الأرشيف الشهري: سبتمبر 2025

المكان في روايات عبدالله خليفة دراسة تحليلية لنماذج مختارة

أ. فاطمة الزاكي. بكالريوس لغة عربية، جامعة البحرين
Author
‫أ.د. أحمد محمد ويس‬ – ‫جامعة البحرين
Thesis advisor

الملخص:

يتناول هذا البحث دراسة المكان في أربع روايات للروائي عبد الله خليفة وهي:” نشيد البحر – الماس والأبنوس – ثمن الروح وابن السيد وذلك عن طريق اتباع المنهج التحليلي، ويحتوي البحث على:
أولا: التمهيد النظري: يدرس مفاهيم ومصطلحات المكان في اللغة والفلسفة والسرد، بالإضافة لأهمية المكان وأنواع الأمكنة، كما يتناول سيرة الروائي عبدالله خليفة وتلخيص للروايات المختارة للدراسة.
ثانيا: الفصل الأول ويحتوي على أنماط المكان في روايات عبدالله خليفة، ومن أهم هذه الأمكنة: الأمكنة السكنية، الأمكنة الطبيعية، أمكنة المسارات الأعشاش أمكنة العمل المساجد، أمكنة التعلم، المستشفيات، السجون المحاكم، أمكنة الأكل والشرب، أمكنة التنقل المقابر.
ثالثا: يتناول الفصل الثاني الوصف كونه آلية من آليات إبراز المكان في الرواية، ولما له من أهمية في تشكيل الأمكنة، وفي هذا الفصل تناولت الدراسة تعريف الوصف ووظيفته في تحديد النوع الروائي، والعلاقة بين الوصف والمكان، كما تناولت أنماط وصف الأمكنة ووصف المكان المتخيل والحلمي، واندماج الحواس في وصف الأمكنة، ثم يتطرق لأساليب الوصف المتنوعة كالوصف بالأقوال أو الأفعال أو الوصف بالرؤية أو الوصف غير المباشر، ومن أمثلة الوصف غير المباشر: الوصف بالحلم والوصف بالرمز والوصف بالفنون، وللوصف وظائف متعددة في البناء الروائي.
رابعا: يتناول الفصل الثالث ثلاثة مباحث المبحث الأول: المكان والهوية، ويدرس التفاعل الاجتماعي والجماعات المرجعية والسلطة النسبية للأدوار الاجتماعية، كما يدرس الحراك الاجتماعي والصراع بين الجماعات والدوافع الاجتماعية، والتنشئة الاجتماعية، وعلاقة ذلك بالمكان كعنصر من عناصر الهوية كما يتطرق لأشكال التنشئة الاجتماعية كالمطاوعة والعدوانية والتقليد والضمير والصحبة وحاجات الإنجاز والمعيار الاجتماعي، وكذلك تسهم المسؤولية الاجتماعية والقيادة في التأثير بشكل مباشر في طبيعة العلاقة بين الإنسان وأمكنته. أما المبحث الثاني بعنوان المكان ونمذجة العالم فيمزج بين علم نفس الجشطلت! وسيمياء الثقافة وذلك للتقارب بين هذين العلمين وأهميتهما في دراسة المكان الروائي ومن خلالهما درسنا

3
التقاطبات الثنائية للأمكنة ودور انتظام الأمكنة ضمن أنساق خاصة في إبراز الجانب النفسي للأمكنة، ويتناول المبحث الثالث أهمية الجانب الإيديولوجي في تشكل المكان في روايات عبدالله خليفة.
خامسا: يتناول الفصل الرابع المكان وعناصر السرد، كالزمان والشخصيات، كما يتناول اللغة كعامل رئيسي ومهم في بناء المكان وتشكله في روايات عبدالله خليفة.
وأخيرا توصل البحث لعدة نتائج أهمها :
تتنوع الأمكنة في روايات عبدالله خليفة، فمنها ما يأتي مكتمل النمو في الشخصيات الروائية منذ بدايات الروايات، ومنها ما تتبني ألفته أو عدائيته مع نمو الشخصية، ويدل هذا التنوع على ارتباط نمو المكان بوعي الشخصية وانتباهها للمحيط.
الأمكنة في روايات عبدالله خليفة لا تأتي عشوائية بل تأتي ضمن نسق ثقافي من تداعيات الأفكار المنتقاة والمتلازمة والتي يصيغها الروائي بدقة وفي في قائم على التنويع والبراعة في الوصف، ووعي وإدراك فكري ووجداني، والتي عبر من خلالها عن هموم مجتمعه.
يرتبط المكان ارتباطا قويا بعناصر السرد التي تساعد على إبراز أهمية المكان ذلك لأن المكان جزء لا يتجزأ من مكونات الشخصية وكذلك فإن المفارقات الزمنية تؤدي وظيفتها في إبراز العمق الشعوري للمكان كالمكان المتذكر والمكان الأسطوري والأمكنة التاريخية، كما تؤدي اللغة دورا مهما في نسج المكان وصياغته وتنوعه، ولذا نلاحظ أن المكان محوري ومهم ضمن عناصر السرد الأخرى.
المكان في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليلية لنماذج مختارة

Date Issued
2024
Language
Arabic
Extent
[275], pages
Place of institution
Sakhir, Bahrain
Thesis Type
Thesis Master
Institution
جامعة البحرين, كلية الآداب, قسم اللغة العربية و آدابها
English Abstract
Summary: This research deals with the study of place in four novels by the novelist Abdullah Khalifa, which are: “Ode to the Sea – Diamonds and Ebony the Price of the Soul Ibn Al-Sayyid” by following the analytical approach. The research contains: First: The oretical introduction: It studies the concepts and terminology of place in language, philosophy, and narrative, in addition to the importance of place and types of places. It also deals with the biography of the novelist Abdullah Khalifa and a summary of the novels chosen for study. Second: The first chapter contains types of places in Abdullah Khalifa’s novels, and the most important of these places are: residential places, natural places, places of paths, nests, workplaces, mosques, places of learning, hospitals, prisons, courts, places of eating and drinking, places of transportation, Cemeteries. Third: The second chapter deals with description as a mechanism for highlighting place in the novel, and because of its importance in shaping places. In this chapter, the study dealt with the definition of description and its function in determining the novel genre, and the relationship between description and place. It also dealt with the types of description of places and the description of the imagined and dreamed place. And the merging of the senses in describing places. Then, he discusses the various methods of description, such as description with words or actions, description with vision, or indirect description. Examples of indirect description include description with a dream, description
Theses
المكانُ في روايات عبد الله خليفة دراسة تحليليّة لنماذجَ مُختارة
الزاكي ,فاطمة حسن سلمان
2024

قصص من دلمون

إهداء
القاص والروائي والكاتب البحريني عبدالله خليفة البوفلاسة حرفك ذات يوم علمنا غواية السرد، حيث أبحرنا وشهوة الحلم تعبر نحو «اللآلئ»؛ ثم نمضي في متاهة الموج الأزرق كيما نبلغ «الهيرات»، يحدونا الأمل ولا ندري ما يتوارى لنا خلف «أغنية الماء والنار»، وإذا ما كان «القرصان والمدينة»، في انتظارنا هناك في أزقة العدامة والمحرق والمنامة.

ثمة خليط ملون هنا من الحكايات، خاطب روحك الغائبة عنا، لكن طيف أنفاسك الساخرة يعرفها، هيّا.. ﺍجمع كل هؤلاء المحتفلين حولك في حلقة الزار وأخبر عفاريتك وسط العتمة، وكذا العمال المطحونين قرب آبار النفط وحقول الصحراء ومدن الاسمنت وكآبة «…»، أخبرهم أن عشاق الحرف يستمر ركبهم، وهذا مدادهم محلّق في فضاء الوطن الذي أحببته، لا ينقطع غيثه الطيب مهما تبدلت الأحوال.
إلى ذكراك الطيبة نقدم هذا الكتاب تقديراً وعرفاناً.. لترقد روحك بسلام عند رب الأنام.

أحمد المؤذن

عتبة اولى لا بد منها
من الصعب إجمالا اختزال كلية المشهد السردي ــ ونعني به هنا «عوالم القصة القصيرة البحرينية»، في مقدمة مقتضبة ضمن هذا الكتاب الصغير بعدد صفحاته والثري بمضمونه كما تأمل، الكننا في توجهنا هنا من الهم أن نٌطلع المتلقي العربي على جزئية مهمة من حراك الساحة الثقافية في مملكة البحرين، هذه الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي حيث تُعڐ ملتقى للثقافات طوال العقود الماضية، ولا تزال حتى يومنا هذا.
جزءٌ مهمٌ من نموها الحضاري وتطورها جاء نتيجة الانصهار والتعايش السلمي ما بين مختلف الإثنيات والمذاهب، وهذا تماما كان المحك في ثقافة قبول «الآخر»، واستيعابه في عمومية البناء المجتمعي بمختلف تجلياته وتمثلاته.. لذا فإن المشهد السردي يحمل سمات البيئة البحرينية وملتحمٌ بهواجسها وقضاياها اليومية، وخير من صور هذه البيئة وعمل على التوغل في همومها، هو الأديب والباحث الراحل: عبدالله خليفة البوفلاسة، ابن البحرين الذي غذى روح السرد بانحيازه للفقراء والمهمشين، وأغنى المشهد الثقافي البحريني بمؤلفاته المتنوعة حتى بعد رحيله.
فقد قطعت القصة القصيرة البحرينية شوطا طويلا في حرية الكلمة ونهوضها الثقافي على مستوى الخليج العربي، وقدمت الكثير من العطاء والتجلي الأدبي في صعودها؛ إبان القرن العشرين المنصرم مع بواكير الصحافة البحرينية عام 1939؛ لما تأسست جريدة البحرين، ثم تلتها صوت البحرين، والقافلة، والوطن. وكان الراحل عبدالله الزايد هو الأب الروحي للصحافة البحرينية؛ فهو من أسس الصحافة الحديثة في منطقة الخليج العربي، الأمر الذي أثرى الحركة الفكرية والأدبية وساهم في بروز الأقلام المحلية والعربية.
فكان لفن القصة القصيرة دورها وإن كان خجولا في ارهاصاته الأولى لڪن أسهم في انطلاقة تلك الأقلام البحرينية في تلك الفترة التي شهدت نهضة البحرين واليوم تتواصل الساحة الأدبية في زخمها الثقافي، حيثُ تتسيدها الكثير من الأجيال تتفاوت في جهودها كقامات أدبية مهمة كمثل الراحل (فريد رمضان، عبدالله خليفة البوفلاسة، محمد عبدالملك، أمين صالح، خلف أحمد خلف، جمال الخياط، عبد الحميد القائد، فوزية رشيد، عبد القادر عـقيل، علي سيار، أمينة هاشم الكوهجي وأسماء أخرى لا خضرفي الآن)، وثمة أسماء أخرى ظهرت للساحة مثل، (عبدالعزيز الموسوي، ايمن جعفر، شيماء الوطني، فتحية ناصر، حسن بوحسن، جعفر الديري، محمد أبوحسن، مها المسجن، منار السماك، ندى نسيم، جميلة الوطني، نعيمة السماك، علي الحداد، جابر خمدن، علي خميس الفردان، فخرية المخلوق، يثرب العالي، أحمد المؤذن، وأسماء أخرى تغيب عن المشهد ممن صدرت لها مجاميع قصصية، ثم اختفت عن الساحة في زحام الحياة. في هذا الكتاب نطلق شهية السرد للعــديـد من الأقلام التي استحوذ عليها سحر الحكاية بالذات التي استجابت لدعوتنا وتواصلت معنا وأرسلت قصصها، وهناك أسماء أخرى «ربما لم تتحمس لفكرة المشروع»، وعدم تواجدها في متن الكتاب لا يفسر على كونه تجاهلا متعمدا أو مقصودا في حق تجاربها، ففي نهاية الطاف لكل تلك الأقلام الغائبة أعذارها وظروفها الحياتية كيفما كانت، وهي موجودة على كل الأحوال.
وهناك أصوات أخرى من غير المكان «التصرف» بنقل نصوصها القصصية، لكوننا لا نمتلك الصلاحية في ذلك بالرغم من بصمتها السردية الوازنة في المشهد الأدبي البحريني.
أكثر الأمور إيجابية في صيرورة هذا المشروع القصصي والذي يعمل عنوان «قصص من دلمون»، حيث أن دلمون تلك الحضارة القديمة التي تميزت بأنها نقطة الوصل ما بين الطرق التجارية القديمة الشرقية والغربية، وتحتوي على الآثار التاريخية التي تحمل معها تاريخ البحرين قبل خمسة آلاف عام تقريبا، فقد نشأت حضارة دلمون ما بين 2800 ــ 323 قبل الميلاد، تعطينا الحافز على محاولة فهم كنه قدم الرغبة البشرية في سرد الحكاية، والتي أطلقها إنسان الكهوف لما شرع يرسم ويحكي الحياة من حوله بالرسم على جدران الكهوف، وعليه فالسرد غريزة إنسانية أصيلة تضمر إحساسنا الفطري في أرشفة صيرورة الحياة وتخليد الحدث/ الحكاية.
لهذا فإننا هنا عملنا على جمع هذا الخطوط الأدبي، والإعداد له، ولم نتعسف في تصنيف مجمل الكتاب المشاركين بفرض معيارية فوقية على مبداً (الاستحقاق للأفضل)، فالقصص الواردة تتنوع في مضامينها الحياتية، وتعبر عن بيئتها ضمن مناخاتها المحلية، تبرز صراع الإنسان المعاصر على سطح هذه الجزيرة الصغيرة بمختلف قضاياه وروتينه اليومي وهمومه كأي مواطن عربي، متمنين لعموم القراء رحلة سردية ماتعة تستنطق جزءاً من مسيرة القصة البحرينية المعاصرة، والتي لا يمكن هنا بأية حال من الأحوال «أن تعكس كلية المشهد الراهنة»، نظراً لغياب أسماء أخرى مؤثرة لكننا بشكل عام نضع هذا المجهود الأدبي المتواضع بين يدي القارئ العربي من المحيط إلى الخليج كيما نتواصل حضارياً مع الجميع، ابتغاء التعريف بعطاء القصة البحرينية القصيرة التي في بالأساس جزء أصيل من نتاج الساحة الثقافية العربية، ولا تنفصل عنها من دون أدنى شك.
تمنياتي لكم بحصد الفائدة والمتعة في السطور القادمة والله ولي التوفيق.
أحمد المؤذن 8 نوفمبر 2023 / مملكة البحرين

قصص من دلمون
#عبدالله_خليفة ‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ


ينزل سلطان من الباص الخشبي حاملاً حقيبته الثقيلة ، دون أن يشعر بها ، يمشي في الزقاق ، وثمة حنينٌ طاغٍ في روحه يكاد يشعله ، يقترب ، يقترب من الباب الذي حلم بفتحه ليالٍ طويلة مسهدة ، يضع الحقيبة فتهتز الأرض ، ويطرق الباب طويلاً ، وينتظر خطواتها التي بدأت تهفو إليه حفيفاً عطرياً أخاذاً.
هذا آخر الشهر وهي تعرف إنه سيأتي في هذه الأيام التي تضج في جسده وتضعه في تنور الدقائق التي تشويه ، فهل هي التي تقـترب وتقلقل هذا الحديد الذي التهب في صدره . . ؟ !
ينفتح الباب عن وجهها ، وثوب النشل الواسع المطرز بالعصافير ، يحضنهُ كسماء واسعة ، يدخله جنة ، ويكاد يعصرها بجسمه الهائل ويحملها إلى غرفتهما المطرزة بالمرايا والصور ، ويفتح الحقيبة الثقيلة فإذا كل ألوان القماش والطيف ، والحلق ، والعقود ، وموزة مأخوذة ، تلمعُ في عينيها أشعة الفضة وكأن غابة محروقة تسطع بألسنتها ، وأنهر من ذهب تتدفق .
هذا الجسد الفاتن ، والوجه المغمور نوراً ، والحضن الحنون يغسل كل أوجاع تلة الزيت ، وجنون القيظ ورائحة أجساد الرجال والصابون الذي يلتهم الأيدي والأرواح .
الآن يستريح ، ويرى بيته الصغير ، وأنثاه على صدره ، كلما هفت نفسه إلى شيء اندفعت ووضعته بين يديه ، صحن الأرز الكبير وسمكاته والليمون والزرع الأخضر الذي ينمو في بياضه الواسع ، والعسل الصباحي والخبز و (الكباب) الملتهب المقطر سمناً متفجراً ، ورقدة الظهيرة قرب تلتها الخضراء وهو يصعد الهضاب المعشوشبة ويزرع الريحان ، ويكاد أن يقول لها :

  • ــ لا أريد أن أرجع إلى تلة الزيت . . . !
    لا يستطيع ، عيونها حينئذٍ سترمقه ورموشها ستثلم كلماته .
    بضعة أيام ، ثم يوم مرير ، حين يمشي وحيداً بلا حقيبة ، ممتلئاً بآثار القبل ، يحمل خوخ الخدود لجوعه القادم ، وينسج من شبحها وراء النافذة إزاراً لليالي الطويلة الساخنة .
    حين يتدحرج رأسهُ في الباص الطويل ، نائماً وصاحياً ، روحٌ مشبعة برفيق لا يُرى ، يتذكرُ كيف طلع هو ورفاقه من عراد من بين الخوص ومستنقعات البعوض والأفاعي ، وساروا في الصحارى وعبروا المياه وبراري اللصوص والبدو، وسلموا في كل بوصة من التراب قطعة من قلوبهم ، وآخر قطعة نقدية شويت أجساد أهلهم في تلميعها من الصدأ والدم .
    كانت أمامهم تلة الزيت ، تضيءُ من بعيد ، ألسنةُ نيرانها تقلي السماء وتنضّج النجوم لأحلام الليل ، وكتل الحديد والأعمدة العملاقة والرافعات الشاهقة والشاحنات الكثيرة المندفعة، تصهرُ ما بقي من قلوبهم .
    النهارُ كله جهنم ، والليلُ تنورٌ صغير لشوي ما بقي من الأجساد ، والبواخر العظيمة تُرى في البحر ، تأتي وتصيح وتخرج خراطيمها وجسورها ويرى البر كله وأجسادهم والتلال المأسورة في الصمت ، تضخُ أعماق الأرض لكتل غريبة تذوب في ضباب الصباح .
    أيُ نومٍ كان ينام ؟ أي صندوقٍ خشبي يضمُ ثلة من الرجال تتعاركُ أرجلُهُا وأيديها وصرخاتها وأحلامها و (سفر طاساتها) ، فكيف لم ينفجر ؟ !
    ويعودُ ثانيةً إلى عراد . تلك الغلالة الخضراء من الشجر والرمل والزرقة تتراءى في الباص المترنح في البرية وفي السفينة المتقلقلة في البحر ، وكأن أقدامه ليس لها من حنين سوى أن تصل إلى ذلك الزقاق ، وتركعُ هادئةً تحت أصابعٍ مُضمخة بالحناء . وحين تفتحُ لا يجد ثوب النشل ولا العصافير الزرقاء بل امرأة تربط رأسها بمنديل ، وبطنها متضخمة قليلاً ، والدوار والقيء يأخذانها بعيداً عنه ، في الطرف القصي من السرير . . الفرحُ ينشرُ الشهوة ، والأبوة المنتظرة تختلط بجوع الليالي ، وحين يقـتربُ من جلدها يجدها تنتفض.
    وفي الصباح يرى الطاولة العامرة ذاتها ، البيض والحليب و(الكباب) المشتعل زيتاً وناراً ، وضحكة موزة تسترد وجودها ، واغتسالٌ غريبٌ لجسدها يرعشُ خلاياه التي تصلبت .
    لا شيءَ سوى تلةِ الزيت ، وعليك أن تدفع العربات ، وتضع الأعمدة على عظامك لتتسع دوائر الخزانات والصهاريج، والشمسُ في الليل تصيرُ غابةً من العقارب والصراصير في ظهرك ، وحشودُ العمال تتقارب رؤوسها في الظلام وأنت لا ترى سوى وجه موزة ، وفي النهار يتجمد المكانُ ، والدخانُ والزيتُ والغيوم والسماء والألم ، وتعبر العصافيُر بكثرة فرحةً بالبحر والشجر ، وأنت تمشي بعربتك وحيداً نحو غلال الدم والنفط والأعضاء المقطوعة . .
    يتساءلُ : لماذا تستولي عليّ هذه المرأة في كل لحظة ، وأود أن أجري وكأنني في سجن أعدُ كلَ دقيقة ، لماذا كلُ هذا الحب يملأني لها ؟ والعمالُ يرمقونني باحتقار ، وتأتي سيارات الإسعاف والشرطة وتأخذ وجوهاً لم أحدق فيها كثيراً وجثثاً لم أترحم على أرواحها ؟
    واحدٌ من هؤلاء الرجال ينسجُ قلبَه في الليل ، يسحبُ حكاياتهِ عن السفن التي ثــُــقبت أمعاؤها ، وتبخرت أحلامُها وهي تغرقُ وتتحد بالسمك والصدأ ، لكنه يحوم حول زقاقه ، وبيته ، ويذكر له صبانه وأخشابه وكيف سيعيدُ بناءه ، وتتخايلُ موزةٌ في ذلك الأفق من النور ، ويريد لو يتدفق بالحديث عنها ، ويصف جمالها ورقتها وأكلها . .
    يعيده الباصُ الخشبي إلى الأمعاء الغليظة للحي ، ويجد كرةً من اللحم الضاجة بالصياح في حضنه ، وتبدو كأنها لا تنتمي إليه ، وجهٌ غريبٌ له سمرة وضآلة جسدية مروعة ، وهو الذي أنتظره عملاقاً كجسده الفارع . والمرأة بعد الولادة ، وبقايا آلام المخاض وإرهاق المنزل والثدي القافز دائماً للوليد ، وعليه إذن أن يعود لطريق تلة الزيت ، التي صارت بطيئة ، ثقيلة ، تتناءى أشجارُها وتلالها وقواربها ونيرانها ، وكأنها خريطة مرسومة بالمسامير والنار على جسده .
    لو أن أحداً يحدثه عن الحب بين قفـير هؤلاء العمال المغسولين بالزيت والإغفاءات . . ! لو أن صاحبه يكف عن أقاصيصه المثقلة بالدموع والحمامات والمطارق ويكلمه عن المرأة ولغزها المحير . . !
    ينحني ظهره قليلاً وهو يعود، وعراد تزيح غلالتها الخضراء ، وتلبس رداءً من الحديد والرمل ، والباص الحديدي يأخذهم بين المستنقعات والتلال وركامات العمارات الجديدة، وبيته الضيق يتسع ويجاور البحر، وموزة تقدم له صبياً غريباً وبطناً منتفخة ثانية ، وولده يندفع إلى صدره ويدخل في روحه ، وينثر له الهدايا ، ويحاول أن يتسلل إلى مخدعها ويجد غابة من الريحان والورد ورأسها متوج بغلالة من الليل والنور ، وهو يحتوي قطعة من الزبد المشتعل، ويريد أن يبقى في بلدته ، ويتجذر بين أولاده ونخيلها ويصطاد في البحر ويغسل قدميه في موجها المثرثر مع جداره..
    لكنها تنتزعهُ من العسل ، وتعيده إلى الشريط المشتعل ، ويشعر بأنه ثور معصوب العينين يدور في ساقية من سواقي جهنم ، يحملُ الفحمَ وأسطوانات الغاز المتفجرة وألواح الألمنيوم المصهورة ، ويفضفض لصاحبه يريه ذلك الزقاق والمرأة الجميلة والبيت ، ويتكلمُ عن كل حبة رمل من حوشه الملآى بانعكاسات النجوم ودبيب السمك الميت ، ويسأله صاحبه عن البلدة ودكاكينها ورجالها ، فيستغرب كيف أنه لم يتجول كثيراً فيها . حين يعود إليها لا يرى سوى قمراً وحيداً، ويجد نفسه في زنزانة الضوء ، ويتذكر العين القديمة التي تستحم فيها النساء ، وكيف رآها وقد صارت خرابة، فدهش كثيراً ، وتساءل : أين كان ؟
    كان جالساً على البساط في حضرتها ، وهي فوق الفراش العالي ، يتمتمُ بكلمات لا تأخذ شكلاً بشرياً . ترمقه بكبرياء، تحدق في أعماقه المتقلقلة ، يهمس :
  • ــ تعبتُ . .
    وتنتظر صعود الموجة المضطربة :
  • ــ هناك أنا بعيد . . عنك . . أشتاق . . كثيراً . .
    تقول بحدة :
  • ــ ألا تخجل من نفسك ، ألست رجلاً ؟ ماذا نفعل هنا نحن ، نربي ، وننفخ الدخان من تحت الصفائح السود ، ونراقب الأولاد وهم يذهبون إلى المدارس . .
    أجل الآن يتضح له دورها ، هاهم الأولاد يكبرون ، ويتعلمون ، والبيت يتسع ، وأرضه الرملية تختفي ويدهش من البلاط الملون والثلاجة الممتلئة ، وغرفة البنات ، ويحملُ رغباته الحارة ويمشي في البلدة ، يخفف من انتفاخِ عروق ساقيه ، ويرى كم تغيرت الدكاكين ، وجاءته رائحةٌ مألوفةٌ ، رائحةُ (الكباب) الصباحي ، ويسمع صوت ابنه ، فيقـترب من الدكان .
    تجمدت روحه بغتة . هناك رجلٌ مألوف ٌ غريبٌ ، يضحك مع ولده ، وقد دهش كثيراً من الشبه بينهما . هذا علي اليماني ، صانع الأكلات والكلمات السحرية ، متجذرٌ منذ زمن بعيد في هذا المكان ، وجهٌ يجمع بين رؤوس الحيات والثعالب ، تتجمع فيه الابتسامة ولمعة الخناجر.
    يستندُ على الجدار ، ويرى المحل الواسع ، والطوابق ، ويتذكر ، يمشي تائهاً في أزقة البلدة ، يحدث الأشجار المتوارية في الذاكرة ، ألم يكن أباً ؟ الشبه الغريب بين ابنه ، بل أبناؤه كلهم ، وهذا الساحر وصانع الحلويات والكباب، وهذا النسل الغريب المتقزم ، الكريه ، هؤلاء الذين حضنهم واندفعوا إليه في الليالي القليلة البخيلة ، وسمعوا حكاياته على ضوء الفوانيس ، وجرى من أجل أمراضهم ، وهذا البيت الذي أقام كل حجر فيه من غربته وجوعه ، لا، لا يمكن أن يكون . . . !
    رأسه مترنحةٌ على زجاج الطائرة ، يحدق في تلة الزيت وقد صارت مدينةً تعصر البحر والصحراء ، تمتدُ يده لعلبة لأول مرة يذوق هذا السائل اللاذع ، ثم يضع عقله الضاج بالهدير على وسادة ، ويرى ظله يمشي في الظلمات المشتعلة ، ونملٌ كثيف يجره إلى البحر. . القناديل اللزجة تأخذه في أشداقها . . قناديل كثيرة كالرمل تموت على الشطآن . .
    الآن لا يمكن أن يرى حدود تلة الزيت ، أتسع الحديد والدخان إلى ما وراء الأفق، الطائرات وحشود البواخر ، والجسور المعلقة قرب الغيم والانفجارات التي تدوي كل لحظة ، ونهر السيارات المتدفق ، وهو في غرفته الصغيرة يطل على هذا العالم الذي أعطاه كل شيء وأخذ منه بضع أحجار ، وظن إن ثمة عائلة وراءه ، والمرأة التي أحبها كانت أفعى محمولة في صدره ، وهو يغوص في بحيرات الحمم كي لا تحترق منها شعرة ، الآن كل شيء صار عدماً ، الماضي القطار المحترق الذي دخل به نفق الحياة ، والمستقبل…
    يتطلع إلى صاحبه ويخشى أن تكون كلمة من كوابيسه قد وصلت إليه ، يدهش إنهما كانا يتلاصقان هنا طويلاً ، وأعماقهما نائيتان .. يجد كم كان يوغل الخناجر في جسده ، ويجمع العقارب والجنازات ، وراح ثقلها الآن يهوي به ..
    يعود الآن إلى بيته ، صدفة مغلقة بالألغام ، جسدٌ ضخمٌ منخور بنمل كثيف ، ثوبٌ منتفخٌ وروحٌ غائبة ، وكلُ التهاني بوظائف الأبناء لا تمس شعرة من عود قلبه ، والزغاريدُ بزواج البنات أشبه ببكاء الجنازات ، بدلاتُ الضباط المرصعة بالنجوم وأقنعة الموظفين المتنفذين التي يلبسها أبناؤه ، والفلل الجديدة التي تــُـرسم على جلد أرضه الممزقة ، كلها تجري خارجه ، وموزة لم تعد تأبه به ، في سيارتها وجولاتها ودكاكينها ، ولا أحد يلحظ عودته الدائبة إلى تلة الزيت ، وارتياحه من الغرفة الصغيرة وأقاصيص صاحبه ، وخيوط حنينه للصغار الذين كبروا بخيوطٍ دمه ، لا تزال تشده إلى التنور الذي يقدم فيه جسده قطعة قطعة . .
    أين كان يقذف روحه وماؤه ، أين كانت قطعه الصغيرة تذهب ، وهو الآن يمشي في بلدته التي لا تعرفه ، ولم يستشره ( أبناؤه ) حتى في وظائفهم الجديدة و(بناته) اللاتي تزوجن الكبار سربن قطيعَ كلابه الوحشية في المخازن الملآى بقطع الغيار البشرية ، ولم يعد قادراً على الكلام ويدخن بوفرة مسحوقاً مدهشاً ويصمت ويغور في ذاته ، ويرى حشودَ العمال تتجمع وتنطلق في الشوارع ، واللافتات ، والصخب ، وانفجارات الدماء ، وسيارات الإسعاف تصطخب ، وهو يعود إلى غرفته تعباً ، يجد شريطاً من الغبار في ذاكرته..
    يدخل غرفته المضطربة ، الأحذية والأيدي والمعاول خربت كل شيء ، وصاحبه أيضاً لم يعد حياً..

أول أغسطس 2003.