دخول العرب إلى التاريخ العالمي (الاتجاهات المثالية …)

كـتـب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

أولاً ، هل هو الأسلوب الآسيوي للإنتاج ؟
بعد أن بلغنا هذا المستوى من رحلة التحليل ، ورأينا العرب ينتقلون من البداوة إلى الحضارة ، من نظام ما قبل التاريخ إلى الدخول في التاريخ ، وليس هو التاريخ المحلي والمناطقي فحسب ، بل العالمي ، فلا بد من إعادة النظر في المادة الاجتماعية التاريخية السابقة لربطها بالتحولات العالمية ، أي رؤية النظام الاجتماعي الذي حمله العرب ، أو الذي انخرطوا فيه ، أو النظام الذي هو مزيج من ما حملوه ، وما كان سائداً وغيروه.
إن الوصول إلى تعميمات تاريخية يتطلب مادة أولية واسعة سابقة تجعل الحديث عن نظام إنتاجي معين أقرب إلى الموضوعية.ولهذا سوف نعرض شيئاً من المادة السابقة ، ولكن في إطار جديد ، ذي منحى اقتصادي ـ اجتماعي ، وليس فكرياً كما كان الحال في السابق.
لقد تضاربت الآراء النظرية حول تطور الشرق تضارباً واسعاً عميقاً ، وأتجه مفكرون إلى إعطاء تطور الشرق منحنىً خاصاً مستقلاً كلياً عن تطور الغرب ، في حين أكد آخرون النمط المشترك للتشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية في تاريخ الإنسانية.
لقد كان كارل ماركس وفردريك أنجلز هما مكتشفا التشكيلات الخمس وتعاقبها وهي : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية.
ولكن اكتشافهما هذا خضع لتطور معرفتهما بالتاريخ البشري ، ففي سنوات ما تسمى بسنوات الشباب قالا أيضاً ب ” الأسلوب الآسيوي للإنتاج ” ، الذي يعقب المشاعية في الشرق ويختلط اختلاطاً غامضاً بالعبودية والإقطاع ، بحيث يغدو مساراً خاصاً للأمم الشرق ، ولكن في سنوات النضج النظري ، والذي يتحدد عموماً بكتاب ” رأس المال ” فقد اختفى أسم أسلوب الإنتاج الآسيوي هذا ، مما يدلل على مراجعة ماركس لسيرورة الإنتاج البشري عامة ، ولكن هذه المراجعة لم تظهر بشكل نظري واضح.
والواقع إن معلومات ماركس وانجلز عن تطور الشرق كانت معلومات قليلة ومحدودة لم تسعفهما في إنتاج تصور نظري شامل للتاريخ فيه ، رغم أهمية اكتشافهما لدور وسائل الري كمفتاح لفهم تاريخه.
ولكن استنتاجهما حول الأسلوب الآسيوي للإنتاج ظل في الوعي التاريخي العام وتبناه العديد من الباحثين في الشرق.
كما أن القائلين بالتشكيلات الخمس ظلوا يقدمون أبحاثهم حول تطور الشرق عبر هذه المراحل التاريخية الكبرى.
إن الباحثين في أسلوب الإنتاج الآسيوي يحاولون اكتشاف خصوصية الشرق ومسارات التطور فيه ، ويبرزون هذه الخصوصية.
وسوف نستعرض هنا بعض هذه الآراء الهامة المفيدة في اكتشاف سمات الشرق بالتقابل مع الغرب.
يقول الياس مرقص : ( هل انتهى ماركس فعلاً إلى إخراج الأسلوب الآسيوي ـ من حيث انه أسلوب متكامل ـ من نموذج التاريخ الأوربي ؟ .. هذا ما نتصوره ، وهو واضح عند أنجلز وبليخانوف ، وإلا فما هو معنى الصفة الركودية للأسلوب المذكور ؟ هذا إذاً ما نتصوره .. ونعتقد أن الصفة الركودية مفتاح لا غنى عنه ، ومعناها واضح بالتقابل مع نموذج ” نموذج التطور ـ تعاقب الأنماط في أوربا.
ويقول مقارناً بين النموذجين ” الآسيوي والغربي : وهذا النمط الاجتماعي لا يفسح المجال لحركة نمو صاعدة كتلك التي عرفها ” نموذج ” الملكية الخاصة والتي نقلته من نمط إلى آخر ، في حقبة قصيرة نسبياً”. لقد اكتفى ماركس بمفهوم الأسلوب الآسيوي أو الشرقي كنموذج مخالف لنماذج الملكية الخاصة المهيمنة في التاريخ الأوربي ” ، ” هذا الأسلوب الذي يسمح بإنشاء منجزات عظيمة عند ظهوره وفي حقب ازدهاره الدورية ، في العلم والتكنيك وسائر ميادين الحضارة المادية والفكرية ..يصبح في مرحلة لاحقة عامل جمود طويل ، ويتكشف عن ضعف مخيف في مواجهة عالم الملكية الخاصة وديناميكيته ومنجزاته .) ، (1 ).
في هذا المقطع يعطي المفكر العربي الياس مرقص الأسلوب الأسيوي تعميماً يجرده فوق الطبقات والمسار الملموس للتاريخ فتتشكل صفات خاصة به ، فله طابع دوري من النهوض والركود ، وتهيمن فيه الملكية العامة عبر تقابل مضاد مع الغرب المتنامي والمتطور عبر التاريخ وذي الملكية الخاصة.
ويؤكد إن الملكية الخاصة موجودة في ( المجتمعات الشرقية كما في المجتمعات الغربية ، إنما الفرق يكمن في إن هذه القوى لا تنجح في الشرق) ، (2 ) ، كما يقول ( إن صراع الطبقات في الأسلوب الآسيوي طرح محدود ، صراع من نوع آخر لا يفضي إلى حركة التقدم التاريخية ) ،(3 ) ، ويضيف ( إن المجتمع الآسيوي في موضوع الطبقات وصراعها ـ حالة وسط بين المجتمع الشيوعي البدائي الخالي من الطبقات والمجتمع الطبقي العبودي أو الإقطاعي وإن صراعه الطبق المحدود لا ينمو ولا ينبسط ..في صراع طبقي كامل يسير وفق ديناميكية صاعدة مبيدة لا منشئة ،(4).
أما الباحث نايف بلوز فيعتبر أسلوب الإنتاج الآسيوي هو ( أول مجتمع طبقي عرفته البشرية) ، أي هو تشكيلة اقتصادية للمجتمع نشأت في أعقاب إنحلال المجتمع البدائي ، بل في أحشائه) ، ويضيف ( لقد نشأت في الشرق مع ظهور التمايز الاجتماعي وفي قلب علاقات الإنتاج الآسيوي ” سلطة عليا ” أخذت تشرف على الجماعات الريفية.. وكانت هذه السلطة بمثابة دولة تنفذ مهمات مركزية مشتركة لهذه الجماعات مثل فتح الترع والأقنية وتنظيم مجاري الأنهار وقيادة الحرب الخ .. لقد تحول موظفوها إلى الطبقة المستثمرة).
وقد جاءت الإقطاعية ، حسب بلوز ، في أعقاب هذا الأسلوب الآسيوي ( والإقطاعية الشرقية قد اتصفت بالاعتماد على الري الاصطناعي وبوجود بقايا عبودية ، كما اتصفت بوجود بعض خصائص الجماعة الريفية البطريركية التي ظلت قائمة في قلب العلاقات الإقطاعية والتي تكيفت أكثر فأكثر مع أسلوب الاستثمار الإقطاعي ) ، (5 ) .
أي أن نايف بلوز يرفض فقط وجود العبودية كتشكيلة متميزة في تاريخ الشرق ، بخلاف الياس مرقص الذي يحتفظ بها ، لكنه يجعلها تالية للأسلوب الآسيوي ، وبلوز ينتقل مباشرة من الأسلوب الآسيوي إلى التشكيلة الإقطاعية ، التي يعتبر التاريخ العربي ـ الإسلامي هو مجسدها في العصر الوسيط.
إن الباحثين مرقص وبلوز يتفقان على تسمية مرحلة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي بأنها الأسلوب الآسيوي للإنتاج الذي نعرف بعض خصائصه ، غير إنه ليس أسلوباً عبودياً ، حيث يتصوران إنه لا بد أن يكون النظام العبودي ذا أغلبية من المنتجين العبيد .
أما سمير أمين فإنه يشكل تعبيراً آخر للتشكيلة ” الآسيوية ” ، وهو تعبير ” النمط الخراجي ” ، وهو يحدد التاريخ البشري بأنماط خمسة هي:
1 ـ نمط الإنتاج المشاعي ( الجماعي البدائي ) السابق على الأنماط الأخرى.
2 ـ نمط الإنتاج الخراجي ( الأتاوي ) الذي يربط المشاعة القروية بجهاز اجتماعي سياسي لاستغلال هذه المشاعة بواسطة اقتطاع خراج ، وهو النمط الخراجي الأكثر شيوعاً الذي يسم التشكيلات الطبقية الما قبل رأسمالية.
ويميز في هذا النمط مستويان :
1 ـ الأشكال المبكرة ، كما في الطراز الإفريقي.
2 ـ الأشكال المتطورة ، كما كانت الحال في الصين والهند ومصر وكما هو نمط الإنتاج الإقطاعي ، حيث تفقد المشاعة القروية ملكيتها للأرض لصالح الإقطاعيين وتبقى المشاعة العائلية.
3 ـ نمط الإنتاج العبودي ، وهو نادر ويجده في حضارة الإغريق والرومان.
4 ـ نمط الإنتاج الرأسمالي الغربي ، ( 6) .
يقيم سمير أمين رؤيته للتاريخ الشرقي عبر نمط (التوزيع ) فيبدأ من كيفية توزيع الفائض الاقتصادي ، ويقسم مجتمعات الشرق حسب هذا الخراج ، ويلغي العبودية كلياً من تاريخ الشرق القديم ، معطياً تسمية الإقطاعية المتطورة لتشكيل هذا الخراج ، وعبر هذه الرؤية يعيش الشرق في ركود تاريخي ، أو تحجر سياسي واجتماعي وثقافي .
ومن الملاحظات الملفتة للباحث سمير أمين هذا التعميم: ( إن الطبقة الحاكمة في هذا العالم مدينية مكونة من رجال بلاط وتجار ورجال دين ومن حولهم كل هذا العالم الصغير من الحرفيين والكتبة الذي يطبع بطابعه الخاص المدن الشرقية ) ويضيف: ( تشكل الطبقة القائدة ملاط هذا الكل ، لقد تبنت في كل الأنحاء اللغة ذاتها ، والثقافة الإسلامية الأرثوذكسية السنية .. هذه الطبقة هي التي أنتجت الحضارة العربية ، إن ازدهارها ناجم عن ازدهار التجارة البعيدة ، والتجارة هذه في أصل تحالفها مع القبائل البدوية ، وقادة قوافله وفي أصل عزلة المناطق الزراعية التي حافظت على شخصيتها الخاصة بها ـ اللغوية ( على مستوى البربر ) أو الدينية ( على مستوى الشيعة ) ، لكنها لم تلعب دوراً مهماً في النظام ) ، ( 7 ).
إن الملاحظات والتعميمات الأخيرة أو السابقة تحتاج إلى فحص تفصيلي ، وفي هذا الفصل سوف نتابع تحليل مسالة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي ، باعتبارها مسألة محورية في الانتقال العربي ـ الإسلامي إلى الحضارة ، ولا بد من قراءة نماذج محورية نموذجية في المشرق لكي نرى مصداقية هذه التعميمات النظرية، مرجئين فحص تعميمات المذاهب إلى الجزئين التاليين.


ثانياً ، العبودية المعممة في الشرق
يؤيد العديد من الباحثين في العالم الثالث والمتقدم نظرية الأسلوب الآسيوي للإنتاج ، باعتبارها مرحلة مميزة لتطور الشرق وأمريكا قبل كولمبس.
يقول الباحث الماركسي الفرنسي م . غوديليه :
( يبدو لنا إن ماركس إذ يصف أسلوب الإنتاج الآسيوي ، فهو يصف ، دون أن يعي ذلك بدقة ، شكل التنظيم الاجتماعي الذي يميز الانتقال من المجتمع اللاطبقي إلى المجتمع الطبقي.. ويبدو لنا إن بنية أسلوب الإنتاج الآسيوي توافق مراحل معينة من الانتقال إلى المجتمع الطبقي وتنتشر على نطاق تاريخي وجغرافي أكثر شمولاً بكثير مما تصوره ماركس : إمبراطوريات أمريكا قبل كولومبس ، الممالك الإفريقية ، ممالك الميكناي ” الإغريقية ” ) ، (8 ) .
ما هي السمات الجوهرية لأسلوب الإنتاج الآسيوي الانتقالي هذا ؟
إن ملاحظات الكثير من الباحثين تحددها في :
إن هذا الأسلوب يتصف بالتمازج التناقضي بين البنية المشاعية للمجتمع ، والمُـلكية القبلية ، والمشاعية ، والجماعية للأرض ، من جهة ، وبين استغلال العاملين من قبل الدولة الاستبدادية ، من جهة أخرى.
ويرفض باحثون عالميون آخرون مقولة الأسلوب الآسيوي ، ويؤكد هؤلاء بأنه منذ أول انقسام طبقي للمجتمع وحتى الثورات البرجوازية كانت الإقطاعية هي السائدة في جميع البلدان ، وعلى إن تاريخ البشرية يعرف أربع تشكيلات فقط هي : المشاعية ـ الإقطاعية ـ الرأسمالية ـ الاشتراكية، ( 9 ) .
ويطرح الباحث ف. تيوكي مقولة الطريق ” الطبيعي ” للتطور والطريق ” الاستثنائي ” للتاريخ ، ويؤيد ج . شينو هذا الرأي ، ويبينان إن النظام المشاعي تبعه النظام ” الآسيوي ” وعلى هذا المسار سارت جميع شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا حتى أوائل العصر الحديث .
أما بلدان أوربا فقد تطورت على طريق استثنائي ، فلقد جاء بعد النظام المشاعي النظام العبودي ثم الإقطاعي فالرأسمالي .
لكن أسباب هذا التحول ( مازالت بحاجة إلى تحديد وبحث ) ، (10 ).
يكتب تيوكي ” برأينا .. في آسيا وفي كل مكان ، باستثناء أوربا ، تشكلت أنظمة المشاعات الزراعية والأنظمة الخراجية على أقرب ما يكون إلى الشكل الطبيعي على أساس ملكية الأرض المشاعية البدائية ، بدون تأثير أية عوامل تاريخية خاصة. إن هذا التطور ، رغم إنه في تفاصيله يمكن ويتوجب إرجاعه إلى تأثير عوامل كثيرة ومختلفة ، إلا أنه في أساسه يعتبر طبيعياً. إن النموذج اليوناني في التطور بالتحديد ( وهو ، على ما يبدو ، وحيد من نوعه في تاريخ البشرية ) ، وهو وحده الذي كان نتيجة تأثير عوامل تاريخية خاصة ( خاصة بالمعنى الفلسفي لهذه الكلمة ) ، 11) .
ويؤيد م . فابر هذا الرأي ويقول بأن تاريخ البشرية ” يتأرجح بين قطبين ـ قطب أسلوب الإنتاج الآسيوي وقطب آخر يمكن تسميته بالخط الأوربي للتطور ” ، (12).
وتؤيد ج . فيلسكوب هذا الرأي كذلك وتضيف بأن العلاقات الإنتاجية التي تشكلت في الشرق القديم وهي استغلال المشاعات ، والأعمال الاجتماعية ” أعمال الري ” التي تدار مركزياً ، وغير ذلك هي ” تطور تاريخي خاص ” ، أما في أوربا ، وعلى أساس لا مركزية الإنتاج ونمو الملكية الخاصة ، فقد ” أمكن لتطور ذي طابع آخر أن يشق طريقه ويستمر في الإقطاعية الأوربية والرأسمالية الأوربية ” ، ( 13 ).
ويعتبر غ . ليفين بأن تاريخ الصين تطور على طريق مختلف كلياً عن تاريخ أوربا ، فإذا كانت أوربا بعد المشاعي اجتازت التشكيلات العبودية والإقطاعية والرأسمالية ، فغن الصين اجتازت تشكيلات مختلفة مبدئياَ ، ففي البداية كانت هناك ” التشكيلة الآسيوية ” ، وبعدها ” ما قبل الرأسمالية ” التي لا يجد المؤلف لها تعبيراً أدق ، ( 14 ).
يلاحظ مؤلف كتاب ” عبودية ، إقطاعية أم أسلوب إنتاج آسيوي ” ، يوري ف . كاتشانفسكي بأن العديد من الباحثين يستخدمون معايير تقليدية في فهم تاريخ الشرق ، فهم يتصورون بأن العبيد في ظل أسلوب الإنتاج العبودي الحقيقي أو المفترض يجب أن يكونوا محرومين من حيازة أي شيء ، ومحرومين من العائلة ومن أية حقوق أخرى.
كما أن التصور التقليدي المستقى من التاريخ الأوربي ، والذي يؤكد بأن الإقطاعية تتصف ب ” التسلسل الهرمي للحيازات الزراعية ” ، وهو الأمر الذي تحقق في فرنسا بين القرن التاسع والثالث عشر الميلاديين ، لم يكن قائماً في الصين بين القرنين الخامس والسابع أو في ظل الخلافة العباسية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين ، وهو أمر يلغي وجود الإقطاع في الصين وفي التاريخ العربي ـ الإسلامي.
كذلك فإن رؤية بعض الباحثين لأحد الشروط الأساسية في الإقطاع الأوربي وهو ملكية الأرض الخاصة ب ” السنيور ” وهو الأمر غير المتوفر في تاريخ الشرق حسب قولهم ، وسيطرة ملكية الدولة ، ينفي وجود الإقطاع في تاريخ الشرق.
ونقترب أكثر من قراءة تاريخ الشرق عبر النظرية الوظيفية ، فما هو ملخص رأيها حول عمليات الانتقال الأولى في الشرق ؟
إنها ترى بأنه ( في ظل أسلوب الإنتاج الآسيوي كانت الطبقة السائدة هي مجموعة من الناس برئاسة الملك ، تقوم ببعض الوظائف العامة الهامة ، ويدير هؤلاء الناس بناء الري ، والطرق ، والمنشآت الدفاعية ( سور الصين ) ويديرون الحياة الاقتصادية كلها.. وبالنتيجة ، فإن الناس الذين كانوا يقومون بالوظائف المُشار إليها اكتسبوا سلطة على السكان الباقين وأخذوا يستغلونهم ) ، ( 15 ).
ويقول ل . ي . ماديار ( كان ظهور المجتمع الطبقي مرتبطاً بضرورة تنظيم الري الاصطناعي. إن خدم المشاعة ـ عشيرية كانت أم زراعية أم دينية ـ الذين كانوا يؤدون وظائف تنظيم الري ، يتجمعون في مسار التطور في طبقة سائدة تستغل المشاعة أو القبيلة وتتملك العمل الإضافي للمنتجين المباشرين) ، ( 16 ).
ونعرض أخيراً الرأي المنتشر في أوساط علمية أخرى ، وهو ما طرحه الباحث شارل بارن حول (العبودية المُـعممة).
( يعدد بارن الخصائص التالية للعبودية المعممة ( الشاملة ):
1 ـ استغلال قوة العمل المجانية تقريباً. فإذا كان مالك العبيد في العبودية التقليدية مضطراً لإنفاق مال لشراء العبد واطعامه واكسائه وتوفير مأوى ، فإنه في العبودية المُعممة يجبر المستغلون جماهير ضخمة من الفلاحين المنتزعين من عوائلهم وأشغالهم لفترة معينة على العمل لديهم.
2 ـ في العبودية المعممة يجري هدر قوة العمل بشكل تدميري ، فإذا كان مالك العبيد الخاص في العبودية التقليدية يحاول استخدام عمل المنتجين من أجل الحصول على ربح ، فإنه في ظل العبودية المعممة يجري إنفاق قوة العمل ليس فقط على إقامة المنشآت النافعة اجتماعياً ( القنوات ، السدود وغيرها ) وإنما أيضاً على إقامة منشآت لا فائدة منها إطلاقاً ( أهرامات مصر ، القصور الهائلة ، المعابد وغيرها).
3 ـ في ظل العبودية المعممة تجبر جماهير واسعة من المنتجين على العمل الفيزيولوجي غير المؤهل الشاق في أعمال الزراعة ، وفي جر ورفع الأثقال.
4 ـ في ظل العبودية المعممة تجبر السلطة الحكومية الاستبدادية المشاعات الفلاحية على تخصيص قوة عمل من عندها من أجل الأعمال الاجتماعية الضخمة .. أما في ظل العبودية التقليدية فإن مالك العبيد الخاص يجبر العبيد على العمل في أرضه لمصلحته الخاصة .) ، (17 ).
ويقول مؤلف ( عبودية .. ) كاتشانفسكي بأن العديد من الباحثين دعم وجهات نظر شارل بارن ، وهو رأي طرح بدءً من سنة 1966 ، وقد دعم شينو أفكار بارن بقوة ، قائلاً بأن أسلوب الاستغلال الذي يتحدث عنه بارن ” يتميز بشكل أساسي عن العبودية التقليدية وعن القنانة أيضاً ” ، وبأن بارن أقترب بذلك أكثر من الجميع نحو التحديد النظري لأسلوب الإنتاج ( الأسيوي ) واكتشاف قانونه الاقتصادي الأساسي ، ويقف ج . ج . غوبلو موقفاً قريباً من موقف بارن إذ يرى بأن الازدهار الذي شهدته مدنيات الشرق الأدنى بعد ” ثورة العصر الحجري الحديث ” تحقق على حساب ” استغلال لا مثيل له لجماهير الكادحة ” ، هذا الاستغلال الذي أتخذ شكل ” العبودية المعممة ” ، (18 ).
وأما الباحثون الروس ( والسوفييت ) الذين لا يميلون إلى نظرية أسلوب الإنتاج الآسيوي في صورتها التقليدية فإنهم ينظرون إلى ” العبودية العامة ” من زوايا مختلفة ، فقد أشار ف . ف . ستروفه إلى الطابع العبودي في المجتمعات الشرقية القديمة ولكن عبر شكلين : عبودي وبطريركي ، ففي مصر كانت الدولة القديمة تجمع الريع ـ الضريبة من المشاعات الزراعية بطريقة بالغة القسوة.
ويرى آ . ي . تيومينيف بأن العبودية المعممة لم تكن مصطلحاً أستخدم مصادفة ، وإنما هو تعبير عن أهم الخصائص المميزة للنظام الاجتماعي في الشرق ويضيف ” لقد أطلق على مصر أسم ( بيت العبودية ) (… ) لا لأنه فيها الكثير من العبيد ولكن بالدرجة الأولى لأن جميع السكان هناك كانوا يعيشون في ظروف العبودية ” ، ويعتبر تيومينيف الدليل الهام على هذه العبودية المعممة الوثائق عن الإكراه الواسع لسكان مصر على العمل في أشغل الري والبناء ، ويذكر عبارة الملكة حاشيبسوت التي تنص على أن مصر بكاملها ، رأس محني ، يجب أن تعمل من أجلها.
إن هذه الآراء الأخيرة عن العبودية المعممة ستكون إحدى المفاتيح لقراءة تاريخ المشرق ورؤية سيرورته حتى ظهور العرب ودورهم في تغييره.

أولاً ، هل هو الأسلوب الآسيوي للإنتاج ؟
بعد أن بلغنا هذا المستوى من رحلة التحليل ، ورأينا العرب ينتقلون من البداوة إلى الحضارة ، من نظام ما قبل التاريخ إلى الدخول في التاريخ ، وليس هو التاريخ المحلي والمناطقي فحسب ، بل العالمي ، فلا بد من إعادة النظر في المادة الاجتماعية التاريخية السابقة لربطها بالتحولات العالمية ، أي رؤية النظام الاجتماعي الذي حمله العرب ، أو الذي انخرطوا فيه ، أو النظام الذي هو مزيج من ما حملوه ، وما كان سائداً وغيروه.
إن الوصول إلى تعميمات تاريخية يتطلب مادة أولية واسعة سابقة تجعل الحديث عن نظام إنتاجي معين أقرب إلى الموضوعية.ولهذا سوف نعرض شيئاً من المادة السابقة ، ولكن في إطار جديد ، ذي منحى اقتصادي ـ اجتماعي ، وليس فكرياً كما كان الحال في السابق.
لقد تضاربت الآراء النظرية حول تطور الشرق تضارباً واسعاً عميقاً ، وأتجه مفكرون إلى إعطاء تطور الشرق منحنىً خاصاً مستقلاً كلياً عن تطور الغرب ، في حين أكد آخرون النمط المشترك للتشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية في تاريخ الإنسانية.
لقد كان كارل ماركس وفردريك أنجلز هما مكتشفا التشكيلات الخمس وتعاقبها وهي : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية.
ولكن اكتشافهما هذا خضع لتطور معرفتهما بالتاريخ البشري ، ففي سنوات ما تسمى بسنوات الشباب قالا أيضاً ب ” الأسلوب الآسيوي للإنتاج ” ، الذي يعقب المشاعية في الشرق ويختلط اختلاطاً غامضاً بالعبودية والإقطاع ، بحيث يغدو مساراً خاصاً للأمم الشرق ، ولكن في سنوات النضج النظري ، والذي يتحدد عموماً بكتاب ” رأس المال ” فقد اختفى أسم أسلوب الإنتاج الآسيوي هذا ، مما يدلل على مراجعة ماركس لسيرورة الإنتاج البشري عامة ، ولكن هذه المراجعة لم تظهر بشكل نظري واضح.
والواقع إن معلومات ماركس وانجلز عن تطور الشرق كانت معلومات قليلة ومحدودة لم تسعفهما في إنتاج تصور نظري شامل للتاريخ فيه ، رغم أهمية اكتشافهما لدور وسائل الري كمفتاح لفهم تاريخه.
ولكن استنتاجهما حول الأسلوب الآسيوي للإنتاج ظل في الوعي التاريخي العام وتبناه العديد من الباحثين في الشرق.
كما أن القائلين بالتشكيلات الخمس ظلوا يقدمون أبحاثهم حول تطور الشرق عبر هذه المراحل التاريخية الكبرى.
إن الباحثين في أسلوب الإنتاج الآسيوي يحاولون اكتشاف خصوصية الشرق ومسارات التطور فيه ، ويبرزون هذه الخصوصية.
وسوف نستعرض هنا بعض هذه الآراء الهامة المفيدة في اكتشاف سمات الشرق بالتقابل مع الغرب.
يقول الياس مرقص : ( هل انتهى ماركس فعلاً إلى إخراج الأسلوب الآسيوي ـ من حيث انه أسلوب متكامل ـ من نموذج التاريخ الأوربي ؟ .. هذا ما نتصوره ، وهو واضح عند أنجلز وبليخانوف ، وإلا فما هو معنى الصفة الركودية للأسلوب المذكور ؟ هذا إذاً ما نتصوره .. ونعتقد أن الصفة الركودية مفتاح لا غنى عنه ، ومعناها واضح بالتقابل مع نموذج ” نموذج التطور ـ تعاقب الأنماط في أوربا.
ويقول مقارناً بين النموذجين ” الآسيوي والغربي : وهذا النمط الاجتماعي لا يفسح المجال لحركة نمو صاعدة كتلك التي عرفها ” نموذج ” الملكية الخاصة والتي نقلته من نمط إلى آخر ، في حقبة قصيرة نسبياً”. لقد اكتفى ماركس بمفهوم الأسلوب الآسيوي أو الشرقي كنموذج مخالف لنماذج الملكية الخاصة المهيمنة في التاريخ الأوربي ” ، ” هذا الأسلوب الذي يسمح بإنشاء منجزات عظيمة عند ظهوره وفي حقب ازدهاره الدورية ، في العلم والتكنيك وسائر ميادين الحضارة المادية والفكرية ..يصبح في مرحلة لاحقة عامل جمود طويل ، ويتكشف عن ضعف مخيف في مواجهة عالم الملكية الخاصة وديناميكيته ومنجزاته .) ، (1 ).
في هذا المقطع يعطي المفكر العربي الياس مرقص الأسلوب الأسيوي تعميماً يجرده فوق الطبقات والمسار الملموس للتاريخ فتتشكل صفات خاصة به ، فله طابع دوري من النهوض والركود ، وتهيمن فيه الملكية العامة عبر تقابل مضاد مع الغرب المتنامي والمتطور عبر التاريخ وذي الملكية الخاصة.
ويؤكد إن الملكية الخاصة موجودة في ( المجتمعات الشرقية كما في المجتمعات الغربية ، إنما الفرق يكمن في إن هذه القوى لا تنجح في الشرق) ، (2 ) ، كما يقول ( إن صراع الطبقات في الأسلوب الآسيوي طرح محدود ، صراع من نوع آخر لا يفضي إلى حركة التقدم التاريخية ) ،(3 ) ، ويضيف ( إن المجتمع الآسيوي في موضوع الطبقات وصراعها ـ حالة وسط بين المجتمع الشيوعي البدائي الخالي من الطبقات والمجتمع الطبقي العبودي أو الإقطاعي وإن صراعه الطبق المحدود لا ينمو ولا ينبسط ..في صراع طبقي كامل يسير وفق ديناميكية صاعدة مبيدة لا منشئة ،(4).
أما الباحث نايف بلوز فيعتبر أسلوب الإنتاج الآسيوي هو ( أول مجتمع طبقي عرفته البشرية) ، أي هو تشكيلة اقتصادية للمجتمع نشأت في أعقاب إنحلال المجتمع البدائي ، بل في أحشائه) ، ويضيف ( لقد نشأت في الشرق مع ظهور التمايز الاجتماعي وفي قلب علاقات الإنتاج الآسيوي ” سلطة عليا ” أخذت تشرف على الجماعات الريفية.. وكانت هذه السلطة بمثابة دولة تنفذ مهمات مركزية مشتركة لهذه الجماعات مثل فتح الترع والأقنية وتنظيم مجاري الأنهار وقيادة الحرب الخ .. لقد تحول موظفوها إلى الطبقة المستثمرة).
وقد جاءت الإقطاعية ، حسب بلوز ، في أعقاب هذا الأسلوب الآسيوي ( والإقطاعية الشرقية قد اتصفت بالاعتماد على الري الاصطناعي وبوجود بقايا عبودية ، كما اتصفت بوجود بعض خصائص الجماعة الريفية البطريركية التي ظلت قائمة في قلب العلاقات الإقطاعية والتي تكيفت أكثر فأكثر مع أسلوب الاستثمار الإقطاعي ) ، (5 ) .
أي أن نايف بلوز يرفض فقط وجود العبودية كتشكيلة متميزة في تاريخ الشرق ، بخلاف الياس مرقص الذي يحتفظ بها ، لكنه يجعلها تالية للأسلوب الآسيوي ، وبلوز ينتقل مباشرة من الأسلوب الآسيوي إلى التشكيلة الإقطاعية ، التي يعتبر التاريخ العربي ـ الإسلامي هو مجسدها في العصر الوسيط.
إن الباحثين مرقص وبلوز يتفقان على تسمية مرحلة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي بأنها الأسلوب الآسيوي للإنتاج الذي نعرف بعض خصائصه ، غير إنه ليس أسلوباً عبودياً ، حيث يتصوران إنه لا بد أن يكون النظام العبودي ذا أغلبية من المنتجين العبيد .
أما سمير أمين فإنه يشكل تعبيراً آخر للتشكيلة ” الآسيوية ” ، وهو تعبير ” النمط الخراجي ” ، وهو يحدد التاريخ البشري بأنماط خمسة هي:
1 ـ نمط الإنتاج المشاعي ( الجماعي البدائي ) السابق على الأنماط الأخرى.
2 ـ نمط الإنتاج الخراجي ( الأتاوي ) الذي يربط المشاعة القروية بجهاز اجتماعي سياسي لاستغلال هذه المشاعة بواسطة اقتطاع خراج ، وهو النمط الخراجي الأكثر شيوعاً الذي يسم التشكيلات الطبقية الما قبل رأسمالية.
ويميز في هذا النمط مستويان :
1 ـ الأشكال المبكرة ، كما في الطراز الإفريقي.
2 ـ الأشكال المتطورة ، كما كانت الحال في الصين والهند ومصر وكما هو نمط الإنتاج الإقطاعي ، حيث تفقد المشاعة القروية ملكيتها للأرض لصالح الإقطاعيين وتبقى المشاعة العائلية.
3 ـ نمط الإنتاج العبودي ، وهو نادر ويجده في حضارة الإغريق والرومان.
4 ـ نمط الإنتاج الرأسمالي الغربي ، ( 6) .
يقيم سمير أمين رؤيته للتاريخ الشرقي عبر نمط (التوزيع ) فيبدأ من كيفية توزيع الفائض الاقتصادي ، ويقسم مجتمعات الشرق حسب هذا الخراج ، ويلغي العبودية كلياً من تاريخ الشرق القديم ، معطياً تسمية الإقطاعية المتطورة لتشكيل هذا الخراج ، وعبر هذه الرؤية يعيش الشرق في ركود تاريخي ، أو تحجر سياسي واجتماعي وثقافي .
ومن الملاحظات الملفتة للباحث سمير أمين هذا التعميم: ( إن الطبقة الحاكمة في هذا العالم مدينية مكونة من رجال بلاط وتجار ورجال دين ومن حولهم كل هذا العالم الصغير من الحرفيين والكتبة الذي يطبع بطابعه الخاص المدن الشرقية ) ويضيف: ( تشكل الطبقة القائدة ملاط هذا الكل ، لقد تبنت في كل الأنحاء اللغة ذاتها ، والثقافة الإسلامية الأرثوذكسية السنية .. هذه الطبقة هي التي أنتجت الحضارة العربية ، إن ازدهارها ناجم عن ازدهار التجارة البعيدة ، والتجارة هذه في أصل تحالفها مع القبائل البدوية ، وقادة قوافله وفي أصل عزلة المناطق الزراعية التي حافظت على شخصيتها الخاصة بها ـ اللغوية ( على مستوى البربر ) أو الدينية ( على مستوى الشيعة ) ، لكنها لم تلعب دوراً مهماً في النظام ) ، ( 7 ).
إن الملاحظات والتعميمات الأخيرة أو السابقة تحتاج إلى فحص تفصيلي ، وفي هذا الفصل سوف نتابع تحليل مسالة الانتقال من المشاعية إلى المجتمع الطبقي ، باعتبارها مسألة محورية في الانتقال العربي ـ الإسلامي إلى الحضارة ، ولا بد من قراءة نماذج محورية نموذجية في المشرق لكي نرى مصداقية هذه التعميمات النظرية، مرجئين فحص تعميمات المذاهب إلى الجزئين التاليين.

ثالثاً ، العبودية المعممة في العراق
بدأت الحضارة في منطقة المشرق ، وكان ذلك يعني بروز مدن سيادية في جنوب العراق . لكن المدينة لم تكن ظهرت كسوق ، بل كتطور اقتصادي وفكري من القرية. أن القرية الزراعية ذات الأراضي الخصبة هي مملوكة للمعبد ، أي للإله ، أي للقبيلة. والقبيلة التي تقوم بالزراعة تجد انقساماتها الجنينية وترابطها معاً في كل مشترك ، والكاهن أو الساحر الذي يقوم بالهيمنة على المعبد ، وهو مركز الملكية العامة ، يغدو مع سيرورة التطور ملكاً.
ولكن هذا التطور يتصف بجوانب تركيبية معقدة ، فالمدينة تظل لفترة طويلة بين البنية المشاعية الزراعية وبين الانقسامات الاجتماعية ، وإن هذا الانقسامات الأساسية تظهر في وظيفية المؤسسات الدينية والاقتصادية المهيمنة ، في حين إن الترابط الاجتماعي والقبلي يظل مستمرا ومعتمداُ على الملكية المشتركة للأرض.
و لا تتحول المؤسسات الحاكمة بشكل سريع إلى القهر ، بل هي تنمو عبر الأشكال الديمقراطية القبلية المتوارثة ، ولهذا فإن مجالس المدن أي مجالس شيوخ المدينة تظل لفترة طويلة وهي متداخلة مع السلطة التنفيذية ، معبرة عن التعاون بين رؤساء القبيلة أو القبائل المتحالفة الحاكمة في المدينة أو المدن ، وهذا يشير إلى السمات المتداخلة بين المشاعية الغاربة والمجتمع العبودي القادم.
إن الملكية العامة على الأرض تعطينا بعدين متناقضين دائماً ، الأول هو بعد التعاون والمشاركة ، حين يكون الحاكم أو الحكام أو مؤسسات الشورى والحكماء ، تقوم بدور إيجابي مع المنتجين.
لكن عوامل الانقسامات الاجتماعية تظل متنامية بشكل مستمر ، عبر سيطرة حكام ينتزعون الثروة لأنفسهم وعائلاتهم ، ويدفعهم ذلك إلى الاستغلال بشكليه الأفقي والرأسي ، والأول يقوم على التوسع الجغرافي للمدينة ، والثاني بزيادة وتيرة استغلال المنتجين.
وتشكل عوامل السيطرة على الأراضي الخصبة وإقامة منشآت الري العامة التي هي أساس الوضع الزراعي في الجنوب العراقي ، ومطاردة البدو والدفاع عن المدن وغيرها ، أسباباً في تطور جهاز الدولة وانفصاله عن المنتجين وهيئات الشورى ، وبروز الملكية المطلقة ، التي كانت دائماً تنمو مع الدين ، حيث الكاهن كان في البدء هو الحاكم.
لا يعني ذلك عدم ظهور الملكية الخاصة . إن الملكية الخاصة تنشأ من الملكية الشخصية في الأرض والاقتصاد المدني ، حيث تبدأ المدينة في النمو كسوق في مناطق معينة ، وبعد ذلك تنشأ الفئات التجارية والحرفية المختلفة.
ولكن كل ذلك لا يعني عدم وجود نظام اجتماعي ، فنظام العبودية المعممة يبدأ من سيطرة القوى السياسية ـ الدينية الحاكمة على المنتجين ، حيث تظهر عملية الخضوع المطلقة للمعبد ، الذي يمثل في المرحلة الأولى ازدواجية السلطتين السياسية والدينية ، فإن انفصام السلطتين وبروز الملكية قوة مطلقة ، يعزز طابع العبودية المعممة ، ويحول الكهنة إلى فئة تابعة للملك.
إن سيرورة المنتجين عبيداً دينيين وسياسيين ، يتأتى إذن من التضافر بين المعبد وملكية الأرض.والتداخل بين السيطرة الدينية والسياسية على الفلاحين.
إن بروز الفلاحين بطابع شبه مستقل في بدايات التاريخ الحضاري ، لا يعني انعدام العبودية العامة ، التي تتنامى مع تعمق التناقضات الطبقية ، ووجود فئات حرة وبرجوازية تجارية لا يمنع من رؤية التطور الشامل للبنية الاجتماعية وسماتها الرئيسية التي تبرز بصورة تدريجية.
إن تطور المدينة كحقل مملوك مشاعياً وكمعبد ، يعبر عن الخصائص الجوهرية ، التي هي بمثابة قوانين موضوعية ، كامنة في الخلية الأولى ، حيث نرى عبودية الحقل ومنتجيه للمعبد ورموزه والمسيطرين على هذه الرموز.
وهذه السيطرة المطلقة التي لا تبدو مطلقة يوضحها التطور ، حيث تتمركز السلطة المطلقة في الآلهة المحددين والملك ، ثم تتسع المُلكية وتتجذر الملكية مطيحة بالمدن الحرة والفئات المستقلة والأنواع الثقافية ، جاعلة كل شيء تحت سيطرتها.
لهذا فنحن لا نجد مجالس الشورى والحكام المستقلين في عهود حمورابي و ، كذلك فنحن لا نجد ملحمة جلجامش إلا في زمنه التاريخي ، حيث مدينة أور بمربعاتها.. المحددة. إن ابتلاع العبودية العامة للثروة المادية يقود إلى تدهور الأنواع الفكرية والإبداعية المستقلة ، وتحول العلوم إلى ملاحق للقصور والمعابد ، كما أن الإبداعات الدرامية والملحمية التي حصلت على بعض البذور في أزمنة المدن الحرة تختفي كلياً. ولا يجد الوعي طريقاً لاكتشاف تناقضات الوجود الاجتماعي إلا عبر الدين ، المؤسسة الفكرية الشاملة المرافقة للعبودية العامة.
ولا يتعارض هذا مع الازدهار المؤقت للمملكة أو حتى الإمبراطورية ، فاتساع المملكة يترافق ونمو التجارة والعلوم والآداب الجزئية ، ولكن الدولة المقامة على الغزو المستمر ، وتحويل الشعوب الأخرى إلى عبيد ليسوا سياسيين فقط بل عبيداً كاملين. ، يؤدي إلى زيادة النفقات العسكرية والبذخية والمنشآت ” الأسطورية ” كالأهرامات وحدائق بابل المعلقة والقصور والأبراج الخ.. ثم يؤدي إلى انتفاضات الشعوب الأخرى وحروبها المضادة ، وانهيار الممالك المزدهرة.
وكما أن نمو وازدهار المجتمع يرتبط بنمو مؤسسة الملكية وتوسعها الجغرافي والتجاري و” الصناعي ” ـ حيث البحث المستمر عن الخامات النفسية ـ فإن الانهيار مرتبط بهذه المؤسسة نفسها ، حيث يغدو المجتمع كله تابعاً وعبداً ، للملك الإله ، الرجل المعبود ، للفرعون ، أو لنبو خذ نصر الذي ينحني ملوك الأرض كلهم تحت قدميه.
إن هذه السمات تحدث في أول حضارة بشرية بجنوب العراق ، التي يزداد عنفها مع هذا التصاعد في نمو مؤسساتها الحاكمة ، وتغلغل القبائل السامية البدوية في عروقها السومرية وهي الحضارة المسالمة السابقة. وهي المماثلة للحضارة المصرية قبل أن يأتي الهكسوس ، ويدفعونها للعنف المتزايد والتوسع واستئجار المحاربين والانطفاء في خاتمة المطاف.

رابعاً : الكعنانيون ( الفينيقيون ) الرأسمالية المهزومة
تحددت إذن الملامح العامة للمشرق (العربي) بالنظامين العبوديين العامين ؛ الرافدي والمصري ، عبر سيطرتيهما على أكبر الأنهار والشعوب المجاورة لهما.وكان النظام الرافدي ، عبر دوله المتعاقبة ، هو البادئ في التوسع وضم المناطق الأخرى القريبة ثم البعيدة ، بسبب نشوئه المسبق وتطوره من حيث الإنتاج والمواصلات ، وعبر هذا الإلحاق كان النظام العبودي المعمم يمنع تطور المدن والشعوب المستقلة ، وبسبب ذلك كان تراكم عمليات التطور الاجتماعي والفكري تتوقف على المدى البعيد.
كانت المحاولة الكبيرة في المشرق للخروج من نظام العبودية المعممة تتمثل في خروج شعب نشط من الجزيرة العربية للسكن على ساحل البحر البيض المتوسط الشرقي ، وهم الذين عرفوا بالكنعانيين أو بالفينيقيين حسب التسمية الإغريقية.
لم يستطع الكنعانيون السكن في العراق أو مصر ، فاختاروا موقعاً وسطاً هو ما يعرف الآن بسوريا ولبنان.
كانوا قادمين من جنوب الجزيرة العربية ويبين مؤرخٌ إن شعباً قدم : ( في الألف الثاني قبل الميلاد جاء يستقر فوق رقعة الأرض الضيقة بين البحر الأبيض المتوسط وجبال لبنان .. من شبه الجزيرة العربية ، وهذا الشعب كان يدعى ب ( الشعب الأحمر ) أو ب (الحميريين ) ، الجذر الثلاثي ، (ح م ر ) الذي مازال في أيامنا هذه يعني في العربية الاحمرار ) ، (19 ).
وقد استطاع هذا الشعب بخروجه عن هيمنة النظامين المستبدين العريقين في المشرق أن يؤسس مدناً مستقلة هي دويلات مدن.
فهي : ( مدن مستقلة عن بعضها البعض شكلت كل منها شبه دولة لنفسها وخضعت بشكل أساسي عند إقامة علاقاتها الخارجية لرغباتها المحلية ومصالحها الخاصة ) ، ( 20 ).
أسس الفينيقيون إذاً المدن المزدهرة على الساحل المتوسطي الشرقي في البداية ، وكانت جذورهم الرعوية تضعف لصالح استقرارهم الزراعي والحرفي والتجاري ، ثم تغدو التجارة هي ذروة تطورهم.
كانت التعددية الوثنية هي أساس تصوراتهم مثلهم مثل بقية أه المنطقة ، وشكلوا تميزهم داخل هذه المنظومات الدينية ، عبر وجود أبرز الآلهة ” إيل ” ثم ” شمش ” وهو إله الشمس و” عليان بعل ” إله الحياة و ” موت ” أله الموت ، ولديهم عشتروت وأدونيس وهو الإله المخصص للخصب والربيع ، والطبعة الفينيقية من تموز وأوزوريس.
إن الشريط الجبلي على ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي لم يستطع أن يحمي هذه المدن ـ الدول المتناثرة من الغزوات المستمرة من الإمبراطوريات ، ولا أيضاً الأسوار المنيعة قدرت أن تحمي الثروات المادية ، ولا الأنظمة الملكية وجيوشها الصغيرة من الأهالي ، لهذا فإن التراكم المالي لم يستطع أن يبلور طبقات متوسطة قوية تنافس وتحوز الحكم من الملوك الآلهة ، فظلت الحكومات المستبدة والإرث القبلي وضعف الإنتاج الفكري التحرري سائداً في المدن الفينيقية العديدة ، سواء على الساحل المتوسطي الشرقي أم على طول خطوط المستعمرات الفينيقية في شمال أفريقيا.
ولكن حتى هذه الحرية الاقتصادية الهامة تم فقدانها عبر استيلاء الإمبراطوريات المختلفة على هذه المدن ، فكان ذلك إضعافاً متقطعاً على مدى قرون ، ثم انهياراً كلياً على أيدي الإغريق والرومان.
أعطت هذه المدن إنجازات كبيرة للبشرية فجبيل ( بيبلوس ) اعتبرت ( المدينة الأم للكتابة ، ومنها أيضاً بقيت تسمية Bible ـ الكتاب المقدس في اللغات العالمية حتى اليوم ، وهي مدينة الأبجدية الحديثة الأولى ، ( 21 ).
وغدت صور من أكبر المدن التجارية وأهمها ، وفي العهد القديم نقرأ عن العلاقات التجارية الواسعة لصور بالمدن المختلفة والقبائل والشعوب في سفر حزقيال ، الإصحاح السابع والعشرين.
كذلك فإن مدينتي صيدا وبيروت لا تقلان عن السابقتين أهمية وبروزاً في التجارة.
لقد استطاع الكنعانيون تحقيق إنجازات كبيرة في تشكيل ملاحة عالمية في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي ، وتقدموا في علم الفلك وفنون تشييد المعابد والمدن ، وصناعة الحلي وفن الصياغة وصناعة النسيج وإنتاج الصبغة الأرجواني و وصناعة الزجاج.
يقول عنهم القاموس المنجد :
( تمكنوا بفضل سيادة صور من مد نفوذهم التجاري حتى حماة ودمشق وأسسوا على شواطئ المتوسط المصارف والمتاجر والمستعمرات المصرفية ف يكل مكان وبلغوا أسبانيا ( بلاد ترشيش ) بحثاً عن الفضة والقصدير ، شيدوا مراكز هامة على الشاطئ الإفريقي أهمها قرطاجة وسبراطة وحضروميت ، وعلى الأوربي ملقة وقادش ( أسبانيا ) ومالطة في المتوسط ..
اصطدموا بالآشوريين (…) تعاقب على بلادهم المصريون ثم الفرس فاليونان بعد أيسوس 333 ق . م ثم الرومان 94 ق .م . ) ، (22 ).
توضح هذه الفقرات الطبيعة التجارية الواسعة ، والإنجازات السياسية والثقافية المحدودة ، فنحن نرى رأسمالية تجارية ممتدة جغرافياً ، تجري نحو المواد الخام والأسواق والأرباح ، لكنها لا تشكل مدناً حرة تعيش مستقلة ، وبالتالي فإنها لا تجذر تجربتها الرأسمالية في الصناعة أو في العلوم أو في المنجزات الثقافية الكبرى كالدراما والملاحم ، فالطبقات التجارية تخضع للمصادرات المستمرة من قبل الدول الخارجية ، فترحل نحو مواقع جديدة لا تلبث أن تتعرض للحروب والمنافسة من قبل الإغريق والتدمير الروماني في خاتمة المطاف. وقد ساهم تبعثر المدن والمستعمرات الفينيقية في عدم تمركز رأسمال وعدم انتقاله للصناعة بشكل عميق .
لقد كان الساحل الشرقي للمتوسط على مرمى حجر من قلاع العبودية المعممة ، فجعل المدن الكنعانية قلاعاً أخرى ، ذات بُنى دينية ، يحكمها ملوك ـ آلهة فخضعت لنسيج المشرق الفكري والسياسي .
( إن قدسية الملوك كانت تستمد قوتها من اعتبارهم أبناء الآلهة ، لقد ” كارت ” الملك الكنعاني ، أبن أيل ” الإله الأكبر) ، (23 ).
لم تستطع التجارة أن تخترق هذا الغشاء العبودي المعمم السميك.إنها كانت بحاجة إلى تجذر في المدن الحرة وتشابك مع الصناعة والعلوم ، وبحيث إن التراكم المالي والمعرفي لا يُقطع على مدى قرون ، وكان ذلك مستحيلاً في ذلك المدى الجغرافي.

خامساً ، حضارة الإغريق : ازدهار الرأسمالية
بدأت تتشكل الحضارة الإغريقية في زمن الفصل الأخير لأنظمة العبودية المعممة في المشرق ، وهي كجارتها ومنافستها الحضارة الفينيقية اتخذت من الشواطئ الشرقية والشمالية للبحر الأبيض المتوسط ومن الجزر اليونانية والبر اليوناني ، مدنها وتطورها.
تأسست المدن اليونانية القديمة ، في القسم الأوسط بالقسم الجنوبي من اليونان ( المعاصرة ) ، على شاطئ آسيا الصغرى لبحر إيجه ، وفي العديد من الجزر ) ، (24 ).
يقول هيرودوتس : إن الفقر كان شقيق هلادة بالرضاعة ، ولم يلبث اليونانيون أن انصرفوا إلى الصناعة اليدوية والتجارة ، نظراً إلى أن المداخيل المتأتية من الزراعة كانت زهيدة ، وقد قادهم تكاثر السكان في الحواضر إلى إنشاء المستعمرات في أراض غير مأهولة ، في الجوار أولاً ، ثم في أمكنة أبعد.) ، (25) .
وحوالي نهاية القرن السابع ق . م . تجاوز البحارة والتجار اليونانيون الإطار الأولي للتجارة ، مع الدول المجاورة ثم مع بلدان أبعد ، فظهروا في أسواق الشرق وأخرجوا الفينيقيين ، منافسيهم الماكرين ، من البحر الأبيض المتوسط ) ، (26 ).
علينا أن نرى الحضارة الإغريقية كحضارة ذات جذور شرقية كبيرة ، فقد سكنها الكنعانيون والمصريون ووضعوا الأسس للحضارة الأممية وجذور المدن الأولى ، ثم جاءت القبائل الذكورية من العنصر الهندو أوربي لتكتسح التكوينات القديمة وتهضمها ، وتكونت المدن اليونانية الأولى في آسيا الوسطى عبر التأثير الفكري الشرقي المتعدد الصور. ( راجع : ملامــح من التلاقــح الحضاري بين الشرق والغرب لعلي الشوك ، الذي يدرس ما أخذه الإغريق من أساطير وآداب المشرق ، مصدر سابق).
لكن الإرث الأدبي والفني والديني خضع للتحولات الداخلية لتطور المجتمع اليوناني المتكون من عدة مدن ـ دول ، ذات أنظمة متباينة.
وإذا كانت الدول ـ المدن الكنعانية تنمو تحت رحمة أنظمة العبودية العامة المكتسحة لها دائماً ، فإن الإغريق استفادوا من الطبيعة الجغرافية الجزرية التي تحولت على إلى القلب للبلد بالانتقال من آسيا الوسطى ، فغدت خط الدفاع الأول .
إن الكنعانيين أعطوا اليونانيين ، إضافة إلى كل المنجزات الاجتماعية والثقافية ، حرفة صناعة السفن ، وهي الأداة الأولى للتوسع التجاري ومراكمة الفائض النقدي ، وكذلك منجزات التجارة نفسها.
عبر هذا التجاور القرابي واستيعاب وهضم إيجابيات الفينيقيين ، قام الإغريق بإزاحة هؤلاء ، واحتكار تجارة المنطقة البحرية وشواطئها الواسعة.
هذا الرأسمال التجاري كان عليه لا أن ينمي مدناً متفرقة معرضة باستمرار لسطو الفراعنة والرافديين والفرس ، بل أن يطور البنى الاقتصادية ” المدنية ” عبر هذه القرون الممتدة من القرن الخامس عشر ق . م . حتى بدء الميلاد ، أي أن رأس المال أحدث تراكمات عميقة في البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية ـ الثقافية ، خاصة في مدينة أثينا والمدن الديمقراطية الأخرى.
يقول كارل ماركس :
( لقد كانت الاستثمارة الريفية الصغيرة والحرفية اليدوية المستقلة ، القاعدة الاقتصادية للمجتمع الكلاسيكي في العصر الذهبي) (27).
وعلينا أن نضيف بأن هذا الأساس الإنتاجي الوطني مدعم ومغذى عبر التجارة ، وحين كان العمل العبودي من داخل اليونان وخارجها ، لم يصبح بعد مهيمناً وكاسحاً ، كذلك هو متشكل داخل تعددية المدن وديمقراطياتها الداخلية ، ولكونها خارج نطاق هيمنة دول العبودية المعممة الشرقية ، وحيث الحاكم لم يصبح إلهاً كما هو الحال في تلك الدول ، وحيث منصب الملك ضعيفاً ، وقد بدأت الفئات التجارية والحرفية المختلفة بالنمو ، في مواجهة ملاك الأرض المتنفذين ، والمحولين الجمهور الفلاح إلى فقراء عبيد يعملون في أراضيهم.
وتقوم الفئات البرجوازية المختلفة بالاستيلاء على حكومات بعض الدول ـ المدن ، ويبدأ عهد الديمقراطيات المزدهرة رغم وجود بعض الحكام المستبدين الناطقين بأسم هذه الفئات أحياناً.
إن هذه البنية الاقتصادية المدنية المتناغمة بين الإنتاج والتجارة والديمقراطية ، يقابلها في المستوى الفكري نشؤ الفلسفة المادية ، فلسفة طاليس وديمقرطيس وهيرقليطس والمثالية الموضوعية والعلوم الرياضية والطبيعية ، والفكر الفلسفي رغم نشوئه من مواد الأساطير الدينية المشرقية في البدء ، فقد قام بوضع الأسس لنشؤ الفلسفة المادية (الساذجة ) عبر تفسير الكون تفسيراً طبيعياً ، فطاليس يفسر العالم من مادة الماء ، فكل شيء في هذه الفلسفات المادية المتعددة جاء من الماء و التراب والنار والهواء والعناصر المتضادة.إ
إن الفلسفات المادية اليونانية بافتتاحها الوعي الفكري كانت تحلل الوجود من عناصره المادية الخام ، تعبيراً عن بداية تفسير العالم بصورة موضوعية ، وعبر مستوى العلوم ، وفي أجواء المدن الناهضة المستقلة عن حضارات العبودية المعممة ذات الشمولية الدينية الكلية.
إن بنية المنتجين الصغار الزراعيين والحرفيين وفي عالم المدن الديمقراطية ، ستتضاءل لصالح بنية أخرى تسود فيها العبودية ، وهذه ستعمل على انفصال منتجي الوعي عن تطور الإنتاج والتقنية ، وإلى صعود المؤسسات السياسية ـ الدينية القاهرة .
سوف نقرأ فيما بعد الصلات الوثيقة الدقيقة بين الاتجاهات الفلسفية الإغريقية والوعي العربي ـ الإسلامي ، ولكن هنا نحن نرى كيف قادت الأسباب الجغرافية والاجتماعية المتضافرة والنادرة إلى تميز اليونان في العصر القديم ، ولكن أسلوب إنتاج العصر ، سواء كان عبر اقتحام أنظمة العبودية المعممة ممثلة في الفرس ، أو عبر تنامي العبودية الخاصة في بلاد اليونان نفسها ، ثم انفجار الحروب الأهلية وسيطرة الشمال المقدوني الرعوي على المدن ، كلها وضعت حداً للعناصر الرأسمالية ـ الديمقراطية في الحياة.

خامساً ، الرومان : تعميم العبودية
مع فشل الإغريق في تشكيل ثورة رأسمالية لم تتوفر لها العلاقات والقوى المنتجة الملائمة ، رغم وجود عناصر ديمقراطية ورأسمالية واسعة ، فإنهم قاموا بتوسيع العلاقات العبودية في دولتهم الموحدة ، ثم انتقلوا إلى غزو آسيا وأفريقيا.وكان ذلك يعني تدهور الملكية الصغيرة المنتجة التي كانت أساس العصر الذهبي كما قال ماركس آنفاً ، وظهور المزارع الكبيرة الواسعة التي تقوم على عمل العبيد ، وكذلك تم إدخال العبيد في الورش والحرف المهنية ، مما كان له أثر مدمر على تطور التقنية والفلسفة والإنتاج على المدى البعيد.
وحين سيطر الإغريق على الشرق وشمال أفريقيا فإنهم حافظوا على أنظمة العبودية المعممة المشرقية ، فصار الإسكندر الأكبر أبناً للآلهة وإلهاً ، وكان هذا تعبيراً رمزياً عن تدهور العناصر المادية التي بدأت وتنامت في بداية النهضة ثم حلول الأبنية المثالية الموضوعية لسقراط وخاصة أرسطو ثم بدأت الفلسفات الغنوصية واللاعقلانية المتطرفة في الهيمنة على الفضاء الفكري اليوناني تعبيراً عن هزيمة مشروع المنتج الحرفي والزراعي الصغير وعدم إمكانيات تحوله إلى المشروع الصناعي الكبير.
وحين جاء الرومان كانوا استكمالاً للجوانب الأسوأ في الحضارة الإغريقية ، فلم يشهدوا مناخ دول المدن الحرة الديمقراطية ، إلا بشكل سريع في عصر الجمهورية ، ثم جاء عصر توسع العبودية والمزارع الواسعة التي يشتغل فيها العبيد ، وكذلك المعامل التي يشتغلون بها ، والاستيلاء على الشرق وثرواته وإدامة العبودية المععمة فيه. وبالإضافة إلى صراع القادة والأباطرة في قمة الدولة في تأزيم الإمبراطورية فإن الدولة :
( فشلت في إنجاز ثورة صناعية ولهذا السبب تفاقمت الأزمات الاقتصادية في أواخر القرن الثاني ( الميلادي ) ، وقد بقيت الأساليب الصناعية على حالها ، ومعنى ذلك إن الصناعة ظلت معتمدة على العمالة اليدوية ، ولم يتم تطوير سوى عدد قليل من الآلات بعد بداية العصر المسيحي).( 28 ) .
ويضيف المؤلف :
( وكان هناك خطأ ما في الفلسفة السائدة بين القادة الأرستقراطيين الذين لم يحبذوا مثل تلك الأساليب ، ولم يكن هناك دافع قبل نهاية القرن الثاني يحث على اكتشاف مصادر جديدة للطاقة ، كما انه لم تكن هناك حاجة إلى ذلك طالما أن طاقة العبيد المجلوبين من البلدان المستعمرة كانت كافية للإنتاج ، وكان يمكن مضاعفة الإنتاج عن طريق مضاعفة عدد العاملين من العبيد ، كما أن سهولة الحصول على الطاقة الإنتاجية من أعمال العبيد لم تشجع على اختراع آلات أو أساليب صناعية جديدة ) ، ( 29 ) .
وعبر تجميد تطور الإنتاج وتوسيع العبودية الخاصة عبر غزو المناطق الرعوية والريفية وتحويل أهلها على عبيد للعمل في المدن والمزارع الرومانية ، نشأت أرستقراطية رومانية مرفهة غاصت في البذخ ، وكان هذا يشكل نزيفاً اقتصادياً مزدوجاً ، فعبر تجميد تطور القوى المنتجة وتخريبها في المناطق ” المستعمرة ” ، كان البذخ يؤدي إلى الإفلاس المالي لخزينة الدولة نفسها.
( ولما لم يكن لدى روما من السلع الجيدة ما تقايض به السلع الشرقية الفاخرة ، فقد كان عليها أن تدفع ثمن هذه السلع الشرقية بالنقد ، ومن ثم كان هناك نزيف ملحوظ للذهب في اتجاه الشرق ، مما أحدث صدعاً في نظام الإمبراطورية الاقتصادي ) ، ( 30 ) .
كان تعميق مسار النظام الإغريقي المتأخر متواصلاً ، فالمزارع الكبيرة تتسع ، والصغيرة تتدهور ، والحرف والصناعات تعجز عن التطور ، والطبقة الوسطى الصناعية والتجارية تتضاءل ، فكان اعتماد الدولة على الحروب لجلب العبيد والثروات الجاهزة ، وكان هذا التمدد العسكري لا بد أن ينتهي عند حدود معينة هي حدود الدولة الفارسية المعادية ، و عند الصحارى الكبرى والغابات التي يعجز الرومان عن السيطرة عليها أو التوغل فيها كالجزيرة العربية والصحراء الكبرى أو في مناطق الغابات والجليد في شمال أوربا عند القبائل الجرمانية الوثنية البربرية.
لم توجد قدرة حقيقية للإمبراطورية الرومانية إلا عبر الجيش ، فهو الأداة الوحيدة لبقاء النظام ، لكن كان أبناء المواطنين الأحرار يتهربون من الخدمة العسكرية ، فكان لا بد من اللجؤ هنا أيضاً إلى القوى المستأجرة والعبيد ” والبرابرة ” ، وهكذا كان النظام العبودي بشقيه الخاص الأوربي ، والشرقي المععم يخضع للتدهور والأزمة العميقة.
وكانت هناك طريقة واحدة لترشيد الإنفاق هي استخدام الضرائب الجديدة وتطوير الجهاز البيروقراطي وفي ذلك تقوية للإمبراطورية ، ولكنه يؤدي إلى استمرار تقليص الطبقة الوسطى . ( 31 ) .
ويعالج المؤلف نورمان كانتور أسباب تدهور الحضارة الرومانية ، فيقول :
( يوضح بعض الباحثين إن روح الحضارة القديمة نمت وتقدمت في المدينة ــ الدولةCity State ومع التدهور الحضري المطرد ، انهارت الحضارة وتلاشت روحها ) ، ( 32 ).
( وثمة نظرية أخرى تقول إن الاستشراق هو سبب الانهيار الروماني (…. ) ، أي تسرب روح جديدة وحضارة جديدة من الشرق إلى كيان العالم الروماني ، وهذه النزعة الصوفية الجديدة جعلت الناس يتخلون عن اهتمامهم بأمور هذا العالم ) ، ( 33 ) .
لا شك إن هذه العبارات العامة المجردة تشير إلى مسارات البنية الاجتماعية للإمبراطورية الرومانية ، لكن لم يكن كيان المدينة ـ الدولة إلا كياناً قائماً على طبقة وسطى منتجة ، مرتبطة بمستويات من الوعي ” العقلاني ” ، بطبيعة حرفها وصناعاتها ومزارعها ، ومع هذا التدهور في أسسها المادية والفكرية ، ونزول الثروات بوفرة عن طريق العبيد والغزوات ، أطيح بالوعي المرتبط بمعالجة المادة والطبيعة والمجتمع ، وهو الوعي المرتبط بالإنتاج ، وبالأسس السياسية القائمة على تعددية الأصوات في الدولة ، وغدت هناك الأجهزة الشاملة المهيمنة عبر المركز ، أي عبر العاصمة السياسية ، ثم عبر الإمبراطور وحيداً ، ذي المصدر الإلهي ، فتدفق هنا الوعي الغيبي ، وعي الآلهة المتعددين وإرادة الغيب والأرواح ، حيث صار الإنتاج وتدفق الثروة نتاج القدر العسكري وحظوظ الجيش ، فخرج المصير السياسي من يد الناس الذين يضبطونه في صراعاتهم وأصواتهم ، وغدا معلقاً بإرادة إمبراطورية إلهية وبعلمية النهب الوحشية للأمم ونتائجها وثوراتها.
إن المصير التاريخي الذي كان مهيمناً عليه عبر صوت العقل النسبي في المدن ـ الدول ، والذي كان لتطور خاص في الجغرافيا والاقتصاد ، بين التجربتين اليونانية والرومانية ، دوره الهام في تشكيله ؛ إن هذا المصير سُحق عبر النمو الكبير لملاك العبيد الحاكمين ، الذي صار يمثلهم وينمذجهم الإمبراطور الإغريقي والروماني ، والذي تجاوز سلبياً التراث العقلاني حيث فتحت شهيته المستعمرات ، كما داست آلة الإنتاج العبودية المتسعة نمواً على جزر الإنتاج الخاصة ، وسحبت الشعوب المستقلة إلى طاحونتها العنيفة والمستقلة ، فتآكل إنتاجها المادي المستقل هي الأخرى ، وعُصرت طبقاتها الوسطى واتسعت العبودية في جماهيرها ، ولكن هذا الفيض الاقتصادي لم يوظف في الإنتاج مرة أخرى ، أو في تطور التقنية والعلوم ، بل صرف أكثره في الحروب والبذخ.
أما الثقافة الإغريقية والرومانية العقلانية فإن مساراتها وتوغلها في المشرق ، فلم يُدرس بشكل دقيق ، و سوف نحاول في الجزء الثاني التالي رسم الحدود وعمليات التداخل بينهما ، ولكن في هذه الفترة فإن العناصر المادية حصلت على بعض التطور في إيران حيث برزت الأفكار الدهرية.( 34 ).
إن انتشار هذه العناصر المادية والعقلانية بشكل واسع ، إذن لم يكن ممكناً ، فالغزاة اليونان والرومان كانوا هم أنفسهم قد انقطعت علاقتهم بذلك الإرث ، وبدءوا في استغلال الاتجاهات الدينية الوثنية واللاعقلانية ، تعبيراً عن هذا الصعود الأرستقراطي الباذخ والمتعالي ، وهنا كان المشرقيون يعيدون إنتاج نموذج الإله المعذب ، الذي كان متفرقاً ، بشكل أدونيس وتموز وأوزوريس.

سادساً ، المسيحية : التفكيك السلمي للعبودية
كان نشر الرومان للعبودية إذاً يمثل إفقاراً للإنتاج المادي والروحي القائمين على الصناعة والعقل ، وهذا يعني ملء المدن بالعبيد والمقلوعين من مراكزهم الإنتاجية ، وللفلاحين المنتزعين من أراضيهم وحرفهم ، وكان هذا يعني نشراً للغيبيات والأساطير ، ويغدو هذا انتصاراً للشرق ، الذي لم تستطع العناصر العقلانية فيه ، والديمقراطية السياسية أن تحوز فترة تشكل مهمة ، كما حدث للإغريق ، فلا يملك إذاً من أدوات مقاومة سوى الرجوع إلى عناصره الغيبية والأسطورية وتفعيلها ، فأمام هذا السحق الروماني العام والصلب للعاملين ، صعد الإله المُعَّذب تعبيراً عن معاناة الفلاحين والعبيد ، والفلاحون كانوا عبيداً سياسيين ، والعبيد أناساً مملوكين كلية ، تعبيراً عن هذه المعاناة ، ورفضاً للهيمنة ” الغربية ” الرومانية ، وتجميعاً لكل المنطقة المشرقية في بناء فكري ـ سياسي موحد.
إن عناصر مثـل الطفل المعجزة والمطلوب من الحكام القتلة ، والطفل الإله المنقذ للبشرية ، وأسرار مثل التعميد بالماء ، أي اعتبار المياه مقدسة ومطهرة ، والعشاء الرباني حيث يتحد المؤمنون بأكل وشرب جسد الإله المعبود ، يمكن ملاحظتها في تراث المشرق الخاص بالاحتفالات الخصوبية الربيعية .
تغدو للمسيحية عبر هذه المواد العتيقة في المشرق جذور شعبية تسمح لها بالانتشار واستيعاب تقاليد الماضي والنمو بها ، ولكن هناك عنصر الثقافة الإغريقية ـ الرومانية ، الذي هو أكثر تطوراً وتعقيداً من تلك العناصر المشرقية ، فهذا العنصر هو الذي قام بالتكييف الفكري لتلك العناصر وتسييسها ، وكذلك هناك الأساس اليهودي للديانة المسيحية.
حول العنصر المشرقي القديم يقول سيرغي م . توكاريف مؤلف موسوعة [ الأديان في تاريخ شعوب العالم ] :
( كما إننا نعرف عدداً كبيراً من عبادات الآلهة ـ المنقذة في مصر ، وبابل ، وسوريا واليونان فيما بعد ، مثل أوسيريس ، تموز ، أدونيس ، أتيس ، ديونيس. لقد كانت آلهة الطبيعة أيضاً وتجسد روح الإنبات .. كانت هذه عزيزة بشكل خاص لدى فقراء المدينة دون أن يكون لهؤلاء معها أي مصلحة مباشرة ، إنها بدأت كآلهة ترتبط بأمور العمل في الأرض ، وقد أشار إلى هذه الناحية بشكل صائب تماماً المؤرخ أرشيبا لدروبرتسون ) ، ( 35 ).
ويلخص هذا الباحث تصوره حول المسيحية ” كدين للعبيد والمضطهدين ” ـ ص 518 ـ قائلاً :
( أما المزيج الذي تكونت منه فيتألف من المبدأ اليهودي عن الإله الواحد مالك كل شيء ، وكذلك الفكرة اليهودية عن المخلص ، الذي تحول في الحقيقة إلى المخلص المفكر الروماني واختلط بنماذج الآلهة الزراعية التي تموت ثم تبعث حية ، والتعاليم الغنوسية حول التضاد بين الروح والمادة وحول الوسيط الإلهي فيما بينهما لوغوس ، والإيسكالوجيا [ تعاليم نهاية العالم والإنسان ] المزدكية والإيمان بملكوت النعيم مستقبلاً للصالحين ، وكذلك التصور المزدكي عن روح الشر ـ الشيطان ، والعبادة القديمة للإلهة الأم ” وهي أيضاً أم الرب “) ، ( 36 ) .
ويعتبر فردريك أنجلز إن المسيحية كانت نتاج العجز عن مقاومة [ الدولة الرومانية العالمية الجبارة ] يقول مضيفاً [ مخرج كهذا متوافر ولكن في غير هذا العالم. ]، ( 37 ) .
ويتساءل مؤلف كتاب الأديان : ( لم كانت هناك ضرورة إذاً لدين جديد ، ولم كان متعذراً تحقيق الطمأنينة في الأديان القديمة؟ كانت الأديان القديمة قبلية ووطنية ، كما يشير ” أنجلز ” ، ( نشأت عبر الظروف الاجتماعية والسياسية الخاصة بكل شعب والتحمت به ) ، ( 38) .
يعبر هذا الكلام عن تصور جزئي محدود لعملية تطور المسيحية المتسعة والشاملة ، والتي ستبدأ صغيرة ثم تكبر ضامة قوى اجتماعية ووطنية وإنسانية واسعة ، في مجرى من التحولات يغير النظام العبودي الأوربي ، الشمالي الخاص ، وينتج نظاماً آخر بعد عدة قرون من المساهمات الاجتماعية والقومية المختلفة.
في البدء ، لا بد أن نقول كلمة حول طبيعة الإله الذي قالت به المسيحية والأديان [ السماوية ] عموماً ، ولماذا كان مختلفاً عن آلهة الأديان القديمة ، فهذا الإله الرئيسي هو وحده الخالق للعالم ، فتغدو الكائنات البشرية ، سواءً كانت حكاماً أم محكومين ، كلها عبيداً له ، ولا يعود من اتصال به سوى عبر الرسل ، الذين ينقلون رسائله إلى البشر.
إن المسيحية بهذا تلغي العبودية لبشر ، ويصبح الأب والابن والروح القدس ، هم المعبودون فحسب ، وبهذا فأن العبودية المعممة المنتشرة والعبودية الخاصة ، وحيث القيصر إله ، تلغى.
إن هذا الافتراق الأساسي عن الأديان القديمة الوثنية سيمثل عصراً جديداً للإنسانية .
إن المسيحية ، كما عبرنا في فصول سابقة [ أنظر فصل الخطوط العريضة لتطور المشرق وفصل تداخل السكان والأديان ] ، سيكون دورها هو تفكيك إمبراطورية الرومان ، في حين سيكون دور الإسلام هو تحطيم هذه الإمبراطورية في القسم الشرقي وبناء إمبراطورية جديدة. إن المسيحية والإسلام سيلتقيان في عملية تاريخية عالمية مركبة ، معقدة ومتداخلة.
إن المسيحية وهي ترتكز على العناصر اليهودية ” القومية ” في البدء عبر الاعتماد على فكرة المخلص المسيح ، تتوجه إلى استكمال الثورة اليهودية ضد الرومان ، فتنتشر بين الأمم غير اليهودية ، وتحدث مرحلة تداخل بينهما ، لكن المسيحية تتوجه نحو الانفصال عن الدين اليهودي المحدود ، مطورة العناصر الطقوسية المرتبطة بالأديان الزراعية القديمة ، وبجماهير الفلاحين ـ العبيد ، ويؤدي هذا المخاض إلى انتشار المسيحية ويتحول إلى صراع مع المركزين ، مع الإمبراطوريتين الرومانيتين الشرقية والغربية ، كل حسب مستوى الصراع وشروطه فيهما، ففي القسم الشرقي يحيل الإمبراطور قسطنطين المسيحية إلى إيديولوجية للدولة ، فيتم امتصاص المحتوى الثوري للمسيحية وتتحول إلى أشكال لاهوتية ، وفيما بعد إلى أداة قمع ، وفي الغرب يتشكل مصير آخر.
إن دمج المسيحية في النظام العبودي الشرقي المعمم لم يحل جوهر المشكلات ، فكان ظهور المسيحيات المشرقية صراعاً متجدداً بين الشعوب التابعة والمركز في القسطنطينية .
كان التفكيك المسيحي السلمي المشرقي هو نخر داخلي طويل ، لم يستطع أن ينظم جماهير العبيد والفلاحين في جيوش تطيح بالنظام العبودي المعمم ، بسبب طبيعة هذه النظام ، وقد راحت قوى اجتماعية من الملاك والتجار والمثقفين تستولي على المسيحية الاحتجاجية وتحولها إلى دين متلائم مع العبودية ، مثلما حدث في جذورها السابقة وكيف احتوت السلطات أساطير تموز وأوزوريس ووظفتها في بنيتها المستغلة.
كانت الظروف مهيأة في المشرق المتجه إلى التعريب المستمر لقوة رعوية ، مشابهة للجرمان المسيحيين ، الذين أزالوا الإمبراطورية الرومانية الغربية ، هذه القوة هي العرب المسلمون.
الجرمان والعرب هم قوى التفكيك والتغيير العسكري المتنوع للعبودية المعممة في المشرق ، وللعبودية الخاصة في الغرب.

سابعاً ، الجرمان والعرب : الهدم العسكري للعبودية الخاصة والمعممة
يقول مؤلف [العصور الوسطى الباكرة] ، نورمان كانتور في تحديده لظهور الجرمان:
( فقد كشفت هذه الدراسات الأثرية من أن الغزاة الجرمان الذين اقتحموا الإمبراطورية الرومانية قد وفدوا في الأصل من سكنديناوة ، ومن ثم فإن الفايكنج Viking الذين ظهروا في فترة لاحقة ، وهاجروا من مواطنهم في القرن التاسع إلى أوربا وغزوها ، وكانوا من الشعوب نفسها التي عرفها الرومان بأسم الجرمان من حيث أصلهم العرقي. وحوالي سنة1000 قبل الميلاد بدأ الجرمان يتحركون من مواطنهم الأصلية في الدانمارك وجنوب النرويج والسويد الحالية صوب الجنوب ، وحوالي سنة100 قبل الميلاد وصلوا في انتشارهم صوب الجنوب إلى نهر الراين.( 39 ) .
لقد أخذت هذه القبائل تستقر بالقرب من الحدود الرومانية ، وكرست نفسها للزراعة ، كما تبادلت على نطاق واسع مع التجار الرومان. (40 ).
لقد اعتنقت هذه القبائل مذهباً مسيحياً معارضاً هو الآريوسية ( نفسه ص 175) ، وقد تأثرت قليلاً بنمط الحياة الرومانية ، وظلت على ” بداوتها ” ” كما كان أبناء هذه الشعوب برابرة بكل معاني الكلمة ” ( 41) .
وفي بدء تاريخهم كانت روابط الدم والنسب هي التي تجمعهم على شكل قبائل ، وهي التي جمعتهم أثناء فترة الغزوات وبعدها ، ثم أخذت روابط القربى في الضعف لصالح روابط الولاء.
وهذا النظام الذي كان سائداً عند الجرمان قرب نهاية القرن الرابع الميلادي كان يتألف من الرئيس أو الملك ، ومجلس الحرب الذي يدين له بالولاء ويقدم له الخدمات لقاء الحماية والعطايا التي يقدمها الملك ، وكان باستطاعة الرئيس الذي يحكم مدة طويلة ، أو يتمكن م إحراز نصر عسكري كبير ، أن يؤسس أسرة ملكية حاكمة ( 42 ) .
ثم أخذت القبائل الجرمانية تغير مصير أوربا من ذلك الحين ، فقد استعان الرومان الغربيون بها كجنود ، ثم أخذت هذه القبائل تغير على الإمبراطورية الغربية ، وأخذت تستولي على إيطاليا وألمانيا وإنجلترا وأسبانيا ، ناقلة هذه القارة إلى عصر جديد.
وملامح هذا العصر تتلخص في اختفاء العبودية السابقة ، وتحول الجنود إلى فلاحين أحرار. وبطبيعة الحال كان هؤلاء الفلاحون في بداية سيطرتهم مختلفين عن خضوعهم وتحولهم إلى أقنان مع نمو ماكينة الإقطاع. وهذه مشابهة مهمة مع أقرانهم العرب ، الذي استنكفوا في البدء عن العمل في الزراعة وغدوا فلاحين فيما بعد.
ولكن الاختلاف بين الطرفين يكمن في توجه العرب إلى بناء دولة مركزية واسعة تشكلت فيها مدن مزدهرة ، في حين كان الجرمان يقومون بتفتيت الدولة المركزية الجبارة.وعلى المدى القريب سيتفوق العرب وفي المدى البعيد سيتفوق الجرمان.
ويقول مؤلف العصور الوسطى الباكرة بأن القن كان أسعد حالاً من عبيد الضيعة الرومانية ، وربما كانت كمية طعامه أقل ، لكنه تمتع بقدر أكبر من الحرية الشخصية. (43 ).
لكن التجارة والطبقة الوسطى والصناعة وكل مفردات الرأسمالية ستتعرض للتضاؤل الشديد على يد الجرمان.
في سنة 600 م كانت أعداد الطبقة الوسطى في كل من المجتمع الفرنجي المبكر والمجتمع الفالو ـ روماني قد تناقصت إلى حد بعيد ) ، ( ومع تدهور فرنسا الاقتصادي ، والتناقص السريع في عدد المدن الذي حدث في أعقاب الغزوات الفرنجية اختفت الطبقة البورجوازية تماماً ) ، ( 44) .
لقد كان مسار الإقطاع الأوربي تغييراً للعبودية ولكنه أيضاً إلغاء للازدهار التجاري والثقافي الموروث ، وتوسع واسع لزراعة الأرض عبر الأقنان وتفكك للدول وتحولها إلى إقطاعيات مختلفة ، لكن ستنمو العملية الرأسمالية الصناعية فيما بعد خارج سيطرة الإقطاع ، معتمدة على تراكم مالي وعلمي طويل ، في حين ستكون الرأسمالية الحرفية في العالم الإسلامي تابعة للإقطاع.
وهذا المسار الاجتماعي ـ الثقافي ارتبط بعدئذ بمسيحية كاثوليكية ، بعد إزاحة المرحلة الآريوسية المعارضة ، تعبيراً عن هيمنة الإقطاع الكلية في الاقتصاد والوعي .
و لا يأخذ المؤلفون والباحثون العلاقة الوطيدة المتداخلة والمركبة بين الجرمان والعرب ، ففي المناقشات التي عرضناها سابقاً في هذا الفصل عن الأسلوب الآسيوي للإنتاج رأينا بعض الباحثين يعترفون بدور القبائل الجرمانية في تشكيل المرحلة الإقطاعية ، بدون أن تمر هي في المرحلة العبودية ، لكنهم لا يعطون العرب مثل هذا الإنجاز.
يعرض بوعلي ياسين رأي الياس مرقص الذي يقول عن هذه التحولات ما يلي:
( يعيد فيه الكاتب نشؤ النمط الإقطاعي [ الفيودالي ] إلى عمليتين تاريخيتين اثنتين تلتقيان عند نتيجة واحدة: من جهة تداعي مجتمع الرق ” تحرر العبيد الجزئي ” ، ومن جهة ثانية ، انحلال المشاعية الجرمانية ..، بعد غزوات الجرمان واستيطانهم في الإمبراطورية الرومانية الغربية.) ، ثم يلخص مرقص فكرته قائلاً:
( في الحقيقة ، النمط الإقطاعي جرماني الأصل ، قام مباشرة على أرضية المشاعة الريفية الجرمانية دون المرور بالنمط العبودي ، وإذا كان العالم العبودي بزعامة روما قد أصبح بعد انهياره إقطاعياً ، فذلك بتأثير الجرمان المنتصرين ، كما هو حال البلدان الآسيوية الآن بتأثير الإمبريالية الرأسمالية الغربية ) ، ( 45 ) .
كانت المقارنة مع العرب المعاصرين للجرمان أجدى من القفزة إلى العصر الحديث ، فالعرب كانوا أيضاً خارجين من عالم المشاعية ، ولم يدخلوا التاريخ بقوة إلا حين نضج تناقضات العبودية ، ولكن أي عبودية ؟ فالعبودية هنا هي نظام عالمي متعدد المستويات كانت الشعوب على مدى القرون السابقة تحاول تجاوزه ، وكانت الأديان [ السماوية ] هي الشكل الفكري لعملية تجاوزه ، ولكن المسيحية لم تتناسق والقبائل العربية الصحراوية ، بخلاف الجرمان الزراعيين ، وهكذا كان الإسلام حلقة هدم العبودية المعممة ، إلى نظام جديد أخذ شكله من خلال الصراعات الاجتماعية السابق ذكرها.
ولكن نظام العبودية المعممة يبقى غامضاً على عكس نظام العبودية الخاصة ، لكن أي نظام اجتماعي في المشرق سيرتبط دائماً وجهاز الدولة المركزي ، وتتعلق المركزية وأحجامها بطبيعة المرحلة. فإذا كان العصر انحلالاً للمشاعية فذلك سيكون عبر الدولة المركزية ، ” الوطنية ” في كل قطر ، وإذا كان العصر انتقالاً للعبودية فسيكون عبر الدولة المركزية ، وهكذا الإقطاع ، ثم الرأسمالية الحديثة.
وهكذا فإننا نرى مشاعية متحولة إلى عبودية بشكل سياسي ، مما يعبر عن ديناميكية جهاز الدولة وأثره المسيطر ، وسنرى كذلك القفز إلى المرحلة الجديدة يحوي الكثير من النظام القديم ، ولهذا نجد الإقطاع يتحول إلى إقطاع مركزي إسلامي عام ، حاملاً الكثير من العلاقات العبودية ، ثم سيتشكل إقطاع لا مركزي ، أي إقطاع ” وطني ” بكل قطر ومركزي كذلك ، وهكذا دواليك.
العبودية المعُممّة هي إذن استعباد النظام السياسي للجمهور العامل ، ولهذا نجد تلخيصها الرمزي في ” الفرعنة ” ، ولكن لا يمكن تعميم سمات النظام في أول تشكله مع مساره القادم ، حيث إن حرية القبائل العربية وهي تخرج من الجزيرة هي غيرها حين تنقطع جذورها الرعوية كلياً.
إن جهاز الدولة إذن يسمح بالقفز على التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية ، وتجاوزها دون القيام بالمحو التام لآثار الماضي ، وهذا هو الذي يطبع تطور العلاقات التاريخية في المنطقة.ولهذا ستتسم التطورات بالطابع السياسي المهيمن والمر واحة بين الأطوار والتراجعات الحادة والقفزات ، وستغدو التشكيلات متصفة بهيمنة الدولة ، فالعبودية ستغدو عامة ، أي عبر سيطرة الدولة ، والإقطاع سيغدو مركزياً ، أي تحت هيمنة الدولة المركزية الأموية ـ العباسية ، وسيغدو لا مركزياً عبر سيطرة الدول الأندلسية والإخشيدية والأيوبية والحمدانية والصفوية الخ..
إننا بهذا نكون قد حللنا لغزاً تاريخياً ظل مهيمناً على الوعي وعلى قراءة التاريخ في هذه المنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
( 1) : ( بوعلي ياسين ، العرب في مرآة التاريخ ، دار المدى ، الطبعة الأولى ، 1995 ، ص 82 ـ 83) .
(2 ) : ( نفس المصدر ، ص 98)
( 3 ) : ( نفس المصدر ص 99)
(4 ) : نفس المصدر ص 83).
(5 ) : ( السابق ص126).
( 6 ) : ( المصدر السابق ص 151 ـ 152).
(7 ) : ( السابق ص156 ـ 157).
( 8 ) : ( المصدر : عبودية ، إقطاعية أم أسلوب إنتاج آسيوي ؟ دار الطليعة ، الطبعة الأولى ، 1980 ، بيروت ).
( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 20).
( 10 ) : ( السابق ، ص 21).
( 11 ) : ( المصدر السابق ، 21).
( 12 ) : ( المصدر السابق ، 21).
( 13 ) : ( نفسه ، ص22).
( 14 ) : ( نفسه ص 22).
( 15 ) : ( السابق ص154).
( 16 ) : ( نفسه ص 155).
( 17 ) : ( نفسه ص 147).
( 18 ) : ( نفسه ص 147).
( 19 ) : ( جان كازيل ، تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، سوريا ، الطبعة الأولى ، سنة 1998 ، ص ).
( 20 ) : ( نفس المصدر ، ص66).
( 21 ) : ( المصدر نفسه ص43) .
( 22 ) : ( المنجد ، مادة فينيقيون ص 539، الطبعة الحادية والعشرون).
( 23 ) : ( ملامح من التلاقـح الحضاري بين الشرق والغرب ، على الشوك ، دار المدى للثقافة والنشر ، ص 49).
( 24 ) : ( جذور المادية الديالكتيكية : هيراقليطس ، تأليف : ثيو كاريس كيسيدس ، دار الفارابي ، الطبعة الأولى 1987 ، ص 10).
( 25 ) : (( المصدر السابق ، ص 11).
( 26 ): ( نفسه ص12).
( 27 ) : ( نقلاً عن المصدر السابق ص 15 ، ومقطع ماركس مأخوذ من رأس المال ، المجلد الأول ، الجزء الثاني ، دار التقدم ، طبعة موسكو سنة ، ص26).
( 28 ) : ( العصور الوسطى الباكرة ، القرن الثالث ـ التاسع الميلاديين ، نورمان . ف . كانتور ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، ص 37 ) .
( 29 ) : ( المصدر السابق ، ص 38 ).
( 30 ) : ( المصدر السابق ، ص 41 ) .
( 31 ) : ( السابق ص 42 ).
( 32 ) : ( نفسه ص 42 ) .
(34 ) : يلاحظ أحمد أمين في موسوعته عن الإسلام بروز الدهرية في الفكر الإيراني سواء قبل الإسلام أم بعده ، وهذا أمر ملفت للنظر في الشعب الإيراني وتجربته التاريخية الكبيرة.
( 35 ) : دار الأهالي ، ترجمة د. أحمد م . فاضل ، الطبعة الأولى 1998 ، ص 501).
( 36 ) : ( السابق ص 518).
(37 ) : السابق ، ص 496 ) .
( 38 ) : ( السابق ، ص 496 ).
( 39 ) : ( السابق ، ص168 ).
( 40 ) : ( نفسه ، ص175).
(41 ) : ( نفسه ، ص175 ).
(42 ) : ( نفسه ، ص177).
( 43) ( نفسه ، ص122).
( 44) : ( نفسه ، ص213 ) .
( 45 ) : ( العرب في مرآة التاريخ ، مصدر سابق ، ص 84 ).

أضف تعليق