضافةً لذلك بفكرة العقول الكونية التي تخلق الطبيعة ، وبشكل متدرج ، لكنها تقوم بإعطاء هذه الطبيعة المادية سببياتها بعد أن تكون نتاج صورة الإله التي تتصورها .
    ولهذا فإن الحركات الفكرية الإسلامية توجهت للبحث عن عناصر معينة لفهم الواقع والطبيعة مركزةً على فكرة الإله ومنتجة صوراً كثيرة حول ذلك ، ومقيمة كل فلسفاتها على صور الإله التي تنتجها .

    الجزآن الصادران

    هذه فكرةٌ مبسطة جداً حول نشأة الدين والفلسفة في الواقع العربي ، والجزآن الصادران بين أيديكم في مجلد واحد ، يبحثان الخطوط الاجتماعية والفكرية الممهدة لظهور الفكر الفلسفي ، منذ نشأة الحضارات القديمة بجوهرها السياسي – الاجتماعي ، حتى الخصوصيات في التكون العربي الإسلامي ، وظهور الإسلام والصراعات الاجتماعية التي عاشها ، كتعبير عن حركة تجار متوسطين متحالفين مع العبيد والفقراء ، مما مثل ثورة مدنية بأدوات الوعي الديني ، ولكن هذه الثورة سيطر عليها الأشرافُ وحولوها إلى دولةٍ يتحكمون في ثرواتها ، وقد ظهرت فئاتٌ وسطى مدنية حاولت أن تقوم بعمليات تحولية عبر المذاهب الفكرية والسياسية كالقدرية والمعتزلة والمرجئة والزيدية والمذاهب الفقهية السنية والإثناعشرية والإسماعيلية الخ ..
    ولهذا تجدون فصول الجزء الأول تدور في : تطور الوعي الديني في المشرق القديم – قريش تؤسس وحدة العرب – الثورة المحمدية – عهد الخلفاء الراشدين – الملك والإمام – القصة في القرآن – الفرق المعارضة الكبرى الخ كما يبحث هذا الجزء آثار الفتوح وتمازج العرب بالأمم الأخرى ، وتداخل الأديان ، ثم دراسة طبيعة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية ، وهذه قضية محورية لفهم مقولة النظام الإقطاعي وتطوراته .
    فمن المهم دراسة البنية الاجتماعية بمستوياتها كما تشكلت في مناخ الجزيرة العربية البدوية ، وكذلك انتقال هذا الموروث إلى البلدان المفتوحة وقراءة التمازج الذي حدث بين الفكر الإسلامي الطالع من الجزيرة والفكر الديني القديم الراسخ في الشمال ، لأن هذا سيضع بصرنا على الأرضية الموضوعية لتشكل الوعي بمختلف تجلياته .
    في حين يبحث الجزء الثاني ما بعد تشكل النظام الإقطاعي الديني ، عبر فصول مثل : الثورة العباسية ، التطور الاقتصادي للعصر العباسي الأول ، طبيعة تكون الإمبراطورية العربية ، صعود الثقافة العربية الإسلامية ، نماذج من مثقفي العصر البارزين كابن المقفع والجاحظ . ثم كيفية ظهور الفلسفة العربية الإسلامية وأول نموذج لها وهو الكندي .
    إن الغرض من هذا المسح الشامل هو الوصول إلى طبيعة النظام الاجتماعي الذي أقامه المسلمون وكيفية تشكل الصراعات الاجتماعية والفكرية ، والإمكانيات الموضوعية التي يخلقها لظهور الفلسفة .
    فقد حدث خلافٌ فكري كبير حول طبيعة التشكيلة التي أقامها العرب المسلمون و هل هي عبودية أم إقطاعية أم آسيوية ، وقد كانت الفصول السابقة هي تحديد وذلك ، وهذا ما جعلني اكتشف جوانبَ جديدةً حول علاقات الدين والفلسفة ، فأركز على طبيعة النظام الإقطاعي المذهبي ، المستمر حتى الوقت الراهن ، وكيف يُلحق الفئات الوسطى بسيطرته ويمنعها من تشكيل نظام رأسمالي حر .
    ولأن المثقفين – المنتجين للوعي الفقهي والثقافي والفكري والفلسفي – هم نتاج هذه الفئات ، فقد كانوا نتاج التمرد على هذا النظام وعلى محاولة تغييره أو الالتحاق بسيطرته.
    ومن هنا فالمعتزلة الذين كانوا متمردين على ظهور ونشأة هذا النظام في العصر الأموي حاولوا تشكيل عناصر عقلية دينية مثالية في زمن آخر ، ولكن لأن جزءً هاماً منهم التحق بسيطرة الطبقة الإقطاعية الحاكمة ، فإن العناصر التمردية والعقلية تآكلت ولم تستطع المعتزلة فتح طريق عقلاني واسع للوعي العربي الديمقراطي .
    ولهذا أقوم بتقسيم تطور الوعي الاعتزالي عبر مراحل نمو البنية الاجتماعية ، ففي المرحلة مع واصل بن عطاء كان الفكر المعتزلي بشكل ثم تبدل في مرحلة أثناء النظام والجاحظ وغيرهما من قادة الاعتزال ، ثم جاءت مرحلة ثالثة مع فشل المعتزلة من الخروج من هيمنة صورة الإله المباشرة والشاملة على الطبيعة والمجتمع رغم طرحهم بعض السببيات في تفسير الظواهر، وهذا الفشل صعّد جماعةً مضادة هي الأشعرية عكست رؤى الطبقة المسيطرة في مرحلة مختلفة هي مرحلة سيطرة الإقطاع وإضعاف الفئات الوسطى بشكل كبير .
    وقد الفلاسفة بمحاولة استكمال مشروع المعتزلة على صعيد أكثر تطوراً وأحفل بالتناقضات الفكرية كذلك ، فهم لم يعتمدوا على عناصر فقهية ودينية بالدرجة الأولى بل على عناصر فلسفية ، أي بالاعتماد على المقولات الأرسطية . لكن فلسفة الفارابي كمثال تقول في خاتمة المطاف إن على الوعي أن يتوجه للاتحاد بالذات الإلهية كأرقى شكل من التجلي الفكري وأن ينسحب من المجتمع المادي ( الوضيع ). وعملية الزهد ثم التصوف ثم فلسفة التصوف ستلعب كلها دوراً من الهدم للنظام دون أن تستطيع تغييره إلى الأمام ، وهذا سوف يقوي التيارات الفقهية الدينية وسيطرتها على الجمهور بدلاً من الفلسفة .
    أي أن الطبقات الإقطاعية الحاكمة باستيلائها على موارد الدولة تقوم بإهدارها على بذخها ومتعها غير سامحة للفائض الاقتصادي بتشكل ثورة صناعية ، ولم يستطع المفكرون والفلاسفة اكتشاف ذلك ، وتشكيل فاعلية اجتماعية لقطع الطريق على هذا الخراب .
    في حين قامت الحركات الاجتماعية والمذهبية بتكرار ممارسات الطبقة الإقطاعية في المركز في مناطق قوميات وشعوب أخرى.

    الجزآن التاليان

    ويبحث الجزآن الثالث والرابع هذا النمو التاريخي حتى العصر الحديث ، فالجزءُ الثالث يتناول مسألة نمو العلوم وعلاقاتها بالإنتاج وتطورات الفرق الفكرية خاصة الاعتزال وظهور الأشعرية وتطورات الإسماعيلية والإثناء عشرية ، وأفكار الفلاسفة وهم الفارابي وابن سينا والغزالي وابن طفيل وابن رشد وابن باجة وابن تيمية وصدر الدين الشيرازي ، ثم كتابة خاتمة تدرس المبنى الديني – الفلسفي العربي الإسلامي عامة من داخل تفاصيله وهيكله .
    ثم يتناول الجزء الرابع والأخير ظهور الوعي العربي الحديث بدءً من انهيار الإمبراطورية العثمانية مروراً بتشكل فكر النهضة الديني عند الأفغاني ومحمد عبده وظهور الفكر النهضوي العلماني عند فرح انطون وسلامة موسى وطه حسين وغيرهم ، وكذلك العمليات الأولى لظهور الفلسفة كالمعركة التي دارت بين فرح انطون ومحمد عبده حول فلسفة ابن رشد ، ثم ظهور الفلسفة العربية الحديثة عند يوسف كرم ، وزكي نجيب محمود وزكريا إبراهيم ونصيف نصار وغيرهم من الباحثين المعاصرين وكذلك طبيعة الفرق الفكرية – السياسية المعاصرة كالقوميين والماركسيين والدينيين لدى أبرز من يمثلونهم فكرياً .
    وهذا كله يجري في قراءة البني الاجتماعية القديمة – الحديثة ، وهل استطاع وعي الشرائح الوسطى فهم طبيعة النظام الاجتماعي العام الديني السياسي أي طبيعة ( النظام الإقطاعي المذهبي ) ، وأسباب اخفقاتها في ذلك ، وماذا يمكن أن يحدث مستقبلاً وكيفية إدارة الصراع السياسي والاجتماعي على ضوء السابق .
    فليست غاية الدراسة هي نظرية فقط ولكن المساهمة في اكتشاف الواقع العربي الراهن ، وكيفية تكوين تحالف عربي ديمقراطي في كل بلد يتوجه لتغيير الهيكل الاجتماعي التقليدي ، بالتعاون بين الفئات الوسطى والشعبية ، بين عناصر النضال الديمقراطية القديمة والجديدة ، لتفكيك الدولة المذهبية الشمولية ، وقراءة الموروث .

    المكان في روايات عبدالله خليفة دراسة تحليلية لنماذج مختارة

    أ. فاطمة الزاكي. بكالريوس لغة عربية، جامعة البحرين
    Author
    ‫أ.د. أحمد محمد ويس‬ – ‫جامعة البحرين
    Thesis advisor

    الملخص:

    يتناول هذا البحث دراسة المكان في أربع روايات للروائي عبد الله خليفة وهي:” نشيد البحر – الماس والأبنوس – ثمن الروح وابن السيد وذلك عن طريق اتباع المنهج التحليلي، ويحتوي البحث على:
    أولا: التمهيد النظري: يدرس مفاهيم ومصطلحات المكان في اللغة والفلسفة والسرد، بالإضافة لأهمية المكان وأنواع الأمكنة، كما يتناول سيرة الروائي عبدالله خليفة وتلخيص للروايات المختارة للدراسة.
    ثانيا: الفصل الأول ويحتوي على أنماط المكان في روايات عبدالله خليفة، ومن أهم هذه الأمكنة: الأمكنة السكنية، الأمكنة الطبيعية، أمكنة المسارات الأعشاش أمكنة العمل المساجد، أمكنة التعلم، المستشفيات، السجون المحاكم، أمكنة الأكل والشرب، أمكنة التنقل المقابر.
    ثالثا: يتناول الفصل الثاني الوصف كونه آلية من آليات إبراز المكان في الرواية، ولما له من أهمية في تشكيل الأمكنة، وفي هذا الفصل تناولت الدراسة تعريف الوصف ووظيفته في تحديد النوع الروائي، والعلاقة بين الوصف والمكان، كما تناولت أنماط وصف الأمكنة ووصف المكان المتخيل والحلمي، واندماج الحواس في وصف الأمكنة، ثم يتطرق لأساليب الوصف المتنوعة كالوصف بالأقوال أو الأفعال أو الوصف بالرؤية أو الوصف غير المباشر، ومن أمثلة الوصف غير المباشر: الوصف بالحلم والوصف بالرمز والوصف بالفنون، وللوصف وظائف متعددة في البناء الروائي.
    رابعا: يتناول الفصل الثالث ثلاثة مباحث المبحث الأول: المكان والهوية، ويدرس التفاعل الاجتماعي والجماعات المرجعية والسلطة النسبية للأدوار الاجتماعية، كما يدرس الحراك الاجتماعي والصراع بين الجماعات والدوافع الاجتماعية، والتنشئة الاجتماعية، وعلاقة ذلك بالمكان كعنصر من عناصر الهوية كما يتطرق لأشكال التنشئة الاجتماعية كالمطاوعة والعدوانية والتقليد والضمير والصحبة وحاجات الإنجاز والمعيار الاجتماعي، وكذلك تسهم المسؤولية الاجتماعية والقيادة في التأثير بشكل مباشر في طبيعة العلاقة بين الإنسان وأمكنته. أما المبحث الثاني بعنوان المكان ونمذجة العالم فيمزج بين علم نفس الجشطلت! وسيمياء الثقافة وذلك للتقارب بين هذين العلمين وأهميتهما في دراسة المكان الروائي ومن خلالهما درسنا

    3
    التقاطبات الثنائية للأمكنة ودور انتظام الأمكنة ضمن أنساق خاصة في إبراز الجانب النفسي للأمكنة، ويتناول المبحث الثالث أهمية الجانب الإيديولوجي في تشكل المكان في روايات عبدالله خليفة.
    خامسا: يتناول الفصل الرابع المكان وعناصر السرد، كالزمان والشخصيات، كما يتناول اللغة كعامل رئيسي ومهم في بناء المكان وتشكله في روايات عبدالله خليفة.
    وأخيرا توصل البحث لعدة نتائج أهمها :
    تتنوع الأمكنة في روايات عبدالله خليفة، فمنها ما يأتي مكتمل النمو في الشخصيات الروائية منذ بدايات الروايات، ومنها ما تتبني ألفته أو عدائيته مع نمو الشخصية، ويدل هذا التنوع على ارتباط نمو المكان بوعي الشخصية وانتباهها للمحيط.
    الأمكنة في روايات عبدالله خليفة لا تأتي عشوائية بل تأتي ضمن نسق ثقافي من تداعيات الأفكار المنتقاة والمتلازمة والتي يصيغها الروائي بدقة وفي في قائم على التنويع والبراعة في الوصف، ووعي وإدراك فكري ووجداني، والتي عبر من خلالها عن هموم مجتمعه.
    يرتبط المكان ارتباطا قويا بعناصر السرد التي تساعد على إبراز أهمية المكان ذلك لأن المكان جزء لا يتجزأ من مكونات الشخصية وكذلك فإن المفارقات الزمنية تؤدي وظيفتها في إبراز العمق الشعوري للمكان كالمكان المتذكر والمكان الأسطوري والأمكنة التاريخية، كما تؤدي اللغة دورا مهما في نسج المكان وصياغته وتنوعه، ولذا نلاحظ أن المكان محوري ومهم ضمن عناصر السرد الأخرى.
    المكان في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليلية لنماذج مختارة

    Date Issued
    2024
    Language
    Arabic
    Extent
    [275], pages
    Place of institution
    Sakhir, Bahrain
    Thesis Type
    Thesis Master
    Institution
    جامعة البحرين, كلية الآداب, قسم اللغة العربية و آدابها
    English Abstract
    Summary: This research deals with the study of place in four novels by the novelist Abdullah Khalifa, which are: “Ode to the Sea – Diamonds and Ebony the Price of the Soul Ibn Al-Sayyid” by following the analytical approach. The research contains: First: The oretical introduction: It studies the concepts and terminology of place in language, philosophy, and narrative, in addition to the importance of place and types of places. It also deals with the biography of the novelist Abdullah Khalifa and a summary of the novels chosen for study. Second: The first chapter contains types of places in Abdullah Khalifa’s novels, and the most important of these places are: residential places, natural places, places of paths, nests, workplaces, mosques, places of learning, hospitals, prisons, courts, places of eating and drinking, places of transportation, Cemeteries. Third: The second chapter deals with description as a mechanism for highlighting place in the novel, and because of its importance in shaping places. In this chapter, the study dealt with the definition of description and its function in determining the novel genre, and the relationship between description and place. It also dealt with the types of description of places and the description of the imagined and dreamed place. And the merging of the senses in describing places. Then, he discusses the various methods of description, such as description with words or actions, description with vision, or indirect description. Examples of indirect description include description with a dream, description
    Theses
    المكانُ في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليليّة لنماذجَ مُختارة
    الزاكي ,فاطمة حسن سلمان
    2024

    قصص من دلمون

    إهداء
    القاص والروائي والكاتب البحريني عبدالله خليفة البوفلاسة حرفك ذات يوم علمنا غواية السرد، حيث أبحرنا وشهوة الحلم تعبر نحو «اللآلئ»؛ ثم نمضي في متاهة الموج الأزرق كيما نبلغ «الهيرات»، يحدونا الأمل ولا ندري ما يتوارى لنا خلف «أغنية الماء والنار»، وإذا ما كان «القرصان والمدينة»، في انتظارنا هناك في أزقة العدامة والمحرق والمنامة.

    ثمة خليط ملون هنا من الحكايات، خاطب روحك الغائبة عنا، لكن طيف أنفاسك الساخرة يعرفها، هيّا.. ﺍجمع كل هؤلاء المحتفلين حولك في حلقة الزار وأخبر عفاريتك وسط العتمة، وكذا العمال المطحونين قرب آبار النفط وحقول الصحراء ومدن الاسمنت وكآبة «…»، أخبرهم أن عشاق الحرف يستمر ركبهم، وهذا مدادهم محلّق في فضاء الوطن الذي أحببته، لا ينقطع غيثه الطيب مهما تبدلت الأحوال.
    إلى ذكراك الطيبة نقدم هذا الكتاب تقديراً وعرفاناً.. لترقد روحك بسلام عند رب الأنام.

    أحمد المؤذن

    عتبة اولى لا بد منها
    من الصعب إجمالا اختزال كلية المشهد السردي ــ ونعني به هنا «عوالم القصة القصيرة البحرينية»، في مقدمة مقتضبة ضمن هذا الكتاب الصغير بعدد صفحاته والثري بمضمونه كما تأمل، الكننا في توجهنا هنا من الهم أن نٌطلع المتلقي العربي على جزئية مهمة من حراك الساحة الثقافية في مملكة البحرين، هذه الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي حيث تُعڐ ملتقى للثقافات طوال العقود الماضية، ولا تزال حتى يومنا هذا.
    جزءٌ مهمٌ من نموها الحضاري وتطورها جاء نتيجة الانصهار والتعايش السلمي ما بين مختلف الإثنيات والمذاهب، وهذا تماما كان المحك في ثقافة قبول «الآخر»، واستيعابه في عمومية البناء المجتمعي بمختلف تجلياته وتمثلاته.. لذا فإن المشهد السردي يحمل سمات البيئة البحرينية وملتحمٌ بهواجسها وقضاياها اليومية، وخير من صور هذه البيئة وعمل على التوغل في همومها، هو الأديب والباحث الراحل: عبدالله خليفة البوفلاسة، ابن البحرين الذي غذى روح السرد بانحيازه للفقراء والمهمشين، وأغنى المشهد الثقافي البحريني بمؤلفاته المتنوعة حتى بعد رحيله.
    فقد قطعت القصة القصيرة البحرينية شوطا طويلا في حرية الكلمة ونهوضها الثقافي على مستوى الخليج العربي، وقدمت الكثير من العطاء والتجلي الأدبي في صعودها؛ إبان القرن العشرين المنصرم مع بواكير الصحافة البحرينية عام 1939؛ لما تأسست جريدة البحرين، ثم تلتها صوت البحرين، والقافلة، والوطن. وكان الراحل عبدالله الزايد هو الأب الروحي للصحافة البحرينية؛ فهو من أسس الصحافة الحديثة في منطقة الخليج العربي، الأمر الذي أثرى الحركة الفكرية والأدبية وساهم في بروز الأقلام المحلية والعربية.
    فكان لفن القصة القصيرة دورها وإن كان خجولا في ارهاصاته الأولى لڪن أسهم في انطلاقة تلك الأقلام البحرينية في تلك الفترة التي شهدت نهضة البحرين واليوم تتواصل الساحة الأدبية في زخمها الثقافي، حيثُ تتسيدها الكثير من الأجيال تتفاوت في جهودها كقامات أدبية مهمة كمثل الراحل (فريد رمضان، عبدالله خليفة البوفلاسة، محمد عبدالملك، أمين صالح، خلف أحمد خلف، جمال الخياط، عبد الحميد القائد، فوزية رشيد، عبد القادر عـقيل، علي سيار، أمينة هاشم الكوهجي وأسماء أخرى لا خضرفي الآن)، وثمة أسماء أخرى ظهرت للساحة مثل، (عبدالعزيز الموسوي، ايمن جعفر، شيماء الوطني، فتحية ناصر، حسن بوحسن، جعفر الديري، محمد أبوحسن، مها المسجن، منار السماك، ندى نسيم، جميلة الوطني، نعيمة السماك، علي الحداد، جابر خمدن، علي خميس الفردان، فخرية المخلوق، يثرب العالي، أحمد المؤذن، وأسماء أخرى تغيب عن المشهد ممن صدرت لها مجاميع قصصية، ثم اختفت عن الساحة في زحام الحياة. في هذا الكتاب نطلق شهية السرد للعــديـد من الأقلام التي استحوذ عليها سحر الحكاية بالذات التي استجابت لدعوتنا وتواصلت معنا وأرسلت قصصها، وهناك أسماء أخرى «ربما لم تتحمس لفكرة المشروع»، وعدم تواجدها في متن الكتاب لا يفسر على كونه تجاهلا متعمدا أو مقصودا في حق تجاربها، ففي نهاية الطاف لكل تلك الأقلام الغائبة أعذارها وظروفها الحياتية كيفما كانت، وهي موجودة على كل الأحوال.
    وهناك أصوات أخرى من غير المكان «التصرف» بنقل نصوصها القصصية، لكوننا لا نمتلك الصلاحية في ذلك بالرغم من بصمتها السردية الوازنة في المشهد الأدبي البحريني.
    أكثر الأمور إيجابية في صيرورة هذا المشروع القصصي والذي يعمل عنوان «قصص من دلمون»، حيث أن دلمون تلك الحضارة القديمة التي تميزت بأنها نقطة الوصل ما بين الطرق التجارية القديمة الشرقية والغربية، وتحتوي على الآثار التاريخية التي تحمل معها تاريخ البحرين قبل خمسة آلاف عام تقريبا، فقد نشأت حضارة دلمون ما بين 2800 ــ 323 قبل الميلاد، تعطينا الحافز على محاولة فهم كنه قدم الرغبة البشرية في سرد الحكاية، والتي أطلقها إنسان الكهوف لما شرع يرسم ويحكي الحياة من حوله بالرسم على جدران الكهوف، وعليه فالسرد غريزة إنسانية أصيلة تضمر إحساسنا الفطري في أرشفة صيرورة الحياة وتخليد الحدث/ الحكاية.
    لهذا فإننا هنا عملنا على جمع هذا الخطوط الأدبي، والإعداد له، ولم نتعسف في تصنيف مجمل الكتاب المشاركين بفرض معيارية فوقية على مبداً (الاستحقاق للأفضل)، فالقصص الواردة تتنوع في مضامينها الحياتية، وتعبر عن بيئتها ضمن مناخاتها المحلية، تبرز صراع الإنسان المعاصر على سطح هذه الجزيرة الصغيرة بمختلف قضاياه وروتينه اليومي وهمومه كأي مواطن عربي، متمنين لعموم القراء رحلة سردية ماتعة تستنطق جزءاً من مسيرة القصة البحرينية المعاصرة، والتي لا يمكن هنا بأية حال من الأحوال «أن تعكس كلية المشهد الراهنة»، نظراً لغياب أسماء أخرى مؤثرة لكننا بشكل عام نضع هذا المجهود الأدبي المتواضع بين يدي القارئ العربي من المحيط إلى الخليج كيما نتواصل حضارياً مع الجميع، ابتغاء التعريف بعطاء القصة البحرينية القصيرة التي في بالأساس جزء أصيل من نتاج الساحة الثقافية العربية، ولا تنفصل عنها من دون أدنى شك.
    تمنياتي لكم بحصد الفائدة والمتعة في السطور القادمة والله ولي التوفيق.
    أحمد المؤذن 8 نوفمبر 2023 / مملكة البحرين

    قصص من دلمون
    #عبدالله_خليفة ‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

    قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ


    ينزل سلطان من الباص الخشبي حاملاً حقيبته الثقيلة ، دون أن يشعر بها ، يمشي في الزقاق ، وثمة حنينٌ طاغٍ في روحه يكاد يشعله ، يقترب ، يقترب من الباب الذي حلم بفتحه ليالٍ طويلة مسهدة ، يضع الحقيبة فتهتز الأرض ، ويطرق الباب طويلاً ، وينتظر خطواتها التي بدأت تهفو إليه حفيفاً عطرياً أخاذاً.
    هذا آخر الشهر وهي تعرف إنه سيأتي في هذه الأيام التي تضج في جسده وتضعه في تنور الدقائق التي تشويه ، فهل هي التي تقـترب وتقلقل هذا الحديد الذي التهب في صدره . . ؟ !
    ينفتح الباب عن وجهها ، وثوب النشل الواسع المطرز بالعصافير ، يحضنهُ كسماء واسعة ، يدخله جنة ، ويكاد يعصرها بجسمه الهائل ويحملها إلى غرفتهما المطرزة بالمرايا والصور ، ويفتح الحقيبة الثقيلة فإذا كل ألوان القماش والطيف ، والحلق ، والعقود ، وموزة مأخوذة ، تلمعُ في عينيها أشعة الفضة وكأن غابة محروقة تسطع بألسنتها ، وأنهر من ذهب تتدفق .
    هذا الجسد الفاتن ، والوجه المغمور نوراً ، والحضن الحنون يغسل كل أوجاع تلة الزيت ، وجنون القيظ ورائحة أجساد الرجال والصابون الذي يلتهم الأيدي والأرواح .
    الآن يستريح ، ويرى بيته الصغير ، وأنثاه على صدره ، كلما هفت نفسه إلى شيء اندفعت ووضعته بين يديه ، صحن الأرز الكبير وسمكاته والليمون والزرع الأخضر الذي ينمو في بياضه الواسع ، والعسل الصباحي والخبز و (الكباب) الملتهب المقطر سمناً متفجراً ، ورقدة الظهيرة قرب تلتها الخضراء وهو يصعد الهضاب المعشوشبة ويزرع الريحان ، ويكاد أن يقول لها :

    • ــ لا أريد أن أرجع إلى تلة الزيت . . . !
      لا يستطيع ، عيونها حينئذٍ سترمقه ورموشها ستثلم كلماته .
      بضعة أيام ، ثم يوم مرير ، حين يمشي وحيداً بلا حقيبة ، ممتلئاً بآثار القبل ، يحمل خوخ الخدود لجوعه القادم ، وينسج من شبحها وراء النافذة إزاراً لليالي الطويلة الساخنة .
      حين يتدحرج رأسهُ في الباص الطويل ، نائماً وصاحياً ، روحٌ مشبعة برفيق لا يُرى ، يتذكرُ كيف طلع هو ورفاقه من عراد من بين الخوص ومستنقعات البعوض والأفاعي ، وساروا في الصحارى وعبروا المياه وبراري اللصوص والبدو، وسلموا في كل بوصة من التراب قطعة من قلوبهم ، وآخر قطعة نقدية شويت أجساد أهلهم في تلميعها من الصدأ والدم .
      كانت أمامهم تلة الزيت ، تضيءُ من بعيد ، ألسنةُ نيرانها تقلي السماء وتنضّج النجوم لأحلام الليل ، وكتل الحديد والأعمدة العملاقة والرافعات الشاهقة والشاحنات الكثيرة المندفعة، تصهرُ ما بقي من قلوبهم .
      النهارُ كله جهنم ، والليلُ تنورٌ صغير لشوي ما بقي من الأجساد ، والبواخر العظيمة تُرى في البحر ، تأتي وتصيح وتخرج خراطيمها وجسورها ويرى البر كله وأجسادهم والتلال المأسورة في الصمت ، تضخُ أعماق الأرض لكتل غريبة تذوب في ضباب الصباح .
      أيُ نومٍ كان ينام ؟ أي صندوقٍ خشبي يضمُ ثلة من الرجال تتعاركُ أرجلُهُا وأيديها وصرخاتها وأحلامها و (سفر طاساتها) ، فكيف لم ينفجر ؟ !
      ويعودُ ثانيةً إلى عراد . تلك الغلالة الخضراء من الشجر والرمل والزرقة تتراءى في الباص المترنح في البرية وفي السفينة المتقلقلة في البحر ، وكأن أقدامه ليس لها من حنين سوى أن تصل إلى ذلك الزقاق ، وتركعُ هادئةً تحت أصابعٍ مُضمخة بالحناء . وحين تفتحُ لا يجد ثوب النشل ولا العصافير الزرقاء بل امرأة تربط رأسها بمنديل ، وبطنها متضخمة قليلاً ، والدوار والقيء يأخذانها بعيداً عنه ، في الطرف القصي من السرير . . الفرحُ ينشرُ الشهوة ، والأبوة المنتظرة تختلط بجوع الليالي ، وحين يقـتربُ من جلدها يجدها تنتفض.
      وفي الصباح يرى الطاولة العامرة ذاتها ، البيض والحليب و(الكباب) المشتعل زيتاً وناراً ، وضحكة موزة تسترد وجودها ، واغتسالٌ غريبٌ لجسدها يرعشُ خلاياه التي تصلبت .
      لا شيءَ سوى تلةِ الزيت ، وعليك أن تدفع العربات ، وتضع الأعمدة على عظامك لتتسع دوائر الخزانات والصهاريج، والشمسُ في الليل تصيرُ غابةً من العقارب والصراصير في ظهرك ، وحشودُ العمال تتقارب رؤوسها في الظلام وأنت لا ترى سوى وجه موزة ، وفي النهار يتجمد المكانُ ، والدخانُ والزيتُ والغيوم والسماء والألم ، وتعبر العصافيُر بكثرة فرحةً بالبحر والشجر ، وأنت تمشي بعربتك وحيداً نحو غلال الدم والنفط والأعضاء المقطوعة . .
      يتساءلُ : لماذا تستولي عليّ هذه المرأة في كل لحظة ، وأود أن أجري وكأنني في سجن أعدُ كلَ دقيقة ، لماذا كلُ هذا الحب يملأني لها ؟ والعمالُ يرمقونني باحتقار ، وتأتي سيارات الإسعاف والشرطة وتأخذ وجوهاً لم أحدق فيها كثيراً وجثثاً لم أترحم على أرواحها ؟
      واحدٌ من هؤلاء الرجال ينسجُ قلبَه في الليل ، يسحبُ حكاياتهِ عن السفن التي ثــُــقبت أمعاؤها ، وتبخرت أحلامُها وهي تغرقُ وتتحد بالسمك والصدأ ، لكنه يحوم حول زقاقه ، وبيته ، ويذكر له صبانه وأخشابه وكيف سيعيدُ بناءه ، وتتخايلُ موزةٌ في ذلك الأفق من النور ، ويريد لو يتدفق بالحديث عنها ، ويصف جمالها ورقتها وأكلها . .
      يعيده الباصُ الخشبي إلى الأمعاء الغليظة للحي ، ويجد كرةً من اللحم الضاجة بالصياح في حضنه ، وتبدو كأنها لا تنتمي إليه ، وجهٌ غريبٌ له سمرة وضآلة جسدية مروعة ، وهو الذي أنتظره عملاقاً كجسده الفارع . والمرأة بعد الولادة ، وبقايا آلام المخاض وإرهاق المنزل والثدي القافز دائماً للوليد ، وعليه إذن أن يعود لطريق تلة الزيت ، التي صارت بطيئة ، ثقيلة ، تتناءى أشجارُها وتلالها وقواربها ونيرانها ، وكأنها خريطة مرسومة بالمسامير والنار على جسده .
      لو أن أحداً يحدثه عن الحب بين قفـير هؤلاء العمال المغسولين بالزيت والإغفاءات . . ! لو أن صاحبه يكف عن أقاصيصه المثقلة بالدموع والحمامات والمطارق ويكلمه عن المرأة ولغزها المحير . . !
      ينحني ظهره قليلاً وهو يعود، وعراد تزيح غلالتها الخضراء ، وتلبس رداءً من الحديد والرمل ، والباص الحديدي يأخذهم بين المستنقعات والتلال وركامات العمارات الجديدة، وبيته الضيق يتسع ويجاور البحر، وموزة تقدم له صبياً غريباً وبطناً منتفخة ثانية ، وولده يندفع إلى صدره ويدخل في روحه ، وينثر له الهدايا ، ويحاول أن يتسلل إلى مخدعها ويجد غابة من الريحان والورد ورأسها متوج بغلالة من الليل والنور ، وهو يحتوي قطعة من الزبد المشتعل، ويريد أن يبقى في بلدته ، ويتجذر بين أولاده ونخيلها ويصطاد في البحر ويغسل قدميه في موجها المثرثر مع جداره..
      لكنها تنتزعهُ من العسل ، وتعيده إلى الشريط المشتعل ، ويشعر بأنه ثور معصوب العينين يدور في ساقية من سواقي جهنم ، يحملُ الفحمَ وأسطوانات الغاز المتفجرة وألواح الألمنيوم المصهورة ، ويفضفض لصاحبه يريه ذلك الزقاق والمرأة الجميلة والبيت ، ويتكلمُ عن كل حبة رمل من حوشه الملآى بانعكاسات النجوم ودبيب السمك الميت ، ويسأله صاحبه عن البلدة ودكاكينها ورجالها ، فيستغرب كيف أنه لم يتجول كثيراً فيها . حين يعود إليها لا يرى سوى قمراً وحيداً، ويجد نفسه في زنزانة الضوء ، ويتذكر العين القديمة التي تستحم فيها النساء ، وكيف رآها وقد صارت خرابة، فدهش كثيراً ، وتساءل : أين كان ؟
      كان جالساً على البساط في حضرتها ، وهي فوق الفراش العالي ، يتمتمُ بكلمات لا تأخذ شكلاً بشرياً . ترمقه بكبرياء، تحدق في أعماقه المتقلقلة ، يهمس :
    • ــ تعبتُ . .
      وتنتظر صعود الموجة المضطربة :
    • ــ هناك أنا بعيد . . عنك . . أشتاق . . كثيراً . .
      تقول بحدة :
    • ــ ألا تخجل من نفسك ، ألست رجلاً ؟ ماذا نفعل هنا نحن ، نربي ، وننفخ الدخان من تحت الصفائح السود ، ونراقب الأولاد وهم يذهبون إلى المدارس . .
      أجل الآن يتضح له دورها ، هاهم الأولاد يكبرون ، ويتعلمون ، والبيت يتسع ، وأرضه الرملية تختفي ويدهش من البلاط الملون والثلاجة الممتلئة ، وغرفة البنات ، ويحملُ رغباته الحارة ويمشي في البلدة ، يخفف من انتفاخِ عروق ساقيه ، ويرى كم تغيرت الدكاكين ، وجاءته رائحةٌ مألوفةٌ ، رائحةُ (الكباب) الصباحي ، ويسمع صوت ابنه ، فيقـترب من الدكان .
      تجمدت روحه بغتة . هناك رجلٌ مألوف ٌ غريبٌ ، يضحك مع ولده ، وقد دهش كثيراً من الشبه بينهما . هذا علي اليماني ، صانع الأكلات والكلمات السحرية ، متجذرٌ منذ زمن بعيد في هذا المكان ، وجهٌ يجمع بين رؤوس الحيات والثعالب ، تتجمع فيه الابتسامة ولمعة الخناجر.
      يستندُ على الجدار ، ويرى المحل الواسع ، والطوابق ، ويتذكر ، يمشي تائهاً في أزقة البلدة ، يحدث الأشجار المتوارية في الذاكرة ، ألم يكن أباً ؟ الشبه الغريب بين ابنه ، بل أبناؤه كلهم ، وهذا الساحر وصانع الحلويات والكباب، وهذا النسل الغريب المتقزم ، الكريه ، هؤلاء الذين حضنهم واندفعوا إليه في الليالي القليلة البخيلة ، وسمعوا حكاياته على ضوء الفوانيس ، وجرى من أجل أمراضهم ، وهذا البيت الذي أقام كل حجر فيه من غربته وجوعه ، لا، لا يمكن أن يكون . . . !
      رأسه مترنحةٌ على زجاج الطائرة ، يحدق في تلة الزيت وقد صارت مدينةً تعصر البحر والصحراء ، تمتدُ يده لعلبة لأول مرة يذوق هذا السائل اللاذع ، ثم يضع عقله الضاج بالهدير على وسادة ، ويرى ظله يمشي في الظلمات المشتعلة ، ونملٌ كثيف يجره إلى البحر. . القناديل اللزجة تأخذه في أشداقها . . قناديل كثيرة كالرمل تموت على الشطآن . .
      الآن لا يمكن أن يرى حدود تلة الزيت ، أتسع الحديد والدخان إلى ما وراء الأفق، الطائرات وحشود البواخر ، والجسور المعلقة قرب الغيم والانفجارات التي تدوي كل لحظة ، ونهر السيارات المتدفق ، وهو في غرفته الصغيرة يطل على هذا العالم الذي أعطاه كل شيء وأخذ منه بضع أحجار ، وظن إن ثمة عائلة وراءه ، والمرأة التي أحبها كانت أفعى محمولة في صدره ، وهو يغوص في بحيرات الحمم كي لا تحترق منها شعرة ، الآن كل شيء صار عدماً ، الماضي القطار المحترق الذي دخل به نفق الحياة ، والمستقبل…
      يتطلع إلى صاحبه ويخشى أن تكون كلمة من كوابيسه قد وصلت إليه ، يدهش إنهما كانا يتلاصقان هنا طويلاً ، وأعماقهما نائيتان .. يجد كم كان يوغل الخناجر في جسده ، ويجمع العقارب والجنازات ، وراح ثقلها الآن يهوي به ..
      يعود الآن إلى بيته ، صدفة مغلقة بالألغام ، جسدٌ ضخمٌ منخور بنمل كثيف ، ثوبٌ منتفخٌ وروحٌ غائبة ، وكلُ التهاني بوظائف الأبناء لا تمس شعرة من عود قلبه ، والزغاريدُ بزواج البنات أشبه ببكاء الجنازات ، بدلاتُ الضباط المرصعة بالنجوم وأقنعة الموظفين المتنفذين التي يلبسها أبناؤه ، والفلل الجديدة التي تــُـرسم على جلد أرضه الممزقة ، كلها تجري خارجه ، وموزة لم تعد تأبه به ، في سيارتها وجولاتها ودكاكينها ، ولا أحد يلحظ عودته الدائبة إلى تلة الزيت ، وارتياحه من الغرفة الصغيرة وأقاصيص صاحبه ، وخيوط حنينه للصغار الذين كبروا بخيوطٍ دمه ، لا تزال تشده إلى التنور الذي يقدم فيه جسده قطعة قطعة . .
      أين كان يقذف روحه وماؤه ، أين كانت قطعه الصغيرة تذهب ، وهو الآن يمشي في بلدته التي لا تعرفه ، ولم يستشره ( أبناؤه ) حتى في وظائفهم الجديدة و(بناته) اللاتي تزوجن الكبار سربن قطيعَ كلابه الوحشية في المخازن الملآى بقطع الغيار البشرية ، ولم يعد قادراً على الكلام ويدخن بوفرة مسحوقاً مدهشاً ويصمت ويغور في ذاته ، ويرى حشودَ العمال تتجمع وتنطلق في الشوارع ، واللافتات ، والصخب ، وانفجارات الدماء ، وسيارات الإسعاف تصطخب ، وهو يعود إلى غرفته تعباً ، يجد شريطاً من الغبار في ذاكرته..
      يدخل غرفته المضطربة ، الأحذية والأيدي والمعاول خربت كل شيء ، وصاحبه أيضاً لم يعد حياً..

    أول أغسطس 2003.