«أدبني ربي فأحسن تأديبي»، حديث شريف . حين يسمعُ الإنسانُ العامي البسيط هذا الحديث الشريف يخيل إليه أن ثمة مدرسة إلهية علوية هي التي قامت بتغيير سلوك النبي (صلى الله عليه وسلم) فحولته في طرفة عين من حال إلى حال . ويروى في العلم القديم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جاءه ملكان وشقا صدره وغسلا قلبه بثلج وكأن هذا كان تطهيراً وغسلاً وتربية كلية أبدية . ولو كان ذلك كذلك لما احتجنا إلى المعاناة النبوية والبشرية عامةٌ، أو إلى المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وإلى الحروب وقطع طرق القوافل والغزوات وتثقيف البشر والصراعات المضنية . وهكذا فإن التربية مدرسةٌ أرضية، ومعاناة وآلام، ونزول إلى المعلمين وصعود بثمار التربية، لتكون مدرسة للعالمين . والأدب هو لغة تعني خلق حسن الأخلاق عند الإنسان، والأخلاق لا تنشأ في فضاء مجرد، ولا في صحراء خاليةٍ من البشر والحيوان والكائنات بل هي تظهر لدى الإنسان حين يعامل الآخرين بالحسنى واتساع الصدر والحب، ولكن الأخلاق الرسولية التي وضعت في بالها تغير حال الإنسان من عصر إلى عصر، تضيفُ إلي هذه الأخلاق الطيبة لدى أواسط الناس شيئاً كثيراً من التضحية ومن الغوص في المعرفة. فأخلاقها لا بد أن تحتك بالكريم والوضيع والمنافق والدساس والطيب، وتنزل إلى الأسواق تدعو، فيجابهها خصومٌ عتاةٌ، وعامةٌ ضائعة في البحث عن أرزاقها، ولا بد أن تقول كلمتها أمام الجميع، فلا تداهنَ المنافقَ وتحبُ الفقيرَ الجاهل لكي ينتبه، ولا تحابي الغني المغرور الذي يريد أن يشتري الدعوة بأمواله . إن النزول إلى الشوارع والأسواق والدعوة بين العبيد والحرفيين والتجار، يجعل الذات المنعزلة تنصهرُ في معمل التغيير، فأي غرور فيها يصيرُ تواضعاً، وأي انعزال داخلها يصيرُ مشاركةً، وأى غضبٍ لديها يصير حلماً، وأي جهل عندها يتحول إلي علم. والنبوةُ الكريمة العالية المغسولة بمعنى الإله تُغسل بماء الناس، وعذابهم وبحثهم عن سبيل للتغيير من حبس الأشراف واستغلالهم، ومن تفرق القبائل وتشتتها، وحروبها الجاهلية «العقيمة»، ومن ضياع القادة في أنانيتهم الشخصية، لكي ينصهروا في التحول الكبير. إن كل هذا يتحول إلى حركة تاريخية تدخل من الأمور الصغيرة إلى عظائم التاريخ ومسرح التغيير العالمي . ولا بد لكل قائدٍ من عالم خاص تجب مراعاته وتغيير سلبياته، ولا بد لكل زعيم عشيرة من مصالح مؤقتة يحسبها هي كل الوجود، وهناك زعماء الاديان الذين حبسوا في تفاسير قديمة، ولا يرون آفاق التغيير الراهن الوفيرة بالخير.. وكل هؤلاء المحنطين في ثيابهم العتيقة وحفرهم الضيقة لا بد من مراعاة أوضاعهم الخاصة لكي يخرجوا منها ويروا ما هو عام وعظيم! إن النبوة مثل مدرسة كبرى في تغيير العالم العتيق تصهر ذاتها في فرن هائل ومن نتفٍ من الشخوص ومن لمعات من الأخلاق والضوء ومن قادة يظهرون من بين الأميين تتشكل أخلاقٌ جديدة . إن البساطة، والتواضع، والمحبة، والصلابة، وفعل الخير، وحب الحياة، وعدم الخوف من الموت، والشجاعة، والعمل للآخرين وللعرب وللبشرية الخ .. هي الأخلاق التي تكونت في زمن التغيير النبوي لكي تكون ميراثاً لمن يريد أن يغير ويضحي ويكتشف سبلاً جديدة للأمه.
الدينيون واللادينيون
أسوأ الناس هم الذين يتاجرون بكتاب الله وكلام الله ليصلوا إلى أغراضهم الدنيوية، ليجمعوا العقارات والأسهم ويشيدوا المباني التي تنزل على رؤوس الفقراء إيجارات باهظة. إنهم يرددون كلام الله ليتاجروا في دماء وعظام المسلمين، لا تأخذهم من كلمات الله خوفاً أو خشيةً من عقاب أو تفكير في ثواب! وربما أفضلهم هؤلاء اللادينيون الذين لم يؤمنوا ولكنهم يخشون الحرام فيدافعون عن الفقراء ولا يفكرون بدينار واحد يسرقونه من فم امرأة عاجزة ويتيم، جحدوا بالآخرة فانصفهم الله! الدينيون الذين جعلوا من كلمات الله تجارةً، فتسلقوا المناصب والمباني الطويلة في فساد السياسة، وأثروا على حسب القرآن، ويرددون كل يوم أحاديث الرسول المصطفى وآيات الله وهم لم يدخلوا زقاقاً يسكنه فقراء، ولا نضحت كلماتُ النفاق لديهم بالضرائب الباهظة على كواهل المتعبين من الرجال والنساء، ولا لمسوا دمَ سجينٍ تكهرب جسدُهُ من سياط المعذّيين، ولا تصدوا لرصاص ينطلقُ على عمال مضربين لأجل دراهم زهيدة، ولا وضعوا كلماتهم، ولا نقول أجسادهم، لتقف دون بلدوزات تهدمُ بيوتَ الفقراء لتؤسس ناطحات سحاب للأرباح الصماء. هناك من الدينيين من يفكر فى الثواب والعقاب، ومن امتلأ ضميره بخشية الله، فتراه مسكوناً بالبحث عن الحق والحقيقة أين يكونان، لا تهمه خرائط الجغرافيا البشرية، ولا ألوان المعذبين ولا جلود الممزقين، لكن تكفيه آثار الحوافر في الجلود، ويرتعش ضميره بالخوف من بضعة دراهم أخذها وهي له، وإذا حكم ووضعت أمامه خزائن الأرض سلمها لمن لا فلس عنده، ومن تنغرز أقدامه في السبخ الملوث بالشوك وخناجر المكوس.. التجارُ بكلمات الدين والإلحاد والصوفية والثورة والليبرالية هم أنفسهم، طلاب المنافع، والتسلق على ظهور الآخرين والصعود على الضحايا والآلام، هم أنفسهم الذين يبيعون أقرباءهم وأمهاتهم في أية لحظة كساد في الجيوب، هم كلهم الذين يتعاونون على وضع القيود واستغلال الناس وبناء عمارات العذاب. لن تتخلص من سكاكينهم في روحك إلا إذا نزعتها من مهرجانات الأنا، وحب الذات، ومشيت على شوك التضحية والبساطة، وجمعت بين كفاح الأنبياء ونضالات الفلاسفة، بين نضال المؤمنين الذين تخلصوا من حب الكنوز، ونكران الذات لدى اللادينيين الذين تمردوا على عبادة الفرد، وأخلصوا للحقيقة من أي جهة يجيء بها الهواء النقي والوعي غير الشقي. بوصلة الحقيقة تكمن ريشتها الدقيقة في مساكن الفقراء وأجور الضعفاء كيف هي وإخلاص الأغنياء للوطن، ودعم الإنتاج ورفض البذخ وسرقة المال العام سواء أكانت لدعم اتجاه ديني لضرب الديمقراطية، أم دعم اتجاه علماني لكتم الأصوات ، وأما التعاويذ والقراءات اللفظية والجعجعات الموسمية فهي كلها تجارة لأناس باعوا أرواحهم لمن يدفع. وكلما سمعنا منادياً يتاجر بكلمات الإله تساءلنا ماذا أخذ وماذا أعطى، فإذا كان يدافع عن الناس لأنه يتصدى للعمل العام، قلنا إنه رجل فاضل، وأما إذا كان يريد توسيع تجارته وضم بنايات جديدة إلى بناياته، قلنا انه كاذب يتاجر بكلمات الدين فهو أسوأ على الدين من الملحدين النفعيين! لابد من التفرقة بين من يمارس التجارة باسم الدين، ومن يمارس التجارة إصلاح الدين والمجتمع ، فمن يتاجر بالدين وصل إلى الدرك الأسفل، والخطورة هي في ظهور الأدعياء بمطهر الدعاة، وسيطرة الفساد على مواقع البث الإيماني، وعملية الخلط بين السام والسامي، وبين بيع الزهد بالزهيد، وشراء العرض بدل العريض، وتقريب التافه لا الثمين. إن معيار الصدق هو التصدي للفساد والاستغلال البشع وهو معيار رفضه الدينيون واللادينيون الانتهازيون!
المؤمنون واللا مؤمنون
كان الإيمان في صدر الإسلام مرتبطاً بمضمون اجتماعي مطابق له، فالمؤمن مدافع عن الدولة الشعبية التي توزع الخيرات بين المؤمنين بالعدل، لكن حين أصبحت الدولة الإسلامية مضادة لهذا التوزيع وللتعبير عن الجمهور الشعبي، التبس الإيمان! لهذا غدا الإيمان عند متخصصي السياسة والمتعهدين في استثمار تضحيات الناس، تجارةً.. وهذا قد بدأ عند مؤسسي حكم الأسر، الذين كانوا يريدون أن ترث قبائلهم وأسرهم لحم الناس وتبيعه في السوق. ولهذا لم يكن عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين عهد تجارة بالدين والإيمان، بل عهد تأسيس للحضارة الإسلامية بشكل التضحية والتعاون. ومن هنا غدا الإيمان عند أغلبية الطبقة الحاكمة والسياسية والدينية بعد ذلك تجارة، وهو لا إيمان عميق، فغدا الحكم اللصوصي وتوزيع الغنائم على المتنفذين إيماناً، وهو لا إيمان وعدم إقرار بالثواب والعقاب، وعدم خوف من عقاب الله، وتجريد الإسلام من أحكام الضمير والجنة والنار، وتسويق ذلك كدعاية للعوام من أجل السيطرة عليهم، واستغلالهم. وسوقت ذلك طوائف من رجال الدين، وفصمت الإيمان عن الممارسة السياسية العادلة، وعن سرقة أموال الناس، فيمكن أن «تؤمن» ولكن تستطيع أن تتحول إلى جزار ولص وانتهازي، والمهم هو أن تقول كلمات وتؤدي حركات، لكن ضميرك الداخلي غير موجود! ولهذا كان الحجاج بن يوسف الثقفي يعتبر نفسه مؤمناً رغم أنه يجثم على سجن به عشرات الآلاف من المعذبين والموتى! وكان المعذبّون بعد أن يسلخوا جلودَ المناضلين يتوجهون للصلاة! وحين نشأت الحركاتُ الوطنية والديمقراطية الحديثة ورأت هذه المجازر الفكرية، ظهر اللا مؤمنون الرافضون لذلك الإيمان، والمنكرون لله واليوم الآخر والثواب والعقاب، باعتبارها ضلالات الطفولة الفكرية، وليس باعتبارها ميراثاً عميقاً لشعوب، اعتبرتها نظاماً سياسياً لا يفصل سلطة الشعب عن توزيع الخيرات بشكل مشترك، ويجعل خدمة الناس جزءاً من الرقابة الإلهية عليه! ولكنهم إنكارهم تلك المثاليات الغيبية، عملوا على تجسيدها بدمائهم وفي النضال الملموس بين الناس! فلم يمارسوا سرقة من المال العام، ولم يتواطأوا مع الأجنبي المحتل، حتى جاء وقتٌ تحولت التجارة بالدين إلى شكل واسع، وشعر الكثير من المؤمنين واللا مؤمنين بأهمية التجارة فى الدين، والاحتيال فيه! فغدا الانتهازيون من الطرفين يدركون اهمية التجارة برموز الإسلام، وخداع المؤمنين، للحصول على مكاسب مادية، وليس لفضح ونقد الأوضاع العامة السلبية التي يعانيها الجمهور، والدفاع عن المال العام.. وغدا هذا التوحد الانتهازي استثماراً خطراً على الفريقين، فالفريق «المؤمن» يعرض نسيج الدين للخطر، ونسيج الدين هو ميراث أجيال طويلة، ويعبر عن هوية وجودها وتميزها بين الأمم ومقاومتها عبر العصور، والتقدمُ يجري من خلال تطوير هذا النسيج، وليس بتمزيقه! فهذا الاستثمار ينشرُ اللا إيمان به، حين يحوله إلى سلعةٍ رخيصة، ويشكك الناس العاديين في قيمه التاريخية، فلا يفترق هنا الحجاج بن يوسف الثقفي عن أي زعيم من هؤلاء، يعرض حياة الناس للخطر والموت بإدعائه تمثيل الإسلام وحده أو مع جماعته المميزة أو تحويله الإيمان إلى حصالة لجيوب المنتفعين! والصراع مع هؤلاء إنقاذ للإيمان قبل كل شيء. وحين يغدو اللا مؤمنون مؤمنين بحسب بورصة الانتخابات والحلم بالكراسي، بعكس أن يشكلوا اقتراباً موضوعياً من الإسلام باعتباره ثورة نهضوية توحيدية، لا تحتاج إلى بخورهم وتعاويذهم المفاجئة واحتيالهم! وباعتباره الطريق الأسهل للهبر من لحم البسطاء والعاملين! فهذا يعني أن اقترابهم من الإسلام هو اقتراب تضليلي، يشارك في تمزيق نسيج الإسلام كما يفعل خصومهم الانتهازيون اليمينيون، وهنا تغدو الجهات أكلاً من الذبيحة الشعبية من جهات متعددة! فلا اعتبار للثواب والعقاب ولا اعتبار للضمير ولكن هي المصالح الشخصية وتكديس الثروة! وبما أن الجمهور غافل فهي فرصة، فلا رقيب ولاحسيب!
ولد المفكر الإيراني علي شريعتي سنة 1933، وكان والده رجل دين مثقف ، ومؤسساً لمركز فكري . ورغم كونه من شريحة متوسطة فقد كانت نشأته بين الفلاحين والفقراء ، فتشبع بمعاناة شعبية مريرة . وقد نشأ في ذلك الخضم من التحول الوطني في إيران ضد الهيمنة الأجنبية . كان تأثير والده كبيراً عليه ، فاستمر في مشروع مركز والده الفكري ، لقراءة الإسلام ، وقد أرسل إلى بعثة دراسية بالمصادفة إلى فرنسا ، وهناك أعاد بناء ذاته الثقافية ، يقول عن هذه الفترة : ( وبين فجوة من جدار الجامعة يقفز إلى داخلها بل وفجأة يجد نفسه في قافلة تحمل أولاد الأشراف ومدللي المملكة وزبدة البرجوازية الجديدة في المدينة وأحياناً أولاد خانات الإقطاع الذين أصبحوا عصريين إلى مراكز الحضارة والثقافة والقوة والثروة والصناعة واللهو والقصف في العالم) ، ( 1 ) . هذه اللغة الأدبية ، المُضفرة بين التحليل الطبقي والحس الشعبي والإيمان الديني ، ستكون دائماً أداةَ شريعتي في قراءةِ العالم ، وهي تعودُ هنا إلى مرحلة التداخل بين العلمانيين الإيرانيين والدينيين ، في ذلك الغبش الذي يسبقُ الافتراق بينهما ، والذي يحضر لعملية التغيير الثورية لنظام الشاه . في أوربا أضطلع شريعتي بتأسيس فرع حركة تحرير إيران التي أسسها كل من آية طالقاني ومهدي بازركان ، هذه الحركة الممثلة للبرجوازية الوطنية الإيرانية الليبرالية و الدينية . هذا التداخل بين الدين والليبرالية ، يتجسد هنا في الجمع بين طالقاني وبازركان ، طالقاني الديني والقريب من الليبرالية ، وبازركان الليبرالي القريب من الدينيين، وهي علاقة كانت معبرة عن ذلك التداخل بين التجار ( رجال البازار ) والقوى الدينية . ولن نجد تجسيداً فكرياً لهذه العلاقة خير من علي شريعتي نفسه ، فهو الذي يحمل وعي رجال الدين وقد ألتهب بروح التحرر ، وهذه المداخلة بين الدين والحرية ستكون قضيته ، فهو يجعل الدين بوابة للحرية ، وهو يحرر الدين من العبودية ، وهذه النضالية المزدوجة ، هي مرحلة جنينية في الوعي الوطني الديمقراطي الإيراني وهو ينمو داخل النظام الإقطاعي طالعاً إلى العصر الحديث . ولهذا فإن كلَ قوى الجبهة المعادية لنظام الشاه سترى في علي شريعتي مثقفها ، وصوتها ، لأنه يحمل هواجسها وبراعهما الفكرية ، لكن دراسة شريعتي بشكل موضوعي ستكون مسألة أخرى . أعطت المرحلة الأوربية لشريعتي صلاته العلمية والسياسية مع أبرز مثقفي العصر ، ومع الحركات التحررية في ذلك الوقت ، كجبهة التحرير الجزائرية التي دافع عن كفاحها ، وساعدته بعد أن وصلت للسلطة للخروج من سجنه في إيران . بعد رجوعه إلى بلده عمل شريعتي في التدريس ، وفي هذه السنوات القصيرة ألف أبحاثاً كثيرة ، وأشاع وعياً جديداً في إيران ، لقى على أثرها مصرعه . يمثل منهجُ علي شريعتي الفكري رؤيةً دينية مسبقة تقوم بمعالجة الوقائع التاريخية والفكرية من موقفها الديني ، فهو يرى إن الدين التوحيدي ( يقوم على أساس عبادة رب واحد والإيمان بقوة واحدة متنفذة في مصير المجتمعات الإنسانية على مر التاريخ ) ويضيف بأن ( هذا الاعتقاد البشري يمثل ميلاً فطرياً نحو عبادة القوة الواحدة والإيمان بالقداسة ) ، ( 2 ) . إن شريعتي هنا يأخذ التوحيد اليهودي والإسلامي كشكلٍ وحيد للوعي الديني في العالم ، وفي كلِ مراحل التاريخ ، في حين إنه يمثل تجربة بشرية معينة ، ولها من العمر ألفين من السنين ، كما إن تجربة الإنسان الدينية على مدى مئات الآلاف تقوم على تنوع الآلهة والمعبودات والأديان والمذاهب . وهذه المعلومات أصبحت بديهية ولكن علي شريعتي لا يقوم بدرس تاريخ الإنسان الديني المعقد ، ويقوم بتبسيطه تبسيطاً مؤدلجاً ، لكي يضعَ داخله مسلماته الدينية المسبقة ، وهذه الطريقة من البحث قد لا نراها فيما يلي من منهجيته ، ولكنها هنا تقوم على قراءة لا تاريخية للأديان ، فتلغي التوحيدَ كذروةٍ لتطور الدين في منطقة المشرق ، فحين لا ترى جذوره وتجعل تاريخ الدين واحداً ، تنفي المجاهدات والنضالات الطويلة التي تشكلت للخروج من الطوطمية وعبادة الأسلاف والأجداد وعبادة الكواكب والنجوم والأصنام الخ . . إن هذه العبادات مثلت تطور عبادات القبائل بصورة طويلة معقدة ، في المناطق الزراعية خاصة : مصر ، العراق ، سوريا الخ . . ثم جاء الدينان التوحيديان من القبائل الرعوية التي كانت مغايرة لهذا التكوين الزراعي ، ونظراً للمهام التوحيدية السياسية التي كانت أمامها . وتمثل هذه التواريخ مادة دراسية أولية منتشرة ، فنستغرب كيف لا يتمكن باحث كالدكتور علي شريعتي من الإحاطة بها . وبغض النظر عن المطامح الأيديولوجية المسبقة فإن للبحث العلمي موصفاته المختلفة . لكن هذه العملية تعبر عن طريقة التجريد التي يلجأ إليها شريعتي لفرض وجهة نظر مسبقة ، وهي طريقة ستكون إحدى أداتين يلجأ فيهما لقراءة التاريخ ، أو بالأحرى في توظيفه لصالح موقفه السياسي الراهن وقتذاك . والأداة الثانية هي شحن هذا التجريد بمادة ملموسة وحقيقية منتقاة ، وهي لا تتضاد مع ذلك الموقف ولكنها أيضاً تكشف وقائع حقيقية وصراعات موضوعية ، لأنها وليدة مادة التاريخ الحقيقي ، وبهذا تجري عملية فكرية مركبة ، فيها الحقيقي المنتقى الموظف لصالح الموقف الإيديولوجي ، وفيها القطع عن جذور التاريخ وصراعاته الشاملة . إن الموقفَ السياسي الديني الراهن لشريعتي يحكمُ قراءة التاريخ ، وهو موقف ينطلق من ظروف إيران ومن مذهبها الديني السائد ورموزه وتاريخه ونضالاته العظيمة ومن كونه شكلاً من أشكال الوعي القومي ويعبر عن فئات وسطى في مخاض بين كونها تابعةً للإقطاع الديني ، وكونها برجوازية ، بين رؤيتها للعالم من خلال المذهب ، ورؤيتها له من خلال بعض جوانب العلم ولغة التحديث . في المنهج وتناقضاته تناقضات الفئات الوسطى الإيرانية ، في محاولاتها لإيجاد جذورها الجديدة ، ولقراءتها المتعينة للتراث ، وللسيادة على الطبقات الأخرى ، ولتبعيتها للإقطاع وعدم قدرتها على الاستقلالية الفكرية في ذلك المخاض السياسي ، مخاض حركة تحرير إيران بقيادة رأسيها الطالقاني وبازركان ، حيث بعدُ لم يتضح الصدام بين الفئات الوسطى والإقطاع الديني ، حيث بعدُ لم يتضح القائد : الدين التقليدي أم العلم ، القرون الوسطى أم الحداثة ، الاستبداد أم الليبرالية ؟! في منهج شريعتي هذا المخاض الفكري والسياسي .
دينـــــــــــــــــــــــــان :
في كتابه ( دين ضد الدين ) يفرق علي شريعتي بين نمطين من الدين ، نمط الدين القديم ، ونمط الدين الجديد ، فالصراع في رأيه ليس بين الدين بشكل عام ، واللادين ؛ فهو لا يتصور وجود فترة انتشرت فيها التصورات اللادينية ، فحتى الدهرية التي أنتجها الوعي الإيراني على مدى عدة قرون ، تتضاءل في تصوره وتشحبُ ، لأن هذا الوعي لا يصور التضادات بموضوعيتها المباشرة ، بل يصورها داخل قالبه الإيديولوجي ، بل بين الدين والدين ، بين الدين في سيرورته الدائبة ، باعتباره الحركة الفكرية الوحيدة في التاريخ البشري ، فكل ما عدا الدين هو شيء خارج الوعي الإنساني ، ولهذا فالصراع لا يتشكل إلا بين صورة قديمة للدين وصورة جديدة . يظهر الدينُ بصورةٍ جديدة حين يكون ديناً ثورياً مضاداً لدين قديم محافظ يعبر عن قوى الأقلية المتميزة . (الدين الثوري هو دين يغذي اتباعه ومعتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما يحيط بهم من بيئة مادية ومعنوية ، ويكسبهم شعوراً بالمسؤولية تجاه الوضع القائم يجعلهم يفكرون بتغييره) ، ( 3 ) . وهذا الدين الثوري في تضاد مع ( الدين الذي أنكر دائماً مسؤولية الناس وحقهم في تقرير مصيرهم وبرر الوضع الظالم عبر التاريخ مستغلاً بذلك معنويات الناس وشعورهم الديني القوي الخ . .) ، ( 4 ) . يحددُ شريعتي التضادَ بين الدين الثوري الذي يعمل من أجل التغيير والدين المحافظ الذي يوقف تطور الأوضاع ، عبر لغة رغم ملموسيتها ، فهي لغةٌ مجردة ، فلا نعرفُ الأسبابَ التي جعلت الدين الثوري يختلف عن موجات الدين الثورية السابقة عبر التاريخ ، إلا بعبارات أخلاقية فهو دين زود معتنقيه برؤيةٍ نقدية ، لكن لا نعرف القوى الاجتماعية التي ظهر معها هذا الدين ، أو الفلسفة الخاصة التي شكلها ، بحيث ينتجُ علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة ، فهو دينٌ ثوري لكنه لا يقوم باستبدال علاقات اقتصادية واجتماعية متخلفة ، بعلاقات أخرى جديدة بحيث تؤدي إلى تطور نوعي في التاريخ ، و بحيث لا يصبح كثور الساقية . أما الدين المحافظ في تحليله فهو يبررُ الوضعَ القائم ويمثل أقلية استغلالية ، لكن لا نعرفُ أيةَ قوى وعلاقات اقتصادية و اجتماعية يعبر عنها الدين المحافظ ، فنجدُ تحليلاً ، ولكن مجرداً ، بحيث إنه يقول إن الدين الثوري يتحول إلى دين محافظ ، ثم يظهر دينٌ ثوري آخر ، في مواجهة المحافظ وهكذا دواليك دون أن يحدث تراكم وتحول يستبدل هذه اللعبة التاريخية ، فلا نعرف لماذا تستمر هذه العملية ولا جذورها الاجتماعية . إنهُ في مثلِ هذا العرض الموجز لا يقدمُ لنا لوحةً تاريخية تجسدُ التطورات المفصلية ، لأن اللوحةَ التاريخية الملموسة المشخصة ، سوف تضعنا على التضاريس الموضوعية . فقد كانت العبادة الأولى لأهل منطقة المشرق هي عبادة الآلهة المفارقة الكثيرة المعبرة عن تلاوين القبائل والشعوب ، وحين ظهرت عبادة آلهة الخصب كتموز وأوزوريس ، كانت في مواجهة الآلهة الوثنية المفارقة ، آلهة الحكام المتسلطين ، ولكن الحكام المتسلطين والمستغلين ما لبثوا أن دخلوا في تلك الآلهة الجديدة الخصوبية وجيروها لمصلحتهم ، حتى ظهرت المسيحيةُ تتويجاً مناطقياً مشرقياً لذلك ، ومحاولة من شعوب المنطقة لطرد الغزاة الرومان ، ولكن الرومان الحاكمين صاروا مسيحيين ، وحين جاء الإسلام ليُبعد الملأ الأرستقراطي عن السلطة ما لبث الملأ أن تغلغل في الإسلام وسيطر على دولته الخ ( 5 ) . إن اللوحةَ التجريدية التي يرسمها شريعتي لتطور الوعي الديني في العالم ، نحاولُ أن نركزها في منطقة المشرق ، وكذلك نضعها في سياقها التاريخي ، وهي إذ تتكلم عن أربعة آلا ف سنة ، توضح خطورة التفاصيل والنمو المعقد للوعي و البُنى الاجتماعية . إن هذه اللوحة المركبة لم تكن تنمو بهذه الصورة بشكلها التبسيطي ، ولكن لتطور طويل ومعقد . إن الصورة التي يرسمها على شريعتي لتطور الدين في المشرق هي صورة تبسيطية ، فالأمر ليس صراعاً بين التوحيد والشرك على مدى هذا التاريخ الطويل ، فالموجاتُ الدينية السابقة منذ فجر التاريخ كانت غير توحيدية ومتعددة الآلهة ، والمسيحية هي ديانة ثالثوية على سبيل المثال ، واليهودية والإسلام سبق أن عرفنا جذور توحيديتهما في مواجهة وثنية مفتتة للكيان السياسي ، ( 6 ) . إن كل ديانة جديدة لها جذور في حياة الناس لا بد أن تكون معارضة ، سواء كانت وثنية أم توحيدية ، لأن الديانة القديمة تكون قد تكلست وراحت تبرر وضعاً سياسياً واجتماعياً صار معيقاً للتطور ، ولكن القوى الجديدة بعملها النضالي لتغيير الظروف ، تستخدمُ الدينَ بأشكاله العبادية وبالغيبية الفكرية وبانتقاداته الاجتماعية ، وهذه المنظومة من العبادات والأفكار تقوم بإزاحة مستوى متخلفٍ من الوضع الاجتماعي ، لكن لا تستطيع أن تلغي الاستغلالَ ، فتجد القوى المحافظة التي عارضت الأفكار الدينية إن من مصلحتها أن تساير الموجة بل وأن تؤمن بها ، لكون الدين لم يعرض إزالتها وإزالة استغلالها ، بل هو يركز على عبادات جديدة ، أي على أشكال غيبية مشتركة بين كافة المؤمنين بها . وهكذا فإن الدولة الرومانية لم ترفض المحبة المسيحية وأعلنت إنها دين الحق ، وقامت باستيعاب أشكالها العبادية وتعميد ثالوثها الديني ، أما جوهرها كثورة للعبيد فقد تم دفنه ، لأن المسيحيةَ لم تتشكلْ على هيئة برنامج سياسي اجتماعي محدد ، حيث كان الوعي الديني هو شكل الوعي السائد . إن الدين هنا يعبر عن جوانب روحية واجتماعية وسياسية كثيرة ، ولكن جوهر ظهوره كثورة اجتماعية ، يتم تغييره من قبل القوى المسيطرة ، التي تتسللُ إليه بعد قوته وانتشاره ، وتتوجه إلى مضمونه وتنتزعه وتبقي أشكاله المختلفة . ولهذا فإنه تحدث عمليات ظهور للمذاهب تقوم بمحاولة استرجاع ذلك المضمون أو تطبيق معناه الجوهري في ظروف أخرى ، وبكلمة فإن الدين يقع في مجرى الصراع الاجتماعي معبراً عن صراع معقد بين القوى المختلفة . لكن شريعتي يضع التاريخَ في صراعٍ دائم وأبدي بين التوحيد والشرك ، وحين يطبق هذه المقولة على التاريخ الإسلامي نــُصاب بالفجيعة ، فهو يواصلُ تطبيق هذه المقولة على تاريخ المسلمين نفسه بعد أن آمنوا جميعهم به ، وهو يختار اتجاه الفقراء والمعدمين كعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر ليقول إن هؤلاء هم المسلمون الحقيقيون ، في حين إن الأغنياء ليسوا هم من المؤمنين الحقيقيين والمسلمين ، بل هو يراهم مستمرين في اتجاه الشرك ! فهنا إسلام حقيقي وهنا شرك متوارٍ ، فالفقراء والمستغلون والأئمة المجاهدون معهم هؤلاء هم الإسلام ، وغيرهم غير مسلم . ويطابق شريعتي هنا بين الفقر والعذاب والإسلام ، ويطابق بين الغنى والثقافة ، بين الرشيد وأبن المقفع ، وبين الشرك واللاإسلام . هنا يحاول شريعتي تمديد فكرة صراع الدين والشرك على تاريخ المسلمين ، بعد أن تجاوزوا مرحلة الشرك ، وهذا التمديد يذكرنا بأفكار الحركات الدينية المتطرفة في وصف المسلمين بالجاهلية والكفر ، حيث لا يتم الاعتراف بتعددية الاتجاهات الاجتماعية والفكرية بين المسلمين ، وإنهم لا بد أن يكونوا في مذهب قويم واحد ، وفي اتجاه سياسي واحد . لكن ما هو سبب وقوع مفكر يفترض فيه أن يكون ديمقراطياً بخلق اتجاه واحد وبتكفير المسلمين الآخرين؟ لا بد أن نقول هنا إن شريعتي يستهدف المطابقة بين الإسلام والثورة المطلقة ، أي أن يقوم الإسلام في ظروفه تلك بإزالة الاستغلال والفقر ، وإيجاد مجتمع من المساواة والعدالة الأبدية ، وهو أمر خيالي . يقود الوعي المذهبي بصورته الشمولية علي شريعتي في إنتاج مقولات العزل والإقصاء بدوافع نبيلة ، بدوافع الدفاع عن المستضعفين والفقراء ، فحين يطابق بين الإسلام والثورة المطلقة التي يجب أن تستمر مزيلةً الفقر والجوع والاستغلال ، ينطلقُ من وعي مثالي لا يضع الدين في الظروف الموضوعية التي ظهر فيها ، فالثورة الإسلامية التي انطلقت للوحدة السياسية في جزيرة العرب ، قامت على تحالف اجتماعي واسع بين تجار مكة المتوسطين والعامة وخاصة أهل البادية ، وحين حققت الثورة أهدافها في تشكيل دولة ، لم تعد تخص تحالفاً اجتماعياً مضطهداً ، بل غدت معبرة عن كل طبقات المجتمع ، الفقراء والأغنياء . لقد تمت أسلمة المجتمع ككل ، وبالتالي كان يُفترض أن تكون الخلافات الاجتماعية والفكرية ، خارج المقولات الدينية ، وأسس الدولة ، وأن تطرح الأحزاب هوياتها الاجتماعية ، فإذا كان الخوارج يعبرون عن رعاة الجزيرة وبدوها ، فإن آخرين يعبرون عن تجار مكة أو أشراف المدينة ، ولكن ذلك لم يحصل نتيجة لطبيعة الوعي والظروف الموضوعية ، فكلٌ يقول بأنه الإسلام الحقيقي ، وغيره خارجه ، وهكذا تنامت عمليات الصراع الاجتماعي والقومي عبر المقولات الدينية الشمولية ، التي يريد شريعتي استمرارها بعد كل هذه المحن والدروس . كانت المشكلةُ هي الإيغال في التميز الديني ، ففي المرحلة الأولى كان الاعتدال الديني سائداً ، نظراً لغياب نظريات التكفير ، ولكن ظهر أناس قلة يعتقدون إن الأمويين وبعض الأسر الغنية في الحجاز هم كفار ، وخارجون عن الإسلام ، بدلاً من أن يقولوا إنهم حكام ظالمون ومستغلون ، لكن تلك القلة ، وشريعتي يواصلُ نهجها ، اعتبرت هؤلاء المستبدين المستغلين غير مسلمين ، فكان لا بد من التطرف في الدين ، والتمايز الشديد عنهم ، بحيث كان الإيغال في التعصب هو الموجات التالية . وهذا ما استفاد منه المسيطرون في كل طائفة وجماعة ، حيث تدعي كل واحدة منها ، إنها تمثل الإسلام ، ويقوم أربابُ هذه الطوائف بخلق الأسيجة حولها ، وشحنها بالتعصب والمظاهر العبادية المتميزة ، وشريعتي نفسه يقول : (.. واليوم لجأتُ إلى بيت فاطمة المهجور هرباً من أولئك الطواغيت وتلك القصور والمعابد والخزائن فوضعتُ رأسي على جدار هذا البيت ولم يخدعني منذ ألف وأربعمائة أي كافر ومسلم فان في هذا البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين وزينب. إلا أني أرى قوماً جعلوا من هذا البيت حانوتاً لمصالحهم وجعلوا من هذه الكعبة – القبلة التي حررتني قبل خمسة آلاف عام من الرق والجور والجهل – قاعدة للجور والجهل .) ، ( 7 ) . وهو يقول أيضاً: ( نعم ، لقد لعبت الأديان الرسمية دائماً دوراً طبقياً قذراً ضد الناس والإنسانية ولصالح الطبقات الحاكمة) ، ( 8 ) . وبما أن المذاهب الثورية تتحول إلى مذاهب رسمية ، فتقوم بهذا الدور ، فكيف السبيل إلى الخلاص ؟ كيف نعيدها إلى إنسانيتها دون أن نفصلها عن السلطة الرسمية واستغلال الناس ؟ ! إن شريعتي وهو يفصلُ الثورةَ عن الإنتاج المادي ، يعلقها في فضاء ديني مثالي ، فكيف يمكنُ تطويرَ المجتمع العربي الإسلامي الأول دون نمو التجارة والحرف وبالتالي نمو الاستغلال ، لكن أية أشكال من الاستغلال يمكن أن تكون مغيرة ومحدثة للمجتمع ؟ لقد اتجه العربُ والمسلمون إلى الاستغلال السهل : الفتوحات والاسترقاق وعبودية النساء ، بدلاً من تطوير الحرف والمصانع والعلوم ، وحتى هذه ارتبطت بهيمنة الدول الشمولية على الخراج وإضاعته وتبذيره في المتع والترف الخ . . أي أن القوى الاجتماعية المتضررة لم تقم بالتوحد وجعل الموارد الاقتصادية موجهة للإنتاج والعلم وللحاجات الطبيعية والعامة ، وهكذا فإن الاستغلال الزراعي ومساربه نحو البذخ ، وليس إلى تطوير الحرف والعلوم ، هو الذي قاد المسلمين نحو التدهور المذهبي والسياسي ، ولو كان استغلالاً صناعياً ، لكان الأمر مختلفاً . ألم يكن ذلك من مسئولية الفرق الدينية ، التي وجهت نشاطها إلى المزيد من الغيب والعزلة ، بدلاً من أن توجه وعيها لنقد الحياة وتوجيهها نحو التحديث والتصنيع والعلوم ؟ ! ككل الشموليين العرب والدينيين يرفض علي شريعتي المرحلة الرأسمالية ، رغم أطروحاته الموضوعية في فهم الحداثة ، وتقديره لإنجازاتها ، بخلاف ما هو شائع لدى الدينيين . فهو يقول : ( إن الرسالة التي حملها المفكرون الأحرار في أوربا في صراعهم مع دين القرون الوسطى والتي أنقذوا فيها أوربا من التخلف والرجعية هي الرسالة نفسها التي أخذها أنبياؤنا على عاتقهم عبر التاريخ) ، ( 9 ) . وبطبيعة الحال ، فإن شريعتي هنا يعطي معايير مزدوجة للدين وللعلمانية ، فرغم إنه هو نفسه يعترف بأن الأديان والمذاهب في المشرق تم استغلالها من قبل الحكام والقوى المحافظة ، إلا أنه يرفض أن يلعب دور المفكرين الأحرار الذي حدث في أوربا ، عبر فصل الدين عن السياسة ، ولتوقيف ذلك المسلسل الذي كشفه بنفسه ، وهو مسلسل استغلال الدين من قبل القوى السائدة . فإذا كان التاريخ الشرقي قد استمر يستخدم الدين طوال أربعة آلاف سنة ، ودائماً كان يتسلل الاستغلاليون إلى الدين ويعيدون صياغته لمصالحهم ، رغم تضحيات الأنبياء العظام والأئمة الشهداء والكثير من المناضلين والدينيين المخلصين ، فلماذا الاستمرار في هذا المسلسل ولماذا لا يحدد الدينيون أنفسهم كسياسيين منفصلين عن القداسة الدينية ورموزها ، ويطرحوا برامجهم الاقتصادية والاجتماعية ، بدون تعكز على السلف الصالح ؟ ! فإذا نجحوا في برامجهم السياسية فسيكون ذلك نصراً لتيارهم الديني ، وإذا فشلوا واستغلوا مناصبهم فسيقع ذلك على أشخاصهم . إن شريعتي لا يطرح ذلك أبداً ، لأن منهجه مصمم على استئصال الآخر ، أي على صراع الإيمان ضد الشرك ، وهو أمر يقوده إلى الصراع مع المسلمين أنفسهم ، بدلاً من أن يبرمج هذا الإيمان ، أي يقول ماهية أهدافه العملية في الاقتصاد والسياسة ، بحيث يتحول إلى برنامج كفاحي للمعذبين والمستغلين ، بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم . إن برنامج العصور الوسطى يظل ملتصقاً ببرنامج شريعتي ، برنامج الشكل المذهبي للكفاح ، وبرنامج العجز عن تكوين طرح إسلامي عام وإنساني مشترك . ويكمن في ذلك عدم القبول بضرورة التشكيلة الرأسمالية ، ولتجاوزها ، أو لتجاوز قوانينها وهي : الحداثة ، و الديمقراطية ، والعلمانية ، فهو يريد أن يقفز عليها . لهذا فهو يريد أن يقفز على هذا التطور فيؤجج : ( الروح الثورية والهدف المقدس والنزعة الشعبية المطالبة بالعدالة والمناهضة للاستعمار والرأسمالية برسالة التوحيد التي طالما ناهضت الشرك بمختلف أشكاله الفكرية منها . . لنصل إلى الغاية الكريمة المثلى وهي المساواة بين الناس في توزيع الثروة . . ولكي نثبت للجميع أن النظام الرأسمالي يجزئ الإنسان ويمسخه ويمثل به وان الدين الذي يدعو الإنسان إلى التكامل والتحلي بالقيم الأخلاقية المتعالية لا يمكن أن يبقى في هكذا نظام ) ، ( 10 ) . يتضح هنا عدم القبول بالرأسمالية من مواقع الثورة والرفض للاستغلال ، وهو أمر إيجابي ، ولكن التشكيلة الرأسمالية ليست اختيارية بل إجبارية ، ولا يمكن أن تزول بوصايا أخلاقية ، بل عبر النضال داخل قوانينها الاقتصادية والاجتماعية ، ومن خلال نضال طبقاتها العاملة والمفكرة والمنتجة ، ولكن إذا لم تتشكل هذه القوى الاجتماعية وتمارس كفاحها وتخلق منظماتها وتجربتها وقيمها ، كيف يمكن أن يتشكل زوال الاستغلال ؟ بالنسبة لعلي شريعتي فإن الأفضل هو عدم دخول التشكيلة ، لكي يبقى الدين كمنظومة خارج التاريخ المعاصر ، أو بالأحرى ليبقى الإقطاع المذهبي مانعاً من تكون الطبقات وصراعها داخل الطائفة ، وليظل رجالُ الدين الطيبون سائدين فيها . هذه ليست خلاصة مقحمة بل هو التتويج لمجمل المنظومة الفكرية ، وهو أمر تشكل في تجربة إيران الأخيرة عبر هذا الوعي السابق عليها. يقول علي شريعتي: ( الاستبداد هو من المعالم الطبيعية التي تتسم بها هكذا حكومة ، لأن رجل الدين سيشغل منصب خلافة الله وتنفيذ أوامره في الأرض . وفي هذه الحالة سوف لا يكون للناس حق إبداء الرأي والانتقاد والاعتراض ، فالزعيم الديني يعطي لنفسه حق الزعامة والقيادة مرتكزاً على قيمته واعتباره الديني لا على قيمة وآراء الناس وانتخابهم . إذن هو حاكم غير مسؤول وهذا النوع من الاستبداد هو أسوأ أنواع الاستبداد والدكتاتورية الفردية) ، ( 11 ) . إن هذا رفض واضح للحكم الديني الشخصي المستبد ، وهو أمر يعبر عن فكر شريعتي المناهض للحكم الديني الفردي ، وليس لحكم المؤسسات الدينية أو الحكم الفردي المستند إلى هذه المؤسسات ، وهو الأمر الذي قامت به القوى الدينية في إيران عبر تضفير دكتاتوريتها بمؤسسات منتخبة مهيمن عليها . ويطرح شريعتي الاستبداد هنا كحالة فردية وغير منتخبة من قبل الناس ، لكنه يقصد الحالة السياسية المعاصرة ، لأنه يؤمن بالإمام المعين ، كجزء من وعي الأثني عشرية ، ولهذا يستنكر ( مبدأ البيعة والشورى والنظام الديمقراطي في الحكم ) ، ( 12 ) . وهذه التناقضات تعبر عن وعي الإقطاع المذهبي وهو يحاول الجمع بين الأنظمة المتضادة ، فمن جهة يحاول الإبقاء على هيمنته على الجمهور المؤمن ، وهذه لا بد لها من دكتاتورية ، ولكنه من جهة أخرى ، لا يناقض التحديث والرأسمالية بشكل مطلق ، بحيث أن لا تدمر سيطرته ، وهذه تحتاج إلى مؤسسات منتخبة من قبل هذا الجمهور المؤمن المطيع . ولهذا فإن شريعتي يرفضُ الواقعَ التاريخي المعروف بوجود مؤسسات دينية متنفذة عبر التاريخ الإسلامي، ( أما الإسلام ، فلا يمكن إثارة هذا الأمر فيه لأن المجتمع الإسلامي لا يوجد فيه رجل دين بالمعنى الذي نراه في الأديان الأخرى.) ، ( 13 ) . ونظراً لتعبير شريعتي عن وعي الإقطاع المذهبي الذي لم يتحدث بشكل كلي ، فهو لا يرى تناقضات الداخل المذهبي ، بل يرى الطائفة كتجسيد للحقيقة والعدالة ، كتماهٍ مع المطلق، وبالتالي تنتفي السيرورة الاجتماعية وقوانينها داخلها ، ومن هنا لا يرى تداخل رجال الدين والإقطاع ، ولا يرى تحولهم إلى شريحة من هذه البنية الاجتماعية ، وهي شريحة تؤبد نظام الاستغلال التقليدي ، وتعجز عن إعادة إنتاجه في شكله الرأسمالي الحديث المتطور ، على الأقل في زمننا هذا ، ولهذا تتطابق أحكامها الفقهية والسياسية معه ، وتتصور إن رؤيتها أبدية ، رغم إن شريعتي نفسه ، يرفض التقليد الفكري ، قابلاً التقليد الفقهي ، داعياً المؤمنين إلى التجدد الفكري والتنوع ، وهذا جانب تجديدي جزئي ، محكوم بدولة دينية . إن وعي علي شريعتي يعبر عن وعي هذه الشرائح من الفئات الوسطى التي استفادت من الثقافة الديمقراطية المعاصرة ، لكنها ظلت تابعة فكرياً واجتماعياً للإقطاع ، خاصة إن نمو هذه الفئات هو بين القوتين الأساسيتين للإقطاع : القوة الحاكمة السياسية ، والقوة الموالية المعارضة الدينية . في حين إن الطبقة البرجوازية غير قادرة أن تكون طبقة مهيمنة بسبب غيابها عن الإنتاج الصناعي . إن معارضة هذه الشرائح الوسطى للحكم المطلق يقودها إلى البحث عن قوى بديلة ، لا تجدها في فكر عصري قوي وفعال في مناخ إيران السابق ، ومع قيام الحكم المطلق بضرب كافة التجليات الحديثة للمعارضة ، وإنعاشه للمؤسسات الدينية ، تتوجه تلك الشرائح إلى التبعية الفكرية للإقطاع المذهبي . إن فكرها في هذا الحصار الأمني والسياسي لا يمكن أن ينمو إلا مموهاً ، وحيث يمثل الوعي الديني مظلةً تاريخية عريقة ، مثلما تتشكلُ شرائحُ البرجوازية المعاصرة من أموال وصفقات الدولة ، أو من العقار والزراعة وسوق المؤمنين ، فتظهر الفئات الوسطى التابعة للدولة ، والفئات التابعة للإقطاع ، ومن هنا تتشكل جبهة تحرير إيران برأسين ديني وعصري ، ومثلما يضطرب خطاب شريعتي بين الدين التقليدي والحداثة ، لكن هؤلاء وقد فعلوا الإقطاع المذهبي يقوم بالتهامهم فيما بعد ، ليجعل الفئات البرجوازية تابعة ، لكن الصراع لم ينته ، وقد مثل خطاب شريعتي دفعة لنمو دولة الإقطاع المذهبي الشمولية دون أن يقرأ خطورة ذلك على مستقبل إيران .
الوعي بالتاريخ الإسلامي :
ينطلق علي شريعتي من موقف مذهبي وهو يصوغ رؤيته لتغيير إيران في زمن ممتد بين الخمسينيات والسبعينيات ، وهو الزمن الذي حدث فيه انبعاث الهياكل الاجتماعية والفكرية للإقطاع الديني ، وكما أوضحنا سابقاً ، أخذ يجوس بين موقفين في الفئات الوسطى الإيرانية خاصة ، والعربية الإسلامية عامة ، بين إنتاج مفاهيم للفئات نفسها ولم تكن لها سيرورة لتكون طبقة ، وبين التبعية للإقطاع . وتكمن المواقف الأشد صعوبة لهذا المخاض في معالجة التاريخ الإسلامي ، حيث يتوجه شريعتي إلى توحيد و( بعث الأمة ) الإسلامية ، ولكن من داخل إيران وفي ظل وعيها المذهبي وتاريخه الخاص ، مما يجعله يصطدم بالتوجهات التقليدية داخل الطائفة ، وبعملية وعيها ، لهذا تغدو عملية التاريخ الإسلامي لإيران عملية صراعية فكرية وسياسية حادة . وهذا ما جعل التقليديون المتطرفون يهاجمونه باعتباره ( سنياً ) ومشككاً في التاريخ الشيعي ، عبر موسوعته الإسلامية التاريخية ، لكنه يؤكد من جهة أخرى تمسكه بالثوابت المذهبية تجاه حكم الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول ، باعتبارهم مغتصبين لحق الإمامة من علي بن أبي طالب ، لكنه يعترف لهؤلاء بموضوعية الحكم ونزاهته . إذن فإن علي شريعتي يقوم بالتنظير من داخل فضاء المذهب الأثني عشري ، من أجل النهضة والتجديد وتوحيد ( الأمة ) ، ولهذا فهو يطرح تاريخاً خاصاً لهذه الأمة . من أجل هذا يقوم بالمقابلة المتضادة الحادة بين ( السنة ) و ( الشيعة ) ، حيث يحول هؤلاء وأولئك إلى ثوابت وجواهر خارجة عن خريطة التاريخ الموضوعية ، رغم إنه يضعهما في بعض ظواهر هذا التاريخ ، وفي كتابه ( التشيع العلوي والتشيع الصفـوي ) يهاجم من يرفض التعاون مع الدولة العثمانية لمواجهة الغرب ، معتبراً توحد المسلمين ، رغم الاختلافات ، ضرورة هامة لإعادة تشكل الأمة ، ولكنه يرى المذهبين الرئيسين بالصورة التالية : ( وإلى جانب ذلك تحول المذهب السني الذي مثل على الدوام دين الدولة( الرسمي ) إلى مجموعة شعائر طائفية(….) تبرر الممارسات اللاإنسانية للجهاز الحاكم ، وتتبرع بأحكام وفتاوى جاهزة تناغم التوجه الرسمي للحكومات المتعاقبة وسلاطين الغزنوية والسلجوقية والمغولية ، وأضحى الدين بمثابة أفيون للشعب وآلة قمع وتنكيل بكل حركة إصلاحية تهدد مصالح الأقوياء وأصحاب رؤوس الأموال) ، ( 14 ) . ورغم أن علياً يقصد هنا الاستخدام المحدد للمذهب السني في مثل هذه الدول الاستغلالية ، إلا أنه يعمم ذلك على التاريخ الإسلامي بمجمله ، فيغدو الأمر مذهباً سنياً واحداً وحاضراً منذ أيام الخلفاء الراشدين ، مثلما يقول عن علماء الزور في التاريخ الإسلامي عامة ( الذين يستغلون عنوان المذهب السني لتمرير مخططاتهم الرامية بالأساس إلى فرض الهيمنة على مقدرات الشعوب وتبرير أعمال السلاطين) ، ( 15 ) . يظهر التاريخُ الإسلامي في بدء انقسامه في وعي علي شريعتي ، حين حدثت مؤامرة مبيتة ضد الإمام علي بن أبي طالب ، لأبعاده عن الحكم ، وإنكار حقه الشرعي في الخلافة ، ومن هنا بدأ ظهور المذهب السني . وفي الحقيقة إنه كان ثمة صراع اجتماعي وسياسي ، بين مجموعات الصحابة المختلفة ، يعكس رؤى فكرية سياسية متعددة ، فمحور أبي بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم كان يمثل استمراراً لمحور التجار المتوسطين المتعاونين مع الفقراء لتشكيل دولة لا يحكمها الأشراف المتسلطون ، ولهذا ركز هذا المحور على إبعاد الهاشميين عن تسلم السلطة ، فذلك يؤدي إلى احتكارهم أمرين عظيمين هما النبوة والدولة ، كما ركز على إبعاد الأمويين كذلك عن تسلم السلطة . الذي كان يوحد محور أبي بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص هو كونهم كذلك من المشجعين لصعود الأفخاذ القبلية غير الكبرى في قريش ، فالأفخاذ الكبيرة حين ستستلم السلطة لن يكون بمقدور العرب إزاحتها ، وهذا المحذور والحدس قد تحقق فعلاً . أي كان هذا المحور وراء الأفكار الجنينية للجمهورية الإسلامية ، أما أن ذلك كان مؤامرة مدبرة موجهة لطائفة ، ولأجل طائفة أخرى ، فهو وعي زائف وغير تاريخي ، بسبب إن قضايا الطوائف لم تكن تخطر ببال حينذاك . إن الطوائف هي تشكيلات في الوعي والوجود الاجتماعي متأخرة كثيراً عن هذه الحقبة ، أي إن الطوائف لم تتشكل في هذا العصر ، وهي تعود لعصر آخر ، ولكن هذا الوعي الطائفي المتشكل بشكل متأخر ، هو الذي أقتحم تلك الفـترة الأولى ، ودمغها بقراءته . لقد كان الإمام علي بن أبي طالب يمثل محوراً آخر في الصحابة حينذاك ، هو محور الفقراء ، الذين كانوا هم قوة الإسلام الأولى ، والتي تحملت التضحيات ، لكن القوى الاجتماعية الأخرى أخذت تصعد ، وتتنامى ثرواتها وتقترب من السلطة ، كذلك فإن الصحابة الفقراء تبدلت أحوالهم ، ولم يعد هذا المحور قادراً على طرح برنامج سياسي واجتماعي معين في سنوات الخلفاء الراشدين الأولى نظراً لتطابقه مع سياستها ، أما الفئة الوسطى التي كانت هي العمود الفقري لتماسك الحركة الإسلامية وقتذاك فقد تخلخلت مستوياتها وصعد بعضها إلى القمة . إن الحديث عن مؤامرة أو خطة لإبعاد الإمام علي عن السلطة بسبب شخصه ، هو أمر غير محتمل ، لأن الخوف من الحكم الوراثي هو ما كان يقلق الصحابة المؤثرون على مقاليد الحركة الإسلامية في وضعها المبكر ذاك . وفي مقطع آخر فإن الباحث النزيه في شخص علي شريعتي نفسه هو الذي يطرح الدليل على هذا الواقع السياسي الذي يخلو من نظرية المؤامرة المريضة ، فيقول : ( لقد لزم علي جانب الصمت حرصاً على وحدة المسلمين حيال الخطر الخارجي الذي يهدد الجميع من إمبريالية الشرق والغرب في العالم القديم ، ومؤسسو التشيع العلوي فعلوا الشيء نفسه طاعة لإمامهم ، أما أبو سفيان فإنه أبى السكوت مطلقاً ، فالرجل غير مستعد للتخلي عن ولاية علي ) ، وأضاف أبو سفيان ( مال بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟) ، ( ثم قال لعلي أبسط يدك أبايعك!) ، ( فزجره علي وقال: والله ما أردت بهذا إلا الفتنة! ) ( 16 ) . هنا نرى الإمام علياً وهو غاضب لإبعاده عن السلطة ، وهذا من حقه ، ولكنه في ذات الوقت ينتظر ماذا سيفعل الخليفة الأول وجماعته في الدولة ، ويأتي أبو سفيان إليه لتفجير الموقف السياسي وليشخص طابع المرحلة تماماً وهو إبعاد الأفخاذ الرئيسية من قريش عن مركز القرار ، سواء كانت من بني هاشم أم بني أمية ، وليتمكن النظام الوسطي الجمهوري ، من النمو بين هاتين القوتين المتعاديتين الكبيرتين ، وقد قام أبو سفيان الداهية بمحاولة نسف وجود الدولة الإسلامية الجنينية ، وبمواصفاتها الشعبية تلك ، ولتفجيرها من الداخل ، ولكن لو كان الأمام علي هدفه السلطة الشخصية المحضة لسارع إلى قبول ذلك ، ولكنه يؤيد الموقف الصحيح بغض النظر عن من يحكم ومن يمثله ، فيطرد أبا سفيان ! إن موقف أبي بكر وعمر إذن في ذلك المخاض كان متجهاً لتشكيل سلطة منتخبة وشعبية ، بمعنى إنها غير نابعة من احتكار الأشراف ، ولأن ذلك كان مضاداً لطبيعة العرب الاجتماعية وقتذاك ، وبهذا فقد نجحا في تكوين دولة ذات مواصفات غير أرستقراطية وغير متعالية ، وكانت عملية الفتوح الواسعة التي تأثر فيها الشعب الإيراني وانهارت إمبراطوريته ، هو أحد الجراح والأسباب التاريخية لكراهية تلك الفـترة من العهد الراشدي ، أو العقدة النفسية التاريخية لعدم الوصول إلى تقييم موضوعي عنها من قبل الوعي الإيراني ، وتحميل الشخوص والرموز التاريخية ما لا تتحمل ، أو ما لم تفعله . إن هذه الفترة كانت تهجسُ بنمطين من نظرية السلطة لدى المسلمين ، وذلك ما كان يهجس به عمر على وجه خاص ، فما طرحه كان الشورى والانتخاب ، ورفض حكم الوراثة . ولكن النمط الثاني هو الذي انتصر ، نمط احتكار السلطة والثروة بالوراثة ، وتحويل الجمهور إلى خدم للعوائل المالكة . والنمط الأول لم يجاهد المسلمون كثيراً لتجذيره في تاريخهم . لا نعرف الخريطة الاجتماعية العميقة لتطور إيران عبر وعي شريعتي ، فهي تبدو سجلاً لحركات سياسية واجتماعية مستمرة دون أن يتشكل لها تاريخ خاص، وشخصية تاريخية ، فهو يطبق عليها نظرية اجتماعية أوربية عن ظهور حركات تنمو بسبب عدم تحقق أهدافها وهي تخبو بتحقق هذه الأهداف،( 17). والغريب إن إيران هي المعمل الكبير للحركات الثورية عبر التاريخ ، ولم يشهد شعب آخر مثل هذا التطور المثير ، ففي البدء ظهرت الزرادشتية، حين أصبح رجال الدين متداخلون مع الأسرة الحاكمة ومالكو القسم الأكبر من الأراضي الزراعية ، وحينئذٍ فقدت الزرادشتية دورها باتحادها مع الطبقة الحاكمة ، وبدأت حركات أخرى، كالمانوية والمزدكية ، ويقوم شريعتي هنا بقطع الوعي عن الصراع الاجتماعي ، فظهور حركات أخرى تمثل الفئات الوسطى عبر المانوية والفلاحين عبر المزدكية ، هو أمر يمثل جزءً من الصراع الاجتماعي الفكري المتداخل ، وليس شيئاً مجرداً ، كما أن استمرار هاتين الحركتين الأخيرتين في العصر الإسلامي يعبر عن مقاومة القسم الأكبر من الشعب الإيراني للفتح العربي ، وخاصة مع وقوع الملكية العامة في يد عائلات الأشراف . ويستمر شريعتي في عدم دراسة هذه اللوحة المعقدة للتاريخ الإيراني ، فدخول الإيرانيين للإسلام كان يتشكل عبر معارضتهم للاستغلال والحكم المركزي ، أي عبر استثمار تاريخهم الكفاحي السابق العريق ، ولهذا وجدناهم يتبنون وجهات نظر المعارضات الإسلامية المختلفة ، ولم يقفزوا فجأة إلى تبني المذهب الأثني عشري في القرن السادس عشر الميلادي فجأة ودفعة واحدة ، فقد وقفوا مع الهاشميين بمختلف فرقهم ، بل لقد أيد قسم من الشعب الإيراني الخوارج على إعرابيتهم الشديدة ، ثم استطاع الزيديون أن ينتشروا في إيران بسبب كفاحهم ضد الحكم العباسي المستغل ، ولكن الزيديين كانوا دعاة ثورة مستمرة ، لا يقبلون بالقعدة ، مما أدى إلى استنزاف قدراتهم . ثم انتشر التيار الإسماعيلي في إيران لعدة قرون وكان فكرهم يتسم بالتعددية والموسوعية وهو نتاج التطورات الثقافية الكبيرة عند المسلمين ، ولكن كفاحهم كان يتسم بالإرهاب والتآمر ولم يستطيعوا أن يحرروا إيران من السيطرة الخارجية التي تمظهرت في القبائل السنية وأرستقراطيتها . وهكذا فإن الأثني عشرية لم تظهر فجأة في التاريخ الإيراني مع الدولة الصفوية ، بل كانت نتاج التطورات الفكرية السابقة ، وبسبب عجز التيارات المذهبية المعارضة عن إنتاج نظام استقلالي وقومي إيراني ، ولجمع الأثني عشرية بين المعارضة والسرية ، ولنموها التدريجي ثم دورها في تحرير إيران من المغول . ومن المؤكد إن العناصر الفكرية المعادية للعرب كانت مضمرة وبقوة في الوعي الشعبي الإيراني ، وكان الاستقلال عن العرب يلعب دوراً كبيراً في التاريخ الإيراني ، بسبب قيام العرب بهدم الإمبراطورية الساسانية ، ثم بسبب نتائج الغزو والاستغلال الطويل وكل هذه تركت جراحها في اللاوعي العام ، وحين قامت الدولة الصفوية اعتمدت على سياسة مهاجمة العرب وإزالة المذاهب السنية كرد فعل على الاضطهاد الطويل وكمحاولة لتكريس نفسها كمدافعة عن المذهب الجعفري ، وعلي شريعتي يقف هنا ضد هذه العمليات التعصبية من الطرفين المذهبيين ويكرس كتابه عن التشيع العلوي في الهجوم على التشيع الصفوي ودوره في إنتاج عقلية دينية شيعية شكلية وفي التفريق بين المسلمين . نستطيع أن نلخص ذلك كله بالقول إن الوعي الإيراني وهو في استقباله للإسلام كان يبحث عن وجهات النظر المعارضة بشتى ألوانها ، وعلى مدى قربها من قضاياه ، ونظراً لثوريته فإنه يوصل هذه المعارضة المعبرة عن طابع العصر إلى أقصى حالاتها، ومن هنا نرى تتابعها : الخوارجية ، القدرية ، الاعتزال ، الهاشمية ، الزيدية ، الإسماعيلية ، العلوية . وكان لا بد له أن يختلف مع هؤلاء الذين هدموا إمبراطوريته واستغلوا بلده ، وأن يظهر ذلك في الهجوم على رموز الفتح العربي بدرجة أولى . فالأساس الذي حكم تطور الوعي الإيراني الإسلامي هو مدى تعبير تلك الموجات الإسلامية عن مطالب الشعب والعاملين ، وليس هو التطور المجرد في ذاته. فحتى الأثني عشرية في تعبيرها عن الجمهور المستغل الإيراني لم تحسم خيارها الاجتماعي بين الفلاحين والإقطاعيين ، بل إن الإقطاعيين هم الذين سيطروا على إنتاجها ، وتمظهر ذلك في سيادة الدولة الصفوية بشاهاتها وأمرائها ورجال دينها، وفي ذلك يقول شريعتي نفسه : ( التشيع الذي كان (ضد الوضع القائم) أصبح الآن (مع الوضع القائم)، التشيع الذي كان قوة مناوئة لأجهزة الحكم، تحول الآن إلى قوة دعم وإسناد لهذه الأجهزة وبالتالي تبدل الدور الذي يلعبه فالتشيع كان يمارس دوراً نقدياً لسلوك الحكام أصبح يمارس الآن دوراً تبريراً لسلوكيات الحكام وتصرفاتهم !) ، ( 18) . حين يتصور علي شريعتي إن ديناً من الأديان يستطيع أن يعبر بشكل جوهري عن المظلومين وعن تحقيق قضايا العدالة ، بشكل مطلق ، فإن ذلك يتشكل خارج التاريخ ، وإن كان يتلامس مع بعض مواده ، لأن الأديان تعبر عن أنظمة، وعن مجمل الطبقات ، فهي رغم ظهورها كأشكال كفاحية للمضطهدين ، إلا أنها تحولت إلى أنظمة دول ، فيغدو من المستحيل أن تعبر عن طبقات دون طبقات أخرى ، إلا عبر المذاهب التي تستحيل هي بدورها تعبير عن مجمل الطبقات وعن كيانات سياسية جديدة ، وبهذا فإن الدول تتفسخ وتنهار ، وهذه العملية وجدناها في تعبير القوى السياسية والاجتماعية عبر الوعي الديني ، فظهرت المذاهب وانهارت الإمبراطورية الإسلامية . ولهذا فإن تصور شريعتي بإنه يمكن لمذهب أو دين أن يعبر عن المضطهدين ، وعن الطبقات الشعبية دون الطبقات المالكة ، هو أمر غير ممكن ، لأنه سيكون دائماً تعبيراً عن جميع المنتمين إلى هذا الدين ، وبهذا فإن على الصراع الاجتماعي والسياسي أن يبحث عن أدوات أخرى ، غير الدين . لقد كان ظهور الإسلام عند العرب بدا وكأنه تعبير عن العرب فقط ، أو كأنه الشكل الديني لبروزهم القومي ، خاصة مع اعتماده على لغتهم وإرثهم الاجتماعي ، ولكنه مع ذلك صار ديناً عالمياً ، وقد ظلت العروبة في قلبه الفكري والتاريخي ، وكذلك صار ديناً إيرانياً ، وتركياً ، الخ . . فعبر عن تجربة هذه الشعوب وهي تنتقل من العصر القديم إلى الوسيط . فلم يعد ديناً للفقراء أو الأغنياء أو العرب أو الإيرانيين أو الأمازيغ ، بل لهؤلاء جميعاً ، فلم تعبر به القومية السائدة فحسب ، بل المسودة أيضاً ، ولا الطبقة المسيطرة بل المسيطر عليها كذلك ، وبهذا خرج من التعبير عن فئة أو طبقة أو أمة واحدة . نستطيع أن نقول عن ذلك إنه شكل عالمي ، مس كافة الشعوب ، ولكنه شكل كما عبر شريعتي نفسه ، في مواقع أخرى من خطابه ، تستطيع أن تتوغل فيه كافة الطبقات والرؤى ، وخاصة قوى التحكم والتسلط ، وتفرغه من مضامينه الأولى ، وقد حدث هذا في التشيع كذلك هذا الذي كان تعبيراً عن المعذبين والمظلومين كما يقول شريعتي، ( إذن للتشيع حقبتان ، بينهما تمام الاختلاف ، تبدأ الأولى من القرن الأول الهجري ، (…) وتمتد هذه الحقبة إلى أوائل العهد الصفوي ، حيث تبدأ الحقبة الثانية والتي تحول فيها المذهب الشيعي من تشيع حركة إلى تشيع حكومة ونظام .) ، ( 19 ) ، وهو أمر يثبت إن كل دين وكل مذهب يتمكن الأغنياء والمتسلطون من تبديل مضامينه ودلالاته ، ولكن شريعتي لا يستنتج استنتاجات علمانية من هذا التاريخ الديني المؤدلج ، بل يصر على استمرار استخدام الدين في الصراع السياسي ، وقد عبر هو بذاته عن هذا التغلغل والتحكم حتى في تاريخه المذهبي . فهاهو التشيع الصفوي يتحكم عدة قرون في إيران موجهاً تاريخها الفكري والسياسي نحو الصدام مع المسلمين الآخرين ، يقول : ( المهم والمشكل إن المذهبين لهما نفس الأصول ونفس الفروع، ذلك إن التشيع الصفوي جاء وأرسى دعائمه على هيكلية مضاهية لهيكلية التشيع العلوي، واستعار نفس القوالب الفكرية والعقائدية لهذا التشيع بعد أن أفرغها من مضمونها ومحتواها ) ، ( 20 ) . وهكذا تقوم كلُ سلطةٍ بهذه العملية التفريغية للأفكار الثورية والدينية ، فلا يكون الحل إلا بالديمقراطية والعلمانية وهي القسمات التي نبعت من محاولة تجاوز مشكلات الدولة الدينية والدولة (الإيديولوجية) الشاملة ، ولكن شريعتي يصر على استمرار محاولة تنظيف الدولة الصفوية ومذهبها وإعادة إنتاج دولة شيعية من نمط مختلف . يحاول شريعتي في كتابه ( التشيع العلوي والتشيع الصفوي ) أن ينظف الفكرة الشيعية النقية من التلوث الإقطاعي الصفوي ، حين استطاع الصفويون جعل المذهب الإثناء عشري هو مظلة الدولة الفكرية الإيرانية ، فمن جديد استطاع الحكام والمستغلون من تحويل المذهب الثوري إلى مذهب محافظ ، ولهذا يقوم شريعتي بنقد الممارسات الشكلية لهذا المذهب التي جعلتها الدولة الصفوية الشكل الوحيد لتجليه ، مبعدة معاناة الأئمة وكفاحهم من أجل الناس، من أجل أن يعود التشيع العلوي الحقيقي ، وأن تتم إزالة الاستغلال عن الشعب باعتبارها القضية الأولى في الدولة والمذهب ، موجهاً نقداً مريراً للممارسات العبادية . إن شريعتي يحمل كل أحلام المناضلين عبر القرون لإزالة الظلم واللامساواة موقناً بأن مثل هذه الأحلام ممكن أن تتحقق فقط عبر المذهب العلوي ، لأنه كرس في كل تاريخه هذه المعاناة ، ولكن هو بذاته ينقد ثلاثة قرون من هيمنة الصفويين على المذهب وتحويله لمصلحة المسيطرين على الدولة والإقطاعيين السياسيين والدينيين ، نظراً ليس لنمط العبادات التي يعبر فيها المؤمنون عن معاناتهم ووحدتهم ، بل لغياب التمثيل الديمقراطي للطبقات المختلفة داخل المذهب والدولة . فحين يعبر دين أو مذهب عن مجمل الطبقات ، فهذا لا يعني سوى سيطرة الأقوياء والأغنياء من داخلهما على توجيه الدين أو المذهب واحتكار معانيهما وغلاتهما الاقتصادية . في حين إن الطبقات الفقيرة تكون هي المستغلة والمضطهدة والمبعدة عن السلطة ، وهذا ما كان يؤدي إلى تفكك الأديان والمذاهب . إذن تغدو الديمقراطية والعلمانية هي السبيل لحماية الأديان والمذاهب من المتاجرة بهما ، وفيهما تستطيع الطبقات المختلفة أن تدافع عن مصالحها المتنوعة ، وبطبيعة الحال فإن الطبقات المسيطرة الاستغلالية التقليدية لا تريد أن يتشكل مثل هذا النظام السياسي ، كما أن الطبقات الفقيرة لا تعي ذلك مؤقتاً ، ولكن الصراع الاجتماعي وتباين المصالح يدفعها لإدراك ذلك والنضال من أجله . كما أن ذلك هو الذي يوحد الطبقات العاملة و المالكة في كياناتها الموضوعية ، ويوحد الوطن والأقطار الإسلامية في نضالها المشترك . إن رفض الدينيين الحاليين الاعتراف بتنوع المصالح ، وبالتالي بالديمقراطية ، داخل الطوائف والأديان ، يتماثل والأنظمة الدكتاتورية الدينية والسياسية الراهنة ، التي تعبر عن لغة القرون الوسطى، ونظام الإقطاع ، وتفكيك الشعوب والأمم الإسلامية إلى خنادق طائفية ، نظراً لنظام استغلال متخلف . ويمثل خطاب شريعتي هنا تلك المرحلة من الوعي الإيراني الذي يحاول مواجهة الدكتاتورية السياسية الحاكمة ، دون تجذير الديمقراطية في الخطاب الديني ، مما يؤدي إلى خلق دكتاتورية سياسية حاكمة جديدة ، بل هي دكتاتورية جمعت بين الدكتاتوريتين السياسية والدينية ، مما يقود إلى آفاق خطرة للشعب . إن الخطاب التحديثي عند شريعتي للمذهب ، وللتطور الديني والسياسي ، يركز على هوية جوهرية للمذهب خاصة ، باعتباره وعياً خارج السيرورة التاريخية والتناقضات الاجتماعية ، وعياً يمكن أن يجمع الأطراف الاجتماعية المتضادة ، وعياً يعبر عن المناطق التي لم تصبها التغيرات الرأسمالية العميقة ، فتحاول الإبقاء على تكويناتها ما قبل الرأسمالية ، فتقوم بتحديث أشكال السلطة السياسية والدينية الإقطاعية ، بشكل يكفل الحفاظ على ديمومتها . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
46 – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، 2005.
48 – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.
المصادر : ( 1 ) : ( علي شريعتي وتجديد التفكير الديني ، دار الأمير ، بيروت ، ص 93 ) . ( 2 ) : ( علي شريعتي ، دين ضد الدين ، دار الأمير ، بيروت ، ص 34 ) . ( 3 ) : ( المصدر السابق ، ص40 ) . ( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 79 ) . ( 5 ) : ( راجع في هذا الجزء الأول من الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الفصل الأول ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2005 ، ص 30 ) . ( 6 ) : ( المصدر السابق ، نفس الفصل ) . ( 7 ) : ( دين ضد الدين ، ص189 – 190 ) . ( 8 ) : ( المصدر السابق ، ص152 ) . ( 9 ) : ( المصدر السابق، ص 80 ) . ( 10 ) : ( المصدر السابق، ص157 ) . ( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 122) . ( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 172 ) . ( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 123) . ( 14 ) : ( التشيع العلوي . . دار الأمير ص 31 ) . ( 15 ) ( المصدر السابق ، ص30 ) . ( 16 ) : ( المصدر نفسه ، ص245 – 246 ) . ( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 54 ) . ( 18 ) : ( المصدر السابق ، ص 222 ) . ( 19 ) : ( المصدر السابق ، ص 63 ) . ( 20 ) : ( المرجع السابق ، ص 247 بتصرف .) .
في الحادي والعشرين من أكتوبر 2014 خسرت الساحة الثقافية والأدبية والسياسية والصحافية، البحرين ومنطقة الخليج عموماً واحداً من أبرز روائييها ، كتابها الصحافيين ، باحثيها الجادين ، مثقفيها النقيين ومبدعيها الذين انحازوا لنصرة المعذبيين على البحر واليابسة ، ودفع ضريبة مواقفه وعشقه للحرية والتنوير والانتماء الوطني ، هذا الانسان اسمه عبدالله علي خليفة البوفلاسة. عاش حراً ومات حراً .. مات ولم يملك شيئاً غير مؤلفاته الغزيرة ، ولكنه عاش ولم يتملكه أحد أو يجيره ،ألف أكثر من 60 مؤلفاً بين رواية ودراسة وبحثاً نقدياً في الأدب , كانت له كتابة يومية للرأي في “الافق ” وتحقيقات صحافية ميدانية وكان مسؤولاً عن تحرير الصفحات الثقافية .. بعد وفاته لا زالت تحت الطبع ثمان روايات جديدة لم تطبع بعد من بينها رواية “رسائل جمال عبدالناصر السرية” ورواية “ابن السيد” وخليج الأرواح الضائعة” بالإضافة إلي الجزء الرابع من سفره الفكري الكبير : “الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية” تحت عنوان ” تطور الفكر العربي الحديث” وكلها تنتظر الولادة . حتى آخر يوم في حياته كان يقرأ بنهم ويكتب بغزارة , فكانت آخر قراءاته رواية “وجهان لحواء” وجدها شقيقه عيسى بالقرب من وسادته وبين اورقها رشوتات المستشفى وعشرة دنانير , هذه الرواية الأخيرة التي قرأها من تأليف “أمريتا بريتام” واحدة من ضمن سلسلة “إبداعات عالمية” للعدد رقم 326 من هذه الإصدارات التي ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب الكويتي . آخر ما خط به قلمه في دفتر مذكراته كلمات توديعية مؤثرة قال فيها : تأتي الريح وتقذفه بعيداً بين أشجار العصافير وأجنحة النسور .. يمضي مع ورق الشجر المتطاير من الصخور وثلل بشرية خريفية تتساقط في المدن.. يشق طريقه تترامي قراطيس كثيفة له في الأزقة . في البناية الرثة (…) كلمة غير واضحة . ربما قصد بها “أشاهد” الحمامات , تعيش في الشقوق وتتزاوج ( يتحث عن الشقة العتيقة التي سكنها طيلة 21 عاماً و المبنى المقابل لشقته حيث كانت الشقوق محاكر للحمام) يخبرنا في أخر كتاباته : ” أخوه يحيط به مثل الشجرة . من أصابعه يظهر الحليب والبيض وأصوات المعادن .(الاواني) الآله تطلقه في الفضاء .. ومليون دواء ،الشارع مغلق.” ( يتحدث عن شقيقه عيسى الذي كان جليسه الوحيد في الشقة العتيقة حتى آخر أيامه ويقوم بخدمته). كتب الروائي اليساري الراحل عبدالله خليفة هذه الكلمات الأخيرة بخط يده وهو يحتضر قبل يوم أو يومين من رحيله على ما يبدو ، واضح من ارتجاف قلمه في يده وتباعد الحروف ، لكنه أبي إلا ان يكتب آخر الحروف بوداع حزين يختزل شذرات حياته بالعطاء الأدبي والفكري والنضالي التاريخي الدائم بعد ان أضناه مرض العضال الذي نتشر في جسده ولكنه لم يستسلم له حتى آخر دقيقة من عمره . هذا الإنسان الرائع والمبدع والنقي الإيديولوجي . بالمناسبة كان عبدالله حين يمتدح شخصاً من رفاقة ومحبيه بم يكن بين الحضور لا يقول “هذا الرجل” بل “هذا الإنسان ” بما فيها من دلالة لا شوفينية ولا قومية ولا أو عقائدية ، كان يكتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر الستينات حتى غدت مؤلفاته في النقد الأدبي والرواية وقضايا الفكر أبرز كتاب الخليج قاطبة غؤارة ومضمونا ، لكنه وللأسف لم ينل التكريم اللائق من دولته ، ومن يقرأ روايته : ”ذهب مع النفط” ويتمعن في سطورها وتحطيم المثقف يعرف السبب ، ومن يقرأ رواية : ”أغنية الماء والنار” وراية “امرأة” و”الينابيع” ملحمة الملاحم و”لحن الشتاء” إلي أخره… فقدنا عبدالله الذي كان شعلة نضال وبرفقته تعرف إنه صفحة للبياض الأول وإنساناً يجاهد الوقت والنسيان ، فلا تنسوه مثلي!… لك الخلد أيها الرفيق الصديق النقي الطاهر .
أن تكتب الأدب في السجن: أحمد البوسطة
عند التفكير بالكتابة عن أدب السجون في البحرين، لا يستطيع أحد تجاوز الروائي والمناضل الراحل عبدالله خليفة وآخرين من شعراء وأدباء وأيضاً نحاتون وضعوا بصماتهم على صخور معتقل جزيرة جدا آنذاك .. ما هي ابتكاراتهم لتحقيق هذا المنجز الإبداعي أو ذاك، وكيف يواجهون الأخطار للحفاظ وتأمين ما أنجزوه حتى يخرج من الظلمات إلى النور… من السجن إلى خارجة بعيداً عن أعيّن الشرطة؟ عبدالله خليفة واحد من هؤلاء، كيف كان يكتب قصصه ورواياته ودراساته النقدية في الأدب والفكر خلف القضبان؟.. على أية ورق يكتب، في حين يمنعه السجان التزوّد بالورق وحتى بدفتر مذكرات، وبأي قلم يكتب والأقلام ممنوعة على المعتقلين وسجناء الرأي والضمير حتى لو كان قلم رصاص طوله أصبع لكتابة خواطره فترة التغييب القسري؟.. كيف كانت تُهرّب هذه الكتابات من داخل السجن إلى خارجه لتطبع على ورق مصقول وتتلاقفها الأيدي سراً خلسة عن الرقيب؟. من الروايات والقصص التي تمّ تهريبها من السجن إلى خارجه طيلة فترة اعتقال عبدالله خليفة الذي استمرَّ ست سنوات منذ الهجمة على الوطنيين بعد حل المجلس الوطني في العام 1975 حتى أفرج عنه في العام 1981 والتي كُتِبَتْ على رقائق غلاف عُلب السجائر: روايات «اللآلئ» و«القرصان والمدينة» و «الدرويش والذئاب»، وهذه الأخيرة لم تنشر بعد، إضافة إلى قصص قصيرة حوتها فيما بعد مجموعة «الرمل والياسمين». يروي أحد رفاقه الذين عايشوه حرارة الأوضاع في السجن، كيف كانت المعاناة لتوفير قلم وأوراق، كنا لا نرمي الأكياس ولا عُلب السجائر وننقل قلم «البنسل» – قلم الرصاص، والاسم الحركي المتعارف عليه بيننا: «حمبوص» من زنزانة لأخرى عبر مخابئ في حمامات السجن الذي نقضي فيه حاجاتنا، نلتقط الإشارات البعيدة عن أعين الرقيب والشرطة. وأحيانا بمساعدة شرطة متعاونين ومتعاطفين مع مظلوميتنا لتأمين الورق والأقلام للمبدعين ومن بينهم الراحل الرفيق عبدالله خليفة الذي كان غزير الإنتاج الإبداعي، نهم في القراءة، له عالمه الخاص، كتُوم، قليل الكلام كثير العمل والاجتهاد ويطلق النكات أحياناً، يلتقط العابر ليوظفه في رواية أو قصة. ما أن يتم توفير بعض الأوراق وجمعها من زنزانة وأخرى حتى يقضي عبدالله عليها، وفي اليوم التالي يطلب المزيد وقلم رصاص آخر حتى أطلق عليه لقب أكبر مستهلك في السجن للورق والأقلام، وأي ورق وأي أقلام، الآن فهمنا، كيف استطاع هذا المبدع والمفكر أن ينتج أكثر من خمسين مؤلفاً، بين رواية وقصة قصيرة وكتب نقدية في الأدب وأربعة أجزاء من كتابه الضخم: «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» وخلال عام من مرضه العضال لم يتوقف عن الكتابة ولديه 15 رواية لم تطبع بعد إضافة إلى 13 رواية لم ينته من كتابة كامل فصولها و بأحجام مختلفة. أثناء المقابلات في السجن مع عبدالله خليفة يتقصد شقيقة عيسى بوضع قلم في جيبه الأمامي بشكل لافت ويتربص فرصة مغافلة الرقيب لتهريبه له. في إحدى المقابلات جلس عيسى في مقابله وجهاً لوجه، بينما والده وشقيقته جلسا على جانبيه، الأيسر والأيمن، كانت عيناه وهو يتحدث إلينا تمعن بحركات تمويهية على القلم وأكاد أرى لعابه يسيل مثل جائع يرى أمامه وجبة دسمة يريد التهامها، يقول عيسى، في ذلك اللقاء حدث شيئاً طريفاً، حيث كان يراقبنا الضابط راشد عبدالرحمن، خرج ثوانٍ لظرف ما لا نعرفه، أغلق الباب وراءه، فقام عبدالله بفتح جورابه ومدَّ رجله أمامي. في إشارة لوضع القلم في فتحة الجوراب، تداركت ببديهية لما كان يريد، فوضعت القلم وكان له ما أراد، أسند ظهره إلى الكرسي وعاد للحديث معنا بارتياح شديد وكأن شيئاً لم يكن. شقيقه عيسى، لا يزال يتذكر.. كان قلم حبر جاف، ماركة «باركر» من أجود أنواع الماركات آنذاك، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. كان عبدالله يكتب نصوصه الأدبية ورسائله التي تصلنا بقلم الرصاص، وفيما بعد يستخدم قلم الحبر الجاف، وأدركت من خلال نصوصه الأدبية الجديدة أن عملية تهريب «الباركر» في جورابه بالرجل اليسرى قد نجحت، فها هو يخط بذاك القلم الذي وضعته بيدي في جورابه.. اجتاحتني فرحة كبيرة وتمنيت أن يسقط مطراً لأمشي تحته كي يُبللني.
«تفخيخ» برواية «اللآلئ»
علم رفاق (ع ج س) قرب الإفراج عنه خلال أيام ففكروا كيف يهربون معه رواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص للصحافي إبراهيم بشمي، قال له أحدهم في يوم الإفراج سنهدي لك بنطلوناً من بنطلوناتنا ذات الجودة بدل بنطلونك «الكحيان» هذا، لتقابل أهلك بهندام نظيف، تبادل معهم الابتسامات البريئة دون علمه بخططهم في تهريب «أوراق ممنوعة» من داخل السجن إلى خارجه. قبل أيام من مقابلة إدارة السجن للإفراج عنه كانوا يخيطون الأوراق الصغيرة في البنطلون الهديّة، رزم من الأوراق، كل فصل من فصول الرواية بجانبه فصل آخر يخاط بإتقان يُبعد الشبهات. تزامن موعد الإفراج عن (ع – ج) مع الانتهاء من «تفخيخ» بنطاله بالنصوص الأدبية، أعطوه رسائل شفوية للقاء شخص ما بالبنطال ذاته كشفرة متفق عليها، وعند وصوله المنزل اكتشف تلغيم بنطاله برواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص بشمي.. فسلم الأمانة إلى أصحابها وكان يضحك على نفسه لعلمه متأخراً عن هدية الإفراج من رفاقه الذين غادرهم إلى فضاء الحرية وهم لازالوا خلف القضبان.
تعتمد الزعامةُ الديمقراطية المتطورة على تطور الشعب وميزاته، فهي نتاجُ الخصائص الذاتية للفرد ومستوى تطور شعبه معاً. وليست هذه الصلابة والأفق السياسي المفتوح والتضحية سوى خصائص تشكلت في مجتمع متطور مختلف عن الكثير من البلدان الإفريقية. وضع المهاجرون الهولنديون الذين يُطلق عليهم محلياً اسم (البوير) الأساسَ الصناعي الحضاري لتقدم هذا الجزء الجنوبي من إفريقيا، الذي اختاروه لطبيعته المعتدلة ولبعده عن العمق الإفريقي ولكنوزه وإطلاله على المحيطين الهندي والأطلسي. احتاج المهاجرون الأوربيون إلى عقود طويلة لكي يتلاءموا ويغيروا هذه الطبيعة الخام لإفريقيا حيث الثروة الزراعية والحيوانية تحتاج إلى جهود طويلة من أجل تطورها، وقد تداخل المستعمرون الهولنديون والإنكليز في عملية السيطرة على هذا الجزء ودارت بينهم حربان، وأَخضعتْ إنجلترا هذه المستعمرة الأوروبية الإفريقية المتداخلة المشاكسة، وحين سيطر عليها البوير تماماً كرسوا نظاماً عنصرياً في منتصف القرن العشرين، مما دلَّ على جذورهم العنصرية الفكرية السياسية، التي أرادت إقامة حواجز غير ممكنة بينهم وبين الشعوب السوداء. لقد تقدمت القبائلُ الإفريقية تدريجياً في جسم البوير السياسي الجغرافي، مقدمةً قوةَ العمل الرئيسية في المهن الصعبة الرثة في البدايات النهضوية، وحين تحول البوير إلى الطبقة الصناعية المالية الحاكمة في غالبية فروعها فإن قوى السكان الإفريقية تحولت إلى الطبقة العاملة الصناعية التي تشتغل في المصانع ومناجم الذهب والماس. لقد تحولت جنوب إفريقيا إلى أكثر البلدان تقدماً في إفريقيا وغدت أكبر منتج للذهب والماس وغدت أكبر قوة مصنِّعة للسيارات والسلع المعمرة الأخرى وتحولت دول إفريقيا إلى الزبائن الرئيسيين لها. هذه الأعمال الإفريقية الشاقة وهذه الأسواق المفتوحة كانت تتناقض مع البناء السياسي الذي أقامه الإفريقيون الجنوبيون البيض العنصري، حيث لم يُسمح للسود إلا بأعمال محددة ومُنعوا حق المشاركة السياسية وحق المُلكية، إضافة إلى عدم مساواتهم مع البيض في تقاضي الأجور وعزلهم في مناطق ومساكن خاصة، فحكمَ أربعةُ ملايين أبيض بقية السكان البالغة تسعة وعشرين مليوناً. ولكن القوى التقدمية وخاصة جماعة الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا الذي أسسه المثقفون الأوروبيون في بداية القرن العشرين لعبت دوراً طويلاً في التصدي للسياسة العنصرية، والتحضير للتحول الديمقراطي ولالتحام شعب جنوب إفريقيا في شعب واحد. وحين فرض البوير العنصريون سياسة الفصل العنصري تحرك الإفريقيون خاصة للكفاح المسلح ضد النظام، فتحولوا إلى فصيل مختلف عن بقية القوى التقدمية وخاصة البيضاء التي تؤيد النضال السلمي الطويل. وكان الزعيم مانديلا من هذه القوى الشعبية ذات الجذور الإفريقية ولكن الكفاح المسلح الذي خيض لم يكن هو المحول للتغيير، فعلى أثر سجن مانديلا الطويل تحول هذا إلى رمز وطني وعالمي فتجمعت قوى السود والبيض ضد النظام الذي غدا متجاوَزاً من قبل التطور في القارة الإفريقية خاصة والعالم. إن ضخامة الطبقة العاملة الجنوب إفريقية ونضالاتها الإضرابية والسياسية صدّعت النظام، وأزّمته، ولم يجد سوى التحول الديمقراطي وإعادة لحمة الشعب، فكان التغيير ذا فائدة كبيرة للطبقة المالكة الرأسمالية البيضاء، كما عكس رغبة الدول الغربية في التغيير السلمي الذي يحافظ على أكبر رأسمالية متطورة في القارة بدلاً من تسليمها لليسار الإفريقي وهروب الأقلية البيضاء. التغيير أضفى تحولاً سياسياً على البلد ولكن التغييرات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الأغلبية الشعبية مشت ببطء، فغدا التحول العميق يتطلب انصهاراً أكبر للسود والبيض في بنية اجتماعية واحدة. أسَّس مانديلا التحولَ الديمقراطي الوطني العام، وتحتاج التحولات العميقة في أوضاع الشعب العامل في غالبيته السوداء إلى نضال أكثر تطوراً وزعماء اشتراكيين ديمقراطيين ذوي صلات بمختلف طبقات الشعب.
مانديلا والصراعُ الاجتماعي في جنوبِ إفريقيا
انتمى نيلسون مانديلا إلى عضوية الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا وإلى عضوية لجنته المركزية، ولهذا فقد ثمّن الحزبُ دورَه المذكور ودوره في تأسيس وقيادة حزب المؤتمر الإفريقي قائد الثورة السياسية ثم المسلحة ضد نظام الفصل العنصري. لكن سياسة النضال العسكري التي انتهت بالفشل وحجَّمت دور الجماهير الشعبية في النضال عكست اختلافات وصراعات عميقة في تطور دولة جنوب إفريقيا وقد رثى الحزب مانديلا بالقول: «لكن المصالحة الوطنية بالنسبة إليه لم تكن أبداً تعني تجنب التعامل مع التفاوتات الطبقية وغيرها من التفاوتات الاجتماعية في مجتمعنا، كما يريد البعض إيهامنا في الوقت الحاضر. فقد كانت المصالحة الوطنية بالنسبة إلى مانديلا منبراً للعمل من اجل تحقيق هدف بناء مجتمع المساواة في جنوب إفريقيا، مجتمع متحرر من وباء العنصرية والنظام الأبوي والتفاوتات الفاضحة. كما أن المصالحة الوطنية الحقّة لن تتحقق أبداً في مجتمع لا يزال يتميز بالفجوة المتسعة من اللامساواة والاستغلال الرأسمالي». لقد عكس البيان تناقضات عميقة في وعي اليسار وفي مجمل التطور الاجتماعي الجنوب إفريقي. فقد ظهر مجتمعان في هذا التطور، الأول هو مجتمع البيض، الذي سيطر على الزراعة واستخدم السكان السود في تكوين الريع، كما استولى على مُلكية التعدين في الماس ثم الذهب ثم صناعات التعدين المختلفة، وأسس بهذا رأسمالية بيضاء قوية متطورة، يرفض بعض قادة اليسار الإفريقي اعتبارها حتى في مستوى رأسمالية البرازيل. استيلاء الإفريقيين البيض على المدن ومنع الاندماج بين البيض والسود، وتشكيل تلك الرأسمالية المتطورة أدى إلى تدليل الفئات الغنية البيضاء ومعهم شرائح الهنود، حيث سادت الامتيازات بينهم، وبحسب إحصائيات البنك الدولي يحصل أفقر الفقراء السود وهم 40% على أقل من 4% من الدخل الوطني، بينما يحوز 10% من أغنى أغنياء البيض على 51% من الدخل الوطني. هذا الوضع وجه قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي إلى شنّ الكفاح المسلح بدءًا من أوائل الستينيات، وغدا مانديلا رئيساً للجناح العسكري في قيادة المؤتمر، وفي 1962 تم اعتقاله، وفي عام 1964 تم الحكم عليه لتخطيطه لعمل مسلح بالسجن لمدى الحياة. العملُ المسلح حوصر من قبل الدول الإفريقية العميلة للبيض ولم تستطع المجموعاتُ المسلحة أن تتغلغل في جنوب إفريقيا، وتعرض بعضها للتصفيات، كما أن انقطاع هذه المنظمات العسكرية عن السكان قاد التنظيم ككل إلى المغامرة والانفصال عن الزخم الشعبي، ولهذا فإن سجن مانديلا الطويل كان وجهاً لضعف هذا النضال وهزيمته في النهاية. وكان قادة الحزب يذهبون إلى فيتنام ويرون التجربة هناك ولكن بدون توظيف لها. ولكن الصفقة المحلية والغربية لإنقاذ النظام في ظل أزمته التالية، خلقت نظامين متناقضين في الدولة التي أزالت التفرقةَ العنصرية وتحولت إلى دولة ديمقراطية. فقد بقيت الأقليةُ البيضاء الطبقةَ الحاكمة في مجال الاقتصاد، فيما غدت قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي قيادة سياسية تتأثر بالاقتصاد الرأسمالي الأبيض ونفوذه، وكانت إمكانيات الطبقة العاملة السوداء ومؤيدوها من العمال البيض لا تسمح بالتأثير الواسع على النظام الاقتصادي القوي. وهكذا عبّر انفصال مانديلا عن القيادة إلى غياب الدرس العميق لكيفية استثمار زمنية الحرب المسلحة في التطور السياسي الاجتماعي للأغلبية العاملة والفئات الوسطى المؤيدة، والتي لم تستطع أن تكون حتى طبقة وسطى من الملونين. ومثلّت صراعاتُ القادة وتبدلاتهم في قيادة المؤتمر الإفريقي بتهم الفساد طبيعة الازدواجية في المجتمع، مثلما جاءت مشكلاتُ عائلة مانديلا وصراعاتها، معبرة كلها عن غياب التراكم الديمقراطي والعلمي في قيادات السود، وعدم قدرتهم على تكوين قيادة جامعة بيضاء وسوداء لجنوب إفريقيا الموحّدة الديمقراطية. وبقيت جنوبُ إفريقيا ذات أغلبية فقيرة وأقاليم غنية مرفهة وأقاليم معوزة، وهي تتوجه نحو صراع ثنائي عميق انشطاري يؤسسه اقتصادٌ رأسمالي متطور في أقاليم المدن الكبرى واقتصاد ريفي متخلف في البقية من جغرافيا الدولة. ويعتمد قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على مقولة بناء رأسمالية دولة يقودها السود سياسياً واقتصادياً تربط قواهم في العاصمة بالأرياف، ولهذا يقوم أحدُ قادتهم البارزين بمدح الاقتصاد الصيني ونموذجه، وخاصة مع تحول الصين إلى أكبر مستورد لجنوب إفريقيا.
للشاعر أحمد الشملان تجربة طويلة مع الشعر، وقد تقطعت وتلونت عبر السنين، وفي ديوانيه الاثنين (زنابق العشق)، و(الاخضر الباقي) بعض شواهد وثمار هذه التجربة الطويلة المضنية، ولعل الديوان الأول (زنابق العشق) أكبر الشواهد على معاناته وصبره في خلق الشعر، وقد كتب الديوان في ظروف خاصة، تجعل من كتابة الشعر عملية صعبة مضنية، ولكن متأنية ومعمقة، بخلاف الديوان الثاني (الأخضر الباقي)، حيث تتسم القصائد بالقصر والومضة السريعة ويعكس لحظات حياتية متبدلة. في الديوان الأول نجد مطولات، يمكن أن تمثل قصائد مهمة في تجربة الشعر البحريني الحديث مثل (المخاض) و(زنابق العشق) و(افياء الشنفري)، وخصوصاً القصيدة الأخيرة، ذات النفس الملحمي، التي تتجه لتكوين صوت تاريخي – معاصر، وتلبس قناعاً تراثياً تشاهد فيه الوقت الراهن، عبر تحولات معقدة، وتلونات خصبة. الديوان الأول يمثل خبرة طويلة وتجارب متعددة متلونة، وككل التجارب يحوي الإيجابي والسلبي، عناصر الشعر والنثر، التلقائية الشعرية والنحت الأيديولوجي. ونحن سنحاول هنا ان نلقى بعض الملاحظات السريعة على جوانب رئيسية في الديوان الأول، مستعرضين قصيدة واحدة، بشكل ملموس. في قصيدة (المخاض) ص 64، نقرأ قصيدة بضميرين، ضمير (النحن)، ضمير المرأة، الحبيبة، الأرض، التغيير والتحول أيضا. ضمير النحن، ضمير الشاعر، هو المخاطب للمرأة الحبيبة، المتغرب عنها، المشكل لها، وهي المرأة الرحم، الأرض، القابلة للتشكل والولادة، بنتاج الفعل الذكوري، التغييري، القادم. هذان الصوتان ينفصلان، يتغربان، يتوحدان، في توليفة شخصية – جماعية، يتوحد فيها العام والخاص، الطبيعي والاجتماعي، السياسي والعاطفي. في البدء يقول (كاشفينا/ قادمون نفضح السر/ وجرحنا منفطر/ غابات حزن/ ومروج/ ومدينة/ رفعت استارها تنادينا/ عناقيد النساء في النوافذ / ترتشينا). فإنه يجسد اللحظة الأولى للعلاقة بين صوت الشاعر، الجماعة، وصوت المرأة – الوطن – الأرض. إن الشاعر قادم لقول مثير، لفضح الأسرار، التي هي جراح المدينة الحزينة ومروجها.. فهو لا يأتي لرشف قبلة فحسب، بل لفعل تغييري عام، أو قل إن فعل الحب الشخصي، وفعل التغيير العام، يتوحدان في فعل واحد هو الخصب، المقابل المضاد لحياة الموت والحزن والجفاف. فكل اشياء المدينة واحزانها وبطون النسوة، تنادي فعل الخصب الذكوري، التغييري القادم. وهذه اللغة الشعرية تستفيد من أجواء القصيدة التموزية، ذات النسق المعروف، بامتداداته الاسطورية والية وعيه الخاصة. وتبدو اللغة الشعرية، في المقطع المذكور، مترددة، بين التعبير الأول، والتعبير الأخير. حيث هو في الأول (كاشفينا)، مما يعطي المرأة، الارض، كل الفعل والبرح والحقيقة، في حين يبدو التعبير الأخير (ترتشينا) قلقاً، ولا أعرف كيف تمت الصياغة هنا، لأن الفعل أصله (أرشت) فينا، بمعنى امتدت العناقيد فينا، فصرنا منها وامتداداً لها. إن الشاعر – على ما يبدو – يعد صياغة الفعل صياغة خاصة به، لكنها صياغة قلقلت المعنى، في حين أنها كانت حرية أن تفجره. لكن حسب تدفق المعنى، تناسقت الكلمة الأولى والأخيرة، فغدت مكاشفة المرأة الوطن، أساسية في خلق فعل الكلام – العمل القادم، فامتدت الذكورة في الانوثة خصباً، وعناقيد، وافراحاً، وصار الفعل التغييري تبديلاً للحزن والموت. وإننا نجد هنا المسافة الديمقراطية بين الرجل والمرأة، بين التغيير والوطن، حيث لا يمتلك قطب السيادة، بل يتداخل القطبان، ويلتحمان عبر عملية تأثير متعددة الجهات. لكن هذا التوحد الجماعي سرعان ما ينفصل، فتغدو المرأة ـ الرمز إنسانة ما، ويغدو الصوت الجماعي، صوت الشاعر نفسه، يبدأ (الخاص)، رحلته المتفردة، فبعد أن كانت المرأة طيفاً، أو كاهنة. وهذا هو نسق القصيدة التموزية، قصيدة البعث الأسطوري في نموها. وبعدها يتوحد الشاعر بالشقائق والحرائق، ويتدثر بالماء، و يُبعث نبياً، وتتوحد أشلاؤه بالمرأة، تربة تنبت اشجاراً وينابيع، وهي تمر بما يشبه دورته التموزية الاسطورية، فتصير بين الحواريين – تلاميذ المسيح – وتدخل الموت، حين سكن يونس، وتغمر الأفلاك، تعود في نهاية المقطع، لتتحدث بصوتها الخاص، بلغتها الأنثوية، لا كرمز أسطوري يطرف بعوالم غريبة كامرأة: (زغرد النهدان قبل التاسعة / وعلى حفيف العاشرة/ ترملت). هذا النزول الحاد للأرض، للأشياء اليومية، للمرأة بعمرها، وتكوين جسدها، فيه مغايرة للعنصر الاسطوري التموزي، أنه حكي لليومي، أنها التفاتات لشعر الحياة، لا لشعر الأسطورة. لكن الشاعر لا يتوغل أيضاً في الصوت النسائي، ليمنحه سماته الخاصة، نوافذه، ثيابه الذابلة، حاراته الحزينة، فسرعان ما تعود المرأة الى التحول رمزاً، الى شكل الأرض والتاريخ، ويعود هو بدوره الى رمز الخصب، المفارق، البعيد، الناضح غربة وحزناً، المتحول اشكالاً وظاهرات طبيعية وكونية واجتماعية. إن هذا التردد الخاص والعام، رغم اشكاليته، يمنح الرمز المجرد أنسنه وظاهرات ملموسة ويغنيه عبر التلون وإضفاء المشاعر، لكن تراكم التردد ونموه الكمي، لا يخصب القصيدة بتحولات جديدة، بل يؤدي إلى إطالتها وتشتتها. فالصوت النسائي، على سبيل المثال، يتنهد، ثم يوقظ الشمس، ويهاجر ليمنعها من الغروب، ويمنحها التوهج، لتمنحه الشمس بدورها الحمرة، من أجل نمر وبقاء الشاعر، الطفل، الصوت المتواجد داخل رحم الأرض، لكي يدفأ، ويقرأ التشريق والتغريب، وكذلك انعطافات الفصول، وليضع النقطة حيث تعدو الفاصلة.. هذه العملية الفلسفية الفكرية التراكمية تصير عقلانية، تحكمها أدوات النثر من ربط ووصل وتحليل. في حين كانت العلاقة واعدة وثرة، عبر ادوات الشعر التي ظهرت في البداية، مكثفة، مشعة. ويستمر الشاعر في (نثر) هذه العلاقة الفكرية، عبر صور متعددة، تحكمها أدوات الربط النثري والعقلنة، لكنه يتخلى في أحيان عديدة، عن هذا الطابع العقلي النثري، ليصور العلاقة بشفافية عاطفية غنية، كالمقطع التالي: (وحيدة رأيتها/ واقفة على جدار الغمام/ توزع الضوء البنفسجي طحينا). ان الشاعر حين يستجيب لتدفقه الانفعالي، وينسحب من مناخات القصيدة التموزية، وتتدفق الصور المعبرة، المنتزعة من ظاهرات الحياة اليومية والمعاناة الحقيقية، ينمي العملية الشعرية الابداعية، وهو يفعل ذلك مراراً، حين يدع الصوت النسائي يعبر عن هواجسه الشخصية، ومرارة الانتظار، أو حين يكمل الصوت الرجولي، اللوحة من الجانب الآخر، عبر عذاب الغربة والنفي والبرد والجوع والحب، حينئذ تنمو اللوحة الشعرية. ولكن حين يحول هذه العلاقة الشخصية الحميمة الغنية بدلالاتها وذاتها، ويريد (ربطها) بعوالم أخرى، فيسيطر عليه هاجس رسم اللوحة السياسية، يبدأ (النثر) في الاستيلاء على عالم الشعر. حين يقول (قفي نتكئ/ صخرتين بلا قرار/ لنبذر العصافير جفونا/ تبدد البكاء)، يشكل الشعر، رغم انه بعد لم يطلق ذات الداخلية، بهواجسها وضعفها وقوتها، ولا تزال صورة القوة الحديدية والعطاء اللامحدود تظلل اللوحة، ولكن عندما يقول (هاجرت أمنعها الغروب/ أمنحها التوهج/ فتمنحني حمرة للذي بالرحم لكي يدفأ)، فالصورة ذاتها منتفاة، وغير شعرية، وتأنى كثرة أفعال الربط وروح التحليل والتفسير، لتبعدها عن روح الشعر. وجرد الحالة الشعرية القوية، ووجود الحالة النثرية العقلية، جزء من تراكم بنيتين شعريين متناقضين. الأولى نتاج بنية الشعر الحياتي، التي تنبع من ظاهرات الواقع الحقيقية، من هواجس الشاعر واحلامه والامه، وتضاريس الحياة التي يصارعها ويحولها. والثانية هي بنية الشعر الاسطوري ومناخاته الفكرية العقلانية، ثم امتداداته السياسية في عملية التبشير الأيديولوجي. في بنية الشعر الأولى ينمو الشعر ببساطته وتألقه، ويندفع من مسام الصوت الشعري، وهذه البنية لم تتطور بشكل واسع في القصيدة نظراً لخنق الأيديولوجي للشعري. وفي البنية الثانية يصعد الشعر نحو عالم الاسطورة والربط السياسي.. مما يقلل من تنامي البنية الاولى. لنأخذ المقطع الأخير في القصيدة لنرى هذا الصراع بين البيتين: (زنابق هنا / وهنا زنابق / لقحيها بالرياح.. بالبحر/ بأطلال النخيل/ وغداً عند الصقيع/ يأتيها المخاض/ فتأخذ شكل أحلام البكارة / شكل اقمار السهر/ قبل السفر/ لتنداح الإشارة) ص 85. فألم الأرض، وعذاب الحبيبة، يتشكل عبر بذور هنا وهناك، لتغدو في خاتمة المطاف ربيعاً وانفجاراً. ويبدو التسلسل العقلي المنطقي واضحاً، والمقدمات تأتي بعدها النتائج الحتمية.. هذه العملية تمثل ادلجة فكرية وتضعف تنامي الشعر المليء بالعواطف الحارة والتحولات والنماذج لا القوالب. وحتى في هذا المقطع التقريري تبدو امكانية الشاعر قوية في الصياغة وابتكار الصورة وخلق الإيقاع الموسيقي، ولكنها لم تأت (عفوية)، وهو يمتلك العديد من النماذج والمقاطع والقصائد – القوية المعبرة، ولا نستطيع في هذه اللمحة القصيرة أن نتجول فيه كلها.
على خُطى الشعر العامي الساخر ودعابة بيرم التونسي الجارحة الفكهة، توغل الشاعر عبدالرحمن رفيع في عالم فريد، خاص، بسيط وعميق، شفاف ولاذع. استطاع به أن يكون شاعراً متميزاً. واتجاه عبدالرحمن رفيع لشعر السخرية المرُة، والنقد الضاحك المؤلم، هو طريق شقه منذ سنوات بعيدة، وتمرس فيه وأبدع، ولكن هذا الدرب لم يرض عنه النقد والأدب الجامد، في حين استقبله الجمهور بترحاب كبير . لم هذه المفارقة الغريبة ان يكون رفيع مطروداً من دائرة النقد والضوء الادبي، ومحبوباً لدى السامع والقارئ ؟ ليست اشعار رفيع ساذجة ومسطحة، ولا مقعرة ومفتعلة، بل هي لغة البساطة الشعبية التي لا يستطيع أي فنان أن يصل إليها إلا بشق النفس. لماذا استطاعت هذه اللغة أن تكون معروفة وشائعة لدى رجل الشارع؟ ما هو السر وراء هذا التغلغل والبقاء في الذاكرة العامة ؟ في قصيدة عبدالرحمن رفيع، هناك عادة حكاية، قصة ما، تنبثق منذ أول كلمة لتتنامى في معمار خاص، ويتيح هذا البناء القصصي، للشاعر، تكوين مشهد مرئي حي أمام عين المتلقي. وبفضل هذا المعمار والبناء، تنتقل حرارة ووهج الحكاية إلى ذات المتابع. وضربات عبدالرحمن رفيع بفرشاته الشعرية – القصصية دقيقة وسريعة وموحية. وهي تبني بلا توقف هذا المعمار الحدثي القصصي بلا إبطاء او تعثر. في قصيدة (الايسي العظيم) – راجع ديوان (بحر وعيون) دار ذات السلاسل ص 69 – نرى هذا التكنيك السريع المعبر: [إخواني وأهلي يشتكون/ حرّ شديد ما يهون/ حبه ورا حبه العرق، ينزل او يدخل في العيون/ قلت: اشتريلهم مروحة/ تنفعهم في ليل وضحه] . انه منذ الكلمة الأولى يدخلنا أجواء الحكاية، ويصور أحوال الشخصيات، بلمحة سريعة، وبصور دقيقة مكثفة. فالحر حبات من العرق تنهمر وتتوغل بملوحتها في العيون، وعبر هذا الرسم المصور دخلنا اجواء العائلة الفقيرة المعدمة، حيث المكيف الجديد حلم من الاحلام. والراوي/ الشاعر، يصور رحلته نحو هذا الشراء للمكيف المستعمل، وكل لقطة من لقطات نمو الحكاية هي لفتة ساخرة، وضحكة نازفة، ونقد عميق وفكه للمجتمع. [صبريت على الجوع والقهر/ والعيشة ويل/ لين ما جمعت جم نوط خضر/ وقالوا لي سيل/ واتوكليت]. هكذا تتنامى الحكاية وسط دغل الحياة الصعبة، وتظهر لعبة المفارقات بين البطل الفقير والسوق المليء بالمال والبضائع. وحين يشتري الراوي المكيف، يتحول هذا إلى بطل له سماته وشخصيته الضخمة المنتفخة ولكن الفارغة والمعطلة!. فقد أحضر المكيف الضخم إلى الحي الفقير، وتجمهر الناس حوله، وكان ثقيلا، حمله خمسة رجال، وكادوا يسقطون على السلم، ثم اتضح ان المكيف ليس سوى حديد خردة لا ينفع بشيء!. فن خلق الحكاية بأجوائها المصورة الملموسة، وبومضات من اللغة هو ما يشد القارئ إلى شعر رفيع . لكن هذه الحكاية لا تتجسد عبر طريقة جافة، بل من خلال النكتة والمفارقات. فحتى أثناء وصف السوق الذي يندفع فيه الراوي، نلمح هذه النكتة السريعة [سوق المنامة سوق عجيب / اتلاقى فيه ما تشتهى/ بس خرخش المخبه وييب/ كل المحلات تعشقك/ ان كان في مخباك الحبيب!]. إن من ملامح تجربة رفيع هذا التصوير الدائم لعالم المال والأغنياء فالسوق والنواخذة وتجار الأسهم دائما حاضرون متجسدون، ضيقو الأفق، بخلاء، نهمون، مندفعون إلى الثروة. ولكن في هذه القصيدة (الايسي العظيم)، ليس ظهور السوق، سوى أمر عابر. ولكن يشكل تضاداً مع عالم الراوي الفقير الباحث عن مكيف مستعمل. وتنامى الحكاية يتم عبر صراع فكاهي وساخر، فالراوي يتصارع مع هذا المكيف الضخم، ويحلم ببرودته الساحرة، ثم يصاب بالخيبة لفواتيره وتصليحاته وموته!. إن النكتة هي في الموضوع ذاته ولكن هذا الموضوع العادي يحمل قضية عميقة، حيث يتبدى الصراع بين الإنسان البسيط والظروف الصعبة حوله. فليس المكيف سوى تجل لهذه الظروف. وتركيز الأمر عليه، هو اللغة الساخرة، القادرة على التغلغل في الشعب، وكشف حياته الصعبة. واللغة التي يعتمدها الشاعر هي لغة الحديث اليومي، ومن هنا جاءت جملتها المنسابة، بلا افتعال، وصورها المأخوذة من مجريات الحياة، ومن هنا تغييرها للقصيدة الكلاسيكية المقفاة، مع الحفاظ على وحدة التفعيلة، والتزاوج بموسيقى خارجية، وقافية مرنة ومطواعة لتشكيل الحدث القصصي – الشعري. وتتداخل نزعتان في شعر رفيع، أولاهما رومانسية عذبة، رقيقة شفافة، تعبر عن حس الشاعر العميق، وشعوره بغربة كبيرة في هذا العالم الحديدي الغريب. ان الماضي، يلح إلحاحاً شديداً على الشاعر. ومن هنا هذه الصيغة اللغوية المتكررة، أو هذا الاستفهام الفاجع بتغير الزمن: (تذكرين؟)، وهذه المفردات والصور الدائمة عن السفن واللؤلؤ والبحر وبيوت السعف والنوافذ الخشبية والحارات القديمة. [أحن للجبهة السمره/ أحن للوزه والبسره/ أحن للصوت واليا مال والشيلات/ والسمره]. إن الوطن، كثيراً ما ظهر لديه، كرمز يعيش في الماضي، متوحداً مع ركائز البحرين القديمة، والتي تتعرض لرياح العصر العاصفة. ومن هنا يوجه بصره إلى ذلك الماضي الجميل المندثر، بحرقة. وهو يدرك أن هذه التغيرات الحادة الفاجعة، وعلاقات الغربة المتفاقمة، وروح المال القاطعة للحم الإنساني. وهذه هي النزعة الثانية، إنها النزعة النقدية الإنسانية، التي تطور الوعي الرومانسي، إلى تغلغل سافر في العلاقات البضاعية المتفاقمة. ولا يوجد في شعرنا من استطاع أن يتغلغل في الحياة الرأسمالية الحديثة ويعبر عن نتائجها الروحية كما في شعر رفيع. عبر بساطة ساحرة و لغة شعبية فكاهية. [وشب الفريج طابوق / والناس عنه اتفرقت / ودش السكيك السوق/ والآدمي مثل التنك / يحلى ويصير سكراب / بيعوني في سوق الحراج!]. إن رومانسية رفيع لا تقف عند الحلم بالماضي، بل تقرأ تضاريس الحاضر وأضلاعه الحديدية الحادة.
رحل الكاتب القصصي الكبير يحيى حقي عن عمر بلغ 87 عاماً، كتب فيه العديد من أعمدة القصة العربية، مثل «قنديل أم هاشم» و«صح النوم» و«عنتر وجولييت» «أم العواجز» إضافة إلى عشرات الدراسات النقدية والفكرية واللوحات. ونحن سوف نقوم هنا باستعراض جانب من مجموعته القصصية «عنتر وجولييت» وملمح خاص منها، هو كيفية بنائه للقصة القصيرة، و أين تصل رؤيته وأبعادها. إن أهمية يحيى حقي الأدبية الكبيرة تكمن في صياغته قصة قصيرة بالغة الروعة والجمال، فيها كثافة تعبيرية ودلالية عميقة، وتكاد أن تكون كل قصة قصيرة هامة كتبها أن تكون رواية مكثفة. ستجد فيها عناية فائقة باللغة، بسلاسة الجملة، وكأن اللغة مجرى مندفع بهدوء وفخامة، وثمة جهد جبار لترويض هذه الأداة اللغوية، وجعلها تبدو عادية، غير مفتعلة، ومع هذا فهي أخاذة جميلة ويحاول يحيى حقي، في أحيان كثيرة، أن يطوع اللغة العامية، أن يبحث عن مفرداتها الجميلة، القريبة من الفصحى، ليدخلها في سرده. تماماً مثلما يفعل في بنائه القصصي، معطياً أوردته الداخلية العميقة، للناس لأبناء الحارات، فترى صورهم وحيواتهم ومعاناتهم داخل نسيجه اللغوي – المضمونى، فهي قصة عميقة التشكيل، في ذروة جدالية، وهي أيضاً بسيطة التركيب، تمشي حية على الأرض، مفعمة بعطور الأمكنة وظلال الأشياء. ثم هي أيضاً مزيج غريب وفريد من التراجيديا والكوميديا، تتداخل فيها المأساة الحادة والضحكة المجلجلة، دون أن تتحول إلى ميلودراما مفتعلة، تدهش سخرياتها اللاذعة داخل أقبية الحزن. فيحيى حقي هو «ابن البلد» الذي مهما نهل من علوم أوروبا وفنونها المختلفة، جزء من الحارة الشعبية، لا يحطم قناديلها القديمة المقدسة، بل هو يضيئها بزيت الحداثة، تعال معي إلى أهم ملامح قصص «عنتر وجولييت»(١) لنأخذ الخط الداخلي المتنامي بينها. قصة (السلم اللولبي) ص 35 -37، تدور حول شخصيتين، الأولى هي (السلم اللولبي) نفسه والثانية هي (فرغلي صبي المكوجي) وإدغام المؤلف لهاتين الشخصيتين الجامدة والحية، في توليفة قصصية حديثة واحدة، يعبر عن هذه الجدلية العميقة بين الإنسان والمكان، الذات والعالم. وهو حين يبدأ وصف شخصيته الأولى، السلالم، نحس بهذه الأحجار الجامدة، وهي تتحول إلى مخلوقات حية، ولكنها شرسة، تفترس هؤلاء البسطاء الصاعدين إلى العمارة من زواياها الخلفية. إن المؤلف يسوق عشرات التشبيهات لوصف هذه السلالم التي تذكر الراوي بـ(تفنن محاكم التفتيش الإسبانية في ابتداع أمكر وسائل التعذيب الوحشي وأخسها) وحين يتابع خطى الخدم والباعة وتجار الروبابيكيا وصبيان البقال والمكوجي (أنهم احفاد العمال بناة الأهرام). هكذا تتحول السلالم إلى لوحة طبقية ساخرة، مؤلمة. فسلالم مقدمة العمارة الأنيقة، النظيفة، هي من نصيب سكان العمارة وأصحابهم، أما سراديب محاكم التفتيش فهي من نصيب أولئك العمال. وتناغم الوصف ودخوله إلى تفاصيل المكان، ليس مقدمة تقريرية بل هو متابعة لبطله الثاني (فرغلي صبى المكوجى) الذي يركض دوماً، طوال النهار. على هذه السلالم الخلفية، التفتيشية. والكاتب يتوغل في أعماق الصبي فرغلي، عبر هذا الوصف الدقيق الفكه لحركاته وملابسه وهيئته فأغلب مقاسات ملابسه كبيرة عليه، إنها مأخوذة من الزبائن الذين تخلوا عنها. وهو أيضاً عميد أسرة ريفية يرسل إليها معظم أجره. هكذا نرى أسلوب يحيى حقي وهو يتوغل إلى البناء والشخصية، متابعاً تفاصيل دقيقة مذهلة في تكوينها الخارجي — الداخلي. وهو سوف يدهشنا بقراءته لجغرافية المكان والذات الإنسانية وعلاقاتها الصراعية والتآلفية. بعدئذ يدخل المؤلف إلى الحدث. بعد هذه الفرشة السريعة للمكان والبطل. فقد غافل (فرغلي) البواب ذات يوم وأراد أن يكسر عالم السلالم الطبقي التقسيمي الحديدي، وتوجه من السلالم العادية وليس الخلفية، وحين فتح باب الشقة اندفع إليه (ركس) كلب السيدة وعضه. كان هذا عقابه على اختراقه الناموس! إن هذا الحدث الصغير سوف يفجر كل جزئيات الموقف القصصي. فسوف نرى فرغلي قبل حدوثه، وهو يلاحظ (ركس) من باب المطبخ، كما أن للسيدة صاحبة الشقة خلفية خاصة، فلديها صديقة صاحبة كلب مماثل عض صبياً آخر، فعانت من شكوى أهله للبوليس. لهذا حاولت السيدة عبر سياسة ماكرة، أن تهدئ فرغلي وتلغي ثورته وحقه، فأعطته «نصف ريال» وشكولاته، وكانت حنونة أيضاً بفعلها العفوي، حتى ظن أنها من الممكن أن تعطيه نصف ريال آخر. خاصة بعد أن أصيب بحمى، وجثم في الغرفة الجماعية، وهناك، في مرضه، أشتاق إلى دكان الكواء، وتذكر حتى الملابس التي يحملها وتعطيه إنطباعات غريبة عن البشر. لقد رفضت السيدة أن تعطيه نصف ريال، لتعوض أجره الناقص، فصرخ في نهاية القصة (أيه يا خويا الناس دول.. ما يحنوش على الواحد إلا إذا الكلب عضه). هكذا يغوص يحيى حقي في حياتنا، عبر نموذجين متداخلين، لنشاهد لحمنا الداخلي، التركيبة الاجتماعية المتناقضة اللاإنسانية، بشفافية ساخرة حزينة. إن القصة تقام فوق سلسلة من التضادات الاجتماعية المختلفة، فأهم تضاد هو بين فرغلي والسيدة وكلبها. فحين يعيش فرغلي من عمله ويصرف على عائلته، ويعيش أسوأ من كلب، فإن (ركس) يعيش حياة باذخة. ولكن هذا التناقض لا يتحول إلى صراع فردي، بل هو يتعمم ويتنمذج في تركيبة واسعة. إن التضاد بين فرغلي / السيدة، يكشف عن التضاد الأوسع بين الناس، الشعب، والطبقة الوسطى. فثمة من يلقون ملابسهم المستعملة، ومن يلبسونها، من يحضرون من العزب والقرى ومن يستخدمونهم في المدينة. إنها تضادات متعددة، الصبي / السيدة، الناس/ الأغنياء، السلالم الخلفية / السلم اللولبي، القرى / المدينة، العاملون / المستغلون، إلخ.. إن هذا الصراع مراقب دائماً من قبل الكاتب، وهو يصدر المشاهد الامامية والبارزة منه. فالقصة القصيرة لا تتيح مثل الرواية، التوغل في هذه التضادات. ويحيى حقي عموماً يقف على ضفة هذه التضادات، ولهذا فإن بنيته القصصية دائماً قصيرة، في حين أن نجيب محفوظ، يتوغل بعيداً في تجليات هذه التضادات. ولذا كان روائياً. وإذا كانت القصة تقوم فوق تضادات متصارعة، تكشف عن بنية غير إنسانية عامة، فإن الأسلوب القصصي يقوم على الجمع بين التضادات الأسلوبية ويدمجها في بنية فنية راقية. فنجد التضاد واضحاً بين الفصحى، العامية، البساطة / العمق. الروح/ الشعبية/ الرؤية الحداثية إلخ.. إن اللغة أحياناً تتغلغل بين فصحى جميلة شعري،. و عامية حاراتية بسيطة، لكن الكاتب بضفر بين الجانبين للغة، فتجد أن نمو السرد البليغ، على تضاد حاد مع الحوار العامي، الذي يتحول إلى لغة جميلة. إنه هنا قنديل أم هاشم الذي ينتزع الموروث والحياتي ليوظفه في بنائية جمالية عربية صاعدة. إنه التحديث اللغوي وإعادة خلق اللغة من عنصريها المتضادين، المتحدين أداء ووظيفة وسيرورة تاريخية. وهكذا أيضاً تتحول بساطة العرض والحدث ومرافقة الراوي الظاهرة للشخصيات العامية، إلى دخول في أعماق التجربة، ورؤية ذلك التضارب العميق بين الشعب العامل والبرجوازية وتجاوزه في إنسانية شفافة وإيماءات وليس عبر التغلغل التصويري الموسع كما فعل نجيب محفوظ. وفي قصة (سوسو) ص 38 – 50، نجد تقنية عالية، ونذهل لقدرة القصة القصيرة هنا، أن تحمل كل هذه الترميزات. وأن تتحول كذلك إلى قصة ممتعة رائعة. هنا نجد ذلك النمط الأخر من القص. حين تتوجه القصة لا للتعرية الاجتماعية. بل للوصول إلى تحليل للنماذج الروحية – النفسية – أي أن القصة، هنا ترتفع عن القاعدة الاجتماعية التحتية، لتتوغل إلى صميم الظاهرات الروحية، التي هي موضوع الأدب الإنساني العملاق. يكثف الكاتب اللحظة القصصية هنا، مكاناً وزماناً، فهي ليست سوى مكالمة من صديق محسن، الذي هو راوي القصة، يدعوه لحضور حفلة عيد ميلاد ابنه الصغير (سوسو) ذي الأربع سنوات، المريض بالداء المغولي. وبين الذهاب للحفلة، وسقوط الابن المحتفى به من فوق الشرفة، يكمن زمن القصة وحدثها وأمكنتها المتعددة الكثيرة. إن الراوي محسن يعيش في هذه اللحظة، حواراً داخلياً مطولاً، يعري فيه حياته كلها، دون أن يظهر هذا العرى الكامل له. إن أعجوبة القصة تكمن في هذا العرض / التعرية. إن ذلك يحدث عبر تصادم النموذجين الرئيسيين في القصة: محسن الراوي، الموسوس. العاجز، ابن المرفهين، الذي ولد من أب شيخ وأم تقضي معظم أيامها في المستشفى، وبسيوني ابن الريف الفقير، الضحوك الانبساطي، الذي يقبل على الحياة بقوة وحب. يتزوج ابنة عمه (زينب) الهيكل العظمي، فيحوله إلى حياة مدهشة. إن الراوي، وهو في سبيل إعداد هدية لـ«سوسو» يكشف هذا التضاد العميق الواسع، بينه وبين بسيوني. 1 — صور هذا التضاد، تبدأ منذ أيام الدراسة حتى زواج بسيوني، وتتوغل في شتى ظاهرات حياتهما الشخصية. نجد الراوي شكاكاً، يبحث عن أغلى الأدوية في الصيدليات، يصاب بالذعر من أي ممارسة جنسية، يعجز عن القيام بأي علاقة مع امرأة، في حين كان بسيوني يجلجل ضاحكاً من هذه الممارسات ومن مغازلاته الكثيرة، وتتهافت عليه النساء الغنيات، لكنه لا يقبل سوى زينب ابنة عمه، لعل هذا هو سبب مصيبة طفله المغولي. ولكن رغم هذه المصيبة فإن الطفل يتحول إلى مركز لفرح الأسرة واغتباطها، مما يجعل الراوي مذهولاً. نموذجان متضادان، الأول مخنوق بداخله المريض، لم تستطع طاقات طبقته أن تطلق قدراته، والثاني منطلق، لم تستطع محدودية طبقته، أن تكبح انطلاقات ذاته الحيوية. وحين يسمي بسيوني ولده المغولي (محسن) تيمناً باسم صديقه. كان هذا ترميزا واضحاً للعلاقة بينهما.. وحين يتردد محسن في شراء هدية عيد الميلاد. بين الدراجة و(الطاحونة الضخمة التي تضاء بالكهرباء وتدور أذرعتها على لحن راقص ينبعث من داخلها) فإنه يختار الطاحونة الفارغة ذات الدوران الداخلي. أو يختار ذاته الطاحنة، لا الدراجة العملية التي يمكن أن تساعد المغولي على الحركة. أو تساعده هو على المشي الاجتماعي الحقيقي. وحين ينقذف الطفل من الطابق الرابع. في حركة مباغته من الأب الذي لا يعرف أن ابنه في صدر محسن. يكون الراوي قد حكم على ذاته بالدمار. هكذا تقوم تقنية القصة القصيرة هنا، على موضوعية الراوي في التعبير عن حياة الآخرين، ليعري حياته، عبر بنية دقيقة من الترابط النموذجي. التناقضي والمسيطر. عليه في حبكة، مشوقة، ساخرة. حزينة. مع بث مجموعة من الرموز. لتعميق البنية مثل (سوسو) الطفل والراوي معا. و(الدراجة)، (الطاحونة)، (الشرفة والسقوط). 2 – (سوسو) يمثل المعادل الموضوعي لازمة الراوي.. وهو يناقش وينفي نفسه حين يعرض الطفل. انظر كيف يراه. (ماذا يدور داخل هذه الجمجمة، أي يد مجهولة تكتم عوائها؟ هذا الجسم المتحرك يمثل عندي خنق جبار لقوة جبارة) الخ.. !ن يحيى حقي يدخل هنا الطبقات السفلى من الوعي. معرياً نموذجه. بلا تقرير أو منولوج غامض. حاسماً بين كثافة لغة تشيخوف، ومشرط، دستويفسكي، بين موضوعية القص و«حياديته» الباردة والتوغل العميق المعري، إن القصة تصف البطل من خلال اللابطل، الصحة من خلال المرض. النضال من خلال العجز. جدلية رائعة ورهافة في اللغة والتعبير. في قصة «عنتر وجولييت» التي سميت المجموعة باسمها، نشاهد أوسع تقنية لإبراز التناقض الاجتماعي، وأوسع عرض لذلك التضاد، الذي رأيناه سابقاً، في قصة (السلم اللولبي) اي تضاد صبي المكوجي فرغلي والسيدة، الشعب والطبقة الوسطى، الفقراء والأغنياء، وعبر ذات الموضوع. القصة أشبه بالقصيدة، ليس في طريقة رصف الجمل فحسب، بل في هذه الشفافية الشعرية للغة، وبهاء الصورة، وكثرة التضادات المدهشة، وبراعة الاستعارات، وجمال الوصف الدقيق. لنأخذ فقط هذه الجملة التي تبدأ بها القصة: (هو مسكن فقير، أمامه نصف سطح، تشقه – كأوتار العود – حبال الغسيل). فمنذ البدء، نجد هذا الاقتحام السريع للمكان، عبر كثافة الصورة، في ثلاث جمل متساوية، ثم تتحول الجملة الثالثة إلى صورة شعرية، كصور (الشعر اليومي)، الذي بدأت القصيدة العربية الجديدة تكشفه. هكذا تمضي جمل السرد، وصف للمكان والشخصيات، وسرد لحركتها وانفعالاتها وأقوالها، من خلال عين الراوي /الكاتب، بذات الكثافة الصورية الشعرية. الحكاية من عائلة تسكن هذا البيت، وتشكل النقيض الأول. إن هذه العائلة المعوزة تعيش عالماً صعباً، لكنه حر، فليس ثمة حجاب أمام السماء أو الروح. الأطفال كبار والكبار أطفال. و«الحواديت» ليست عن الجن، بل من الحياة ذاتها. أبواب الشقة مفتوحة للأهل والجيران كوكب الام تثرثر مع الجارة الإيطالية والزميلة الغنية، يجلسون على الأرض ويثرثرون، النوافذ مفتوحة ورتاج الباب مخلوع فماذا سيجد اللص في مسكن كهذا؟ ثم هناك عنتر!! إنه كلب الأسرة. لقد صار لفقراء يحيى حقي لأول مرة كلب، لكنه على شاكلتهم حر، شفاف، إنساني، لا يطيع أحداً يحب الخلوة وعزة النفس، يكره اللعب معه. هنا نجد «الشعب» الأسرة الفقيرة الإنسانية، المفتوحة للهواء والكلام (حيث لا سيد ولا مسود، ص 115) تعيش ضنكاً، ولكنه ضنك عام (لا يتغلغل في الراوي فيكشف تجلياته المعقدة) لكن هذا الضنك لا يتحول إلى جنة، على طريقة «ما أحلاها عيشة الفلاح» ويشكل الكلب «عنتر» المعادل الموضوعي لهذه الحياة، لهذا القطب التناقضي، فهو مشرد، فقير، حر، إنساني، شجاع.. وفي مقابل هذه الحجرة المليئة بالأولاد. فوق سطح العمارة. هناك فيلا (إجلال هانم) النقيض الاجتماعي الواضح لتلك الغرفة وعالمها الحر. فهنا نجد إجلال هانم، وهي تسيطر سيطرة مطلقة دكتاتورية، حادة وعنيفة على الفيلا. صرخات حادة على الخدم، ذوي الأسماء المختارة المناسبة للصراخ المنغم. وحيث الزوج المستعبد، وفقدان الأولاد. لقد طور المؤلف سمات السيدة. صاحبة الكلب، التي رأيناها سابقاً. لكنها تتحول من سيدة شقة !لى سيدة فيلا. وتطورت علاقاتها السلطوية والاجتماعية فارتفعت من ذلك التنميط العام جدا إلى نموذج أكثر حيوية وعمقاً. ولهذه الأسرة ترميزها المختلف، أو معادلها الموضوعي المغاير، وهو هنا كلبة اسمها «جولييت». فإذا كان «عنتر» هو وجه الفقراء، العبيد. الشجعان، فإنه هنا في «جولييت» الأغنياء. الأجانب. التسلط، العقم. ولكن الكلبة جولييت ليست متل سيدتها، صحيح أن جولييت ذات شعر حرير وذهب، وعيونها وفمها تمسح بمنديل، وإذا مرضت يزورها طبيب. تعالج بالحقن الغالية، وتؤتى لنا الهدايا. تعرف كثيراً من الألعاب. الا أنها أيضا تعيش عذاب سيطرة السيدة، وتتوقع الكوارث دائماً وتصاب بالكآبة نظراً لهذه الرعود المفاجئة من السيدة. إن تصادم الأسرتين: الفقيرة والغنية. لا يأتي عبر طريق مباشر. بل من خلال علاقة غير مباشرة، أي حين يقع الرمزان، الكلب والكلبة، في سيارة البوليس المرعبة. إن هذه اللقطة الحديثة التصادمية الغريبة، تعيد ترتيب كل جزئيات القصة. ففجأة نجد أنفسنا أمام صراع اجتماعي. فجولييت التي تقع عدة ساعات في الحبس. تقام الدنيا على اختفائها. وتشتعل أسلاك التليفون بين الفيلا والمسؤولين والضباط، بينما يجثم عنتر في مكانه معتقلا، دون أن تتمكن السيدة كوكب، من جمع ثمن الغرامة وتركض في الشوارع هائجة دامعة. يحيى حقي يوسع هنا دائرة الصراع بين القطبين المختلفين عبر بؤرة جانبية، إنسانية ورومانتيكية، وهو يصور تنامي الصراع واتساع شبكته وتباين عوالمه الروحية. إن هذه القصة القصيرة تحول أن تقوم بما تؤديه الرواية، لكن لماذا تتوقف مثل هذه القصة القصيرة الساخرة، الناقدة، المحبة للشعب، عن التحول إلى روايات تتغلغل في تحليل تناقضات المجتمع؟ ولماذا لم يتوسع كشف صراع الشعب الطبقة الوسطى، وهو أساس تناقضات الحضارة الحديثة، ويتجلى بمستوياته المختلفة، العميقة؟ هل يعود ذلك إلى الوقوف المستمر للكاتب على شاطئ السؤال، عبر الاكتفاء بتلميحات وظلال (قام بتوسيعها في صح النوم) بدلاً من المشرط الحاد الذي أمسكه نجيب محفوظ، حيث أتسعت أدواته في عرضه، وتعدد بؤر الكشف وآليات الإبداع التي حصل عليها نظراً لهذا الموقف؟(2). يخيل إلي أن استمرار يحيى حقي في القصة القصيرة، والإكثار من اللقطات الجزئية، والنقد الجانبي، ثم تحول القصص إلى «لوحات» كل ذلك كان يشير إلى أهمية العبور إلى بحر تحليل التناقضات ومستوياتها المختلفة، وامتداداتها التاريخية والترميزية. لكن هذا لا يقلل أبداً من عظمة يحيى حقي القصصية ومواقفه، الذي يقول عنه المفكر محمود أمين العالم (.. فيحيى حقي هو ابن ثورة 1919، وهو امتدادها الفكري والأدبي والفني المتجاوز لها في الوقت نفسه، ألم ينتقد هذه الثورة لأنها لم تتحول إلى ثورة اجتماعية) (3). ـــــــــــــــــــــــــــ المصادر (1) عنتر وجولييت. الهيئة المصرية العامة للكتاب. طبعة 1986، – مصر. (2) راجع موقفه السياسي — الإبداعي عن الحقبة الناصرية في كتاب (المثقف العربي والسلطة) – تأليف سماح إدريس – وهو بحث في روايات التجربة الناصرية. دار الآداب 1992، بيروت. (3) مجلة ابداع — العدد الأول يناير 1993، – مقالة (يحيى حقي… ناقداً). (4) فجر القصة المصرية مع ست دراسات أخرى عن نفس المرحلة – يحيى حقي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1987، – مصر.
بدأ أدب الأطفال في البحرين، كنوع أدبي جديد، عبر انتاج خلف احمد خلف، وعبدالقادر عقيل، اللذين توجها، إلى هذا الجانب الابداعي المتميز، بعد عمل مستمر في كتابة القصة القصيرة، والطويلة، وخاصة عند خلف. وقد اتجهت القصة القصيرة لدى عبدالقادر عقيل إلى نواح تجريبية وصوفية، مما جعل اللغة القصصية ذات تراكيب إبداعية ليست متألقة، فيما يبدو، مع قصة الطفل البسيطة الواضحة. وإذا كانت قصة الأطفال عند عبدالقادر عقيل لم تشهد إنتاجا واسعا بعد قصتيه (من سرق قلم ندى ؟) و(من يجيب على سؤال ندى؟)، حيث واصل رحلته في القصة التجريبية وتطعيمها بمناخات صوفية، فإن خلف أحمد خلف اتجه إلى مسار أخر، هو صياغة مسرحية للأطفال، بعد أن باشر كتابة قصص قصيرة قليلة للطفل. وكتب إبراهيم سند قصة الطفل بمثابرة مستمرة، بدون أي تجربة قصصية سابقة، وكذلك فعل إبراهيم بشمي، الذي كان قادما من عوالم الصحافة والتحقيق، وإذا كان إبراهيم سند قد حاول أن يرسم مساراً خاماً لنفسه، جامعا بين النقد لظاهرات الحياة، والفنتازيا، مرافقاً البساطة بنحت ممرات غريبة في الحادث اليومي، مستنداً إلى الواقع المحلي بطبيعته وحيواناته وطيوره وبشره، فإن إبراهيم بشمي قد اتجه إلى نقد العادات السيئة، وظاهرات التخلف السائدة، متجها إلى مزيد من التوغل في اعماقها، عبر الأنماط الفنية، والأحداث المكثفة، المرسومة بهدف خلق التوجيه، ولكن الأحداث راحت تتسع في عوالم الماضي، متشحة بثياب التاريخ، متسربله بدلالات الحاضر. لكن سيطرة الهدف التوجيهي في قصصه، وبروز التعليمية الاجتماعية والسياسية، أوصل هذه القصة إلى ضرورة تحويل البنية، وتصوير الشخصية. ويُلاحظ ان اغلب اعمال الطفل تتجه تدريجيا إلى طرح إشكالات البنية الاجتماعية العميقة، عبر الصعود المستمر من الجزئي إلى الكلي، ومن المحدود إلى الشامل. ويترافق هذا مع تحول طبيعة الأبطال – الشخصيات في القصص، فالبطولة المسندة للحيوانات والنباتات وعناصر الطبيعة، تتراجع لتبرز بطولة البشر، وخاصة من الأطفال والصغار. وتكتسب اعمال خلف احمد خلف الموجهة للأطفال، دلالات هامة، بحاجة إلى الفحص المستمر، لكونها تعبر عن أبرز سمات أدب الطفل في البحرين . فقد أظهرت هذه الأعمال أن أسئلة الأدب العامة تظل ملحة كذلك، في هذا النوع الأدبي الخاص، وهو أدب الطفل. فإذا كانت بعض المحاولات في مسرح الطفل البحريني قد استسهلت هذا النوع من الفن، إلى درجة التسطيح والتشويه الكامل، فإن أسئلة عميقة، مؤرقة، ظلت تتنامى في أدب خلف أحمد خلف الطفلي، على مستويي البنية والدلالة . لقد رأينا كيف استجابت المسرحية لديه لقوانين الدراما، عبر خلق الصراع المتوتر، المتنامي، في تشكيلة متضافرة من الشخصيات والأحداث ، وكيف اهتمت بتجسيدات الفعل الدرامي ونموه، وصاغت المؤثرات الفنية المصاحبة، والكاشفة له، فالبنية الفنية المتوسعة، المتغلغلة في الحدث والشخصية، تحافظ على إيقاعها المكثف، وتضبط كل عناصرها. وتكمن أساسيات البنية الفنية في خلق الثنائيات المتضادة مثل: الرجل – الطبل/ الرجل – الكتاب، الطائر/ السلطان، النحلة/ الأسد، وتنمو الثنائية المتضادة، عبر جزئيات مساعدة. تدخل في سياق الثنائي المتصارع، وتجعلها حيوية، متلونة، جذابة. وإذا كانت هذه الثنائية قد غلب عليها التشتت في (العفريت)، فتأجل الصراع الدرامي إلى منتصف المسرحية، فإن الصراع يبرز بسرعة وشدة في (وطن الطائر)، عبر فكاهة موسعة، ولغة تحافظ على بساطتها وجمالها، ثم لا يكون سوى الصراع في النحلة والأسد. الذي يتوسع باتجاه جمهور الصالة. وعلى مستوى الموضوع، فإن البنية تبتعد تدريجيا عن التجريد، حيث ان ثنائية الساحر/الصبي، أو الرجل – الطبل/ الرجل – الكتاب، تمثل موضوعاً ثقافياً مجرداً، يصلح للصبية الذين يبتعدون عن عوالم الطفولة، في حين أن ثنائية الطائر/ السلطان، تقترب أكثر من المحسوسية والبساطة، محتوية على إشعاع أوسع، ومع هذا، فإن موضوع ثنائية الحرية – الوطن، له صلة وثيقة بعوالم التجريد الفلسفي. ويغدو موضوع ثنائية النحلة / الأسد، معبراً ببساطة ملموسة، عن قضايا واسعة، وفي قلبه تكمن كل الأسئلة المثارة في عوالم الكبار، لكن هنا تبقى الحكاية ذات الدلالات السياسية، في متناول ذهنية الطفل، وتعبر عن عالمه الخاص. ولابد هنا من القول، أن هذا النمو، عبر تكثف البنية ودراميتها المتزايدة، يتضافر مع تركيز الموضوع، وتوسع الدلالة. فمسرحية (العفريت) تحوى اكثر من موضوع محوري، فتتردد الموضوعات والدلالات بين محاور الرجل الطبل/ الرجل الكتاب، والصبي/ العفريت، وصلاح، فلا نعرف، هل المسرحية تتوجه للتعبير عن أهمية الكتاب، أم تتحدث عن ضرورة مساعدة الفقير، أم عن عدم جدوى السحر القديم؟. في (وطن الطائر) يتركز الموضوع أكثر، ويظهر محور واحد فقط، تدور عليه الحبكة الدرامية، فيغدو نقد الاستبداد والتحكم في حنجرة الطائر/المبدع، أكثر بروزاً وسيطرة من محور الصخرة/ الحرية/ الوطن، بل ان هذين الجانبين يتداخلان معبرين عن حالة واحدة ذات وجهين. ان الثنائية الصراعية تبرز هنا ملغية الجوانب الهامشية، فتتجه البنية الفنية للتبلور. وتغدو الدلالة أكثر وضوحاً وقوة واتصالاً بالجمهور – اطفال الصالة – حين يصير الموضوع موضوعاً واحداً، وتبدو ثنائية النحلة/ الاسد، مستولية حتى على العنوان، ويغدو التصوير متجهاً بقوة للتعبير عن (المستوى السياسي) للبنية الاجتماعية. ان التصوير المغتني، يترافق مع تطور مواقف الشخصية (الايجابية – المحورية) في المسرحية. فإذا كان التصوير يتناول في (العفريت) المستوى المعرفي للواقع، مفصولاً عن الصراعات السياسية والفكرية، وإذا كانت الشخصية المحورية، في ذات المسرحية، الصبي (علاء الدين) الفقيرة، سلبية كذلك، مثل الشخصية الثانوية الغنية (صلاح) . فان التصوير يتسع في (وطن الطائر) مستوعباً المستويين السياسي والفكري، ورغم سلبية المقاومة التي تبديها الشخصية المحورية (الطائر)، إلا أن هذه المقاومة تتسع عبر شخصيات إيجابية ثانوية كالراويين والحكيم. ليغدو التصوير سياسياً قوياً مباشراً في (النحلة والأسد)، ولتتركز القوة في الشخصية الإيجابية المحورية وهي النحلة، ولكن هذه الايجابية لا تتجه للبحث عن وطن اخر، والابتعاد عن المكان المحوري، بل لتغييره نفسه. ولكن هذا التطور الواسع الذي رأيناه عند خلف أحمد خلف يصل إلى ذروته، وتظهر تناقضاته بوضوح. لقد رأينا كيف أن مسرحية (النحلة والأسد) تمثل بنية درامية متبلورة وقوية، لكن في إطار التعميمات السياسية. وكان يمكن للترميزات أن تغدو عميقة وواسعة الدلالة، عبر تنامي الحدث في جوانب جديدة وجريئة، لكن الحدث ظل مبسّطا. ففجأة قررت النحلة أن تقاوم الأسد وتقود الحيوانات في نضال حازم، سرعان ما تكلل بالنجاح، نظراً لغباء الأسد الشديد. هذا التبسيط يقود إلى تسذيج الواقع الاجتماعي، وتوصيل هذا الواقع المسذج المبسط إلى الطفل. وكانت لدى المؤلف فرص عديدة لتعميق الحدث واغنائه بتفاصيل نفسية وحياتية، لكنه اتجه بسرعة إلى عرض الصراع وتسريعه وحسمه. هنا تحولت الشخصيات إلى انماط، الى قوالب للفكرة ـ صوت المؤلف، فقد ظهرت النحلة قرية ذكية نبيلة، وظهر الأسد ضعيفا غبيا أحمق. وسرعان ما انتقلت الحيوانات من السلبية إلى الايجابية، ومن الخضوع الكلي للأسد إلى التحرر المطلق منه. إن التنميط وسيطرة الفكرة العامة وإلغاء الخصوصية والتفرد، تبدو هنا واضحة. ولكن يمكن أن تكون هذه المشكلة، بداية لتطور خاص في مسرح الطفل البحريني. ان خلف احمد خلف خريج الفلسفة، تسيطر عليه منذ البداية الأفكار العامة، لكنه يصارعها ويجسدها ويؤنسنها، عبر نقاط التحول التي رأيناها. وهنا بلغت الفكرة العامة ذروة ما، اجتازت التفكك والتناقض المجرد، وتبلورت بوضوح، ولكنها وجدت نفسها عبر صراع عام، لم يغتن بسيرورات وعقد خاصة. فهل ستوامل هذا الطريق نفسه أم ستغتني بأشياء جديدة ؟. إن إشكالية الأنماط والتعليمية والشخصية/ البوق، تطرح نفسها بقوة على أدب الطفل في البحرين. فقد كان إبراهيم بشمي يركز على توصيل الفكرة النقدية، بغض النظر عن المعلومات، وقراءة الألوان والحيوانات الحقيقية في الطبيعة، مهتماً بتجسيد الايدلوجي التعليمي، أكثر منه بتصوير العالم، وعرض النماذج، فكان خياله قريباً، ومشكلاته واضحة جدا وشخصياته انماطا لمشكلة أو فكرة، دون أن يكسر هذه القولبة، ويغني ويعمق هذه الشخصيات. وفي حين حاول إبراهيم سند تضفير الحقيقي بالخيالي، وخلق تركيبة واقعية – فنتازيا، بسيطة وعميقة في آن، ذات دلالة تعليمية وجمالية تعبيرية خاصة’ فإنه لم يهتم كثيراً بتجسيد النموذج، هذه الشخصية الترميزية، التي يتضافر فيها العام والخاص، وتغدو حالة معروفة لدى الأطفال، مثل شخصيات ادب الاطفال الشهيرة. لقد توقف عبدالقادر عقيل عن إنتاج قصة الطفل، وهو الذي كان يقوم بذلك التضفير نفسه بين الواقعي والفنتازيا، النقدي والخيالي، السياسي والسحري. وقد بدأ بشخصيته (ندى)، وبدت ندى نموذجاً صالحاً للتطور، ولكنها ظلت (قالبأ) يصب فيه المؤلف ارشاداته الاجتماعية المضيئة، عبر لغة شعرية جميلة. لقد توقفت ندى عن النمو. لقد بدا كتاب البحرين ينطلقون من نسبة كبيرة من الخيال، لكنهم راحوا يتجهون نحو الواقعية – المباشرة، مقتربين من التوجيه التعليمي، عبر الاقنعة الحيوانية والنباتية المتعددة. إن نسبة الخيال تتضاءل كلما ابتعدنا عن عبدالقادر عقيل وإبراهيم سند، وتبدو عملية رفض الخرافة وقصص الفنتازيا متنامية بقوة في النتاج الأخير من أدب الأطفال. وراحت بعض الميول التعليمية المبسطة تفرض نفسها على النتاج، وتقدم الفكرة الاجتماعية في (قالب) مبسط . إن عدم ولوج أدب الأطفال إلى الحكايات الفنتازيا والخرافية وتطويعها، يعود ربما لهذه النظرة المتجهة إلى تسليط الأضواء على الحياة الواقعية المباشرة. وربما لعدم وجود القدرة الفنية على الممازجة بين الحكاية الخرافية والواقع المعاصر. لكن لاشك أن الفنتازيا المغرقة، واستخدام الخرافة والقصص الشعبية إستخداما سيئا ومفزعا، هو محذور ينبغي تجنبه، لكن بعدم الوقوع في التبسيطية و التسطيح من جهة اخرى.
في مسرحية (وطن الطائر)، يطور خلف احمد خلف التقنية الدرامية التي بدأ بتجسيدها في مسرحية (العفريت). والفكرة الاساسية للمسرحية مأخوذة من قصة للأطفال، غير منشورة، كتبها الشاعر قاسم حداد (انظر الكتاب ص91). والقصة تصور طائراً جميلاً ذا صوت خلاب سجنه ملك، فيرفض الطائر التغريد، ويغريه الملك بطبيعة ساحرة لكنها مسورة، فيواصل الطائر الصمت، حتى يكاد ينفق، فيطلقه الملك ليعرف أي مكان هذا الذي يفضله الطائر على القصر وحديقته، فيجده يغرد فوق صخرة جرداء في المياه. هذه هي الفكرة المحورية التي اقتبسها خلف، ليبدو شكل تجسدها على الخشبة، هو الاضافة الدرامية للفكرة. والفكرة، كقصة للأطفال، بسيطة وشاعرية، لكن كيف يمكن أن تتحول إلى دراما غنية بالحركة، والتلون وتباين الشخصيات وصراعاتها؟. إن بعض الثيمات التي استخدمها خلف في (العفريت)، يواصل استخدامها وتطويرها هنا.. فشخصية الراوي، المتحدث في الحكاية، المعلق عليها. تظهر هنا أيضاً، ولكن بصورة (طفل) و(طفلة)، مرحين، ساخرين من السلطان وقفصه وابنته البلهاء. وإذا كانت بعض مقاطع حضور هذا الراوي المشترك، ضمير المؤلف والأطفال معاً. حيوية، نابضة، فإن بعضها الآخر، زائد وتعليمي ومرهل لجسد المسرحية. كحديثهما الفكري عن الحكيم والحرية ص 122-123. ان وجود الطفلين، الراوي الواحد المتسق عقلاً، المختلف جنساً، ضمير العمل، يطلق الحركة الدرامية عبر تعليقات ساخرة على السلطان وابنته وحرسه، أو عبر التعليقات الجادة على الحكيم، أو لوصف حركات وأحداث لم تظهر على الخشبة.. إن وجود هذا الراوي هو أول تجسيد درامي للقصة، وهو أول جر للقصة من ميدانها السردي المكثف، الى جسد المسرح الحركي الصراعي التجسيدي، وتنبيضها لوناً، لكن وجود الراوي الثنائي من جهة اخرى، وفي بضع مواقع، يوقف الحركة الدرامية ويثقلها، فيكون أشبه بوجود كاتب القصة في المسرح، أشبه بحضور السرد في الدراما. وعلى سبيل المثال، اقرأ الفقرة الطويلة في ص 148، حيث يتناوب الطفلان – وهذا التناوب جزء من محاولة الخروج من مأزق الراوي الشارح – مدح الحكيم وحيلته في تحرير الطائر من أسر السلطان وإطلاقه إلى وطنه، إن هذه الفقرة، ليست سوى تمن بالذهاب مع القافلة ومدح الحكيم: (يا له من رجل حكيم – سأكون ابن الحكيم – سأكون ابنة الحكيم – وسنرى هذا الوطن الجميل.. الخ). أن الأجزاء الخيرة من الصراع، كالطائر والحكيم والصخرة، توصف عن قبل الراوي المشترك بكل صفات الطهر والطيبة، في حين توصف الأجزاء الشريرة من الصراع كالسلطان وفهمان ونبهان والابنة والحراس، بكل صفات الغباء والقبح. ومن هنا يكن المدح المبالغ فيه للجانب الخير من قبل الراوي، والسخرية الزائدة على الجانب الشرير، تحجيماً لوعى الطفل وتعليمية مباشر، حاول المؤلف أن يتجنبها. ونجد الروح الدرامية لا تتجسد فحسب عبر وضع الراوي الممتع، وتعليقاته الذكية، بل عبر التنويع والإمتاع والتلون في شخص السلطان وحرس وابنته. ففي القصة القصيرة عند قاسم، لم يكن يوجد سوى الملك بمفرده، في مواجهة الطائر، لكن هنا يتحول السلطان إلى ما يشبه المهرج الخفيف الظل، لكن الباطش السطوة، القاسي. إن صفات السلطان المتعددة تظهر، تباعاً، من خلال خطاب الراوي، وهو يبدو بحركاته الكثيرة الخرقاء، وطريقة فهمه للأشياء عبر الشكل العجيب، حيوي الظهور، مرح الكلام، لكن في إطار قسوة مستمرة، وصلف، هو جزء من تكوينه. ويحيط الكاتب السلطان بثلة من البلاهة، تتجسد في شخصيتي الحارسين الاخرقين (فهمان)، و(نبهان)، الذين يغدوان كإضافة مهرج ثنائي، إلى مهرج مركزي هو السلطان، ويغدو استغلال غباء الحارسين، بدءاً من إسميهما الى حركاتهما وتصادمهما المستمر، وذكائهما الذي يتحول الى غباء، إضافة جانب ممتع ومسل وساخر إلى جانب السلطان. إن الهالة التي تحيط بالطبقة الراقية تتمزق هنا عبر أنماط ملموسة. ولا يكتفي الكاتب، بهذا التمزيق، لكن يضيف نمطا ثالثا مغايرا، جوانبه السلطان، التي كانت تغدو في الحكاية القديمة، رمزا لكل ما هو نقي وسحري وسري، فتصير هنا ابنة بلهاء مضحكة طيبة، تركب فوق ظهر أبيها وتحوله الى حمار، تستغل وجود نبهان وفهمان الآدمي بديلا عن دميها. ان فكرة تحطيم الأوهام القديمة الفكرية – الفنية تستولي على مسرح خلف، عبر رفضه لفكرة الساحر القادر على كل شيء في (العفريت) وتمزيق ما هو مدرسي بليد، تحنطه الكتب، لنجد هنا ابنة السلطان تنزل من عليائها الى الواقع، ويرى الصغار اجنحة الحكايات الخيالية القديمة وهي تحترق فوق الارض، وتتكشف هذه الأنسجة المعقدة للثقافة والمجتمع، عبر مفردات الفن (البسيطة) المقدمة للأطفال. ان حركات ابنة السلطان المتعددة تضيف بهجة وحيوية أخرى على النص القصصي، الذي سُحب الآن، من سكونه السردي الصراعي المكثف، إلى اتساع الشخصيات المتضادة والتعارضات البهيجة – المؤلمة، وتنوعات المواقف والأشياء.. ان القصة القصيرة ببنيتها المضغوطة وشخصيتها شبه الوحيدتين، تتباين مع بنية المسرحية ذات الاتساع غير المطول، والمتبلور في عملية صراع، متنامية، متعددة الوجوه، وإذا كانت القصة تقدم (الشرير) في شخصية، فإنها تقدم (الخير) في شخصية مقابلة، وهو الطائر، لكن في المسرحية تتسع الشخصيات المتقابلة، فكما تعددت وجوه السلطان والحاشية، فقد اتسعت شخصية الطائر لتصير راويين وحكيما يقدم المشورة الذكية الخبيثة ليسجن من قبل السلطان. أن الطائر الذي لا يتكلم في القصة، يفصح عن ذاته، ويتجسد مضمونه عبر شخصيات متعددة في المسرحية. ولا يكتفي الكاتب بإضفاء توترات درامية – هزلية على المسرحية، بل يستفيد من التقنية المسرحية الصرفة، عبر كتابة ارشاداته عن الديكور والحركة، الأمر الذي يغدو اخراجا اوليا يتواصل عبر نص المسرحية. انه يقسم المسرحية ست لوحات، هي مقاطع المشاهد المتتالية النامية عبر عرض المسرحية، ويكتفي باستخدام [الديكور الرمزي في اللوحات الخمس الأولى] ص 90، حيث أن أجواء المشاهد تتحد في عوالم القصر والحديقة، وهذه أمكنة مسرحة يمكن التحكم فيها، من قبله. لكن اللوحة السادسة [تحتاج إلى تجسيمات عديدة لتقريب وتصوير مغزى المسرحية حول ارتباط الحرية بالوطن.. يمكن الإكثار من المؤثرات البصرية والسمعية في تلك اللوحة]. ان اللوحة السادسة هي لوحة قصصية، وتمثل لحظة الانتقال الحركي الطويل للسلطان والحاشية الى صخرة الطائر البعيدة، وطيران هـذا الطائر اليها، أيضا، مما يجعل التجسيد المسرحي صعبا. ان اهتمام المؤلف بـ(المغزى) وضرورة تجسيده بالمؤثرات تدل على الرغبة الدقيقة في تحديد نمو المسرحية بالكيفية التي يراها، فهو يخرج المسرحية قبل إخراجها. وتتضح العملية الاخراجية من سيطرة الكاتب الدقيقة على حركة الشخصيات، وأشكالها وملابسها، وقطع الديكور والمؤثرات. وكمثال نقرأ ما يلي: [الطفل: (يدخل على أطراف أصابعه محاذرا اصدار صوت، يتلفت في حذر تجاه الرجل النائم] و[فهمان ونبهان: يسرعان في التحرك فيتصادمان ويقعان على الارض، يسرع السلطان باتجاههما فينهضان بسرعة ويخرجان صارخين] الخ.. وهناك امثلة كثيرة على التحديد الدقيق لحركة المسرحية، واغلب هذه الإرشادات الإخراجية تستهدف تحديد عملية المسرحية للنص الأدبي. وهذه الإرشادات تدفع باستمرار باتجاه تنبيض اللغة وتجسيدها، واثارة المفارقات الجسدية، الحركية، اللونية، الشخصية، وإبعاد المسرحية عن الطابع التأملي العقلي. والكاتب يفلح في استنطاق النص قبل اخراجه، عبر عشرات الإرشادات التي تبدو عفوية في الصياغة، ومن هنا كانت عروض مسرحياته هي أعمال تنفيذية تنساق وراء الإخراج الضمني فيها. ويجب أن نتوقف هنا حول (المغزى). ان الكاتب لا يوضح فقط طريقة نمو التسلسل الدرامي وتجسيداته، بل يصر على المغزى وتحديده، فيقول [.. لتقريب وتصوير مغزى المسرحية حول ارتباط الحرية بالوطن ]. ان جملة الارتباط هذه تبدو غير واضحة، فالحرية مفهوم سياسي واجتماعي خاص، والوطن كيان ملموس، وليس ثمة علاقة مشتركة محسوسة. فهل يزول الوطن عندما يكون مستعبدا؟ أو يظهر الوطن فقط في الحرية؟ وهل يفر الإنسان / الطائر من وطنه إذا كان مكبلا؟ أو أن المواطنة الحقيقية لا تأتي إلا في وطن حر؟ ان المسرحية تهدف الى القول، ببساطة فلسفية، ان الوطن يكمن حيث توجد الحرية. ولكن ألا يقلل هذا من الوطن، ومن الحرية معا؟ واذا جئنا إلى القصة القصيرة، أساس النمو الدرامي، فإن (مغزى) آخر يتبدى هناك، حيث الطائر هو المبدع، الذي لا يستطيع الإبداع – الغناء وهو ملك لأحد. ان الابداع تمازج والحرية ، ويذوبان في سيرورة واحدة. وتغدو الصخرة الصغيرة في البحر، المجردة من القضبان، هي موقع التغريد والفعل الحر والوطن. ان سياقات القصة الداخلية أكثر عبر هذه الترابطات الوثيقة. ولكن كان من الصعب ـ على ما يبدو ـ إبراز هذا -المغرى- في مسرحية تقدم للصغار، فكان لابد من التحوير، وتغيير طابع المسرحية، لتغدو الصخرة هي الوطن وهي الحرية، وأن الطائر لا يستطيع أن يحيا (لا ان يغرد فحسب) إلا في وطنه، الذي هو الحرية. لقد اقتضت طبيعة النوع الأدبي الخاص. وهو مسرح الطفل، تغيير الموضوع، لكنه تحول الى موضوع تجريدي. فنشأ تناقض بين الموضوع وطبيعة النوع الفني، الأمر الذي أدى في الصياغة الى محاولة التغلب المستمر على الطابع التجريدي، بجعله ملموسا، حيا، قريبا، وهذا أغنى تطور بعض الأدوات الفنية، من جانب، وظهور بعض المباشرة، من جانب آخر. لكن (المغزى) ظل مع هذا مراوغا، كقول الطفلة متحدثة عن السلطان [لا يقتنع ابدا ان غناء الطائر هو الحرية.. وليس الحديقة السجن التي أقامها] ص 121، أو قول الطفل [ نعم.. نعم.. الحرية التي غنى لها هذا الطائر اجمل اغنية] ص 123. بعدئذ تصبح الصخرة وسط الماء هي الوطن، الحرية. وتقيم المسرحية سلسلة من التضادات المطلقة، فهناك: الطائر، الحكيم، الراويان، الصخرة، الغناء، الوطن، الحرية، السعادة، الجمال، الذكاء.. الخ.. في جهة، ومن جهة أخرى هناك السلطان، القصر، السجن، الابنة، فهمان ونبهان، الحراس، الغباء، القبح .. الخ. ولا يحدث الانتقال من جانب إلى اخر، في الشخصية، ويظل الخطان متضادين، وحين تنتقل الابنة المعتوهة إلى وطن الطائر والخط الآخر، فإنها تفعل ذلك بصورة غير مقنعة فنيا. ان وجود هذه التضادات في العالم الفني، يجعل الشخصيات منمطة، فالحكيم رمز الحكمة والكفاح، والطائر رمز الحرية، وهكذا بقية شخصيات الخط الأول، يغدو السلطان رمز المحدودية والضحالة، الخ.. ان الية النمطية تتيح توصيل التوجيه والمباشرة، لكنها تجعل العالم الفني أكثر احتياجا للغنى والتعدد.