عمرو بن العاص متلفزاً
أصبحت المسلسلات العربية مُغرمة بالتاريخ العربي الإسلامي، وهكذا قفزت إلينا مجموعة من الشخصيات التاريخية الشهيرة في الفتوحات وفي الحكم، والأدب، وأصبح التاريخ العربي حياً يشاركنا حياتنا اليومية، سواء كانت هذه الشخصية دموية لا تصلح لموائد الطعام كشخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، أو الخيام العالم الشاعر المحب، أو عمرو بن العاص القائد العسكري والسياسي الداهية.
وإذ نتكلم هنا عن الدلالات السياسية لمسلسل عمرو بن العاص، فلا بد من رؤية طريقة التنفيذ الفنية ومدى تناغمها مع هذه
الشخصية التي عاشت ملاحم التغيير السياسي والعسكري في المنطقة؛ فقد اقترب الأخراج من تنفيذ جوانب من هذه الملحمية، عبر استعانته بأجواء مقاربة، وبالحشود العسكرية والجماهيرية الواسعة، وباقتراب النص من الحياة التاريخية بشيء من الموضوعية.
ومن الواضح أن كاتب المسلسل حاول أن يقدم صورة زاهية عن عمرو بن العاص، كما لو أن عمراً قد كتب مذكراته السياسية، فهي ليست حفراً في شخصيته بقدر ما هي تقديم لوحات كبرى لإنجازاته السياسية والعسكرية.
ولكنه منذ زمن الجاهلية قدم وقائع حياة عمرو بشكل قريب من الوقائع الحقيقية، ولكنه لم يفسر سبب تأخر إسلامه مثلاً، فعمرو بن العاص كان من قادة قريش، وكان هؤلاء القادة لم يتبصروا بنتائج وتطورات الحركة الإسلامية، أي لم يتوقعوا أفاقها التاريخية، وتحويلاتها الكبرى للمنطقة، وتشبثوا بمصالح قريس الضيقة ورؤية الملأ الأرستقراطي المحدودة، وكانت مكة مركزاً عبادياً ومركزاً اقتصادياً على ضوء ذلك.
ولهذا فإن مسألة تحول عمرو بن العاص تعود لإدراكه لفشل المنظومة الجاهلية في التعبير عن مصالح قريش، وقد تبصر ذلك حين رأى الحركة الإسلامية تتحول من حركة سياسية صغيرة إلى ثورة شعبية، ينخرط فيها عشرات الألوف في المدينة، وقبل ذلك حين كان يطارد المهاجرين المسلمين في الحبشة أو يشارك في الغزوات محاربة للمسلمين.
وهنا فى مسألة الهجرة للحبشة فإن المسلسل يتجاوز حقائق التاريخ البسيطة ويلجأ للأسطورة التي تخللت بعض مواقع المسلسل، فقد جعل نجاشي الحبشة مسلماً يردد آيات القرآن ويدعو عمرو بن العاص للإسلام!
لكن عمراً حين وجد ذلك الالتفاف الشعبي وتقوقع مركز الملأ وعزلته السياسية، فقد هاجر إلى المدينة مع خالد بن الوليد، وبهذا فإن كوادر قريش العسكرية والسياسية كانت تلتحق بالمسلمين، واثبة نحو مراكز سياسية وقيادية في النظام الجديد المنتصر لا محالة مع توازن القوى المختل لغير صالح ملأ قريش.
وهكذا راح المسلمون يعتمدون على هذه الكوادر، ذات الخبرة بسبب كونها سخصيات تجارية وعسكرية معاً، وأكثر ثقافة من الكثير منهم. ولم تكن أموال قريش تذهب هباءً.
وهكذا كان عمرو بن العاص يضع يده مع الحركة الغالبة القوية، وكان ذا حس سياسي مرهف، يدرك متى تتغير الامور، ومع اعتماد المسلمين على شخصيات كهذه استطاعوا ان يحكموا الجزيرة العربية٠ فهؤلاء كانوا يعرفون القبائل والجغرافيا الطبيعية، ويستطيعون مجاراة تكتيكاتها العسكرية المعتمدة على الكر والفر والخدع بل والتغلب عليها.
ولهذا وجدنا عمروا وهو يحكم عُمان بمجموعة صغيرة وعبر تكتيكات سياسية وحربية ذكية، ثم ينقل طريقته العسكرية والسياسية إلى الفتوحات في الشمال العربي، متوحداً مع صديقه خالد بن الوليد، فيتم قهر الرومان وإخراجهم من سوريا وقد وضّح المسلسل كيف كان عمرو قائداً عسكرياً ماهراً، غير مؤمن بالمواقع العسكرية الثابتة الجامدة، بل يقوم بتغيير مواقع الجيش وقطاعاته الصغيرة السريعة، ونقلها إلى نقاط جديدة غير متوقعة، وهي أمور لم تكن ممكنة، دون الجيش العربي الوليد الخفيف، المعتمد على القبائل العربية سريعة الحركة والخفيفة التسليح والشجاعة وذات المعنويات العالية. ولم يكن أمامها شيء لتخسره سوى جوع الصحراء وفقرها الشديد.
وهناك جوانب رومانسية أدخلها المسلسل في حبكته التاريخية، ولا ندري مدي صحتها وتطابقها مع الوقائع التاريخية الحقيقية. فقد أوجد لعمرو بن العاص حبيبة مصرية قبطية، عشقته أول ما رأته زائراً لمصر ولبيت أبيها القبطي المتضامن مع الحركة الدينية القبطية المعارضة لحكم الرومان.
ثم استمر هذا الحب في قلبها المتوهج على الرغم من بعد الحبيب وسنوات الزمن المتدفقة، بل على الرغم من إغراء كبير الحرس الرومانى لها، وإرغامها على الزواج منه. وقد استمرت حبكة الغرام هذه طويلاً بل تتوجت بتضحية هذه الغادة الجميلة بنفسها دفاعاً عن عمرو بن العاص من سيف الروماني الغادر!
هذه التوليفة الغرامية ضمن الحبكة التاريخية الموضوعية كانت من أجل إدخال النزعة الرومانسية الشديدة العاطفية، ولجعل هذه المرأة رمزاً لمصر المسيحية وهي تفدي نفسها للقائد العربي المسلم.
والأمور التاريخية لم تجر على هذا النحو، بل كان تقدم العروبة والإسلام بطيئاً في مصر، وووجه بمقاومة شديدة، ولكن الإخاء العربى المصري تشكل فى النضال الذي جري معاً ضد الاستغلال الأرستقراطي العربي والروماني والقبطي معاً، ولذلك التآزر بين العامة من الفريقين العربي والقبطي.
ولكن العامة والنظرة الموضوعية العميقة الى التاريخ لم تكونا من اهتمامات المؤلف، وبدلاً من ذلك تم تقديم هذه القصة الرومانسية تعويضاً عن تحليل علمي غائب.
كانت انتصارات عمرو بن العاص فى مصر وليدة خططه العسكرية والسياسية الماهرة، فقد قام بعزل الرومان سياسياً وعسكرياً، عبر جذب العامة المصريين، والتركيز على المتطرفين الرومان، وجذب المعتدلين وإحداث انشقاق بين المعسكرين، وهكذا وجد في (المقوقس) أداته السياسية لبلبلة صفوف أعدائه، وتقليل الخسائر في صفوف العرب المقاتلين القلة في بحر بشري، ثم القيام بحملات عسكرية بطيئة ودقيقة راحت تراكم إنجازاته وقواه العسكرية حتى المعركة النهائية في الإسكندرية.
وقد مثل عبدالله بن أبي السرح النهج المضاد لنهج عمرو بن العاص المتسامح والمنفتح، فقد اعتمد هذا على القسوة واستغلال الشعب المصري إلى أقصى درجة، مما أدى إلى عودة الرومان وسيطرتهم على مناطق واسعة من مصر.
هناك مساحات كثيرة من المسلسل بحاجة إلى التدقيق التاريخى، فهى لقطات أشبه بالسحر والبهلوانية الفردية، مثل تنكر عمرو بى العاص وتلبسه شخصيات شحاذين وقساوسة من أجل خداع الخصوم ومن أجل الانتصار في المعارك، وهي أمور لا يمكن أن يقوم بها قائد عسكري لجيش صغير مقطوع الصلة بقواعده البعيدة.
وكان من الممكن حذف هذه اللقطات والتركيز على تكتيكات المعارك الحربية ووقائعها التي جاءت مختزلة، ومحدودة، بسبب اختصار التكاليف المادية للمسلسل.
بل جاءت المعارك متشابهة ومعتمدة على مبارزات فردية في حين كانت معارك عمرو معارك فتوح واسعة، وتكتيكات مدهشة في الفن العسكري، استطاع بها هزيمة الجيش الروماني الثقيل الجامد.
كذلك جاءت مواقف عمرو بن العاص من أحداث الثورة على عثمان شخصية، وقد أدرك بثاقب نظره أن الأمور قد مالت إلى الكفة الأموية التي انحاز إليها.
هذه الفترة لم تحصل من المسلسل سوي على بضعة مشاهد، نظراً الى أنه أراد تقديم صورة مشرقة ووردية لبطله التاريخي، بدلاً من أن تكون نظرة موضوعية متكاملة.
وقد قام المسلسل بالقفز على هذه الفترة الكالحة ربما من سيرة عمرو بن العاص، حيث صار مهتما بالحكم الفردي وغنائم السلطة، فقد تحالف مع معاوية بن أبي سفيان الرجل القوي الصاعد في الإمبراطورية الإسلامية وقتذاك، وكان لهذا التحالف ثمنه الأخلاقي غير المبهر.
وعموماً فإن مثل هذه المسلسلات التاريخية الكبيرة المنفذة بتمثيل رائع وباقتراب كبير من الفترة الحقيقية، تغني الوعي العربي الحديث من أجل رؤية تاريخه بشكل دقيق وموضوعي.
المسلسلات والفساد
استطاعت مصر وسوريا أن تكون دائماً في مقدمة المنتجين الفكريين والفنيين، وهذا يتجسد في شهر رمضان عبر المسلسلات التي كانت حصتا البلدين كبيرتين . ولكن إذا كان فنانو مصر أقرب على مناقشة قضية الفساد والديمقراطية كقضيتين حاسمتين في التطور السياسي العربي الراهن، فإن فناني سوريا كانوا أقل إنتاجاً في هذا الجانب، حيث لم تزل بعدُ مظلةُ الشمولية تغطي السماءَ السورية بشكل واسع، ولهذا فإن الفنانين السوريين ما زالوا يختبئون تحت عباءات التاريخ الملفعة بالألغاز والأسرار، يجمعون النقود والمخاوف.
أما فنانو الجزيرة العربية والخليج فإنهم يغطون في نومهم، ولا يدرون ماذا يدور في العالم، فلنصبر عليهم سنوات أخرى.
لا شك أن المسلسلين المصريين الكبيرين وهما (محمود المصري) و (عباس الأبيض في اليوم الأسود) هما من أجمل المسلسلات التي عرضت خلال هذا الشهر، وقد كان المسلسل الأول في الذروة بسبب معالجته الفنية والفكرية المترابطة، فهو مسلسل درامي ساخن ومن بطولة محمود عبدالعزيز، ويعبر عن حياة تاجر نشط ومثابر من أجل تطوير حياته الشخصية والغنية، المليئة بالمال والحب والخسائر المالية والمثابرة والصمود، والمواجهة لعصابات الحكم الفاسدة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، فى مصر واليونان معاً.
إن قيمة هذا المسلسل هو أنه يطور المتعة الفنية والتشويق جنباً لجنب مع الأثارة الدرامية والتحليل السياسي، والبطولة الفردية للتاجر والصناعي تتضافر مع مساندة أهله، وبقية أهل الحي، في مواجهة دائمة مع عصابات الدولة، على اختلاف فتراتها السياسية، وتكمن قوة المسلسل في هذا التمحور حول بطولة التاجر الذكي والشجاع، والذي يعيش فترات غنية حافلة، فهو يملك الملايين ثم يعيش الفاقة بأسوأ ما فيها، ولكنه ما أن يهزم حتى ينهضن مجدداً وهو يصارع حيتان السلطة والثروة. لكن البطولة الفردية لا تنفصل عن البطولة الجماعية فهناك العديد من الأبطال الشعبيين المساندين لهذه العملية الواسعة من النضال لتغيير ظروف العوز والانسحاق.
يركز المسلسل على العقبات التي يضعها موظفون فاسدون وأغنياء متنفذون ذوو علاقات وثيقة، ضد هذا التاجر الصاعد، والذي يستفيد هو الآخر من فرص التجارة والسوق. ورغم كل الكوارث التي سببها هؤلاء الفاسدون على ضفتي البحر المتوسط، في مصر واليونان له، فإنه يتغلب عليهم.
إن هذا التغلب هو الحلقات المتصاعدة المثيرة والصراعات المتشابكة، تجارة ودسائس وحباً وانهيارات، مما يجعل المسلسل متكاملاً في صياغاته وبحبكة الأحداث المتوجهة لفضح الفساد، وتجسيد رؤية الناس البسطاء في تغلبهم على قوى الاستغلال داخل وخارج أجهزة الدولة.
كما أن المسلسل بتصويره خارج الاستديو وفي المدن المتعددة والبحر، يجعل مستواه الفني متقدماً و ممتعاً.
في حين يأتي مسلسل (عباس الأبيض في اليوم الأسود) ليعالج قضايا الفساد من جهة أخرى، حيث يعود عباس الدميري إلى مصر بعد غربة مضنية طويلة في العراق، حيث عاش أسوأ فترة من حياته في سجن الطاغية السابق، وكانت تهمته هى السخرية من النظام في فصل الدراسة حيث يقوم بالتعليم، وهنا يفتعل المسلسل حكايةً غريبة حيث يعثر عباس الدميري على جثة مروض الأسود (لطفي الجنايني) والذي تم اغتياله، فيأخذ جواز سفره، وينتحل شخصيته، ولكن لطفي الجنايني مطلوب هو الآخر للنظام!
بعودته إلى مصر يجد عباس أن زوجته تتنكر له، وقد حازت على ثروته، وأعطتها لابنها المدلل، ليبعثرها على أصدقائه ونسائه، فكان عليه أن يثبت شخصيته ويكشف تاريخه الحقيقي، مثلما يعرض تاريخ مصر المليء بالمقاومة.
تقوم حكايات المسلسل على فضح قضايا الفساد الاجتماعي، التي تغلغلت وسط الناس، وجعلتهم يندفعون للمال بأي وسيلة!
الثقافة والفساد
لم تستطع الثقافة أن تتجنب الفساد، خاصة الثقافة التي تشتغل في الأجهزة الحكومية المتنفذة التي تدفع مبالغ كبيرة للمشتغلين بإنتاج مختلف الأعمال الفنية وخاصة المسلسلات.
وعبر احتكار مجموعات معينة لهذا الإنتاج فإن إمكانية جيدة ومضيئة غدت معدومة، حيث تقدم الأعمال والأفكار المسلوقة التافهة، التي تعبر عن تقاسم الكعكة والمنافع المادية، أما الشركات الخاصة فإذا أرادت أن تقدم شيئاً فمن خلال شبكة الفساد هذه.
والقضية هنا ليست قضية فكر جيد أو سيء، أو قضية تراث ومعاصرة، قضية وطن أو ثقافة أو مصير، بل القضية هي قضية الفلوس!
في مصر استطاعت الشركاتُ الخاصة أن تقيم شبكة واسعة من العلاقات والزبائن، لكنها احترمت نفسها، وقدمت أعمالاً مذهلة جميلة، يعتز المشاهدُ بأن يرى إن مثل هذه المسلسلات يمكن أن تنتج وتوزع، وهي مسلسلات تناقش قضايا الإنسان والمصير والمجتمع بعمق ونقد مرير وممتع، بشكل يحترم عقل المشاهد وهي لها تاريخ كبير من الممكن أن تصنع أي شيء وأن تتعكز على الأسماء الكبيرة في التلفزيون والسينما ولكنها تريد أن تكرس ثقافة ذات جذور وأن تحترم الأذواق والعقول وتساهم بكلمة في تغيير مجتمعها، ولاحترام الإنسان وملاحقة الفساد وفضحه!
ولا شك إن الرموز من فنانين كبار ومؤلفين كبار يدركون إن التفاهة في الإنتاج الفني يمكن أن تلعب دوراً هائلاً في الإساءة لسمعتهم، ومن الممكن أن يكسب الإنسان بشرف وبسمو، وليس بانحطاط وابتذال!
كما أنه على العكس فالإنتاج المضيء يوسع من شهرتهم ومن أرباحهم، بسبب أن ثمة مثقفين كبار يقفون وراء مثل هذه الأعمال، ويقدمون أعمالهم بتنافس كبير مع آخرين في سوق واسعة حرة، دون أن يفرضوا احتكاراً سياسياً على المسلسلات التلفزيونية ويعتمدوا على عصاباتهم من أجل احتكار السوق وفرض التخلف الفني على الناس، لا يؤدي سوى أن تصير المسلسلات تبث على الهواء الفارغ من العيون والآذان!
ولكن جماعات الفساد الثقافية اهتبلت هذه الفرص في زمن فقدنا فيه المراقبة على الزائف وكرسنا أنفسنا لمراقبة الجاد وقمعه وإزالته من الخريطة الثقافية، وحولنا الثقافة إلى مستنقع من المستنقعات التي تنمو فيها كل أنواع الحشرات السامة، وتلعب الواسطة وهدر المال العام أدوارها في تسمين البعض والقضاء على الفنون والآداب.
حين نرى مسلسلات مثل (الدالي) نخجل أن نشاهد هذه الأعمال في منطقة الخليج التي تفتقد أي حرارة والتصاق بقضايا الإنسان وهذه المنطقة التي أشبعت بالحروب والتدخلات الأجنبية والتلوث والاستغلال، فنقول هل هؤلاء الفنانون يعيشون بيننا أم هم ينتمون إلى جنسية أخرى وأخذوا جوازات مزورة، ولا يريدون سوى القبض على الفلوس والهروب بعيداً؟
إذا كنتَ تريد أن تعلم الكاتب كيف يشعر أو يحس بوطن أو تقدم للفنان كالتوجاً ليعرف كيف يعبر عن نفسه فمعنى ذلك أنك تعيش في خرابة!
فاروق والنحاس
يعبر مسلسل (الملك فاروق) عن رؤية موضوعية لتاريخ مصر الحديث، من خلال شخصية محورية هي الملك فاروق، من دون أن يغفل الشخصيات الكبيرة فى هذا الزمن، ودورها، ويقوم بتجسيدها بطريقة مكثفة دقيقة.
وهذه الموضوعية لا تتناقض مع العرض الفني المشوق، فهناك مساحات للشخصيات والأحداث وخلفياتها وتنمو الصراعات بينها، سواء كانت على المستوى الداخلي أم الخارجي، من خلال حبكة واسعة، تصور هذه الشخصيات في أمكنتها الكثيرة المختلفة، كالقصور والشقق والشوارع والحدائق والشواطئ، وسواء كانت في الماضي أم الحاضر، وسواء كانت أحاديث داخلية بين أصدقاء وعائلات أم بين هيئات حزبية وجماعات مختلفة، عبر الحفاظ على الطابع التاريخي من ديكورات وأكسسوارات لهذا العصر، بما يرفع من القيمة الفنية لتكون سجلاً تاريخياً عميقاً.
تعلق جوهر المسلسل بالصراع بين النزعة الدكتاتورية لدى الملك فاروق، والنزعة الديمقراطية لدى مصطفى النحاس قائد حزب الوفد البارز في هذه الفترة.
وقد اسهمت تربية الملك فاروق من والده المتسلط الذي غرز عقداً عديدة في نفسه في هذا المسار للملك الشاب في أول عهده، وكان هذا تعبيراً لم يتبينهُ المسلسل بدقة في الجذور التاريخية للعائلة المالكة المنحدرة من الضابط العثماني محمد علي، التي لم تتكرس فيها تقاليد حداثية عريقة إلا من بعض الجوانب المحدودة، فظلت النزعة الدكتاتورية قوية داخلها، وتجلت في الملك فاروق، الذي راح يكبر في حاشية جاهلة، هي مجموعة من العوام الايطاليين المهرجين، ثم يسيطر عليه حسنين باشا مربيه ورئيس الديوان الملكي.
فيما كان مصطفى النحاس وليد تجربة أخرى هي تجربة العمل الديمقراطي؛ والقيادة الوطنية، ونرى كيف كانت قيادته مهمومة بقضايا الناس، والعالم، متابعة لشؤونه بحيوية، في حين كان الملك فاروق يعيش حياة ذاتية مسرفة فى انانيتها، من دون ان يقدر على متابعة دراسته العسكرية، أو يتعمق في دراسة سياسية ما، وجاء للحكم على إثر موت مفاجئ لوالده المعقد والمتعصب، وكان الاستعمار البريطاني والقصر قد تعاونا على تقزيم حزب الأغلبية الشعبية التحديثي الديمقراطي وهو الوفد، وإبعاده عن الحكم وجلب حكومات الأقليات المختلفة.
إن الرجلين الملك من جهة والنحاس من جهة أخرى مَثلا مُثلا أخلاقية وسياسية متضادة، ففي حين كان الملك فاروق يبحث عن تسلياته ووريث للعرش والسهر في حياة ناضبة من العمق والاهتمامات الفكرية والسياسية، كان النحاس يرى فى صراعات مستمرة ضد المسئولين الشموليين الذين تعينهم السلطة، وفي توجيه قادة الحزب نحو الالتزام بقيم الديمقراطية، ثم في الاصطدام مع النازية الألمانية التي راحت تزحفاً على العالم ومن ضمنها مصر التي كان الإيطاليون في ليبيا يتحركون منها لغزو مصر.
وهنا كانت ذروة المسلسل، فالملك يتوجه لإقامة علاقات سرية مع الألمان، عبر شخصيات عائلية، ويقدم لهم معلومات ثمينة عن الجيش البريطاني وعن بلده، ويتوقع بين لحظة وأخرى أن يدخل الألمان، وهو في حالة نشوة من انتصارات الألمان الساحقة فى أوروبا.
وكان ذلك يوافق هواه، فهو قد ضاق ذرعاً بالديمقراطية المصرية، ومن صعود ممثلى القوى الشعبية وهيمنتهم على الحكم، ثم في توجه الإنجليز نحو دعم حرب الوفد وجعله يحكم بقوة، حيث أدركوا أن استقرار الجبهة الداخلية المصرية لابد أن يتم من خلال حزب ذي شعبية كاسحة.
كان تصوير كل هذه الأحداث يتم بلقطات مختزلة، فليس فيها ثرثرة، بل تجسد ما هو هام ودقيق، لينتقل الضوء نحو لقطة أخرى في هذه الشبكة الواسعة من السياسيين وعائلة الملك المتصارعة دوماً، ومن الخدم والأصدقاء، ومن صراعات الأحزاب الكثيرة، وانقساماتها، بحيث تمت تغطية هذه الشبكة كلها، من دون نسيان بؤرتها وهو الملك، الذي تكون له علاقاته ونفسياته المتقلبة الكثيرة، بحيث أننا وجدنا هذه الدقة في فهم العصر وظروفه السياسية وملابسه وشوارعه وحالته السياسية والفكرية.
ومن الواضح بهذا أن المسلسل أُعد جيداً وصُرف عليه الكثير، ولم يقدم رواية شخصية دعائية عن شخص بل كان هدفه تصوير. هذه الحقبة بلغة جمالية شعرية واقعية درامية.
وهناك حشودٌ من الثيمات الفنية الجانبية كحياة الملكة الأم التي كانت لها حياتها الخاصة وصراعاتها، وكان هناك صراعات شخصيات الوفد الرئيسية وكيف تحولت الصداقة بين النحاس ومكرم عبيد إلى عداوة وانقسام، بسبب توجه مكرم الشخصي وحلموحه في الزعامة القائمة على الانتفاخ الذاتي.
والمسلسل في كل هذه الالتفاتات لم يترك الخيط الدقيق الجامع لكل هذه الفسيفساء الشخصية والحدثية، عارضاً الجميع كما هم ظهروا في التاريخ.
«الدالي» أو الرأسمالي الشريف
قدم مسلسل (الدالي) نموذج الرأسمالي العابر للزمن، والنموذج القادر على التعايش مع كل الحقب السياسية من دون أن يُلغي أخلاقه ومبادئه.
هي مسألة شبه خارقة، لأن قوانين التطور ترفض ذلك، وتحدد أن الثروة نتاج توزيع السلطة في مجتمع تقليدي، لكن ثمة مجتمعات استطاعت نماذجٌ من الفئاتِ الوسطى أن تقاومَ هذه القوانين، وتكون ثروتها من دون عكاكيز السلطة.
وهذا الاختراقُ يتم بإرادةٍ فولاذية، تجمعُ رأسَ المال، وتبقى في ذات الوقت نظيفة، وقد تكونت قصة المسلسل فوق هذا الهيكل الحدثي، وقاوم (سعد الدالي) فقرَهُ المدقعَ وهو ابنُ الريف، وكون تجارته في المدن الصغيرة، لكن نمو رأس المال لم يكن رحلة سهلة، فقد تكالبت عليهِ قوىً خارقة من السوق ومن السلطة، وهو يروي هذه الأحداث عبر مشاهد مؤثرة، درامية، متقطعة، تـُسردُ في مرحلةِ قمةِ ثروة الرجل وتكوينه إمبراطورية.
ولهذا فإن هذه المشهديات (الماضوية) تتقاطعُ والحاضر في زمن السادات، حيث تـُعرض مشروعات غربية لاختراق الاقتصاد المصري والتهام أراضٍ مهمة، لكن سعد الدالي وقد صار وزيراً يعترضُ على مثل هذا البيع، واستسهال التراب الوطني، مما يدخلهُ في صراعٍ ضارٍ مع المافيا العالمية الغربية، فيتعرض لمحاولة اغتيال يذهب فيها ابنه الأكبر، مما تكون له آثاره الرهيبة في جسمه وذاكرته ورؤيته للعمل الاقتصادي ~ السياسي.
وهذا المشهد الافتتاحي للمسلسل هو مفتاح فهمه، ففي بلاد مخترقة يتمُ اختراق كل شيء، بما فيها العائلة والصداقة، وتغدو حرب المصالح حرباً على القيم كذلك.
ويتعاون الرأسمالي الكبير في لحظة عجزه وتشقق جسمه، مع الصحفي اليساري، الذي كان يهاجم صاحب المجموعة الاقتصادية الكبرى المتنفذة، ولكن خلال هذه الأزمة العنيفة تتشكل علاقة بين اليميني واليساري، نظراً لاكتشاف الصحفي ان الانتماءات الاجتماعية المتضادة بينها كذلك خطوط مشتركة، وعمل كفاحي للتصدي للمافيات ولاختراقات الوطن والثروة.
إن هذا الخط المحوري لا يتعارض مع تعدد الخطوط الجانبية في المسلسل، حيث هناك قصصٌ عديدة تصبُ في المجرى الرئيسي، كقصص الشركاء في المجموعة الذين ينحازُ بعضهم للمافيا وللفساد في الدولة، أو قصص الجيل الشاب ومشكلاته أثناء صراع الحيتان.
يتشكل المسلسل فنياً من إثارة حدثية مستمرة ومتصاعدة تتوجه إلى تجسيد الأمكنة الحقيقية، داخلياً وخارجياً، ومن حوار مكثف، يكشف الشخصيات والأحداث، ويلعب فيه البطل الرئيس الفنان نور الشريف بؤرة المسلسل في معاناته واكتشافاته وصراعاته التي لا تتوقف.
وكما ان المسلسل يطرحُ فرضية البطل الاستثنائي، البطل النادر، كذلك فإنه يطرح قضية التحالف بين اليمين الوطني المنتج واليسار غير الملوث، حيث تساند الكلمة المؤسسات الوطنية في عملها للإنتاج والتجذر في سوقها، لكن في وسط مليء بالدسائس والمفاجآت، لكن الكلمة نفسها محاصرة ومحاربة، والعدو يكمن في الداخل أكثر منه في الخارج.
إن البطل الاستثنائي الذي يخبئ رأس المال في زمن المصادرات وجبروت الدولة، يعطينا مثلاً خارقاً لم يتحقق، لكنه حلم اجتماعي مثالي يصلح لخلق تحالف جديد بين رأس المال والمعرفة، وهو تحالف لا بد منه لعبور مرحلة التخلف على مستوى رأس المال الشره والطفيلي وعلى مستوى وعي اليسار.
أسمهان.. فراشةٌ تطيرُ نحو النار!
من أجمل المسلسلات التي عُرضت في شهر رمضان هو المسلسل الذي جسدَّ بلغةٍ فنيةٍ شعرية مأساةَ المغنية الجميلة، شجية الصوت؛ أسمهان.
عبّرتْ هذه الحكايةُ العنيفةُ عن ظروفِ فرعٍ من عائلة الأطرش السورية الدرزية وهي تندفعُ من منطقة السويداء بسوريا لتقع داميةً فوق ضلوعها في أحد أحياء القاهرة المكتظة والفقيرة.
من منطقة تتسم بمحافظة شديدة وقسوة في التقاليد إلى المدينة التي تندفع بقوة رهيبة نحو الحداثة!
الأمُ الأميرةُ المرأةُ القوية الإرادة (علياء) تهربُ من هذا الجبل الموحش في زمن الصراع المسلح مع الاستعمار الفرنسي حيث يلعب الدروز دور المقاومة الوطنية المسلحة، وتأخذ في لحظات وامضة من ارستقراطية الأمراء شيئاً من التفتح والتعلم الموسيقي الذي تكرسهُ في ولديها فريد الأطرش وآمال الأطرش، بعد قلاقل وهجرة مروعة في سفينة تتقلقل مضطربة مترنحة في عرض البحر نحو بيروت وهي حاملٌ وتلد في هذه السفينة أبنتها الجميلة ذات الصوت الأخاذ آمال!
إن الدروز هم أكثر الطوائف الإسلامية ابتعاداً عن العبادات والذين يعلون المرأة علواً كبيراً، فلا يتزوج الرجلُ إلا واحدةً، ولهم آراء خاصة غريبة صوفية في الدين، ومع هذا فإن العادات المتخلفة المحافظة تدمغُ العائلةَ وتلاحقُها حتى وهي تـُقذف بقطارٍ عتيقٍ في أمعاء القاهرة الغليظة.
انقطعتْ أموالُ الزوجِ الأمير، واشتعلتْ المعاركُ في الجبلِ والشام، ووجدت الأمُ الفذةُ كيف تخلقُ من صغيريها عبقريتين في الموسيقى والغناء العربيين حتى يومنا هذا، ولم تـُجد مكآفاتُ الأعراس والأفراح التي تغني فيها إلا بإطعام وتربية الصغار الثلاثة، حيث ثمة أخ أكبر كان عاطلاً عن المواهب والأعمال وظل شوكةً مسمومة في ضلوع وقلوب هذه العائلة وهو المُسمى فؤاد، رغم حبه الشديد لأخته!
كيف استطاعتْ هذه الأم ذات الصوت العذب، والرهافة الموسيقية، والصمود الاجتماعي أن تبقى في هذه الحارة المكتظة، وأن لا تقطع دروس الصغيرين؟ هذا ما لا يجسدهُ المسلسلُ إلا بومضاتٍ خاطفة، مركزاً على الأبناء الثلاثة، وخاصة الفتاة أسمهان، التي راحتْ تصعدُ بصورةٍ غير عادية وباندفاع لا يعرف سوى الصخب العاطفي والحرائق المشتعلة في كل لحظة.
كانت ذاتُ نفسيةٍ محمومة متضخمة أعطاها الإرثُ البيولوجي الجسدي جمالاً سحرياً، وصوتاً رقيقاً حزيناً ذا طبقات متسعة، متفجرة، فهي أقرب للملاك وقد تجسد أنثى، وهي الطفلة البريئة الرقيقة وقد صارت نجمة!
أخذتها المدينةُ المتفتحةُ المزدهرة بمراكزِ الغناء، وبقوى الصحافة الغنية والرخيصة كذلك، وبجمهورِها المتعلم والأرستقراطي وأحياناً العامي المبتذل، إلى أجواءِ الصعود السريع الخاطف المبهر!
كان صعودُها أسرع من صعود أخيها المطرب والموسيقار الكبير فريد الأطرش، فالأخيرُ التزمَّ عالماً آخر، هو عالم الواقعية الغنائية النامية ببطء وبتعلم مستمر وبانتشار حذر ومتصاعد، ودون الاعتماد على جنسه بل على تنمية موهبته ودرسه، رغم أنه أنغرس في صالات عامية أقرب للابتذال، لكنها صالات كانت تغذي الأسرة بالمعاش، وتوسع من علاقاته، وبهذا انقسم غناؤه بين أغنيات شعبية فيها بعض المرح والتفاؤل واللغة الراقصة، وبين غناء حزين مغمور في اليأس والشجن كان فيه يعبر عن شخصيته المنقسمة بين المرح والأكتئاب، بين حب الرقص والغوص في بحار الدموع!
أما أخته أسمهان فلم تعرف هذا الدأب البطيء والنحت في الصخر، والغناء الواقعي، بل كانت طائراً عابراً منذوراً للشهادة، لا تعرف المشي البطيء على الأرض بل تركض نحو اللهب في نداءات محمومة، وتصعد نحو الأضواء المبهرة، تسحرُ الرجالَ بجمالها وبصوتها، فيفتحون لها الأبواب، وكلما رأتْ الطرقَ ممهدةً أسرعت باقتناص الفرص، وكلما وجدتْ منزلةً كبيرة لم تتردد في قذف نفسها بين أحضانها.
كان زواجها الأول من أمير الجبل الدرزي نفسه عودةً مذهلة إلى الماضي وقيودهِ وتقاليدهِ السجنية، ولم تتردد في قبول عرضه للزواج، والرجوع إلى الأسر، فهو دفعة كبيرة نحو عرش السماء، وبدت تسمية الأميرة محققة لكن بين الصخور والحراس، فخرج العصفور من القفص، وعاد إلى ليالي القاهرة المشتعلة، وكانت الفرص قليلة لكنها تنمو، فواصلت قفز سباق الحواجز الاجتماعية والفنية بلا كلل وبلا درس وتثقيف، بل واسترخت إرادتها بين التدخين والشرب والسهر، وهي علاماتُ الانطفاءِ والتصحر الداخلي، ومع هذا واصلت مغامراتها حتى الذروة العليا أي إلى مهمات السياسة العالمية العسكرية الكبرى!
كان أخوها فؤاد الأطرش يمثل الذكورة الشرقية المستبدة العاطلة، فهو أميرٌ في الجبل ومتسول في مصر، وقد تحول إلى شرطي لا يتورع عن استخدام قبضاته في حفر التلال والأخاديد في وجه أخته الرقيقة، مدعياً حمايتها حتى راح يسرقها بشكل منظم، في حين لم يمتلك الأخ الآخر فريد الحسم تجاه هذه الرعونة، فشرشر جسدُ أسمهان دماً وعذاباً وكوابيساً بين الصالات والحفلات والشواطئ.
كانت النهاية فظيعة، فالحلمُ المتكررُ بالغرق صار حقيقة، والولادةُ التي كانت في البحر صارت موتاً في الترعة، وبين البحر الأبيض والترع النيلية مسافة كبرى، شكلتها المطربة الرائعة بالقفز فوق الأشياء، والمنطق، والعقل والحياة، ففجأة تنزلق إلى قنوات المخابرات البريطانية وتتصدى لمهمة إدخال قوات بريطانية لسوريا للقضاء على حكم قوات حكومة فيشي الفرنسية الموالية لهتلر، مستثمرة علاقاتها بزوجها السابق الأمير حسن، ومعرفتها ببعض العائلات المتنفذة، دون أن تقبل نصائح الصحفي المصري الكبير والحكيم محمد التابعي، الذي وجهها نحو الأنغراس في عالم الغناء والأفلام، لا عالم الجاسوسية والسياسة الحربية، لكن المرأة المأخوذة بذاتها المتضخمة، المنفعلة بحدة أبدية، العائشة في ضباب الرومانسية الغنائية، الشجية المليئة بالدموع، والتي لم تكن تدرس السياسة أو التاريخ، أسرعت بتنفيذ المهمة، فأدخلت نفسها بين القوى المتوحشة وحققت كابوسها بالغرق. لكن مهمتها بإدخال قوات فرنسا الحرة وبريطانيا جعلت سوريا تقضي على قوات حكومة فيشي وتمنع السرطان الفاشي من التمدد وبحصول سوريا على الاستقلال بعد الحرب، فسجلت أسمهان ذكرها في التاريخ كذلك.
كانت ثمة سرعة مخيفة في ركضها نحو اللهب، وحصلتْ على بضع سنوات قليلة لكي تغني، فكانت تلك السنوات القليلة التي وضعت سحرها الغنائي في الأسطوانات والأشرطة السينمائية هي تاريخها الجميل، هي ما بقي للعرب والإنسانية من هذا الصوت الأخاذ، ومن هذه النفس المليئة بحزن أسطوري سيظل يتردد في جنبات المسارح الفنية التاريخية وفي أعماق الإنسان.
المسلسلات والصراعات
عبرت المسلسلاتُ المعروضة في شهر رمضان عن طبيعة الحياة العربية التقليدية المحدودة، وسيطرة القوى الشمولية المتخلفة على عقولها، حيث تعجز العقول الإبداعية العربية بضخامتها واتساعها عن خلق شيء مشترك سوى مشترك المسلسلات الذي تتحد فيه، وتحدق عيون الملايين به، غير قادرةٍ على خلق شيء إبداعي آخر ذي قيمة، وعند العرب نتاج قصصي وروائي هائل!
في البداية لا بد أن نرى تلك القسمة بين الإنتاج المصري والإنتاج السوري اللذين تقاسما صنع هذه المسلسلات، بتفوق واضح للمسلسلات السورية في العدد ولكنها كانت ضعيفة في الرؤى الفكرية.
ومهما كانت أفكار هذه المسلسلات للدولتين المتسيدتين على عرش الإنتاج، إلا أنهما كانتا متفوقتين في الإبداع الأدائي وكثرة الموهوبين من الفنانين في مختلف جوانب الإنتاج التلفزيوني هذا.
كانت المساحة المصرية للديمقراطية الأوسع تتيح عرض صراعات اجتماعية واسعة بدون خوف من الرقيب، ولهذا توجهت لقضايا سياسية واجتماعية ساخنة، فمسلسلات مثل (ناصر) و(الدالي) و(شرف فتح الباب)، و(في أيدٍ أمينة)، و(بعد الفراق) وغيرها، عرضت قضايا مفصلية في الحياة السياسية والاجتماعية العربية، فمسلسل الدالي بجزئه الثاني واصل الحفر في العائلة الرأسمالية الكبيرة، عائلة الدالي، وما تواجهه من هجوم أجنبي غربي لابتلاع مؤسساتها، ومن صراعات داخلية عائلية مختلفة وكثيرة، ويلعب الأب سعد الدالي الذي جسده الفنان الكبير نور الشريف، دور القيادة القوية في حسم هذه الصراعات لصالح العائلة والوطن. ويتمكن بذكائه وشجاعته وقوة شركاته من ضرب الخصوم الكثيرين الذين هاجموا أو حتى توغلوا داخل نسيج هذه العائلة. ولكنه يتجاوز القانون أحياناً ويصارع ورثة صديقه الراحل ثم يسلم بأمر القضاء، ولكنه يرتكب بعض الجرائم تجاه الشخص الذي تقدم للزواج من أرملة ابنه ويعرضه لتعذيب غير إنساني، ويعترف بأنه كان وحشاً. ومع هذا كله يقاوم من خلال شركاته بشكل وطني.
يطرح المسلسلُ أسئلةً عديدة حول رؤية الفنان نور الشريف الذي تجاوز هنا التعبير عن الغلابة والفقراء كما عُرف عنه ليطرح قضايا الرأسمالية الوطنية وليعرض الارستقراطية وعالم النخبة المرفهة، ولكن ذلك تم بشكل موضوعي، فلم يجعل نفسه وطبقته كاملةً نقية، بل عرض إنجازاتها وأخطائها وصراعاتها والأهم من ذلك دورها في بناء الإنتاج صناعة وثقافةً.
كذلك كان العرض الفني مبهراً، معتمداً على التشويق المتصاعد، وعرض شبكة واسعة من الشخصيات والأحداث في مواقعها، الملونة، المتعددة الأمكنة سواءً في مصر أم أوربا، ويتجسدُ الأداءُ بشكلٍ متقن موجز كاشفاً تحولات الشخصيات نفسياً واجتماعياً.
وكان مسلسل (شرف فتح الباب) الذي قام ببطولته الممثل الكبير يحيى الفخراني، هو الآخر يتسمُ بدراميةٍ عالية، ويدورُ حول قصةِ موظفٍ تقوم شركتهُ العامة بطردهِ معطيةً إياه بدلاً مالياً هزيلاً، في حين كان يصرفُ على عائلةٍ مكونة من خمسة أفراد. فيجدُ أن السرقةَ من هذه الشركة الحكومية التي سرقتهُ هو أفضل حلٍ لتحقيق العدالة!
ويتمكن بالتعاون مع رئيسه في العمل من اختلاس مليونين من الجنيهات هي حصته من العملية ويقوم بوضعها في برميل المياه فوق سطح العمارة، بمساعدة أحد الشغيلة الذي يشك في هذا التخزين الغريب، ثم يكتشف السر مع تقديم شرف فتح الباب للمحاكمة.
وبدا كأن المسلسل قد وصل إلى طريق مسدود بوضع شرف الباب في السجن، ولكن المؤلفَ يخرجهُ بريئاً بعد ضبط رئيسه في عملية فساد كبرى. ليقوم شرف الباب بإظهار النقود بشكل سري من الخزان المائي، ولكن عائلته التي اعتبرته مثال الأمانة والشرف تشم رائحة فساد داخلية خطيرة، فتتصاعد مقاومتها حتى تحرق النقود وليودع شرف الباب مرة أخرى في السجن ويظهر ثانية وقد صار متسولاً مجنوناً. والمسلسل يقوم بفبركة ميلودرامية ليظهر أخلاقية العائلة في حين إن الواقع أقسى من ذلك. لكن المسلسل ذا الطابع الديني عكس خوف الناس من انتشار الفساد المالي ومن سوء القطاعات العامة وإداراتها ومن معاناة الفقراء الذين لا تتغير معيشتهم سوى باللحاق بركب الفساد.
في حين كان المسلسلان الآخران (في أيدٍ أمنية) و(بعد الفراق) فأقل من السايقين كثيراً، ولم يطرحا القضايا الاجتماعية بعمق.
أما المسلسلات السورية فهي تعجز عن نقد الواقع السوري وما يجري فيه من فساد، فتلجأ إلى الهروب نحو التاريخ، فكانت أغلب المسلسلات السورية تاريخية، كمسلسل (ابوجعفرالمنصور) و(المرابطون والأندلس) و(عنترة) وغيرها أما المسلسلات المعاصرة فيغلب عليها الطابع الرومانسي الأدبي كمسلسل (رائحة المطر) الذي توجه لعرض أدبي جمالي للأحداث والشخصيات بطريقة بطيئة ليس فيها علاقات وطيدة قوية بالحياة وصراعاتها، في حين كان مسلسل (فسحة سماوية) أكثر ارتباطاً بالحياة من خلال عرض نماذج شعبية تسكن في فندق صغير مشترك، العديد منه يقاوم الرشوة في جهاز الدولة دون أن يفلح في صنع شيء، لكنهم يعيشون حيواتهم الصعبة المتنوعة ويناضلون بما يستطيعون عليه. المسلسل يتشكل بطريقة درامية متوترة متصاعدة بعكس الجمود في مسلسل (..المطر) المكون من قصص قصيرة منفصلة.
وكمثال على المسلسلات السورية التاريخية فإن مسلسل (أبوجعفر المنصور) هو قمة هذه المسلسلات، فهو ضخم، حيث أن الإنتاج قطري، وتشترك فيه مجموعات كبيرة من الممثلين، ويسجل جملة حروب وصراعات سياسية في نهاية الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية.
ويتوجه المسلسل للتسجيل المطول لأحداث تمتد من زمن عمر بن عبدالعزيز مروراً بهشام بن عبدالملك وغيرهما من خلفاء بني أمية، حتى يستقر عند مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة، ويتابع نشأة ابي جعفر المنصور منذ أن كان فتى حتى شب وصار رجلاً، ويعرض الأحداث في فارس وصراعات أبي مسلم الخراساني ونصر بن سيار وغيرهما من قادة إقليم خراسان وغير هذا كثير من الصراعات الجانبية والقصص العرضية، فكأن المؤلف ~ المخرج يقدمان كتاباً مدرسياً عن الفترة المذكورة بكل صغائرها، لا أن يقدما مسلسلاً فنياً يعرضُ بشكلٍ عميق لشخصية المنصور المركبة، وتناقضاته الكثيرة، من بخله الشديد وعنفه وشدته على أئمة العصر، وترفيعه للتافهين والقادة الباطشين وتنكرهِ للقائد المضحي في سبيل الدولة أبا مسلم الخراساني، إلى حدة ذكائه السياسي، وبنائه الدقيق للدولة. لقد أخذ أبوجعفر المنصور بضع حلقات أيام نضجه في حين كانت أغلب الحلقات تدور عن غيره! ويعبر ذلك عن عدم وجود تحليل عميق لتاريخ نشوء الدولة العباسية ولشخصية المنصور الهامة في هذا المسلسل الضخم.
أما مسلسل (ناصر) الذي عُرض في قناة مصرية وحيدة فهو يصور حياة الرئيس جمال عبدالناصر وقيادته للثورة، وهو مسلسلٌ ضخم مشوق ودرامي حقيقي وبدون تزويق سياسي، يعتمد على التسجيل عائلياً وسياسياً، ويفتقد إلى معالجة جديدة لقضية تلك الفترة. ورغم أهمية المسلسل ولكن المحطات الفضائية العربية تآمرت على منعه!
الأقدار في المسلسلات الرمضانية
يتدهور الوعي العربي في المرحلة الراهنة لغياب قوى وطنية معتمدة على قطاعات عامة مؤثرة، وتجيء عملية تدهور القطاعات العامة مع تصاعد القطاعات الخاصة المشغولة بمصالحها الذاتية، فتضيع عمليات فهم الواقع خاصة على المستوى الجماهيري.
ومن هنا تتشابك تأثيراتُ القوى الدينية الفاقدة القراءات الموضوعية للواقع مع تنامي الجماعات السحرية والانتهازية الاقتصادية، فتتغلب في المسلسلات الرمضانية مفرداتُ السحر والشعوذة والقدرية، ويصير بطلُ مسلسل «تاجر السعادة» الأعمى المرح الساخر المناضل من أجل الجمهور وتجميع قواه ضد المستغلين إلى أن يكون مشعوذاً دجالاً، والتحول يتم رغم بطئه فإنه بلا مقدمات عميقة، فالمسألة لا تعتمد على عمق بقدر ما تعتمد على حشو الحلقات، فالرجل الكفيف يتمتع بقدرات خارقة، وينتقل ببساطة من فن إلى آخر، ثم يجد المسلسل أنه لا فائدة من هذا العرض البسيط الذي وصل إلى طريق مسدود، فيحيله إلى ساحر متمكن يقرأ الكف والفنجان ويستطيع خداع الجمهور عامة.
وهناك جانب مسل وثقافي ممتع في المسلسل حيث تغرف زوجة الكفيف الأولى الكثير من الأناشيد والأمثال والقصص الشعبية بأسلوب فكاهي، لكن المسلسل لا بناءَ جديا عميقا فيه.
وهو يقدم معلومات مشوهة عن «علم الكف» ، وكيف أن القدر الإنساني مرسوم من الخارج سواءً في خطوط اليد أم في الأبراج، ويدعم ذلك بفكاهات تحاول إدخال مثل هذه الخرافات في العقول.
نجد في المسلسلات صور الشوارع العربية التي تتفاقم فيها المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فالجماهير الفقيرة المنهكة في كل مكان، رغم قيام الحبكات الدرامية بعزل صور الشخصيات والأحداث عن عمق هذه المشكلات والقضايا، فالمسلسل كغيره لا يعتمد على شخوص تقاوم أو تفعل شيئاً مؤثراً.
تعتمد المسلسلات على حكايات ضحلة، هي نفسها حكايات الغرام، وصراعات العائلة، فهناك دائماً قصة حب تحولُ بينها عواملٌ داخل الأسرة كالأب المسيطر الريفي في مسلسل “أفراح ابليس”، والصراع في المسلسل لا يعدو أن يكون صراعاً بين عائلتين كبيرتين في الريف على ملكية أرض ويتجسد الصراع في علاقات الزواج غير الموفقة التي تدوم حلقاتها ويومياتها الباردة طويلاً، ولكن ليس ثمة أي تغلغل في قضايا الريف الذي هو موقع المسلسل بل لا يكاد الريف أن يظهر.
والعودة للعلاقات العائلية والزوجية والبقاء عند هذا المستوى هي عودة لأفلام الأربعينيات والخمسينيات، ولكن تلك كانت عبر تمثيل قوي وقصص درامية، أما هنا في هذه المسلسلات فمجرد إحداث تمطيط من أجل الوصول إلى عدد ليالي الشهر، فنجد أن أسباب الخلافات ذاتية، كوجود شخصية شريرة في العائلة الأخرى يغذي دوماً أسباب الصراع، من دون أن يتحول أو حتى يغير ملابسه الفضفاضة.
وقد اعتمدت المسلسلات السورية الاجتماعية على مثل هذه العروض الشخصية والجزئية الخالية من أي صراع اجتماعي.
وهذا ما يجري في مسلسلات مصرية أخرى مثل «ما ليش غيرك»، وفي هذا المسلسل (تتفجر) الأحداث في البداية بسبب قتل شاب يعمل في المزرعة لمالكها بشكل مصادفة فجة، فالشاب يعرضُ عليه في الحقل انه يريد الزواج من ابنته فرفضه بشدة وضربه فما كان من الشاب سوى أن قتله، ولكن هذه الفجاجة في البناء الدرامي اُعتمدت أساساً لتطور الأحداث التالية التي لم يكن فيها سوى حس الانتقام والتلاعب به، ثم علاقات الزواج المتداخلة.
ليس ثمة وقائع موضوعية، وتصرفات قائمة على نضال وتحد من القوى الشعبية، أو بناءات على شخصيات نموذجية تعطي أمثولات كبرى، بل تسود الاعتباطية والمصادفات والنماذج الانتهازية التي تـُبنى من دون أي أساس.
يتغير المكافح ويصير مشعوذاً في غمضة عين تاريخية، والعامل يصيرُ قاتلاً، والمحامي المدني في «ابن الأرندلي» يتلاعب بالبيضة والحجر، بل بمجموعة من النساء والثروات التي تبلغ الملايين، وفي أزقة اجتماعية مجدبة، لا تنتج قيمة بعد كل هذه البهلوانيات المرحة والمقالب والمساخر. صحيح ان الأداء هنا قوي وحيوي، لكنه يقوم فوق حالات اجتماعية اعتباطية.
ويصبح المحامي قناص الثروات مزواجاً ونحن نتابع زيجاته وتهريجه بانتظار دلالات ما عميقة من دون فائدة.
وفيما يكون إنتاج القطاع الخاص بهذا الاحتفاء بالسحر والدجل والمصادفات والأقدار تعبيراً عن غياب أي مشروع نهضوي، بل هو البحث عن الربح الموحل، يعرضُ القطاعُ العامُ المصري بالتعاون مع القطاع الخاص، مسلسلاً قيماً هو «صراع الجواسيس» ، يؤكد فيه قيم التخطيط والعلم والنضال.
فهنا يغدو الصراع ضد جهاز الموساد الإسرائيلي ليس قدريا بل هو جزء من انتشال شاب مصري مهاجر من الشبكة التي وقع فيها، والتي تضافرت وقتذاك مع احتلال سيناء والهجمات الوحشية على العمق المصري مثل قتل العمال وضرب مدن القناة، وتتحول كل حلقة إلى سفر وتصوير في بلدان أوروبا التي جرت فيها عملية الصراع هذه، وبناء شخصيات دقيقة وأحداث متنامية متوترة، ويقوم المعمار الفني على شخصية فتاة «سامية فهمي» هي ابنة لعائلة وطنية ذات جذور ثقافية صلبة، تنخدع بشخصية الحبيب المتهافت الذي يصير جاسوساً، فتصارع أشلاءها وحبها وحياتها من أجل أن تـُفشل هذا الاختراق.
لقطاتٌ دقيقة جمالية، وشخصياتٌ مرسومة بعمق، وأداء متطور، وضمن عقلية موضوعية وطنية تسيطر على واقعها.
الصراعات في مسلسلات رمضان
القاهرة هي المدينةُ الأكبرُ للتحديثِ العربي، ولعرضِ المشكلاتِ الكبرى التي تضجُ بها الأمةُ المُتقطِّعةُ المجزأة، ويغدو شهر رمضان هو الشهر الذي تُنتجُ فيه أكثرُ المسلسلاتِ الدرامية، وهي الشكلُ الروائيُّ المجسدُ المتقطع الممتعُ والمثير والضاجُ بمشكلاتِ الناس وبمستوياتِ التفكير الفني السائدة.
البطلُ الرئيسيُّ ليس هو الإنسان، إنه المال، الذي يتشكلُ من التداخل المستمر بين عرضِ السلعِ المبهر الحر، وعرضِ الإنسانِ المقيد المُقزَّم الممسوخ.
البطلُ الرئيسي يظهرُ على شكلِ دعاياتٍ للهواتف النقالة، ويظهر ممثلون يرقصون ويغنون مادحين بإبتهالات غنائية راقصة دقائقَ الهواتف الممنوحة لهم فترتفعُ أجسامُهم لذرى السموات، وتتحول البطاقاتُ لمطرٍ ينهمرُ بالبَركة، وتمتلئُ الشاشةُ ببشرٍ ممغنطين مشعوذين، يرقصون فرحاً تحت ذلك المطر المنهمر لحد أن يصيروا ذائبين في ملكوت الهواتف، وتأتي سلعٌ أخرى ترقصُ وتتلاكم على هيئة بطاريات، والسلع التصنيعية الأمريكية واليابانية مثل الأجهزة والسيارات والمكيفات وغيرها، تعرضُ نفسها بأشكالٍ إنسانية كريمة، وتتحول إلى كائنات رفيقة مقدسة تقدم كل شيء المتعة والتوصيل وقطع المسافات بأسعار متدنية جديدة لها شروط غامضة!
وهذه الإعلاناتُ تتقطعُ وتظهرُ محدودة في أثناء نوم الصائمين خاصة في الظهيرة ثم تتدفق بشكلٍ هائلٍ في المساء، وتجورُ بشدة على اللقطات الدرامية التي تتقطع، وتحتلُ الموقعَ الرئيسي على خشبة المسرح.
وتُقدم بأشكالٍ متطورةٍ من فنتازيا مشهدية حيث يغدو الهاتف النقال متحكماً في الكرة الأرضية، ويحولُ البشرَ إلى نملٍ في خدمته، ومعه بقية السلع الغذائية والاستعمالية المختلفة من صابون وعطور، والممثلون يقدمون مشهديات مسرحية جادة تقديسية لهذه السلع، وبشكل صلواتي يومي، فشركة الهاتف ليس كمثلها شيء، عادلة، رحيمة، كل دقيقة لديها محسوبة، وكل التجار الآخرون خادعون في بيعهم للسلع، لا يعدلون في قيمها مثلما تعدل هي!
الإعلانات التلفزيونية غدت فناً تأثيرياً لا يقلُ أهميةً عن الدراما التلفزيونية التابعة له، فهناك مشاهد تُعدُ بدقةٍ، وبتأثيرٍ كبير، يشاركُ فيها ممثلون محترفون، وفي دقائقٍ قليلةٍ ينتقلُ المتفرجُ إلى حب السلعة، والإيمان بتاريخها المكافح من أجل البشر وسعادتهم ونظافتهم.
ثم حين يظهر البطل الإنسان في المسلسلات الذي يفترض أن يكون عملاقاً نجدهُ متقزماً، أما هو مجنونٌ تائهٌ في الشوارع، يصفر أو يجري باحثاً عن زوجته الميتة كما في مسلسل(بره الدنيا)، أو زعيم ديني يريد إعادة الناس للوراء، ويتكبد في هذا الكثير من العناء وينشر الكوارث(الجماعة).
أو إنه بطلٌ يستعدُ إيما إستعداد لأخذ الثأر من الذين قتلوا أباه وعذبوا أمه ويعدُ نفسَهُ ويجهزُ عدتَه، ولكنه يسقط في حادث مروري قدري، وحين يصحو من هذا الحادث المؤلم وقد ضُرب رأسهُ ضربةً عنيفة يعيش مع الأسرة التي خَططَ لاغتيال رئيسها، ثم يتدفقُ بالشعر والكلام العميق(موعد مع الوحوش).
الشعبُ كمٌ متناثرٌ مثل النمل وذرات التراب وجماعات القطط، منحشرٌ في غيران الحصى وحُفر البيوت، يركضُ وراء لقمة العيش المغموسة بالذل والهوان وأكبر رد فعل له كلمات دينية مجردة تهاجمُ أشياء غير مترابطة وكائنات غيبية ولا تعرف العدو من الصديق، مستمرةً في تكرارها التاريخي، تركز على الفضيلة ومهاجمة الفنون وأهلها يتسللون للغناء التغريبي الصارخ، وإلى مسلسلات التلفزيون المليئة بالموضة والحب الرومانسي التركي وجيرانها يتاجرون بالفضيلةِ والعائلة والقطن المتناثرِ قرب المزابل، كما في مسلسل (الحارة(.
المال الكاسح والإنسان المُقزَّم، البطلُ الرئيسي والبطلُ الثانوي، ويظهر بخاصة الدولار فهو الذي يهدمُ الأسرَ الغنية الكبيرة المستحوذة على المال والسلطة ويشردها بسبب صراعاتها على النفوذ والصفقات، وهو الذي يتغلغلُ في الحارة على هيئةِ الخليجي الغني ويلتقطُ البنات من قعر القفة الشعبية، ويقدمُ أموالاً بالعملةِ المحليةِ تُحولُ في أثناء الجلسات العائلية الشرائية نفسها إلى معادلها بالعملة الصعبة.
المال في (الحارة) يمسخ البشر، العائلة التي إنكسرتْ ساق عاملها المنتج المعيل تبيعُ أغراضَها قليلاً قليلاً حتى تتحول الزوجة إلى شحاذة محجبة الجسم كلياً تخفي عارها الاجتماعي، لكنها تتمكن بفضل أموال المحسنين من شراءِ الثلاجة والتلفزيون المحرم عند جارها العامل لنشر الإيمان الشيخ المتطوع غير الرسمي من قبل وزارة الأوقاف، والذي هو بدوره ينجرُ شيئاً فشيئاً للشركةِ الدينية التي تسّوقُ الأشرطةَ والبرامجَ الدينية وتدفع(له بشكل كويس) كما يقول.
رأسُ المالِ هنا حبيباتٌ صغيرة تتوغلُ بشظفٍ وعسر وبإمتهان واسع، والحارة في حالاتِ تآكلٍ مستمرة، لا توجد فيها نماذج فاعلة، بل منهارة، لكن البسطاء يقاومون بمستويات تفكيرهم وبتبعيتهم للقدر– الدولار.
فيما الحي الارستقراطي الغني الممتلئ بالأرقام المدوية عن الملايين هو كذلك ينهار كما سنلاحظ فيما بعد، فلماذا كل هذا؟
لا تستطيع أغلبُ المسلسلاتِ أن تقدمَ حكايات عميقةً مترابطة تغوصُ في تحليلِ المجتمعات والبشر، فهي تقدمُ قصصاً متشظيةً مفتتةَ الأوصال، تعبرُ بها عن مواقفِها المهلهة من الصراعات الاجتماعية العربية الحادة، وضعف النسج الفني هو دليل على ضعف الرؤى الفكرية الاجتماعية، وعدم قدرة المؤلفين على ضبط الإيقاعات النقدية التحليلية مع تصوير وبناء الأحداث والشخصيات وقراءة المجتمعات.
البطلُ المجنونُ والضائع يمكنه حتى بأمراضهِ أن يقدمَ شخصيةً تنفذُ إلى مشكلاتِ الواقع، لكن المجنون في مسلسل (بره الدنيا) لا يقدم شخصيةً عميقة لا في عقلها وحقلها ولا في هوسها في شوارع المدينة.
ولعلنا هنا نقرأُ كيفيةَ تذويبِ الرأسماليةِ المتخلفةِ العربية للفلاحين المنتجين، عبرَ مظاهرٍ لا يقصدُها المسلسلُ ولا يركزُ على تحليلِها الفني، بل تبدو منه كأنها شظايا، فنجدُ الفلاحَ العقيم الشابَ يهوى زوجتَهُ بشكلٍ رومانسي جميل ويجتمعان في الحقل الذي يملكه وتنهمر عليهما موسيقى الحب الحزينة فهو عقيمٌ وهي مصابةٌ بالسرطان، في توليفةٍ كارثية ميلودرامية حادة، في حين يتوجه الذئبُ البشري السمسارُ إلى إنتزاع الحقل وشرائه وبيعه.
المؤلفُ حّولَ الفلاحين إلى هشيم بشري، فيغدو الجنون هو إحتجاجهم الضائع، فسرعان ما يتهاوى البطلُ بعد موت زوجته، ويجن قريبهُ كذلك بسببِ صدمة مرور، والصدمات المختلفة تنقل الفلاحَين إلى شوارع المدينة ليعرقلا المرور حيناً أو ليبحثا عن الخلاص، خاصة لدى المجنون البطل الفلاح الذي يجدُ طفلةً صغيرةً فاتنةَ الوجهِ والصوتِ والذكاء، تنقذهُ من الضياع، فالحقلُ الرومانسي يُستبدل بحقل الطفولة البشري.
الشرُ والاستغلال الاجتماعيان يصيران فرداً شريراً في المدينة، يقوم بمؤامرات ضد البطل وعائلته، وهو أمرٌ يبينُ حدودَ الفهم الرومانسي الميلودرامي وعدم قدرته على تحليل الواقع عبر النماذج البشرية والحكايات.
الحكاية الذائبة الخيوط تقدم في مسلسلات عدة، في (العار) نستعيد مرة أخرى الفيلم نفسه الذي قُدم قبل سنوات بنفس الأسم وهو أمرٌ يؤكدٌ أن كتابَ السيناريو لا يقرأون، ويريدون أي قصة يحولونها لمسلسل، خاصة إذا كانتْ مهلهلةً مسليةً لا تفزعُ الرقابات العربية الكثيرة. فالعار المسلسل تمطط وتحول إلى مشاهد كثيرة بين البكاء والعويل وبين الرقص وأغاني الحانات ليقنعنا بأن تاجراً في آخر عمره يتاجر بالمخدارت ومات فجأة لكي يجعل من أولاده وابنته وزوجتيه أدوات لمواقف مصطنعة فاترة مدعية الصراع بين الخير والشر، في حين أن هذه الملايين يسيلُ لها اللعاب، وهي توضع في قبو مظلم لكي يأخذ منها أي أخ عدة ملايين كما يشاء ثم أن المال الحرام كما يقول المسلسل ليس فيه بركة وهكذا فإن هذا المال يضيع بينما المال الذي فيه بركة ينمو ويزدهر حتى لو كان من مدبغة رثة! كما أن أغلب الأخوة أغبياء لا يحسنون حتى تحريك المال، وهكذا يقوم المسلسل بعرض مثل هذه المواقف الساذجة.
أما (موعد مع الوحوش) فلم نر وحوشاً، بل رأينا السذاجةَ في الحبكة الدرامية، صحيح إن فيه بعض المهارة التشويقية، ولكن اللقاء مع رئيس العصابة (الفنان عزت العلايلي) حدث بعد أن فقدَ البطلُ وعيه، كما أشرنا لذلك سابقاً، وتمطط المسلسل عبر دخول البطل في العائلة التي هي عائلته نفسه، حيث أن أمه هي زوجة رئيس العصابة، والنائب المحترم في البرلمان، وراح يشتغل معها ويستعيد وعيه.
وجود الحشيش والمخدرات وبيعها ظاهرة قوية في المسلسلات المصرية، ويبدو أن الريف قد بارت سلعه وغدت هذه السلع ذات أهمية كبيرة، وتداخلت العصابات مع السلطات كما في مسلسل.
تقوم الحبكاتُ على قصصٍ صغيرة غيرِ عميقةِ الدلالة، تتيح للكاتب والمخرج مختلف أنواع التلاعب، من تطويل غير بنائي، وخلق مشهديات كثيرة جزئية لا علاقة عميقة لها بالمحور، كمشاهد المطاردات والصراعات محاولة لخلق إثارات مفتعلة، وخلق أجواء من (الفرفشة) عبر الحانات والمراقص وعرض أجساد النساء، والحبكات تلك ليست ذات صراعات عميقة إجتماعية واسعة، فعائلة هبطت عليها ملايين فجأة، أو شخص تكالبت عليه المصائب والأمراض، أو شخص فقد ذاكرته ومطلوب منه مصارعة عصابة. حبكات ضعيفة غير معقولة يزداد فيها الضعف.
الحارة الفقيرة بمسلسل بنفس الأسم تعرض لوحات تصويرية إجتماعية هامة، ففيها حشد من الشخصيات البسيطة التي تعاني بأشكال شتى، وهذا النمط هو النمط الأخير الجيد من المسلسلات المعبرة عن مشكلات الجمهور، وهنا هو مسلسل جماهيري لا يستعين بأساليب فنية متقدمة، بل يعرض الحياة بتسجيلية محضة، ولكن حتى التسجيلية الصادقة أفضل من القصص المفبركة، الممططة. والمدهش في مسلسل(الحارة) هو الصدق في عرض البيوت والشقق الصغيرة، والأدوات اليومية للناس، والنماذج التي تعاني بقسوة أو تُستغِّل بقسوة، وتُعرضُ بتكثيف، ويتم الانتقال لنموذج آخر ولقطات أخرى، وتعود الكاميرا للشخصية أو العائلة وتُعرض حياتها من جديد وقد حدث تطورٌ فيها، وهكذا تتخلقُ دوائرٌ من الحياة والصور لعالم كامل واسع، فنجد رجل الدين الطيب الذي يدعو للخير والصلاح بأساليبِ الدعاةِ الساذجة، وهو يقومُ بإضطهادِ عائلتهِ ومنعها من تنفسِ هواءِ الحرية، ثم يتم إصطياد رجل الدين الساذج هذا في محطة تلفزيونية سياسية دينية ليرتفع عن حارة الفقراء المعذبين التي ينتمي إليها ولم يعرف مشاكلها الحقيقية ولم يدافع عنها.
قلنا بأن مسلسلات رمضان المصرية خاصة هي الشاشةُ الكبيرةُ التي يظهرُ فيها الوعي العربي الفني كحصيلةٍ للحريةِ وإقتصادِ السوقِ المتسعِ الآن، ولمواقفِ الفنانين المتعددين من قضايا التغيير.
وأغلبُ هؤلاء الفنانين والكتاب مواقفهم من قضايا التحول في الأمة العربية محدودة، ضائعة، فتتجسدُ عبرَ حبكاتٍ مليودرامية، مسلية، ومحدودة الأبعاد، ولهذا فإن الكثيرَ من المسلسلات لم تبلور موقفاً عميقاً، درامياً، فهي تبدأ بصراعاتٍ مثيرة في البداية ثم ما تلبث أن تتلاشى وتندسَ في أزقةٍ جانبية من المواقف البوليسية والمعارك بالقبضات الحادة، وتظهر الرسائل والأوراق الخطيرة والسموم والمخدرات والإغاني المسلية غير الموظفة في الحبكة وغيرها من البهاراتِ الفنيةِ التي تعكس خواء الموقف الفكري للمؤلف ومن جسدَ نصَه، فمثل مسلسل(ريش ناعم) للمخرج (خيري بشارة) يبدأ بتوترٍ درامي رائع، واللقطاتُ مذهلةٌ في إبعادِها الجمالية، حيث أن المواقفَ تنمو بصراعية شخصية حادة، والشخصيات تتجسدُ بإختزالٍ متصاعد مشحون تواكبه موسيقى باطنية مثل النار التحتية، ولقطاتها حادةٌ لا تتوقفُ عن شدِّ أعصابِ المتفرج، فالطبقةُ الثريةُ التي تعيشُ في عالمٍ مخملي، تجسدها الابنة البطلة الجارية وراء سراب الحب، تتصارعُ على المال والشركات، التي تبقى لغزاً للمشاهد، فالصراع أشبه بلعبة الكراسي، فثمة شاب يستولي على قلب البطلة رمز ريش النعام هذا، وتحملُ منه ثم يفرُ عنها وهما في غنى لندن ورفاهيتها الخرافية، ثم يريدُ العودةَ إليها، فيما الآباء يتصارعون ويقتل الأبُ الأبَ الآخر، وتغدو الشركات ضحايا الصراعات العائلية ورأس المال يهدرُ على الإغتيالات والفرار الاجتماعي.
ينسحبُ المسلسلُ من الصراع الطبقي، ويجرهُ إلى حاراتٍ ضيقةٍ مسدودة، وتبقى الأنفاسُ معلقةً بمن يثبتُ براءة الأب من الفساد المالي عبر الأدلة لكنه يموت بالسكتة، فيغدو المسلسلُ حلقاتٍ تجري نحو الورق الجنائي في الصعيد، وكأن المسلسل يهرب من الصراع الطبقي إلى الجغرافيا الوطنية، وإلى الحبكات الجانبية الضيقة، محولاً الشخصيات إلى فقراء يُسحقون بفقر مدقع وبديون، والأغنياء إلى شخصيات بلا وعي ولا فكر، فيغدو الصراع شخصياً لا دلالات عميقة فيه. وبهذا دائماً يعوض الفنانون النقصَ في الرؤية عبر الحركة الجانبية، وعبر لغة المغامرات حيث الأوراق تحسم الصراع الجزئي، لكنها لا تكشف تناقضات الطبقة المتسيدة على القصور والشركات، وتقزمها في شخوص صغيرة ترجع لحضن العائلة الصغيرة وفيه خاتمة المطاف.
مثلما يتحول مسلسلُ (ملكة في المنفى) إلى تاريخِ عائلةٍ تذوبُ بمشكلاتها في الخارج، ويبقى الذهب الذي يتسرب إلى أيدي منتهزي الفرص وخزانة الغرب، وتغدو الملكةُ الأم شهيدة الأفلاس، ولحماقة الملك الذي رفضَ الليبرالية والديمقراطية وصارعَ أمه بشكلٍ شخصي نظراً لتزويجها أخته من شخصيةٍ مسيحية وإنتهازية مغامرة، فتقلصتْ القضيةُ في العائلة الصغيرة المَلكية هذه المرة والتي طُحنتْ في الحداثة الأمريكية.
في حلقات (ماما في القسم) نرى مسلسلاً طريفاً أشبه بفن الكاريكاتير يحملُ السخريةَ وتكوينَ الأبعاد المضخَّمة في الشخصيات، ويدورُ حول المربية فوزية السباعي التي جسدتْ شخصية دونكيشوت نسائي يقومُ بمغامراتٍ مضحكة لإثباتِ مقولاتهِ المصيبة في التربية وقد تشكلتْ المرأةُ بسلوكٍ حاد يقودُ لنتائج معاكسة، ففرَ منها ابناؤها الثلاثة، ورفعوا عليها قضايا، وجاءَ معلمٌ آخر يمثلهُ الفنانُ الكبيرُ محمود ياسين يفخر كثيراً بتاريخه التربوي الذي أنتج الموظفين المختلسين والعائلات المفككة، وهو مصرٌ على إعادةِ اللحمة الأسرية والأخلاق الحميدة للمجتمع، فيشنفُ الآذانَ بخطاباته، فهو دونكيشوت تعليمي كذلك. لكن البنيةَ الدراميةَ الصراعيةَ الفكاهيةَ النقدية المُقامة على صراعِ فوزية ضد الشر والفساد متناقضة، فهي لا تتوغلُ في تلك الصراعات، وتحولها إلى مواد عائلية جانبية، وتحشو فوقها العديد من الأغاني الساخرة والصراعات الجانبية، ولم يستطعْ المؤلفُ تطويرَ الشخصيتين المناضلتين التربويتين هاتين اللتين تنهال عليهما الشخصياتُ الجانبيةُ والمواقفُ الجزئية المحدودة القيمة الفنية، وخلطَ بين جديةِ مواقف فوزية وصوابها وبين الحدةِ المبالغ فيها، والعصبيةِ النارية. وكان تمثيلُ سميرة أحمد ومحمود ياسين قمة في الأداء ومدرسة لمن يريد أن يتعلم فن التمثيل.
من أهم مسلسلات رمضان حسب تصوري مسلسل(الجماعة) وهو للكاتب وحيد حامد الذي يمتلكُ تاريخاً غنياً في السينما الجادة وتشريح الحياة المصرية بأسلوبٍ واقعي درامي، ومن هنا نجدُ هذا الرسوخَ في اللوحاتِ المصَّورة وكأنها فنٌ تشكيلي، وتتنامي اللقطات الباحثة المتغلغلة في تاريخِ جماعةِ الأخوان المسلمين، منذ الفَرشةِ الأولى المعاصرة حتى تتنامى وتتجذر في تاريخ ما قبل ثلاثة أرباع القرن السابقة، مزاوجةً بينها وبين الزمنِ الراهنِ في توليفةٍ تغلبَ فيها الماضي على الحاضر، ويصيرُ الحاضرُ فيها تعليقاً وبدايةً للماضي.
الصراعاتُ المشهديةُ الأولى تلقي بنا في أجواءِ جامعةٍ مصرية وبين زجاجات ودماء الطلبة، فقد خُلقت معسكرات ضارية بين الجيل الجديد، الدمُ يتدفقُ فيها، وتنعطفُ اللقطاتُ نحو الأسئلةِ الفكرية والسياسية؛ فلماذا يجري ذلك؟ سؤال التكفير وكون الجماعة هي صوت السياسة الدينية المتفردة، ويظهرُ من بين الجيل الجديد نائبٌ عام هو نائبٌ ربما لهذه الأجيالِ التي لا تدري بالتاريخ السياسي القريب، ويقومُ بتجسيد الأسئلة ودفعها نحو معامل البحث والتحليل؛ فنرى وجوهَ المتهمين من هذه الخلايا السرية للجماعة، متعددة غريبة عن الزمان والمكان، تهذي بالقرآن، تقيمُ حواجزَ حادةً بينها وبين الآخرين، تستغلُ كلَ ما هو مقدسٌ ودنيوي لخلقِ الحزبِ المسيطر، لكن النائبَ العام الشاب، وهو الحيلةُ البشريةُ التي إستخدمَها وحيد حامد لكشف المستور، لا تقنعهُ الإجاباتُ البسيطةُ السريعةُ ويتغلغلُ في هذا التاريخ عبرَ المراجع البشرية، ويلتقي بقاض ذي عضوية سابقة في الجماعة، ولكنه إنفصل عنها، مما يعني إمتلاكهُ المادة والموضوعية، وهو الذي لم يجد جماعةً أخرى تدافعُ عن الناس حقاً كما يقول.
الحلقاتُ التمهيديةُ تسيرُ نحوَ قلب المسلسل وبؤرة الصراع، فتتمحور حول شخصية مؤسس جماعة الأخوان حسن البنا، وتتكشفُ الحلقاتُ كلُها على أنها تاريخ لهذه الشخصية المحورية، وتعبر كمية المراجع المساندة لكتابة سيناريو المسلسل عن ضخامةِ وموضوعيةِ البحث الذي شكلهُ الكاتب، وعن دقته، حيث لم يترك لا طفولة لم يجسدها ولا شباباً لم يتابع الخطو فيه، مستلاً الأبعاد الفكرية السياسية العامة، حيث نجد حسن البنا منذ طفولته يجنح للسيطرة، والتفوق، وتوظيف الدين لأعماله، حيث أن المنطقة نفسها التي ظهر فيها ذات تأثير ريفي ديني مشبع برياحِ المنطقة السعودية الدينية، وهو أمرٌ يتجسدُ بعد ذلك عبر العلاقة برشيد رضا صاحب جريدة المنار وبالعلاقة مع الملك عبدالعزيز آل سعود.
يقطعُ المسلسلُ بطبيعةِ فنه الدرامي تاريخيةَ مثل هذه الحركات وهي بالآلاف في عمليات توظيفها للإسلام سياسياً في التاريخ العربي الإسلامي، ولم تكن هذه عبقرية فذة كما يتصور. فالمرجعياتُ الماضويةُ جاهزةٌ ولا تحتاجُ سوى للديكور المعاصر.
لكن المسلسل يتتبع هذا الحراكَ السياسي في كثرةِ شخوصهِ وفي تعددِ أحداثه، مُسجلاً كلَ شعرةٍ فيها، وكأن المشاهدين معنيين بكلِ هذه التفاصيل الميتة في التاريخ، ولكنه أرادَ أن يكون المسلسل حدثاً مصرياً مُثبَتاً بالأدلة في مواجهة عواصف منتظرة، فهو يرجعُ لمن كان نائب المرشد وهو إنسانٌ نجارٌ بسيط وكيف ظهرتْ لفظةُ المرشد الخ.
ثم يتابعُ نموَّ الجماعةِ وتغلغلَها في القطر المصري وخاصةً في الأريافِ وهي القواعد ثم للمدن، وهنا تنقطعُ اللحظاتُ التمهيدية وحلقاتُ النائبِ العام وهو البطل الثانوي عن ظهور المرشد وإحتلاله للمسرح الفني، وهو البطلُ الرئيسي الذي يُخرجُ لنا ألعابَهُ الدينية والسياسية والعسكرية، تبعاً لنمو الجماعة في شرايين الشعب، ونظراً لصعود هيمنته الشخصية عليها، وإحتياج السياسة لقوةٍ لم تتكفِ بالسواعد بل تنامتْ للسلاح، حتى وصلته طموحاته الشخصية ومحاولة القفز على المسرح السياسي المصري المكون بنضال وحداثة طويلة مستخدماً الإسلامَ وكراهيةَ الدكتاتوريات في النظام للديمقراطية، ثم رغبته الفردية الجامحة في العلو على الجميع، إلى أن يصفي شخصيته وتنظيمه.
وحيد حامد المهيمن على فضاء المسلسل قرّبَ البناءَ لديكوراتِ العصر، بكلِ أدواتهِ وأثاثه وسياراته، وأزيائه، محركاً اللوحات في زمنيةِ الماضي برهافةٍ شاعرية، وواقعيةٍ دقيقة كذلك، مصَّعداً المواقفَ الدرامية عبر الحراك السياسي، فلا خلفيات أخرى، وأدتْ الشخصياتُ الفعلَ التاريخي برصانة، وبإقتدار، وخاصة الممثل الجديد الذي لعبَ دور حسن البنا، حيث نرى التلون وإستغلال كافة تفاصيل الوجه والجسم والحركة لتشكيل المواقف المختلفة وتصعيد زخمها الانفعالي وتوتير الأجواء بمعانيها وأفكارها.
حشودٌ من الطاقات الشبابية تم إستخدامها في هذا المسلسل الواقعي– التاريخي المزودج، وحشود من الأكسسورات الكثيرة والأبنية في أمكنةٍ شديدةِ التباين، من أجلِ الوصولِ لتجسيد هذا الصراع السياسي الذي يتخذُ صبغة الدين، مما أبقى المسلسل على ثيمةِ العرضِ التاريخي التحليلي السياسي، ولدلالةِ إستخدامِ الدين من أجلِ هيمنةِ شخصٍ ثم تغدو هيمنة جماعة، ثم يصيرُ الشخصُ المؤسسُ متجاوَّزاً، ولكن يبقى رمزاً مُنظـَّفاً في ذهنيةِ إتباعهِ عن كلِ ملوثاتِ التاريخ الحقيقي، ومُعلقاً في فضاءٍ سياسي مقدس.
إنتهى المسلسلُ بشكلٍ غير طبيعي، ففجأة عرفنا إنه جزءٌ أول ويتبعه ثان، ولم يُقتل حسن البنا حسب التاريخ بل تأجل ذلك وبدا الإرتباك ظاهراً في النهاية خاصة مع إنهمار الإعلانات، ويبدو أن وحيد حامد وجد مادةً دسمةً وإهتماماً كبيراً وهذا ظاهر في بروز المسلسل في مصر باعتبارهِ المسلسل الأول جماهيرياً وأدبياً وهما أمران قلما يتفقان.
وهناك مسلسلاتٌ كثيرة لم نُشر إليها وهي مهمة مثل كليوبترا وحكايات كايرو والسائرون نياماً وإختفاء سعيد مهران وغيرها فهي عديدة.
