كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
المطلقُ والنسبي، الإلهي والبشري، الباقي عبرَ العصور كأساسٍ نضالي لجماعاتِ المسلمين، والمتحول التشريعي الجزئي، يتجسدان إجتماعياً بتحالفِ التجار الأحرار مع العاملين الفقراء والعبيد وقتذاك.
القرآنُ كتابٌ نضالي مطلق، وكتابُ تشريعاتٍ نسبية متغيرة، يعبرُ في زمنِ عدمِ وجودِ المصنع كأساسٍ إقتصادي للمجتمعات وقتذاك، ومع ذلك يطرحُ التحالفَ الاجتماعي السابق الذكر، كجنين للبشرية الديمقراطية الذي حصلَ على وجوده الاقتصادي الواسع فيما بعد بأوربا الحديثة.
تشكل التحالفُ الديمقراطي عبرَ سورٍ محددةٍ كسورةِ الحشر، وأُعتبر ذلك أساساً للبناء السياسي للأمم الإسلامية، وغلبَ عنصرُ سيادة المُلكية العامة الخادمة للسكان على المُلكية الخاصة في الخلافة الراشدة، بما يعبرُ عنه في عصرنا بهيمنةِ الاشتراكية الديمقراطية السياسية على الليبرالية بشكلٍ جنيني رغم التحالف بينهما.
كان هناك نقص في الديمقراطية الاجتماعية وهو أمر ركزت عليه القراءات السطحية وأعتبرته دائماً.
غيابُ المصنع وسيادة الرعي والزراعة والحرف وسيادة البدو الأحرار والمدن التجارية القيادية، جعلت من المسلمين المشكلين الأساسيين للتحضرِ الديمقراطي النهضوي الجنيني وقتذاك في العصر الوسيط للبشرية.
الحضارة الأغريقية والحضارة الرومانية قامتا بدايةً على التجار الأحرار لكنهما وسعتا الحضورَ الهائل للعبيد فتدمر البناءُ الحضاري الديمقراطي فيهما، ولعبت الحروبُ والفتوح دوراً في الاسترخاء الاقتصادي والغيبوبة الاجتماعية والتناقضات الحادة بين الأمم والشعوب.
التحالف بين التجار الأحرار والعاملين أتخذ له مظاهر مختلفة في الحضارة الإسلامية عبر الفرق كالمعتزلة والسنة والشيعة وغيرها، لكنه إنتكسَ بهيمنةِ الارستقراطيات الحكومية وبتوسعِ جلب العبيد والجواري، مما أدى إلى تدهور المدن وإنهيار عالم المنتجين، بحيث تكلست قوى النقد والحرية والنضال الديمقراطي العقلاني في العواصم وأنعكس ذلك في سيطرةِ المحافظة على المذاهب والخرافةِ على الرؤى الفلسفية.
مع غيابِ التجار الأحرار والعاملين الأحرار أزدهر التفسيرُ الشكلي للقرآن، والتركيز على الظاهر، وجوهرة الإسلام في العبادات، بينما حاولت الفرقُ النضاليةُ والصوفيةُ البحث عن (الجوهر) في المطلق والغيب وليس في التحالف النضالي الحقيقي المفقود.
حين إستعادَ المسلمون وجودَهم الحديث وجدوا أنفسَهم تابعين لحضارةٍ جعلتْ من المصنعِ أساساً لوجودها وسيطرتها وتوسعها، وخصصتهم في المزرعةِ والسوق. وحين أسسَّ المسلمون مصانعَهم كانت كذلك منتجةً لموادٍ خام للمصنع الغربي المسيطر، وقدموا المواد الخام لها بأقل الأسعار. وهو أمر أدى إلى تناقض العالم العربي بين نمط يسترخي في ظل أسعار نفط وثروة بلا قوى منتجة عربية متطورة وأشكال من العمالة المجلوبة التي لا تعمق الإنتاج، وبين فقرٍ عربي يفتقد للثروة ويعيش العمالة في حدود الكفاف.
الليبرالية الأولى التي ظهرت في العالم العربي كانت إستيراداً فيما العاملون يعيشون في أوضاع عبودية، فهي لم تمد يدها بقوة وعمق لتغيير أوضاعهم، ولكي يكونوا شركاء لها في الوطن والسياسة والحرية، فجاءتْ الشمولياتُ العسكريةُ لتلغي الليبرالية والديمقراطية ولكنها حولت العاملين إلى ما يشبه العبيد في المصانع، فلم تصنع لا ديمقراطية ولا إشتراكية.
ركز المتابعون للتراث والحافرون من خلاله لرؤى سياسية على إستعادةِ الشكلاني والجزئي، وعدم قراءة الجوهري، والتركيز على السطحي يقود لاستعادة الملابس والأشياء الخارجية والجمل المحفوظة وليس قراءة التحالفات الاجتماعية الأساسية وتكويناتها الفكرية الثقافية وإستعادة حضورها بأشكال أكثر تطوراً وعصرية.
ظهر المصنعُ الآن بشكل واسع ولكنه في وضع مضطرب، لم يتحول إلى مهيمن على البُنى الحرفية والزراعية، أو لا يزال تابعاً للغرب يقدمُ مواداً خاماً، أو يجلب عمالةً غير عربية وغير مغيرة وغير متجذرة في نمط الانتاج، ولهذا فإن التحالف الاجتماعي الجوهري مختلٌ عبر عدم قدرة الفئات الوسطى لتوسيع التصنيع وإعادة تشكيل المجتمعات، وتوجهها للأرباح السريعة ومنافعها المباشرة، وتحويل العاملين لأجراء متخلفين، كذلك يظهر لنا المشهدُ العامُ الاختلالات في العمالة العربية بين عطالة في بلدان وجلب عمالة أجنبية في بلدان أخرى، أو تضخم العمالة الإدارية.
كذلك يظهر الصدام بين الرأسماليات الشمولية العسكرية الحادة والرأسماليات الليبرالية الضعيفة المتخلفة، فيحتاج العرب والمسلمون لتجاوز ذلك عبر أشكال متقاربة من التطور، وخاصة في الأنظمة الجديدة الحائرة بين أشكال التطور السياسية الاجتماعية، والتي يركز بعض منظريها ومثقفيها السياسيين على الجزئيات والسطوح وعلى القراءات غير الاجتماعية.
في حين تحتاج هذه التطورات لدراسات لكيفية تطور الثورة الصناعية الديمقراطية، وإعادة تشكيل رأس المال وقوى العمل، لهدف تلك الثورة ومقاربتها في ظروف كل بلد، لكن هذا لا يتم بدون التحالف الاجتماعي وظهوره بأشكال سياسية وتعاونية مختلفة.
