
1
تمهيد
يعبر ابن رشد عن تطور خاص للفلسفة العربية الإسلامية ، فقد عرف المغرب والأندلس تطوراً اجتماعياً مختلفاً في أشكاله ومظاهره عن المشرق ، فالرعاة ، أو المستوى الرعوي كان من نصيب شمال أفريقيا بصورة خاصة ، في حين كانت الأندلس منتجة المدن التي تنمو فيها الحضارة التي لم تكن تخلو منها بعض المدن النادرة في شمال أفريقيا كالقيروان وفاس ومراكش ، إلا أن الرعاة فرضوا مستواهم الحضاري عبر الهجمات المستمرة للبربر ، وكان هذا المستوى مترافقاً وموازياً لصعود دور الرعاة الأتراك وغيرهم في المشرق ، ولهذا كانت النصوصية المسيطرة على الاجتهاد العقلي تتقدم بقوة في شمال أفريقيا والأندلس والمشرق معاً ، ( راجع الفقرة الخاصة بتطور البربر في الفصل الأول ) .
لقد أعطت الحياة الزراعية والتجارية للأندلس إمكانية خاصة لتطور مختلف ، فكانت أجهزة الدولة المركزية لا تجد ذات التاريخ الشمولي المتجذر كما كان الأمر في المشرق ، فقد عرفت المناطق المختلفة في الأندلس حكومات مستقلة وقوى إقطاع لا مركزية ، ومع التطور في المدن كانت الفئات الوسطى تنمو باتساع في مختلف هذه المدن ، مما كان يؤدي في المساحة المحدودة للأندلس إلى تفاعلات ثقافية خصبة وقوية وعبر الجدل المتأخر نسبياً مع الثقافة العربية المركزية .
إن هذه الظروف قد أدت إلى تطور أندلسي متقدم على شمال أفريقيا ، حيث القوى الرعوية الواسعة ، والمساحات الجغرافية الشاسعة ، التي لم تكن تقدم إمكانية لتطور مدني قوي . لكن التطورات السياسية والاجتماعية كانت تدفع القوى الرعوية القبائلية إلى السيطرة على المدن ومنع نموها الحر ، وبالتالي الإندياح على الأندلس وإعادته إلى المستوى الاجتماعي الرعوي بصورة مستمرة ، وبرز ذلك بصورة خاصة في أزمنة المرابطين ثم الموحدين .
لقد قامت القوى الرعوية باستعادة أساليب المشرق في الوصول إلى السلطة ، عبر استغلال المذاهب الدينية البدوية ، وتفصيلها على أجسام القبائل والقادة المتطلعة إلى الوثوب على السلطة .
لقد كان المذهبان الخارجي والمالكي نتاج الجزيرة العربية ، وعبّر المذهب المالكي عن المدن المهيمن عليها من قبل الرعاة ومستواهم الاجتماعي الثقافي ، والتي تنمو فيها فئات وسطى أقل تزمتاً وأكثر انفتاحاً .
فكانت المالكية تتطور في مدن الأندلس خاصةً ، وتزدهر العملية الثقافية بشكل مستمر وتطرد بقوة مع وجود حكام مستنيرين ، استثنائيين ، وتتدهور مع تفاقم الحروب والنزاعات الداخلية القوية المتنامية في الأندلس بسبب تركيبه الإقطاعي اللامركزي العريق ، وهو الأمر الذي يقود إلى حكومات كثيرة متنازعة ، تعيش على حساب تقليص الفئات الوسطى ، فكانت القبائل العسكرية تعيد المجتمع إلى الأمن وإلى المحافظة الاجتماعية الفكرية المتزايدة ، مع كل طبعة من طبعاتها .
إن المالكية كانت تكرس الجانبين ؛ الارتباط بالموروث الصحراوي ، فتعيد إنتاج القبائلية في المدن وتمنع برجزتها بشكل مستمر ، وهذا الجانب يكرس سلطةً نصوصية متشددة ، تقوم القبائل وقادتها كمحمد بن تومرت بأدلجته وتحويله إلى قالب سياسي ديني مطلق .
أما الجانب الآخر الاجتهادي القياسي فهو يتوسع مع الاستقرار ونمو الفئات الوسطى ، والذي يتحول أحياناً إلى ثورات شعبية كذلك كما حدث في الأندلس مراراً .
وهذا الجانب يبرز في الحركة الفقهية المستنيرة وحركة الثقافة والفنون .
إن الصراع [القومي] الذي يتمظهر هنا كذلك بين العرب والبربر ، يتشكل في بيئة بدوية غالبة ، فالعرب الذين جاءوا هم أنفسهم من جذور رعوية وهم قبائليون ، فلا يسمح المستوى الثقافي الاجتماعي إلى العودة للتقاليد الزراعية الأسطورية كما في المشرق ، وأن كان على شكل ومضات خاطفة ، لا تتجذر في الأرض .
إن [القومية] المسيطر عليها سياسياً في البداية وهي البربر ، ليس لدى مثقفيها إمكانية سوى استخدام النصوصية المذهبية ، الذي يحدث بتنويعات مختلفة تكرس طموحات القادة والقبائل .
ولهذا يغدو التطور المتاح لممثلي الفئات الوسطى المتحررة هو استخدام النصوصية باتجاه الانفتاح والحرية في ظل هذا المناخ الثقافي الجامد .
ومن هنا كانت الفلسفة محدودة في ظل هذا المناخ الثقافي والاجتماعي المحاصر في الأندلس كذلك بجغرافيا الجزيرة وصراعها مع المسيحيين التثليثيين ، وهكذا فإن الاستفادة من الثقافة الأسطورية والمسيحية التعددية وغيرها كما حدث في المشرق كان محاصراً من جهة غالبية السكان والعدو الشمالي المتربص .
ومن هنا نشأت الفلسفة في القصور الملكية وبين القضاة والموظفين التابعين لها حيث الوعي السني المتشدد غالباً والمنفتح في بعض الأزمنة . وكان أكبر مشروع فلسفي أندلسي بل وعربي قد قام في ظلال هذا المناخ على يد تعاون مشترك بين الخليفة أبي يعقوب يوسف عبدالمؤمن وابن رشد وابن طفيل.
وهكذا فإن مشروع ابن رشد الفلسفي تشكل بحضانة ملكية مستنيرة ، وعبر فقه مالكي اجتهادي ، وفي فضاء أرسطو أهم العقول الفلسفية في العصر القديم والوسيط .
لا شك أن تشكيل هذا المشروع لم يعتمد على هذه المواد الخام ، بل على جهود ابن رشد في توظيف كافة هذه العناصر ، عبر التركيز على أغنى ما فيها مضمونياً ، أي شد كافة الخيوط على منوال الحرية والعلم الموضوعي لإنتاج نسيج مختلف عن كافة هذه العناصر المبعثرة في الفضاء العربي الإسلامي .
إن كل عنصر ، كالمالكية والأرسطية والتحررية الاجتماعية الأندلسية ، له تاريخه الغني الخاص ، وعملية التركيب بين هذه العناصر التي تعود لأزمنة مختلفة وهياكل اجتماعية متعددة ولحظات صراع متفاوتة ، تعتمد على ذلك النول الذي غزل به ابن رشد هذه العناصر وشكل منها فلسفته المتميزة في العصر الوسيط والحديث ، والتي غدت قمة العقلانية الدينية في العصر الوسيط .
2
الوجود بلا فيض
انحاز ابن رشد لتصور كوني يخلو من الفيض ومن العقول والأجرام العشرة ، ويقسم ابن رشد قوى الوجود إلى ثلاث ، هما في الواقع قوتان:
[فأما الطرف الواحد ، فهو موجود وجُد من شيء ، اعني عن سبب فاعل ومن مادة ، والزمان متقدم عليه ، أعنى على وجوده . وهذه هي حال الأجسام التي يـُدرك تكونها بالحس ، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك . وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة . ] ، ( 1 ) .
ونلاحظ إن حركة سيرورة المادة لا المادة نفسها هي موجودة عن سبب فاعل وبطبيعة الحال من مادة ، أي هي تجليات المادة الخام وتحولها إلى ظاهرات مادية ، ويتصور ابن رشد إن [ جميع ] الفلاسفة والأشعريين اتفقوا على كون هذه التمظهرات للمادة هي محدثة ومخلوقة .
إن مسألة العدم هنا تؤخذ بشكل لا ينفي الوجود :
[العدم : هنا بمعنى ((عدم الوجود)) إذ أن الفلاسفة المشائين يقولون : يستحيل صدور شيء من لا شيء . وكان أرسطو قد اعتبر المادة الأولى ( الهيولى ) قديمة وعليها تتعاقب الصور ، والمعتزلة أيضاً متأثرون بهذا الرأي الأرسطوطالي . فالمقصود هنا : مرور من اللاوجود إلى الوجود ، أي من القوة إلى الفعل ( ومن كائن بالقوة إلى كائن بالفعل ) ] ، ( 2 ) .
ويواصل ابن رشد :
[وأما الطرف المقابل لهذا ، فهو موجود لم يكن من شيء ، ولا عن شيء ، ولا تقدمه زمان . وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته ( قديماً ) وهذا الموجود مدرك بالبرهان ، وهو الله تبارك وتعالى . هو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره ] ، ( 3 ) .
إن صورة الله تتحول هنا في هذا النمط من الوعي الديني إلى كونها أزلية ومدركة بعقل ديني مسبق ، وهي موجودة من لا شيء ولا عن شيء ، وفي ذات الوقت هي صانعة للوجود لتلك المادة السيالة المتحولة .
أما القسم الثالث فهو :
[وأما الصنف من الموجود الذي بين الطرفين ، فهو موجود لم يكن من شيء ، ولا تقدمه زمان ، ولكنه موجود عن شيء ، أعني عن فاعل ، وهذا هو العالم بأسره ] ، ( 4 ) .
أي أن المادة الخام للوجود فهي موجودة من لا شيء ولم يتقدمها زمن ، فهي مطلقة أبدية ، ولكنها مُوجَّدة عن [ شيء ] ، عن فاعل . وهنا تبدو العبارة متناقضة ، فكلمة شيء ، وهي تشير إلى مادة ، وكلمة فاعل وهي تشير إلى إله متدخل .
إن كلمة شيء تشير إلى سيرورة الأشياء ونموها الذاتي ، في حين إن كلمة فاعل تشير إلى قيام الوعي الديني بإيجاد محرك أولي أو غير أولي حسب هذه العبارة ، لهذه الأشياء المتحركة المتشكلة وجودياً .
والفقرات الثلاث تشير ككل ، إلى أن الوجود به قوتان أساسيتان هما صورة الله حسب هذا الوعي الديني ، والعالم . أي أن الوعي الديني يقوم بإسقاط علائقه على الوجود المادي ، فتظهر صورة السلطة المتشكلة في المجتمع الإسلامي والديني المشرقي عموماً ، بصورة إله متحكم في سيرورة المادة .
لأن العالم والطبيعة والتاريخ لا تظهر لهذا الوعي بدون دينيته ، بدون رؤيته لخالق يمثل السلطة ، المهيمنة على حركة الأشياء . فهنا يظهر إله مهيمن هو مظهر لوجود سلطة مركزية تمثل سيرورة الأمة أو الأمم الإسلامية ، وكذلك حركة الطبيعة المستقلة الموضوعية .
وهنا يقوم ابن رشد من خلال هذا الوعي بإيجاد مخارج لعلاقة موضوعية معينة ، تحفظ للعالم مادته الخام غير المخلوقة للإله حسب الوعي المادي الفيزيقي ، وتحفظ لبنية المجتمع الدينية تصوره في كون الإله خالق كل شيء ، أي في كون السلطة السياسية الدينية مهيمنة على الوجود الاجتماعي للمجتمع المسلم ، على الفضاء الوجودي للمجتمع الديني .
وإعطاء صورة الله والعالم مكانتيهما المستقلتين في الكينونة الخام المحضة ، المتداخلتين في السيرورة الطبيعية والاجتماعية ، تتشكل في خطاب موجه إلى مجتمع مسلم سني أساساً ، أي أن الخطاب يتضمن حواراً مباشراً مع هذا المجتمع السني المحافظ ، ويتمظهر ذلك في ورود تعبير [ الأشعرية ] وفي المناقشة معها ، واعتبارها طرفاً مع [ الفلاسفة ] .
ونلاحظ هنا كيف أن الأشعرية غدت قوة فكرية كبيرة بخلاف المعتزلة ، حيث تماشت الأشعرية مع الاستبداد الرعوي السياسي والاجتماعي المتصاعد .
وبهذا فإن مسألة العقول العشرة والتعددية الإلهية التي ظهرت في المشرق في سياق الصراع والتداخل مع الوثنية والمسيحية ، لم تعد مهمة في خطاب موجه لعالم متوحد محافظ مذهبياً .
إن الوجود الإلهي الواحد المهيمن على الطبيعة والعالم ، كمظهر لسلطة سنية تصنع سلطة مركزية متشددة ، يقوم ابن رشد بتقدير وجودها ، المستقل الخاص المهيمن ، باعتبارها أساس التكون لبنية إسلامية موحدة ترفض الانقسام على المستوى الجغرافي السياسي ، وعلى مستوى التعددية المذهبية السياسية الحاكمة .
فهي تبلور الوجود [السياسي] بتوحيديتها الصارمة ، لكن ابن رشد يشكل من هذه الهيمنة مساراً تحررياً معيناً للعقل ، عبر جعل المادة ذات وجود مطلق مستقل ، أي أن بنية المجتمع المهيمن عليها سياسياً بشكل سلطة واحدة ، تغدو مستقلة عن التحكم المباشر لتلك الصورة الإلهية المتدخلة في كل شيء .
أي إن للطبيعة والمجتمع قوانين مستقلة ، باعتبار أن المادة الخام غير مخلوقة ، مثلما أن السكان رغم طاعتهم العامة للملك لكنهم أحرار ، كما يفترض ، في صياغة مجتمعهم ، أي أنهم مثلما هم عبيد لله هم كذلك أحرار في صياغة كونهم الاجتماعي . وفي المجتمع يعتمد ذلك على تطور المادة الخام الاجتماعية ؛ طبيعة تطور القوى الاجتماعية المعارضة للاستبداد .
ولهذا فإن ابن رشد يقوم بعزل الوعي الديني المتطرف ، الوعي الفقهي غير الاجتهادي ، التابع كلياً للسلطة ، والتي يصور تبعيتها لها من خلال وعيه الفقهي النصوصي غير الاجتهادي ، وبالتالي فإن الفقيه الأرسطي وهو ابن رشد ، وهو يقوم في الفقه بالبحث عن حرية ومسئولية الفرد المسلم وتحري سببيات ذلك قضائياً ، وتشكيل اجتهاد في فضاء الخضوع العام لسلطة النص المعقلن ، فإنه كذلك يعطي صورة الله الدينية الشائعة تفسيراً موضوعياً مثالياً ، عبر الخضوع لهيمنتها الكلية العامة المجردة ، لكنه يعطي الخاص : الطبيعة والمجتمع سيرورتيهما المتعينتين ، وإمكانيات نشوء العلوم المتعددة في فضاء السببية .
وبهذا فإن الفئات الوسطى تجد الحرية على الجهتين ، جهة حرية الحياة الشخصية ، وجهة حرية الصناعات والعلوم .
وإذا كانت هذه القضايا الكبرى المحورية هي التي تعتبر الفيصل المنهجي في خلق التيار العقلي الديني ، فإن الاستعانة بسلطة النص الديني الأول وهو القرآن ، تكون ضرورية لتجذير هذه الرؤية في سلطة التراث ، وأخذها الشرعية منه .
وإذا كان رأي ابن رشد ذاك ينطبق على الوجود فإنه ينطبق على ملحقاته كالزمان والمكان والحركة الخ ..
[ والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم . فان المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه ، أو يلزمهم ذلك ، إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام . وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناهٍ ، و كذلك الوجود المستقبل . ] ، ( 5 ) .
إن سيرورة الزمن اللانهائية مقطوعة لدى المتكلمين بسبب أن رؤيتهم للخلق الإلهي المشكل للوجود في لحظة زمنية محددة ، أي أن النصوصية الدينية تفرض سلطتها هنا على رؤيتها للوجود والزمن واعتبارهما متكونين في لحظة الخلق الإلهي الابتدائية ، ولكن لكون هذه النصوصية الدينية القديمة هي كذلك تعترف بوجود جسم ومادة قديمة ، فهذا حسب رأي ابن رشد يفترض وجود زمن لا متناهٍ .
ومن هنا يستشهد ابن رشد بآيات قرآنية تدلل حتى في رؤيتها للخلق الإلهي بوجود مادة أولية وبالتالي زمن أولي ، يقول :
[وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع . فإن ظاهر الشرع إذا تــُصُـفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة ، وان نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين ، أعني غير منقطع . وذلك أن قوله تعالى : (( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء )) يقتضي بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود وهو العرش والماء ، وزماناً قبل هذا الزمان ، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك ] ، ( 6 ) .
يتكون هذا الوعي الاستدلالي من الجمع بين الأرسطية والمذهب المالكي ، ففلسفة أرسطو تأخذ العالم بلا تاريخ ، بلا سيرورة ، فهي فلسفة الوجود المادي المحض بلا جذور التناقضات الداخلية ، فالوجود معطى جاهز يستند على مقولات منطقية / أيديولوجية ؛ الهيولى / الصورة ، الوجود بالفعل ، الوجود بالقوة ، وهذه المقولات لا تأخذ السيرورة الطبيعية الشاملة ، مثلما لا تأخذ السيرورة الاجتماعية ، بحسب المواد المعرفية المتوفرة في العصر القديم .
والمذهب المالكي يأخذ الوجود الإسلامي كمعطى جاهز وناجز ، فابن رشد حين يأخذ الآية القرآنية ((فاعتبروا يا أولي الأبصار )) ، ( 7 ) ، لا يأخذها في سياقها التاريخي ، باعتبارها آية تتحدث عن الصراع مع اليهود ، فالاعتبار والأبصار هنا هو دعوة محددة للعرب بالسيطرة على جزيرتهم عبر الدولة الإسلامية . فهي تتحدث عن الإله الذي أخرج ( الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ) الخ.. ، وبالتالي فإنها تدعو إلى أبصار خاص ، إلى تفعيل إرادة سياسية مستقلة ، أي لها شروطها الاجتماعية والنضالية الخاصة.
ومن الممكن أن يعود ابن رشد إلى السياق الحدثي للآيات وللدعوة الإسلامية ككل ، ولكنه لا يضع البنية الإسلامية في سيرورتها التاريخية ، فهو يحيلها إلى مبادئ ونصوصية فوق التكون التاريخي والمعطى الاجتماعي .
وحين يحيلها إلى مبادئ مجردة يعتبرها عملاً عقلانياً ، فعندما يتحدث عن آيات قرآنية معينة يقرأ دعوتها للعقل وللأبصار بشكل عام ، وبالتالي فهو لا يأخذ تاريخيتها الخاصة ، فهي جزء لديه من عقل كوني مسبق ، وليست جزءً من صراع فكري معين بين الدعوة الدينية في مشروعها السياسي لتشكيل دولة نهضوية متجاوزة لتخلف العرب ، في ظروف بدوية قاسية ، بل هي تتشكل من مبادئ عقلية مجردة ، ففي رأيه أن الشرع :
[قد حث على معرفة الله تعالى (وسائر) موجوداته بالبرهان ، وكان من الأفضل – أو الأمر الضروري – لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى ، وسائر الموجودات بالبرهان ، أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البرهان وشروطها ، وبما يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي ، والقياس الخطابي ، والقياس المغالطي . ] ، ( 8 ) .
إن الوعي اللاتاريخي للمذهب المالكي والمنطق الأرسطي ، يتحدد فقهياً مذهبياً لدى ابن رشد بغياب تضاريس الإسلام الاجتماعية وسيرورته التاريخية المنبثقة عنها ، فهو يغدو مبادئ فقهية مؤطرة بمنهجية معينة ، ويتحدد منطقياً في أدوات المعرفة الأرسطية ذات التراتبية الخاصة من البرهان نزولاً إلى الجدل والخطابة ، حسب مستوى القراءة في هذا الكتاب ، لأن ابن رشد في تعليقاته على كتاب ( الجمهورية ) لأفلاطون سوف يتجاوز هذا المستوى من القراءة .
ولهذا يغدو الوعي اللاتاريخي هنا في تحويل النظر الإسلامي الصحيح في المنطق الأرسطي الصحيح ، ويصير معيار الحقيقة هو هذا المنطق المجرد . ولهذا فإن المبادئ العقلية الصحيحة في نظره كان يمكن أن تنشأ من الإسلام الأول ، وليست هي مُعطى تاريخي يتشكلُ وينمو عبر تراكم الممارسة النظرية / الاجتماعية ، ومن هنا يغدو تشكلُ الإسلام والتشكلُ الخاطئ للفرق والمدارس الفلسفية نتاجَ سوء نظر كان يمكن التخلص منه منذ البداية :
[نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضاً وبدع بعضهم بعضاً ، وبخاصة الفاسدة منها . فأولت المعتزلة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة ، وصرحوا بتأويلهم للجمهور ، وكذلك فعلت الأشعرية ، وان كانت أقل تأويلاً فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب ، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق . ] ، ( 9 ).
إن وجود المبادئ العقلية كمعطى مسبق ، جاهز ، في النص القرآني ، وفي فلسفة أرسطو معاً ، يظهرُ في وعي ابن رشد كميزان قادر على حل كافة الخلافات الفكرية ، التي تغدو ممكنة الحل عبر العودة إلى المقياس الذهبي البرهاني ، وذلك لا يتحقق في وعيه إلا عبر عدم إشراك العامة في منازعات القوى العقلية للأمة .
فهذه الاختلافات هي اختلافات منهجية محضة وثقافية عليا ، متى ما حُـلت عبر المنطق انتفت الخلافات في الأمة وانتفت المنازعات والحروب ، وهكذا يضع التاريخ الفكري كتاريخ فكري خالص ، والأمة كتكوين فقهي فكري مجرد ، أساسه الطبقة المهيمنة بجناحيها السياسي / الديني ، فإذا قامت هذه الطبقة بحل إشكالياتها بذلك المنطق وعبر عدم إدخال العامة في منازعاتها تم المحافظة على الوجود الإسلامي المتآلف المنسجم .
هكذا فإن الفقه المالكي والمنهج الأرسطي يندمجان في ضفيرة واحدة تقوم بتجريد البنية من أساسها الاجتماعي ، المتضاد ، ذي السيرورة التاريخية المعقدة ، وتغدو تكويناً عقلياً مسبقاً متجسداً في القرآن والمنطق الأرسطي ، فتتم منطقة القرآن حسب مقولات أرسطو ، أي أن المناطق المتعددة التكوين فيه ، تتماهى والبرهان ، ويحاول أبن رشد أن يجد حلولاً للمشكلات الفكرية والمستويات المعرفية المتعددة فيه عبر التأويل ، ليكون برهاناً عقلياً آخر .
ولأنه لا يأخذ الإسلام كثورة نهضوية تمت في شروط بدوية متخلفة ، وكعمليات سياسية واجتماعية مركبة ، فهو يقوم بتأويل جوانبها الإيمانية المرتبطة بالسياق الفكري المشرقي السياسي الاستبدادي . فالبعث لديه يتحول إلى بعث للعقل الفعال ، أي بعثاً للنفس الكلية ، وبدون صورة الجسد الأولى ، وبصورة جسدية جديدة لأن الصورة الأولى بليت وتم تجديدها !
أي أن سياق الإسلام الفكري وارتباطه بالوعي الديني السابق وجذوره في المنطقة وتضاريسها ، يـُـلغى لصالح البناء الفقهي اللاتاريخي والأداة المنطقية المجردة .
3
الدين والفلسفة
تتويجاً لهذا المحو للجذور الاجتماعية لكلا الظاهرتين : الفلسفة والدين ، عبر أداة منطقية واحدة تتداخل في كلا التكوينين ، يمكن أن يصبح الدين والفلسفة متآخيين ، فيصبح الدين برهانياً مثالياً ، وتغدو الفلسفة دينية عقلية .
ولهذا يقول تعبيره المعروف : [إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة] .
تغدو الفلسفة والدين من أرومة عائلية واحدة ، ويقود التعبير الجنسي السلالي إلى تصور تماثلي ، بدلاً من أن يضع ابن رشد الشكلين من الوعي في نوعيهما المتميزين وتاريخيهما المختلفين ، لأنه حولهما إلى شكل منطقي واحد مجرد خارج السيرورة التاريخية والدلالة الاجتماعية .
فالدين الذي هو استخدام للصور التاريخية والواقعية والأسطورية والمعبر عن لحظة تطور طفولية للوعي في زمن القبلية غير المفككة سياسياً واجتماعياً ، لا يغدو لديه شكلاً للوعي يخفي التناقضات الاجتماعية ، فيؤسس دولةً يذوب الكل الاجتماعي المتناقض في كيانها ، ومع احتدام التضادات الاجتماعية يصبح هذا الشكل الموحد من الوعي بكل تمثلاته الغيبية واليومية والأسطورية ، مادةً للصراع بين المتصارعين الاجتماعيين ..
ولكون هذا الكل الاجتماعي يعبر من مرحلة الدولة / القبيلة ، أي من مرحلة الوعي الشفاهي الأسطوري، إلى مرحلة الدولة المدينة الإمبراطورية ، وإلى مرحلة الأشكال العليا من الوعي حيث تغدو الفلسفة تتويجاً لهذا التطور الاجتماعي الثقافي الواسع ، فإنه يحتاج إلى عملية تفكيك بين الدين والدولة ، وبين ذلك الشكل من الوعي الغيبي الأسطوري ، وأشكال التفكير العليا التي في ذروتها تقع الفلسفة ، حين تصل إلى رؤية مسار التناقضات الاجتماعية / الفكرية ، وتقوم بتفكيكها وحلها .
أي أنه على صعيد الممارسة الفكرية / السياسية ، فإن الوعي بحاجة إلى اختراق محتوى التطور ذي الشكل الديني ورؤية مضامينه الاجتماعية ، باعتباره ثورة اجتماعية تمت بأدوات فكر غيبي ، وتداخلت مع بــُنى اجتماعية قبلية بدوية .
أي رؤية الثورة الإسلامية التأسيسية وقوانينها ، كثورة للتجار المتوسطين المتحالفين مع العاملين في برنامج نهضوي تاريخي ، يعبر القرآن عن فكره ووقائعه وسجله وكفاحه وتشريعه .
ولكن هنا عبر اعتبار الحكمة أخت الشريعة ، فإن الطبقات الدلالية الغائرة تنتفي ، وتصبح الحكمة والشريعة ذهنيتين مجردتين ، مبعدتين عن جذورهما النضالية ، مُهيمناً على محتواهما في سيرورة سيطرة الطبقات الحاكمة عليهما كمنتوجين ثقافيين يخدمان أغراضهما في شكل اجتماعي ضيق .
فعملية إعادة النظر في الموروث الأسطوري وفصله عن المضمون الكفاحي ، والرؤية الاجتماعية التاريخية للفلسفة والدين ، كلها تنتفي عبر تحول الفلسفة الرشدية إلى منهج برهاني مجرد .
تصبح الفلسفة متدينة ارتدت عباءة الأساطير ، ويصبح الدين أداة سيطرة للطبقة الإقطاعية على المدينة التي لا تتحدث .
أي أن السلطات الغيبية من إله وملائكة وجنة ونار ، التي تعبر عن سلطة كلية أخلاقية ميتافيزيقية ، يعبر تنوعها عن مشاريع سياسية متعددة على الأرض المشرقية ، لا يستطيع المنهج البرهاني المنطقي المجرد من أدوات التحليل التاريخية والاجتماعية أن يتغلغل إلى أغلفتها الكثيفة .
فيحاول أن يعقلن بعض منتوجاتها ، نظراً لأن الفلسفة صارت دينية ، أي صارت جزءً من هذا الوعي الديني ، وصارت نتاجاً لتبعية فئات وسطى للإقطاع السياسي الحاكم ، وليس للإقطاع المذهبي الحاكم في المستوى الفكري والاجتماعي .
ولكن لكي تغدو الفلسفة البرهانية الدينية هي المنتوج الثقافي السائد فإنها لا تستطيع أن تقوم بذلك عبر أدواتها ، عبر تبعيتها للإقطاع السياسي ، فلا بد أن تفكك هذه التبعية ، ولا يحدث ذلك إلا في شروط تاريخية ومعرفية مختلفة ، أي أن تكون فلسفة لا دينية ، بمعنى أن تكون قادرة على التغلغل الاجتماعي والتاريخي في دلالات الثورة المحمدية ، وتغدو كفاحاً للفئات الوسطى في ظروف عصرها الجديدة .
وهي حتى في مستواها ذاك الفكري المجرد وغير الداخل في كشف المضامين المتوارية للنص الديني ، وبدون العلاقة مع الجمهور الفاعل ، أساس الحراك الاجتماعي ، لا بد أن تصطدم مع الإقطاع في مستواه الفقهي الديني ، وهو الحارس على إنتاج النص في ظل شروط التبعية المطلقة للإقطاع .
4
النفس والعقل
رغم أن ابن رشد هو الشارح الأكبر لأرسطو إلا أن ثمة تباينات مهمة بين الرجلين ، [ولم يكتف ابن رشد بشرح أرسطو ، بل كانت له جهوده في التوفيق بين فلسفة أرسطو وعقائد الإسلام مما جعله يختلف عن الأول في كثير من الأمور . ] ، ( 10 ) .
إن بداية التباين تكمن في قول أرسطو عن النفس :
[صورة لجسم طبيعي آلي] أو [استكمال أول لجسم طبيعي آلي] ، (11) .
إن أرسطو بهذا التعريف يقيم ترابطاً عضوياً بين الجسم والنفس ، رغم أن تعبير [صورة ] يتيح دلالة مفتوحة ، تعطي إمكانية لعلاقة خارجية بها ، حيث أن تعبير صورة أقرب للشكل ، التي تأتي إليها المؤثرات الفاعلة من الخارج ، وبهذا تغدو النفس كوة أو مدخلاً لتأثيرات اجتماعية و تأثيرات ميتافيزيقية عليا .
لكن ابن رشد يقدم تعريفاً مختلفاً ، حيث يتصور بأن [النفس جوهرٌ روحيٌ قائم بذاته لا ينقسم بانقسام الجسم ، أو أنها ذات روحية مستقلة تستخدم الجسم كآلةٍ لها ] ، ( 12 ) .
بهذا التعريف أنفصل ابن رشد عن تصور أرسطو المادي ، وتوجه إلى المثالية في مسألة النفس ، حيث غدت النفس جوهراً مستقلاً ، يغدو الجسم مجرد آلة لها ، وليس كياناً ملتحماً بها .
إن أرسطو وابن رشد يشتركان رغم ذلك في كون الصورة والذات الجوهرية مفتوحة للتأثير الخارجي المهيمن ، فحين أن الصورة هي شكل قابل للتطورات المتدفقة سواء من الحياة أو من العقل الفعال ، فإن الذات الجوهرية الروحية عند ابن رشد هي تفاعل دائم مع العقل الفعال الذي هو الروح الإنسانية الجماعية .
لقد وجد ابن رشد [نظرية أرسطو مخالفة من بعض الوجوه لعقائد الإسلام فأراد أن القيام بمحاولة للتوفيق بين المشائية والعقيدة اختلف بها عن أرسطو ، لكنه أدعى من جهة أخرى أن محاولته تلك تقدم شرحاً مقبولاً لأرسطو ] ، ( 13 ) .
إنه في الوقت الذي تعطي فكرة أرسطو ارتباطاً كبيراً بالواقع الخارجي المعاش للفرد ، فإن ابن رشد يربط النفس أكثر بالعالم الروحي الثقافي العام ، وبهذا فإن أرسطو رافضاً فكرة البعث الجسدي والنفسي يجعل النفس تتصل بقوى روحية مفارقة كذلك . وهذا الأمر الأخير هو الذي يشاركه فيه ابن رشد .
ولهذا فإن النفس أو العقل النظري منفصلين عن الجسد ، وبإمكانهما أن يبعثا في عالم آخر ، لكن الصورة ، أو الجسد ، لا يمكن أن تــُبعث لديه لأنها تكون قد بليت ، فتظهر صورةٌ أخرى مماثلة .
وبهذا فإن ابن رشد يقوم بأسلمة فكرة أرسطو عن النفس ، دون أن يتخلى عن كونها مرتبطة بالواقع الخارجي الروحي خاصة ، وبهذا فإن الوعي يكون قد ارتبط بقوى من خارج البنية الاجتماعية التي يتم إنتاجه فيها ، وسنعود لمتابعة نتائج ذلك في فقرات أخرى تالية .
وقسم ابن الرشد النفس إلى خمس قوى هي : النفس النباتية ، والحساسة ، والمتخيلة ، والناطقة ، والنزوعية ، وهي كلها تقوم بعمليات طبيعية وفكرية جزئية عبر ردود فعل متباينة مع الطبيعة والواقع .
ويأخذ ابن رشد بالتقسيم الثلاثي للعقل ، فهناك العقل الهيولاني ، والعقل بالملكة والعقل الفعال ، والهيولاني هو عقل بالقوة ذي استعداد للتلقي ، أما العقل بالملكة فهو العقل في حالة الفعل ، أما العقل الفعال فهو القوة التي تخرج الأفكار الذاتية الداخلية :
[ويصفه ابن رشد بأنه غير هيولاني وليس متصلاً بالبدن إلا بالعرض ، وأنه مفارق ، ويدعم رأيه في المفارقة بقول أرسطو ( إن وجد للنفس أو لجزءٍ منها فعل يخصها أمكن أن تفارق ، وأنه أشرف من العقل الهيولاني ، وأنه موجود بالفعل دائماً وأنه صورة .] ، ( 14 ) .
إن كل القوى النفسية والعقلية المادية وشبه المادية لا تلعب دور إنتاج الوعي لوحدها ، حيث تقوم بذلك عبر التعاون مع العقل الفعال ، فهو لدى ابن رشد قوة محرضة على نمو الأفكار الداخلية ، فهي تتشكل بين الوعي المتولد الداخلي والبناء الثقافي المسبق الذي يمثله العقل الفعال ، الذي يلعب دور المحرض ولكن الخالق كذلك .
من هنا لا تغدو البنية الاجتماعية إلا مستوى ثقافياً ، أما أبعادها الموضوعية الاقتصادية الاجتماعية ، فهي ذائبة في المستوى الثقافي المهيمن على الوجود العقلي المفارق .
لكن ثمة علاقات جدلية داخلية بين كافة عناصر النفس والعقل ، وبينها وبين الواقع الخارجي ، فهي تتفاعل و [ تنقدح ] منتقلةً من الجزئي إلى الكلي ، ( 15 ) .
وبهذا فإن ابن رشد عبر هذا التأسيس لفلسفته جامعاً بين كونٍ موضوعي مخلوق للإله الواحد ، يقوم كذلك بموضعة التاريخ الطبيعي ، أي بجعله موضوعياً ، ذا سببيات وقوانين ، فيتمكن من الجمع بين عملية سبر [الكون] معرفياً وتحرير الإرادة البشرية في مجال السيطرة على المادة الطبيعية.
أي أن المثالية الموضوعية الإسلامية تتمكن لأول مرة من حل إشكاليات الجمع بين فكرة الإله الواحد وموضوعية العلوم في مسار الطبيعة ، وليس في مسار المجتمع .
فالعقل :
[(وهو جزء النفس الناطقة) كما يقول فيلسوفنا ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها ، والعقل هو مجموعة النواميس والقوانين التي تسبر الكون ، حكمه بالسببية مستمدٌ من طبيعة الموجودات وبذلك تكون السببية التي في العقل هي سببية الموجودات ، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل ] ، ( 16 ) .
إن ابن رشد هنا يجمع بين الخلق الإلهي والموضوعية الكونية فالأسباب [التي من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود بحسب ما قدرها بارئها عليه فذلك هو النظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة وهو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده وعلى الكون بأسره وهو اللوح المحفوظ ] ، ( 17 ) .
إذن ثمة ضرورات موضوعية هي في النهاية من الناموس الإلهي ، ومن هنا يفسر ابن رشد الآيات القرآنية المتعددة الرؤية للفعل الإلهي والفعل البشري ، فإذا كان الإله مهيمناً كلياً على الوجود ، فلا يعني ذلك أن الوجود خال من سببياته الداخلية وقوانينه المستقلة ، فهناك موضوعية كونية ولكن هناك كذلك حرية إنسانية تبحث عن هذه السببيات وتوظفها لصالحها .
إن فكرة هيغل في أن الحرية هي فهم الضرورة يكون ابن رشد قد سبقه إليها بقرون .
إن ابن رشد وهو يلغي وجهة نظر المعتزلة في كون الإله لا دخل له في حرية الفرد ، يرد كذلك على الأشاعرة الذين ألغوا هذه الحرية ، فيقول :
[وأما الأشاعرة فقد راموا أن يأتوا بقولٍ وسط بين القولين : فقالوا إن للإنسان كسباً ، وأن المكسب به والكسب مخلوقان لله تعالى وهذا لا معنى له ، فإنه إذا كان الاكتساب والمكسب مخلوقين لله سبحانه فالعبد مجبور على اكتسابه ] ، ( 18 ) .
إن الجمع إذن بين الموضوعية الكونية والموضوعية الاجتماعية وحرية الإنسان يقوم ابن رشد بتشكيلها ، نافياً وجهات النظر الفقهية / الفكرية المحدودة ، مشكلاً رؤية فلسفية ، تلغي الأشكال الجزئية المتضادة ، وترتفع بها في كل جدلي متجاوَّز .
لكن هذه الحرية المتحققة هي للإنسان في تكوينه الفردي المجرد ، أي أن ابن رشد يجعل نشوء الإسلام هو بشكل إلهي مباشر ، والقرآن تكوين إلهي مباشر ، ومسار الإسلام بذلك الشكل هو مسار إلهي مباشر ، فكيف تتشكل هنا الحرية ؟
إن عدم القدرة على اكتشاف سيرورة التطور الاجتماعي تعود إلى تشكل أدوات المعرفة .
5
الوجود والمعرفة
تنقسم العلوم النظرية التي هي أول تقسيمات العوم لديه ، وتعقبها العلوم العملية ثم المنطقية ، إلى علم كلي وعلم جزئي .
والعمل الكلي [مشترك لجميع الموجودات ويأخذ كليته من طبيعة موضوعه الذي هو الجوهر غير المتحرك الذي هو الموجود الأول ] ، أي أن هذا العلم هو[ النظر في الوجود بإطلاق دون الالتفات إلى أعراض ذلك الوجود لأنها من اختصاص العلوم الأخرى وهي العلوم الجزئية ] ، ( 19 ) .
وينقسم العلم الأول إلى قسمين ، والأول منهما يبحث المعاني العامة لجميع الموجودات مثل الهوية والوحدة والكثرة والقوة والفعل والعلة والمعلول ، في حين يبحث الثاني في الأصول والمبادئ ، أي يقوم بالنظر في العلوم الجزئية المختلفة .
[والقسم الثاني من العلم النظري هو العلم الجزئي ، وهذا العلم ليس من طبيعته النظر في الموجود بما هو موجود ، بل النظر في الأعراض التي تعرض لجزءٍ من أجزاء الموجود ، كأنه منفصل عن الموجود]، ( 20).
إن انقسام العلمين إلى مجرد كلي ، وملموس جزئي ، وعدم وجود التداخل بينهما ، يشير إلى التناقض الأولي الرئيسي بين السماء والأرض ، بين المحرك الذي لا يتحرك وبين المتحركات .
[ومن هنا اكتسى العلم الإلهي ، والذي هو أحد أجزاء الفلسفة الأولى في نظر ابن رشد ، المرتبة الأولى بالشرف على جميع العلوم الأخرى لأنه ينظر إلى الجنس الأشرف ، والأشرف في جميع العلوم هو الله ، وبهذا يعد موضوعه أشرف الموضوعات . وفضلاً عن العلم الإلهي فإن للعلم الكلي موضوعاته الأخرى التي يبحث عنها مثل الوحدة والكثرة ، والقوة والفعل ، والعلة والمعلول وغيرها . فلا غرابة إذاً ، أن جاءت العلوم الجزئية ( الرياضيات والطبيعة ) ، بعد العلم الكلي في الترتيب . ] ، ( 21 ) .
إن التناقض غير الجدلي بين العلم الكلي ، وبين العلوم الجزئية ، هو شكل تجلي للمنهج الميتافيزيقي ، بمعنى غير الديالكتيكي هنا ، الذي هو غير قادر على الجمع بين ظاهرات الوجود في كل موحد .
ويتواصل التناقض بينهما حين ينظر العلم الكلي إلى الموجود بالذات ، وتنظر العلوم الجزئية إليه بالعرض .
ولهذا يقول ابن رشد بأن العلم الكلي [ ينظر في مبادئ الجوهر وهي الأمور المفارقة ويعرف أي وجود وجودها ، ونسبتها إلى مبدئها الأول الذي هو الله ( تبارك وتعالى ) ويعرف الصفات والأفعال التي تخصه . وكذلك ينظر هذا العلم في موضوعات العلوم الجزئية ، ويزيل الأغاليط الواقعة فيها لمن سلف من القدماء ، والمتضمنة في علم المنطق وعلم الطبيعة والعلم الرياضي ] ، ( 22 ) .
يتشكل التضاد بين العلم الكلي والعلوم الجزئية ، بسبب كون الأول خارج مبادئ التغير والحركة والتناقض ، باعتباره وعياً ميتافيزيقياً وغيبياً ، مسقطاً على العلوم الجزئية ، وهو تناقض يعكس التناقض غير المحلول بين صورة الذات الإلهية وبين الطبيعة غير المخلوقة .
وتتشكل كافة مفردات المنهج من هذا التناقض غير المحلول ، فهنا ثنائيات متضادة بشكل مطلق غير قابلة للجمع والتضفير المشترك:
وجود بالقوة / وجود بالفعل ، الحركة / السكون ، الكل / الجزء ، الجوهر السرمدي غير الكائن وغير الفاسد / الجوهر الكائن والفاسد ، الوحدة / الكثرة ، النهائي / اللانهائي ، الوجود / العدم الخ ..
ولهذا فإن ابن رشد يقسم [الجوهر] إلى قسمين متضادين كلياً : [فالجوهر الكائن الفاسد مركب من مادة وصورة ، أما الجوهر السرمدي فهو على خلاف ذلك شيءٌ متبرئ من الهيولى ، فضلاً عن أن الجوهر الكائن الفاسد جوهر محسوس وليس مجرداً ومفارقاً ] ، ( 23 ) .
أي أن العلوم الطبيعية لا تتحرك إلا في منطقة المتحرك المتغير الفاسد ، في حين إن [العلم الإلهي] ينظر في المبادئ العامة على أنها مبادئ جوهر غير متحرك ولا ساكن ، [أي أنه لا يريد فرض مبادئ العلم الطبيعي إلا في منطقة محددة لا تخص الموجود المتحرك بما هو متحرك بل تخصه بعده مطلقاً ، مثل انقسام الموجود إلى ما هو جوهر وعرض ، أو إلى قديم وحديث ، أو إلى واجب وممكن ، أو إلى علة ومعلول ، أو إلى قوة وفعل ، وهي انقسامات عامة تعم الموجود الإلهي والطبيعي أي الموجود غير المتحرك والمتحرك ] ، ( 24 ) .
إن التضادات المطلقة غير المحلولة بين صورة الله التجريدية المفارقة والطبيعة تنعكس على العلوم فتنقسم إلى علم للغيبي وعلم للطبيعي ، لكون تلك الصور المفارقة هي نتاج الوعي وقد تواجدت في الطبيعة وغدت هي خالقتها ، وهو أمر يشكلُ البنى الاجتماعيةَ الإسلامية ، التي تعيدُ إنتاجَ تلك الصور الميتافيزيقية في حضنها الخ..
وهذا كله يعبر عن سيرورة تطور الأمم الإسلامية ، ولكن هذه الصور تنتمي في البحث إلى حقل آخر هو حقل العلوم التاريخية والاجتماعية ، ( 25 ) .
ومن هنا فإن هذه الصور وقد غدت كائناً تجريدياً يمثل السلطة الإسلامية الكلية ، من غير الممكن أن تــُبحث بالعلوم الطبيعية ، ولهذا فإن الفلسفة الدينية عبر ابن رشد هنا تعزل المنطقتين بحاجز معرفي لاهوتي .
فهناك المنطقة السرمدية الجوهرية غير الفاسدة والتي تنطبق عليها مبادئ المنطق الأرسطي ، وهنا المنطقة الجوهرية الفاسدة التي تنطبق عليها مبادئ المنطق الأرسطي ومبادئ العلوم الجزئية .
ومبادئ العلوم الجزئية لا تنطبق على الكائن الأزلي ومنطقته الغيبية السرمدية ، لكون تلك المنطقة خارج الطبيعة ، لكن تلك المبادئ العامة تتحكم كذلك في العلوم الجزئية ، بمعنى أنها تخضعها لمنطقها العام ، أي أنها لا تسمح لها بأن تتحول إلى علم منهجي مغاير إلا في المساحة الطبيعية والاجتماعية .
ومن هنا فإن العلوم الجزئية [لا تنظر في الهوية والجوهر المطلقين] حسب قول ابن رشد ، أي أن وعي ابن رشد يحصر العلوم الطبيعية والرياضية كي لا تتحول إلى منهج عام وأن تظل محكومة بمبادئ المنطق الأرسطي وقد تحولت إلى رؤية دينية عامة .
ومن هنا فإن أقسام العلوم الطبيعية لم يطرأ عليها تغيير من أيام أرسطو مروراً بالفارابي حتى لحظة ابن رشد الراهنة وهي تتناول الأقسام التالية :
1 – السماع الطبيعي ، وتتعلق بالموجودات الطبيعية ولواحقها كالزمان والمكان الخ.. 2 – السماء والعالم 3 – الكون والفساد 4 – الآثار العلوية وهي تدرس الأسطقسات والظواهر الطبيعية 5 – المعادن. 6 – النبات. 7 – الحيوان. 8 – النفس .
وهنا نرى أن العلوم الاجتماعية والتاريخية لم تحصل بعد على موقع هام .
6
التضادات المطلقة للطبيعة
تنقسم الطبيعة عند ابن رشد على الأجسام الطبيعية والأجسام الصناعية الساكنة ، والطبيعية التي تشمل الحيوان والبنات والجماد هي في حركة وسكون، ، وتشكل الحركة مبدأ هذه الطبيعة ، وهي تأتي من داخلها ، وهذه الذاتية الحركية هي سبب الفعل والتغير ، ولا ينطبق ذلك على النفس التي تعيش مع البدن في وحدة خاصة ، ويكون محركها من الخارج ، حيث تنتمي لبنية ثقافية مفارقة .
ولكن ابن رشد إلى أن [الصورة هي أحق بأن تقال على الطبيعة من المادة ، لأن المادة مشتركة بين الموجودات الطبيعية والصناعية ] ، ( 26 ) .
إن الصورة تغدو لديه هي بمثابة [الغاية الأساسية في الطبيعة والموجودات] ، وبالتالي فإن [الطبيعة تساوي الصورة ، أما الهيولى فهي جوهر صفته الاستعداد ، أي القوة مما جعل هذه الغائية إحدى الدعامات الرئيسة في الفلسفة الرشدية ] ، ( 27 ) .
ويعرف ابن الرشد الجسم بأنه الذي له طول وعرض وعمق ، [فالجسم تحديداً عند ابن رشد يكون المنقسم كلاً في الأبعاد الثلاثة ( الطول والعرض والعمق ) ] ، ( 28 ) .
ورغم أن الجسم غير مخلوق لديه كتعبير عن المادة ، إلا أنه لا يقبل الانقسام اللانهائي ، وتغدو المادة متشكلة دائماً لكن الصور هي التي تحدد تكوينها ، كما أنها متناهية ، حيث أن الكون متناهٍ .
ومن هنا يرفض ابن رشد الأفكار الذرية والمادية اليونانية ، لأن المكان هو المتناهي بتناهي الأجسام ، ويقول بأنه لا يوجد خلاء في العالم أو خارجه .
فماديته تقتصر على أن العالم غير مخلوق كمادة محض ، ولكن لأن الصور هي التي تلعب الأهمية القصوى في حركة المادة فإنها تتشكل عبر سببيات من داخلها عبر ثنائية وجود بالقوة يليه وجود بالفعل . كذلك فإن ما قرأناه في كتابه فصل المقال يعبر على إن الإرادة الإلهية واللوح المحفوظ يتدخلان على نحو غامض وغير محدد في هذه الطبيعة .
هنا تتشكل المادية الطبيعية بتناقضات المنهج الأرسطي حيث : العالم ضد الفراغ واللانهائية ، وحيث الجسم لا يقبل إلا الاتصال ، وليس ثمة إمكانية للانفصال داخله ، أي أن ابن رشد لا يجمع النقائض في وحدة تركيبية .
أي أن أساس الحركة في الجسم، أو في الطبيعة ، يأتي من الصور ، فتبدو العلة الصورية هي الأقوى من بقية العلل في تشكيل المادة ، وهو أمر يفتح الباب للتدخلات اللامادية .
ينقسم العلم إلى علم للطبيعة وعلم لما بعد الطبيعة، وفي هذا ذروة أخرى للثنائية المتضادة ، حيث يبدو هنا الخلاصة للتناقض ، فالعلم الطبيعي هو :
[الذي يعطي أسباب الجوهر المتحرك المادي والسبب المحرك ، وأما السبب الصوري والسبب الغائي فليس يقدر على ذلك . مع ملاحظة أن صاحب العلم الإلهي يبين ما هو السبب للجوهر المتحرك الذي هو بهذه الصفة ، ويقصد ابن رشد به السبب الصوري والسبب الغائي ، وذلك عن طريق معرفة أن المبدأ المحرك هو المبدأ للجوهر المحسوس على طريق الصورة والغاية . فمن هذه الجهة يطلب صاحب هذا العلم أسطقسات الجوهر المحسوس وهي التي توجد للموجود بما هو موجود ، وعليه يكون الموجود غير الهيولاني هو جوهر متقدم على الجوهر المحسوس ومبدأ له ، على أنه صورة وغاية . ] ، ( 29 ) .
هكذا تنقسم الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى ثنائية تعكس الوعي الديني الرشدي وهو يشكل صورة الإله التي تلعب الدور الأولي الأساسي في دفع الصورة للحركة الوجودية ، ولعلها تدخل على أنحاء أخرى في تشكيل ودفع الصور فيما بعد ، مما يوجد للعالم الطبيعي سببيات من الخارج .
ومن هنا تغدو تسميات ابن رشد هنا لتبرير الوجود الإلهي لا تختلف كثيراً عن التبرير الذي يقدمه ابن سينا ، في تقسيمه الواجب إلى الواجب بذاته وواجب وممكن بغيره ، فتسميته للموجود هي ذاتها وإن كانت بألفاظ أخرى فالواجب الضروري والممكن الحقيقي ، هما كذلك تبرير للصورة الإلهية المفارقة المشكلة للوجود ومن خارجه .
فتسلسل العلل في تصور ابن رشد لا بد أن ينتهي إلى علة ضرورية ليس لها علة . وهنا يبدو قطع اللانهائية إلى نهائية تجسد طابع التفكير الديني الغيبي ، حيث تبدو المادة الخام الأولى مشكلةً بفعل تدخل إلهي ضروري ، وهو أمر رأينا سابقاً كيف تجسد عبر قراءته لبعض آيات قرآنية ، ومن ثم كيف قام ابن رشد بالتضفير بين العلة الصورية وبين القضاء والقدر ، وهي أمور تشير إلى ربط السببية الطبيعية بالصور الإلهية .
إن ابن رشد يقوم هنا بقطع الجوانب المادية للفلسفة اليونانية كتلك الآراء القائلة بوجود المحركات المادية داخل المادة عبر تفسيرها بالذرات وحركتها ، وهي التي تتيح هنا تفسير الطبيعة كما هي ، بدون إضافات غيبية ، وهي الآراء التي تطابقت مع تطور العلوم الحديثة حيث اللانهائية والسببيات الداخلية وحركة المادة المطلقة الخ..
تغدو مثالية ابن رشد متطابقة مع مثالية أرسطو ، التي تشير إلى البحث الموضوعي عن سببيات الطبيعة والمجتمع والفكر مع ترك هامش للوجود الإلهي الغيبي ، وهو أمر مهم كذلك ، لأن المجتمعات الدينية المشرقية / الأوربية تشكلت عبر فكرة الإله المهيمن المعبرة عن سيرورة الدولة المطلقة ، وهذه العملية التركيبية بين الصورة الإلهية والموضوعية الطبيعية هي أقصى ما وصل إليه الفكر ، وأبعد تجليات المثالية الموضوعية ، في منطقة المشرق وأوربا قبل عصر النهضة.
7
في قراءة المجتمع
لم يؤلف ابن رشد كتاباً مباشراً في تحليل المجتمعات في عصره ، لكنه قام بترجمة كتاب الجمهورية لأفلاطون تحت اسم [ تلخيص السياسة لأفلاطون ] ، وبهذا قام بفعل آخر مماثل للفارابي الذي كتب عن المدن الفاضلة ، محاكياً أفلاطون في صناعة مدن خيالية مثالية للبشرية .
إن هذه الصناعة للمدن المثالية تعبر عن المشروعات السياسية لهؤلاء الفلاسفة ، أي أنها تحوي في تصوراتها عن ما يجب أن يكون سياسياً واجتماعياً ، وبالتالي ما يجب أن يــُهدم ويغير من المجتمعات السائدة في عصورهم .
إن الفلاسفة وهم يصيغون هذه المشروعات الفكرية الخيالية ، كانوا على تماس دقيق مع الواقع الذي يعيشونه ويرفضونه ، ومن مواقعهم كأفراد من فئات وسطى ، ليست هي من نسيج الطبقة المسيطرة ، سواء كانت هي ملاك العبيد في أثينا ، أم كانت من الإقطاع السياسي / الديني في عصر ابن رشد ، وبالتالي كان هؤلاء الفلاسفة الأفراد يصيغون مشروعاتهم التحويلية لتشكيل نظام يتماشى مع تصوراتهم النظرية ، وليس مع سيرورة التاريخ الحقيقي بالضرورة ، لكنهم يتصورون أن تصوراتهم تلك هي ما سيحدث أو ما يجب أن يحدث .
ومعنى هذا أن تصوراتهم التحويلية سوف تكون جزءً من رؤيتهم العامة ، فإذا كان أفلاطون ينطلق من الموروث الإغريقي الاجتماعي والأسطوري ، أي من هذه البنية التي وجد نفسه فيها ، وراح بالتالي يفكر بمفرداتها ، فلن يكون ابن رشد بعيداً عن بنيته الاجتماعية الثقافية .
ولكن قيام فيلسوف تالٍ بتناول مادة فيلسوف سابق، وكلاهما عاش في ظروف مختلفة ، يعبر عن وجود مادة فكرية رؤيوية مشتركة ، أو أن هناك عناصر مشتركة بينهما يجري تداولها عبر العصور المختلفة ، كما حدث لقيام ابن رشد باستغلال الرؤية العامة لأرسطو في فلسفته .
إن ابتعاد ابن رشد عن أطروحات أفلاطون الفلسفية وتعددية مثله المفارقة هو أمر يشير إلى رفضه للتعدديات الإلهية وكونها مضادة للمجتمعات الإسلامية التي تكمن عملية نهضتها وتطورها في الوحدة ، أي وحدة أجزائها المفتتة .
ومن هنا يكون رفضه لفلسفة أفلاطون المستقاة من حالة مجتمع إغريقي مفتت ، متماثلاً لتماهيه مع فلسفة أرسطو ، ذات الصياغة التوحيدية للعالم والموضوعية المثالية ، ولكن لا يعني ذلك أيضاً عدم تعاطف ابن رشد مع فلسفة أفلاطون الاجتماعية ، ولكن بشرط أن تتخلص من عباءتها الوثنية الأسطورية وتلبس الثوب الإسلامي التوحيدي .
وفي هذه الشروط الفكرية العامة عكف ابن رشد على تلخيص كتاب الجمهورية لأفلاطون ، والاستفادة منه في تقديم نموذج المدينة الفاضلة عبر رؤية أفلاطونية – رشدية مشتركة ، فابن رشد لم يلخص تلخيصاً بل كان يلخص ويعلق ، فالمادة الأفلاطونية المترجمة خضعت لتعليقات وتداخلات من ابن رشد ، مما جعل التلخيص هو رؤية مشتركة .
وهنا في هذا الكتاب توجد العديد من الفقرات التي هي من ابن رشد نفسه ، وخاصة في المواقع التي يقوم فيها بتوضيح وجهة نظره وفي المواقع التي يقوم فيها بتغيير رأي أفلاطون وتغيير مصطلحاته وتصوراته.
وهي ذات الطريقة التي تعامل فيها ابن رشد مع تراث أرسطو ، ولا نستبعد أن تكون كلمة الخليفة الأندلسي حين كلفه بالترجمة وطلب منه توضيح عبارات أرسطو الغامضة ، أن تكون إشارة لأسلمة التراث الأرسطي – الأفلاطوني العقلي داخل المنظومة العربية الإسلامية ، ( 30 ) .
وتعتمد كما قلنا عناصر التداخل بين المتخيلات الاجتماعية بين أفلاطون وابن رشد ، على مواقف المثقفين المنحدرين من الفئات الوسطى ، المتوجهين لخلق مدينة حديثة تخلو من كل مشكلات عصريهما الكبرى .
وابن رشد نفسه يشير في ثنايا الكتاب إلى ضرورة مراعاة الفروق بين العصور ، ويدرك كون مشروع أفلاطون كان على مقاس المجتمع الإغريقي ومثله ، لكنه يسايره في الهيكل العام لمشروعه ، الذي يعتمد على تشكيل نموذج مدينة ذات أساس إنتاجي وثقافي معين ، فابن رشد كثيراً ما يلجأ إلى تفسير تطورات التاريخ العربي الإسلامي من خلال مفردات أفلاطون ، وأحياناً لا توجد للمفردات اليونانية تجسيدات عربية كمسمى المدينة الديمقراطية عند أفلاطون فيسميها ابن رشد المدينة الجماعية ، وكذلك التقييم السلبي لأفلاطون عن المدينة الرأسمالية التي لم يكن ما يماثلها في التاريخ العربي فيدخلها ابن رشد في كيان مدينة أخرى !
وابن رشد يساير أفلاطون في هذا الأساس العام حيث المدينة المشكلة على أساس برنامج اجتماعي ثقافي خاص .
والمدينة المتصورة هي مدينة لا تاريخية ، بمعنى أنها لم تنبثق من سيرورة التاريخ ، ومن هنا فلا أفلاطون ولا ابن رشد يناقشان قضايا الإنتاج ، أو أساليبه ، أو سيرورة البنى الاجتماعية السابقة والراهنة ، ومن هنا تتشكل عملية فهم المدينة من بضع كلمات من الاقتصاد ، حيث يتم فهم ضرورة التعاون الإنتاجي ، وكون المدينة هي مكان تبادل :
[وإنه لمن المستحيل على الإنسان بمفرده أن يوفر كل متطلبات عيشه .. ] ، ( 31 ) ، لكن تعود عمليات الإنتاج ليس إلى أسلوب موضوعي مستقل ، بل إلى قواه النفسية ، ك [القوة الشهوية فيه ] .
إن الإنسان يحوي قوى نفسية عديدة متضادة ، كالقوة الشهوية والغضبية والتأملية الفكرية ، وبما أن القوة الفكرية هي أسمى وأهم هذه القوى فيجب أن تسود ، فهي تسود في كيان الإنسان الفرد ، فيجب أن تسود في كيان المجتمع كأمر بديهي .
إن الترابية النفسية العقلية الإنسانية تتحول إلى تراتبية سياسية نموذجية .
إن الفلاسفة هنا وهم يرفعون قوة إدراكهم فوق قوى الطبقات الأخرى ، كالحكام والجنود والعاملين ، فإنهم يضعون أنفسهم على رأس السلطة الحاكمة في مدن الخيال النموذجية المقترحة .
وبما أن القوى النفسية الفكرية المتعددة تتوزع على هذه الطبقات الاجتماعية بشكل متفاوت ، لكنها عند الفلاسفة تقترب من التكامل ، وهي تقترب من العقل الفعال والمطلق :
[.. أن العلوم النظرية هي الأشياء التامة المتحررة من المادة ] ، [ولذا نظن أن هذا الكمال له غاية قصوى بسبب قربه من الكمال الأقصى ] ، ( 32 ) .
ومن هنا فإن أفلاطون – ابن رشد يريان ضرورة تجميد الطبقات العاملة في مواقعها الإنتاجية التخصصية ، دون مفارقة وتبدل ، لكون هذا التخصص سيطور إنتاجها .
لكن هذه الطبقات العاملة ستعمل في إنتاج غير خاص ، أي في ملكيات إنتاجية تابعة لحكومة المدينة ، وأي تغيير في وضعها سيعرضها لعقوبات صارمة .
ومن هنا تغدو الملكية الخاصة محرمة ، من خلال قانون المدينة ، ليس فقط في الملكيات الإنتاجية العامة بل في التملك الشخصي ، والذي سوف ينتقل إلى الزواج ، حيث لا زوجة خاصة ، وبطبيعة الحال هنا يفترق ابن رشد مع أفلاطون .
ولم يعد في هذه المدينة النموذجية الحكام المعتادون ، بل أن أفلاطون – ابن رشد يركزان على ما ترجم إلى لفظة [الحراس] ، فهذه القوة الاجتماعية الغامضة ، التي تحرس المدينة وتحكمها ، هي مركز تصورات الكتاب المعرب .
إن أفلاطون – ابن رشد يقترحان سلسلة من التصورات التربوية الطويلة لتشكيل هذه القوة المدافعة الحاكمة الحكيمة ، عبر تثقيفها بالموسيقى والرياضة والعلوم المختلفة والتي لا تعرف الفروق الجنسية أو المذهبية .
وإذ تقوم الفكرة الأساسية على هذه المقولة فإنها تترابط مع الفلسفة المثالية الموضوعية في تقسيم القدرات البشرية ، فتكوين المدينة الإنتاجي السياسي خاضع لذلك التصور المثالي ، بكون القدرات العقلية المتميزة هي في وضع قيادي بشري .
وكل فقرات الكتاب تنصب لتجسيد هذا المبدأ والتدليل عليه .
[والإنسان إنما يبغي من خلال العلوم النظرية أن يقدم المشورة للآخرين . ولا يوجد هناك فرق بينها وبين الصناعات العملية سوى أن هذه الأخيرة هي بمثابة خادمة لها لكي تدرك الأولى غايتها القصوى ، ولذلك فهي تنقاد لها ] ، ( 33 ) .
وكذلك :
[لقد تبين إذن أن حكم الموجود المعقول على الأفعال الإرادية إنما يقوم بتدبير المعقول للمحسوس وفي إعطاء الموجودات بالإرادة المبادئ التي تعتمد عليها في وجودها ] ، ( 34 ) .
إن التراتبية الشهوية الانفعالية العقلية التي تتمظهر في الوجود البشري الفردي المتباين بين النماذج ، تتحول إلى نمط للحكم وصياغة المصير الاجتماعي التاريخي . حيث أن هذه التراتبية تعكس قوى انفعالية فكرية متباينة، فكلما قلت القوى الشهوية والانفعالية وزادت القوى العقلية النظرية كلما كان هذا نموذجياً ، ويؤدي بالإنسان إلى الرقي ، وتتوجه المعادلة إلى أقصى غاياتها بتفضيل نموذج العقل المتأمل الزاهد ، وليس بخلق تركيبة من رغبات الجسد وتطورات العقل ، بين التفاعل مع الجمهور وتطوير الفلسفة ، فتلك الثنائية المتضادة الكلية تتمظهر هنا كذلك .
علينا هنا أن نرى في ذلك تقييماً مهماً غائراً للفئات الوسطى ، وهي الفئات التي يتركز فيها الإنتاج العقلي ، غير أن الفيلسوفين يهملان جذورها ، أي أن فئات التجار والموظفين والحرفيين الميسورين هي التي يظهر من بين أبنائها صناع الثقافة ، فيعملان على تدمير تلك الجذور !
لكن التضاد الكلي المطلق بين العقل والجسد ، بين الفلاسفة والمنتجين ، بين الفكر والمادة ، بين الثقافة والإنتاج ، لا يعثر على حله ، فالفلاسفة لا يقيمون علاقات مع المنتجين والناس ، الذين هم خارج الفكر ، والناس لا يقيمون علاقات مع الفلاسفة الذين هم خارج العمل والإنتاج .
فكيف تتشكل المدينة التي ينفي رأسها يديها؟ وكيف يستطيع الحكام الفلاسفة تطوير الإنتاج وهم على رأس الحكم ؟
إن إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وللحياة الشخصية وللتناسل ، يترتب عليه إلغاء بيع السلع والنقود ، وفئات التجار والمالكين الحرفيين ، وبالتالي يغدو ذلك حلاً نظرياً لإشكاليات الدخول في تحليل الحياة المادية والعلاقة بالمنتجين . ويغدو مصادرة جاهزة من قبل العقل النظري التأملي ، المنقطع عن العلاقة بالإنتاج والعاملين ، لمجمل الإشكاليات التي يثيرها أسلوب الإنتاج .
أي أن أبناء الفئات الوسطى يدمرون هنا جذورهم وينسفون طبقتهم بدلاً من تصعيد دورها .
إن كون أعلى مراتب الفلسفة هو القسم النظري ، وهو القيادة السياسية لعملية التحول المتخيلة هنا ، هو ذاته مصدر الرؤية ، فموقعه موقع تأملي ، ويتطلع إلى العملية التاريخية من خلال مفردات نظرته التي تقوم بخلق التضادات المطلقة بين الأشياء والظاهرات ، فهي لا تستطيع أن تركب جدلياً بين الفلسفة والإنتاج ، مثلما قامت بخلق تضادات كلية مماثلة بين الطبيعة وما بعد الطبيعة ، بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل ، بين العلة الفاعلة والعلة الصورية الخ ..
ولهذا فإن مصدر وعي الفلاسفة المتصدين لحكم المدينة ، ليس كشف العمليات التاريخية وتضادات الإنتاج ، بل هو مصدر ذاتي وعلوي ، ويدخل هذا المصدر في مساحة ضبابية شديدة بسبب مفارقته المفاجئة وعدم تجسيدها ، يقول ابن رشد حول هذه الإرادة التي تقوم بمشروع تغيير وقيادة المدينة :
[فإن الإرادة لها ارتباط بوجود العلاقة التي من خلالها يكون العقل الفعال بمثابة الكمال لنا] ، ويضيف في موقع تالٍ :
[إن هؤلاء الذين يرون أن العلوم النظرية ليست خالدة ، وأن الكمال الأقصى إنما يتم بالإدراك العياني للعقول المفارقة ، يكون الكمال بالنسبة لهؤلاء على قسمين : كمال أول وكمال أخير . الأول إنما يكتسبه بنفسه ، والثاني مما يكتسبه بواسطة ( العقل الفعال ) ..] ، ( 35 ) .
هكذا لا يعود بإمكان الفلاسفة إقامة علاقة تاريخية لصياغة المشروع ، فعبر انقطاعهم عن العلاقة بالإنتاج المادي ، يوجدون مصدراً مفارقاً غيبياً هو العقل الفعال ، الذي يغدو شكلاً غير تاريخي للمعرفة ، بمعنى أنه لا يتضمن الاعتماد على قوى بشرية حقيقية في التاريخ العياني ، من فئات وسطى ومنتجين وقبائل الخ ..، كذلك لا يغدو مصدراً حقيقياً للمعرفة عبر التجريب والممارسة الفعلية ، فيتحول المشروع إلى تأمل نظري وليس إلى مشروع حقيقي .
8
المدينة الفاضلة والمدن الضالة
في التصور الأفلاطوني – الرشدي يتم قطع علاقات السيرورة التاريخية العامة للمدينة الفاضلة والمدن السيئة ، فهي تظهر كتكوينات منتجة من قبل القوى الشهوية واللذية والفكرية التأملية ، فهذه القوى النفسية هي التي تصنع تكوينات المدن ، ومن هنا يحلل أفلاطون شخصية الحاكم الذي يتجسد في كل مدينة ونوازعه النفسية والأخلاقية باعتبارها هي التي جسدت هذا النمط من المدينة .
وللمدينة المستقلة التي تحكمها قوى سياسية واجتماعية جذور في بلاد الإغريق ، فهي ليست تكوينات خيالية محضة ، فقد كان نمو التاريخ اليوناني يعتمد على تشكل المدن وصراعاتها . لكن أفلاطون قام بتجريد هذه المدن من سيرورتها وربطها بالنوازع النفسية والفكرية .
لكنه حدد أربعة أنماط هي : تيماركية ، أوليغاركية ، ديمقراطية ، استبداد (راجع الهامش في المصدر السابق ، ص 176 ) .
وفي هذا التحديد الأفلاطوني تتمثل سيرورة حقيقية للمدن اليونانية ، حيث تهيمن بدايةً مدنُ ملاك الأرض الأغنياء ، التي تتحول في مخاض معقد إلى مدن تحكمها القلة الغنية ، ومن ثم يظهر الشكل الديمقراطي في بعض المدن حيث يصعد دور الفئات الوسطى ، مثلما يوجد النمط الاستبدادي متغلغلاً في الكثير من المدن .
إن أفلاطون لا يرى هذا تطوراً بقدر ما يرى مدى تباعد هذه السيرورة التاريخية عن النموذج المثالي لديه ، فهو لا يقرأ المسار الموضوعي للتطور بل يحاكم التغيرات من خلال مثاله المطلق ، وهو المثال الذي عرضنا بعض ملامحه سابقاً .
وهذه النماذج يقابلها عند ابن رشد ، أو ترجمته لتلك المدن بالترتيب التالي :
1 – المدينة القائمة على المجد والشرف 2 – مدينة حكم القلة . 3 – الحكم الجماعي 4 – الاستبداد .
وإذا كان النموذج المثالي لدى أفلاطون غير موجود في التاريخ العياني ، فإنه موجود لدى ابن رشد في الفترة الإسلامية الأولى ، متمثلاً في حكم النبوة والخلافة الراشدة ، ولا يحدد ابن رشد اجتماعياً أسباب ذلك ، لكننا نلمحها حين يلتفت إلى حكم المرابطين في شمال أفريقيا والأندلس ، محدداً إياها في التماثل مع النص الديني ، وهو أمر يشير إلى تطابق الحكم الرعوي في بدايته مع القبلية الجماهيرية الواسعة . أي كون القادة القبليين يقيمون علاقة مباشرة مع الجمهور وتوزع الخيرات بشكل واسع عليه .
وهذا يتطابق مع الفترة النبوية والراشدية ، ثم يختم ابن رشد هذه الفترة بحكم معاوية ، الذي يظهر لديه وكأنه حكم منقطع عن السيرورة السابقة ، حيث تبدأ فترة [ المدينة القائمة على المجد والشرف ] وعلينا أن نفسر هذه الألقاب بأنها تعني حكم النبالة ، حكم الملوك .
وهو يقيم كأفلاطون الزمن السياسي على حسب القيم الأخلاقية المجردة ، لكن الشرف هنا سيتحدد اجتماعياً بعد ذلك :
[إن نوع الرجال الذين سيحكمون مثل هذه المدن بخصال الشرف والحسب سوف يقترن حكمهم بكل شيءٍ ذي يسار ، وإن أولئك الذين من بينهم وممن شرفهم لا يمكنهم من أن يكونوا أحراراً بإطلاق ، سوف يحكمون كل ما هو جزئي ، وبذلك فهم سادة من جانب وعبيد من جانب آخر ] ، (36 ) .
إن مدينة القلة ومدينة الحكم الجماعي ستكونا لدى ابن رشد نتاجين لتفسخ الفترة الذهبية السابقة ، سواء كانت الفترة النبوية الراشدية ، أو الفترة الأولى النضالية أو الجماعية أو المتوافقة مع الشرع ، التي تقوم بها الجماعة القبلية الجديدة وهي تحكم بتدفق اجتماعي غيبي ، غير محدد علمياً أو برهانياً .
تظهر التحولات التاريخية العربية الإسلامية لدى ابن رشد في الفقرة التالية :
[وإنك لتدرك ما يقوله أفلاطون عن كيفية تحول الحكم الفاضل إلى حكم المجد والشرف ، وتحول الرجل الفاضل إلى رجل المجد والشرف ، وهو أمر يشبه ما حدث للعرب في أول عهدهم حيث اعتادوا على النزوع إلى الحكم الفاضل ، حتى جاء معاوية فتحول حكمهم إلى حكم قائم على المجد والشرف ، وهو ما يشبه الحكم القائم الآن في جزيرتنا ] ، ( 37 ) .
إن التاريخ يتمظهر لدى ابن رشد عبر النماذج الفردية الصانعة له ، مسايراً أفلاطون في ذلك ، فنظراً لوجود الرجال الفضلاء فإن فترة زاهرة عادلة ستتواجد ، وهو أمر يغيب الشروط الموضوعية والذاتية لتكون الرجال الفضلاء والتغيير الإيجابي ، وهو ما يربطه بصفات نفسية غير معروفة المصدر إن لم تكن بعوامل غيبية محضة ، فيصير التاريخ خارج البنى الاجتماعية .
وكما أن الرجل الفاضل هو صانع الزمن العادل ، فإن الرجل الفاسد ينبثق من زمن [دولة المجد والشرف] مشكلاً مدينة اللذة والمال .
[وبالجملة ، فإن تحول رجل المجد والشرف إلى رجل طالب للذات يبدو أمراً واضحاً ، عندما يجد المتعة في المال وغيره من اللذات الأخرى الباقية ] ، [ ولهذا فنحن نرى أن الملوك يصبحون فاسدين ويتحولون إلى أمثال هؤلاء الرجال . ] ، ( 38 ) .
إن وجود المتعة والمال أمورٌ موجودة في زمن الرجال الفضلاء وحكمهم ، فلماذا لم تنقلب أحوالهم إلى أضدادها ؟ كما أن ثمة رجال فضلاء في زمن دول المال والمتعة فلماذا لم يستطيعوا تحويلها إلى النموذج السابق ؟
إن ثمة شروطاً أخرى هي التي تجعل زمناً ما قادراً على إيجاد تقسيم عادل للثروة ، ولكن أفلاطون – ابن رشد يتوقف تحليلهما عند القوى الذاتية المتعددة في الأفراد مصدر الفعل التاريخي .
ويقوم ابن رشد باستكمال دورة المدن مطبقاً إياها هذه المرة على تاريخه المناطقي :
[ويشبه هذا في زماننا المملكة المعروفة بالمرابطين ، حيث أنهم في عهد ملكهم كان دستورهم قائماً على الشرع ، لكنهم فيما بعد تبدلوا في عهد ابنه إلى دستور المجد والشرف وقد مازجته الرغبة في المال . وحدث مع مجيء الحفيد أن تحولوا إلى دستور قائم على اللذة وما يتعلق بها من الأشياء اللذية والترف ، فتفسخ حكمهم وهلكوا . ويعود أمر هلاك ملكهم إلى قيام دستور معارض لهم في زمانهم ، وهو دستور قائم على الشرع . ] ، ( 39 ) .
إذن وجود الصلاح يتطابق مع تنفيذ الشرع حسب المذهب المالكي ذي الجذور الصحراوية المدنية ، لكن التغيير من داخل تغير شخص الحاكم وليس لكون انتقال القوة القبائلية إلى السيطرة على السلطة والثروة وتفسخ قواعدها الاجتماعية القبلية ، نظراً لتلك الهيمنة على الموارد ، وبالتالي فإن التشدد في الأحكام الشرعية كان بغرض منع هذا التفسخ الاجتماعي القبلي ، وإضعاف نمو الفئات الوسطى الحرة الخ..
إن منهجية ابن رشد تقوده إلى الوقوف على سطوح الظاهرات العامة الاجتماعية / السياسية ، لكنه يسدد ضربات نقدية عنيفة للتفكير القدري والغيبي المطلقين ، وللاستبداد مقترباً من قراءة عميقة لهذه الظاهرات الصعبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية من الجزء الثالث
مصادر :
( 1 ) : ( فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ، دار المشرق ، بيروت ط 5 ، ص 41 ) .
( 2 ) : ( المصدر السابق ، نفس الصفحة) .
( 3 ) : ( من تعليقات المقدم البير نصري نادر في الكتاب السابق ، ص 59 ) .
( 4 ) : ( السابق ، نفس الصفحة ) .
( 5 ) : ( السابق ، ص 41 ) .
( 6 ) : ( نفس المصدر ، ص 42 ) .
( 7 م ) ( فصل المقال ، الطبعة السابقة ، ص 28 ، ويقوم المقدم بوضع الآية كاملة في الهامش ).
( 8 ) : ( السابق ، ص 29 ) .
( 9 ) ( السابق ، ص 55 ) .
( 10 ) : ( نظرية ابن رشد في النفس والعقل ، محمود فهمي زيدان ، من كتاب الفيلسوف ابن رشد مفكراً عربياً ، كتاب تذكاري من إصدار المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1993 ، ص 41 ).
( 11 ) : ( نفس المصدر ، نفس الصفحة . ) .
( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 41 ) .
( 13 ) : ( المصدر السابق ، 45 ) .
( 14 ) : ( المصدر السابق ، ص 46 ) .
( 15 ) : ( إذا تؤمل كيف حصول المعقولات لنا وبخاصة المعقولات التي تلتئم منها المقدمات التجريبية ظهر أننا مضطرون في حصولها لنا إلى أن نحس أولاً ، ثم نتخيل ، وحينئذٍ يمكننا أخذ الكلي ولذا فمن فاتته حاسةٌ ما فاته معقول ما … بل يحتاج ” الإنسان مع قوتي الحس والتخيل ) إلى قوة الحفظ وتكرار ذلك الإحساس مرة بعد مرة حتى ينقدح لنا الكلي ” ، السابق نفسه ، ص 43 ) .
( 16 ) : ( مأخوذ من دراسة [مشكلة الحرية في فلسفة ابن رشد] ، بقلم زينب عفيفي شاكر ، في نفس الكتاب التذكاري عن ابن رشد السابق ، ص 251 ) .
( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 252 والنص مأخوذ من مناهج الأدلة ، ص 226 ) .
( 18 ) : (مناهج الأدلة ص 224 ، نقلاً عن المصدر السابق ، ص 248 ) .
( 19 ) : ( العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد ، د . حسن مجيد العبيدي ، دار الطليعة ، بيروت ، ط 1 ، 1995 ، ص 16 ) .
( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 17 ) .
( 21 ) : ( السابق ، ص 18 ) .
( 22 ) : ( السابق ، ص 18 ، 19 ) .
( 23 ) : (السابق ، ص 24 ) .
( 24 ) : ( السابق ، ص 24 ).
( 25 ) : ( إن صورة الإله في مرحلة الإسلام التأسيسي (الثوري ) هي صورة ديمقراطية حيث تتفاعل صورة الإله كالحاضر الفاعل في العملية التاريخية، فهي جنباً لجنب مع الناس البسطاء في تغييرهم الوجود السلبي المتخلف ، لكن مع استيلاء قوى الأشراف البدوية على الدولة والفضاء الفكري فهي تعيد تشكيل هذه الصورة باتجاه عزلتها في السماء وحياديتها تجاه الناس وتجاه قضايا التغيير الاجتماعية ، ومن هنا يقوم ممثلو الفلسفات الإمامية الأكثر قرباً من الجمهور الزراعي المشرقي ، باستعادة صور الإله الفيضية المتعددة المستوحاة من المسيحية ، لكن ابن رشد ليس وريث معارك المشرق الخاصة، بل هو نتاج للتطور العقلي المجرد للفلسفة الإسلامية في ظروف مغاربية. ).
( 26 ): ( السابق ، ص30 ، 31 ) .
( 27 ) : ( السابق ، ص 32 ) .
( 28 ) : ( السابق ، ص 37 ) .
( 29 ) : ( السابق ، ص 63 ) .
( 30 ) : ( كانت كافة مشروعات النهضة الفكرية في المشرق والمغرب تعتمد على وجود ملك متنور ، تبلغ فيها الفئات الوسطى أقصى لحظات تطورها ، ويلوح فيها أفق حداثة ، بسبب ضخامة البناء الثقافي المتنور والعقلي ، وهو الذي يجعل بعض الملوك والفلاسفة منساقين إلى الاعتقاد بقدرة هذا البناء الثقافي على حل كافة المعضلات وتحقيق نهضة ، حدث ذلك في أيام كسرى الفارسي ، والمأمون العباسي ، والخليفة الراهن لابن رشد وهو أبو يعقوب يوسف عبد المؤمن . ) .
( 31 ) : (تلخيص السياسة ، ابن رشد ، ط1 ، دار الطليعة ، 1998 ، ص 68 ) .
( 32 ) : ( المصدر السابق ، ص 160 ) .
( 33 ) : ( السابق ، ص 156 ) .
( 34 ) : ( السابق ، ص 157 ) .
( 35 ) : ( السابق ، ص 162 ، 163 ) .
( 36 ) : ( المصدر السابق ، ص 180 ) .
( 37 ) : ( السابق ، ص 198 ) .
( 38 ) : ( السابق ، ص 202 ) .

تعقيب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كاتب وروائي