
فئات متوسطة أم طبقة؟
عالج العديد من المفكرين والباحثين مسائل التطور العربية التاريخية من بؤرة مركزية غربية، فأطلقوا مصطلح طبقة البرجوازية على الفئات المتوسطة العربية، في حين ان السياق التاريخي والجذور الاقتصادية مختلفة بين هذين التكوينين.
فمهدي عامل المفكر اللبناني الراحل يقول: «برجوازيات عربية» في كتابه «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟»، واصبح مصطلح الطبقة البرجوازية شائعاً لضعف التحليل للمسار العربي الأسلامي، وسهولة نقل المصطلحات الأجنبية على أرض فكرية بكر.
وقد رأينا على مدار دراسات عديدة في هذه الزاوية وغيرها، أن التاريخ العربي الأسلامي لم يشهد طبقة برجوازية، بل شهد فئات برجوازية أو متوسطة، ولم تستطع هذه الفئات أن تتكون كطبقة.
فهي فئات متناثرة غير متبلورة في نسيج اقتصادي قوي، تابعة لقطاعات الدولة، سواء في فئاتها الصغيرة العليا، أم فئاتها المتوسطة، التي غالباً ما تكون تجارية أو إدارية، وكلا الجانبين: الأدارة والتجارة يعيشان بفضل كيس الدولة، ومن هنا كانت مفردات التحديث والاستقلال الفكرية وجوانب الحياة الاجتماعية التحررية محدودة، وصغيرة، وإذا تنامت فإن عصا الدولة كفيلة بإعادتها إلى الحظيرة الإقطاعية. ومن هنا كانت تتعكز كذلك على الفئات المتوسطة العربية من الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية التي كانت لها جوانب اجتماعية أقرب إلى البرجزة من المسلمين.
وفي العصر الحديث لم يختلف الأمر، فالفئات البرجوازية العربية لا تستطيع أن تكون طبقة، فهي فئات متوزعة على التبعية لأوجه الأقطاع المختلفة، بل وصل ذلك إلى تبعية فئة المثقفين برؤاها (الحديثة) للإقطاعين السياسي أو الديني.
إن عدم تشكل رأسمال صناعي خاص قوي في كل بلد عربي على حدة، يقوم بتجميع ولملمة الفئات الوسطى حوله، وبالتالي يقوم بقيادة السوق المحلية، وتغيير البنية الاجتماعية الموروثة، هو الذي لعب دوره في هذا الفراغ التاريخي، وغياب عمليات الانتقال من التشكيلة التقليدية إلى التشكيلة الحديثة.
إن تكون رأسمال صناعي خاص وترافقه مع عمليات ثقافية نهضوية وتحديثية وبالتالي إعادة النظر العميقة في الموروث الدينى التقليدي وتحريره من هيمنة الأقطاعين السياسي والديني، هذا سيجعل الفئات المتوسطة المشتتة الولاء والمبعثرة اجتماعياً وثقافياً تتبلور في تكوين فكري متقارب، يعيد تغيير الحياة الاجتماعية الأسرية والعادات وأنماط الزواج والعلاقات وطرق التفكير..
كان يمكن للرأسمال الخاص المتجذر في البنية الاجتماعية العربية الإسلامية المسيحية أن يشكلها في ضوء العلاقة بالتراث والعصر، أي أن لا تكون ثقافة تابعة أو متخلفة، على السواء، وبالتالي تتشكل لها صلابتها الخاصة في النمو.
إن غياب دور رأس المال العربي الإسلامي المسيحي الخاص في إعادة تصنيع البنية الاجتماعية اقتصادياً وثقافياً، هو نتاج إرث طويل عبر التصاق تكوينه بالقطاع العام، الاستبدادي العريق، ولهذا فإنه في الوقت المعاصر وفي الطريق نحو التصنيع والديمقراطية وإنتاج الحداثة العربية، لا بد من رؤية الفئات المتوسطة كفئات لم تتبلور كطبقة، يفصل بين دورها التاريخي المنتظر في إعادة التشكيل الحديث للمجتمعات العربية، وواقعها الراهن ليس فقط اللبس في المصطلحات، وهذه قضية ثانوية، ولكن اللبس في الدور التاريخي.
إن تحرير القطاعات العامة من الهيمنة السياسية البيروقراطية المستغلة، وإنتاج ثقافة الحداثة، والعمل لتطور أوضاع الجمهور العامل، وتطوير الصناعة والعلوم، إن كل هذه مهمات تترافق وتتعاضد وتتقاطع أحياناً، من أجل تكون مجتمعات عربية غير تقليدية.
تذبذب الفئات الوسطى
تغدو الفئات الوسطى العربية باستمرار هي محط التغير في الحياة السياسية، فهي القادرة دائماً على تغيير المسارين السياسي والاجتماعى، عبر الاتصال والتأثير في القوى العاملة.
لكن الفئات الوسطى، في أغلب البلدان العربية تعاني من أزمة مستفحلة، تبدأ فى المظاهر الفكرية المختلفة، فهناك توجه حاد إما إلى الماضي والتراث وإما إلى الثقافة الغربية، وبهذا يمكن أن نرى في العائلة الواحدة أو في مظاهر الحياة اليومية، أكبر مظاهر التبرج أو أكبر مظاهر التستر.
وتفهم الفئات الوسطى الحداثة أو الدين، باعتبارهما مجموعة من المظاهر واللباس، فتستطيع أن تكون حداثياً عبر الملابس والأكسسوارات وبعض مظاهر الموضة.
في حين أن الماضوي أو الماضوية يعتبر الرجوع إلى الدين والتراث بمجموعة أخرى من الملابس. والأصرار على المظهرية كطريق لتطوير الأمة وتحريرها، شكل من أشكال العصاب النفسي والشلل الفكري.
إن الإصرار على المظهرية والتغلغل الواسع فيها يعطي لمريد الغرب أو التراث راحة نفسية بأنه قام بواجبه واستطاع أن يتوازن، في حين أن هذه المظاهر الشكلية هي محاولات للهروب من الأسئلة الحقيقية للحياة والوعى.
ولهذا نجد بعض مثقفي الأنظمة يعتبر أن بعض الأشكال الهندسية فى العمران المستوحاة من التراث هي رد على التغريب، وكأن بعض مظاهر الأبنية يمكن أن تكون بديلاً عن غياب بناء وطني قومي وإنساني متكامل، يتشكل من مؤسسات اقتصادية وعمرانية وتعليمية وطنية قومية.
ولهذا نجد أن المؤسسات الاقتصادية لهذه الفئات الوسطى مليئة بالقوى العاملة الأجنبية، وخالية من أي انتماء إلى الوطن والعروبة!
يتوهم الشكليون من الفئات الوسطى أنهم عبر بعض المظاهر المقطوعة السياق، يحققون الانتماء العميق للتراث وللفضيلة، ويكفي قطعة لباس تُسدل على الوجه لتجعل الرجوع للدين حقيقة قوية، وليس بالقراءات العميقة للتراث واكتشاف آثار ونتاجات العرب والمسلمين في العلوم الاجتماعية والطبيعية وبناء الصناعات والمدن .
وفى الجانب الآخر فإن الحداثة عند جماعات وسطى أخرى هي في استيراد آخر الأشرطة للمغنين والسينمائيين ولملابسهم ورقصاتهم وأدوات مكياجهم وإكسسواراتهم.
وتتشكل من هذه التضادات أسواق ومصالح، ويقوم المستوردون سواء من التراث أو من الغرب، بإنشاء الدكاكين الملحقة بهذه العمليات الاستيرادية، فتتجاور محلات تصرخ بالأدعية وأخرى تصرخ بأغاني الديسكو، وتتخصص محلات في كتب وترفض كلياً كتباً من نوع آخر، وتتجاور جمعيات إحداها تعيش فى القرن الخامس الهجري وأخرى في القرن الحادي والعشرين، دون أن يسلم أعضاء الجمعيتين على بعضهم بعضا.
إن اعتماد المظاهر الشكلية الخارجية يقود إلى غياب مضمون التراث والعصر معاً، والنظرة الجانبية الوحيدة أسهل من التبصر الواسع، والجمع بين الماضي والحاضر، يتطلب فهم الماضي والحاضر بقوة واتساع.
إن الفئات الوسطى تتركز فيها هذه التناقضات لأنها متذبذبة حضارياً، واقتصادياً، فلديها إمكانيات مالية وثقافية، وتتطلع للوصول إلى مكانة أكبر، غير أن الظروف الاقتصادية الصعبة تطحنها، فتبحث عن حلول لأزماتها في الاستيراد الفكري المظهري.
جذور تناقضات الوسطيين
كما تتناقض آراء فئات وأفراد الفئات الوسطى في الجوانب الحياتية كذلك فإنها تتضاد فى الوعى السياسى. الوعى السياسي هو قمة الوعى المفترض لدى الإنسان، أي حين يجعل من مصالحة الاقتصادية والاجتماعية هدفاً مفهوماً وواضحاً ويقوم بتحقيقه عبر المشاركة في الحياة العامة.
إن أغلبية التيارات السياسية هي من صنع الفئات الوسطى، فهذه هى القوى النشيطة فكرياً واجتماعياً، وهي التي تتحرك في التأثير في القوى الأخرى، سواء كانت في الأعلى أم في الأسفل.
ومع ذلك فإن هذه الحركية الحادة لا تنتج ثمراً مهماً، بسبب الخيارات الفكرية المتباعدة كثيراً. فهنا أقصى المحافظة الدينية وأقصى اليسار. أقصى درجات التمسك الحرفي بالتراث وأقصى درجات رفضه وإعدامه شكلياً.
المحافظ الديني غارق في النصوص الدينية، ويرى العالم من خلالها، وأي شعرة من الخروج عليها هي كارثة تلحق بالناس والعباد، وهو لم يأخذ الإسلام كحركة تغيير اجتماعية كبرى لبشر عاشوا فى ظروف متخلفة وصعبة، لم يأخذ ان الإسلام استطاع أن يشكل جبهة سياسية من أقصى اليمين، من معاوية والزبير وبقية أصحاب الملايين، وحتى المعدمين كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري.
إن تشكيل مثل هذه الجبهة السياسية العريضة كان بهدف انتقال حضاري ضخم، وللأسف فإن الأزمنة التالية لم تعرف صندوق الانتخاب بين اليمين واليسار الإسلاميين، بل عرفت التخاصم والحروب.
وإذا كان ثمة كلمة ترددت بكثرة لدى المسلمين فهي الوحدة، ومع ذلك فإن العمل السياسي كان يركز على الاختلاف والتنابذ، ولهذا فإن المحافظ الديني المعاصر يكرر شعيرات الاختلاف، ويعجز أن يكون سياسياً بارعاً حديثاً، وبالتالي يخرق ويتجاهل المضمون الأساسي في الإسلام وهو الوحدة.
وهذا ما يفعله اليساري المتطرف وبشكل معاكس، عبر عدم رؤيته للمضامين المتوارية في التيارات المعبرة عن فئات وسطى تبحث عن التقدم والتكامل في حياتها الاقتصادية والثقافية، ولهذا فهو اما أن ينجر وراء الجماعات الدينية، عاجزاً عن تطوير وعيها، وكشف المضامين المتوارية للدين ولمشكلاتها المعاصرة، واما أن يرفضها كليةً، وفي الحالين يعجز عن تشكيل وحدة للناس.
إن تفكيك علاقات الفئات الوسطى بالشمولية، سواء كانت فهماً سلبياً للماضى، أو تبعية للدول الشمولية المختلفة، سيقودنا إلى بلورة وحدتها على أسس فكرية واجتماعية جديدة، بحيث لا تُؤسر فى نموذج ميت، وفي عقد فكرية، تضيع فرصها في النضال المعاصر وتوحيد القوى الوسطى والناس والأمة.
إنه من دون الوحدة وتجميع الصفوف على أسس مواقف عقلانية وديمقراطية للماضي والحاضر، فإن القوى الخارجية والاستغلالية سوف تبلع الجميع.
كانت فترات الوحدة للفئات الوسطى المتعاونة مع الناس هي فترات النهوض فى تاريخ الأمة، بدءاً من الثورة الإسلامية التأسيسية التى جمعت الزبير بن العوام وأبا ذر الغفاري، إلى تحالف المعتزلة والزيدية الذي أطاح بالدولة الأموية، إلى عصر النهضة الحديثة الذي جمع الأفندية والفلاحين في تحرير الأوطان.
الفئات الوسطى والانتهازية
تعجز الفئات الوسطى الوطنية والعربية عن إنتاج رؤية فكرية وسياسة حديثة مستقلة، فهي دائماً مترددة ومتنقلة بين المعسكرات الاجتماعية القوية في أي مرحلة سياسية أو تاريخية.
إن عدم تكوين رؤية ووحدة بين فئاتها، يعود لغياب ثقلها الصناعي والمالي والعلمي المترابط، ولهذا فإن فئاتها تقوم بالتنقل السياسي والفكري المضطرب بين المعسكرات ذات الثقل والجاذبية المالية والسياسية.
وفي كل بلد عربي أو إسلامي ثمة تضاريس متباينة لهذا التقلقل، حسب درجات التطور الاجتماعي والتاريخي لكل بلد، ولحظته السياسية الخاصة.
في البلدان الخارجة تواً من الأوضاع الشمولية فإن اضطراب هذه الفئات يكون شديداً، ومحاولتها للقفز واختصار المرحلة، يكون كبيراً، بخلاف البلدان التي حققت تطوراً ديمقراطياً نسبياً، والتي نرى فيها تكون الجبهات الديمقراطية وخوضها الانتخابات بقوائم موحدة.
وعموماً تقوم سياسات الفئات الوسطى على الانتهازية، فأما أنها تكون مع الدولة المحافظة، بحجة أنها أفضل من الدينيين لأنها حديثة وتمثل التطور، أو تكون مع الدينيين بحجة أنهم يمثلون الشعب.
وغالباً ما تُساق هذه الحجج بسبب المصالح المتداخلة بين هذه الفئات والأطراف السياسية القوية.رغم إن الدول المحافظة والدينيين يمثلان القوى التقليدية، الماقبل رأسمالية، إلا أن الفئات الوسطى بأفرادها ومثقفيها ورموزها تتقلقل بين الجهتين.
قد تؤدي الوظائف أو الارتباط الاقتصادي أو التجاري أو الفوائد الشخصية، من ( فلسفة ) هذه الانتهازية ووضعها في صيغ أخلاقية براقة. وقد وجد بعض الدينيين في الركون للدولة والتبعية لها، مهما كانت سياستها فاسدة، حججاً استقوها أو زوروها من الدين، حيث يقولون إن المرء لا يجب أن يبات دون دولة أو أمام.
وقد كان هذا المبدأ الانتهازي راية عتيقة، حكمت قطاعات من الفئات الوسطى، التي جعلت العيش في مخازن وغنائم الدولة وفتاتها الطريق الوحيد للعيش والصعود.ولون هذا الملالي والتجار والموظفين، وملأ أفواه الشعراء المداحين والمنجمين والمنافقين على مر التاريخ.
وبدلاً من حجج الدينيين التقليديين فإن القوى (الحديثة) لديها مبررات في هذه التبعية التاريخية، وأصبحت تجري وراء القطار ( الميري) الحكومي، وإذا فاتها تمرغت في ترابه وكوارثه أحياناً.
ولعل شيئاً من الخصخصة مفيد هنا لتحرير هذه الفئات من التبعية للقطاع العام، الخاص في جوهر الأمر، في العديد من الأحيان. كذلك فإن تقليص الموظفين والأعداد الهائلة من الموظفين العموميين ستكون على جدول أعمال التاريخ القادم شاءت أم أبت الحكومات العربية المسترخية في ظل هذا التضخم الوظيفي الذي تحوله إلى خضوع سياسي.
عن تضخم المدن وتضخم الأجهزة الوظيفية جزء من هذه الانتهازية التابعة للدولة، حيث يعيش الموظفون والتجار على فتات الدولة، وهو أمر يجري بخلاف تضخم المدن في الدول الرأسمالية، حيث يقوم هذا الأخير على نمو الإنتاج وليس على اساس سرقته كما هو الحال في الدول ما قبل الرأسمالية.
كما أن الفئات الوسطى تعيش على فتات الدولة الاقتصادي فهى تدور فى فلكها الفكرى، ولهذا فمفاهيم الحرية والعلمانية والديمقراطة السياسية لا تنمو لدى هذه الفئات خلال تبعيتها للدولة، فهى تغدو دينية وتابعة وغير قادرة على إنتاج الوعى السياسى المتحرر، بعكس الفئات الوسطى الاوروبية التى نمت من خلال قدرتها الاقتصادية خارج هيمنة الدولة. وهى غالباً ما تأخذ جوانب معزولة من مسائل الحرية السياسية، كالحداثة فى الحياة وبعض القيم الليبرالية المفصولة عن الحرية الشاملة، فى حين نراها تذل نفسها فى خدمة الدولة، فهى حداثية من الخارج، اقطاعية فى الجوهر. ويمكن أن نرى تأثير ذلك فى الإنتاجين الفكرى والفنى اللذين يصدران عن هذه الفئات، حيث يغدوان حداثة شكلانية، ويتوجه الوعى السياسى نحو التيارات الدكتاتورية، بحكم تربيتها السياسية الخاضعة والذليلة.
وفى جانب الفئات الوسطى التابعة للدينيين أو للاقطاع فى قسمه المذهبى، فإنها ترفض التحديث بدعوى الحفاظ على الأصالة والقيم، وخاصة سمات الديمقراطمة والعلمانية المترابطة، لأنها تقوم بتقطيع صلاتها وشبكة الأقطاع الدينى.
إن فئات الموظفين والتجار والمثقفين وجدت فى الصلات المذهبية وحذورها فى الحياة طريقاً للسيطرة على الفقراء، دون إعطاء الفقراء هويتهم الفكرية والاجتماعية المستقلة، وعبر ضباب الوعى الدينى التقليدى يمكن تضييع استقلالية الطبقات العاملة الحديثة.
ومن هنا تغدو الفئات الوسطى التابعة للاقطاع المذهبي غير قادرة على إنتاج المفاهيم الحديثة فى الإسلام، أي على تجاوز إرث السيطرة الاقطاعية الطويل فى التاريخ العربي، حدث كانت فئات وسطى سابقة تمارس ذات التبعية فى الماضى للاقطاع. فيجري تداول مفاهيم قديمة تواصل منع تكون المنظومة الحديثة.
وإذا أضفنا ان تقسيمات الفئات الوسطى ليست فقط للدولة أو للدينيين، بل لتيارات الدولة، إذا كانت منتحة لتيارات الإصلاح والجمود والمحافظة، وكذلك الدينيين حسىب مذاهبهم، ودرحات فهمهم للدين، أي على مستويات تحررهم من التقليد المحافظ.
وكذلك أيضا فإن الانقسامات تتواصل فى التيارات التى تحاول أن تعبر عن الطبقات العاملة، وهى كلها ابنة الفئات الوسطى، وتعبر عنها بدرجات وتتداخل مع القوى الاقطاعية الدينية بدرجات وأشكال معقدة.
إن هذا التضخم فى تيارات الفئات الوسطى وكثرة تلاوينها وخلافاتها، الناتجة من خيوط مصالحها الضيقة، يوضح كم هى مهمات طويلة وثقيلة عملية إنتاج وعي ديمقراطى في هكذا فئات.
وليست فكرة تحاوز المرحلة الرأسمالية لدى بعض التيارات اليسارية سوى شكل من أشكال هذه الانتهازية، حيث عبرها ترفض الأجابة عن سؤال المرحلة بضرورة نقد وتجاوز الأقطاع، فتقوم بالهروب إلى الأمام، مخفية صلتها بهذا بالقوى الإقطاعية/ المذهبية وتداخلاتها معها.
تتجلى انتهازية الفئات الوسطى سياسياً عبر رفض تداول وتطبيق المفردات والشعارات المرفوعة الحديثة، خاصة شعار العلمانية، فهذا الشعار يفكك صلتها بالإقطاعين السياسي والمذهبي، فمع رفعه يجب أن تطرح مختلف المفاهيم الخاصة به، وبالتالي تقوم بإنتاج وعي حديث حقيقي، فتصطدم بالقوى المهيمنة، والتى تستفيد منها، وهى لا تقدر على ذلك بسبب الطبيعة التجارية والإدارية لهذه الفئات الوسطى المتذبذبة. ولهذا تغدو مهمة مركزية في التطور تحرير القطاع الصناعى والاقتصادى الكبير من هيمنة الدول عبر الرقابة البرلمانية أو الإدارة الشعبية أو الخصخصة.
الفئات الوسطى والتبعية المزدوجة
في عجزها عن إنتاج الحداثة والتحول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي، تتوهم الفئات الوسطى العربية بأنها حققت الاكتمال أما عبر الانتماء الكامل للتراث أو عبر الدولة الوطنية، التي لم تتشكل حتى الآن، أو عبر الانتماء للغرب.
هذه الانتماءات الناجزة الموهومة، هي الوعي الأيديولوجي لفئات تابعة لقوى لارأسمالية أو للاستعمار.
وبطبيعة الحال، فإن الفئات الوسطى لا تعبر كجسم اجتماعي موحد، بل من خلال مثقفيها، فهم ألسنتها الناطقة بالوهم الإيديولوجي.
في انتمائها للتراث كقوقعة خارج التاريخ والحقيقة، تقيم اكتمالاً ووجوداً زائفاً، هو مجتمعات الفسيفساء الطائفية القديم المتجاوز عالمياص، ولكل طائفة رموزها وتاريخها الخاص وإرثها، وحين تسقط السلطة الدكتاتورية العربية، تكتشف الطوائف بأنها طوائف وليست شعباً واحداً، وبهذا فإن الدولة الوطنية المزعومة المتكونة قبل عقود كالعراق مثلاً يتضح زيفها.
ليست ثمة دولاً وطنية عربية كما زعموا طوال عقود، بل تكوينات طائفية تجمعت قسراً، وحين يصل الصراع إلى أوجه تكتشف انتماءها للعصور الوسطى لا للعصر الحديث.
حين نقضت الطوائف العربية التاريخ الحديث وأصرت في البقاء فى العصور الوسطى، أي أن تكون دولاً دينية، نفت قدرتها على التحول إلى شعوب واحدة، أي لم ترتض بالاحتكام إلي قوة سياسية وفكرية تصهرها وتحولها إلى أوطان موحدة وشعوباً موحدة.
لن تكون هذه القوة سوى الدولة اللامذهبية، الدولة العلمانية، أي حين ترتفع الفئات الوسطى والعاملة إلى مهماتها التاريخية في الوحدة الوطنية، المؤسسة لدول وطنية لا دينية.
وهكذا فإن كل دولة عربية تصر على إخفاء تناقضاتها الاجتماعية عبر المذاهب، بدلاً من أن تتيح لهذه التناقضات أن تكشف عن وجهها الاجتماعي، المتعدد الطبقات، ستجد نفسها في حالة تفكك تبدأ جنينية حتى تتفاقم ثم تتفجر.
لبنان، الجزائر، السودان، العراق، والبقية تأتي..
تبعية الفئات الوسطى للجهات الماقبل رأسمالية أو للاستعمار، تعبر عن عجزها لاستكمال مفردات الحداثة في: العلمانية، والصناعة، والديمقراطية. أي أن تتحول إلى طبقات برجوازية نهضوية صاهرة للمجتمعات العربية كدول حديثة.
ولا يتشكل ذلك إلا بانفكاكها من التبعيات المختلفة، التبعية للإقطاع حين يكون مذهباً سياسياً محافظاً، وليس للإسلام كثورة نهضوية، أو التبعية للغرب حين يكون استيراداً شكلياً، بضائعياً، وليس كقوى إنتاج مادية وفكرية.
إن التكون النهضوي الذي يتشكل على الجهتين، الماضي والحاضر، أي بتحرير الدين من قوى الاستغلال السياسي الحاكم والمعارض، و بتحرير الحاضر من التبعية للصناعة الخارجية وبيوت المال الغربية.
وهذا لا يتشكل من الدعوات الأخلاقية أو الفكرية، بل من تحرير الصناعة من هيمنة الدول المستبدة، سواء كانت بيروقراطيات مستنزفة للمال العام، أو من غلبة القطاعات الطفيلية. ولهذا فإن لعب القطاع العام دوراً قيادياً لا يتشكل إلا عبر نمو الديمقراطية البرلمانية ومنظمات العمال والبرجوازية المستقلة، كما أن تجذر القطاع الخاص في الصناعة والتقنية الحديثة، لن يحدث إلا بوعي الفئات الوسطى باستقلالها الاقتصادي والسياسي والفكري.
هذه كلها مهمات مترابطة، أي أنها تتطلب قوى جبهوية واسعة، وانتفاحاً فكرياص وسياسياً، على العصر والتراث، وخاصة للتقارب بين الفئات الوسطى والقوى العاملة على درب الحداثة المشترك، وهو درب يتسم بالصراع كذلك، بين القوى المتقاربة، لتباين مصالحها ورؤاها.
ومن هنا يغدو المعيار للعمليات السياسية العربية مدى دور كل لحظة بتقريبنا من المشروع التحديثي، وكيف نستفيد من القوى العالمية والإقليمية والمحلية في تصعيد نموذجنا، ومصالحنا القومية المستقلة؟
الفئات الوسطى والتضاريس الإقليمية
عجزت الفئات الوسطى أن تشكل أوطاناً موحدة، لأنها ارتكزت على بنيان اجتماعي ما قبل حداثي، أو ما قبل رأسمالي، أي يرتكز على العشيرة والطائفة. وهذا ما جعل حدود البلدان غير محمية فكرياً وسياسياً من قبل أهلها، أي إن الارتكاز على القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو القومية المسيطرة أو القومية المنبوذة، يسبق الارتكاز علي الوطن والمواطنين ويعرضهما للدمار.
هنا تتشابك تكوينات تقليدية مع أنظمة يُفترض أنها عصرية، وتقوم هذه الانظمة بالمراوحة، بين نظامين: تقليدي غير مُعلن، وعصري غير متحقق، فيفترض رسمياً أن تكون الدولة إسلامية، فتكون واقعياً مذهبية، ويفترض أن تكون لجميع القوميات، لكن الواقع يقول انها للقومية المسيطرة، ويفترض أن تكون جميع الأراضي تابعة لجميع المواطنين، ولكن هذا لا يحدث على صعيد الخريطة الجغرافية. فتجد الدولة مجموعة من الاقاليم المتنابذة.
ليس هذا سوي نتاج عصرية غير مكتملة، أو قل إن النظام التقليدي لا يزال يجر أذياله فوق العصر الحديث. هنا نجد الفئات الوسطى التي يُفترض فيها أن تناضل لإبجاد النظام الحديث، تابعة لإقسام ومجموعات وأقاليم النظام التقليدي.
فالفئات الوسطى التي استفادت من النظام الدكتاتوري العراقي مثلاً، وتركزت في أجهزة الدولة والتجارة والصناعة الخاصة الخ، تقوم هذه الفئات بالتبعية للنظام الطائفي والعسكري، فتتركز في منطقة جغرافية أساسية هى المنطقة الوسطى، ومن هنا يغيب النضال من اجل المواطنة ومن أجل الوطن الموحد، وكافة أشكال النضال العصري، من تكريس دولة القانون إلى المساواة، ويقوم النظام بإنتاج نقائضها: الطائفية، الإقليمية الجغرافية في القطر الواحد الخ..
ان الفئات الوسطى التي تقود السياسة والثقافة، تغرق في المنظومة التقليدية، إما في المذهبية المعارضة، وإما القومية المنبوذة، وإما العودة للقبيلة وامتداداتها الإقليمية، وبالتالي يتم خرق الوطن من الجهة المضادة، من جهة الفئات الوسطى المعارضة.
إن تدمير البلدان العربية يجري من الجهتين، جهة الدولة الطائفية المسيطرة، أو الدينية، أو القبلية، وبالتالي يؤدي هذا إلى استثارة القوي الأخرى للعودة إلى تضاريسها الاجتماعية التقليدية.
ويعبر هذا عن سيطرة رأسمالية الدولة، التي توضع في خدمة الإقطاع السياسي المسيطر. إن رأسمالية الدولة هي جهاز محايد يمكن أن يُستخدم في شتى الأنظمة، ويوظف لخدمة طبقات متعددة، حسب هيمنتها على هذا الجهاز.
ورأسمالية الدولة حتى لو كانت ثرية فى مثل هذا التضاريس الاجتماعية تقود ذاتها إلى التدهور، لأنها تُستخدم لخدمة شريحة من طائفة، أو منطقة جغرافية بذاتها، أو قومية مهيمنة الخ، مما يؤدي إلى تصدع أساسها الوطني الاجتماعي، فيزول الثراء ويحل الخراب.
ومن هنا فإن الآلية الحديثة بديمقراطيتها وعلمانيتها تضع أساساً اجتماعياً مختلفاً لكذا وطن تسوده الطائفية والقبلية والعنصرية، حيث تصبح الدولة خارج المذاهب والعناصر والقبائل، يحكمها السوق الاقتصادي، ومعادلة الصندوق الانتخابي.
إن العجز من تحقيق وطن حديث، يؤدي إلى امتداد التخلف والتفكك على الاقطار المجاورة،وهكذا تسود الامتدادت القبلية والطائفية والعنصرية، مما يوسع إطار الأزمة من الوطن غير المتوحد إلى البلدان الأخرى والأزمة الوطنية تصبح أزمة إقليمية.
إن أقطاراً مثل العراق وإيران ولبنان الخ.. تقوم بنقل أزمتها الوطنية إلى الخارج، فنودع زمن الحرب الأهلية ونقترب من زمن الأزمة الإقليمية.
وتصبح الأقطار العربية والإسلامية مشروعا لأزمات متتالية نطراً لعدم قدرتها أن تكون دولاً وطنية في البدء.
وخلال سنوات التحولات السابقة لم يظهر مشروع توحيدي للفئات الوسطى ولقوى النهضة للتخلي عن وعي الطوائف والقبائل للانصهار في وعي المواطنة ووعي الشعب.
يقوم المتغربون بالدفاع عن المشروع الغربي لتحديث المنطقه، كما يعمل (القوميون والدينيون الخ..) على إعادة إنتاج المشروع التقليدي، بدعوى الأصاله أو التحرر..
ولهذا نجد البعض يروج لأعلانات الإدارة الأمريكية، كما يهاجم البعض الآخر هذه الأعلانات جمله وتفصيلاً.
في أقصى اليمين في الفئات الوسطى، يتمسك الدينيون المذهبيون على تنوعاتهم بالمشروع التقليدي، كل فيما يخص مصالحه وسيطرته، وهذا في حد ذاته، كارثه. أي أنهم يريدون إعادة إنتاج علاقات القرون الوسطى المتخلفة، ببعض التصليحات الديكورية التي لا تمس الجوهر.
فيما يريد أقصى (اليسار) نسخ التجربة الأمريكية، وإزاله النظام التقليدي القروسطي .
ويمثل العراق الحاله القصوى من الشد والجذب المطبقة على جسد شعب. بين قوى تقليدية تريد الماضي وقوى جديدة لا تمتلك مشروعاً على الأرض.
وعلى الأقل ينبغي للأقطار الأخرى التي لم تنتقل إليها العاصفة بعد أن تشكل من المحورين المتصارعين النقيضين، حالة وسط، جبهة ثوابت قومية ووطنية تمنع التدخلات الأجنبية، ومشروعات التغيير بالدبابات.
لكن جبهه الثوابت القومية والوطنية تتطلب رؤى تحديثية عميقة، ترفضها القوى التقليدية بدرجة أساسية، فمسائل المساواة بين الرجال والنساء، وتغيير القوانين الماضوية تبعاً لذلك، أي تحديث البنية الاجتماعية التقليدية، تعتبرها مسألة حياة أو موت.
وإذا كانت هذه البنية الاجتماعية التقليدية مرتبطة بنظام سياسي متجذر، سواء على صعيد الحكم أو على صعيد المعارضات، وكل هذه مرتبطة بدورها بأنظمة سياسية أخرى، فتغدو المسألة تغيير النظام الأقليمي برمته.
لا يوجد نظام سياسي عربي وإسلامي لا يرتبط بالآخر، ولا تتداخل فيه الطوائف والقبائل، فإذن تغيير أي بلد عربي يؤدي بالضرورة إلى أزمه اقليمية، أي أن طابع الحرب والمعارك في بلد واحد يمكن أن تنتقل إلى بلد آخر، أو مجموعه من البلدان.
كما أن انتصار قوى التغيير في بلد يستتبعه استشراس المقاومة لدى القوى التقليدية فى بلد آخر، أو مجموعة من البلدان ترى في التغيير خطورة على مصالحها وأنظمتها.
إن السلسله متشابكة، لكون العالم العربي والإسلامي يقومان على بنى تقليدية، لم تستطع خلق الوحدات الوطنية داخلها، فهي منظومة واحدة تقوم على أساس اقتصادي / اجتماعي / ديني متقارب.
لهذا فإن الورطة الأمريكية في العراق، إما أن تتوجه إلى هزيمة مشروع التحديث الأمريكي، وإعلان عدم قدرته على التغيير الذي طرحه، واما توسع المشروع ليشمل بلداناً أخرى. وهذا مما سيؤدي إلى المزيد من التورط، وإلى المزيد من المواجهات، وإلى المزيد من التغيرات الدوامة.
فإذا حدث أن انتقلت المواجهة إلى إيران، وقامت الوحدات الجوية الأمريكية بتفتيت أجهزة الأمن والدفاع الأيرانية، وبالتالي فتح الطريق لعملية إنزال سياسي لإصلاحيين من نوع مختلف، فإن العواقب والمشكلات الناجمه تفوق التصور.
وليست عملية المواجهة لمسألة التفتيش على المحطات النووية سوى مقدمات لمثل هذه العمليات السياسية والعسكرية الخطيرة.
مثل التطورات والتغييرات والكوارث التي كان يتم التحذير منها قبل أحداث العراق، من الممكن أن تتواصل في بلدان أخرى، وتغدو المسألة تغييرات إقليمية شاسعة، لن تستطيع القوى السياسيه المحلية بتفككها وبعثرتها الواسعه أن تكون شيئاً فيها.
إن عدم إسراع الأنظمه التقليدية بالأصلاح العميق، وعدم قدرة القوى السياسية والاجتماعيه أن تستقل عنها، وتكون قوة سياسية إصلاحية مؤثرة، سيعرض المنطقة خلال العقود التالية لعمليات جراحية حادة، ولعل القوى هذه تكتشف بلاهة معارضاتها للتحديث.
إن حرب العراق الراهنة هي تجسيد للمواجهات المتوقعة ومستواها (الحضاري)، فالقوى التقليدية تعتزم حرق الأخضر واليابس دفاعاً عن مصالحها، ويغدو العراق لبناناً آخر.
إن عدم قدرة العرب والمسلمين على إنتاج قوى وسط إصلاحية واسعة تحقق الديمقراطيه، وهو أمر يعود للتباعد الفكري والسياسي للفئات الوسطى، يجعل العالم العربي والإسلامي بين مرمى النيران للقوى التقليدية من جهة، والقوى الغربيه من جهة أخرى.
الفئات الوسطى والإيديولوجيا
تعبر الإيديولوجيا عن رؤية الجماعات السياسية والاجتماعية وهي تعمل لبروز أصواتها ومصالحها.
فالتوجهات المتضادة بحدة في العالم العربي والإسلامي، وعدم القدرة على بروز توجه نهضوي وسطي شعبي مؤثر وحاسم في التطور السياسى، يعود لميدانى الاقتصاد والوعي.
وإذا كان الاقتصاد قد بدأ في العقود الأخيرة يضع الأسس لنشوء فئات وسطية مؤثرة، فإن الوعي متخلف كثيراً في هذا المجال.
وهذا ما يمكن بحثه فى مسألة الإيديولوجيا. وقد أوضحنا مراراً تبعية الفئات الوسطى للهياكل الاقتصادية الشمولية في العالم العربي الإسلامي عبر العصور، وأسباب فشلها فى تكوين الحداثة.
لا نستطيع أن نقول بأن الطبقات الشعبية هي التي تصنع التاريخ الإسلامي بشكل مباشر، فما هي إلا أدوات للفئات الوسطى, التي تحركها وتقودها، ففي البدء تصنع بشكل مطول (الأفكار), وفي تتويج الأحداث تصنع الأنظمة.
وفي القرن العشرين مرت الفئات الوسطى بمنظومتين إيديولوجيتين متناقضتين هما: الليبرالية، ثم الاشتراكية.
إن قفز التطور الفكري والسياسي العربي عموماً من الليبرالية إلى الاشتراكية، من الحريات الواسعه الى الأنظمة المركزية, هو بحد ذاته يطرح مدى جدية الهياكل الفكرية والاجتماعية التي انتقلت من النقيض إلى النقيض، وقد تم الأمر في بضعة عقود.
ومن المؤكد بأن الشرائح الاجتماعية التي دخلت الأحزاب والثورات الليبرالية ليست هي تماماً التي شاركت وأسست التجارب الاشتراكية الشمولية فيما بعد، ومن الصعب القبول بأن الذين أسسوا أنظمة البرلمان والدساتير هم الذين شكلوا الدبابات التي احتلت الحياة الاجتماعية فيما بعد.
فرواد النهضة والبرلمان هم غير الضابط الذين تولوا السلطات العربية، لكن من الصعب إقامة حواجز بين الجماهير التي شاركت في العمليات الديمقراطية الأولى وتلك الجماهير التي خرجت مؤيدة الانقلابات العسكرية. كذلك فإن الأحزاب القومية والشيوعية والدينية التى ازدهرت بفضل البرلمانات هي التي أججت النزعات الدكتاتورية التي انصبت على رؤوسها أكثر مما انصبت على الآخرين.
لكن ما هى العناصر الفكرية التي أججت ذلك وساهمت في القضاء على التجارب الديمقراطية الأولى؟
تعود أغلب الاتجاهات الدكتاتورية إلى فئه المثقفين المتحدرين من الفئات الوسطى، وقد أقامت هذه الاتجاهات من هذه الشخوص الدكتاتورية رموزاً وأصناماً معبودة.
ونجد ان أبرز فكرة تقوم عليها هذه الاتجاهات هي فكرة التسريع في التطور، وإحداث القفزات، وهي الأفكار التي فتحت بوابة الانقلابات الحكومية والانقلابات المضادة.
فلدى هذه الرموز سعيراً داخلياً بضرورة نقض التطور وتفجير الحياة السياسية الداخلية، دون أي حساب لعواقب هذه العملية التسريعية.
وهنا نجد ان الزعيم المضطرب نفسياً, والمتعطش للشهرة, والنفوذ، والمحدود فكرياً، هو من يلعب هذه اللعبة ا لانقلابية الأولية، وتجد هذه الأفكا ر صداها في الجماعات الشعبية المأزومة والمحدودة الثقافة, بل الأمية والجاهلة في أغلب الاحيان، وهي التي يستخدمها الانقلابيون فيما بعد، بعد انتصارهم كغوغاء مثيرة للشغب ضد الديمقراطية، كما فعل الانقلابيون في أزمة مارس ١٩٥٤ في مصر, وكما فعل الانقادبيون الجزائريون ضد سلطة أحمد بن بله.
تقوم الاتجاهات الشمولية بتركيز العمل الفكري في الأوساط المأزومة والمتخلفة اجتماعياً وفكرياً، بحيث تتسرب أفكارها المعادية للديمقراطية من الجمهور المعادي للحداثه والديمقراطيه, إلى الجمهور العادي، بحيث يتقبل هذا الترياق المسموم.
وقد فشل العديد من الاتجاهات الديمقراطية العربية في ملاحظة مسألة نمو المعاداة للديمقراطيه هذه، أي كيف يتحول الشعب البسيط الذي هو المقصود بإنجازات الديمقراطية إلى عدو لها؟
تنبع الاتجاهات الشمولية من الفئات الوسطى وكذلك الاتجاهات الديمقراطية المحدودة داخلها.
فالاتجاهات القومية والاشتراكية والدينية تشكلت من أفراد بارزين داخل هذه الفئات الوسطى، لكن لماذا اتجهت للدكتاتورية واعتبرت الليبرالية الديمقراطية هي خصمها الأساسي، فهذه هي الإشكالية التاريخية. وإذا كانت هذه الاتجاهات قد ملكت اغلبية التاريخ السياسي العربي في القرن العشرين، فلماذا هذه الجذور القوية للشمولية؟
لقد رأينا الأغلبية الكاسحة من المفكرين القوميين البارين والاشتراكيين والدينيين كلها تتفق على أمر واحد هو العداء للتشكيلة الرأسمالية ورفض اعتبار الليبرالية مرحلة كاملة من التاريخ. فلماذا كل هذه الاتجاهات تخاف من الليبرالية والديمقراطية؟ ولماذا لم تحاول أن تصبر على استثمار المرحلة الليبرالية وتطويرها وتجذيرها؟ وهل هى مصادفات محضة أن تتفق الأنظمة والحركات الدينية الراهنة على رفض الليبرالية وتشكيل أنظمة وحركات شمولية؟
ولكن هل يعود تقويض المرحلة الليبرالية لهذه ا لاتجاهات المعارضة أم أن هناك اتجاهات محافظة تقوم بتغذية هذه الحركات وتصعيدها؟
من الواضح أن الفئات الوسطى التي تحتضن الاتجاهات الفكرية السياسية العربية عامة هي فئات مرتبطة بحياة تقليدية محافظة فى أغلب الأحيان، فالأعمال الأدارية والتجارية غالباً ما تشكلت في حضن الدول، فهذه الأخيرة هي مضخة الثروات والقادرة على تضخيم أو تحجيم الفئات الوسطى، ومن هنا يكون إنتاجها للأفكار انعكاسا لطبيعتها الاجتماعية، فهي تأخذ الموضات الفكرية من قومية واشتراكية ودينية وتلبسها مضمون حياتها التقليدي، والمضمون هو رؤية دكتاتورية للحياة، فهي لا تقوم بإعادة النظر في الأرث الدينى التقليدي، وتشكل علاقة جديدة بين الرجال والنساء، بين الآباء والأبناء، بين الإدارة والمواطن، بين التراث والعصر، فتظل الحياة الأبوية النكورية الإدارية الفوقية مهيمنة، فالتغيرات التي تمت في الخريطة الفكرية هي تغيرات شكلية لم تستطع أن تزيح البنية الإقطاعية الطويلة. وهذه الإزاحة تحتاج إلى عصر ليبرالي طويل.
ومن هنا تنزع هذه الفئات إلى القفز على المرحلة الليبرالية لأنها تقوم بتكسيرعظامها المحافظة، فالرجل يخاف ان تتساوى معه المرأة، والآباء لا يريدون المساواة مع الأبناء، والإدارة تريد أن تظل مطلقة على المواطن، ومستثمرو التراث لا يريدون ديمقراطية العصر الخ . .
إن البنية التقليدية تقوم بإعادة تكرار ذاتها عبر الأفكار الشمولية المتلونة، فهي تخضع هذه الأفكار القادمة من الغرب لطبيعتها المحافظة، فتكسر مضمونها الديمقراطي إذا كان لها مضمون ديمقراطي، فالماركسيون يستوردون الماركسية الشرقية المحافظة الدينية، ويرفضون ماركسية الغرب الديمقراطية، والقوميون والبعثيون يتتبعون خطى الفاشية والنازيه، ولا يأخذون الحركات الديمقراطية القومية، والدينيون يواصلون خطى الحركات الرجعية القديمة المعادية للإسلام الديمقراطي.
إن الأمر لا يعود لمسئولية الأفكار المستوردة، أو المستفاد منها، بل يعود لتكوين البنية الاجتماعية المحافظة العربية، والتي تجير الأفكار لمضمونها التقليدي ونمط حياتها الأبوي اللاديمقراطي.
وطبيعة الحال هناك فروق فى مستوى هذه الأفكار ومدى انغلاقها الشديد أو انفتاحها، حيث تصل العملية أحياناً إلى شبه انفراج اجتماعي في حين تصل في حركات أخرى إلى إرهاب اجتماعي واسع النطاق.
فقد ركزت الأفكار الاشتراكية الوطنية المختلفة على ازدهار السوق تحت يد الدولة، ووسعت من نطاق الحداثة ولم تتوجه إلى القمع الدموي الواسع كما فعلت الدول الدينية فيما بعد. والتي ركزت على مسائل العبادات والأخلاق مفصولة عن ظروف المواطنين وتطورهم الاقتصادي وحرياتهم فكان أن عجزت عن حماية الأخلاق وحماية الاقتصاد وتطويره.
أدركت الاتجاهات الشمولية العربية عموماً إخفاق طريقتها في العمل السياسي والفكري في العقود السابقة، ما عدا الاتجاهات الدينية التي تصر على استنساخ التجارب الشمولية السابقة بعناد أكبر.
لكن مع أي تجربة ليبرالية وديمقراطية تتكشف العظام الدكتاتورية لهذه التيارات والتى لا تزال راسخة فى الجسم السياسي والاجتماعى. فنجد ما قلناه سابقاً عن الحمى فى تصعيد الصراعات وتفجير الاحداث المصطنعة، ويتضح عدم الصبر وعدم القبول بأن تسير الديمقراطية داخل هذه الأجسام السياسية / الاجتماعية.
فهى تريد الديمقراطية من طرف واحد، بأن تحافظ على جسمها الشمولي والاجتماعي المتخلف، وتمنع التطورات الليبرالية بأن تتغلغل في أعضائها وجماعاتها، فتكون هناك تفسيرات مختلفة ومقلقة بالنسبة لها عن القومية والاشتراكية والدين، فهي تحفظ نسخة واحدة من نظرتها المطلقة، وهذا كله تعبير عن خوفها من تطور الجماعات التي لاتزال تعيش في الحياة التقليدية.
ومن جهة أخري فإنها تريد حل كافة الأزمات الاجتماعية والسياسية الطويلة في النظام السياسي دفعة واحدة، وذلك من أجل أن تكون الديمقراطية ديمقراطية خارجية، اًي أن لا تصل إلى تنظيماتها وتكوينها التقليدي، فلا تقوم بدفع ضريبة الديمقراطية بالتحول إلي الحياة الليبرالية، فتريد ديمقراطية ولكن مع هيمنة الحياة الأبوية الذكورية الاستبدادية، تريد ديمقراطية سياسية فوقية لا تصل إلي البيوت وأحوال النساء وتكوينات الأرث والأوقاف ومناهج المدارس الخ..
أي أن الاتجاهات الشمولية تريد ديمقراطية مفصلة علي مقاسها، فلا تعتبرها عملية صراع حضارية طويلة تقوم هي بالتبدل في أثنائها، فتعيد تشكيل حياتها وعلاقاتها وإرثها، وتنسلخ من وعيها الطائفي السياسي، نحو إسلام حضاري ديمقراطي، بل تريد أن تبقى الطائفية والمحافظة الاجتماعية.
ولا شك أن مثل هذه المخاوف تغذى من قبل أواسط ترى في الديمقراطية الشاملة تغييراً لأساليبها في الاقتصاد والعيش الماضوية، فتتداخل الخيوط بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، ولهذا تبدو الليبرالية والديمقراطية مكروهة فجأة ويتسع اللغط على فشلها وأضرارها.
تعتبر هذه الأوساط بأن الليبرالية حلاً سحرياً، وأنها لا بد أن تحافظ على طرق المعيشة والتفكير والعادات الشمولية السابقة، وإلا كانت هذه الليبرالية كارثة.
ومن هنا نجد كيف أن الفترات الديمقراطية تبدو واعدة ومضيئة ثم تتلبس وتنفض الأطراف الشمولية التي ترفض اأن تدفع ضريبة التقدم، مركزة فقط علي بعض الجوانب السياسية الصحيحة ولكن المفصولة عن السياق السياسي العام والتاريخي، وتقوم بتضخيم وشحن هذه الجوانب المنتزعة لتبرير ليس استمرار السير الديمقراطى الطويل والصبور، والذي لا يتشكل إلا من خلال وعي الشعب وإرادته وأصواته، بل تريد أن تقوم الأجهزة الحكومية بعمليات سياسية قيصرية هي شكل واضح لدكتاتورية فوقية.
هنا نرى كيف تتحول الجماعات الشمولية الفاقدة للصبر السياسى وعلى التحول الديمقراطي التدريجي إلى جسور للدكتاتورية، لكون هذه الجماعات لا تؤمن بالشعب أصلاً، لا تؤمن بقدرته علي التغيير من خلال صناديق الاقتراع، ومن خلال شبكة التحولات الديمقراطية المتنامية.
ومن هنا فإن المغامرات والأعمال اللامسئولة ومحاولات القفز على القانون السياسي والاجتماعي تترافق وكراهية الديمقراطية من قبل المحافظين والذين يخشون من نظام شفاف. إن الجانبين يغذيان بعضهما البعض، ولهذا سقطت العمليات الليبرالية والديمقراطية العربية دوماً، لكون الأطراف الشمولية تتوجه لضرب الديمقراطية من مواقع شتى، لكنها تتفق على القفز على هذه المرحلة، وإلى التوجه إلى الهاوية الدكتاتورية بمختلف ألوانها.
تشتت ممثلي الفئات الوسطى
يعبر الصراع السياسي الدائر وطنياً عن تشتت ممثلي الفئات الوسطى، الذين هم الممثلون المكتسحون للناخبين وللناس عموماٌ، وعدم قدرتهم على بلورة خط ديمقراطي عريض ومتماسك، بسبب ولائهم لقوى اجتماعية تقليدية ولأنظمة شمولية.
إن ممثلي هذه الفئات الوسطى الصغيرة : مثقفين، محامين، موظفين، تجارا صغارا الخ…، هم الذين ارتبطوا في زمن ما بتوجهات يسارية، ثم فشلت هذه التوجهات بسبب ارتباطها بأنظمة رأسمالية الدولة الرأسمالية الشمولية التي تآكلت وتحولت إلى إقطاع تقليدي عشائري دموي، فلم يستطع ممثلوها المحليون الاحتفاظ بنسيج سياسي وفكري متماسك، فغدوا قطعاً متعددة.
إن التبعية للإقطاع الديني ترفدها جملةٌ من الأسباب هي عدم قدرة ممثلي الفئة الوسطى هنا على تشكيل وعي ديمقراطي في صفوفها، فتحول الولاء اليساري إلى الارتباط بأنظمة على شاكلة النظام العراقى السابق، وهو أمر يدمرُ أي مفردات ديمقراطية يمكن أن تنشأ في هذا الوسط، الذي كان من الممكن أن يتجه إلى الليبرالية ومفردات الديمقراطية الحديثة، ولكن الارتباط بالمفردات القومية الشمولية ضبب الرؤية، وقاد إلى نمو الفساد السياسي بانقطاع القمة عن تضحيات القاعدة، وتراثها الكفاحي الطويل.
وهو أمر يقودُ إلى المزيد من المغامرات السياسية وتتحول التبعية للإقطاع الديني إلى ما يشبه الانتحار السياسي، من أجل الهروب إلى الأمام وعدم مناقشة هذه التبعية للقوى الشمولية سواء كانت الأنظمة العربية الشمولية أم القوى الدينية المحلية والمناطقية.
أما ما تفعله فئات أخرى من القوى الوسطى، وهو الصراع مع الحكومة من أجل إبراز ذواتها الشخصية، ولتأكيد زعاماتها الخاصة، دون أي رؤية لأبعاد هذه التحركات السياسية الخاصة، على مجمل القوى الديمقراطية المشاركة، فكأنها تريد أن تخطف الأضواء وتستبق قضايا لم يحن أوان إثارتها، في حين إن القضايا الأساسية لم يستكمل طرحها وتجذيرها على الأرض.
وعموماً فإن قوى الفئة الوسطى هذه نمت على أساس التأييد الديني ودعمه، فهي هنا تحاول مساعدة القوى الدينية خارج البرلمان عبر تأزيم الوضع بطرفيه البرلماني والخارجي.
أو أن تقول للشارع الديني أنها تفعل من داخل قنوات النظام ما تعجز عنه القوى الدينية خارج قنوات النظام.
إن تبعية كل قوى الفئات الوسطى هذه للدينيين، وعجزها عن إنتاج خطاب ديمقراطي وطني موحد، يتشكل بصبر وبمرحلية طويلة، ليس هو الشكل الوحيد من التبعية التي تقوم بها هذه الفئات للقوى التقليدية، فهناك الغلاة الذي يروجون بأن الحياة السياسية الراهنة ليس فيها أية مشكلات عميقة، ويدافعون عن الحكومة بصورة أكثر مما تفعل الحكومة.
لكن من جهة أخرى فإن الفئات الوسطى السياسية المستقلة المتعددة لم تستطع أن تشكل خطاً ديمقراطياً موحداً، يقود إلى الاستقرار السياسي ونمو عملية الإصلاح معاً . وهذا بسبب تشتت الخطوط الفكرية التي اعتبرت كأنها سور الصين العظيم.
إن على قوى اليسار الديمقراطي أن تتوحد وتتبلور أولاً، بحيث يكون تقدمها السياسي من خلال برنامجها، وليس بعملية الارتباط بالدينيين، أو النمو تحت مظلتهم، بل عبر طرح البرنامج الديمقراطي التحديثي، المستقل الطليعى المنفتح على كافة قوى المجتمع والذي يمثل الطريق للسير الاجتماعي الممكن.
إن تأثر ممثلي الفئات الوسطى الصغيرة خاصة بالدينيين، هو جانب مستمر وتاريخي في هذه الفئات، عبر التأثر بالغالب والسائد، ونسيان طريق التطور الحقيقي المركب والأكثر صعوبة من عمليات التسلق واستغلال الفرص، وهو طريق لا يستطيع شقه سوى الوعي الحديث .
وحدة الفئات الوسطى
إن عملية الانشقاقات او إقامة التحالفات السياسية تتعلق برؤية هذه القوى والفئات الوسطى، وكيف ولماذا تتشكل هذه العمليات بين الانفصام والاندماج؟
فممثلو الفئات الوسطى، المنتجون للوعي والنشاط السياسي، يتعلق الأمر بمدى قدرتهم على تمثل طبقتهم، الطبقة البرجوازية، بمدى قدرتهم على فهم حركتها التاريخية، ماذا تريد، وأي نظام تريد أن تشكل ؟
وهناك العديد من الالتباسات الإيديولوجية، التي تؤدي إلى عدم قدرة آرائهم السياسية على بلورة ذلك المنحى الاجتماعي، أي تأتي آراؤهم مناقضة لمضامين فئاتهم التي تعجز عن تشكيل ممارسة نضالية لطبقة رهن التشكل.
إن التحاق ممثلي القوميين بالدينيين يعطينا هنا مثالاً على التحاق ممثلي فئات وسطى بالبناء التقليدي، وعدم قدرتهم على إنتاج نظري سياسي يعبر عن مخاض هذه الفئات في التحول إلى طبقة برجوازية ذات تأثير حاسم في البناء السياسي، أي طبقة تعيد إنتاج البناء التقليدي إلى بناء حديث.
والعكس قد يحدث في انتقال دينيين إلى مشروع الفئات الوسطى لإنتاج عالم الحداثة، وهذا يتعلق بقدرة المتحولين كذلك على إنتاج مفاهيم الحداثة، أي على كيفية قراءة الإسلام كثورة نهضوية في عصر علماني.
إن الخارجين والداخلين يعبرون عن تذبذب الفئات الوسطى، وتداخلها بين القوى الاجتماعية التقليدية التي تمنع تشكل نظام حديث كلياً، ولهذا فانها في حيرة أو لبس وغير قادرة على أن تنتج وعياً ديمقراطياً في مسائل النظام الاجتماعي المطلوب مستقبلاً ، أي في المسائل الجذرية للتحولات في عالم اليوم، والذي يتمحور على قضايا الديمقراطية، والحداثة، والعقلانية ، والعلمانية.
لكن ممثلى الفئات الوسطى يصطدمون كل يوم بحدود البنية التقليدية سواء فى قضايا الأسرة وقوانينها، وهي التي تتطلب وصول العلاقات الديمقراطية إلى جذور البناء العائلي، أو بضخامة الملكية العامة الموظفة بشكل تقليدي، أي التي لا يقود فيضها المالي إلى إشاعة وتوسع العلاقات الرأسمالية الإنتاجية.
أو في مجالات الثقافة والإعلام حيث تقوم الثقافة التقليدية كل يوم بإعادة عجلة التاريخ للوراء، وإضعاف تقدم الأمم الإسلامية للسير إلى الأمام، أو بالهجوم الإعلامي للثقافة الغربية السوداء، أي تلك الجوانب من الثقافة الغربية الخرافية والاستهلاكية الباذخة، التي تضعف التطور الوطني والثقافة العقلانية في الدول النامية.
إن إنتاج وعي ديمقراطي عميق للفئات الوسطى يجمع محاور وشبكات متعددة لإنتاج المعرفة، يتطلب الاستقلالية السياسية عن ممثلى الوعى التقليدي، لكون الاستقلالية السياسية تعبر عن جوهر الطبيعة الاجتماعية لأي طبقة من الطبقات.
من هنا يغدو أي انفصال أو اشتراك أو وحدة مرتبطاً بالأهداف البعيدة والعميقة لهذا المخاض الاجتماعي، أي ألا يكون حركة سياسية شكلية، أو خارجية، أو نفعية، بل مرتبطاً بإنتاج فكري عميق.
لكن مسائل الفكر وحفر الاتجاهات تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة في سيادة ممثلي الشعارات السياسية، وغياب المفكرين والكوادر الفكرية المتخصصة في الاتجاهات السياسية.
بل هناك حتى مخاض في الفئات الدينية نفسها لاكتشاف العصر بادوات فكرية جديدة، وتمنع القوى المرتبطة بالمصالح التقليدية من نمو وتحول هذا المخاض باتجاه الاقتراب من ممثلي الفئات الوسطى الآخرين والتعاون معهم بهدف تقوية مواقع هذه الطبقة في التوسع الصناعي والتجاري الخ..
الفئات الوسطى والموضة
تترابط لدى الفئات الوسطى العربية (الإسلامية) المسيحية مسائل المواقف السياسية بالمصلحة وبالدين وبالملابس وبالأشكال البرانية الديكورية.
وكما أن التدين لديها مسألة تتعلق بالموضة الرائجة، فكذلك يغدو لباسها جزءاً من هذه الموضة. ففي زمن الحداثة الشكلانية، حيث قوى الإقطاع الديني منحسرة، وطبول الحداثة الوطنية تدق، ومحلات الخياطة مستفيدة من هذا الانحسار فتقوم بخياطة الملابس الحديثة وأغلبها ينحسر عن السيقان، والشعر مطلق السراح، والمرأة وقتذاك مدعوة للخروج والتطور والاشتراك في السياسة، فإن التدين وقتذاك متسامح، والفئات الوسطى مستفيدة من حالات التحديث والتأميم في مصر وسوريا وغيرها من الدول، حيث كانت شعارات النهضة قوية.
وهذا كان ينعكس على بقية الدول العربية، التي تشارك في النهضة من خلف الأبواب، ومن هنا كانت المنابر السياسة ومحلات الخياطة تشارك في التحديث، الذي لم يكن سوى شعارات فوقية وملابس خارجية تدعي بالحداثة، وتحت الرؤوس تخلف كثيف.
وتغير الموقف حين أخذت الدول النفطية بتراثها البدوي والقروي تهيمن على الساحة السياسية العربية، وهنا برزت قوى الإقطاع السياسي والديني التي كبحت قوى التحديث في الدول العربية الرائدة، وراحت تقاوم فكر النهضة الديمقراطي والتحديثي، ولهذا رفعت لواء التدين المذهبي بمختلف درجاته وبغلواء الخطابات، وارتفعت الذكورية المتصلبة، وتغيرت الأزياء، وتبدلت محلات الخياطة، وازدهرت محلات العباءات النسوية والأحجبة والبشوت والكوفيات.
وراحت هذه الأزياء الجديدة وملحقاتها من شوارب غليظة ولحى تدعي احتكار الإسلام، وهي تضخ شذرات من أموال النفط في جيوبها، وتقيم فئات وسطى مستندة إلى الاقتصاد النفطي بدوره الكبير في صنع السلاح والبنوك والربويات المختلفة وفي دعم إسرائيل والقوى الشمولية المختلفة في العالم، ويترافق مع ذلك نمو في الحنفيات المالية المعبأة بشعارات دينية، لسرقة أموال المودعين الفقراء والبسطاء والفئات الوسطى الصغيرة..
ورغم محاولة غلغلة الموضة الدينية المتشددة داخل المدن العربية، وجعل الملابس تحجبُ جسدَ الإنسان كوسيلة لاعتقال روحه ومنع عقله من البحث والنقد والحرية، إلا أن الحداثة الغربية الشكلانية هجمت هجمة أخرى شديدة، واندفعت أشكال الموضة تغزو العالم العربي مرة أخرى وبقوة أشد، وراحت الأجيال الشابة تثور، واندفعت الأشرطة الصارخة والبنطلونات الشعبية والتسريحات الزاعقة والاسطوانات واشتدت هجمة السينما الأمريكية والسيارات الحديثة المعباة بالغناء..
انقسم الشباب بحدة بين خندقين، وهما المعبران عن الصراع بشفافية أعمارهم، وبسبب الطابع الشكلاني العبادي والحداثي الذي يلائم بكارة تجاربهم، وبسبب عدم القدرة العامة عن التحديث والتدين الحقيقيين.
تقوم حركة الفئات الوسطى على استغلال الموضة السياسية والاجتماعية الرائجة، وتطوير الدخل عبر الخضوع للسائد والقادر ان يدفع، أما المبادئ فهي تأتي لاحقاً، وتتكيف مع من يمسك بحنفية الأموال العامة، ففجأة تتغير حشود من البشر في ملابسها وشعاراتها، وكأنها تتحرك بأزرار آلية، وهي أغلبها من الفئات الوسطى وخاصةً الشباب، المتأثر بعواطف حادة، لكن لا شيء من هذه الأفكار يغوص عميقاً داخل العقول، وهى مجرد فقاعات تطفو على سطوح الرؤوس؛ مثلما تتبهرج الأجسام بالالوان المزهرة أو القاتمة ثم يأكلها دودُ الأنظمة، وهي قد تكلف حيوات ودماء كثيرة، لكنها لا تحرك شيئاً عميقاً في التاريخ، [وأما الزبد فيذهبُ جفاء.. وأما ماينفع الناس فيمكثُ في الأرض].
وحدة الفئات الوسطى
إن الفئات الوسطى هي بؤرة الفعل السياسي للعرب في المجتمعات الراهنة، ويقود التنوع الفكري – السياسي لها إلى تعطل النضال الاجتماعي وتفتيت الصفوف، بدلاً من أن يقود إلى عكس ذلك.
والسبب أن التنوع الفكري هذا يؤخذ كرؤى مطلقة، وليس كأدوات للعمل السياسى، كما أن ارتباط القوى العليا من هذه الفئات الوسطى بأجهزة الحكم ودفاعها عنها بالحق أو بالباطل، من الأمور التي تعرقل عملية التعاون بين هذه الفئات الوسطى وتعبيرها عن مطالب الجمهور فى التغيير.
وكما أدى احتكار الحكم والثروة إلى أزمة الأنظمة العربية الراهنة، فإن حلحلة هذا الاحتكار، كمرحلة أولى من عملية التغيير، يمكن أن تجنب هذه البلدان تحول الصراع إلى حرب أهلية.
إن أيديولوجيي هذه الفئات يطرحون خلفياتهم الفكرية بشكل أحادي استقطابي، فهناك ثنائيات لا تقبل التداخل مثل: الشرق / الغرب، والإسلام/ الحداثة، والحكم الديني/ الحكم العلماني، ومثل هذه المنطلقات تقود إلى تصلب موقفي من شأنه أن يعرقل العملية السياسية، ويضعف التعاون الممكن لتغيير طبيعة السلطات المتكلسة.
ولكن الثنائيات الأخطر تتجلى في تفكيك الروابط الوطنية والقومية والإسلامية، كثنائيات الطوائف والأديان والأصول العرقية الخ…
وغالباً ما يطرح مثل هذا التصلب من يستفيد من الوضع الراهن، داخل الحكومات وداخل الأحزاب على السواء، بحيث يقود ذلك إلى الشرخ الوطني العميق على مستويي حركتين سياسيتين قطبيتين، مثل صراع الحزب الوطني الديمقراطي والإخوان في مصر، وصراع فتح وحماس، أو حين يتجلى ذلك مذهبياً سياسياً (سنة — شيعة) كما في العراق وأقطار أخرى.
وتعبر هذه الثنائيات الاستقطابية عن هزال وسطحية التطور الفكري — السياسي العربي عموماً، وسيطرة السياسيين شبه الأميين على الأحزاب والدول، وعدم سماح هؤلاء بتطور فكري عميق داخل القوى السياسية وبين المثقفين وعلاقاتهم بالجمهور.
ويقوم هذا الاستقطاب الثنائي الكبير بجر قطاعات من الجمهور الذي لم تكن له أي صلة بالصراع الفكري إلى حومة الميدان السياسي، عبر استقواء أجهزة الأنظمة والأحزاب بالجمهور العادي، الذي ينقل كل تبسيطاته وجهله ومصالحه وعداواته إلى العمل السياسي. والأخطر حين تكون هذه الأجهزة والأحزاب لها قوى غير منظمة وغير رسمية، تتدخل في الصراع السياسي، معتمدة على «البلطجية» كما حدث فى مصر، أو على الجماعات المسلحة غير المرخص لها كما فى فلسطين؛ والعراق، ومن شأن ذلك وضع التنظيمين الكبيرين أو وضع الحكومة من جهة، والتنظيم المعارض الكبير من جهة أخرى في مواجهة مسلحة.
ولو كان التنظيم الكبير المعارض يتشكل من عدة أحزاب أو هو جبهة ديمقراطية، لهان الأمر، نظراً لإمكانية التعددية فيه، ولكن حين يكون التنظيم الكبير تنظيماً واحداً، تسيطر عليه رموز متضخمة وغير قابلة للنقد، ورافضة التعاون السياسي مع الحكومة بل هي لا تفعل سوى مواجهتها وإسقاطها، أو تفكيك سلطتها وشل البلد سياسياً واقتصادياً، فإن مثل ذلك يؤلب قطاعات شعبية أخرى على هذا التنظيم المعارض الذي يكون قد نقلهم إلى حالة خطرة، فيعتبر الوضع تحت سيطرة الحكومة أفضل، وهكذا ينتقل الصراع الحاد إلى الشعب نفسه.
ولهذا لا بد من إعطاء البرلمانات المنتخبة فترة زمنية كافية لحلحلة تركز السلطة، من دون أن يعني ذلك تفتتها، وإيجاد أشكال من التعاون بين مختلف الفرقاء، وإجراء عمليات تجديد في السلطة، ونقل اختصاصاتها الاقتصادية إلى المؤسسات المنتخبة والوزارات المستقلة، بحيث تعبر كلها عن تجاوز الاستقطابيات والثنائيات الحادة لخلق نسيج وطني وشبه إجماع على الإصلاح والتقدم.
تقطيع الفئات الوسطى
بدلاً من أن تكون الفئات ونخبها الطليعية قائدة لمرحلة التحول إلى النظام الديمقراطي الحديث، يجري إعادتها إلى الوراء، يجري جعلها تابعة للنظام التقليدي، فتصبح ادوات له، في وقت يفقد هذا النظام مشروعيته ويدخل العرب في مأزق تاريخي!
فالأنظمة التقليدية التي تملك المال العام ترشي ممثلي الفئات الوسطى وتفسد فكرها الحديث، فتروح تتكيف مع جوانبه العتيقة وفكره السياسي المذهبي وأشكال محافظته.
أو تحول هؤلاء الممثلين والمثقفين إلى أبواق في مختلف ميادين الإنتاج الفكري إليها لأنها لا تستطيع أن تنتج فكراً. وهذا إعادة لما جرى في العصور العربية الإقطاعية، حين كان الحكام يحولون إلى ممثلي الفئات الوسطى من أطباء وشعراء وعلماء وغيرهم إلى أدوات للملاط!
وقد بدأ انهيار الأنظمة الملكية العربية السابقة في العقود الأولى من القرن العشرين حين أصرت على أن تحكم بشكل مطلق، وتفصل بدلات سياسية دكتاتورية على مقاس أنظمتها الملكية (البرلمانية) و(الدستورية) فلم تجد الجماهير المقموعة عن الوصول إلى الأصوات الديمقراطية والليبرالية والتقدمية إلا الأشكال السياسية المذهبية تفرغ فيها احتجاجها، فكانت الأزمات وصعود القوى الشمولية وكانت الانقلابات.
وتقوم هذه الأنظمة نفسها بتوسيع الممارسات المذهبية السياسية ورشوة العديد من المفكرين الديمقراطيين والكتاب لكي يتخلوا عن أفكارهم ويغضوا الطرف عن التلاعبات بالثروة العامة، مركزين نقدهم على ظواهر جزئية أوطارحين ليبرالية عرجاء !
ولهذا لا بد من وقف استنساخ التجربة نفسها في الأنظمة الملكية الجديدة، وإعادة عجلات التاريخ للوراء، ولهذا رأينا أوجه الصرف الباذخة لظواهر نفاقية ومهرجانات الكلام المدحي وتشكيل فرق من شعراء الكذب العام!
ويجري تسمين كل منحرف عن خطه السياسي المعارض، ورفعه إلى ذروة السماء، ودفق المال العام في جانب ووقفه عن جوانب أخرى كثيرة.
ويجري الأمر نفسه لدى الجماعات المذهبية السياسية والشمولية المختلفة، فكل من أيد مواقف دول بعينها يتم تلميعه وإظهاره في الساحات الوطنية الخاصة، وعليه أن يسكت عن جملة كبيرة من ممارسات هذه الدول القامعة للحريات، وهو في بلده يطالب بأقصى تجليات الحرية!
فتجد على سبيل المثال أن الفضائيات مختصة بأسماء دون غيرها، وهذه الأسماء تعزف أنغاماً مدفوعا ثمنها.
والحصيلة أن الأنظمة الوطنية والدينية أو الأنظمة الملكية تتقارب فى سياسة واحدة هي رشوة الفكر الحر، وحرفه عن استقلاله، وبالتالى تأجير المنظمات السياسية كما تستأجر فرق الطبالين ومتعهدي الأعراس!
وتضع هذه المنظمات السياسية نظارات مختلفة للرؤية، فبلد تراه وردياً وآخر تراه جحيماً، حسب نوع المتعهد المالي لها، فنظام يقوم بقمع مليون شخص لا تقوم بالاحتجاج عليه، وإذا قمع نظام آخر أربعة أشخاص أثارت هذه المنظمات نفسها ثورة عارمة!
فليس هناك مصداقية منهجية في مثل هذا النظر السياسي بعد أن تم تخدير مجموعات كبيرة بالرشوة العامة، وبتحويل الأحزاب إلى قطعان تحركها ماراشات موسيقية طائفية، وبالوظائف، وبالقفز إلى المجالس المعينة والمنتخبة، ومن شأن كل ذلك أن يفسد الدساتير الديمقراطية المحدودة حتى الآن، ويحرك نوازع الانقلاب على النظم السياسية المستقرة، ويعبئ الشعوب ضدها من قبل المغامرين السياسيين والعسكريين ومن قبل القوى الأجنبية، أو يصيبها بالسلبية تجاه التحولات وتجاه المشاركة والأيمان بالأوطان.
لا طبقة وسطى بدون عمال فاعلين
نحن نحاول هنا الوصول لقوانين التطور الاجتماعي العربي، الذي يتشكلُ فيه حراكٌ سياسي كبير، وتتصاعد على مسارحه المتنوعة الفئات الوسطى، وهي تتذبذب بين الشرق والغرب، بين التراث والحداثة، بين الانتماء لجماهير العاملين وبين الانتماء لأجهزة الدول.
وهي تتحرك تبعاً لمصالحها الفردية والفئوية، فهذه المصالح هي الأكثر تأثيراً في عملها وتحولاتها.
فحين تدفع لها الدولُ، سواءً كانت دولها أو الدول المؤثرة في المنطقة، فهي تتجمد عند المقولات الدينية المحافظة، رافضة التجديد في الوعي الديني، أو تغيير مناهجها في العمل السياسي الوطني.
إن صعودها السياسي هو بفضل تجذر الدول الشمولية الغنية في اقتصاد الشعوب، فهنا يتشكل وعي يميني يرفض الانحياز لليسار، أي للعمال وللنساء، فهما شكلا حضور العاملين والمستغَّـلين في الحياة الاقتصادية.
إن المقولات الدينية تصبح مُبهمة، ويتم الابتعاد عن التاريخ الإسلامي النضالي الحقيقي، ثم الوقوف عند الميراث الذي شكلته الحركات التقليدية في التاريخ الماضي.
إن الفئات الوسطى المشتتة لا تستطيع أن تقود معركة الاستقلال والديمقراطية والتوحيد، ولا يستطيع قيادتها سوى العمال والنساء.
وفي البلدان الأكثر تمزقاً مذهبياً ودينياً كلبنان والعراق والسودان تصبح المسألة أكثر صعوبة، في حين إن البلدان الموحّدة مذهبياً تغدو أكثر قدرة على الاقتراب من ذلك، كالمغرب ومصر.
ولا ننسى العواملَ الموضوعية التي تجعل الفئات الوسطى مشتتة، والعمال ضعفاء سياسياً، وهي المتمثلة في الطور الراهن من الصناعة التحويلية، والاستخراجية، وسيادة الحرف الصغيرة والزراعة.
أي أنه كلما حدث التطور الصناعي الآلي وانتشرت التقنية وتغلغلت النساءُ في المصانع، تغدو ثمة شروط أكبر لتقدم مهمة اليسار في دفع الفئات الوسطى المشتتة المتضاربة نحو أفق المجتمع الديمقراطي.
كذلك لا ننسى المهمات الثقافية في توحيد الفئات الوسطى دينياً، أي بجعلها تساهم في تشكيل ثقافة إسلامية أو مسيحية ديمقراطية، أي ربط الثقافة الخاصة بنا بمسار البشرية المتصاعد نحو التحديث.
إن فاعلية العمال لا ينبغي أن ترتبط بمستوى تكنولوجي بشكل آلي، فهذه الفاعلية النضالية تشكلت حتى في زمن الإقطاع الكلي السيطرة، وهي التي عَبرَتْ بالفئات الوسطى الطليعية في أزمنة التحرر والاستقلال السياسي، إلى ميدان السلطة والمنافسة مع الطبقة القديمة، فبدون تضحيات عمال المصانع والطلبة والنساء ما كان ممكناً حصول العرب على الاستقلال الأولي.
لكن ذلك الذوبان العمالي في أحزاب الاستقلال القومي لا يجب أن يتكرر في أحزاب (الاستقلال) الإسلامي، وهي المتمثلة في المرحلة الراهنة. فهنا تتدفق جماهير الريف البسيطة لتأييد أحزاب الفئات الوسطى الدينية المشتتة والغيبية. إنها جماهير أقل في التطور الفكري من عمال بداية القرن العشرين العربي، لإنه تم إستدراج تراث عصر التقليد في زمن الدول الاستبدادية القديمة واعتباره هو الإسلام وتحريك هذه الجماهير من خلاله.
إن جمهور القرى والحرف المحطمة والتناسل الكثيف وجمهور الشباب الغض ذو خبرة قليلة بمسائل الصراع الاجتماعي، ولكن أصبح هذا الجمهور هو المجدد لنسيج الطبقات العاملة العربية الذي ينبغي تنويره لكي يكون يقظاً في تداخلات القوى الاجتماعية الراهنة.
إن استقلال العمال العرب الفكري هو الشرط الأولي من أجل فاعلية سياسية أكبر، ولدفع الفئات الوسطى لتشكل طبقة وسطى قادرة على صنع الحداثة.
إن العمال المنضبطين والمضحيين والمتنورين هم القادرون على نقد انتهازية وتذبذب الفئات الوسطى ودفعها لتكون جريئة في مواجهة التخلف والاستغلال. ويستطيع العمال أن يقودوا مجرى التحول السياسي إلى هدف أبعد من الحريات السياسية المجردة ومن رأسمالية التبعية.
قيادة الفئات الوسطى لليسار
لايستطيع العمال تكوين صوت سياسي لهم بسبب الظروف الموضوعية والذاتية التي يمرون بها، فأكثر من نصف العمال هم أجانب غير عرب، يصعب التفاهم معهم، وهم عمال مهاجرون أكثر ما يريدون وصولهم إلى لقمة العيش حتى تحت الظروف الأشد قسوة.
كذلك فإن منظمات العمال النقابية والسياسية عانت ظروفاً صعبة طوال عقود لم تستطع عبرها أن تشكل أصواتاً ديمقراطية واسعة الانتشار، وقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية دون عدة فكرية كبيرة.
كذلك فإن تكوين العمال تكوين لم يُدرس حتى الآن بشكل علمي، لكن من الملاحظ أن كثيراً من عمال المؤسسات الإنتاجية الصناعية الجديدة هم من العمال الأجانب، في حين أن العمال البحرينيين يتركزون في المؤسسات الإنتاجية التحويلية، وفي قطاعات الحكومة.
إن العمال هم عادة القاعدة الاجتماعية لليسار، ولهذا دون تكون الطبقة العاملة بصورة بحرينية واسعة، ولعبها الدور الإنتاجي الأساسي، فإن هذا التيار يحتاج لسنوات عديدة من أجل الحضور السياسي المؤثر.
إنه بدون تغييرات موضوعية في الاقتصاد والحياة الاجتماعية فلا يمكن تعزز هذا الدور، ولهذا كانت عمليات الصراع الانتخابي تقوم على أعمال فردية في غالب الأحيان، أي على جهود قلة من المتطوعين في حين أن النقابات والجمعيات المهنية لم يكن لها دور في تقوية التيارات الحديثة بل أن حتى الجمعيات السياسية نفسها التي ينتمي لها المرشحون لم ترفدهم بقوة ولم ينزل أصحابها للشارع.
ومن هنا فإن الفئات الوسطى في المستويات الدنيا خاصةً هي التي لعبت الدور الأساسي في العملية السياسية الكبيرة، ويعتمد خطابها على إستخدام المفردات المذهبية وعلى الغموض الاجتماعي، فهي نفسها لا تعرف ماذا تريد مستقبلاً، كما أن ثقافتها الاقتصادية محدودة، لكن ينظم تحت لوائها الكثير من العمال الذين يعتقدون أنها تعبر عنهم.
ولهذا فإن سنوات البرلمان الحالي تمثل مدرسة وخبرة لهم تجاه هذه التيارات ومدى قدرتها على فهم ظروفهم وعلى الدفاع عن مصالحهم.
لا شك إنه من الضروري إسناد النواب المدافعين عن مصالح الجمهور بغض النظر عن توجهاتهم الخاصة، لأن المهم هو تطوير أوضاع الناس، خاصة القوى العاملة الوطنية التي تواجه طوفاناً من المهاجرين المنافسين لها في لقمة عيشها وأجورها وعملها.
لا شك أن تطوير الفئات الوسطى للاقتصاد ودفعه نحو الوطنية والبحرنة وقيادة التعليم نحو المساهمة الكبيرة في تشكيل كوادر الصناعة الحديثة وتقنييها وغير ذلك من المهمات المحورية، هي التي سوف تكسب هذه التيارات المذهبية شعبية بين العمال، كما سوف تزداد خبرتها بالظروف الموضوعية للبلد، وإذا لم تفعل ذلك فإن موجة التأييد لها سوف تنحسر وسيبحث العمال والماس عامة عن البرامج الأقرب لتغيير وإصلاح أحوالهم.
ومهما كانت الأحوال فإن دور العمال البحرينيين سوف يزداد، عبر نمو الجيل الجديد، وعبر غياب دور أي طبقة إنتاجية أخرى في بلد بلا زراعة ولا حرف صغيرة كثيرة فيه، كما سيزداد نمو هذه المدينة الكبرى باتجاه الحداثة أكثر وأكثر، كما أن دوراً جديداً للنقابات قد أطل هو الدور الإصلاحي العملي المتدرج لحل المعضلات المعيشية والاقتصادية والتعليمية للعمال وأبنائهم.
كذلك فإن اليسار لا بد أن ينعطف نحو رؤى جديدة وأن ينتج أفكاره الوطنية المنفتحة على تراث العاملين وأن يشكل توحيداً لهم، وهو التوحيد الذي يمثل النواة الصلبة للوحدة الوطنية.
فتمثل الفترة الحالية لحظة التداخل بين الفئات الوسطى وقيادتها للجمهور وبين عملية جديدة ستفرز قيادات جديدة للعاملين ذوي تكوينات سياسية تتجاوز المرحلة السابقة.
تاريخية الطبقة الوسطى
لا نعثر في كتاب (رأس المال) على تاريخ الطبقة الوسطى، بل نراها مُنجزة مكتمِلة، فيتوجه التأريخ الاجتماعي إلى العمال.
فتاريخية الطبقة الوسطى، عبر تنوع رساميلها، أي عبر تطور بنيتها الداخلية، أمرٌ مفقود، وتغدو مكتملة ناجزة ويُؤخذ ذلك في الكتابات العربية كأمرٍ ثابتٍ، وتنقلُ كعمليةٍ مجهولة إلى المجتمعات الشرقي المختلفة التطور، والتي لها قوانين تطور مغايرة. وبهذا تضيعُ الحقيقة باكتشاف الطبقات الوسطى الغربية، وسيرورتها التاريخية، كما تضيع سيرورة الطبقات الوسطى العربية، لأن ثمة نسخة غربية مستوردة تتكفل بمنع قوى التحليل من العمل والبحث.
إن الرأسمالَ الغربي وجدَ نفسَهُ في مجتمعاتٍ مفتتة، وتشكلَّ في منعزلاتٍ ومدنٍ مستقلة، وهو أمرٌ مكنهُ من التطور المستقل والانتقال عبر الأشكال التقنية المثبتة في كتاب رأس المال وهي: مرحلة الحرف، مرحلة المانيفاكتورة، مرحلة التصنيع والثورة الصناعية، وكلُ مرحلةٍ من هذه أخذت قروناً.
وتوجه كتابُ رأس المال لدرسِ الطابع التقني لرأس المال، فغيبَّ درسُ التكوين لعناصر رأس المال الداخلية، ولنوعية الرساميل وهي: رأس المال التجاري، والصناعي، والمالي، وبالتالي غيبَّ طبيعة العلاقات التاريخية البنيوية بين هذه الرساميل وتلاحقها وعلاقاتها ومساهماتها المختلفة في تكوين رأس المال الكلي.
ولكن نستطيع أن نقولَ بناءً على مصادر أخرى، بأن مرحلة الحرف تضافرت مع رأس المال التجاري كرأسمالٍ غالبٍ، وكانت مرحلة المانيفاتكتورة قد نشأت بعد تضخم الرساميل التجارية وأتجاهها للصناعة، فراح الرأسمال الصناعي يصيرُ الأكبر ويتجاوز الرأسمال التجاري وهنا تتشكلُ الطبقة الوسطى في كل بلد أوربي حسب مستوى تطوره الاقتصادي، ثم تأتي المرحلة البنكية الأكثر تطوراً، فتغدو الطبقات الوسطى قارية فعالمية.
وهذا التوصيف أمرٌ نلمحهُ في المصطلحات حيث يسودُ تعبير (التجار) المرحلة الأولى مما يدلُ على سيطرة البضاعة ثم يظهر تعبير (البرجوازية) الذي تجاوز المصطلح الأول، حيث تصاعدت الصناعة التي هي وحدها التي تصهرُ العناصر المفككة وهي الرساميل المختلفة، والعلوم، والقوى العاملة، حيث تجعل نسبها وتوجهاتها مطابقة لتطور الصناعة، التي هي التعبير المركز هنا عن قوى الإنتاج السائدة.
إذا كان تطور الطبقة الوسطى الأوروبية تجلى بتلك السلاسة الاجتماعية السابقة الذكر، فهذا بسبب شروط تاريخية كبيرة، فقد كانت القارة الأوروبية من دون دول كبرى مالكة للثروة العامة ومحتكرة لها، وهو شرط كبير له جذور عميقة في التاريخ السابق، كذلك لم يكن للصناعة منافس قاري آخر، فالمواد الخام والرساميل راحت تتوجه لأوروبا، وهذا ما جعل التطور الصناعي يتشكل في مدن حرة راحت تغدو عواصم التاريخ الجديد.
لكن هذا أمرٌ مختلف في الشرق بتنوع دوله، فالمرحلة التجارية للرأسمال ظلت مستمرة، مع عجز الرأسمال الصناعي الخاص المتكون من التطور الواسع، لهيمنة الدول، وهي التي تقوم بتبذير المال على البذخ، أو الترحيل الخارجي، فتغدو الصناعة مستنزفة، غير قادرة على تجاوز المرحلة السابقة التجارية، التي تغدو شكلاً آخر للاستنزاف عبر توسعها وتحولها إلى مصدر بذخ وتخريب للإنتاج والتراكم الرأسماليين.
فتغدو الفئات الوسطى فئات، وليست طبقة، فلم تطهر فئة صناعية تقوم بصهر الفئات الأخرى وخاصة الفئة التجارية وجعلها مصدراً سابقاً وتراكمياً لها، فلم تستطع إعادة الأنتاج الصناعى الموسع، وتغيير طبيعة العلوم النظرية والثقافة الذهنية، والعائلة الأبوية، والعقلية السحرية.
وتأتى الرساميل الأعلى وخاصة الرأسمال المالي لتقوم بزيادة تدهور الرأسمال الصناعي، عبر ترحيل المال للخارج، وتوسيع التجارة الاستهلاكية البذخية، مما يؤدي إلى إضعاف الرأسمال الصناعي من كل الوجوه.
فهنا لا تتشكلُ طبقة وسطى، وتظل الفئات الوسطى غير منصهرة في تكوين اقتصادي، فالدول تلعب دور استنزاف الموارد، وتغدو الفئات الوسطى : التجارية – المالية – الصناعية – متضادة متناحرة، تلعب فئتا التمويل (البنوك) والاستهلاك (التجارة) دور خنق واضعاف (الصناعة).
وبالتالي فإن العناصر الاجتماعية لا تستجيب لتحولات إيجابية في البناء، فالعلوم عبر الجامعات لا تغدو على علاقة وثيقة بالبناء الاقتصادي وبالمصانع خاصة، والعمالة يغدو أغلبها غير منتج، فثمة حشود في أجهزة الدول تستنزف المال، وتغدو قوة العمل غير متناسبة وغير موجهة للتطور المطلوب، وتتزايد قوى العمل غير المنتج وتمتلئ المدن بالمهمشين وتفتقر الأرياف وتنهار الصناعات الصغيرة، وهي كلها أمورٌ تؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة.
استطاعت دول معينة كروسيا والصين التغلب على ذلك حين عمدت الدولتان لخلق الصناعة الثقيلة بقوة، واستخدمت الهند قوة العمل الهائلة الرخيصة والحريات.
فئات تحديثية تابعة للتقليد
قال عبدالملك بن مروان للشاعر جرير (لماذا أدخلت في قصيدتك اسم امرأة هي بوزع)، فقد كانت هذه امرأة من العامة، وهو اسم عامي، فهو يرفضُ أن ينزلَ الشاعرُ للعامة، ولكنهُ من جهةٍ أخرى قـَبلَ بقصيدةِ جرير المليئة بالسباب للشعراء وقبائلهم، من أجل أن تحتدم الصراعات بين الناس، فيقوم عبدالملك باستخدام هذه الأشعار في تلهية المواطنين عن ثروتهم الضائعة في خزائنه!
هناك سببياتٌ لتعبيةِ الفئات الوسطى للإقطاع، تعود لمستوى التطور، في الزمنِ الأموي كان الرعي وغنائمُ الفتوح، أسباباً لهامشية الفئات الوسطى تجاه الحكام، ومن هنا أضاعَ جريرٌ موهبته الشعرية، وفي العصر العباسي كانت الزراعة والحرف واتساع التجارة أسباباً لضخامة الفئات الوسطى ولكن على ضخامتها لم تستطع أن تغير مجرى الزمن لأن الأمر يتطلبُ صناعة خاصة، وفي بداية العصر الحديث نشأت الصناعة الخاصة وتقدمت الفئات الوسطى العربية في خطابها السياسي واستقلالها، ولكن جاء العسكرُ بسيطرتهم وقمعوها فحطموا استقلالية عقلها وجرأته، ووسعوا دائرة الخضوع والتسليم وهيمنة السلطات، رغم أنهم وسعوا الصناعة العامة، لكن تخريب الديمقراطية والعقلانية كانت لها خسائر فادحة.
وقد تم استثمارها في الموجة الدينية التي قامت على أنقاض دول العسكر وترافقت مع تصاعد الثروة في دول الجزيرة العربية والعراق وإيران بنفطهم فتوسع الفكرُ المحافظ وتوسعت الأجهزة في لجم تطور الفئات الوسطى عن الاستقلال، وقدمت ثمار مجتمعات متدنية التطور بمنتوجها الاجتماعي الخرافي والتقليدي كنموذج للبلدان العربية الأخرى التي هرسها العسكرُ! فغدت مهرووسة من جانبين ثورة صناعية مُجهضة، وهجوم رساميل نفطية وبيروقراطية وغربية ومدن مكتظة بالمهاجرين الوطنيين من الريف، أو مدمرة بفعل الحروب الأهلية والأجنبية، فأي عقل يظهر؟!
تاهت الصناعة العربية في زمن السيطرة الأمريكية، وتحولت إلى مطاعم أجنبية ومؤسسات تضخ الرساميل نحو الخارج!
إن خلق استقلال للفئات الوسطى عن الإقطاعين الديني والسياسي، لا يعتمد على عوامل فكرية فقط، بل يعتمد أساساً على مستوى تطور الصناعة العربية، وهذا التطور له حقب ومراحل موضوعية، ولكي يحدث الاستقلال للفئات الوسطى لابد أن تحصل الصناعة العامة على تملك وطني ديمقراطي، وأن تتجذر الصناعة الخاصة في تشكيل الثروة المحلية من مواد وبشر.
ولهذا في زمن هيمنة القطاع العام البيروقراطي على الثروة، يقابله الإقطاعُ الديني في هيمنته على الثروة الروحية.
وحين تراوح الفئاتُ الوسطى بالتعبية بين الجانبين يكون زمن هدر الثروتين الاقتصادية والروحية قد تم، خاصة إنها ثروة مواد خام كالنفط والفوسفات في حين أن ثورة التحديث العالمية ستترك الناس بلا تراث.
الذين يقبضون من الإقطاع السياسي يعومون الحداثة ويفرغونها، ولهذا فلدينا عشرات من الشاعر جرير، الذين يمدحون أو يسكتون أو يزورون التطور كلية.
والذين يقبضون من الإقطاع الديني يحنطون التراث، ويؤبدون المذهبية السياسية باعتبارها قمم الأمة المحنطة في المتاحف.
وهو قبضٌ تافه وأمامهم ثروات هائلة من التغيير، ولكن التحنيط يمنعهم من النشاط الخلاق، كما أن ظروفهم أفضل من زمن الدولة الرعوية اللصوصية القديمة، ومع هذا فهم حفظة الشعر العتيق والنثر المسجوع.
نفاجئ بأن الشعب الباكستاني في ظل هيمنة عسكرية طويلة تمكن من خلق حزب الشعب، يجمع التحديث والإسلام والديمقراطية وتقودهُ امرأة، وكذلك الشعب الهندي عبر حزب المؤتمر، في حين عجزت الإقطار العربية عن تكوينِ حزبٍ وطني نهضوي واحدٍ يلمُ كافة الشرائح والطوائف ويوجه الأمة أو الشعب لطريق الديمقراطية والحداثة!
حركية الفئات الوسطى وثبات العمال
يحتاج العمل السياسي الديمقراطي إلى نشاط الفئات الوسطى الديناميكية عادة، المتحركة، الباحثة عن مواقع قدم لها في الأرض الاجتماعية، وكذلك مبدئية العمال وصلابتهم في النضال.
ومن حق أي حركة سياسية أن تعمل في كل أرضها الوطنية وتختار المواقع المناسبة لها، التي تعطيها منتجاً سياسياً أكثر من غيرها، وخاصة تلك المواقع التي لها حضور تاريخي فيها.
كانت الانتخابات السياسية قد تجيرت بشكل طائفي خطر من قبل الهيئات المتنفذة حكومياً وأهلياً، وهو مصير سيئ للجميع مع الاستمرار في تجذيره، ولعدم القدرة على إنتاج ثقافة وطنية حديثة.
عبرت القوى التقليدية المتسيدة على الأرض عن أفكار قديمة، مثلما أن القوى الجديدة عاجزة عن إثبات جدتها.
رغم النشاط الذي تقوم به الفئاتُ الوسطى بطبيعةِ أعمالِها الحرة والوظيفية الحديثة لكنها ترتكز على الجانب التقليدي الفكري، والدعاية والأدلجة ونشاطات المقر.
هل تفكر القوى السياسية بالظروف الاقتصادية الصعبة للجمهور؟
هل تحلل أوضاع المدن التي تشتغل فيها سياسياً وظروفها العمرانية والاقتصادية والصحية والبيئية والمرورية؟
هل تعالج مشكلات العمالة الأجنبية وظروفها السكانية والاجتماعية المخلة بتطور البلد وظروفه؟
ما يتم التركيز فيه هو الخطابات السياسية والتحالفات للوصول إلى المقاعد، فليس ثمة خطط اقتصادية، ولا قدرة على معالجة التطور الاقتصادي الوطني برمته، ووضع الخطط البديلة الشعبية للخطط الحكومية.
فلابد من تلاقي الجمعيات والتيارات السياسية على خطوط عريضة ترتكز على المطالب العامة، وعلى النمو العقلاني للتيارات، وليس على الاستفادة من الحماسة المؤقتة.
يجب طرح مثل هذه الشعارات:
نطالب بمراقبة للشركات العامة وميزانياتها ومداخيلها وكيفية توزيع فوائضها بالصورة المناسبة.
نريد مساندة وإصلاح ومراقبة الشركات والبنوك الكبرى الخاصة لما فيه فائدتها وفائدة الأغلبية العاملة البحرينية.
تغيير أوضاع الخدمات العامة المتراجعة في الصحة والتعليم والبيئة والعمل الخ..
رفع مداخيل الجمهور بالصورة الاقتصادية التالية..
إن القوى الوسطى تتوجه للصراعات فيما بينها لأسباب فكرية لا تهم الجمهور، وبهذا تتصارع طائفياً وسياسياً بشكل غير حضاري، وهو أمرٌ يبدو في الشعارات، وليس ثمة تركيز في الأوضاع الاقتصادية العميقة، لأن دراسة هذه الأوضاع بشكلٍ موضوعي ليس بقدرة أحد التيارات بل تحتاج إلى تعاون جماعي كبير من التيارات المحلية.
التعاون المشترك من قبل القوى السياسية لتقوية الرقابة البرلمانية وجمع المعلومات الواسعة.
والهدف الاقتصادي الاستراتيجي إيجاد تعاون بين القطاعين العام والخاص يستهدف ضبط تطورهما المشترك وتنمية القطاعين ومداخيلهما ورفع مستوى معيشة الناس في ذات الوقت.
إذا وَضعت الفئات الوسطى التي بيدها النشاط السياسي الانتخابي مصالحَ الغالبيةِ العامة من الناس فهي تجذر تياراتها وأفكارها على صعيد حقيقي ومستقبلي بعيد المدى، بدلاً من انتهاز الفرص والوصول إلى الكراسي بغض النظر عن المستقبل واستغلال المشاعر المؤقتة، وهو ما لا يجذر أفكارها مهما كانت.
كما أن من المناسب للقوى العاملة أن تبحث عن مرشحين متجذرين ذوي خطط مستقبلية طويلة، فالاقتصاد يعاني كثيراً، والحكومة تعتمد على ما هو مؤقت، وعلى الإبر البترولية المؤقتة، وتدفق الشركات وفيضها العابر، وحتى الآن لم ينجح الاقتصاد المنوع الذي طـُرحت شعاراتهُ خلالَ عقود طويلة، مما يشير إلى سياسة اقتصادية غير ناجحة على المدى الطويل، سوف تتضح مشكلاتها مع تضاؤل الإنتاج البترولي.
ولم تنجحْ الإبرُ المؤقتة في السنوات الأخيرة والمعالجات القصيرة، والأمور تحتاج إلى تعاون وطني واسع بين قوى الدولة والتجار وأرباب العمل والعمال، تعاون سياسي عميق وليس اتفاقات مؤقتة وعاطفية.
وليس إلى تدفقات عفوية كبيرة تؤدي إلى بعض الدخول وإلى الكثير من الزحام والتضارب وفوضى السوق ونتائجه على ازدحام المواصلات وعلى الخدمات.
كذلك فإن الاندفاع على الموارد المحدودة ليس هو الجانب السليم.
وكذلك التدفق في استخدام الأراضي بأشكال مؤقتة سريعة.
هناك إذًا مشروع حكومي لاستثمار ما هو مباشر وبشكل سريع ومن دون وجود خطط اقتصادية موضوعية مسقبلية بعيدة المدى.
وثمة مشروعات خاصة للنمو الاقتصادي الربحي السريع من دون تعاون ورؤى جماعية ومن دون رؤية لأوضاع الغالبية.
بطبيعة الحال لن يهتم الجمهور العريض بمسائل الخطط المستقبلية وهياكل الاقتصاد وغير ذلك من القضايا المعقدة، بل سوف يطالب بخدمات رخيصة ومكاسب مادية كبيرة، ونواب يحققون له مثل هذه الرفاهية.
وهي أهداف مهمة فهناك دخول كبيرة قادرة على ذلك، وجزء من الرقابة البرلمانية والبلدية والسياسية لابد أن يتوجه لذلك، ولكن هذا لا يكفي من دون رؤية بعيدة المدى، وقوى سياسية ذات إدراك مسقبلي وذات قراءات للاقتصاد وكيفية إصلاحه وشرح ذلك للجمهور لكي تتشكل كوادر مستقبلية فيه تفهم هذه القضايا وتناضل من أجلها.
تيارات وسطى محدودة
لا أعتقد إن المعارضات لدينا سوى أشكال من رأسماليات دنيا محدودة، وبإستخدامها الشعارات الدينية الغالبة تكمن في طبقات باطنية إجتماعية لم تتبلور في فئاتٍ وسطى متقاربةٍ موحدةٍ تعملُ على تطوير البنية الرأسمالية السائدة السياسية شديدة التباين والمستويات.
الشعارات الدينية الكثيفة تعبر عن تخلف أشكال الوعي التجاري والقانوني. إنها شعارات مسلوقة يمكن أن يرددها الكثيرون، لكنها تعكس إستغلالاً للدين، فلماذا يجهد النائب بالتعرف على قضايا الحياة؟
وحتى قوى الفئات الوسطى الحاصلة على تعليم وعلاقات بالسوق الحديث تريد أن تسوق نفسها بتوزيع النقود.
لكن البلد تتطلب علاقة من هذه القوى بقضايا الناس ومعرفة المشكلات وكيفية دعم التطور الإنتاجي للجمهور.
فليست الشعارات السياسية مفصولة عن الوجود الاجتماعي لهذه الجماعات، فبعض التجار يطرح تطوير الحياة السياسية الحديثة لكن كيف؟
إذا لم يقم التجار بدعم تطور الريف وبناء مؤسسات إقتصادية ناهضة به كيف يمكن أن يفهموا الناس؟ والأصوات نتاج علاقة سياسية وليست كرماً.
إذا لم يدعموا العمالة البحرينية ويوسعوا تطورها العلمي التقني ويكثفوا حضورَها في المرافق السياحية والبنوك وغيرها من المؤسسات كيف يحصلون على دعم العمال في الإنتخابات؟
هل يرتقي وعي الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة إلى أنهم ممثلو طبقة في طور النمو والتشكل، أنهم فئات واعدة تجارياً سوف تصعد، وهم ليسوا ممثلي بلديات، ووعيهم السياسي الراهن سيحجزهم على أنهم مندوبو البلديات في مجلس النواب.
لم يقدروا خلال هذه السنوات على القراءة التشريعية السياسية الكفاحية وعلى القراءة الاجتماعية، أي أن يضعوا جانباً مما يكررونه عن الدين، وينظروا للاقتصاد الذي هو في حالات من الارتباك والمستويات غير المنسجمة والتباينات الشديدة في العمالة البحرينية من جهة والعمالة الأجنبية من جهة أخرى، وكيف يمكن تغيير ذلك عبر أدوات التشريع؟
وأن ينظروا للدخول وتحديدها وتوزيعها على الجوانب الرئيسية في الاقتصاد، وأن يكون التقشف في مصاريف الدولة على الجوانب غير المفيدة في تطور الاقتصاد.
المطلوب في الواقع الكتل التي هي أقرب للطبقة الوسطى البحرينية القادمة باتجاه الحداثة والوطنية والحرية، أن يظهرَ نوابٌ أقرب لتقديم مشروعات تضبط وتغير الاقتصاد المشتت الملامح نحو إقتصاد وطني على مستويات البنى الإنتاجية والعمالة. أن تتم عملية ترشيد رأس المال باتجاه التحديث الوطني.
وتنامي العمالة البحرينية جزءٌ هام من تنامي تطور الاقتصاد، فالعمالة الأجنبية بتوسعها الخرافي الراهن غير المنضبط وغير المدقق فيه، عامل هدر إقتصادي كبير.
الفئات الوسطى متباينة أشد التباين في أفكارها، وهذا يعبر عن محدودية الوعي السياسي لديها، فثمة أفكار في أقصى الليبرالية تنادي بحرية المشروع الخاص بشكل كامل، وترفع شعارات مجردة، وثمة الخطابات الدينية التي تجعل من هذه الخطابات ورقة تستر محدوديتها السياسي وعدم فهمها للحياة الاقتصادية الاجتماعية.
منحيان سوف يهيمنان على المجلس القادم كما يبدو، وهما معبران عن أن الفئات الوسطى المسيَّسة فقيرةٌ في إطلاعِها، غير قادرة أن تستبصر ضرورة الاصلاح الاقتصادي العميق: تخفيف بنية الدولة الاقتصادية الخدماتية الإعلامية الخ، من أجل نمو القطاعات الخاصة خاصة في ميادين الإنتاج الحديث، ونمو القوى العمالية البحرينية المتطورة تقنياً، وحل الإشكالات الاجتماعية السكنية والتعليمية والصحية المرافقة لتلك التحولات.
إمكانية صعود تيارات ذات معرفة بهذه القضايا وقادرة على أن تحول مجلس النواب إلى فاعلية مدركة للواقع والظروف والإمكانيات المتاحة للتغيير، متوقفة على الناخبين، فهل هم يتابعون بعمق، وهل سوف يساهمون في تطور البلد؟ أم انهم يعتمدون على ما يقال، وينجرون للدفع الديني ويُسحبون في باصات للبصم على المرشح الفائز مسبقاً؟
لكنهم هم سوف يتحملون مسئولية هذا التصويت، ولن يجدوا أصواتاً جديدة، ولن يعثروا على قوى علمية تبحث في الاقتصاد والعمالة والأجور والأسعار والقوانين.
الكرة الآن في ملعب الناخبين ومدى متابعتهم ومدى مشاركتهم في العملية السياسية.
على طرق تكون الطبقات الوسطى
إن تبدأ الجزر والمدن الصغيرة في الخليج بالسير نحو الديمقراطية هو شيءٌ طبيعي من قبائل وجماعات مارست التجارة طوال قرون.
ولكن الديمقراطية الكاملة المنجزة مسألة طويلة وتاريخية، والعديد من الدول العربية تسير بهذا الاتجاه.
إن تكوينات الفئات الوسطى ضعيفة، ورؤاها محدودة لمستقبلها، والتباينُ الشديدُ في تكويناتِها الفكرية والسياسية هو دليل على ذلك، إنها الآن تستعيدُ المرحلةَ الليبراليةَ المقطوعةَ من قبل المرحلة القومية العسكرية السابقة، وهي إستعادة مبتورة، فهي قفزة عن تلك المرحلة وليس إستكمال لها.
لم ترثها، وتراكم على منجزاتها، بل قفزت عنها.
يتضح ذلك في تكوينات الجماعات القومية والاشتراكية والدينية التي هي حائرةٌ تجاه المرحلة الجديدة المتداخلة بين ما هو قومي ضائع، وليبرالي هش.
الأجواء العربية مستباحة، ودولٌ فقدت إستقلالها الحقيقي، ودول تتجه للتمزق، ودول متشددة تكاد تضيع المنجزات الصغيرة للتاريخ الراهن.
فتغدو المرحلة الديمقراطية الليبرالية الهشة الراهنة بحاجة للتوحد والتعاون بين مختلف الدول وفصائل الحياة السياسية.
أخطر المشكلات في الفصائل والدول السياسية التي تطرح(الديمقراطية) هو إن سلوكها غير تعاوني وتريد الهيمنة على القوى السياسية الأخرى والبلدان المغايرة لسياستها.
تعبر هذه الدول والجماعات عن تغييب قطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية عن الحداثة، وعن المشاركة الحرة في الانتخابات، وتريد قولبتها، وتبقي حياتها الاجتماعية العميقة بدون حريات حقيقية.
لا شك أن المرحلة الليبرالية الصاعدة الراهنة تريد صبراً طويلاً من قبل القوى السياسية والجمهور، فإزالة العديد من المخلفات الاجتماعية للعصر السابق تتطلب أولاً تنوراً أي إنتشار ثقافة ديمقراطية، فليست الديمقراطية وجبات سريعة أو حلولاً ضوئية لمشكلات العمال والمزارعين والحرفيين.
الديمقراطية في كل بلد هي قدرة أغلبية النواب على رؤية ما هو ممكن من تغيير وإصلاح، كيف يفرزون ما هو سائد وضروري وما هو تحولات جديدة تغير حياة الناس وتطور الاقتصاد والثقافة.
لكل بلد ضروراته، أي وجود ميزانيات محددة تعكس طبيعة النظام ومصالحه وأمنه، ولكل بلد عمليات التجديد المطلوبة والنابعة من إمكانياته والتي تخرجه من جموده وتوسع تطوره.
وقدرة النواب تكمن في هذا الفرز وقراءة الممكن، وبالتالي تتشكل عملية تعاون بين مختلف الأطراف، لرؤية ما هو مهم لتطور التجارة أو الصناعة، وما هو مهم لتغيير حياة الغالبية الشعبية في عيشها في ظل التطور الوطني العام.
إن توسع التنمية والعيش مرهونة بمراقبة أوضاع الاقتصاد وتغيير جوانب الحياة الاجتماعية والعلاقات مع الخارج المُراقبَة والموضوعة عبر فحصٍ بين البناء الاقتصادي الداخلي والعلاقات التجارية المفتوحة التي قد تستنزف الموارد بدلاً من تنميتها.
بطبيعة الحال سوف تصطدمُ مكوناتُ النواب بين مدافعٍ عن جمهور وبين داعٍ للتجارةِ المفتوحة بدون رقابة، بين من يحمل الحكومات كل الإشكالية ومن يحملُ الشعوبَ وتدني قدراتها العلمية والإنتاجية، بين من يريد برلماناً كلياً ومن يريد حكومات كلية.
هنا تظهر طبيعة الفئات الوسطى المدركة لنظام ديمقراطي تحديثي تعاوني ينشأ مرة أخرى في هذه الليبرالية العالمية الجديدة، والهشاشةُ تكمنُ في عدم المعرفة بين هذه الفئات وعدم التعاون وتشكيل تجربة متكاملة منسقة بين مختلف الأطراف.
هنا تظهر إمكانياتٌ لخلقِ الركائز لأوضاعٍ ديمقراطية متجذرة عبر تنامي الفئات الوسطى والعمالية المنتجة والعلمية الجديدة، عبر معرفة الفوائض الاقتصادية وتوزيعها على التطور الاقتصادي.
ربما كانت برلمانات عامية أو ذات مصلحة عابرة لكن الشعوب تكونُ تجاربَها بالتجريب، وتخرجُ من بين صفوفها مدركين وعلماء وقادة، يقرأون سببيات التطور الغائرة، ويوجهونها عبر كافة جوانب العمل السياسي.
تحسن حياة الجمهور المعيشية هو فيصل لهذه التجارب، فهو ذروة المعرفة السياسية الحصيفة، دون إخلال بالتطور وركائزه، بل يأتي ذلك عبر تنامي هذا التطور الاقتصادي، أي عبر القوانين الحقيقية للاقتصاد والسيطرة عليها، وليس عبر نثر النقود بأشكال إحسانية.
أي كيف تزداد العمالة المتطورة الرفيعة والأجور الفعلية وتُضبط الأسعار الذاتية غير المعبرة عن قوانين القيمة.
تحتاج البرلمانات خاصة في هذه المراحل الأولية إلى تعاون مختلف القوى السياسية والاجتماعية.
تكونُ الفئاتِ والثقافات
بما أن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الراهنة العسيرة التطور في طور الانتقال من المجتمع التقليدي للرأسمالية الحرة، وتقعُ في الوسطِ الرافعةُ الاقتصاديةُ السياسية وهي أجهزةُ الدول، فإن حراكَ الفئات والثقافات مهم جداً لخلقِِ هذه الولادات العسيرة.
على مدى طليعيةِ ومستقبلية قادةِ الدول والأجهزة والأحزاب يعتمدُ تحقيق هذه القفزة.
إمبراطورُ اليابان وأسرتهُ في القرن التاسع عشر إختارا الدخول في التشكيلة الرأسمالية(الحرة)، أي المعتمدة على قوانين السوق لإدارة الاقتصاد، مع قيام الدولة بدورِ القابلةِ الموَّلدةِ للجنين الحديث من بطنِ المجتمع القديم.
ولكن الدولة اليابانية غدتْ عفريتاً قُبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها فجاءتْ الضرباتُ لتشكلَ ولادةً دمويةً كارثية، لكن تم فيها قطع حبل السُرة بين القديم والجديد في اليابان. فلا يوجد حلٌ وسط بين دولة رأسمالية حرة ودولة مستبدة.
في روسيا إختار اليسارُ مصطلحاً لحزبهم وهو الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي، وكان يعني إختيار الطريق الديمقراطي الغربي لميلاد روسيا الحديث، لكن فصيلاً منهم عصفَ بهذا الطريق، ولا تزال روسيا بعد كوارثِها وتحولاتها تتطلعُ لميلادِ رأسمالية حرة بعد أن بلعتْ الدولةُ المجتمعَ!
القادةُ الكبارُ في الدول الشرقية هم الذين يمسكون ببؤر التطور، وبمدى قدراتهم على تبصر الواقع والمستقبل: نهرو إضطرب كثيراً وهو يحورُ رؤيةَ غاندي الديمقراطية إلى إشتراكية، ولكن تراث الشعب الهندي الديمقراطي التنوعي التعددي أعاده لمسار السكة الهندية الأصيلة فحققت الهند ثورتها الصناعية.
قد يختار القادةُ العودةَ للوراء وهم يظنون إنهم يقفزون، هذا يعتمد على مدى ديمقراطية الفئة الحاكمة وثقافتها بقوانين التطور الاقتصادي، ولا بد من إنسحابها التدريجي من تملك وسائل الإنتاج، بوضع أسس ديمقراطية لمراقبة هذه الوسائل وتوزيع فوائضها، وبمدى مساهمة القوى السياسية الطليعية في دعم هذا الخيار، وبعدم خلق إضطرابات إقتصادية فوضوية وقفزات خيالية وإعتماد تنامي الموارد والاحتفاظ بوسائل الإنتاج الكبرى ملكيةً عامة، وفتح الطرق للقوى الخاصة لزيادة الإنتاج، وتوسيع ملكياتها.
أما زيادة التبذير وتوسيع القوى الاستهلاكية، ونقل الفوائض للخارج، وحدوث تآكل تاريخي لرأس المال الوطني فهو ليس الطريق.
أي أن أحجام الفئات المنتجة والفئات المستهلكة يجب أن تكون من نصيبِ الفئات الأولى، مثلما أن وسائل الإنتاج (أ) تكون هي الأكبر والقائدة لوسائل الإنتاج(ب) في نضال صناعي علمي لعقود.
وركائزها قواعد تصنيعية جبارة وقوى تحديث علمية ثقافية وتنامي للعمالة الماهرة.
دولُ الخليج تجري فيها الأمور بالعكس، وسائل الهدر أكبر والإستهلاك أعظم والقواعد الإنتاجية الحديثة لا تتطور بالسرعة الكافية وبالنوعية المتقدمة:
يحدث نزيفٌ على مستوى الإستهلاك، على مستوى ضخامة العمالة الأجنبية، على مستوى خروج الرساميل والفوائض، على مستوى التضخم الإداري، على مستوى بقاء القطاعات التقليدية.
الإمكانياتُ الماليةُ تلعب دور طاقية الإخفاء فوق رأس الاقتصاد.
أن قوى السياسة – الثقافة لا بد أن تكون قريبةً من فهم كيفية الحراك التاريخي في أي مجتمع، وبدايةً لا يوجد فهمٌ للمسار التاريخي لدى التيارات السياسية، و حتى كبار القادة في تاريخ الشرق تاهوا في ذلك بين أحلامهم الكبيرة والواقع الحقيقي، بين إسقاطات الأماني وسقوط المشروعات المتخيلة.
ومن هنا يأتي درس الواقع بحقائقه وحل مشكلاته بحيث توجد نظرة عامة مبنية على حقائق البشرية في القرن العشرين وبداية القرن.
الغرب يريد تبعية توظيفية للرساميل الخليجية في ترسانته المالية، فيقتصر على تحليل السطح وإستثماره، في حين أن الخليج يحتاج لأن يغير أعماقه، أن يتصنع، وأن تزدهر القوى الاختصاصية فيه خاصة المهن الثورية في العالم الراهن: تقنية المعلومات وصناعاتها.
الغرب يدعو لهدم القطاعات القيادية في الإنتاج الوطني لبلدان العالم الثالث، لهذا يقتصر على الحديث عن الحريات المجردة، والحريات ضرورية في ظل نظرات وطنية قيادية للتطوير الإنتاجي.
وكل بلد خليجي لا يستطيع أن يقوم بالثورة النصاعية العلمية لوحده، فتكامل المجموعة هو شرط آخر لهذه الثورة.
والواضح أن الثروة النفطية سوف تضيع قبل أن يتحققَ شيءٌ من ذلك، وسوف تبقى لنا (الخردة)، أي بقايا المنجزات الاقتصادية، مع الكثير من المشكلات، كالهياكل الإدراية الهائلة، وعدم تطور القوى الثقافية باتجاه الثورة التقنية، وضخامة الاستهلاك الخ.
أي أن المجتمعات الخليجية هي الأكثر بعداً عن فهم العمليات الاقتصادية التحولية في العالم.
حلفاءُ الطبقةِ الوسطى بين الحضورِ والغياب
جسدت التحركاتُ العربيةُ في العام 2011 مستويات حضور الطبقة الوسطى في كل بنية إجتماعية.
كان القطران مصر وتونس أقرب لتشكيل هذه الطبقة، ونشر مفردات الحداثة والحرية في طبقاتِ الشعب العادية، فيما وجودُ هذه الطبقةِ ملتبسٌ في كلِ من الأقطار الأخرى، وإلتباسُها منوعٌ.
في اليمن الوجود ذاته شبه غائب. فيجري الحراك الشعبي العامي المضحي الجريء دون قوتها الاقتصادية السياسية. في سوريا أغلبها منتجٌ من داخل النظام الشمولي نفسه، ويتجسد في بقاء المدينتين الكبريتين حلب ودمشق خارج الحراك. في العراق والبحرين الانقسامُ الطائفي شلَّ المجموعات السكانية من فئات وسطى وعمال عن أي تغيير ديمقراطي مهم، والبَلدَان بصددِ ترميمِ ذاتيهما بدون قراءة عميقة.
حين نقرأ تجربة مجموعة المنظمات البحرينية التي تكونت من خلال التأثر بالأنظمة الشمولية العالمية والعربية سندركُ طبيعةَ قوى البرجوازية الصغيرة في تذبذبها.
إن أي جماعة بصدد إنتاج وعي ديمقراطي لا بد لها من التخلص من أثواب الماضي الشمولية القديمة، ولكن على مدى سنوات التحول السياسي الراهن دأبتْ هذه الجماعات على التغني بتاريخها الشمولي.
بالنسبة للماركسية – اللينينية أُعتبرتْ مرجعاً لا ينفد ولا يزالُ صحيحاً، وهذا يرجعنا للعودة دائماً إلى نظام رأسمالي حكومي شمولي، لم ينتج تجربةً ديمقراطيةً حتى الآن.
أي أن مرجعية الجماعات المؤيدة لهذا الوعي لم تستطع نقد هذا المصدر وإنبثاث مفرداته في التجربة المحلية، وبالتالي فإن الحديث عن(الرأسمالية الديمقراطية العلمانية) والتوجه نحوها يعتبرُ خطراً ومرفوضاً في هذا الوعي، الذي تجمد في تجربة قديمة شمولية.
لو أن هذا النقد قد حدث وتمت معالجة التجربة والتاريخ فإن التوجه الحداثي يغدو هو المرجعية، دون تفريط في الدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية وتطورها في المستقبل، وبالتالي يتشكل خطٌ آخر بعيد النظر يجمعُ كافةَ قوى وعناصر الديمقراطية الاجتماعية والسياسية.
وليست التنويعاتُ الأخرى من فصائل البرجوازية الصغيرة سوى أشكالٍ أخرى من التجاربِ الرأسمالية الحكومية في العراق وسوريا، حيث البعث وإستعادة كيان الأمة، وهو كلامٌ تجريديٌّ تعميمي، ولكنه يعني أن تقومَ دكتاتوريةٌ حزبيةٌ بهذا البعث، في قطر من الأقطار، فتتماهي الدكتاتوريةُ الحزبيةُ مع دكتاتوريةِ الدولة والطبقات العليا، بدلاً من وجود دولة ديمقراطية ينمو فيها وعي الشعب وعناصره السياسية المتعددة ونمط معيشته من خلال مؤسسات ديمقراطية.
أي أن هذا الوعي الشمولي حين مضى في التجربة البحرينية الأخيرة راح يستعيدُ مفرداته وهي تتحطمُ أمام عينيه في تجربتي العراق وسوريا وغيرهما وقبلهما مصر، دون أن يقدرَ على مراجعة هذه المفردات، لكونه غيرَ مخولٍ بنقدها وإعادة تغييرها، بل يكون ذلك من قبل منظمات قومية خارج القطر البحريني.
والمنظماتُ الدينيةُ لا تختلفُ عن هذا الجوهر الاجتماعي السياسي، حيث هي تقومُ على البعثِ الديني، فتتماهى كذلك مع الدولِ الشموليةِ الحاضنةِ لمذاهبها، في أي مرحلةٍ تكونُ هذه الدولُ المذهبية الشمولية وبتحولاتها وكيفية تجسد سلطاتها وتوزيع مواردها.
فهي كذلك تستورد نمطاً شمولياً خارجياً، ولهذا كله لم تقم هذه الجماعات بتنمية عناصر ديمقراطية حتى لو كانت صغيرة وتزرعها وتتوحد مع صانعي هذه البذور في القوى الاجتماعية الأخرى.
إن عدم مقاربة تيارات البرجوازية الصغيرة للطبقة الوسطى وإحتمالات تطورها يشكلُ التسرعَ والقفزَ على التاريخ الموضوعي، ويشكلُ أساسَ المغامرات السياسية.
إن العناصر الفكرية للماركسية والقومية والإسلام والنهضة ليست ضارة، ولكن المسألة تتحددُ بنزع الطابع الشمولي منها، فلا بد للمسلم أن يقرأَ التنوعَ وحريةَ الجمهور في بداية الإسلام وينقدَ الدولَ والجماعات الشمولية التفتيتية لأمم المسلمين التي نشأتْ بعد ذلك، مثلما يفعلُ الماركسي تجاه التجارب الاشتراكية الدكتاتورية، والبعثي تجاه التجارب القومية الاشتراكية. إن هذه العناصر مهمة ولكن داخل تجربة ديمقراطية وداخل التراب الوطني.
كان رفض هذه القوى للتعاون مع القوى التجارية والاقتصادية، على أساس إن هذه غير معارضة وغير قوية في معارضتها بسبب الاستعجال المستمر والذاتية وعدم معرفة التاريخ العالمي والتاريخ الوطني.
وهو نفس السياق القديم، بدلاً من وضع السياق الحديثرهن التطبيق، أي كيف يتم التعاون بين القوى السياسية الاجتماعية الوطنية كلها لمحاربة البطالة والفقر والفساد والاستبداد بالنساء وأزمة الريف المعيشية والتلوث وغيرها من المشكلات بصورة واسعة.
بل إختارت طريق المجابهة وفرض التحول من خلال خلفياتها وبرامجها الصراعية، أرادت البرجوازية الصغيرة بفئاتها المختلفة أن تكون بديلاً للطبقة الوسطى.
فئاتٌ وسطى عقلانية جديدة
لم تستطعْ منظماتُ البرجوازية الصغيرة البحرينية خلال ربع القرن السابق إيجاد شيءٍ تحولي جديد. القوى التحديثيةُ تآكلتْ ولم تعد لديها حتى قوى بشرية كافية للعلاقة مع الجمهور، لكن الأسبابَ العميقةَ تعودُ للأفكارِ المُجمَّدة خلال حقبةٍ طويلةٍ تمتدُ لنصف قرن.
العلاقةُ المفيدةُ والجيدةُ مع العمال لم تعدْ للسابق، وأغلبيةُ العمال غدت ريفية أو أجنبية، ولها مسارات مختلفة، وظهر حراكٌ ايديولوجي مضطرب.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين لم تُعدْ القوى السياسيةُ النظرَ في الايديولوجيا السائدة، وهو النمطُ الآسيويلا الشمولي من الماركسية. فلم تكن لديها قدراتٌ فكريةٌ لفهم ذلك فما بالك بنقده، وحين حدث التحول في الاتحاد السوفيتي أُعتبرَ كارثةً وليس كشفاً لحقائق عميقةٍ كانت مجهولة.
وحتى هذه النسخة المسطحة من الماركسية الشمولية لم تكن حتى مُستوعبة قواعدياً، وكانت الخلافات بين الفصائل تتركز في نهج نضالي أكثر مرونة ونهج مغامر؛ نهج يبحث عن سببيات التغيير في الداخل وينمو عليها، لكنه ركز التغيير في العمال، ورفض دور البرجوازية بمختلف شرائحها لتقود عملية تغيير وطني ديمقراطية بالتعاون مع العمال.
مع التآكل لقوى المعارضة اليسارية لم تعد ثمة من فروق جوهرية بين نهج متعقل ونهج مغامر، صار النهجان مغامرين.
وهذا أمرٌ شائع في قوى السياسة اليمينية عادة حيث تتآكلُ الشعاراتُ المتباينة ويظهرُ الجوهرُ الطبقي المتواري، إنها سياساتٌ يمينية ولكن تبدو بشكل يساري.
إن منظومة (المعسكر الاشتراكي) لم تكن سوى سيطرة قوى بيروقراطية استغلالية تتجهُ لليمين بشكلٍ مستمر، وتلغي مصالحَ العمال عبر العقود، حتى رأينا الشكلَ السوفيتي أو الصيني الماوي وكيف يغدوان معبرين عن برجوازيتين حكوميتين فاسدتين بلا أدنى مكياج.
عمليات التصاق برجوازيتنا الصغيرة وفئاتها بالمنظومات الاستبدادية العربية والعالمية، تمت من خلال عدم الاستقلال وعدم بقاء الوعي النقدي حاضراً، ومن خلال سيطرةِ الشعارات، وهو ما تفعلهُ الآن البرجوازيةُ الصغيرة الريفية المذهبية تجاه النظام الإيراني وربط أفكاره بعملية التغيير الداخلية.
المعسكرُ الاشتراكي والعسكرُ القومي العربي والعسكر (الإسلامي) دولٌ يمينية بشعارات يسارية غير حقيقية، لكنها تخترقُ القانونَ الطبقي وتحيلُ البرجوازيات الصغيرة لقوى برجوازية فاسدة، على المستوى العالمي وعلى المستوى القومي.
على المستوى القومي العربي يتذيلُ هذا الوعي حتى يتآكل وينهار ويخترقهُ الوعي الديني البرجوازي الصغيرُ المغامرُ المماثلُ ويكون بديلاً وإستمراريةً له. على المستويين الإيراني والبحريني يبدو الفارق بين الأصل والانعكاس واضحاً، الأصلُ يتحلل، والانعكاسُ لا يفهمُ الأصلَ وتناقضاته وفساده.
هذا كله أدى إلى غيابِ الفكرِ التأصيلي الماركسي الوطني العميق، أي لم يحدثْ إنتاجٌ فكري للتجربة البحرينية وتُقرأ المساراتُ المختلفة وتكون الرؤية المستقبلية حاضرة في الراهن، وغيابُ ذلك هو أيضاً من سببياتِ الخسائر في الأعضاء ومن أسبابِ التآكل في البُنى التنظيمية، ومن استمراية التجربة المذهبية في الفشل والخسائر ومنع التوحد.
عدم التطور الفكري السياسي من جهة وتبدل المنظمات السياسية العالمية، أي ظهور الطابع الطبقي للمعسكر الاشتراكي كرأسمالياتٍ حكومية غير ديمقراطية، والاضطراب حيال هذا الظهور وعدم اتخاذ موقف ديمقراطي عميق، والعودة لجذور الماركسية الديمقراطية، والانفصال عن النسخة اللينينية والنسخة الماوية، المشوهتين للمنابع الحقيقية، هذا كله أوجد الميوعة السياسية النظرية والسماح باستمرار عقلية البرجوازية الصغيرة المتذبذبة الانتهازية.
الآن نعيشُ لحظةً جديدةً وبحاجةٍ لدعمِ فئاتٍ وسطى مختلفة، مقاربةٍ للديمقراطية رافضةٍ لاستغلال المذهبية في الصراع السياسي، وهذا يعتمدُ على ما تقدمهُ للجمهور العمالي والفقير من تحولات اقتصادية واجتماعية. مجيءُ فئاتٍ وسطى وتطويرها للبرلمان باتجاه الوحدة الوطنية وباتجاه الدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية، مسألةٌ مهمةٌ لابدَّ من تطويرِها ودعمها ونقدها، واثرائها في السنوات القادمة عبر تغيير وضع العمال وجذب العمال الريفيين للديمقراطية والوطنية والعلمانية.
الفئاتُ الوسطى في حراكِها التداولي
الفئاتُ الوسطى الراهنةُ كأجنةٍ للطبقاتِ الوسطى العربيةِ القادمة هي في حراكٍ متسارعٍ مضطربٍ متعددِ الايقاعات والتداخلات، لأنها ذاتُ رساميل مالية، وأهلية في بلدانها، وذات صلات وثيقة ببعض الدول العربية الإسلامية والعالمية.
وكما يتشكل الإسلامُ المعاصرُ من نشاطٍ في العديد من الدول العربية والإسلامية عبرَ الدعوةِ والفقه وليس من خلال الفلسفة والعلوم، فكذلك يتشكل حاضرُ الفئاتِ الوسطى من رأس المال المالي.
مستوياتُ الدعوةِ الفقهية تتقاربُ ومستوياتُ الرساميل، ومن هنا غلبةَ البنوكِ على المصانع، وهي كذلك غلبةٌ للتفسيرات الفقهية الجزئية على التفسيراتِ الكلية الفلسفية، وهي حراكٌ آني متذبذب بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، بين النص والعقل، بين التقليدية والمعاصرة.
وكما أن الواقع هو تفككٌ للأسواق العربية هو كذلك تفكك للوعي وعدم قدرته على رؤية كافة العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
التفككُ الرئيسي هو تفككُ الرأسماليةِ في كل بلد، عبر وجهيها العام والخاص، فالرأسمالياتُ الحكومياتُ سعتْ لتشكيلِ رأسماليات كلية من داخلها، ونقض تشكلها من خارجها، لكنها لم تستطع، لأن الرأسمالَ داخلها تآكل، وعجزَ عن الإحاطة بجميع حقول الاقتصاد وبُنى المقاولات والصناعات والبنوك الخاصة والتجارة، كما أنه تقلص بشكلٍ مستمر، وقد حاولت تجاربٌ إزالةِ الرأسمالية الخاصة كلياً في مرحلةٍ فتعثرَ الاقتصادُ، وهُزم في مثل هذا الواقع في حروبٍ وإحتاج ثانية لرأس المال الخاص والأجنبي، وتفجرت تناقضاتٌ إجتماعية داخلية لم يُحسبْ حسابها السياسي في تجارب أخرى، وهي كلها مظاهرٌ للتعبير عن أزمةِ الرأسماليات الحكومية العاجزة عن التحكم في قوانين الرأسمالية المعتمدة على حرية السوق والديمقراطية والعلمانية.
محاولات الرأسمال العام لنقض الرأسماليات الخاصة كنظام متكامل جاءت على أساس إيديولوجي حداثي مستورد؛ قومي، وشيوعي، وبعثي، وطائفي تحديثي شكلي، وأطروحاته هي هدم الماضي والتراث والتخلف، عبر القفز عليه، فلم تستطع.
الآن ثمة عودةٌ للتراث، وللرأسمال الخاص، ولمشكلاتِ البُنى العربية العتيقة مجدداً من مواقع إيديولوجية مختلفة بتطرفٍ حيناً وبإعتدالٍ حيناً آخر، لكنها ترفضُ كذلك قوانينَ الرأسمالية.
الفئات المعارضة الدينية القائدة للتحولات الراهنة هي نابعةٌ من أوساطٍ غير حكومية تتبادل المعرفةَ والفقه والدعايات السياسية فوق الحدود الوطنية، ففي كلِ دولةٍ هناك مشروعاتٌ تاريخية متباينة ومن الممكن أن تغذي تطوراتٍ في بلدان أخرى، مثلما هو رأس المال الديني عابر للحدود والدول والأزمان، ولكون طبيعة هذه الرساميل مالية تجارية.(راجع بهذا الصدد ما كتبه الأستاذ خليل علي حيدر عن خيرت الشاطر مرشح رئاسة الجمهورية في مصر وعلاقته بالبنوك وحركة الأخوان المسلمين معاً، الأيام 13 أبريل 2012)
إن دولةً سلفيةً ونصفَ ليبرالية من الممكن أن تغذي حركةً دينية ليبرالية في بلد آخر، والجسمان يرتبطان بطبيعة الأجسام الدينية المتراوحة بين الإقطاع والرأسمالية.
هذا يحدث أغلبه في بلدان الثورات ما عدا ليبيا التي هي جسمٌ جزيري خليجي في شمال أفريقيا.
ففي بلدان الثورات لعبتْ القطاعاتُ الخاصة بقياداتها الدينية دور تفكيك الرأسماليات الحكومية الشمولية بأفكارها السياسية، عائدة للماضي، مناوئةً للغرب بشكل من الأشكال.
ففيما كانت التجارب القومية واليسارية تهدف للقفز نحو الغرب، أي أن تقفز للمستقبل والحداثة، فإن التجارب الدينية الراهنة تقفز إلى الماضي، إلى الإقطاع، حسب تلونات ودرجات الفئات المؤثرة.
عند الأخوان والسلف تنشدُّ الحركةُ التاريخية نحو الماضي.
عند الليبرالية والأخوان تنشد الحركة للحاضر وللرأسمالية.
غياب الطبقة الوسطى غير الموجودة التي يتشكلُ قلبُها من الصناعات، يجعل الحركة متذبذبة، الطبقة الوسطى المتجذرة في الصناعة وذات العلاقة الوطيدة بالعاملين التحديثيين، تجعل الحركة السياسية التاريخية قوية، أكثر رسوخاً، لا تندفع للماضي بحدة، ولا تقفز نحو المستقبل برعونة.
لكن علاقات أنظمة الثورات والتحولات بالعالم المحافظ كبيرة سواء من داخلها أو خارجها، من داخلها بوجود بُنى إجتماعية وإقتصادية ما قبل رأسمالية، ومن خارجها عبر العلاقات مع دول الجزيرة العربية حيث لا تزال جذور المحافظة قوية، ومن هنا فإن شركات الأموال والبنوك والعقارات والمصانع الصغيرة المتداخلة عاشت بين مستهلكين ومنتجين ومدخرين يعيشون تقاليد ما قبل الحداثة، وتداخلت هذه مع العلاقات الاقتصادية الحديثة. حداثيون شكلاً يعيشون في الماضي وماضيون يعيشون في الحداثة.
إن كبريات التجارب التحولية تتباين بين مصر والعراق على سبيل المثال، ففيما تتأثر مصر بالسعودية يتأثر العراقُ بإيران، أي أن رأسماليات الدول المذهبية لا تزال تلعب دوراً مهماً في التأثير على دول التحول(الثوري)أي الدول المتجهة لسيادة المُلكية الخاصة في الإنتاج، ويتجسد هذا في المذهبية السياسية التي هي شكلٌ إيديولوجي للحيرة السياسية، وعدم الحسم التاريخي في إختيار طريق الحداثة، والتردد بين الماضي والحاضر، بين الإقطاع والرأسمالية، بين الشمولية والديمقراطية العلمانية، والتي هي ذات سببٍ موضوعي هي فقدانُ الطبقات الوسطى وحين تتشكل يتبدلُ البناءُ الفوقي.
فئاتٌ صغيرة تابعة
في البلدان المنقسمة طائفياً وقومياً كالعراق والبحرين ولبنان لعبت الفئات البرجوازية الصغيرة في الحراك السياسي مفجرة الألفاظ الثورية الهائلة لكن دون قدرة على تحريك طوبة واحدة للتوحيد الوطني والتقدم الاجتماعي.
لكن حراكها الحقيقي مدعاة للمراقبة لما يثيره من كوميديا سياسية ومشكلات اجتماعية وسياسية خطيرة معاً.
إن الصراع العربي الإيراني، المتمظهر صراعاً طائفياً، والمعبر عن سبل مختلفة بين رأسمالية دول في طريقها لليبرالية ورأسمالية دولة إيرانية شمولية عسكرية، يرسم جداراً صلداً بين الجانبين.
الطبقات الوطنية الصناعية من برجوازية وعمال غير موجودة بقوة وإتساع اجتماعي سياسي مؤثر، فيما بلدان عربية أخرى قد قاربت ذلك وتضع أقدامها على بدء مسيرات الحداثة الديمقراطية العلمانية.
ولهذا فإن مناظر البرجوازيين الصغار وهم يتقافزون على حبال الثورة الشعبية الكاسحة ويهددون بزوال دول هي عجيبة فيما بلدانهم تغرق في أزمات الانقسام والانهيار.
هم بين الإقطاعين السياسي والمذهبي، حين يرون مصلحة في الأول تقاربوا معه، وحين يجدون منافع في الثاني جلجلوا بشعاراته.
لكنهم في كل التيارات هم مع منافع الرأسمالية بدرجة أساسية. محامٍ أو طبيب سيجد أن زبائنه هم من طائفة ما فيلقي مرساته السياسية في بحرها، وسوف يتحدث عن شقائها وعذاباتها وفقرها بشكل جزئي، قاطعاً هيمنة قوى معينة عليها، وعدم كشف اللوحة العامة للمسألة، ولأن هذه الجماعة غير قادرة على أن تكون مستقلة سياسياً، وأن تحفر في واقعها وتخلق تراكمات ديمقراطية حسب ظروفه وتوحد شعبه.
وسوف يظل هذا المحامي أو الطبيب أو الاقتصادي يكرر هذه المحفوظات ربع قرن، وتجد أنه قطع علاقته بالثقافة السياسية الحديثة الديمقراطية وغرق أكثر فأكثر في ثقافة ما قبل الحداثة، وتقطعت أدواتُهُ الفكرية عن التحليل، فهنا لا فرق بين قومي وماركسي وليبرالي فقد تقطعت أدوات هذه المدارس الخصبة عن تحليل الأرض، وتحول صاحبها لفقاعة سياسية يطير في سماء المصلحة الذاتية.
والجانب الآخر لا يختلف كثيراً عن هذا حيث سيجد فرصاً أكبر في العيش، إذا كان مع الحزب الحاكم أو الدولة المذهبية، فسوف تكون ليبراليته أو ماركسيته أو قوميته أو مذهبيته على قياس المصلحة، ينفخ في جهة معينة من النار، ويستفيد من رأس المال، فيؤسس شركة أو يؤجر بناية فيكَون رأسَ مال صغير أو كبير حسب قدراته وعلاقاته.
وتتقابل الفئات الصغيرة في الصراخ وتوجيه الضربات وفي الانفعالات اليومية الصاخبة وكأنها تعيش نضالاً عظيماً، موجهة أصابع الاتهام بالخيانة دائماً للطرف الآخر.
البرجوازيات الكبيرة في هذه الدول والمماثلة لها رفعتْ يدَها عن السياسة والإنتاج الفكري السياسي العميق، وربما حتى تغرق السفنُ العربية والإيرانية في بحار السياسية المتلاطمة، فإذا وصلت لنفس مستوى البرجوازية الكبيرة السورية التي حين حاوطتها بحار الدماء وحاصرها الإفلاس رفعت أصواتها!
فعل المصالح الخاصة القصيرة الرؤية هي التي تتحكم في هذه القوى الاجتماعية، أي المصالح المباشرة المحدودة غالباً، والتي يكون العمل من خلالها وتأجيج الاختلاف بغير الأسس الموضوعية هادماً لهذه المصالح بل مُفجراً للعيش ومدمراً للبناء الاقتصادي الذي يحوي الجميع.
ضيق الأفق في رأس المال يقود لضيق الأفق في الجملة السياسية، الرأسماليات الحكومية التي تسيطر على الأسواق بشكل عام لا تتيح للبرجوازيين الصغار والعمال فرص العيش الواسعة وإمكانيات الدخول في التجارة والصناعة والزراعة، ولا تعرف كيفية السيطرة على الأبنية الاقتصادية الاجتماعية بحيث يتم الاستفادة من الفوائض المالية الكبيرة لتغيير عيش هذه الفئات ونقلها لمستويات اقتصادية أرفع.
والفئات الصغيرة نظراً لتدهور وعيها الفكري السياسي خلال ربع القرن الأخير من ظهور التحول في إيران تقوم بشق المنظمات اليسارية والقومية والليبرالية، عبر مناهجها الجزئية في التحليل والتركيز على جانب من اللوحة وطمس الجوانب الأخرى، حتى يتجه الأمر لشق الدول والبلدان.
عمليات وحدتها تغدو صعبة نظراً لهذه المناهج المربوطة بمصالح ذاتية قصيرة النظر، وتتحول لطائفيةٍ مقيتة تحجبها بالألفاظ الثورية المجلجلة عساها تخدع نفسها والآخرين.
إن قوانين الحداثة تغير هذه الأزمات، فتبادل السلطات يوزع الثروات على الطبقات، والعلمانية تفكك الارتباط بين المذاهب والدول والأحزاب لتغدو معبرة عن توجهات المواطنين المختلفة المتصارعة المتوحدة في الكل الوطني.
والعقلانية تقرأ التراث بأشكال نقدية وتضع الخطط والبرامج الحقيقية المتقدمة على الأرض.
لكن هذا يتطلب قبل كل شيء الوطنية وصدور الأفعال الفكرية والسياسية من أرض البلد.
من الفئاتِ الوسطى إلى الطبقةِ الوسطى
إن التطورَ العربي لا ينسخُ التجربةَ الغربية في الحراك الاجتماعي السياسي، مثل حال الأمة العربية المتكونة من أقطارٍ متعددةٍ ذات بُنى ومسارات مختلفة، وفي خضمٍّ تحولي مشترك متداخل، متقطع.
ولهذا فإن بعضَ الدول العربية تصلُ تجربتُها لمستوى أكبر من الأخريات، دون أن تكتملَ شروط التحول الديمقراطية، المعتمدة على ظهورِ طبقات وسطى صناعية ذات تجذر جماهيري.
الفئاتُ الوسطى في هذه الدول متعددةُ الأصولِ الاقتصادية الاجتماعية، من فئاتٍ مالية، وتجارية، وعقارية، ولا تخضعُ الفوائضُ لقانونٍ واحد، ولا تتوجه معظمها للصناعة الوطنية، بل للخارج، ولإعادةِ توسعةِ المؤسسات العقارية والخدماتية، والمالية وغيرها.
هذا يشكلُ تفككاً في بنية الفئات الوسطى، وضعفاً في البناء الاقتصادي الاجتماعي، فلا توجد الفئةُ القائدة القادرة على إعادة بناء المجتمع المتخلف، من حيث تجاوز مستوى صناعة المواد الخام، ومن حيث جذب أغلبيةِ السكان للتصنيع، وتغييرِ الزراعة الراكدة وأدوات إنتاجها وظروفها الاجتماعية المتخلفة.
لقيام الفئة الوسطى الصناعية بالقيادة الاقتصادية ثم السياسية شروطٌ موضوعيةٌ وذاتيةٌ عديدة، من أهمها بدايات توافر المجتمع الديمقراطي، من حيث الاقتراب من تبادلية السلطة، وقدرة الجماهير على التصويت للقوى القادرة على تغيير الانتاج لمصالحها ومصالح تطور المجتمع، وظهور ثقافة تحديثية سياسية واجتماعية تجعلُ المصانعَ مراكزَ التحول والتجمع والصهر للسكان من تخلف التعليم واللامساواة بين جنسي الرجال والإناث وتطوير الأطفال في تعلم مهني حديث.
تلعب المصانعُ هنا دورَ الثورة الصناعية الاجتماعية الغربية في ظروف مختلفة.
مقاربة بعض البلدان العربية للتحول التحديثي النوعي يعتمد على قيادات الفئات الوسطى والعمال في فهم ضرورات التحول المشتركة، ومقاربتها للتحالف التحديثي، وجعل رأس المال الصناعي رأسَ المال الوطني الرئيسي، الذي يقوم بإعادةِ إنتاجٍ اقتصادية سياسية ثقافية كبرى، وينقل قوى الانتاج إلى مستوى جديد.
ليس لكون الرأسمال الصناعي هو مطور المواد الخام الموجودة في البلد، أو المجلوبة من الخارج فقط بل لكونه كذلك قادرا على بسط العيش الجيد للجمهور وتطوره في بلدها، فلا يتآكل مثل هذا الرأسمال في الخارج، أو يضيع في الاستهلاك الترفي.
الثقافةُ الاقتصادية الحديثة تتطلبُ تطورَ الثقافة السياسية وفهم مختلف شرائح الفئات الوسطى والعمال الضرورات التاريخية في صهرِ فئات السكان المختلفة في ملحمةِ التنمية العربية الكبرى وتغييب الشرائح الهامشية وحثالات البروليتاريا المتسولة للعيش، وتغلغل أشكال الثقافة الحديثة بين الأميين والمُغيّبين.
ولصعوبة توافر رأس المال المتجه إلى المخاطر فالمشاركة في السلطة وسن قوانين جديدة للتطور الاقتصادي تجمع بين تنمية الصناعة وبقاء الحريات الاقتصادية المتنوعة، وتغيير طابع التعليم(الأدبي) النظري لتعليم مهني علمي متقدم، تغدو التحالفاتُ السياسية البرجوازية العمالية، بين الفئات الوسطى والشرائح العمالية، مهمةً وجوهريةً في العملية الديمقراطية، وللحصول على الأصوات وتنفيذ برامج التحول الصعب الذي لن تأتي ثماره بسرعة.
ولهذا فإنه على المستوى القومي يمكن لهذه الأقطار المتقدمة في هذه العملية والأقطار التي لم تنضج فيها هذه الشروطُ التحولية بعد أن تجلب منها الرساميل والمساعدات لتلافي النقص الداخلي.
كما أن هذه العملية تتم في البناء المشترك للأمة العربية بمستوياتِ دولِها المتعددة في التطور الاجتماعي السياسي، حيث تقدم تلك الأقطار المتقدمة النموذج التحولي المطلوب، وتستفيد الأخريات من تجربتها وتتقدم العمليات السياسية الاقتصادية الفكرية المنوعة في تلاقح منوع مشترك.
ومما يعرقل من هذا التطور صراع الفئات المختلفة على قطف الثمار والتسلط، وهي الظروف الذاتية التي تؤدي إلى هدر جانب من الثروة المادية والزمن، كما أن الصراع بين البرجوازية الصناعية الصاعدة تاريخياً يصطدم بأوضاع العمال الصعبة وكل منها له شروطه المختلفة في العيش والعمل، ويمكن أن يؤدي الصراع الذاتي هنا إلى تصدع جبهة الحداثة السياسية، واستغلال القوى المحافظة ذلك، كما أن هيمنة القطاع العام وتقزيم القطاع الخاص وبروز المؤسسات البيروقراطية والعسكرية والدينية يمكن أن تؤدي إلى العرقلة أيضاً.
رموزٌ معتمةٌ لفئةٍ وسطى
كان التيارُ القومي نشيداً حماسياً واعداً، كان يخطفُ قلوبَ الطلبة والصبايا من تُربِ الذلِ والأمية والحبو على التراب، كان يحولهم لطيور مقاتلة في السماء العربية، فماذا حدث؟
هل لأن بعض العائلات الميسورة تؤجرُ بيوتَها القديمة لوزارة التربية والتعليم، والتي كانت تشابه موقعا لو ظهر فيها جان جاك روسو لم يستطع كتابةَ مذكراته؟
لم يكلف أحدٌ من تلك العائلات نفسه قراءة ودراسة هذه المدارس والكتابة عنها، كان يمكن أن يحفر في اكتشاف عالم التعليم النصوصي، ويشكل كتاباتٍ نقديةً تتابعُ مجرى التعليم ومشكلاته، وتشكل ثقافة تعليمية ديمقراطية موازية، وكان الأمر يحتاج لسماع أصوات الصغار اللاعبين فوق السطوح وقرب السيارات.
لهذا فإن الطبيب لا يغادر مستشفاه، وينحصر بين الجدران والمرضى، لا يتوجه للصيدليات ليكشفَ أسعارَ الأدوية، ليكتبَ عنها، وليناضل من أجل أدويةٍ رخيصة، وعلاج مجاني فيدور على القرى والأحياء ليعرف هل يذهب العجزة والمتسولون إلى الغرف الطبية؟
لم نرَ طبيباً شعبياً، ولهذا فإن الطبيبَ القومي لا يحتكُّ بالجماهير، يعيشُ في قلعته البيروقراطية، لا يخرقُ نسيجَ الواقعَ الصدئ بمشارط التحليل.
نظراتهُ القومية وليدة القلعة، والمدرسةُ الحكومية المؤجرة والعائلةُ ترتفع دخلاً.
لم نرَ مهندساً يعمل لبيوت الفقراء، والمهندسُ البارزُ يصنعُ بيوتاً حكومية تُباعُ بثلاثةِ أضعافِ ثمنها ثم ينهار البناءُ ليقوم المالكُ ببنائهِ مرةً أخرى حسب ذوقه الجميل وأمانته الخاصة القوية.
المهندسُ الزراعي لم يظهر لأن الزراعةَ ماتت منذ عقود، وكمْ مِن درّس الزراعةَ، ولكن لم يتجول في القرى، ولم يكتب عن مسلسل انهيار الأرض الزراعية، وكيف تُباع لتتحول لفلل غناء، والمساحات الصحراوية واسعة متعطشة لقطرة مطر.
فكيف تريدُهُ أن يكتبَ عن الضمان والإقطاع ويسندُ زنودَ الريفيين بصياغةِ روايةٍ كالأرض؟
وليمضي بينهم يقيمَ ثقافةَ إصلاحٍ زراعي ممكنة، تجعل قطعَ الأرضَ المتشظية تتماسكُ ولا تُباع أو تطيرُ في الهواء أو يأكلها التصحر؟
الإصلاح الزراعي هام، هو حجر الزاوية للتحالف بين الفئات الوسطى المدنية وجمهور الأرض الذائب.
لو كان ذلك قد حصل ما خرجَ العاطلُ الزراعي من بين الأعشاب الصحراوية، ليقيمَ مدرسةَ الخرافة في رأسه، ويحرقُ الأرضَ بدلاً من أن يستثمرها.
المجنونُ القروي وليدُ البخيلِ الغني المدني.
لهذا فإن تكاثرَ أشباهِ المتهورين في أرض محروقة ممكن، فالمدرسةُ التي أنتحرَ فيها جان جاك روسو عرفت صمودَ موسوليني بين زنزاناتها.
الطبيبُ القومي لا يذهب للحارات الشعبية ويرى أمراضَ ضغط الأسعار وإنخفاض الأجور، والاحتباس الحراري في الغرف، وتجمعات العاملين تحت الأرض الدنيا للعيش، وعلاجاتها لديه روشتة واحدة ووصفة سحرية تدعو لمجيءِ المنقذِ المخلص من الجيش، ومن المكائن الحكومية القوية، فالشعوبُ كوماتُ ترابٍ قابلةٍ للصياغات النارية المختلفة كما هي من زمن حمورابي، وربما كان حمورابي هذا أفضل لأن ليس لديه الأفران الحرارية لشيّ البشر.
انهارت المدرسةُ على رؤوس الطلبة والشعوب، والمنقذ القومي يعيش في ذاته المتضخمة منفصلا عن العالم، سجين حالة انفصام كلية، يتداخل فقط مع الذوات المتضخمة والأنظمة الشمولية التي تفاقم حضورها مع تحول الشعوب أكثر فأكثر إلى تراب بل حتى إلى رماد!
الآلات المالية والأنظمة فوق البشرية لم تعد تجعل من القومية سوى فراغ وسراب، الكائنات القومية العربية ذابت في قوميات أكبر قوة ونفوذاً، تلاشت القومية العربية في الطائفية والحكومات الرأسمالية الكبرى، ولهذا فإن الخطابات القومية تغدو أقرب للهذيان مؤكدة الانفصال المريع عن الواقع.
فئاتٌ وسطى متصارعةٌ عبر التاريخ
كيف تحطم الفئاتُ الوسطى مستقبلَها عبر الصراعات الاجتماعية السياسية الفوضوية سواءً في الحاضر أم الماضي؟
لماذا تعجز عن إنتاج نظامٍ حداثي مستقبلي مماثل لما يجري في العصر الحديث؟
لماذا عجز البرجوازيات العربية عن تشكيل نظام رأسمالي متقدم يعيد تشكيل كل بلد عربي؟
في الماضي تتقوقع كلُ فئةٍ في محارتها الفكرية وتتآكل، القَدريون يركزون على القَدر والصراع الحاد ضد كل من يؤمن به، دون قدرة على قراءة السببيات التي تسيطر على حركة الواقع، ويوسع المعتزلةُ الوعي بالسببية، دون أي توسع في فهم المذاهب الأخرى وظروف الناس، فيما تنعزل الفئاتُ السنية كلٌ منها في فهم طريقة وحيدة من الفقه، فهناك إجتهادٌ مخصوصٌ محدودٌ في فئةٍ وهناك إجتهادٌ أوسع في فئةٍ أخرى، وهناك تقلبٌ في مستوى الاجتهاد في فئةٍ ثالثة وهناك رفضٌ للاجتهاد في فئةٍ رابعة ويجري فيها الاعتمادُ الكلي على النصوص، وهناك لا إجتهاد ولا إعتماد على النصوص بل الاعتماد على نصوصٍ مروية من الجماعات الخاصة.
تقوقعتْ الأحكامُ حول الاجتهاد وإنتاجِ أحكامٍ من النصوص القديمةِ للحالات الاجتماعية الجديدة التي ليس فيها نص.
أهذا هو المدى الذي يستطيع أن يطير فيه العقلُ بحثاً عن التقدم والحرية والتغيير؟
المدى الذي كان ينتجُ التغييرَ هو رؤية الإرث الإسلامي كإرثٍ ثوري أنتجَّ حداثةً وجمعَ التجار والعاملين لتشكيل مجتمعٍ حداثي بمستوى الزمن، فما يتعارض مع ذلك التحول يُعادُ تفسيره ورؤيته في ضوء جديد.
الانحباس في النصوص داخل نظام يهيمنُّ عليه أغنياءُ الأرض الزراعية والحكم السياسي المطلق، الذين رموا الفتاتَ للفئاتِ الوسطى لتتعاركَ حوله، وهي فئاتُ الفقهاء والأدباء والعلماء والفلاسفة وغيرهم، جعلها تتآكل وتجمد وراحت تصارع النصوصَ التحديثية المحدودة لدى المعتزلة والباحثين وتقمعها، فهي كانت تدمرُ العقلَ النصوصي الاجتهادي الديني المحدود داخلها وتحطمُ العقلانيةَ الضئيلةَ التي نشأت لدى الفئات التحديثية التي لا يتمحور كلُ كيانها على المذهبية الدينية.
تحطيمُ الأنوار أمتدّ للعلماء والحِرف بحكم تعميم الجهل ورفض السببية وقوانين المجتمع والوجود، وتجميدُ الحِرف بحكمِ إنقطاعِ العلوم عنها وبحكمِ جمود معلمي الحِرف هدمَ بواكيرَ الصناعة!
هكذا قامت الفئاتُ الوسطى بالصراع ضد بعضها البعض، وكسرت القناديلَ التي يحملها كلٌ منها، لتعمَّ الظلمات وتتفكك الوحدات السياسية العربية الإسلامية.
ويكرر المعاصرون من الفئات الوسطى صراعَ التآكل والفوضى، وحبس العلوم عن الصناعة، وتجميد المُلكيات الخاصة عن الثورة التقنية، والثورة الاجتماعية الديمقراطية، وصرف العقول عن الاجتهاد.
العسكر والإخوان والجهاديون وولاة الفقيه والطائفيون والقَبليون أشكالٌ من الفئات العليا والوسطى المتداخلة الآن، يجمدون النصوصَ الفقهية، ويتوجه كلٌ منهم لجهة تضاريسية مختلفة ومتضادة، ويحاربون التحديثَ الشامل كلهم، فتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ للقواقع السياسية هذه عبر تمترس كلُ فئةٍ في شكلِ إقتصادها وإجتماعها الضيق، مناوئةً الأخريات متجهةً لهدم وجودها، بدلاً من إعتبار أنفسها نويات للاقتصاد الحديث المتداخل المتعاون.
الصراعات المستمرة لا تؤدي فقط للتآكل السياسي الاجتماعي بل للتآكل البشري والمادي وتصاعد العنف والتخريب ولهدم هذه القواقع نفسها حيث تفوقت على الفئات القديمة بتفجير الحروب الأهلية مما يعبرُ عن مدى أخطر من التعصب والعدمية التاريخية والتضخمات الذاتية غير المعقولة.
مراحل الفئات الوسطى
عقب أحد القراء على مقالة سابقة لي فذكر:
(صحيح أن البرجوازية كطبقة لعبت دورا مهما في هزيمة الإقطاع والكنيسة، ولكن من قبيل الغبن والجحود أن نتجاهل الدور العظيم الذي لعبه عصر الأنوار السابق للبرجوازية بعدة قرون. الديمقراطية ما كان لها أن تنتصر لو لم يمهد الأنواريون الأرضية لها من خلال بث الثقة في إمكانية الإنسان في تقرير مصيره بدون أية إرادة غيبية والوقوف في وجه اللا تسامح الديني والحكم المطلق، بالإضافة طبعا إلى الفتوحات العلمية التي شككت في (حقائق) الكنيسة. وكلها قام بها رجال شجعان، لا علاقة لهم بالبرجوازية، بل إن بعضهم خرجوا من رحم الأرستقراطية الإقطاعية والكنيسة بالذات (كوبرنيكوس، جيوردانو برونو، ليونار دي فينشي).
لهذا يجب أن نولي أهمية أكبر للتوعية وتحرير الأبدان قبل تحرير العقول وتجاوز العقلية اليسارية التي لا تزال تصر على أولوية العامل المادي الاقتصادي الذي لا يصدقه الفرز الحاصل في مجتمعاتنا هذه الأيام، حيث إننا نجد العمال والبرجوازيين منقسمين على أنفسهم بين مؤيد لقوى دينية معادية لمصلحتهم وبين معاد لها حتى استولى الإسلاميون على النقابات العمالية بخطاب يدعو إلى تآخي الذئب والخروف تحياتي) موقع الحوار المتمدن.
لم يكن العلماء والفنانون الغربيون في فترات التحول من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر سوى فئات من الطبقة الوسطى التي لم تتكون بعد، فتكون الطبقات الوسطى في مجموع الدول الغربية عمليات مركبة متدرجة، إن هؤلاء المثقفين يسهمون في تكون الرأسمال الفكري الثقافي، إنهم معزولون عن الانتاج المادي لكنه يجذبهم إليه حيث يغدو مصدر المعيشة الرئيسية، فتتطور تخصصاتهم بحسب تطور الانتاج، يغدو رأس المال صاهراً لهم، وهو يستغل ويجذب العمال اليدويين مثل العمال الذهنيين، ويحيلهم لبروليتاريا ذات ياقات سوداء وبيضاء.
يقوم المثقفون بتحرير الثقافة من أسر العصور الوسطى، وتغيير العلاقات الاجتماعية، وحين تتفجر الثورة الصناعية تكون هذه القوى قد غدت القوى الرئيسية للتحول الاجتماعي.
إنها عملية تاريخية طويلة، وأنسنة المتنورين لا تعني عدم علاقاتهم بتطور الانتاج الرأسمالي الذي ينمو بشكل تاريخي مرحلي ولا تعني عدم معارضة الاستغلال فيه، مثلما فعل ماركس بتحليل رأس المال ونقده، فغذى تطوره وبين آفاقه، ويلعب المثقفون العلمانيون الديمقراطيون دورهم الرئيسي في نقد الثقافة الإقطاعية وتحرير العقول وخلق التنوير وهي الأمور التي تحرر النساء من العبودية المنزلية والمدارس من الكهنوت والثقافة من الظلامية وهي عمليات مركبة في تطور البنى الرأسمالية لكل بلد.
تحول الفئات الوسطى إلى طبقات وسطى يجري حين تسيطر على الانتاج الصناعي وتكرس فوائضه لإعادة الانتاج الموسعة في المجتمع.
إن العلماء والفنانين هم الفئات الوسطى الصغيرة كانوا ملحقين بالقصور ثم استقلوا وقادوا ثقافة النهضة والحرية!
غموضُ خطابِ (الطبقة) الوسطى البحرينية
لا شك أن الاتجاهات المذهبية السنية أقرب للوسطية وخاصة الحنفية والمالكية والشافعية، لكن هذه التقسيمات الفقهية لم تعدْ موجودةً بوضوح فيما يتجسد التباينُ بين اتجاهين فهناك الاتجاه الاقرب للحداثة وهو الإخوان المسلمون والاتجاه التقليدي السلفي.
وعُرفَ عن هذه الاتجاهات الارتباط بالدول الخليجية المحافظة وسياساتها ولم تنتج ليبراليةً مهمة، في حين ظهرتْ الليبراليةُ في الاتجاهاتِ القومية الأولى حين كانت فئات تجارية حرة في زمن الاستعمار البريطاني، ثم توقف نمو الليبرالية فيها مع تداخلها بأنظمةِ الرأسماليات الحكومية العربية والبحرينية، التي سحبتْ الأبسطةَ من تحت الاتجاهات الليبرالية والديمقراطية مما أدى إلى تصاعدِ الاتجاهاتِ المذهبية السياسية التي راحت تعبرُ عن الدول الإسلامية الكبيرة وخاصة السعودية وإيران، حيث توافقت هاتان الدولتان في زمنٍ ثم تصاعدَ التباينُ بينهما مما ولّدَ انقساماً بين الحركات المذهبية السياسية وانقسامات في الحركات السياسية المختلفة البحرينية والخليجية عامة.
ولهذا فإن آراءَ الجماعات المذهبية السنية لم تكن مؤثرةً في تطور الحركة الديمقراطية البحرينية، وكانت تؤيدُ المواقف المحافظة، ومع خفوت دور الحركات الوطنية اليسارية، وتصاعد دور القوى المذهبية السياسية، اكتسبتْ الحركاتُ السياسيةُ الشيعية طابعَ المعارضة بديلاً عن دور المنظمات الوطنية السابقة، لكن مع الارتباط بالسياقين الحكومي والمعارض الدينيين الإيرانيين.
هذا جعل من دور الجماعات السنية السياسية ملتبساً أكثر ولم تستطع تجاوزَ الدور الرأسمالي الحكومي الشامل، عبرَ تصعيدِ دور الفئاتِ الوسطى والعمالية نحو الاستقلال السياسي والنمو الديمقراطي.
تكونت قواعدُ الجماعاتِ السنيةِ من البرجوازية الصغيرة في الغالب مع تناميها في الفئاتِ الأكثر غنىً وفي المناطق المدنية، فيما جاءتْ أغلبيةُ قواعد الجماعاتِ الشيعية من العمال والبرجوازية الصغيرة وفي المناطق القروية الغالبة.
يغلبُ على الجماعاتِ المذهبية المختلفة الارتباط بالنظام التقليدي، من هيمنة الدول والذكور المطلقة والقراءة المحافظة المحدودة للمراجع الإسلامية، وهذه مشتركة أساسية بين هذا الجماعات التي تولدتْ مع تحول الحضارة الإسلامية نحو التقليد والجمود وعدم تحولها للرأسمالية الديمقراطية، أما الاختلافات الفقهية فهي جزئية لا تدخلُ في المضمون العميق لها، وجاءَ الصراعُ في المنطقة بسببِ الصراع القومي العربي الفارسي أكثر منه تبايناً فقهياً. ومع حل هذا الصراع يمكن أن تتطور الأوضاع السياسية باتجاه الديمقراطية بصورة أعمق، لكن لا يمنع هذا من القيام بنضالات في هذا السبيل.
ولهذا فإن غيابَ التوحيد الاسلامي وبروز الصراع بين اتجاه ليبرالي لدول مجلس التعاون لم يتبلور بعد ولم ينضج في صعود طبقات وسطى قوية، وبين النظام العسكري الإيراني عبر رأسمالية دولة شمولية حادة، أدى إلى تعثرِ مشروعاتِ النهضة الديمقراطية العميقة في كل هذه الدول.
الاتجاهان السياسيان العربي والإيراني المختلفان في مسائل جوهرية كالموقف من دول الغرب والديمقراطية والحداثة، انعكسا في الاتجاهين المذهبيين السياسيين الرئيسين، حيث مالت المذهبياتُ السنيةُ نحو مقاربةِ الليبرالية فيما توجهت الجماعاتُ الشيعيةُ نحو الشمولية والتجاور مع القوى اليسارية والقومية المتشددة.
لا شك أن أوضاعَ الفئاتِ الوسطى الصغيرة والمتوسطة التي تكوّنُ مجملَ الفئات السنية والتي تعطيها ظروفَ عيشٍ أفضل، وبتقارب مع المؤسسات الحكومية، تراوحتْ مواقفُها السياسية بين المحافظة والانفتاح، ولم تستطع أن تطرح مشروعاً وطنياً ديمقراطياً جامعاً.
ولهذا حين ظهرتْ في السياسة بشكلٍ جماهيري لم يكن لهذا الشكل جذوره في الشارع ولم يُعدْ اللحمةَ الوطنية الفاعلة.
الفئات الوسطى والبيوتات التجارية المتقاربة مع الدولة والجماعات السنية لم تعضد كثيراً مشروع الليبرالية والديمقراطية، وظلت متخندقة في مصالحها وهذا إحدى البؤر الكبرى في ضعف مشروع الديمقراطية وتكون الطبقة الوسطى.
نجد أن أغلبية العمال الأجانب يعملون لدى هذه الفئات التجارية والمالية الكبيرة:
بحسب تصريح لوزير العمل الأسبق سنة 2010، بلغت نسبة العمال كالتالي: (وصل عدد العاملين البحرينيين في القطاعين العام والخاص إلى 150 ألفاً، ولدينا 450 ألف عامل أجنبي).
(وبحسب إحصائيات رسمية استحوذت العمالة الأجنبية على نسبة تتراوح بين 85 و95 في المائة سنوياً من إجمالي الوظائف التي يولدُها القطاعُ الخاصُ من 2006 حتى 2010)، جريدة الوسط، 7 ديسمبر، .2011
هذه البنية العمالية الأجنبية تجعل من حضور العمال البحرينيين ودعمهم لليبرالية والديمقراطية محدوداً، في حين تستطيع الاتجاهات المغامرة أن تستميلهم عبر تصعيد خطابات الانقسام وغياب أي تحول اجتماعي سياسي على الأرض.
ويأتي نشر البروليتاريا الأجنبية الدنيا عاملاً آخر في إيجاد فرص أقل أمام العمال البحرينيين:
(أما الوظائف التي تقل عن 50 ديناراً، فتركزت في قطاع الإنشاءات بأكثر من 20 ألف وظيفة، وقطاع تجارة الجملة والسلع الشخصية بأكثر من 11 ألف وظيفة، وكذلك قطاع الصناعات التحويلية بأكثر من 11 ألف وظيفة، يليها قطاع الفنادق بنحو 4 آلاف وظيفة.)، المصدر السابق.
هذا إذا تغاضينا عن الذين لا يتسلمون أجوراً ويعيشون على الخدمة ويُنشرون بشكل فوضوي في الأسواق والشوارع.
هذه الظروف وغيرها تكوّن انقسامات في البناء الاقتصادي الاجتماعي ولها تأثيراتها الكبيرة في الوعي السياسي. الانقسامُ السياسي بين المسلمين في المنطقةِ العربية الإيرانية، والانقسامُ بين التيارين السني والشيعي السياسيين البحرينيين، متداخلان.
لقد رأينا الخلافَ بين الدولتين الكبيرتين السعودية وإيران ينعكسُ على تباينات الحركات المذهبية السياسية، لكن لهذا التباين سببيات بحرينية داخلية، وله علاقةٌ بنمو الرأسمالية وانقسامها بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة.
لقد رأينا ضخامةَ أرقام العاملين الأجانب في القطاع الخاص، وهي أرقامٌ متصاعدة كذلك في السنوات الأخيرة. فالقطاع العام كان ينمو عبر احتكاره أغلبية الثروة وتوزيعها، وله خطط في الصناعة ومختلف جوانب الحياة، وعبر عقود القرن العشرين كانت الحرفُ والزراعة تنهار، وتوجه أغلبيةُ العاملين للأعمال الجديدة، عبر استيعابهم حكومياً إلى أن حدثَ التشبع وبدأت البطالة والفيض السكاني الريفي خاصة يبحثان عن علاجات وظيفية، حدتْ منها عمليةُ التشبع الحكومية، ونوعيتا المهن البسيطة والمعارف وكذلك التضخم العائلي.
لكن الرأسمالية الخاصة كانت بمحدودية علاقاتها بالموارد الرئيسية في البلد تتجه لجلب العمال الأجانب بشكلٍ واسع، وغدت التجارة بالقوى العاملة الأجنبية عمليات متعددة، وعبر التداخل بين الرأسماليتين العامة والخاصة، من دون شفافية كافية.
إن عدم ضبط تطور الرأسمالية بشكليها العام والخاص، وعدم تشكل طبقة قيادة ديمقراطية حرة بينهما، تقوم بتوزيع الموارد حسب خطط هيكلية اقتصادية اجتماعية، وعدم وجود برلمان يلعب دور القيادة لعمليات التطور الاقتصادية السياسية المتداخلة، أو مع وجوده ونقص دوره المحوري، فإن هذه العفوية التي تغدو تناقضاً وارتباكاً في العمليات الاجتماعية العامة وفي السوق خاصة، تجعل من الوعي السياسي بمظاهره المذهبية السياسية غيرَ واعٍ بمثلِ هذه التطورات والتأثير الايجابي العقلاني عليها.
إن الاتجاهات المذهبيةَ السياسية هي بذاتِها أشكالٌ من هذا الاضطراب بين الدول الإسلامية لعدم وجود معايير ديمقراطية نهضوية توحيدية بينها، مما يدفعها للصراعات المضرة بها جميعاً، ويظهر هذا في التطرف وعدم عقلانية الأهداف السياسية المطروحة أو عدم عمقها الكافي ومقاربة المعايير العالمية، ولغياب المقاربة والتعاون البناء وإزاحة الخلافات عبر العمل المشترك.
إن الشرائح الوسطى والعليا المتعددة المنقسمة، تضربُ بعضَها بعضا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالتوازن في استخدام العمالة الأجنبية، وتصعيد دور الرأسمالية الخاصة وإعطاؤها حريات وأعمالاً في البناء الاقتصادي الحكومي، وتشغيلها هي نفسها للمواطنين بأشكال واسعة، وتطور التعليم التقني العلمي، وتطور دور البرلمان كقائدٍ للعمليات السياسية الاقتصادية، هذه وغيرها من الأهداف لا تتناقض ويمكن حدوث مقاربة وتضافر بينها.
هذا ينعكس بالضرورة على الوعي السياسي، الذي يقود العمليات المُفترضة، ويتقدمها بدلاً من أن يكون ضحيةً لعدم فهمها أو أن يضعَ العصيّ في عجلاتها.
إن الجماعات المذهبية السياسية التي هي أغلبيةُ الوعي السياسي، حيث تملك القسمَ الأوسع من الجمهور وتتحكم في مساره، يشكلُ انقسامُها تعبيراً عن انقسام الناس وانقسام الفئات الوسطى المؤثرة في هؤلاء الناس بقوة وعدم قدرتهم على العمل المشترك لتغيير الواقع.
إن وضعَ الأفكار الدينية المُبسطة في قيادة الوعي السياسي هي بداية أسباب التفكك، لأن هذه المذهبية هي تعبير عن انقسام عتيق ومرتبط بهيكل اقتصادي تجاوزه الزمن كثيراً، كما تعود للماضي المحافظ حين عجز المسلمون عن التوجه للحداثة وتصارعوا قومياً من خلال المذاهب، لكن البدء من مقولات الحرية والديمقراطية والعقلانية والوطنية والتخطيط الاقتصادي ووحدة الشعب وتعاون الطبقة الوسطى والعمال وتصعيد طبقة وسطى وطنية متلاحمة، هذه الأفكار الأساسية وغيرها هي الأسسُ التي ينبغي أن تُوضع بدايةً في تشكيل الجماعات السياسية.
بطبيعة الحال إن هذا التحول المطلوب لا يخص فقط الشعب البحريني لكن يخص الشعوب المجاورة وقياداتها كذلك، لأن أعمالَها السياسية القائمة على المذهبيات وشعاراتها الفوقية المبسطة، وعدم الدخول الواسع العام في الليبرالية والديمقراطية يعوق هذا التحول الديمقراطي في الخليج وإيران.
لكن من الممكن القيام بأعمال ومهمات ضمن الممكن تمهد وتسهم في التحول الديمقراطي الواسع القادم، وخاصة فيما يتعلق بتطور العمال المواطنين وتطور ظروفهم العملية والمعيشية والقضاء على مزاحمة العمالة الأجنبية الدنيا وتدني أجورها، وتوسع استخدام النساء في مختلف أشكال العمل، مثلما أن الفئات الوسطى بحاجة إلى إشراكها في مشروعات البنية التحتية وتطور الاقتصاد والمجتمع عامة.
من أجل بناء دولة حديثة ديمقراطية لابد من القطع مع التوظيفات المذهبية في السياسة وبناء الأحزاب والدولة، والتحرر من العلاقات الأثنية والعشائرية والمذهبية، التي ستؤثر في بناء الفئات الوسطى والعمالية وخاصة تجاه الوطنية والحداثة، وهذا التبدل سوف يتيح لها تطوير البنائين الاقتصادي والسياسي. إن قوانين الديمقراطية والعلمنة لا بد أن تأخذ طريقها للتطبيق وهي ضمانة لتوحيد الفئات الوسطى وتغيير طابع المنطقة المتوجه عبر الطوائف وسياساتها وصراعاتها إلى كوارث كبرى.
وإذا كانت الفئات الوسطى لا تنتج هذه المعرفة وتحيلها للتطبيق فمن سيقوم بذلك؟
