أسباب عدم ظهور برجوازية حرة
تعود عدم قدرة الشرائح الوسطى العربية في أن تكون بورجوازية حرة، وبالتالي أن تعيد تشكيل المجتمع العربي التقليدي باتجاه الحرية والحداثة، إلى كونها تابعة للإقطاعين السياسى والدينى العربيين، وفى العصر الحديث لعبت التبعية للغرب دوراً آخر.
ولهذا فإن المنطمات القوموية المختلفة ظلت مرتهنة بهيمنة الإقطاع؛ وأحياناً؛ يتجلى بشكل خارجي، عبر تبعية الفروع للمركز فى بغداد أو دمشق، فى حالة البعث خاصة، أما القوميون فمع تحولهم إلى فتات سياسي أخذوا يقتربون أكثر وأكثر من المراكز السابقة.
وكما يحدث في المركز أي في بغداد أو دمشق أو طرابلس من إلحاق شرائح الطبقة الوسطى بملكية الدولة وسوقها وهيمنتها، فكذلك يحدث في الدول العربية الأخرى، حيث تلتحق هذه الشرائح بهيمنة الدولة العربية الإقطاعية، ولهذا لا تجد هذه الجماعات السياسية اختلافاً بين المركز والأطراف، حيث يقوم فكرها على التبعية للمركز المسيطر وعدم القدرة على إنتاج الفكر الحر.
إن عدم قدرة هذه الشرائح على إنتاج الفكر الحر يتجلى في عجز البرجوازيات العربية حتى عن مقاربة فكر البرجوازيات
الغربية في زمن النهضة، وفي طرح خطاب سياسي فكري ونهضوي متسق، فعملية التبعية لأجهزة الدول تقود إلى تحلل هذا الخطاب من أية قدرة على التحليل والشجاعة الفكرية والنقد، هذا إذا تذكرنا شخصيات زمن النهضة الأوروبية قبل بضعة قرون كجان جاك روسو وديدرو وفولتير، وقدراتهم على نقد الدين والإقطاع والتخلف.
إن هذا الخواء الفكري هو الذي ينتج شخصيات دكتاتورية أمية على شاكلة صدام حسين، التي لا تقوم بإنتاج الحداثة، بل تستعيد الهياكل القبلية والعشائرية المتخلفة، ودع عنك مسألة القدرة على تشريح المجتمعات ومواجهة الشمولية بشتى تراكيبها ومستوياتها .
إن عمليات الالتحاق بأجهزة الدولة الإقطاعية الدينية العربية تقود هذه الشرائح إلى الانتهازية وبذخ العيش والأنانية والسطحية الفكرية، وبالتالي تسويق اي مشاريع ما دامت تابعة للمركز، سواء كان القومي أو المحلي، وتغييب النقد والعقل
الفاحص الموضوعي، ومن هنا تتعايش هذه الشرائح مع الخرافات والأساطير ولا تعود قادرة على السير في منحاها العلماني المغترض، وتغدو دينية، أي مذهبية، فتعجز حتى عن تنمية الدين باتجاه عقلانى تحرري، ولهذا نجد طبيعة الخطاب المواجه للأمريكيين كيف غدا أسطورياً، وعاجزاً عن فهم الواقع، وعشائرياً، وقادت هذه الدكتاتورية الضخمة على مستوى السلاح وهياكل الدولة الأسمنتية، إلى خواء شعبي، وفراغ بشري وفكري داخلى عميق.
أنا الشرائح البورجوازية الصغيرة الضائعة فكراً بشكل أكبر، فهي تتناثر كالغبار وراء هذه التبعية وهذا الوعي التقليدي.
ولهذا تتوجه كذلك للقطب الديني، فهي تنشد إلى القوة المغناطيسية القوية عادة. وسابقاً كانت تبالغ في اليسارية، وهكذا يغدو «الفكر» حسب الموضة والدفع.
شرائح الطبقة الوسطى التي غدت تابعة للإقطاع تعيد إنتاج نماذج القرون الوسطى العربية، حيث لا يترتب تغيير هيكلي أساسى فى بنية الاقتصاد، أي حين تكون ملكية الدولة هي الأساس؛ وهكذا رأينا تأميم النفط العراقي يخدم أسر بعض العشائر الإقطاعية، ويشكل خلافة ودولة بوليسية.
ولا تختلف بقية البلدان العربية عن هذا التنميط، وإن كان بألوان أخرى.
ثورة برجوازية بقيادة شعبية
يتضح أكثر وأكثر في المسار العربي القومي والوطني في آن، عجز شرائح الطبقة الوسطى عن إنتاج الحداثة وتبعيتها المستمرة للإقطاعين السياسي والديني، مما يترتب عليه تشكيلها أشكالاً من الوعي تميع التطور السياسي العربي الراهن.
وإضافة إلى جهلها بمسار التطور المطلوب، فإن تبعيتها للإقطاعين السابقين، تقود إلى تشويشها للوعي الجماهيري الانتقادي المتنامى، وتخريب محتواه الاجتماعي، فهي لا ترى وجوداً للإقطاع السائد، لكون استثماراتها ومصالحها تتشكل من ذلك.
إن المسار الراهن المتوجه من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، أي من الإقطاع إلى الرأسمالية، يتطلب إجراء ثورة ديمقراطية على مختلف الأصعدة، وهي ثورة غدت ملامحها ترتسم في شتى نواحي الحياة، لكن عملية الانتقال السياسية تتطلب قيادة اجتماعية ذات رؤية واضحة غير مشوشة، أي قيادة غير تابعة للإقطاعين السياسي والديني، أي قيادة تشكل العلاقات الرأسمالية الحديثة كبنية سياسية وقانونية حاسمة ومقارفة للعصر الوسيط العربي.
إن المقردات الرائجة العربية حول الديمقراطية مثل: تداول السلطة، والمساواة بين الأجناس، وخلق المواطنة المتجاوزة للطوائف والعشائر، وإيجاد دولة القانون الخ.. إن هذه المفردات صحيحة بلا شك ومهمة، إن تداولها بهذه الكثرة دليل على أهميتها الراهنة، وإن ثمة حاجة موضوعية ماسة لدى طيف واسع من القوى الاجتماعية لتجاوز الوضع المتخلف الراهن للدول العربية.
لكن هذه الحاجة إلى التغير الواسع والعميق عادة لا تجد الوسائل السياسية والاجتماعية لتحقيق هذه الأهداف، فالقوى الليبرالية خائرة وهي عاجزة عن المساهمة على مستوى الشارع والمستويات العليا في طرح صوت ديمقراطي ثابت، على الصعيدين الداخلي والخارجي لأي بلد عربي، ودع عنك تشكيل منظومة على مختلف المستويات لبنية الحداثة المنشودة، بالرغم من أنها تساهم في ذلك ولكن بطرق مواربة، تجعلها مستعدة لمسايرة التيار الغالب.
أما القوى الدينية فهي ترفض المشروع، لكونها جزءا من التركيبة الماضوية التي يريد العرب تجاوزها، وهي غير قادرة على فهم عملية التحول بشكلها الاستراتيجي، لكونها المعبرة عن الوجه الاجتماعي من المنظومة الاقطاعية العربية، مثلما أن الدول تعبر عن المستوى السياسي للمنظومة، ولهذا فإن هذين المستويين يتداخلان ويدعم كل واحد الآخر.
لكن شرائح من القوى الدينية ستنفصل عن نواتها المتشددة، متى ما كان ثمة صوت ديمقراطي عميق وثابت في أي مجتمع عربى، تنشد إليه المجموعات الطامحة إلى التغيير. ولا توجد مجموعات اجتماعية قادرة دائما على رفد هذه الطاقة السياسية بالحرارة النضالية غير المنتجين والنساء، الذين يعانون أكثر من غيرهم أعباء المرحلة وتخلفها، ولكننا نرى أنه حتى مستويات عديدة من القوى العاملة منشدة إلى التركيبة التقليدية وإلى هيمنة القطاعات العامة البيروقراطية وإلى عمليات فسادها، أو نجد أنها تابعة للمحافظين أو للحياة الأبوية والإقطاع المنزلي كحالات النساء، فحتى تحرر الطبقات المنتجة من أسر الحياة التقليدية يحتاج إلى زمن نضالي موضوعي، أو نجد عملية إغراق السوق بالقوى العاملة الأجنبية أو الريفية الخ… بحيث تعجز القوى المنتجة الوطنية عن تشكيل صوت خاص وحديث.
لكن عمليات صعود الدور الإنتاجي، سواء من قبل البرجوازية الصناعية أو العمال على المستويين الوطني والقومي هي مسألة وقت، فدون ذلك انفجار النظامين الاجتماعي والسياسي.
في هذه المسألة الخطيرة والحاسمة من التطور لا بد من مراجعة المواقف (التقدمية) في هذه المرحلة باعتبارها الحلقة المركزية في هذا الزمن المتخثر.
هناك غلالة من الرؤى المشوشة عند القوى التقدمية العربية تعكس تخلف وعيها الفكري وضعف نشاطيها السياسي والفكري.
ففالباً ما يُطرح هنا عدم فهم نظري بدرجة أولى، أي عدم استيعاب لتطور المجتمعات العربية، وبالتالي عدم فهم المرحلة المعاصرة وقضاياها وأولوياتها.
فبعض القوى يقول كيف نناضل من أجل إنشاء نظام رأسمالي وهو موجود؟ وفي رأيهم ان الخطوة الصحيحة هو تجاوز هذا النظام الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي.
ومثل هذا الرأي يعطينا سلة من الأخطاء الفكرية والسياسية، لأنه يفتقد توصيفا موضوعيا للمجتمعات العربية الراهنة، فهو رأي قد نقلها إلى المجتمع الحديث بجرة قلم، وفي حين تتجه المجتمعات العربية إلى الوراء في وعيها، كظاهرة واضحة على سيطرة الإقطاع السياسي واستغلال الإقطاع الديني في تخريب التطور، بسبب عجز القوى السائدة عن حل الإشكاليات والانتقال إلى المسار الحديث، فإن بعض التقدميين يساهم في هذه البلبلة وتقوية القوى التقليدية، فربما هو ذاته يعيش الحياة التقليدية ويساهم في النظام الإقطاعي العربى الراهن، سواء بحبس النساء أو المساهمة في الوعي السياسى المذهبى المتخلف، أوالتبعية لقوى سياسية متشددة.
فهو تقدمي شكلاً محافظ مضموناً، لديه قدمٌ في الإقطاع وقدمٌ أخرى في الرأسمالية، ولهذا ومن أجل تمويه موقعه الحقيقي، يطرح مهمات غير ممكنة، لا يقود طرحها سوى إلى تقوية المحافظين.
إن طرح المهمات الديمقراطية بشكل حقيقي، سوف يعرض تنظيمه «التقدمي» إلى الكشف، سواء على المستوى الفكري، حيث العجز عن فهم المرحلة الانتقالية، أو على المستوى التنظيمي، حيث يتم منع فهم المرحلة بأدوات الحوار والتنظيم الداخلية.
ويكفي ارتباط بعض هذه الجماعات «التقدمية» بأنظمة دكتاتورية لكي نضع علامة استفهام كبرى حول عملياتها السياسية والمالية، ناهيك عن دورها في تشويش الوعي الوطني التقدمي الإسلامي.
من المؤكد ان طرح مهمات ديمقراطية عميقة وواضحة، في مسائل السلطة، والمساواة الجنسية، واستبدال سلة من قوانين الإقطاع، يسمونها زوراً بقوانين الإسلام، وإقامة الدول الديمقراطية العلمانية العربية الخ. . إن مثل هذه المهمات سوف تفضح القوى السياسية الشمولية وتجعلها على محك الانتقال إلى الحداثة.
إن البنية العربية الإقطاعية معقدة ويكفي من التباسها ان بعض التقدميين ينتمون إليها، وظواهر مثل: الأبوية، الهيمنة الذكورية، القبلية، الطائفية، هي من فسيفساء هذه البنية، وهي متغلغلة في الجماعات الاجتماعية والسياسية المختلفة، بحيث يغدو النضال ضد هذه البنية عملية فصل بين بنيتين: التقليدية الُمراد تجاوزها، والحديثة المراد تشكيلها.
إن التحالفات بين بعض القوى الدينية والتقدمية هي جزء من هذه التداخلات؛ وإذا كان التعاون السياسي مطلوبا فينبغي ألا يكون على حساب المبادئ؛ بحيث يكون من أجل تصعيد بنية الحداثة، والعلمانية، والإسلام والمسيحية التقدميين، كما أُسسا كثورتين اجتماعيتين، وليس كردتين عن الثورة وأداتين للإقطاع، أي جعل كل ما يضع الميراث الإنساني الكفاحي في خدمة قضايا الحرية.
إن ارتباط هذه الجماعات الشمولية المختلفة بالإقطاعين السياسي والديني، يجعلهما في موقف المتراجع والمتخلخل من ضربات العصر المتلاحقة، وإن انفكاكهما من هيمنة الدول وكذلك تطور البُنى الاجتماعية باتجاه التحديث، يجعل ظهور اتجاهات جديدة وإعادة النظر في الموروث الديني والسياسي التقليدي مسالة مستمرة ودائبة.
ولكن دون وجود قطب اجتماعي وسياسي وفكري تقدمي يعمل على المستويات كافة من أجل بلورة وتصعيد هذا المخاض، تكون الحلقة الرئيسية مفقودة.
تغدو المساهمات الشعبية التقدمية في مسألة تبلور أنظمة الحداثة العربية هي المحك الرئيسي للانتقال من عصر التقليد إلى عصر التقدم. فالطبقات العاملة العربية، والمالكة المنتجة، هي القوة الاجتماعية القادرة علي صنع هذا التحول، ولهذا لابد من ردم الهوة بين التقدميين والطبقات العاملة، والتي تشكلت في ظل الأنظمة الشمولية السابقة بمختلف تجلياتها.
ولكن الطليعة هنا لا يقصد بهها الوصول إلى نظام دكتاتوري باسم هذه الطبقات لإقامة فترة تحول إلى الاشتراكية، بل الوصول إلى المجتمع الحديت، بمواصفاته السابقة، فذلك الذي يؤدي فعلاً إلى تطور هذه القوى المعرقلة كغيرها من البنية التقليدية والمتخلفة، وهي التي تقوم باضطهاد نسائها، وعرقلة تطور أسرها، والنوم في بحر من الغيبيات والكسل وعدم التضحية والإنانية وعدم البحث عن التطور العلمي الخ… إن النضال الذي تقوم به من أجل تغيير أجورها وظروف عملها ومعيشتها، لا ينفصل عن تطوير الديمقراطية الاجتماعية في المعمل والإدارة الحكومية والحي.
إنه نضال ديمقراطي شامل تقوم فيه القوى العاملة بتأسيس هذه البنية الديمقراطية التى لا هى المتنفس الوحيد للقوى العاملة لكي تتطور وتزدهر فكرياً ومعيشياً.
وقد أثبتت التجارب العربية خلال السنوات الأخيرة ان السلطات العربية في مهرجاناتها الشكلية الديمقراطية كانت تناور في اللعبة السياسية، أكثر منها تقوم بإرساء تجارب ديمقراطية حقيقية.حيث إن الغرب قد رفع حمايته عنها، وأصبحت مكشوفة ولهذا دخلت لعبة المناورات الداخلية والخارجية لكي تكسب وقتاً في الوضع الدولي الصعب لها.
ولهذا تصبح دعاوى الماضي المميز للإمة والدين والتقاليد الخاصة بالعرب وغير هذه من الشماعات التي تُعلق لعدم تطبيق ديمقراطية حقيقية وشاملة، ولكن من يعلق جرس الديمقراطية ومن يشكل دولاً ديمقراطية حقيقية؟
من الواضح ان الفئات الوسطي غير قادرة على خوض نضال صلب من أجلها، وهي تتطلع إلي أنصاف الحلول التي تقيدها، في حين ان الجمهور العربي الواسع مشغول بلقمة العيش. كذلك فإن جذور الإقطاع السياسى قوية بسيطرته على ملكية الدولة، لكن من الواضح أيضاً ان هذه السيطرة علي الأملاك العامة تتجه بالمجتمعات إلي الإفلاس أو الحروب الكارثية على طريقة العراق. كما أن هذه السيطرة البيروقراطية الفاسدة أصبحت غيرمقبولة لتطور السوق العالمية.
من هنا تغدو السيطرة على الأملاك العامة من قبل المجتمعات العربية المختلفة هي بؤرة النضال الراهن، ولهذا تغدو برامج القوى التقدمية العربية هي استمرار سيطرة الدول على الملكية العامة الأساسية والصناعية الكبرى عبر نقل السلطة السياسية إلي البرلمان، وتشكيل الوزارات من خلالها، وبالتالي لا تملك القوى التقدمية العربية في خيارها هذا سوى المراهنة على وعي الجمهور، المستمر في تحولاته وتطوره.
وقد يقول قائل إن فتح باب الانتخابات المطلقة هذه يقود إلي صعود القوى المتشددة. فلا بد من المرحلية وطبخ الانتخابات.
والواقع انه بعد التحولات في المنطقة لم يعد هذا الخوف مبرراً، فاي أنظمة إرهابية أودكتاتورية عنيفة سوف تواجه من المجتمع الدولي، وكذلك القوى الغربية المتنقذة. ولهذا لم تعد مثل هذه الحرية السياسية موضع خشية من تسلل قوى الإرهاب تحت مظلات الديمقراطية.
بل إن عقلية الديمقراطية الجزئية وعلى مراحل أصبحت عائقاً للتطور الديمقراطي الواسع في العالم، ولا توجد مدرسة أفضل لتعليم الجمهور السياسة ومعرفة الأحزاب وبرامجها ومحتواها الحقيقي سوى الديمقراطية.
إن مضمون هذا التحول يستدعى أشكالاً ملائمة له، فثورة برجوازية تعني استكمال مهمات التحول إلى الرأسمالية والحداثة بادوات القانون؛ الأمرالذي يعني تحالفات سياسية ونضالاً متعدد المستويات للتغيير من داخل المؤسسات الرسمية ومن خارجها. مثلما يستدعي ذلك تبدلات على صعيد الوعي بتغلغل الديمقراطية في النسيج الاجتماعي العام، وفي المؤسسات الفكرية والسياسية، وإعادة النظر في الموروث، وتصدر القوى الشعبية لإنتاج ديمقراطية عربية تحديثية.
مرحلة البرجوازية التجارية
على مدى القرنين العربيين السابقين لعب الرأسمال التجاري الدور الأكبر من بقية أقسام الرساميل في التجارة والحياة الاقتصادية العربية.
لم يتح الغربُ هذا الانتشار الواسع للرأسمال التجاري العربي إلا باعتباره وسيطاً بين بضاعتين، مادة خام رخيصة في بلده يقوم بتصديرها، وسلعة ثمينة مستوردة يقوم باستيرادها من الغرب ويقوم بتسويقها في بلده، وبهذا يقوم بالمشاركة باستغلال المنتجين علي الطرفين، الربح من الزراع والحرفيين، والربح من فائض القيمة في البلدان الرأسمالية المتطورة.
ولهذا فإن الوضع الموضوعي لهذا الرأسمال هو العيش الاقتصادى من تشكيلتين مختلفتين، متناقضتين، وهو ينمو عبر ظروف الفقر والاستغلال لمنتجي بلده، ويقيم عازلاً نفسياً وفكرياً بين الانتماء إليهم، وكذلك يغض الطرف عن بلدان المنشأ التي تغدو له النموذج والمثال، لكن الذي لن يحتذيه بكليته، بل سوف يأخذ عبر أبنائه في الجامعات ومراكز الثقافة، بعض الموضات منه، فيغير ملابس الفلاحين والبدو ويلبس الملابس الأفرنجية، وكذلك تتغير ملابس النساء من الملاءات والثياب العتيقة إلى الفساتين.
وهكذا سيظهر تناقض أولي بين أبناء البلد والافندية أو بين أبناء الذوات.
وكذلك ستظهر الفلل الحديثة بعيداً عن الأحياء والأزقة الفقيرة.
وفي السياسة سيأخذ أشكال الحياة السياسية الغربية، لا مضامينها التي تولدت عبر مخاضات اجتماعية خاصة، وسيكون للتحديثي وجه ليبرالي وكذلك قفا ديني مذهبي. وسوف يستورد الشعارات والمدارس الفكرية والسياسية مثلما يستورد الصابون والثلاجات والمكيفات.
وإذا كان لكل بلد عربي فئة تجارية فإن لبنان اتخذ ككل سمة التاجر بين الشرق والغرب؛ ويقوم الرأسمال التجاري الثقافي هنا بتصوير هذه السمة وكأنها هي لبنان كله وأنه لا ينتمي لعروبة أو شرق، فيقول الشاعر اللبناني المسيحي ميشال شيحا «إن لبنان قد لعب دوراً فريداً في إنشاء الحضارة العالمية: ففكرة النشاط الاقتصادي؛ والتفكير المجرد، والمحبة المسيحية، وتجسد الحقيقة في الكنيسة؛ وفن السياسة الذي بلغ كماله علي يد الأمويين، كل هذا وهبته مدن لبنان للعالم» .
إن تراكم أرباح البضائع المستوردة وإنشاء قشرة من الحداثة ونقل المنتجات الغربية من لغة وفنون وعلوم، تعطي انطباعاً بأن البلد المتخلف قد رحل من موقعه وذاب في نهر السين .
لكن كل هذه المنتجات الحداثية تقفُ فوق أرض إقطاعية – مذهبية، ويتقسم الوطن إلى مزارع طائفية يحكمها أناسٌ جمعوا بين عصرِ عمل الفلاحين واستغلال هامش الربح في البضاعة، ولا تستطيع لهذه أن تماثل دور المصنع في النهضة الأوروبية وتحويله للعالم التقليدي.
حيث قام المصنع بإزالة المزارع الطائفية وتحويل الأمة أو الشعب إلى سوق موحد، لكن عملية الانصهار لا يتيحها الرأسمال التجاري الذي يعيش على فتات نظامين اجتماعيين متناقضين .
ولهذا من الممكن في مثل هذه القشور الحداثية أن ينتفخ البعض، ويتصور ما بلغه وكأنه القمة كما يقول سعيد عقل الذي يصور لبنان بأنه «عاصمة العالم الروحية ومستودع تراثه الفكري».
هذا الانتفاخ الشعري تماثله انتفاخات فكرية واجتماعية عديدة عند الحداثيين العرب فحين يستلفون بعض الكراسي والالات والجمل والأفكار يتصورون أنهم لم يعودوا رعاة أغنام وأنه عبر بعض الفساتين والأضواء الخلابة أنهم حققوا التماثل مع مسارح العالم الراقي.
إن الرأسمال التجاري ينقل المنتوجات ولكنه يتوهم أنه يصنعها .
البرجوازية المنفلتة والشموليون
لم تتعلم الفئات الوسطى الغنية الكبيرة أياً من دروس الماضي العربي السياسي القريب، فغياب الذاكرة الاجتماعية هو بسبب أن كل إدارة مصنع أو معمل أو شركة تشتغل من دون الالتفات إلى ما هو خارج هذه الإدارة أو المصنع أو الشركة، إلا إذا كانت سوقاً لتفريغ البضائع ومصادر للتمويل، أما ما يجري من ورائها من تفاقم فقر أو نمو اتجاهات متطرفة، فهى غير معنية بذلك، كالبيت المغلق مشغول بذاته ولا يهمه المزابل أو الحدائق المجاورة!
حين نشأت الفئات الوسطى الغنية عبر تراكم الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، لم تعتن سوى بتدفق الأرباح الهائلة، التي وفرها انكماش الواردات ونمو الصادرات المحلية، وتركز نظرها الاقتصادي في تكاثر المواد الأولية كالقطن والتمر والفوسفات واللؤلؤ والنفط، وتركز نظرها السياسي في احتلال مقاعد البرلمانات وتصعيد أحزابها، لكن سياستها لم تعدُ سوى الحفاظ على مكاسبها الخاصة بكل السبل الممكنة التي فيها كل أساليب الحفاظ على المصالح الخاصة، أي الحفاظ على البيت الداخلي، وترك أي اشتغال بالحفاظ على البيت الوطني المشترك.
كانت الفئات الوسطى الغربية أكثر تجذراً فهي قد سيطرت على السوق، ثم جعلت آلياته تشتغل من دون تحكم من الدولة التقليدية المهيمنة. أما الفئات الوسطى العربية فقد اندفعت لمصالحها من دون أن تقدر على فرض آليات السوق الحرة على مجمل النظام.
لا شك أن المصنع الغربي لم يكن يلتفت إلى ما هو خارجه كذلك إلا إذا كان سوقاً أو تمويلاً؛ لكن كانت الدولة خارج التدخل، فيغدو الصراع مركزاً بين إدارة المصنع والعمال عبر البرلمان والنقابات، وهذا الصراع هو الذي يفرمل غلواء إدارات المصانع.
أما الفئات العربية فهي تعمل في غياب الأنظمة السوقية الصارمة وفي وجود برلمانات غير قادرة على تقنين الحياة الاقتصادية، وهذا الغياب المتعدد الأشكال هو الذي جعل أرباب العمل يحضرون الأعدادَ الهائلة من العمال الأجانب، متصارعين على الأرباح في أسواق ضيقة وتنافسهم فيها الدول ذات الصولجان، كما أن تطور العولمة جعلهم قادرين على ترحيل الأرباح والرساميل في أي لحظة أحسوا فيها بالخطر الداهم، بل قادرين على نقل مؤسساتهم بالكامل!
هذا كله جعل شعارهم المصلحة الخاصة فوق كل شيء. لقد كانت طبيعة هذا الرأسمال الاجتماعية قد جاءت من دول الشرق الاستبدادية، أي أن جذوره كانت جبانة سياسياً، ومتداخلة مع قوى بيروقراطية، وإذا كان رأسماليو انفتاح القرن الماضي لم يعبأوا بالضباط الأحرار والأحزاب اليسارية, فتمكنت هذه القوى من مصادرة اموالهم، وتحويلها لهاً، فإن الرأسماليين الحاليين يحاولون مجاملة الأحزاب الدينية عبر بناء مساجد أو إطلاق اللحى والتظاهر بالتدين، مؤيدين هذه الجماعات في تركها الاقتصاد يجرى كما يجري، لكن إلى متى؟ سوف يلتفت هؤلاء بعد أن تقوى قبضتهم على السلطات سواء أكانت فقهية أم تشريعية أم حكومية، إلى التدخل المتزايد في عالم الاقتصاد، وتطبيق معايير غير اقتصادية، وسوف يعملون على تشكيل أنظمة شمولية بهذه الدرجة أو تلك، إلا إذا حدثت تطورات داخلية عميقة داخلهم باتجاه الحداثة.
وفي كل الأحوال فمن دون أصوات لتشكيل نظام اقتصادي حر يتم التوافق على أساساته الاجتماعية الوطنية بين العمال وأرباب العمل، أي يدعم رأس المال الوطني والعمالة الوطنية معاً، فإن الأرض العربية تائهة بين عولمة فوضوية وتشدد ديني.
إن تكوين تيار سياسي وسطي تدعمه كتلٌ واسعة من الأحزاب والنقابات هو خيارٌ لا بد منه لتغيير استراتيجي عميق.
حراكُ الفئاتِ الوسطى
تقوم الفئاتُ الوسطى بقيادة الحراك التاريخي حسب الظروف والقوى البشرية المضطهَّدة والعاملة في كل زمن.
قدرات هذه الفئات الفكرية والسياسية تتيح لها إنتاج المعرفة والتحرك بين الشخصيات والجماعات لدعوتها من أجل الأهداف والبرامج التي تطرحها.
لا تستطيع القوى العاملة أن تقود لغياب تلك الإمكانيات المعرفية والسياسية، لكنها حين تشارك بقوة فيها يكونُ التاريخُ قد تحرك.
ولهذا فإن كلَ الحركاتِ التاريخيةِ والثورات تمتْ من خلالِ قيادة الفئات الوسطى، بدءً من ثورة النبوة حتى الماركسية المعاصرة.
(الفكرة حين تدخل عقول الجماهير تصبح قوة مادية)، لكن من أين تأتي الفكرة ومن القوى البشرية التي تصنعها؟ لا شك إنها هؤلاء المتعلمون والمثقفون الذين أتيحت لهم الموارد وأوقات الحياة لصنع المعرفة وخلق تراكم الفكرة المضني الذي يصطدمُ بالجهلِ والبؤس وبكلِ الظروف المحيطة ومقاومة الآخرين والظروف.
وحتى بعض العاملين والعاملات يستطيع أن يصل لذلك، لكن ظروف المنتجين رهيبة، فالفكرة تحتاج إلى تراكم مضنٍ من المعلومات المُستقاة من مصادر شتى، والتي توجه الأنظار لرفض علاقات متخلفة أو ظروف قاهرة، وتخلق تحولات.
ومن الممكن للفئة الوسطى القائدة أن توجه الناس لأحلامٍ غير متحققة وغير ممكنة التنفيذ، كما هي الأمور في الأديان والاشتراكيات، لأن مسار التاريخ هو غير أحلام المبدعين والثائرين، وهم يدعون لتحولات عامة مجردة يكون التاريخ له الكلمة الفصل فيها.
الأنبياء دعوا لسعادة الإنسان وحريته وتعاونه، لكن البشرية كانت تنتقل من حالةٍ عبودية إلى حالة إقطاعية، كانت آلاف السنين في شراء وبيع الإنسان، وتكوين إمبرطوريات العبيد العنيفة الساحقة، فجاءت الأفكار التي هي تراكم هائل لمعاناة البشر مشكلة ومصورة في التعاليم الدينية.
لم تنته المعاناة ولم تقل الظروف قسوة لكن حدث تحول كبير في التاريخ، وظهرت حضارات مختلفة.
لم تستطع الفئات الوسطى في عصر الإقطاع الديني أن تقيم تحولات جذرية، حتى تشكلت ظروف موضوعية لنقل الإنسان من مجتمع إلى آخر.
مثقفون إكتشفوا ذلك وربطوا أحلامهم وأماني الملايين في تصورات أفكار الثورة الفرنسية والإشتراكية الحالمة المزيلة لكل إستغلال، وتظل الملايين صابرة منتظرة للكلمة المنقذة، للإمام، للبطل، لكن هذا يتوقف على الفئات الوسطى ومدى توحدها وغزارة علومها وتداخلها مع العاملين.
العاملون ينتظرون من ينقذهم، ومن يحسن أحوالهم، ومع ذكاء رأسماليي العصر سواء كان غربياً ديمقراطياً أم شرقياً إشتراكياً شمولياً، من سيقدم لهم الإنجازات الأوسع، من يعطيهم الأرض، من يوسع لهم الرزق،
العاملون لا يرون الآفاق التالية، ينظرون لما تحت أقدامهم، فإذا إنتشرت بعض النقود هللوا، ومثقفو التحولات يصيبهم التغيير، بعضهم يرتفع، بعضهم ينزل، وبعضهم يُحلل ويعري، وبعضهم ينافق، وآلاتُ الدولِ تهضم التحولات والمتحولين وتدخلهم في البناء الفوقي، أو تبعدهم عن إنتاج المعرفة وتوزيعها، وأدوات الحفر تتكسر في التُرب القاسية.
أنظمة الإستغلال في التاريخ المعاصر لن تنتهي، فلا يوجد نظامٌ نهائي، لكن الفئات الوسطى حالما تجد نظاماً يتلائم مع مصالحها، تصوره أبدياً. لكن لا يوجد نظام يتطابق والحقيقة، إلا بشكل إيديولوجي مضلل وذلك حين تصل فئة للسلطة وتمنع غيرها من التعبير والتنظيم. ومن يحدد إنه نظام إستغلالي هم من يقع عليهم الإستغلال وهم القوى العاملة.
نجد إن الفئات الوسطى العربية في حالات سيئة كبرى بالنسبة لغيرها في العالم، فلا يوجد حد أدنى من العمل المشترك الموجه لتغيير البنى الاجتماعية الغارقة في التخلف، ويتحدد ذلك بعجزها عن التعبير عن العاملين وأحوالهم وأهدافهم، بالعمل بينهم، ولهذا فإن قوى العاملين لم تصهرهم في بوتقتها، وهذا أيضاً نتاج العجز لدى القوى العاملة وعدم توصيل أصواتها، وبسبب بيروقراطية منظماتها النقابية، وفي العمل النقابي يتبين مدى وصول الفكرة إلى الجمهور، هل حركتهم أم سممتهم؟
وبسبب اللامبالاة واليأس من حدوث تغيير، أو بسبب الحماس الأهوج والإندفاع المؤقت.
صراع القوتين التاريخيتين، صراع الفكرة والمادة، صراع النخبة والجمهور، هو مفجرُ الطاقةِ التحولية الاجتماعية، حين يتحول من صراعٍ وإكتشافٍ وحوار، إلى أن تصير الفكرة المثقفة فكرة الموظف والفراش، أي أن تغدو شعبية.
ولم يعد الحراك في فضاء مجرد ومن أجل أحلام الاشتراكية وعمل الخير ونشر الفضيلة ومن أجل الحق والعدل، بل من أجل أهداف إقتصادية وإجتماعية محددة في ظل ظروف بنية إجتماعية معينة، وهذه البرامج يصيغها الجمهور لكي يغير أوضاعه المادية الاقتصادية وخدماته وتعليمه وثقافته.
تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني
في زمنيةِ الرأسماليات الحكومية القومية (الاشتراكية) كان تسلق البرجوازيات الصغيرة على أساس الشعارات اليسارية التوحيدية، حيث كانت الأنظمة بحاجةٍ لتوحد شعبي واسع من أجل بناء البُنى التحتية.
لكن التسلق على ظهور العمال والفلاحين عبر رفع شعاراتهم لم يؤدِ لتغييرٍ كبير في حياة هؤلاء العاملين. والبرجوازيات الصغيرة العسكرية من ضباط وموظفين ومثقفين إغتنى بعضُها وفرشتْ الأرض الاقتصادية السياسية لرأسمالياتٍ نصف ليبرالية وفوضوية في أغلب نماذجها، ولم تخلُ من القبضة الحديدية، إرتفعتْ فيها جماعات حكومية إلى مصاف النبلاء وتهدمت فيها شعارات الجمهورية والاشتراكية.
وحين أفلستْ شعاراتُ القومية والاشتراكية الحكومية الشمولية ظهرتْ البرجوازياتُ الصغيرة بديكوراتٍ جديدة هي الديكوراتُ الدينية.
لم تستطع أنظمةُ الرأسمالية الحكومية إزالةَ الإقطاع، وأدت فوائضُ النفط الوفيرةِ التي جرتْ في البلدان الصحراوية إلى إنعاش الإقطاع الديني مجدداً حيث سال لعابُهُ من التحول الجديد.
وهو إنعاشٌ غذى الشركات المالية والنصوصية الدينية وعودة الأساطير الخرافية للطائفيين السياسيين.
فجأة ظهرت دعاوى الإيمان وحجَّ اليساريون المتطرفون الذين كانوا يزعمون أن الإسلامَ دين وثني، وتحول آخرون لفتح المكتبات الدينية يستوردون الكتب والأشرطة الصفراء يعيدون الجمهور بها الجمهور للعصور الوسطى.
وفيما كانت بعض المكتبات تزخر بالمؤلفات الإنسانية الأدبية والعلمية صارت على كل الواجهات الكتب الدينية المطبوعة في مطابع حكومية.
وفجأة إختفت الفروق بين التنظيمات الوطنية العلمانية والتنظيمات السياسية الطائفية.
وتبدل المروجون للسياحة والمشروابات الكحولية كذلك إلى مروجين للتدين وطاعة ولي الأمر والاقتداء بالسلف الصالح، مثلما يكتشف قادةُ بعض الفصائل أهمية اللحى لمنع إنتشار الجراثيم في الذقون.
الترويج للجماعات الطائفية السياسية من قبل هذه المجموعات التي إنهار وعيها النضالي الديمقراطي الحديث جاء في أعقابِ ظهور قطبي الصراع الحكوميين السني والشيعي في المنطقة حيث يزخُ كلُ قطب ماكينته الطائفية بالمواد المطبوعة والمروجين المتنقلين بين الجمهور بشكل مكشوف أو مقنع ثم صارت الفضائيات والوسائط الحديثة تغذي بشكلٍ هائل نقل التخلف والعداوات بين المسلمين.
عودةُ الإقطاعِ أو إستمراره في البلدان الصحراوية والقروية النفطية قبل البلدان العربية الحكومية العسكرية المتجهة للأزمة ثم الانهيار، هو بسبب عدم تحولاتها مثل البلدان الأخرى العسكرية التي أجرت ضربات أكبر للحياة التقليدية، فجاء تأخرُها الفكري السياسي بسببِ عدم وجود فئات وسطى وعمالية تحديثية واسعة، فكانت أشكالُ الوعي والثقافة غيرُ منتشرة بتوسع بين الجماهير، فيسهلُ خداعها من خلال بعض الشعارات وإستثمار تقاليدها وإرثها وجرها للنشاط السياسي العنفي الكامن أو الظاهر، كما أن جذورَ المنظمات الطائفية السياسية وأعتبار هذه البلدان مركز الهروب للجماعات الدينية، كل هذا جرّ جماهير هذه البلدان للحراك السياسي الجماهيري الفوضوي.
ولهذا فإن الجماعات البرجوازية الصغيرة المتذبذبة بطبيعتها وعدم رسوخ الرؤى التقدمية والديمقراطية داخلها تنجرُّ للسائد دائماً، ولكن قفزة هائلة من الاشتراكية والقومية والحداثة إلى الطائفية وثقافة الإقطاع كانت مفضوحة.
ضخ الأنظمة لجزء من ثروات البلدان لهذه الجماعات وتوسيعها وهي الواسعة أصلاً كجزء من بُنى الحرف ومعامل ومصانع المواد الأولية التي تغدق الفوائض على القوى المتنفذة نظراً لعدم وجود أسلوبِ إنتاج وطني متجذر يغذي مختلف الطبقات، يؤدي لتحولات الفوضى والانقلابات الخطرة على التطور.
وهكذا تنقلبُ تنظيمات كانت تتعيش على التسول من الأنظمة إلى أن تكون عدوة لها وتجد سببيات واهية للفوضى السياسية، وتتحالف مع تنظيمات يسارية كانت تعتبرها لوقت سابق قصير ملحدةً خطرةً على الإسلام!
اللاعقلانيةُ والذاتيةُ والمصالح العابرة وإنتهاز الفرص والتلاعب بالمذاهبِِ والأديان والقيمِ والركوب على ظهور الجماهير غير الواعية وعدم خلق التراكمات التحديثية بصبر وحكمة وبإقناع للشعب وكل هذا لكي تصبحُ هي في مركز الزعامة والسيطرة ويتفق معها أناسٌ لهم مثل هذا الطموح الذاتي وعدم التجذر في المصالح والمبادئ العامة.
إستخدم العلمانيون المرتدون نفس طرق الكهنوت في إستغلال الدين وإفراغه من مضمونه النضالي وتأجيره للقوى الاستغلالية للهيمنة على الناس بدلاً من الانتاج العقلاني التحديثي وتطوير الوعي.
البرجوازية الصغيرة والطوائف
يمثل جسم فئات البرجوازية الصغيرة أغلب الأجسام الاجتماعية المتذبذبة بين الطبقات والتيارات في كل مرحلة، وليست مرحلتنا هذه بمغايرة في هذا.
في المرحلة السابقة كان الصراع بين الوعي الاشتراكي الحكومي من جهة والرأسمالية الخاصة المنكفئة من جهة أخرى، كانت الفئات الصغيرة الصاخبة تزايد على الاشتراكية وإزالة الطبقات الاستغلالية أو تطرحها بعقلانية مثالية فاقدة لأسس المادية التاريخية.
كانت رأسمالية الدولة بأقصى أشكالها في سحق المُلكية الخاصة هي ذاتها قفزة متطرفة، وهي ستقوم بهدم التحالف العقلاني الصراعي المنتظر والذي ومض في بداية القرن العشرين العربي بين البرجوازية والعمال لتحويل الأنظمة التقليدية التابعة، في ديمقراطيات متنامية.
لكن تطرف هذه المجموعات قطع الطريق على التدرج والتنامي الإصلاحي، مما خلق ثنائية الحرب الباردة التي كانت تحطيماً نارياً على القوى الديمقراطية المناضلة الصغيرة في أحشاء المجتمعات التقليدية النامية، وعلى الطبقتين المنتجتين العمالية والبرجوازية في الدول (الاشتراكية) الحكومية الشمولية.
وبعد أن إنقشع السراب الاشتراكي المتطرف عادت المجتمعات لمستويات إيديولوجية سياسية محافظة متطرفة في الرجعة للوراء كما كان تطرفها في القفزات إلى الإمام!
المجتمعات التي تطورت إقتصادياً وإجتماعياً بعض الشيء تراجعت للوراء كثيراً في الفهم الإيديولوجي للحياة والصراعات.
فما تستخدمه ليس هو الإسلام أو الاشتراكية أو الليبرالية، بل هو مصطلحاتٌ معلبةٌ وشعاراتٌ غير متجذرة في تُربٍ موضوعية، بل مسلوقة ونيئة، ومقدمة بأعداد هائلة صاخبة للجماهير.
وطريقة السلق هي واحدة في هذه المجموعات رغم مواقعها الإيديولوجية المتنافرة. فهي ترفض النمو المتدرج في بنى رأسمالية متخلفة شرقية واضحة القسمات، وتقدم تصوراً إيديولوجيا من خيالها الواسع، فبداية هي لا تقرأ هذه البنى الشرقية، بسبب أن مشاعرها الحادة وجملها الصاخبة ترفض الواقعَ الموضوعي، فهي تريد القفز لنموذجها الذي يقف كالعصفور على يدها، فالاشتراكية والإسلام والغرب المتطور هي بمتناول اليد عبر تدفق الجمهور العاطفي الساحق نحو الهدف المنشود العزيز، والذي سوف يتحقق بوثبات.
لكن ما هو الواقع الموضوعي؟ هذا لا يهم.
وحين فشل مشروع القفزة الاشتراكية الذي تأسس على حزب طليعي منصهر في التعبير عن الطبقة العاملة، حيث البرجوازية الصغيرة لا تعترف عملياً بصراع الطبقات، بل تفرض ذاتها في الجماعة فتغدو معبرة عن العمال، ولاتقبل بصراع الاتجاهات والديمقراطية، لأن الهدف في متناول اليد عبر التضحيات ولكن البرجوازية الصغيرة ستجد نفسها بلا عمالل وأنهم ذهبوا لغيرها!
ثورةٌ تقودُها البرجوازية الصغيرة
هذا عنوانٌ كتبهُ الكاتبُ المصري الراحل ميشيل كامل في أعقاب النتائج الكارثية لحرب يونيو 1967، وكانت دراسةٌ مفصلية في الوعي العربي الراقد على مخدة الأحلام السياسية المتحولة لكوابيس، ونحن نستعيرُهُ هنا لكون الطبقة التجريبية الانتهازية ما زالت تلعبُ دوراً رئيسياً خطيراً ولكن من خلال وعي إيديولوجي مختلف شكلاً هو الشكل المذهبي السياسي.
هيمنةُ القوى العسكرية في المرحلة السابقة التي رفضتْ التراكمات الديمقراطية والعقلانية والعلمانية في الأنظمة المَلكيةِ التي ثارتْ عليها وأعلتْ المراهقةَ والمغامرة فأدخلتْ تلك البلدان في تجريبياتٍ حارقة.
وبعد حراك الأنظمة العسكرية خلال عقود نجدُ أن الُبنى الاجتماعية في تلك الأنظمة العربية ما زالت على نفس تركيبتِها الأساسية دون تغييرات عميقة، وإن جماعات الإخوان المسلمين لا تقدم تحولاً نوعياً ديمقراطياً، مثلها مثل ولاية الفقيه الإيرانية التي هي النظام العسكري الدكتاتوري الأخير في المنطقة العربية الإسلامية ولم يسقط حتى الآن كأشباهه من الأنظمة العسكرية العربية والإسلامية بسبب خلطه الأوراق التاريخية والدينية.
تتضح من الدراسات العربية المختلفة بأن الأنظمة العسكرية التي ثارت عليها الشعوبُ العربية لم تغير البُنى الاجتماعية بعد تلك العقود.
(.. إذا انتقلنا إلى توزيع المنشآت في الاقتصاد المصري طبقاً لفئات عدد المشتغلين، يُلاحظ أن الأغلبية العظمى من المنشآت(92%)،(إثنان وتسعون بالمائة) هي منشآت صغيرة الحجم أو متناهية الصغر، تستخدم من واحد إلى أربعة عمال، بينما المنشآت التي تستخدم من خمسة عمال إلى تسعة لا تزيد عن 6.2%(ستة واثنين من عشرة بالمائة) من جملة المنشآت، مما يدل على غلبة الانتاج السلعي الصغير في الاقتصاد المصري)، رأسمالية المحاسيب، د. محمود عبد الفضيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
لقد قامت القوى العسكرية خلال العقود السابقة بالاستحواذ على مصادر الثروة وكونتْ الرأسماليةَ الكبيرةَ البيروقراطية ولم تُعدْ الفوائضَ الكبرى للانتاج، فبقيت البُنى الاجتماعيةُ الاقتصادية في نفس التكوين السابق. ومن هنا فإن المصانعَ الكبرى لم تتحول إلى الخلية الاقتصادية الأساسية فتغيرُ طابعَ الاقتصاد المتخلف.
إن نسبة المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر تصل إلى 92% (اثنين وتسعين بالمائة) فيما المنشآت الكبيرة لا تشكل سوى 4% (أربعة بالمائة)، وهذه الأرقام تبين حجم الفئات البرجوازية الصغيرة الواسعة سواءً عبر المُلكيات الصغيرة الحِرفية والصناعية والتجارية الصغيرة أم حسب الموظفين والمثقفين الذين ينتمون إليها في مواقعهم الاقتصادية وبإنتماءاتهم الفكرية.
فهناك زحامٌ كبير من الفئات الصغيرة كذلك فإن سكان الريف أكبر من المدن وكذلك تغلغل الريفُ في الأحياء، وغدت الصناعاتُ الكبرى المحدودة تتوجه لفائض كبير يُستخدم كثيرٌ منه في البذخ، وإنتاج رأس المال العكسي أي يعودُ بالمجتمع للوراء.
هذه الأسباب كلها جعلت من القوى المذهبية السياسية منتشرة ومؤثرة بقوة على الطبقتين المنتجتين العمال والرأسمالية الصناعية.
ولهذا نجد حسب الاحصائيات المصرية إن عددَ الفئات الوسطى يتجاوز إحدى عشر مليوناً وأغلبها من الفئات غير الصناعية أي موظفين متوسطين وحرفيين وباعة وغيرهم، وهي فئاتٌ معسرة رغم كل شيء وتسعى بقوة نحو السلع المعمرة الأحدث طرازاً والغالية ولهذا حدثت الهجرة للخارج وتضخمت أعدادُ السيارات الحديثة وتصاعدت الدورُ الخاصة والفلل ونأت البرجوازية الكبيرة عن المدن الداخلية وأقامت أحياءها الخاصة ومدنها الخارجية وعزلتْ نفسَها بالرفاهية الكبيرة ولم تتواجد أحزابٌ واسعة قوية لها، وهذا ينطبق على العمال ولكن بشكل آخر معكوس، حيث ازدهرت المناطق السكنية العشوائية وتغرب العمالُ بالهجرة وفي العمل بالمنشآت الصغيرة ذات الأجور المحدودة والتي لا تشكلُ فيها نضاليةُ العمال درجةً عالية من التطور
هذه الظروف كلها جعلت من حراك الفئات الصغيرة المالكة العاملة، المترجرجة بين الأغنياء والفقراء، وبين المادية والمثالية، بين الديمقراطية والدين، بين بلدانها وبين الخليج، بين الثورة والثورة المضادة، بين العلمانية والاستبداد الديني، بين العقلانية والفوضى، أن تكون هذه الفئات هي الأوسع إنتشاراً والأقوى صوتاً.
إن الأرقامَ المستفادة من البنية الاجتماعية المصرية السابقة الذكر هي الأنشط عربياً في تسجيل تحولاتها الرقمية، وهي لا تعطينا لوحةً لكل بلدٍ عربي آخر، فالبلدانُ العربية تختلف في درجاتِ تطورها ولكن الجوانب الاجتماعية الهيكلية تتقارب، فالصناعاتُ الكبرى لم تستطع أن تعيد تشكيل السكان تشكيلاً حديثاً، والفئات الوسطى الصغيرة هي الغالبة، وهي مأزومة بحدة وتريد أن تقفز للثراء والسلطان دون أن تمتلك الأسس الموضوعية للتغيير العميق!
وبعد أن كانت تكويناتها السابقة المتقلبة المتذبذبة تصرخ من أجل الاشتراكيةَ وحكم العسكر صارت تبغي الحكم الديني الذي يسوسُ الناسَ كأسنانِ المشط!
لكن المقاومةَ التحديثية الديمقراطية العلمانية ليست سهلة، فقد راحت قوى كثيرة ترفضُ التجريبيةَ وعدم تحول البُنى الاجتماعية تحولاً عقلانياً متدرجاً مدروساً.
وكثير من هذه المقاومة من فئات أخرى هي من نفس الطبقة، وتفيدنا الأرقامُ المصرية السابقة في رؤية عدم وجود الكم الواسع الراسخ من الطبقتين المنتجتين ثمرتي الصناعة وقواها السياسية ذات الحضور الواسع ولهذا فإن التقلبات الحادة بل والعواصف والحروب الخطيرة تنتظرها.
إن التطور السياسي العاصف قاد إلى صعود قوى البرجوازية الصغيرة الطائفية المغامرة.
إن جوهر الأنظمة العسكرية السابقة أعتمد على قفزة هذه الطبقة على التطور الديمقراطي العلماني والقيام بمغامراتٍ سياسية كان اللبُ فيها هو الوصول للكراسي ونهب الثروة العامة.
فمع عدم وجود مصانع لديها وثروات قوية كان غرضُها الوصول إلى المؤسسات الرأسمالية العامة والأثراء عبرها، وقد نجحتْ في ذلك لكن هذا لم يؤدِ إلى الصناعات المتقدمة بل إلى إستمرار البنية الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة كما رأينا عبر الأرقام المصرية حتى أنكهت الأنظمة وتعرضت للهزائم ثم للثورات أخيراً.
وتتطلب الظروف من القوى السياسية في بلدان الثورات العربية توقيف المغامرات السياسية والفوضى وتصعيد القوى المنتجة سياسياً وصناعياً، إلا أن نفس الطبقة المشكلة من التيارات البرجوازية الصغيرة الطائفية راحت تكرر نفس السياق السابق من الهيمنة الشمولية وعدم تكون الجبهات الوطنية المتعاونة في الحكم وعدم التوجه للخطط الاقتصادية الكبرى للتغيير الصناعي العلمي فيما تعجز القوى السياسية الأخرى عن التصدي لهذا السيناريو وتغييره حالياً.
التجريب وغياب الرؤية الفكرية وقطع العلاقة مع التجربة الديمقراطية العلمانية الإنسانية والاعتماد على وعي ديني طائفي محافظ ومشوش والقفز نحو المنافع الخاصة هي سماتها، وقد تصدت بعضُ الأنظمة المَلكية لتغلغل هذه الحركات داخلها وأوقفتها عبر طرح بذور الاقتراب من السمات الديمقراطية الوطنية العلمانية العقلانية السائدة في التجارب البشرية الحديثة.
إن الأنظمة الجمهورية العربية هي مجردُ شكل خارجي فارغ، والمهم هو سمات الحداثة المجسدة فيها والتي تنعكسُ في صعود الجمهور الحديث من طبقةِ عمال وطبقة وسطى صناعيتين مشاركتين في صنع الديمقراطية الوطنية، فوجودُ تنظيمات قائدة للدول من فئات وسطى صغيرة لا تقود الانتاج وليست لديها رؤية حديثة للديمقراطية وهي متذبذبة وطائفية يعني وضع الدول تحت التجريب الحارق.
ولهذا فنأي دول مجلس التعاون عن هذا الأعصار مفيد ولكن المشكلات والأخطار قائمة، حيث حاول الشكلُ الجمهوري الفوضوي للبرجوازية الصغيرة المغامرة أن يطلَ برأسه ويحدث الزوابع، ولكن أغلبية الجمهور في الخليج يعيش في وضع مختلف موضوعياً عن دول الربيع. ولكن لا بد من مقاربة سمات الحداثة وتحول الشيوخ لطبقة وسطى خاصة حرة تنأى بنفسها عن البيروقراطية وقيام التجار بدورهم الديمقراطي التحديثي القيادي، وتوطين وتعريب العمال وتعميق الصناعات المتطورة، والتدرج بالمؤسسات الديمقراطية لمواكبة هذه المضامين.
تكوينُ برجوازيةٍ هجينة
الحالمون بالأخاء والحرية والمساواة، وهي شعاراتُ الثورةِ الفرنسية المنقولة للثورات العربية، يعيشون في الوهم الاجتماعي.
لم تحقق الثورةُ الفرنسية ذلك إلا في نظام رأسمالي يقدم مساواةً قانونية فقط.
في عالم تشكل منذ القرن السادس عشر الميلادي غربياً فعالمياً يجري تكوين الطبقات الرأسمالية الحاكمة حسب طبيعة النظم وتطوارتها.
الإدارةُ العليا: المؤسساتُ السياسيةُ والبرلمانية والاقتصادية والثقافية للطبقاتِ التي تملك.
العمل في المصانع والخدمات وإنتاج العلوم والثقافة هي للعاملين باليد والذهن.
ثنائيةٌ إستمرتْ لملايين السنين ولا تتغير بشعارات ودخان سياسي وديني مرحلي.
ولهذا فإنه يجري في كلِ ثورةٍ خلط الأوراق وصنع الأحلام بالمساواة المطلقة وإختفاء مواقع من يملكون ومن يعلمون.
ليست الثورةُ الفرنسية في هذا إستثناءً. والثورةُ الروسية بلغتْ من هذه المساواة والأحلام الخيالية حداً هائلاً لم يسبق إليه أحد.
لكن حقائقَ الحياة الاقتصادية والاجتماعية هي غير ذلك، وتطرح القوى الصاعدةُ هذه الأحلامَ لحاجتِها لمن يعملون ولتضحياتِهم في الميادين والشوارع وفي المعامل، ثم حين تستوي أوضاع السلطات يكون الكلامُ شيئاً آخر.
الطبقاتُ المالكة ونصفُ الغنية والفئاتُ الطموحة التي تأمل عبر التغييرات السياسية الوصول للسلطات ولمواقع متقدمة في صنع القرار وإعادة تشكيل المؤسسات الاقتصادية لصالحها تصلُ بالشعارات لمدى هائل وتجعل القوى العاملة تتصور أن العالم وصل للقيامة وتكوين الجنان على الأرض، وكلها من أجل أن تضحي هذه القوى العاملة، وتُدخلُ في رؤوسِها مفاهيمَ ضبابيةً مثل أن كل البشر متساويين، وأن الثروة للجميع، وأن الثورة الراهنة ستحل كافة المشكلات.
لكن النظر الموضوعي يقول بأن هذه أوهام، وأن كل ثورة هي صراع بين المالكين، وأن على الطبقات العاملة المنتجة أن تكون حذرة، وأن تجعل تضحياتها وأنشطتها لتطوير أحوالها، وأن ترى الواقع الحقيقي للصراعات السياسية.
فما يجري في الثورات العربية هو صراعٌ بين أشكال من الرأسماليات داخلية وخارجية.
الرأسمالياتُ الحاكمة العامة في مواجهةِ رأسمالياتٍ خاصة، وأجنحةٌ من الرأسماليات العامة تتصارع مع بعضها البعض ومع قوى رأسمالية ريفية محافظة تريدُ تغييرَ الخريطة الاقتصادية المدنية لصالحها بشكل كبير وربما كلي.
الصراعُ الوهمي يجري في دوائر الأفكار والإيديولوجيات، بالقول بأن هؤلاء إسلاميين وأولئك علمانيين، وأن المعركةَ هي من أجل الفضيلة والخير والحق، وأن العلمانيين يريدون تخريبَ الدين، وهؤلاء يردون بأن الإسلاميين متخلفين رجعيين يهدمون الدولةَ العصرية.
فعلينا بالفرز والتحليل، فهؤلاء الدينيون القرويون يهجمون من أجل توسيعِ أملاكِهم والسيطرة على الشركات العامة مستخدمين جمهورهم الريفي والمتدينين في المدن، وأولئك التحديثيون المدنيون يصدونهم سواء كانوا أكثر تطرفاً أي أعضاء الأحزاب (الاشتراكية) المنهارة البيروقراطية، أم المتعاونين معهم من موظفين وأرباب عملٍ دخلوا معهم في أعمال مشتركة، أو أناس مناضلين يدافعون عن القطاع العام والمبادئ التحديثية وعدم إستغلال الدين في الصراع على الثروة الوطنية.
القوى المالكة والقريبة من الغنى سوف تتقارب بعد ذلك، والشعاراتُ المتألقةُ عن الدين والمبادئ الخالدة سوف تتبدل، وأصحابُ المصالحِ من هذه الفئات المختلفة المتصادمة على الدرب السريع لتكوين الرأسمالية الوطنية الجديدة، ستبعدُ الضحايا والمشاركين من الطبقات العاملة، وستدخلُ في صفقاتِ الطبقة الجديدة التي ستغدو قدمٌ لها في القرية وقدمٌ لها في المدينة، قدمٌ في التراث وقدم في الحداثة، وقدمٌ في المُلكية العامة وقدم في المُلكية الخاصة، وقدم في الدستور وقدم في السيطرة الشمولية.
فيما الطبقاتُ العاملة التي حطمَ بعضُها الأملاكَ العامة وأدى توقفه عن العمل ومشاركته في المظاهرات المليونية لضعف الاقتصاد، ستدفعُ كلُها خسائرَ المرحلة الجديدة من إرتفاعِ الأسعار وهبوط قيمة النقد الوطني والقيمِ المادية لتكون فئتين مختلفتين للطبقة الجديدة هما الدينية والتحديثية، المشاركتين في الأجهزة والوزارات وإدارة المؤسسات الاقتصادية، سواءً في حكومة مشتركة أم في حكومات مختلفة متصارعةحسب الانتخابات والرؤى البرامجية.
لكن التاريخَ الاجتماعي هو نفسَهُ فرزٌ مستمرٌ بين من يملكون ومن يعلمون. بين من يصعدون ويتحدثون ومن يضحون ويدفعون الضرائب السياسية.
تفتت صفوف البرجوازية الصغيرة
تعبرُ حالات تفتت صفوفِ البرجوازياتِ الصغيرة بين الاقطاعين السياسي والديني عن الموروثِ الشمولي في الاتجاهات السياسية العربية وعدم قدرتها على إيجادِ ثقافةٍ تنويريةٍ ديمقراطية داخلها خلال العقود السابقة.
حين يتقارب التصويت لمرسي وشفيق وينقسم المصوتون هذا الانقسام الكبير، يعبرُ ذلك عن هيمنةِ النظام السياسي على الجمهور خلال عقود، والمعارضة الوحيدة الممكنة عبر النصِ الديني التقليدي.
الدولُ غدتْ قطائعَ لمن يحكم، وكأن ذلك حدث من خلال القَدر الديني، أو بإرادة سماوية، بل من خلال أسباب اجتماعية، وهو موروثُ القرون الوسطى لم يتبدل.
ولهذا فإن النصَ على أن دين الدولة الإسلام هو تأكيد على هذه القَدرية وأن الحكمَ هو استمرار سلفي، وتغدو المادةُ مجردةً ضبابية لا تخصُ أناساً محددين، وتشملُ الفقهَ والعادات والتقاليد والتفسير وغير هذا، مما يحيلُ الدولَ إلى كائناتٍ غيبية مخصصة للبعض، ولا يكون للدول المختلفة تأثير حول هذه المادة الدستورية، والتي يمكن أن تُفسر من خلال ليبراليين يُحجّمون من التدخلات الدينية في الأحكام أو من خلال المتشددين الذين يرفضون الفنون ويحطمون التماثيل.
هذه المادةُ غدتْ عامةً مجردةً مطاطية يمكن أن تكون في نظامٍ دكتاتوري دموي أو في نظام ليبرالي محدود، مما يعبرُ عن هلامية التطور الاجتماعي السياسي، وعدم التوجه للحداثة الديمقراطية، والمادةُ كذلك تعبيرٌ عن عدم قدرة الأنظمة والحركات السياسية المختلفة خلال اثني عشر قرناً عن تحديد ما هو النظام السياسي في ظل الإسلام؟
كما أنها تعبيرٌ عن عدم تكون الطبقات الحديثة وهيمنة الطوائف، واستمرار المسلمين في العصور الوسطى، وهو لا ينطبق على الدول بل على المنظمات المعارضة لهذه الدول فهي لم تخرجْ عن نسيج العصور الوسطى.
من هنا لا يغدو للمعارضة تراث تراكمي ديمقراطي، فهي لا تعبر عن طبقة وسطى تمتلك مصانع وتجذر الديمقراطية والحداثة، وما الدول سوى مزرعة، كانت زراعيةً يسودها الخراجُ، والآن هي حِرفيةٌ استخراجية لمواد، وتُعطي فائضَ القيمة الأكبر للطبقة السائدة.
وتحويل فائض القيمة للصناعات الخاصة والعامة والثورة التقنية هو البرنامج المفقود. ولهذا فإن الفئات السياسية البرجوازية الصغيرة تتذبذبُ بين قطبين، قطب الحاكم وقطب المعارض الحاكم.
الأولُ يحكمُ عبر أدوات الدولة، والثاني يحكمُ عبرَ أدوات النص الديني.
الأولُ يحولُ المادةَ الأولى في الدساتير إلى أحكام واسعة متناثرة، متعددة، رجراجةٍ بين الماضي والحاضر، بين التراث والعصر، يشير إلى أن حقيقة الإسلام متنوعة، سمحة على ما يذكرون دائماً.
فيما المعارضُ الديني يحكم من خلال النصوص فيشددُ على معانٍ محددة نصوصية برامجية في العادات والتقاليد ويشدد على موروث مذهبي محافظ بعينه، وهو من خلال ذلك يسبب مواجهةً مع الدول (المنحرفة)عن النص الذي يملك هو تفسيره فقط.
لقد اشتغلتْ الاتجاهاتُ السياسيةُ العربية (الثورية) الشمولية على وهم الخروج عن هذه الثنائية، فهي رفضتْ القرونَ الوسطى خيالاً، وهي جاثمةٌ فيها، وانطلقتْ مثل الصواريخ في الفضاء السياسي السحري، ثم تفتت، لكونها لم تشتغل على تغيير هذه الثنائية القطبية السابقة الذكر بل القفز عليها ووضع مهمات نضالية خيالية.
وهذه الثنائية الاستقطابية على المستوى الإسلامي العام وعلى مستوى الدول والمجتمعات الداخلية، لا تتغير إلا حين يتحول بئرُ الماء والمزرعة وحقل النفط ومنجم الفوسفات ليغدو رأسمالاً وطنياً وليس فقط رأس مال طبقة، حينئذٍ من خلال البرلمان والسوق وتداول السلطة يحققُ حداثةً ديمقراطية، لتغيير طابع القرون الوسطى.
إن الفئات السابقة المتوجهة للشعارات الكبيرة انقسمت بين فريقين، كل فريق يؤيد قطباً من القطبين.
لهذا تستعمل مفردات التشنج والحدة والانتقائية ويغيبُ المنهجُ التاريخي في تحليل القطبين وجذورهما وكيفية تغييرهما معاً نحو الحداثة. القطبان في انفصالهما لا يكوّنان ثروة وطنية متكاملة ولا حداثة، بل من خلال انصهارهما وتكوين دولة حديثة.
لكن القوى الاجتماعية السياسية الكبيرة جاءت من هذين القطبين: الإقطاع السياسي والإقطاع الديني، حيث تمكن القطبان من خلق الجماهيرية لهما عبر الموارد والنصوص المهيمنة معاً. ومن هنا هذه الحالات من تكرار التخلف المستمر، وغياب نشوء القوى الوسيطة المعتدلة التي تقرب وتلغي الاستقطاب سياسياً واجتماعيا.
ديمقراطيةٌ بدون برجوازية
يستمر العربُ في التجريبِ السياسي مهدرين السنوات والجهود.
وتعطينا الانتخابات التي جرت في عدد من الدول العربية هذه الذبذبات المتعددة بين العودة للوراء والقفز للإمام، بين المحافظة والديمقراطية، بين التقدم والرجعية.
التذبذب الكبير بين الإقطاع السياسي والديني يجد تجسيده في ثنائية أمير المؤمنين الحاكم السياسي ومستشاره الديني، وقد كرس المسلمون هذه الثنائية فجعلوا الحاكم هو القائد السياسي، لكنهم من جهة أخرى جعلوه كذلك متدخلاً في الشرع، ولكن نظراً لأنه غير متخصص في الفقه، أو نظراً لانشغالاته الاجتماعية والسياسية والخاصة، فقد صعدَ رجلُ الدين ليكون حاكماً في الأحوال الخاصة بدرجة أساسية رغم أنه كذلك له رؤيته السياسية في قضايا الخلافة وأحوال الناس وتاريخ الإسلام.
هذه الثنائية التي وافقت زمن الحضارة التحديثية الإسلامية التي لم تتجذرْ بسبب فقدان طبقة وسطى وصناعتها وعلومها الحديثة، إنشرختْ في زمنيةِ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي هزتْ أسلوبَ الإنتاج الإقطاعي، فتصورت الثقافةُ الدينيةُ الكلاسيكية أن الحلَ يكمنُّ في تبادل الأدوار بين الخليفة والمُلا، بين أمير المؤمنين وقادة الفرق المذهبية، فلأنَ طابعَ الثقافةِ ديني ويتصورُ بأن المشكلةَ تكمنُ في عدم وجود الأخلاق الحسنة لدى الخلفاء وولاة الأمور، فإنهم حين يتمسكون بالشرع تكون المسألةُ قد حُلت.
وهنا قد وقع الخطأُ المزدوج التاريخي بعدم فهم الإسلام وعدم فهم السياسة.
ولهذا فإن الفِرقَ وجماعات الطرقِ والتصوفِ والمغامرين راحتْ تقفزُ على السلطات بدون أن تقوم بأي دور تحويلي حقيقي، لأنها لم تفعل سوى أن كررت أفعالَ الخلفاء السابقين وزادتْ الطينُ بلةً.
هذه الثقافة الدينية المحافظة الخيالية إستمرت بعد أن ظهرت الثقافةُ الاشتراكية الخيالية العربية التي أعتمدتْ جوهرَ هذه الأسس، فهي كذلك ذاتُ ثقافةٍ دينية محافظة متوارية، ومن هنا رفضتْ الرأسماليةَ والطبقةَ الوسطى والحداثةَ العصرية الغربية، وجعلتْ الطبقةَ العاملة تختصرُ الوجودَ الاجتماعي بشكل متخيّل.
وأسستْ شرعاً هو غير الشرع، وإشتراكية تفضي لرأسمالية فاسدة، فكان لا بد أن يزدهرَ الشرعُ المحافظ التقليدي مرة أخرى، ويفقد العمالُ الثقةَ في الاشتراكية.
هذه التجريبُ السياسي من اليمين واليسار المتخِلفَين أدى للثورات العربية المترددة بين التقليد والحداثة، بين الإقطاع والرأسمالية الحديثة، بين التراث النصوصي وواقع الإنسانية المعاصرة.
فلا توجد طبقاتٌ وسطى قويةٌ ولا طبقات عمالية منظمة تحديثية، والحراك السياسي بين الفئات الوسطى الصغيرة، والحطام الاجتماعي البشري المقذوف من الأرياف والبوادي والأزمات الاقتصادية والحروب وصراع الطوائف.
لهذا فإن نتائجَ الانتخابات تعكس هذا التقلقل والتذبذب، فرأسماليةُ دولةٍ قوية في الجزائر يسندها نفطٌ وحزب منظم وبيروقراطية متجذرة تعطي إستمراراً لنظام رأسمالية الدولة الشمولية. وتغدو شرائحُ الدينيين غير قادرة على تحريك الفئات الوسطى الصغيرة التي سئمتْ الفساد وتخاف من مغامرات الدينيين.
فيما تونس ذات التراكم الليبرالي جمعتْ فئات وسطى صغيرة متعددة الرؤى الليبرالية والدينية وتعكس عدم قدرة البناء الاقتصادي على إنتاجِ برجوازية صناعية خاصة موّحدة خلال العقود السابقة، وما الأجنحةُ الإيديولوجية سوى تعبير عن هذه الشرائح الصغيرة غير المنصهرة إقتصادياً.
مصر نسخةٌ أخرى من تونس أكثر تعقيداً ولم تستطع أن تحسمَ الصراع بين الإقطاع السياسي الذي صار هو قيادة الجيش، والإقطاع الديني الذي تجسدَّ في الإخوان، فيما الفئاتُ الصغرة والوسطى ضائعة بين القطبين وتتحرك هنا وهناك في إضطراب وبلبلة، وكلٌ من الطرفين يحسن ويتشبث كذلك بأمتيازاته وموروثه.
ذهب زمنُ الخلفاء وصار رجالُ الدين وقادة الجيوش كذلك يتدخلون في إدارات الحكم، ويجري دفع الأمور نحو حكم البرلمانات، والعودة لسيطرة الإدارات كذلك، ويتحرك الناسُ لتصعيدِ هذا أو ذاك، وتندفع قوى القطاعات العامة الخربة للدفاع عن مصالحها، ويضيعُ رجالُ الأعمال بين الطوفان ويقبض الرجالُ على الصولجان وتحاول النساءُ الخروجَ من الخيام.
فيما ليبيا المثقلة بحكمٍ دكتاتوري فظيع لا تريد أن تكرره وتجري نحو ليبرالية غير واضحة المعالم.
إنها حالاتُ سيولةٍ تاريخية في أبنيةٍ مترددةٍ بين الحِرف والصناعة، بين الصناعاتِ الصغيرة والصناعات الكبيرة، بين الإنتاج الوطني والتبعية، بين الارستقراطيات والبرجوازية، بين الثقافة الدينية النصوصية والثقافات العقلانية الضعيفة.
البرجوازيةُ الصغيرةُ والعدالة المطلقة
إعتمدت الثوراتُ الإنسانيةُ على وحدةِ فئاتٍ متوسطة صغيرة مع العاملين، لكن أفكار هذه الفئات تخضع لمستوى العصر سواءً من حيث التطور الاقتصادي أم من حيث تطور البنية الثقافية.
في المسيحية والإسلام كان هناك ذلك الخيال الخصب بإنهاءِ عصور الظلام والاستغلال ومجيء الزمن الحر العادل المطلق، فالفئات الصغيرة المتواجدة بين كبار الأغنياء والفقراء، تصورت زوال الظلم والإستغلال، لكونها تعيش لحظات ثورية خصبة وإلتفاف الجمهور المتعطش للتغيير حولها.
لكن لماذا تغلبتْ الدولةُ الرومانيةُ ولماذا إنتصر بنو أمية؟ هذا يعود لطبيعة العصر الجوهرية العميقة، وربما ساهمتْ بعضُ الأخطاء والأحلام من جهة وقوة الدهاء والخبث من جهة أخرى، لكن الأسباب الموضوعية أبعد من هذه الحيثيات الظاهرة على السطوح، فكان العصر الإقطاعي قد سار فوق ضلوع القبائل والشعوب والدول، فتظهر دولة رومانية مسيحية وتظهر دولةٌ إسلاميةٌ أموية، مثلما يجري للبوذية في الصين.
تمكن ملاك الأراضي الخاصة في أوربا وملاك الأراضي العامة في ديار المسلمين من خلق شكلين من التطور المتقاربين في الجوهر المختلفين شكلاً.
أحلامُ المساواةِ والعدالة المطلقة ومملكةُ السماء التي يدخلها الأخيارُ هي أحلامٌ نضاليةٌ مؤقتة، ينزل بعدها الواقعُ المرير، لكن هذه الأحلام تبقى في أذهان البشر الذين يأتون لاحقاً، يريدون تحقيقها.
لحظة التوافق بين البرجوازية الصغيرة والعمال تحدث في أوربا حين نزل أسلوبُ الإنتاج الرأسمالي بحدة على القوى الفقيرة المعوزة، وظهر عبر الاشتراكية وظهر الحلمُ الذي قارب القراءة الموضوعية بصورة أحلام المساواة والعدالة التي يمكن تحقيقها لكن الظروف الموضوعية لم تتحقق، وربما في سبيلها للتحقق في هذه الدل الغربية المتطورة أكثر فأكثر.
في الثورات الاشتراكية والدينية والقومية الشرقية التي رددت أحلام العدالة المطلقة وقامت بها نفس الفئات، رأينا طبيعة الأنظمة وإنقلاب مثل العدالة المطلقة والجنان إلى كوابيس.
إن خلق المثالية والتصورات الخيالية بالعدالة الكلية لعبت دوراً في التطرف وأن كون المرحلة هي مرحلة رأسمالية لا يتيح مثل هذه العدالة الطوباوية، وأن الثورات بدءً من الثورة الروسية مروراً بالثورة الإيرانية إلى الثورات العربية الحالية تظل في المرحلة الرأسمالية من شمولية حتى مفتوحة غير معروفة التوجهات، والتي ليس فيها مثل هذه الخيالات المحلقة.
لكن هذا لا يعني عدم نضال الطبقات العاملة من أجل المساواة السياسية والديمقراطية والتطور الاقتصادي لها، بل هو تحديد لواقعها الموضوعي.
ومن هنا فإن مصادر الخيالات الطوباوية والأحلام السابقة تظل ميراثاً نضالياً مقرؤاً بأشكال نقدية، لكنها ليست برامج عملية، فالنسبي أفضل من المطلق، وتطور حياة القوى الشعبية الحقيقي أفضل من إرتكازها على أشكال من الخداع السياسي الطبقي.
حين تدور الصراعات على الأرباح والأجور وتنمية المناطق الشعبية وعلى تحجيم البطالة ومستوى تمثيل القوى الشعبية في البرلمانات ومقاومة الفساد أفضل من الكلام عن تطبيق الشريعة بمختلف أصنافها.
بطبيعة الحال تظل هناك جماهير تعيش في الماضي، ولا تزال تردد نفس الشعارات وتريد تحقق العدالة المطلقة.
برجوازياتٌ موسعةٌ بعد الثورات
الانتصاراتُ الكبيرةُ للقوى الدينية السنية المعتدلة والمحافظة في الفصل الأول من الثورات العربية المظفرة العظيمة يذكرنا بالتاريخ الطويل الذي قطعهُ الفقهُ والمذهبيات السياسية وتذبذبها بين الحكام الشموليين والتجار الواعدين بالنهضة. فهي لم تبلور مواقف ديمقراطية أو فلسفة عقلانية تورثها للأجيال القادمة.
لم تستطع هذه المذهبيات خلال قرون أن تتخذ مواقف مستقلة أو تدعو لأنظمة ديمقراطية لكن الحركات السياسية المتخذة صبغة المذاهب بدأت تشتغلُ بسياسةٍ مستقلة ولم تجعل الفقه والتشريعات أساس علمها، بل إنغمرت في السياسة وصراع الأحزاب والعمل مع أو ضد الحكومات عبر الشعارات الأخلاقية المثالية المحافظة المفصولة عن الحقائق والظروف.
صار لها قدمٌ في دورِ العبادة وقدمٌ في السياسة، ولم تنشىء فقهاءَ كباراً، بسبب أن الفقه يحتاج إلى سنوات طويلة من الدرس، وهو أمرٌ يفصلُ الباحثَ المتدينَ عن السياسة التي تتسم بأنها حراكٌ يومي، والفقيه عالمٌ بينما السياسي الديني مستغلٌ للشعارات والعبادات الدينية لصعود جماعته.
حين نقرأ سيرَ الفقهاء الكبار لعصر النهضة العربية القديمة مثل مالك بن أنس وأبي حنيفة النعمان وجعفر بن محمد وغيرهم سنجدُ الغرقَ في الفقه والبحث المتقصي فيه، والبعد عن السياسة والفلسفة رغم لمحات مؤسس الحنفية فيها والمُنتَقَدة من قبل المحافظين، وحين جاء التابعون لهم قلَّ البحثُ كثيراً وزادتْ السياسةُ وأصبحوا مُسيسين مؤدلجين للدول المسيطرة أو التي في طريقها للظهور القومي المختلف عن العرب.
فظهرتْ الحركاتُ المُسيِّسةُ الجديدةُ للإسلام وهي ترثُ وعي الأواخر وجمود عصر المحافظين والأتراك العثمانيين والحركات السلفية البدوية في الصحارى العربية.
وكعهدِها القديم لبدتْ بقرب الدولِ والطبقات الحاكمة شاعرةً بأن الحكامَ الجددَ بمختلفِ مذاهبهم الرسمية ينأون عن الدين الذي حفظتْ أحكامَهُ التقليدية ووظفته، وجعلتْ من نفسِها وصيةً عليه وعلى المؤمنين به، متصورةً أو متوهمةً أنهم يبتعدون عنه، وينزلقون لعوالم الغرب العدو التقليدي لديار الإسلام كما تتصور.
ومهما إختلفت مع نظام من الأنظمة الذي يكون قد إتخذ سياسة مغايرة، قومية أو يسارية، فإنها تجدُ في بلدان أخرى ملاذها، وتظلُ تمارسُ فيه عملها السياسي، وربما تأثرت بما فيه من تقليديةٍ أو بذخٍ أو تقشف أو مال أو مشروعات سياسية عابرة للدول، ولكنها طوال هذه العقود لم تعد النظر العميق في الأسس التي قامت عليها، ولم تنفصل عن الفقه المحافظ والتنفع به.
والذي حدث خاصة بعد تدفق الثروة النفطية أن العديد من نخبها قد تبرجز، ودخل في المشروع الغربي الرأسمالي التحديثي المرفوض كلياً سابقاً، فزمنية البدو الفقراء، والحارات الفقيرة، والبيوت الضيقة، هو غير زمن الشركات والمتاجر والبنوك، ولهذا نجدُ الرسملةَ الواسعة للمنظمات الدينية وقيام البنوك(الإسلامية) فحدث ظهورٌ واسع لفئات وسطى جديدة، فقدمٌ لها في الإرث المحافظ، وقدمٌ أخرى في المشروعات الاقتصادية الحديثة، تتحدث بنصوصية سلفية أمام البسطاء والأميين، وتتكلم بليبرالية دينية محافظة أمام رجال ونساء الأعمال.
وهي تشتغلُ أساساً بالسياسة مثلما كانت خلال قرون، أما مع الحكام أو كظلٍ لهم؛ أولئك يحكمون البلدَ وهي تحكمُ الشرعَ أو الدين، والحكام صاروا يتدخلون في الشرع، فراحت هي تتدخل في الحكم. ولكن الإقطاعَ السياسي والإقطاعَ الديني يقتربان من الرأسمالية، كلٌ من موقعهِ، ومن أحجام رأسماله، ومن صلاتهِ بالناس وتأثيره فيهم ومحاولاته سواءً بالتشبث بالسلطة أو بالقفز إليها!
إن دخول الدينيين كأجنحةٍ محافظة يمينية للطبقات الرأسمالية الجديدة الصاعدة محولين الشرعَ لرأسمال سياسي، هو توسع كبير للطبقات الرأسمالية الضيقة السابقة، وينشىء مسارات جديدة للأعمال، ويتسم بإدخال الاحتيال على نطاق واسع كذلك، والقمع الاجتماعي للمدنية الحديثة، لأن العامة المحافظين بطبيعتهم الاجتماعية لديهم ثقة في الدين وما يظهر فيه، فيختلط الاسثتمارُ السياسي بالاستثمار الديني، ويصعد الدينيون للشركات والبرلمانات فيتحكمون أو يؤثرون في التشريعين السياسي والديني.
جناحا الطبقات الرأسمالية المتكونة وهما المدني والريفي، الإنتاجي وغير الانتاجي، الجديد والقديم، الليبرالي والديني، المجدد والمحافظ، سيظلان لعقود وهما يتصارعان حسب البُنى الاجتماعية لكل بلد، وحسب ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومدى دوران رأس المال في كل بُنية، وكيف يقوم بالتجديد الموسع للبنية أو لا يقوم، ومدى تبادل السلطة بين الجناحين والعامة، ودور قوى الإنتاج في هذه السيطرات تغييراً وعملاً.
سيظل الدينيون يتحركون ببطء في الرأسمال العائلي، ولا يقبلون بسهولة بتحرر النساء وتحولهن لقوى إنتاج كبيرة، وعملية التجديد في الإنتاج المادي تتطلب تجديداً في الإنتاج الروحي، في تغيير نمط العائلة والوعي العقلي القديم، وتبديل مستوى المدارس والمناهج، وهي كلها ستفتح معارك فكرية وسياسية وإجتماعية طويلة في إطار خروج المسلمين من العصر الوسيط إلى العصر الحديث.
إذا تجذرت الديمقراطية عبر التداول وتم مقاومة الاحتيال بالمال والدين، فإن تحول شعوب عربية للحداثة والتقدم ورفعة الطبقات الشعبية مسألة وقت.
البرجوازية الصغيرة والقفز إلى الثروات
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح من المتعذر إقامة أنظمة تسيطر عليها البرجوازيات الصغيرة لتقيم أنظمة رأسمالية حكومية، حيث كان آخرها الفاقع هو النظام الإيراني.
أعطى النموذج السوفيتي إمكانية لذلك حتى في اليمن والحبشة، لقدرة حراك هذه الفئات وتخلف الشرق، ولإقامة نهضات سريعة غالباً ما تنتهي بكوارث.
كان ذلك النظام رافعة لنهوض وتسريع التطور، ولكن الافتراق بين مصالح الفئات الحاكمة التي أستأثرت بالثروات، وحدوث الانفصال بين البرجوازية البيروقراطية والعمال، أدى إلى إنكسار أهم رؤية لعبت دوراً تحويلياً في القرن العشرين وهي الماركسية، التي تفتت بسبب هذه المصالح الذاتية للطبقات الحاكمة في هذه البلدان، بحيث غدتْ عاكسةً للمصالح القومية العليا في هذه البلدان وتغيبتْ قراءتُها للقوانين الاجتماعية الموضوعية والدفاع عن العاملين، وتنوعت حسب الخياطات الخاصة لكل دولة وجماعة وظروف بحيث فقدت في هذه التطبيقات قدرة إكتشاف القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي.
لكن حدث في خلال ذلك كله صعود حركات التحرر الوطني وحطمت التبعية المباشرة، وأمكن لكثير من البلدان أن تتطور بأشكال مستقلة.
إن الضخ الإيديولوجي العاطفي وفرضها بأشكال دكتاتورية كل هذا جعل من الأفكار الموضوعية حطاماً، ومهد لصعود الأفكار الخيالية والقومية العتيقة، بل وحتى التصورات السحرية الخرافية لإدارة دول من العالم الثالث تمتلك أسلحة هائلة، بحيث إنتقلنا من التطبيقات الميكانيكية والانتهازية الفكرية إلى الدجل الطائفي نظراً لعدم وجود بُنى عقلية جماهيرية موضوعية تحديثية.
هذا الأمر ينعكس بقوة الآن على إستخدام الإسلام في التحولات العربية، فتحدت نفس الأدلجة، ويتم إستغلال المذاهب وتعبئتها بأشكالٍ عاطفيةٍ حادة من أجل الثروات، لكون الفاعل الأساسي لا يزال الفئات البرجوازية الصغيرة الفاقدة للرأسمال سوى رأس المال الكلام والتلاعب على حبال الطبقات والمذاهب.
قامت الثوراتُ العربية على تقدير الديمقراطية والشفافية والصحافة الحرة وهي جوانب أساسية لمنع ذلك المنزلق الذي سد وحجَّم الماركسية، لكن ثمة مخاطر لا تزال كبيرة فالجماهير العربية ليست ذات ثقافة ديمقراطية متأصلة، والمنظمات السياسية تشتغلُ على الأفكار المذهبية المحافظة غير الديمقراطية وتحولها إلى أدواتٍ للوثوبِ للسلطات والمنافع، وتستغلُ التخلفَ في الفئات الريفية والنساء والمهمشين والهياكل النقابية الجامدة أو النفعية البيروقراطية والأحزاب المتكلسة ونخب عبادات الأفراد.
إن التبلور الطبقي كما هو في الغرب ووجود المؤسسات العريقة وفصل الدين عن الدولة كل هذا أتاح تطور الديمقراطية الطويل في الغرب، أما في الشرق فإن حراك البرجوازيات الصغيرة للتلاعب بالأيديولوجيات والمذاهب، ثم التكالب على الثروات وسد منافذ التحول السياسي، مما عرقل التنمية وفجر صراعات دامية، حيث قامت حتى إعادات البناء في بعض الأنظمة كالعراق وإفغانستان بسرقة مليارات من الدولارات.
لم يعد نظام البرجوازية الصغيرة حتى إستنساخاته في مصر يوليو واليمن وموزمبيق وكوبا وغيرها قادراً على البقاء أو قادراً على ظهور نسخ جديدة، لكن المذهبيين السياسين في العالم العربي قادرين على إيجاده عبر مرتكزات إيديولوجية مختلفة، فيظهر الاستبداد وتراكم الثروة لدى الفئات الحاكمة عبر تخريجات فقهية، ويحتاج الأمر لمراقبة هذه التجربة ومدى قدرتها على تجاوز نسخ الشموليات الشرقية والاعتراف بديمقراطية حقيقية وتعددية سياسية وفكرية.
إن إنهيار الأشكال الشمولية للاشتراكية من جهةٍ، وتصاعد المذهبيات المحافظة من جهةٍ أخرى، هي قضيةٌ واحدة ذات وجهين، تعبرُ عن عن إنتقائية وإنتهازية البرجوازية الصغيرة، ولهذا فإن دخولنا إلى مرحلة إحتراق جديدة باسم الدين بعد أن كانت باسم الإشتراكية، يدعونا لرفض الشكلين معاً، فلا يخدعنا نزع القبعة ولبس العمامة، وإعادة إنتاج الدكتاتوريات بيافطات مختلفة شكلاً.
البرجوازية الصغيرة والفقراء
هو ذات السيناريو الجامد غير المتغير، لأن نوابضه الداخلية ليست ثقافية تحليلية وطنية مغيرة، بل فوضوية وخالية من المعرفة العميقة وقراءة الوقع والمنطقة.
وليس غريباً أن تتجمع مع قوى البرجوازية الصغيرة التي لم تتغير، لم تستفد من براكين التحولات في العالم، وتعتبر العمال والفقراء جسوراً تنط من فوق ظهورهم للثراء والسلطان.
أي أن ليس ثمة لدينا من يعبر بعمق وموضوعية وبعد نظر عن الفقراء.
فإذا كان سبيل التحول السياسي الكبير مسدوداً فهل نقف مكتوفي الأيدي وونناطح ونترك مشكلات الناس محلك سر، وتزداد تأزماً مع كثرة التحولات الاقتصادية السلبية، ولكن الجمهور الفقير هو ذاته مسطح الوعي لا يستطيع أن يستوعب قادته البرجوازيين الصغار المحتالين، ويطالبهم بخطط لتغيير أوضاعه ليس على المستوى البعيد فقط بل على المستوى القريب كذلك.
أن يدرسوا الأجور والأسعار والشركات والبنى الاقتصادية ويقدموا حلولاً على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إنهم يستغلون هذا التوق الشعبي المفهوم للتغيير في الظروف المعيشية والإسكانية والصحية، ويجردونه ويغيبونه في شعارات سياسية لا برامج فيها عملية.
إنه مستواهم السياسي الفكري الاقتصادي المحدود، وتلقائيتهم وعفويتهم الحماسية غير الصالحة للقيادة، وعلينا في كل سنة أن نقدم وجبة من البشر ومن الخسائر الاقتصادية وأن لا نعارض هذا الساطور الماشي في لحمنا الوطني تمزيقاً وتعذيباً.
البرجوازية الحديثة وضعف الليبرالية
إذا كنا في حلقات سابقة قد قرأنا أسباب ضعف الفئات الوسطى العربية في العصر الكلاسيكي! فإننا هنا لا بد أن نذكر الخصائص الموضوعية التى اتسمت بها، وأهمها ذيليتها وتبعيتها للأنظمة الإقطاعية. ولم تحدث في أثناء هذه التبعية أي مواقف جذرية شاملة نحو وعي ديمقراطي ليبرالي بطبيعة الحال.
وفي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين, أتيح للفئات الوسطى نمو كبير في التجارة والعمليات الاقتصادية الأخرى المختلفة بسبب نشوء نظام عالمي جديد هو النظام الرأسمالي الغربى، الذي أخذ من العقود الأولى من هذا الفرن بالتوسع الاستعماري منتقلاً من مرحلة تصدير البضائع إلى مرحلة تصدير رأس المال.
وإذا كانت هذه المرحلان قد ركزت غربياً على جلب المواد الخام المهمة، فإنها قد وضعت سقفاً لنمو الرأسمالية في العالم العربي، كذلك فإن الاحتلالات العسكرية الغربية لم تقوض الأنظمة الإقطاعية . المذهبية، بل جعلتها أساساً للنظام التابع الذي أنشاته فى كل بلد عربى، ولهذ ا فإن (الإصلاحات) الرأسمالية التي قامت بها كانت تسهيلاً لتدفق التجارة بين البلد التابع والمتروبول.
أي أن الدولة كمهيمنة على جانب رئيسي من الثروة لم يتم إزالتها، ولم يفعل الاستعمار سوى أن يجعل الدولة الإقطاعية – المذهبية المحلية كشريك في عمليات الاستغلال المشتركة للمنتجين.
أما الجوانب الأكثر تخلفاً كملكية العبيد والحجر الكلي على المرأة فلم يكن بالإمكان استمرارها في المناطق المدنية، وهي المراكز الاقتصادية الكبيرة التي هي بحاجة إلى استقرار لهذا النظام الملفق، فهو إقطاعي – مذهبي، تسود فيه الشريعة التي تم إنتاجها في قرون هيمنة الإقطاع المطلقة. ولا هي القوانين والنظم الليبرالية الغربية المستوردة.
فى مستوى هيمنة الإقطاع، بقيت الأسر الحاكمة التي تملك الخزينة الملكية شرعاً، ولكن الإصلاح الاستعماري جعل هيمنتها غير مطلقة، وهنا لأول مرة تطبق مسألان الميزانية العامة، ويتم الفصل قليلاً بين جيوب الحاكم وخزانة البلد، لكن هيمنة الأسر الإقطاعية الحاكمة تم في جوانب عديدة من الاقتصاد، ببقاء الأملاك الكبيرة والتحكم في جانب كبير من موارد الخزينة، والموارد التى ستأتي لاحقا، كالبترول.
لقد رفض الاستعمار الغربي نقل الثورة البرجوازية إلي العالم العربي. عبر جعل الدولة جسماً غير اقتصادي، فقد استمر في جعل الدولة الماكينة الاقتصادية الأساسية، فهي ضمناً تمثل المالك الأكبر، ويجب ألا يغيب عنا بعض الجوانب الرأسمالية التحديثية التي هي جوانب جزئية لا تلغي كون الدولة هي المالك الأكبر.
إن الملكية العامة التي كانت للأرض يتم التخلي عنها، فتصبح الأملاك الزراعية الكبيرة من ملكية طبقة الأعيان أو الشيوخ، حسب التسميات فى كل منطقة. وبهذا يحدث لأول مرة في التاريخ هذا الانفكاك الواسع بين ملكية الدولة والأرض الزراعية، مما يسمح بنمو للملكيات الخاصة الزراعية بشكل واسع في العصر الحديث. ولكن هذا لا يعني سقوط الإقطاع الزراعي، فهو يصبح الآن مباشراً، بدلاً من الشكل العام واللامباشر الذي اتخذه في الغالب الأعم من التاريخ القديم.
ولهذا فإن الأسر الحاكمة عبر تزعزع بعض جوانب سلطتها فى النظام السياسي، تقوم بالتعويض عنها من خلال ملكيات الريف والدخول في الحياة الاقتصادية، وبشكل يساعد فيه الموقع السياسى المتنفذ.
هنا نجد ذلك التآلف بين الإمبريالية والإقطاع، وهو الأمر الذي سيضع أساساً للتعاون السياسي والأيديولوجي بين الجانبين في فترات كثيرة من هذين القرئين 19، 20.
إن العمليات التحديثية التي يقوم فيها الاستعمار وشريكاه في السلطه، الإقطاع السياسي، والأقطاع الديني، عبر إدخال التعليم النظامي وخروج المرأة المحدود إلى الحياة العامه، والعمليات التحسينيه الأخرى، إنها تبقى من أجل وظائفيتها الاجتماعية والسياسية، فظهور الجيوش الوطنية المحدودة، والمهيمن عليها من أبناء الأسر الأشراف، على الأقل فى النصف الأول من القرن العشرين، لا يمكن أن يحدث دون تعليم وإنشاء أجهزة، وكذلك دون مجيء المصانع والأدوات التي تنقل المواد الخام، او تصنعها بعض التصنيع المحدود، والموانئ التي تنقلها الخ.. إنها سلسله وظائفيه لحمايه المواد الخام، ووصولها إلى البلد المسيطر، ولهذا فإن الإقطاعين السياسي والديني يلعبان دوراً في ركود البنيه السياسية الاجتماعية، واستمرار إعادة إنتاج المواد الخام، والسوق الوطنية كسوق تابعه.
إن التعليم والإدارات السياسية والدينية والسوق… الخ هي أنظمة حماية لتدفق السلعه الصَّدرة للمتروبول كسلعه رخيصة، ولمجيء السلع المصنعه، ودون هذا التشكيل المتضاد بين القديم والعصري، بين البلد التابع والبلد المسيطر، لا تنشأ علاقه مستمرة.
إن هذا التآلف بين الاستعمار والأقطاع قد اتخذ جوانب عدة. فالاستعمار الذي هو قمه تطور البرجوازية الأوروبية والأمريكية، يقاوم تشكل مثيلته في البلدان التابعه، أي يقاوم نشوء برجوازية صناعيه يمكن أن تستولى هى على السوق. وإذا قبل بنشوئها فعلى ضفاف النظام الكولونيالي الذي رتب أداوره الأساسية.
ومن هنا يغدوالتحالف بينه وبين الإقطاع بشكليه رئيسياً في نظامه الحديث شكلاً والمحافظ والقديم مضموناً . أي أنه يبقي علاقات الأنتاج الإقطاعية سائدة، ويحفر خلالها لقنوات نمو رأسمالية محدودة.
إن نشوء نظام إقطاعي ـ مذهبي تابع لبلدان الغرب المسيطرة الرئيسيه، سيكون هو الصيغة الملفقه السياسية والاجتماعية لظهور العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، وبمظهره هذا بدا كأنه غير الماضى، وانه بُنى اجتماعية رأسمالية، وهذا أمر شوش الرؤية السياسية طويلة لدى المثقفين بل الباحثين.
إن الاستعمار قد حافظ على البنى الإقطاعية ـ المذهبيه، في الأقطار التي تتنوع فيها المذاهب الإسلامية، وعلى البُنى الإقطاعية الدينية التي تتنوع فيها الأديان، كمصروالسودان والعراق ولبنان وسوريا، أو التي تتنوع فيها الأديان والمذاهب كذلك. ويلاحظ هنا ان المشرق العربي هو الذي مثل هذه الفسيفساء، للجذور القديمه التي تمتد إلى آلاف السنين.
إن حفاظ الاستعمار على البُنى القديمة، يؤدي إلى سيطرته على اجهزة الدوله، وبالتالي يلعب دور الإقطاع السياسي المسيطر، كما كان الأمر فى دولتى الأمويين والعباسيين وما تلاهما، لكن (الخراج) المعاصر لا يذهب إلى بذخ القصور كما كان الأمرسابقاً، بل إلى البنوك والشركات الغربية، عبر إتاحة الدولة الإقطاعية الاستعمارية لشركات بلدها استغلال المواد الأوليه والسوق.
إننا أمام صيغة اقتصادية وسياسية مركبه، ففي الوقت الذي يلعب فيه النظام الاستعماري دوره الرأسمالي في بلده، عبر ضخ الموارد من البلد التابع، فيطور رأسماله الداخلي، فإنه يلعب دور الإقطاع السياسي فى البلد المستعمَّر.
وهى صيفه كما تقوم بتطوير جزئي للبلد المستصمَّر، فإنها تبقي الهياكل، لإقطاعية الأساسية فيه. هنا يلعب الاستعمار دور الأشراف السابقين، فيتحالف مع الأشراف الحاليين، أو الذين يصنعهم كأشراف . وبُحدث ديمومة للعلاقات الإقطاعية ـ المذهبيه.
ونظراً لتحول السلطه الاستعمارية إلى إقطاع في البلد المستعمَّر؛ وإلى رأسمالية احتكارية في البلد المستعمّر، فإنها تقوم بالحفاظ على الإقطاع في مستوييه السياسي والديني. كما تحافظ على مستوى محدود من تطور القوى المنتجه.
إنها تغدو جزءاً من الإقطاع السياسي، ولهذا فإنها لا تغدو سلطة برجوازيه، بل هي في وجودها الاستعماري تعادي الميراث البرجوازي الغربى الثوري نفسه، أو هى حين تصدره تزيح الجوانب الديمقراطية والعلمانيه منه. لأنها غدت جزءاً من السلطة الإقطاعية.
إن السلطة الاستعمارية تحمي وتقوي المستوى الديني من البنية الاحتماعية.
إنها أيضاً تفعل كما يفعل الخلفاء الإقطاعيون السابقون بأشكال حديثة، فيذهب (الخراج) إلى البلد المتروبول المسيطر، فيزداد البلد المستعمَّر فقراً، لكون الفائض الاقتصادي لا يعود إلى تطور القوى المنتجة.
هناك جوانب أكثر تطوراً من النظام الإقطاعي العربي السابق، فالبنية الإقطاعية ـ المذهبية ـ التابعة، هي غير البنية الإقطاعية العربية المستقلة السابقة، فهى مربوطة بتطور القوى المنتجة الغربية.
إن الازدهار المستمر في تطور قوى الإنتاج الغربية ينعكس في البلدان المستعمرة، ولا ننسى هنا ان الحلقة الراهنة حينئذ، هي حلقة تطور الرأسمالية الاحتكارية؛ وهى من نهايات القرن التاسع عشر حتى نشوء نظام الشركات العابرة للجنسية فى العقود الأخيرة من القرن العشرين، الذي يمثل بُنية رأسمالية مختلفة.
ولكن انعكاس تطور القوى المنتجة الغربية في البلدان المستعمرة هو استيراد المنتوج والبضائع، في ذلك الزمن الغربي الخاص، أي أن استيراد وسائل الإنتاج التي تصنع وسائل إنتاج، وهو ما يُسمى بالتصنيع االثقيل، كان ممنوعاً فى تلك العلاقات الاقتصادية، ولهذا فإن تصدير البضائع الحديثة من أثاث المنازل والثلاجات وأدوات الاتصال الخ . . كان محتماً وضرورياً من قبل الاستعمار، ولكن هذا لا يعني كذلك انتقال الرأسمالية كنموذج وكبنية واستيراد الحداثة كنظام، لأن استيراد البضائع وتداولها في النظام التابع، سيخضع لقوانين النظام الإقطاعي – المذهبي التابع. فالراديوسيخضع للخطب والأخبار الاستعمارية وللارستقراطية ولكبار رجال الدين.. الخ.
ومن هنا فإن نشوء أو تطور الفئات البرجوازية في هذا النظام، لن يحولها إلى طبقة، إن شروط تحول الفئات البرجوازية إلى طبقة هو ظهور رأس المال الصناعى الوطنى وهيمنته على السوق. وكما رأينا في الفئات البرجوازية العربيه القديمة، كيف لم تستطع أن توجد العملية المحورية في تشكيل رأس المال الصناعي هذا.
لكن تطور الصناعة الحرفية فى كل بلد عربي يخضع لشروط التطور داخل كل بنية وطنية، بعد التجزؤ الإقطاعي المذهبي؛ ثم الاحتلال الاستعماري، ففى بلد ذي سوق ضخمة هو غيره في بلد صغير، لكن بعض الملامح الأساسية كانت متوافرة، عبر ظهور دلائل على انهيار الحرف القديمة وتدهور الزراعة، حيث لعبت عملية الاستيراد للبضائع الأجنبية دورها في هدم جوانب من قوى الإنتاج الوطنية.
فى القرنين ١٩ و٢٠ حدثت عمليات هدم واسعة للحرف والصناعات القديمة، وهذا ما أدى إلى تضخم المدن العربية بالمقتلعين من مهنهم السابقة، كما أن تضخم أجهزة الدول الحديثة وسع هذه المدن، وهذا يذكرنا ببناء الكوفة ثم بغداد والمدن العربية السابقة، وو التضخم المدني الذي ينشأ بقرار إقطاعي، أي أن هذه ليست مدنا برجوازية، بل هي إدارات إقطاعية، غدت الأن مزدوجة اقطاعة – تابعة.
إن هذا يجعل هذه المدن تنمو بطريقة مضادة للحداثة، حيث إن المدن الحقيقية تنمو على أساس نمو الصناعة وازدهار أشكال رأس المال المصاحبة لها، لكن هذه لا تنمو على أساس نمو الصناعة، بل على أساس منع نموها.
ولهذا فإن جميع أشكال الحداثة في العالم الإقطاعي التابع ستظهر مدى هشاشتها لاحقاً.
إنها تحافظ على الهيكل الإقطاعى السابق، وعلى عمليات الاستيراد الرأسماية، ولهذا فإن الفئات البرجوازية الناشئة في العهود الإقطاعية السابقة ستواصل النمو؛ وستظهر فئة كبار التجار مرة أخرى، وستُذيل لذات النظام الإقطاعي ـ المذهبي التابع هذه المرة، وبدلاً من الاتجار في مواد الحرفيين المسلمين، والاستيراد من البلدان الأخرى، سيكون الاستيراد من بلد المتروبول ثم من المنظومة الرأسمالية كوكالات، وسيغدو الوكيل, هـو وجه الرأسمال الأجنبى البضاعى. وستنشأ ثقافة الاستيراد البضاعي ووكلاؤها المعتمدون.
سيكون الوكيل جزءاً من الطبقة الإقطاعية التابعه بشرائحها المختلفة، وستجمع بين ثقافتين متداخلتين: ثقافة الرأسمالية القشورية التابعة، وثقافة الإقطاع المذهبي بألوانه في كل بلد.
وإذا كان التاجر الكبير في العصر العباسي يورد للأشراف، أي للدولة، (السوق العظمى) فإن الأمر يستمر الآن، ولكن معضلة السوق الإقطاعية تبقى مستمرة، حيث يتم تفقير المنتجين وتوسيع السوق، وهما أمران متضادان، وعلى الرغم من نشوء بعض الصناعات في هذه المرحلة فإنها تبقى في محيط المواد الأولية المصدرة، مما يبقى الأساس الاقتصادي للبنية.
وتؤدي مشكلة السوق الإقطاعية، على بذخ على الضفتين، فالأسر الارستقراطية تستمر فى البقاء والبذح، برعاية الاسعمار، والاستعمار نفسه يسوق فائضاً اقتصادياً كبيراً إلى بلده فيجعله مزدهراً ومطلوراً لقواه المنتجة، ولبذخ البرجوازية الغربية، في حين يدمر القوى المنتجة المحلية، ولهذا فإن المدينة الإقطاعية العربية في نهاية المطاف تنفجر من تناقضاتها.
فهناك توسع مستمر لهذه المدن من دون أساس إنتاجي راسخ، ومن دون تراكم إنتاجي ورأسمالي، وهي تفقد مواردها بشكل مستمر، وتجلب القوى الريفية والحرفية المُدمرة، وهي تواصل تقوية الهيكل الإقطاعي المذهبي لنظامها، فتدخل المدينة فى نفق أزمة طويل.
تحتاج القراءة هنا إلى توصيف اجتماعي وسياسي وثقافي ملموس، وهذا أيضا يحتاج لوقفة أخرى.
البرجوازية القديمة وغياب الليبرالية
رأينا بشكل مستمر الهياكل الاقتصادية والسياسية المترابطة للأنظمة الشرقية وأسباب الاستبداد في البنية الاجتماعية بمستواها السياسي الحاكم، وبمستواها الاجتماعي الديني الحاكم.
وقد امتلك التاريخ العربي الإسلامي أقوى شمولية شهدها التاريخ الإنساني، وايصاً أكثر المحاولات الكفاحية للخروج منها، وذلك بسبب طبيعة الحراك الاجتماعي الجغرافي الذي تشكلت فيه الحضارة فى المنطقة، عبر قدرة الصحارى وسكانها على إعادة عجلة التاريخ للوراء دائماً، واعتقال التطور المدني المحدود الذي يتشكل فى المدن.
في حين أن مناطق آسيا الأخرى كالصين مثلا، عرفت عبر تاريخها الزراعي ـ التجاري المتعاضد، إمكانية للتراكم الحضاري عبر عدة قرون، مما أتاح للعناصر الشعبية العلمانية تفكيك المنظومة الدينية الشمولية والتخفيف من حضورها في الحياة الاجتماعية؛ وهو المستوي الذي هيمن فيه الاقطاع الديني لدينا بصورة صارمة.
ويعد سور الصين العظيم عن هذا التصدي للعناصر الرعوية من فرض قوالبها المتخلفة دائما على الحياة الحضرية. في حين كان من الصعب للعراق أو مصر بناء سور مشابه لأنها هي ذاتها جزء من الصحراء.
ولكن الأمر لا يعود لقدرة الاقطاعين السياسي والديني على لجم التطور الحضاري فقط، بل هو يعود أيضا لضعف الفئات الوسطى في إنتاج الليبرالية. وحين ظهرت المدن العربية الكبرى لم تكن من نتاح بناء البرجوازية. وهذا الأصل العربي للبرجوازية، (مدن الأبراح) يوضح الطبيعة الصناعية والتجاريه للمدن التي أنشأتها الفئات المتوسطة الأوروبية لحماية املاكها، عبر الأبراج والأسوار، وكان هذا في تعبيره الجغرافي والرمزي، يمثل القطاعات الاقتصادية التي راحت تستقل عن المركز الاقطاعي الحاكم، والتي أخذت تنمو في وضع سياسي كان الاقطاعان السياسي والديني في صراع بينهما ولم يستطيعا ايجاد هيمنة اقتصادية شاملة. فأخذت مدن الأبراج تتقوى سياسياً وفكرياً عبر عدة قرون.
إن الفضاء الاجتماعي الأوروبي يختلف عن الفضاء الآسيوي عامة، فالفضاء الأوروبي لم يشهد التداخل الشديد بين الملكية العامة والحكم، الذي تمظهر دينياً بقدرة الحكم على إفراغ الثورات الاجتماعية التي تتشكل عبر عباءات الدين من مضامينها الكفاحية؛ فقد كانت هناك دائماً في أوروبا قوى الملكية الخاصة الواسعة، التي تنامت خاصة في بداية العصور الحديثة، والتي غدت مدن الأبراج جوهرتها، ولهذا كان ظهور البرجوازية الصناعية هو تتويج لمسار التراكم بين الملكية الخاصة والثقافة والأنتاج الحرفي.
إن زمن الحرف الذي استمر طوال العصور الوسطى، وهو النظام الاقتصادي المغلق المعادي للتطور التقني والاختراعات، أخذ يخلي المكان الأساسي للصناعة اليدوية، وهذا ما مثل عصر النهضة؛ ووضع الأسس لعلوم الطبيعة الميكانيكية الرؤية. فمنذ القرن الثالث عشر والتراكمان الصناعي والثقافي يتداخلان، وأدى توسع التجارتين الداخلية والخارجية إلى تبدل أهمية ووزن مدن الأبراج، وانتقال المال من القصر والأديرة إلى خزائن هذه المدن النامية. وهنا يتبدل جمع المال إلى تراكم رأسمالي. والفارق كبير بين الجمع والتراكم، فالجمع يؤدي في أحسن الأحوال إلى إعادة الإنتاج البسيط، وكثيراً ما يقود إلى البذخ والإفلاس، وهما الوجهان المتقابلان المترابطان للحضارات القديمة.
يقود التراكم الرأسمالي البسيط في عدة قرون من تكرار الصناعة اليدوية، إلى التراكم الموسع للإنتاج، وإعادة تغيير الهياكل الاقتصادية التقليدية، وقد لعب التقريب المستمر بين العلوم والإنتاج، دوره بدءاً من القرن السابع عشر في تفجير الثورة الصناعية، وهذا ازاح الهياكل التقليدية في الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية، لقد اصبحت مدن الصناعة والعلوم قادرة على إعادة تشكيل نسيج المجتمعات الأوروبية بعد ثمانية قرون من التراكم المدني العسير.
إن انفصال المدن الأوروبية الحديثة عن نسيج الاقطاع السياسي والدينى بصور شتى متقطعة ومتداخلة، عضدته المساحة القارية الأوروبية الصغيرة قياساً بآسيا، ولكن أيضاً التراكم الاقتصادي والاجتماعى السابق، وخاصة تجذر مؤسسات الحكم المطلق، في حين وجدت دول آسيا نفسها دائما في كيانات حكومية مُسبقة تسيطر على المدن، وتملك الأرض ووسائل الأنتاج وأحياناً أدواته، ثم تحاصر التجارة والحرف.
إن النمطين الأساسيين من التجارة والحرف في العالم العربي الاسلامي، هما نمط التوريد للاستهلاك الترفي الذي تقوم به الطبقة المسيطرة، أو نمط الاستهلاك الإنتاجي والذي تقوم به الطبقات الشعبية الملبي للحاجيات اليومية ذات الاثمان المحدودة. والنمط الأول وهو الاستهلاك الترفي هوعملية إهدار واسعة ومدمرة للثروة الاجتماعية، وهو الذي ترتبط به الفئات الوسطى، ويؤدي إلى إلحاقها وتوسعها أو انهيارها.. الخ. وبخلاف الأمكانية الفريدة لنشوء مدن الأبراج الأوروبية، فإن الفئات الوسطى الشرقية لم تجد إلا التكوين الإلحاقي والتابع للأشراف.
إننا نستطيع تخيل مقدار الثروات المهدرة عبر حساب الأهرامات وحدائق بابل والقبور وثرواتها والقصور والمتع الأسطورية وبذخ الأماكن الدينية وعالم الحريم والرقيق.. الخ.
ولهذا كان لدينا دائماً نمط التجار الكبار القلة، ونمط التجار المتوسطين والصغار الكثيرين. ولا يتشكل النمط الأول إلا من خلال الاتصال بالدولة، التي يقول عنها ابن خلدون: إنها (السوق الأعظم). في حين يعتمد الآخرون على الاتجار بالمواد الشعبية.
ولا يشكل التجار الكبار أي صلة عضوية بالعلماء الطبيعيين والرياضيين والاجتماعيين، لأن نظام الحرف المغلق يظل مجرد أداة للاستيراد، أو التصدير، مثل الأسواق التي تظل مكاناً جغرافياً للسلع فقط.
وليس ثمة صلة معرفية بين التجار والعلماء والحرفيين، ولهذا فإن أدوات الاتصال بين التجارة والحرف والتقنية تظل مقطوعة، فيظل التجار الكبار يتبعون خدمات الترف للقصور سواء كانت للملوك أم الوزراء أم كبار الموظفين أم رجال الدين، أي الأشراف عموماً. وهذا ما يجعل التجار الكبار يتابعون كذلك المناخ الديني والثقافي للقصور، أي لا يساهمون في تشكيل أي نوع من الوعي المتحرر. فالسلع والحرف والمال هنا لا تقود إلى التراكم الصناعي والعلمي، فهي جزء من كماليات الترف.
إن تبعية مصادر تمويل التجار الكبار للطبقة الاقطاعية يجعل الرأسمال التجاري محافظاً على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التقليدية، وهي الهياكل التي تزداد تخلفاً عبر الهجمات البدوية المتكررة عبر القرون، بحيث تغدو المدن كيانات اجتماعية هشة فاقدة للقدرة على إنتاج التحديث.
إن التجار الكبار يتوافقون مع البنية الاقطاعية بمستوييها السياسي والدينى، فمسألة احتكار السلطة والنص الديني والإبقاء على تخلف وعبودية النساء والرق.. الخ تُلغى من أي خطاب لهم، عبر هذا الارتباط الاقتصادي المصيري، حيث كلمة واحدة كافية لاختفاء ثروة كاملة.
أما التجار المتوسطون والصغار والحرفيون المماثلون، فإنهم يعيشون أساساً على موارد الشعب؛ وهي السلع المعيشية الُمشتراة بشكل يومي، وهي التي تتيح للسوق البقاء، ولكنها تقوم على الفيض المالي من الطبقة المسيطرة، الذي يقوم أغلبه على منتجي القرى، ولهذا كلما ثار الفلاحون أو تقطعت أراضي الدولة، أو حدثت فيضانات، تدهورت فوائض الدولة وبالتالي تدهورت الحياة المعيشية للجمهور وللتجار الصغار، وحدثت أزمات الغلاء والمجاعات. وغالباً ما تتدهور المدن بعد اتساعها بسبب ان على الريف أن يقوم بإعالة هذه المدن المتضخمة باستمرار، فلا يتحمل ذلك وتبدأ الثورات. وحين تنجح الأرياف والمناطق في تفكيك الدول يتفاقم التدهور في المدن، ولهذا يمكن قراءة مصير تدهور مدينة مثل بغداد، والازدهار المعاكس لمدن الري أو القاهرة أو فاس. ويعد زمن النهضة هنا هو وقت تدفق الفوائض الريفية والتجارية والتوازن بينه وبين الاستهلاك البذخي.
وتقود هذه الظروف التجار الصغار والحرفيين والفئات الوسطى عموماً، إلى التمسك بقشور الدين التي كرستها الطبقة المسيطرة بفرعيها، السياسي والديني، ويغدو الزهد ثم التصوف هما البدائل لنظام اقتصادي مضطرب وشحيح وزراعي.
كما حددت الطبقة المسيطرة الطابع الاقتصادي والسياسي والثقافي العام للنظام العربي الوسيط, فإنها ستحدد التوجهات العامة للفئات الوسطى منتجة الوعي والثقافة. فإذا كانت سلع الترفيه: سلع البناء كالبلاط والزجاج والعطور والثياب الخ. . حصلت على المكانة الرئيسية بين السلع, وبالتالي تحددت فئات التجار على أساسها, وتحدد البناء السياسي ـ العسكري على أساس جلب الخراج والمكوس, فتمظهرت فئاته حسب ترتيب الجلب والمحافظة عليه وتنميته وهي: الولاة, والقواد, والجباة , وموظفو الدواوين.
إذا كان ذلك قد حدد ترتيب الفئات الوسطى العليا, فإن الفئات الأدنى منها, في المجال الفكري والاجتماعي, والمتعيشة من هذا النمط التوزيعى, سرتبط بشكل غير وظيفى مباشر, لكون المهمات الدينية والفكرية يجري ترتيبها في اثناء نمو النظام بآلية السيطرة الفوقية.
وهكذا كان تشكل هذا المستوى يجري بتنحية العناصر المضمونية النضالية, وتقوية العناصرالشكلانية الغيبية, أو اشكال الممارسات العبادية, وتضخيم أبنيتها, وكلما نقص المضمون النضالي زاد الشكل الزخرفي والعمراني, وتبقى الجوانب المفيدة من المعاملات التي توسع العلاقات البضاعية وتكرس تقسيم العمل والإنتاج كما تفرضه الطبقة المسيطرة.
ولهذا فان فئات رجال الدين تتشكل على أساس القرب والأهمية للقوة المسيطرة السياسية, أي القادرة على تسويق السياسة العامة للخلفاء, فيظهر كباررجال الدين الذين يصيرون جزءاً من طبقة الأشراف, بحصولهم على الأراضى الزراعية والقطائع. فى حين تبقى الغالبية منهم في المستويات المتوسطة والدنيا.
ولأن الدين هو المظلة الفكرية التي يستظل بها النظام, تغدو مؤسساته وإرثه وفئاته, الجزء الآخر من النظام, هو مستواه الفكري الغالب, لأن ثمة اشكالا فكرية تزاحمه كالآداب والعلوم والفلسفة لها مساراتها النوعية في النمو, ولكن قانون الهيمنة الاجتماعية ينطبق عليها كذلك, فيتم تنحية العناصرالمعارضة والنقدية والتحليلية للحياة. وإذ تظهر جوانب موضوعية وعلمية ومضيئة في الإنتاج, فإنها تظهر كأشياء وظواهر جزئية, في منظومات غيبية, فتتم السيطرة على الجوانب الموضوعية والنقدية ولا تتحول الى منظومات فكرية تحليلية كاشفة, مثلما تتقطع فئات الطبقة الوسطى الى شرائح عاجزة عن تغيير المدينة الإقطاعية.
وتظهرجذورالمفكرين والكتاب المنتمين الى الشرائح الوسطى بدءاً من أسمائهم كالغزال واصل بن عطاء, والنظام المفكرالمعروف بهذا الاسم, والحلاج والاسكافي.. الخ.
كذلك فان نسبة الشرائح في فئات الإنتاج الفكري تعبر هي الأخرى عن أدوارها في الحياة, حيث رجال الدين المتوسطون والصغار يمثلون الشرائح ألاكبر, وهذا يعبر عن كون إنتاج الوعي الديني يمثل الإنتاج الأكبر.
ولهذا علاقة بالوعي ووظيفيته فالدين هنا يمثل أغتراباً عن الطبيعة والإنتاج والمادة, مثلما يمثل النظام الاقطاعي الزراعي والحرفي البسيط, غياباً عن الصناعة, وتعاملاً بسيطاً مع السلع, مما يجعل هذا الوعي يحافظ على الركود الإنتاجي, وإعادة تكرار العلاقات الاجتماعية التقليدية, وباستمرار تدفقها الرعوي والقروي المتخلفين.
وفي الوعي الفكري تتنحى عمليات الكشف والتحليل الاجتماعيين, فابن المقفع يُقتل حيث دفعته رغبته الإصلاحية وموالاته للإشراف الى مصرعه, والاعتزال يتحول الى أعتزال تابع للسلطة, أو زاهد منعزل, وتتوجه المذاهب الدينية الى المحافظة وتنحية الاجتهاد, والمعارضة, في حين تبدأ الإسماعيلية في النشاط والرويج لفكر الإمام المستور الموجود, وبالتالي عدم تحليل الواقع المرئى واللامرئى.. الخ.
إن الجوانب الليبرالية والديمقراطية في الوعى العربي القديم تغدو ضئيلة لضخامة المبنى التقليدي المهيمن على الحياة, وأساسه في النظام السياسي, فتعجز الفئات الوسطى عن إنتاج تلك الجوانب لأنها تغدو جزءاً ملتحماً بهذا النظام التقليدي بمستوييه السياسي والديني.
وهذا كله على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية سيضع بعض الأسس الرئيسية للبرجوازيات العربية المعاصرة , ولهذا حديث آخر.
البرجوازية والطائفية
استخدم الغرب بشكله الاستعماري القوى الدينية لعرقلة نمو حركة التحرر في العالم العربي والإسلامي، فكانت هذه القوى الدينية بطبيعة الحال قوى طائفية، استخدمت الإرث الديني القديم المُفرّغ من دلالاته النهضوية، وتابعت الفئات الوسطى العربية هذا الاستخدام عبر دعم وتكريس المؤسسات الطائفية المختلفة.
وإذ نشأت الفئات الوسطى نفسها في حضانة الأنظمة التقليدية العربية، فإنها واصلت تبعيتها للإقطاع السياسي والديني المهيمنين على الأمة المقطعة منذ ألف سنة.
إن طبيعة رأس المال السائد عربياً خلال هذه الألف سنة، تتوجه نحو التوظيفات التجارية والعقارية والمصرفية، والأخيرة إلى مستوى متدن لأسباب معروفة، وهذه التوظيفات كلها ترتبط بالتبعية للدولة، أي أن الفئات الوسطى تغدو تابعة ومعبرة عن النظام التقليدي نفسه.
إن النظام السياسي/ الطائفي هو الذي يشكل الفئات الوسطى، بشكل كبير، فعلى ضوء سيطرة القبيلة العسكرية، أو الحكام الغزاة، أو الضباط المتسلمين الأدارة من الاستعمار، فإن الفيض المالي المأخوذ من وسائل الإنتاج الزراعية أو من الضرائب، وفيما بعد من الملكية العامة لوسائل الإنتاج الصناعية والنفطية الخ..، الذي يؤخذ بشكل قسري وشمولي، هو الذي يتيح تكوين الفنات الوسطى وحجمها وتطورها.
وتأتى الفئات الوسطى المنبثقة من الإدارة والجيش على رأس الفئات الوسطى، حيث تكون هي الأقرب الى مركز الفيض المالي، أو مركز السرقة العامة، ثم تأتي بعدها الفئات الوسطى الخاصة، والتي لا تستطيع أن تنمو إلا تحت مظلة القوى السابقة الذكر.
وهكذا فإن هذا الأساس الاقتصادي هو الذي ينتج المظلة الإيديولوجية، التي عادة ما تكون مذهباً دينياً تم تفريغه من تطوره التحويلى والمعارض، وغدا مجردَ أشكال عبادية للسيطرة على الجمهور، وبالتالي فإن القوى المسيطرة المتعددة من حكام سياسيين وحكام دينيين، و(حكام) اقتصاديين وهم هذه الفئات الوسطى التي أثرت بفضل صلاتها وتبعيتها بالنظام السياسي / الديني، تقوم بإنتاج أشكال الطائفيات المستمرة على الفضاء
الاجتماعي والسياسي.
يغدو التجار طائفيين بحكم النشأة الاقتصادية الفكرية الاجتماعية المتداخلة، فالمذهب مفروض عليهم من خلال الصلات الاقتصادية المسبقة، وهم يظلون متحجرين في هذه المذهبية إذا لم تطرأ عوامل للثورة الوطنية الديمقراطية، عبر توحد السوق الوطنية ووجود عقبات اقتصادية استعمارية وأجنبية، تحول دون نمو رساميلهم، وهكذا فإن عهود الثورات الوطنية الأولى هي التي شهدت تناميا للوعى الديمقراطي الليبرالي، بقصد تجميع الطاقات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهدم النفوذ الأجنبي.
وهذا التجميع لم يكن ممكناً بدون العلمانية والليبرالية، حيث يمكن تجميع المسلمين والمسيحيين، أو تجميع الطوائف الإسلامية، أو تجميع القوميات، وهكذا تغدو الطائفية معبرة عن السوق المجزأة، سواء عبر الطوائف المنقسمة، أو ثنائية الرجل المسيطر الموظف، والمرأة الجاثمة في البيت، أو بيروقراطية وفساد المدينة وإنتاجية الريف، أو نهضة المدينة وتفسخ الإقطاع الريفي، أو تقدم الثقافة النهضوية والتكنولوجية وأمية الجماهير
إن الطائفية هى المعبرة فكرياً واجتماعياً وسياسياً عن مرحلة الأقطاع السياسي/ الديني، أي إنها تعبير كذلك عن سيادة الفئات الوسطى الإدارية المتحكمة في الفائض المالي، وهذه لا تقوم سيطرتها إلا على تمزق السوق الداخلية، وتخلفها، وغياب حضور الجمهور عن الإدارة السياسية والاقتصادية.
وهذه تقود التوظيفات المالية نحو البذخ ونحو الاستثمارات العقارية والخدمية، أو نحو السوق الخارجية الغربية كأفضل ميدان للربح المضمون، وتأتي الصناعة الخاصة في آخر القائمة، في حين أن القطاع العام بمختلف أشكاله الرأسمالية يكون تابعاً للإقطاع السياسى/ الدينى، فلا يكون لهذا القطاع العام دور مختلف عن أراضي الخراج السلطانية في العصر المملوكي أو العثماني.
تابعت الفئات الوسطى العربية إنتاج الإقطاع للدين، مثلما تابعته في الملكية الاقتصادية.
فهي قد عاشت على الملكية العامة الزراعية المهيمنة عليها من قبل السلطات السياسية الدينية، ولهذا فان إنتاجها لمقولات الحرية والليبرالية والعلمانية ظل محدوداً، وقد جاءت هذه المقولات والمفاهيم عبر الاحتكاك بالغرب بوجهيه الاستعماري والديمقراطي، نفياً للأول واستثماراً فكرياً عربياً إسلامياً للثاني.
أي أن هذه المفاهيم لم تكن نتاج التطور الداخلي لبنية اقتصادية إنتاجية، فالفئات الوسطى أثناء ذلك لم تتحول توظيفاتها إلا بشكل محدود نحو المصانع، وكانت هذه المصانع ذاتها مرتبطة بالمواد الخام الزراعية، مثلما سيكون الحال في المواد الخام النفطية فيما بعد.
أي أن الفئات الوسطى وجدت نفسها تابعة دائماً للإقطاع وفضائه السياسي والفكري، حتى لو تم ذلك عبر الاستعمار، لأن الاستعمار ذاته اتخذ شكلاً إقطاعياً، عبر دعم البنية المتخلفة وأساسها الزراعي التصديري للمواد وعلى دعم البناء السياسي/ الطائفي.
فحتى المواد التنويرية التي تم استيرادها من الغرب الديمقراطى، كانت خاضعة لهذا الفضاء التابع المحدود، فجاءت الموجة التنويرية الليبرالية الأولى، دون أن تقدر على طرح العلمانية بشكل ثوري وواسع وجماهيري، أي دون أن تفهم الإسلام والمسيحية كدينين تم السيطرة عليهما من قبل القوى الإقطاعية على مر التاريخ السابق، ولهذا لم تستطع أن تعيد إنتاج البذور التنويرية الغربية داخل التربة العربية الإسلامية المسيحية.
إن الفئات الوسطى باستمرارها في الطائفية كان هذا تعبيراً عن استمرار استغلالها للجمهور العامل، بأساليب مختلفة، وعبر المحافظة على الأبنية الاجتماعية التقليدية، وعبر تخلف الريف وتدهوره.
وفيما بعد جاءت الانظمة الوطنية العسكرية دون أن تستطيع تجاوز المستوى الذي بلغته الفئات الوسطى الحرة السابقة، خاصة فيما يتعلق بالحرية والحداثة والعلمانية، وهكذا أخذ «اليسار» العربي ينزلق تدريجياً في بنية الإقطاع السياسي/ الديني، ثم أخذ بعضه يحتل مواقعه، ويعيد إنتاج هياكله السابقة، عبر جعل الملكية العامة (الخراجية بتعبير سمير أمين) تخضع للفئات الوسطى الإدارية وخاصة كبار الضباط والموظفين، فتدهورت قيم العقل والحرية والعلمانية والديمقراطية، واعادت البرجوازيات العسكرية استخدام الإسلام الذي تم إنتاجه من قبل القوى الطائفية عبر الألف سنة السابقة، وبهذا سارت نحو الكوارث الطائفية
وحروبها كالجزائر والسودان ومصر والعراق الخ..
وعلينا أن نرى تدهور العقل الوطني التحديثي عند الجماعات «اليسارية» وعودتها الحثيثة للأبنية الطائفية كأجزاء من ارتباطها بهذه الأنظمة التقليدية، وانهيار مفردات العقل والحرية والعلمانية والديمقراطية داخلها. أي لمشاركاتها في سرقة الجمهور العامل والمالك المنتج ، وبالتالي فإن هذا التدهور ليس غيبياً بل يتعلق بالجيوب.
كانت الطائفية هنا تعبيراً عن استمرار سرقة الجمهور بالوسائل الإدارية والقسرية والبيروقراطية القديمة، ولهذا فإن تغيير حياة الفلاحين والعمال والنساء، تغييراً حداثياً كبيراً، لم يحدث، إذا لم يكن قد عاد إلى سابقه.
اقتنع الغرب الديمقراطي والاستعماري على حد سواء، بأن استمرار العالم العربي الإسلامي في بناه الإقطاعية الطائفية، أمر محفوف بالمخاطر، وهذا الاقتناع لم يجيء إلا حين صار الغرب نفسه بكل أقسامه ضحية من ضحايا الإقطاع السياسي والديني للعالم الإسلامي بالمجاز.
ولا شك أن انتقال البرجوازيات العالمية لهذا الاقتناع يعود لجملة أسباب كثيرة ومعقدة، لكن ما يهمنا هنا إن تصدير العلمانية والديمقراطية الغربية بالقوة إلى هذا العالم التقليدي، لم يعد مسألة دعائية بل صار شيئاً قريباً من روح الإسلام نفسه، كما يقول الحديث الشريف بما معناه حين يقوم شخصٌ ما بثقب مكانه في السفينة فيعرض حياة الركاب جميعاً للفرق، فهل يُترك ليقتل الناس جميعاً ؟
الفئاتُ الوسطى في حراكِها التداولي
الفئاتُ الوسطى الراهنةُ كأجنةٍ للطبقاتِ الوسطى العربيةِ القادمة هي في حراكٍ متسارعٍ مضطربٍ متعددِ الايقاعات والتداخلات، لأنها ذاتُ رساميل مالية، وأهلية في بلدانها، وذات صلات وثيقة ببعض الدول العربية الإسلامية والعالمية.
وكما يتشكل الإسلامُ المعاصرُ من نشاطٍ في العديد من الدول العربية والإسلامية عبرَ الدعوةِ والفقه وليس من خلال الفلسفة والعلوم، فكذلك يتشكل حاضرُ الفئاتِ الوسطى من رأس المال المالي.
مستوياتُ الدعوةِ الفقهية تتقاربُ ومستوياتُ الرساميل، ومن هنا غلبةَ البنوكِ على المصانع، وهي كذلك غلبةٌ للتفسيرات الفقهية الجزئية على التفسيراتِ الكلية الفلسفية، وهي حراكٌ آني متذبذب بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، بين النص والعقل، بين التقليدية والمعاصرة.
وكما أن الواقع هو تفككٌ للأسواق العربية هو كذلك تفكك للوعي وعدم قدرته على رؤية كافة العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
التفككُ الرئيسي هو تفككُ الرأسماليةِ في كل بلد، عبر وجهيها العام والخاص، فالرأسمالياتُ الحكومياتُ سعتْ لتشكيلِ رأسماليات كلية من داخلها، ونقض تشكلها من خارجها، لكنها لم تستطع، لأن الرأسمالَ داخلها تآكل، وعجزَ عن الإحاطة بجميع حقول الاقتصاد وبُنى المقاولات والصناعات والبنوك الخاصة والتجارة، كما أنه تقلص بشكلٍ مستمر، وقد حاولت تجاربٌ إزالةِ الرأسمالية الخاصة كلياً في مرحلةٍ فتعثرَ الاقتصادُ، وهُزم في مثل هذا الواقع في حروبٍ وإحتاج ثانية لرأس المال الخاص والأجنبي، وتفجرت تناقضاتٌ إجتماعية داخلية لم يُحسبْ حسابها السياسي في تجارب أخرى، وهي كلها مظاهرٌ للتعبير عن أزمةِ الرأسماليات الحكومية العاجزة عن التحكم في قوانين الرأسمالية المعتمدة على حرية السوق والديمقراطية والعلمانية.
محاولات الرأسمال العام لنقض الرأسماليات الخاصة كنظام متكامل جاءت على أساس إيديولوجي حداثي مستورد؛ قومي، وشيوعي، وبعثي، وطائفي تحديثي شكلي، وأطروحاته هي هدم الماضي والتراث والتخلف، عبر القفز عليه، فلم تستطع.
الآن ثمة عودةٌ للتراث، وللرأسمال الخاص، ولمشكلاتِ البُنى العربية العتيقة مجدداً من مواقع إيديولوجية مختلفة بتطرفٍ حيناً وبإعتدالٍ حيناً آخر، لكنها ترفضُ كذلك قوانينَ الرأسمالية.
الفئات المعارضة الدينية القائدة للتحولات الراهنة هي نابعةٌ من أوساطٍ غير حكومية تتبادل المعرفةَ والفقه والدعايات السياسية فوق الحدود الوطنية، ففي كلِ دولةٍ هناك مشروعاتٌ تاريخية متباينة ومن الممكن أن تغذي تطوراتٍ في بلدان أخرى، مثلما هو رأس المال الديني عابر للحدود والدول والأزمان، ولكون طبيعة هذه الرساميل مالية تجارية.(راجع بهذا الصدد ما كتبه الأستاذ خليل علي حيدر عن خيرت الشاطر مرشح رئاسة الجمهورية في مصر وعلاقته بالبنوك وحركة الأخوان المسلمين معاً، الأيام 13 أبريل 2012)
إن دولةً سلفيةً ونصفَ ليبرالية من الممكن أن تغذي حركةً دينية ليبرالية في بلد آخر، والجسمان يرتبطان بطبيعة الأجسام الدينية المتراوحة بين الإقطاع والرأسمالية.
هذا يحدث أغلبه في بلدان الثورات ما عدا ليبيا التي هي جسمٌ جزيري خليجي في شمال أفريقيا.
ففي بلدان الثورات لعبتْ القطاعاتُ الخاصة بقياداتها الدينية دور تفكيك الرأسماليات الحكومية الشمولية بأفكارها السياسية، عائدة للماضي، مناوئةً للغرب بشكل من الأشكال.
ففيما كانت التجارب القومية واليسارية تهدف للقفز نحو الغرب، أي أن تقفز للمستقبل والحداثة، فإن التجارب الدينية الراهنة تقفز إلى الماضي، إلى الإقطاع، حسب تلونات ودرجات الفئات المؤثرة.
عند الأخوان والسلف تنشدُّ الحركةُ التاريخية نحو الماضي.
عند الليبرالية والأخوان تنشد الحركة للحاضر وللرأسمالية.
غياب الطبقة الوسطى غير الموجودة التي يتشكلُ قلبُها من الصناعات، يجعل الحركة متذبذبة، الطبقة الوسطى المتجذرة في الصناعة وذات العلاقة الوطيدة بالعاملين التحديثيين، تجعل الحركة السياسية التاريخية قوية، أكثر رسوخاً، لا تندفع للماضي بحدة، ولا تقفز نحو المستقبل برعونة.
لكن علاقات أنظمة الثورات والتحولات بالعالم المحافظ كبيرة سواء من داخلها أو خارجها، من داخلها بوجود بُنى إجتماعية وإقتصادية ما قبل رأسمالية، ومن خارجها عبر العلاقات مع دول الجزيرة العربية حيث لا تزال جذور المحافظة قوية، ومن هنا فإن شركات الأموال والبنوك والعقارات والمصانع الصغيرة المتداخلة عاشت بين مستهلكين ومنتجين ومدخرين يعيشون تقاليد ما قبل الحداثة، وتداخلت هذه مع العلاقات الاقتصادية الحديثة. حداثيون شكلاً يعيشون في الماضي وماضيون يعيشون في الحداثة.
إن كبريات التجارب التحولية تتباين بين مصر والعراق على سبيل المثال، ففيما تتأثر مصر بالسعودية يتأثر العراقُ بإيران، أي أن رأسماليات الدول المذهبية لا تزال تلعب دوراً مهماً في التأثير على دول التحول(الثوري)أي الدول المتجهة لسيادة المُلكية الخاصة في الإنتاج، ويتجسد هذا في المذهبية السياسية التي هي شكلٌ إيديولوجي للحيرة السياسية، وعدم الحسم التاريخي في إختيار طريق الحداثة، والتردد بين الماضي والحاضر، بين الإقطاع والرأسمالية، بين الشمولية والديمقراطية العلمانية، والتي هي ذات سببٍ موضوعي هي فقدانُ الطبقات الوسطى وحين تتشكل يتبدلُ البناءُ الفوقي.
من الفئاتِ الوسطى إلى الطبقةِ الوسطى
إن التطورَ العربي لا ينسخُ التجربةَ الغربية في الحراك الاجتماعي السياسي، مثل حال الأمة العربية المتكونة من أقطارٍ متعددةٍ ذات بُنى ومسارات مختلفة، وفي خضمٍّ تحولي مشترك متداخل، متقطع.
ولهذا فإن بعضَ الدول العربية تصلُ تجربتُها لمستوى أكبر من الأخريات، دون أن تكتملَ شروط التحول الديمقراطية، المعتمدةِ على ظهورِ طبقات وسطى صناعية ذات تجذر جماهيري.
الفئاتُ الوسطى في هذه الدول متعددةُ الأصولِ الاقتصادية الاجتماعية، من فئاتٍ مالية، وتجارية، وعقارية، ولا تخضعُ الفوائضُ لقانونٍ واحد، ولا تتوجه معظمها للصناعة الوطنية، بل للخارج، ولإعادةِ توسعةِ المؤسسات العقارية والخدماتية، والمالية وغيرها.
هذا يشكلُ تفككاً في بنية الفئات الوسطى، وضعفاً في البناء الاقتصادي الاجتماعي، فلا توجد الفئةُ القائدة القادرة على إعادة بناء المجتمع المتخلف، من حيث تجاوز مستوى صناعة المواد الخام، ومن حيث جذب أغلبيةِ السكان للتصنيع، وتغييرِ الزراعة الراكدة وأدوات إنتاجها وظروفها الاجتماعية المتخلفة.
لقيام الفئة الوسطى الصناعية بالقيادة الاقتصادية ثم السياسية شروطٌ موضوعيةٌ وذاتيةٌ عديدة، من أهمها بدايات توفر المجتمع الديمقراطي، من حيث الاقتراب من تبادلية السلطة، وقدرة الجماهير على التصويت للقوى القادرة على تغيير الانتاج لمصالحها ومصالح تطور المجتمع، وظهور ثقافة تحديثية سياسية وإجتماعية تجعلُ المصانعَ مراكزَ التحول والتجمع والصهر للسكان من تخلف التعليم واللامساواة بين جنسي الرجال والإناث وتطوير الأطفال في تعلم مهني حديث.
تلعب المصانعُ هنا دورَ الثورة الصناعية الاجتماعية الغربية في ظروف مختلفة.
مقاربة بعض البلدان العربية للتحول التحديثي النوعي يعتمد
على قيادات الفئات الوسطى والعمال في فهم ضرورات التحول المشتركة، ومقاربتها للتحالف التحديثي، وجعل رأسَ المال الصناعي رأسَ المال الوطني الرئيسي، الذي يقوم بإعادةِ إنتاجٍ إقتصادية سياسية ثقافية كبرى، وينقل قوى الانتاج لمستوى جديد.
ليس لكون الرأسمال الصناعي هو مطور المواد الخام الموجودة في البلد، أو المجلوبة من الخارج فقط بل لكونه كذلك قادر على بسط العيش الجيد للجمهور وتطوره في بلدها، فلا يتآكل مثل هذا الرأسمال في الخارج، أو يضيع في الاستهلاك الترفي.
الثقافةُ الاقتصادية الحديثة تتطلبُ تطورَ الثقافة السياسية وفهم مختلف شرائح الفئات الوسطى والعمال الضرورات التاريخية في صهرِ فئات السكان المختلفة في ملحمةِ التنمية العربية الكبرى وتغييب الشرائح الهامشية وحثالات البروليتاريا المتسولة للعيش، وتغلغل أشكال الثقافة الحديثة بين الأميين والمُغيّبين.
ولصعوبة توافر رأس المال المتجه للمخاطر فالمشاركة في السلطة وسن قوانين جديدة للتطور الاقتصادي تجمع بين تنمية الصناعة وبقاء الحريات الاقتصادية المتنوعة، وتغيير طابع التعليم(الأدبي) النظري لتعليم مهني علمي متقدم، تغدو التحالفاتُ السياسية البرجوازية العمالية، بين الفئات الوسطى والشرائح العمالية، هامةً وجوهريةً في العملية الديمقراطية، وللحصول على الأصوات وتنفيذ برامج التحول الصعب الذي لن تأتي ثماره بسرعة.
ولهذا فإنه على المستوى القومي يمكن لهذه الأقطار المتقدمة في هذه العملية والأقطار التي لم تنضج فيها هذه الشروطُ التحولية بعد أن تجلب منها الرساميل والمساعدات لتلافي النقص الداخلي.
كما أن هذه العملية تتم في البناء المشترك للأمة العربية بمستوياتِ دولِها المتعددة في التطور الاجتماعي السياسي، حيث تقدم تلك الأقطار المتقدمة النموذج التحولي المطلوب، وتستفيد الأخريات من تجربتها وتتقدم العمليات السياسية الاقتصادية الفكرية المنوعة في تلاقح منوع مشترك.
ومما يعرقل من هذا التطور صراع الفئات المختلفة على قطف الثمار والتسلط، وهي الظروف الذاتية التي تؤدي لهدر جانب من الثروة المادية والزمن، كما أن الصراع بين البرجوازية الصناعية الصاعدة تاريخياً يصطدم بأوضاع العمال الصعبة وكل منها له شروطه المختلفة في العيش والعمل، ويمكن أن يؤدي الصراع الذاتي هنا لتصدع جبهة الحداثة السياسية، وإستغلال القوى المحافظة ذلك، كما أن هيمنة القطاع العام وتقزيم القطاع الخاص وبروز المؤسسات البيروقراطية والعسكرية والدينية يمكن أن تؤدي للعرقلة أيضاً.
بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة
تترابط طبقتا الانتاج الحديث البرجوازية والعمال في بناءٍ إقتصادي إجتماعي متداخل، ورغم أن الطبقة المالكة لوسائل الانتاج تعمل على تخفيض الأجور بشكل دائم، والأخرى على رفعها، إلا أن الصراع والتعاون يتطلب النمو المشترك في ظروف كل من الطبقتين ودون ذلك يعني بقاء أساليب ما قبل الرأسمالية متغلغلة مؤثرة معيدةً التاريخ للوراء.
لقد بينت التجارب الغربية الترابط الوثيق بين المكونين رغم التباين الكبير في مستويات المعيشة، وبقاء فرص المغامرات الاقتصادية لدى المالكين. لكنهم لا يستطيعون السيطرة الكلية على البناء الاقتصادي.
فعلى مسار تطورهما الذي يتحدد بمدى تقدم وسائل الانتاج والعلوم ومستوى الحياة الاجتماعية تتقدم عملياتُ تغيير التخلف وازدهار نمو الطبقات المختلفة.
ولم يستطع العالم العربي خلال القرن الماضي أن يتقدم في هذا الأسلوب عميقاً، لدور الفئات الصغيرة والعليا الارستقراطية كذلك في عرقلة تنامي هذا التطور وإتخاذها الدور الوسيط المتذبذب، وفتحها المجالات للأشكال ما قبل الرأسمالية وغير المنتجة في التنامي وعدم قراءاتها للواقع الموضوعي.
لهذا نلاحظ الطبيعة الاجتماعية الاقتصادية الضعيفة للطبقتين المنتجتين، فقد إنتشرت فئات العمال متدنية الأجور، وسادت مصانع العمالة غير الكثيفة في القطاعات الخاصة، ومصانع المواد الخام المُهيمَّن عليها حكومياً والمؤدية للرأسمالية الحكومية وهيمنة البيروقراطية وهروب الفوائض للخارج.
فقامت هذه القوى بإستقدام العمال الريفيين من الداخل والخارج، للحفاظ على أجور متدنية، وينعكس ذلك أيضاً في معيشة العمال حيث المساكن الصغيرة أو الجماعية الرثة، وإستمرار العائلة الممتدة، وعمل النساء المنزلي الواسع، وتصاعد ظاهرات الهجرة، وتوجه الفوائض الاقتصادية نحو الأشكال الرأسمالية غير الانتاجية للحصول على الأرباح السريعة، وهذه الأشكال لا تحتاج لعمال متطورين، وكذلك أستمرت هيمنة العمل اليدوي معبرة تخلف قوى الانتاج، مما يؤدي إلى إستمرار البنية الاقتصادية الاجتماعية المتدنية.
كما أن سيادة هذه الأشكال من الرأسمالية غير المنتجة يزعزعُ الأشكالَ المنتجة، فتتدهور المُلكية الزراعية الانتاجية، عبر تحويل الأراضي الزراعية للبناء، وتنهار الحِرف، وتتدهور أسعارُ المواد الزراعية عامة، مما يدهور حياة الأرياف ويُحدث هجرات إلى المدن، وخلق عروض واسعة من القوى العاملة الرخيصة، الأمر الذي يؤدي لمزيد من تدهور أسلوب إنتاج المواد الخام الراهن.
سيادةُ العمال الزراعيين والمهاجرين والعاطلين والاعتماد على المواد الخام المركزية، يضعفُ الرساميلَ الاقتصادية الصناعية والمنتجة، ويخلق فوضى إجتماعية فكرية سياسية في المجتمعات تتصاعدُ على مر السنين، بأشكالٍ غير ملاحظة بدقة عبر بقاء مستويات الأجور المحدودة والعيش الضيق وضعف التعليم والأمية وتدهور الثقافة العقلانية.
الجمهورُ العامل المتخلف المنهمر على المدن ينقل مستويات وعيه وعاداته مما يؤدي للارتداد التاريخي للوراء، وهو أمرٌ يتداخل مع تدهور الوعي الديني وتصاعد الخطابات النصوصية غير العقلانية والطائفية، عبر المؤسسات العبادية المتاحة والمتداخلة مع الكثافة البشرية المأزومة.
فيما تُحاصرُ البرجوازية الخاصة الصناعية، ويغدو الرأسمال الصناعي في المستويات الدنيا من أشكالِ رأس المال، حيث تتغلب الأشكال المالية والعقارية والتجارية، وهي أشكالٌ لا تتجذر في الأرض، وليس فيها نسبة المخاطرة والتعامل مع مواد الجغرافيا المحلية وكنوز الأرض والبحر وتصعيد الاكتشاف لها وتنمية عناصرها والارتباط الوثيق القوي بالعلوم الوطنية.
كذلك فإن الشكلَ الصناعي الخاص من رأس المال يغدو مُحاصَراً من القوى الرأسمالية العالمية الكبرى التي تدفقُ منتجاتِها المختلفة، المتطورة، وتقيمُ التحالفات مع الأشكال الأخرى من رأس المال، وتستوعب فوائضها لبلدانها.
لهذا تغدو الرأسماليات الحكومية المنتجة للمواد الخام هي الشكلُ التابعُ للرأسماليات العالمية غير المُنافس، وغير المؤدي لتحولات صناعية كبرى تقوم بإستيعاب العمال الكثيرين الضائعين في الأسواق، مما يعمق الأزمات الاقتصادية الاجتماعية مع تدفق المواليد الذين يتكاثرون خاصة في الأرياف والبوادي، وهي أمور تتواكب مع تدهور الوعي الجماهيري.
مع الغياب الواسع للبرجوازية الصناعية والعمال الصناعيين، وتدهور أشكال الوعي الاجتماعي، يتوسع حضور القوى السياسية غير المعتمدة على العلوم وقراءات الواقع ورؤية التطور الموضوعي المأزوم وتصويبه، فتظهر المشروعاتُ السياسية التجريبية ومشروعاتُ التبعية، ومشروعات الرأسماليات الحكومية البيروقراطية المتدهورة المؤدية لتفاقم الأزمات العامة.
البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية
يقوم أفرادٌ متميزون من الفئات البرجوازية الصغيرة بتبني طموحات الطبقات المنتجة، كما فعل التنويرون كروسو وفولتير بتبنى آفاق تطور البرجوازية، لكن التشكيلةَ الرأسمالية كانت قد صعدتْ في بعضِ الأقطار الغربية الرئيسية، وإنكشفتْ العديدُ من مشكلاتها، ولهذا فإن أفراداً متميزين آخرين تجاوزوها وعبروا عن الطبقات العاملة، لكن هذه الطبقات كانت بلا تراكم فكري مثل البرجوازية، ولهذا فإن هؤلاء الأفرادَ من البرجوازية الصغيرة يطرحون مناهجهم السابقة عبر المادية ويراكمون ثقافةً لهذه الطبقات البسيطة الوعي والتي لا تملكُ الفرصَ لانتاج ثقافة، وهي تترابطُ مع نتاجات هؤلاء عبر الطلائع فيها، أي من يمتلكون الوعي والحماس والوقت خارج العمل الشاق لربطِ نتاجات المتنورين المتحولين لثوريين إلى صفوف العمال، حينئذ يبدأ الأفرادُ المتنورون بالانفصال عن تراثِ فئاتهم ويغربلون ما كتبوه سابقاً وينقدوه.
لهذا سنجدُ كتابات ماركس الهيغلية تتخلى عن طابعها التجريدي المثالي، لتغدو ماديةً آلية في البدايات، ثم تنصهرُ أكثر في الجدل، ورومانسيةُ الثورةِ العمالية المطيحة بالاستغلال دفعةً واحدةً تتشكلُ واقعياً عبر نضال إشتراكي ديمقراطي طويل الأمد والبناءُ الديمقراطي والدراساتُ الموضوعية تعطي النظريةَ حياة برهانيةً ومعرفةً بقوانين البنيةِ الأولية في البلد الواحد، وهو الأمرُ الذي أستغرق عقوداً، دون أن تكتملَ حتى قراءة البلد الواحد لمصيرِ التشكيلة في سياق العالم، لكون القراءة تاريخية متقطعة، خاصةً مع رحيل الأفراد المؤسسين ذوي الخبرة الطويلة، الذين يسلمون أوليةَ النظرية لبرجوازيين صغار جدد كلاسال وقيادة عمالية أكثر وعياً وصلابة.
الانتقالُ من نشاطِ البرجوازية الصغيرة إلى أجيالٍ من الطبقة العاملة بسبب مستوى القواعد الاقتصادية والسياسية والثقافية لبلد متطور ديمقراطياً بصعوبات كبيرة مثل ألمانيا يختلفُ في سياقهِ التاريخي عن روسيا المتجمد في الدكتاتوريات، فهنا في روسيا إحتاج إنتقال النظرية من البرجوازية الصغيرة للعمال أ للكثير من العقود ولا زال مضطرباً!
إن الأفراد المناضلين المغيرين للنظام القيصري عاشوا في ظروف الشمولية ولم تحصل النظرية على الظروف الديمقراطية ونضال العمال المستقل، ولهذا فإن الرومانسية بسحق الطبقات كلفتْ كثيراً، فيما كانت الطبقات الاستغلالية تظهرُ من خلال الدعوات(الماركسية).
إن الأفكار الثورية المرتبطة بالانعطافات التاريخية معروفة على مر التاريخ، ولكن ما هو مميز في الماركسية أنها غدت إنعطافةً كبرى مختلفة في التاريخ البشري، فقد كشفتْ أساليبَ الانتاج ولم يعد التاريخ مبهماً، ولكن مع هذا فإن الطبقات الاستغلالية تعقبُ المراحلَ الثورية، وتصبح النظريةُ في وجودها الحر عند أفراد متطورين فكرياً وسياسياً صعبة، فالنظريةُ تمتلكها الطبقاتُ الاستغلاليةُ وتمنعُ حراكَها الحر الحافر في الواقع، وإنتاج معرفة موضوعية، فهي تغدو إيديولوجيةً مشوهة، والارتباطُ بين النظرية وإستقلال العمال ينتفي، حيث تتم السيطرة على العمال وتوجيههم لمصالح البيروقراطية، وهم في عملم الشاق يغدون غير قادرين على تحرير الماركسية من البيروقراطية، ووجود المثقفين الأحرار المميزين ينتفي، ولهذا كان إعدامُ المثقفين البارزين في المكتب السياسي البلشفي، لقطعِ العلاقة بين النظرية والعمال، وبين النظرية وتحليل الواقع. فيما إستطاع الغرب المعادي أن يطور الماركسية عبر مفكرين أحرار مستقلين قدموا الثروة الفكرية المتطورة لهذه المدرسة، ولكن يظل إنتاجهم غير معروف ومحاصر.
في العالم الثالث تغدو العلاقات أصعب، وضخامة حجم البرجوازية الصغيرة أكبر، وهنا لا تتعرقل النظرية من فقدان الطبقات العاملة المترابطة فحسب بل ومن هيمنة الطوائف كذلك، ويمكن هنا أن ينقسم (الماركسيون) حسب الطوائف، وتصبح هنا نقابية شيعية ونقابية سنية ونقابية مسيحية، فالعمال أنفسهم يعيشون حسب وعيهم في زمنية الاقطاع، وتُطرح مهمات أكبر من مستوى وعيهم وظروفهم.
ولهذا فإن الأحزابَ الماركسية تصبح طوائف موالية لهذا المحور الطائفي القومي أو لذاك المحور الطائفي القومي، مع إستمرار ضخ المادة الماركسية الصلبة من التاريخ السوفيتي!
إذا كانت الماركسية وجدت صعوبات هائلة في وجودها في الغرب الديمقراطي، وغدت أحزاباً أما تابعة للرأسماليات الشرقية الشمولية وأما إنتهازيةً مؤيدة لرأسمالياتها الخاصة، وصعب عليها إنتاج معرفة موضوعية، وخلق سياسات شعبية تحولية، فكيف الأمر في التشكيلات السياسية الهشة في الشرق؟ وكيف كانت الأمور في هذا الشرق بأن تلتحق الجماعات السياسية المعارضة بدول شمولية كثيرة الكرم على الانتهازيين وبخيلة على شعوبها، وسرعان ما تمسح الطلاء الماركسي الوطني الزائف وتستبدله بالولاء الجديد ولا يحس العمال بالفروق وهم جماعات ريفية في أغلبهم لم يلتحقوا بنقابات إلا مؤخراً ولم يعرفوا الحياة السياسية الحديثة.
غدت الاصلاحات الوطنية وترابط الشعوب والطبقات وتطور الديمقراطية خارج البنى التقليدية مهمة لإعادة التطور الفكري المستقل ولتتطور المدارس الفكرية خارج هيمنات الدول.
الديمقراطيةُ البرجوازيةُ العماليةُ
إذا كان المصنعُ هو أساس الحياة الاقتصادية للمجتمع، فإن المستثمرين والعمال هم أساس تطوره الاجتماعي السياسي على مدى العصر الحديث حتى ينطفئ هذا الأسلوب تدريجياً.
هذه الضرورة لا تتكشف من أول وهلة بل عبر مجرى الزمن الاجتماعي الصراعي الطويل.
في البدايات لا يكون للعمال وجود إجتماعي سياسي، فهم كم مهمل، لكن الضرورات الاقتصادية وتطور الصناعة وإنتشار التعليم والوعي النقابي والسياسي، يجعل لهذه المجموعات المفتتة كيان طبقة بعد عقود طويلة.
أما الوجود السياسي وكونها طبقة مؤثرة ليس في المصانع فحسب بل في البرلمان والمؤسسات السياسية فهي مسائل تتعلق بمدى تطور الديمقراطية الاجتماعية السياسية في المجتمع: تغير طبيعة العائلة الكبيرة، وإنتشار الثقافة الموسوعية وسط العمال، وظهور العائلة العمالية المكثفة المتطورة، وتحول العمال اليدويين المستمر لعمال تقنيين وخبراء وعلماء، وهذا يتعلق بمجرى تطور الثورة العلمية التقنية.
زمنيةُ العمالِ اليدويين الأكثر تخلفاً تحددُ زمنيةَ البرلمانات التي تملأها البرجوازية وفئاتها المتعددة، في هذا الزمن لا يستطيع العمالُ فهمَ السياسة وتنتشر الأمية بينهم، هذه الزمنية تؤجج الأحقاد وإستعمال العنف من قبل فئات من العمال، وفي هذا الزمن النقابات ضعيفة والأحزاب الاشتراكية ذات نهج شمولي.
تتطور البرجوازية والعمال في مجرى الصراع التعاوني، فالأولى تقودُ تطور وسائل الانتاج، وتربط المصانع بمعاهد البحوث، وتطور العلوم المرتبطة بالانتاج، وهو أمر يقود لتوسع فهم العالم، وتنشأ فئاتُ العلماء المنفصلة عن الانتاج في بادئ الأمر، ثم تتغلغل العلومُ في المصانع وفي فئات العمال، فتتضاءل الشمولية وسط الطبقات العمالية وتغدو منتجة في الوعي السياسي الديمقراطي.
تعتمد تطورية البلدان على تطور المصانع وعلاقاتها بالعلوم والتقنية، ووجود الأسواق والمواد الخام، وتضيق الأسواق بشكل دائم فتتوسع البلدانُ الرأسمالية المندمجة مع بعضها البعض، مثلما يصبح العمال قوة إجتماعية قارية. ولهذا فإن أوربا الغربية تغدو أكثر ديمقراطية فيما يلعب الحجم الاقتصادي الضخم في الولايات المتحدة دوره في التوسع والاستعمار وخسارة الفوائض الاقتصادية على التسلح والحروب، ويبقى العمال فيها قوة غير مؤثرة على التطور الاقتصادي السياسي. ولهذا فإن أزماتها الأكبر في الطريق. الاعترافُ المتأخرُ بالعمال كقوة سياسية يخلف قوى الانتاج ويؤزم التطور سواءً في الغرب أو الشرق.
في بعض البلدان النامية ترتفعُ راياتُ العمال الحمراء والمتعددة الألوان كقوةٍ سياسية مجردة فالمستوى الاجتماعي المتخلف لهم والهيمنة السياسية الإيديولوجية الزائفة عليهم يجعلان الفئات الوسطى الصغيرة أو الارستقراطية أو الإقطاع تزيح الطبقتين المنتجتين وتتحكم في الفوائض، ويختنق التطور الاجتماعي السياسي الديمقراطي لعقود حتى يظهر مجدداً ويغدو العمالُ أكثر الخاسرين وتتشوه البناءات الاقتصادية: ضخامةٌ في الرساميل غيرِ المنتجة وتقزمٌ في المنتجة منها؛ سواءً كان ذلك بسبب البذخ أو التسلح أو التوجهات للأرباح السريعة، لكن السبب الأهم هو غياب الجدلية الصراعية التعاونية بين المستثمرين والعمال، وعدم تحول الديمقراطية لترشيد إقتصاد السوق نحو تطوير قوى الانتاج البشرية والمادية.
في البلدان النامية ضخامة أعداد العمال الهامشيين والعاطلين وغير المؤثرين في الحياة الاجتماعية، تعبيرٌ عن ضعف الانتاج، وإنهيار الانتاج القديم وعدم التمركز في المصانع وضعف صلاتها بالعلوم والتقنية، ولا توجد برجوازية صناعية هنا، بل فئات وسطى صغيرة تفتقدُ القدرة على تكوين الرساميل الصناعية ولهذا تكون ذات وعي ديني، حيث لم يندغم الوعي هنا بالعلوم وقراءة الطبيعة وتطوير العمال والمصانع.
الضرورات تكسرُ الأشكالَ الحِرفية الصغيرة، مثلما تتضخم رؤوس الأموال، ويتمركز العمال، وتتصل المصانع بالتقنيات والمعارف الحديثة، فيكرر الشرقُ مسارَ الغرب بصور أسرع، وتصبح القاراتُ السكانيةُ قادرةً على تجاوزه حين تطور صراع المستثمرين والعمال التعاوني الديمقراطي، فيصبح القرن الواحد والعشرين بدايات العصر البرجوازي العمالي العالمي المشترك المديد في القرون القادمة.
البرجوازية الصغيرة والعمال
تحالفُ البرجوازيةِ الصغيرة والعمالِ يشكلُ الثورات، لكن البرجوازيةَ الصغيرة تريدُ إستغلالَ العمال ونمو ثرواتها فتتخلى عن التغييرِ والنمو المشترك بين الحلفاء وتضعُ حداً لتاريخ الثورة.
في تاريخ الأديان تنظم للحكام وتتخلى عن الحفر النقدي، وفي تاريخ الثورات البرجوازية الغربية تنظمُ للرأسماليةِ الكبيرة ولا تطور فلسفات النهضة والنقد والعلوم، في البدان (الإشتراكية) الشرقية تُلغي قيادةَ العمال وتحيلُ الأنظمةَ لرأسماليةٍ شمولية وهي تصير برجوازية متعددة المتسويات، في بلدانِ التحررِ الوطني تنظم للانقلابات وللأحزاب الدينية الشمولية وتكرس الرأسماليات الحكومية المحافظة.
هي قادرةٌ عادةً على خداع العمال والفقراء مثلما هي قادرة على قياداتهم في ثورات تاريخية نادرة.
إذا كانت الأمورُ تجري في أنظمةٍ وتنظيماتٍ ديمقراطية فإن العمالَ يستطيعون الانفصالَ عن قياداتِ البرجوازية الصغيرة، ويتركونها تنمو لوحدها.
لكن في ضبابِ الأنظمةِ والتنظيمات الوطنية والثورية والدينية فإن مستوى العمال الفكري لا يسمحُ لهم بإكتشافِ ثوريةِ البرجوازية الزائفةِ أو الصادقة، فهم مع شعاراتِها النبيلة إلى حين، خاصةً أنها تشددُ على إنسانية العبيد وإنه لا فرق بين عربي أو أعجمي، أو على دكتاتورية العمال والنضال الذي يقود ليكونوا الطبقة الوحيدة في المجتمع ولهم السيطرة والثروة، وهي تشيعُ في الدين أجواءً من الغيبيات والأساطير والقراءات الحرفية المحدودة المستويات، وفي القوميات التعصب.
مثلما قالتْ البرجوازيةُ الفرنسية في ثورة يوليو في القرن الثامن عشر، نحن نعملُ من أجلِ الإخاء والمساواة والرخاء. لكنها ركزت على صعود طبقة واحدة هي المالكة للثروة.
ومثلما تعب المسلمون من الجهاد بعد عصري النبوة والصحابة ومن التضحيات التي بذلوها، وأراد بعضُهم أن يجنيَّ الثمارَ، وأن يواصلَ صعودَ تجارته، فصعدَ خلفاءٌ دون خلفاء، وتفتتْ التحالفُ بين البرجوازية الصغيرة وبين الفقراء والعبيد وجاء الحكمُ العضوضُ في العهد الإسلامي الأول.
هي سببياتٌ وظاهراتٌ في التاريخ موضوعيةٌ تتم لظروفٍ، مختلفة متناقضة، متمثلة في الجوهر العابر للعصور وهو حاجة العمال والفقراء لقوى المثقفين التي تتقلبُ بين ثورةٍ وثورة مضادة، بين تضحيةٍ وإنتهازية.
عظمةُ الثوراتِ تتجلى حين يتحدُ المثقفون والسياسيون المضحون والعمال، هذا يشكلُ عصوراً كفاحيةً لشتى الأمم، وفي مختلفِ المراحلِ، وعلى مرِ الأزمنة، صحيح أن أشكالَ المثقفين والتجار الصغار والعمالة تختلف حسب تطورات العصور وأساليب الإنتاج، وحسب أشكالِ ومحتوياتِ الثقافةِ وهي تعودُ لمستوى تطور الوعي الموضوعي التاريخي، إلا أن الكفاحَ لتطويرِ الأممِ والشعوب وخدمة النضال هو نفسهُ من حيث إحداثِ تحولٍ وقفزة في التطور، تجعل تواريخ الأمم والشعوب مختلفة بعد تلك التحالفات التاريخية التضحوية الكبرى.
في أزمنةِ ما بعد الثورات يقول الموظف دعوني أعيش من أجل تجارتي وعائلتي، ويقول الشاعر إنتهى زمان التضحيات، والكتابة عن البؤساء، ودعونا نرتقي بلغتنا ونحصلُ على معيشةٍ أفضل، وتتغير مصطلحاتُ الشعرِ والنثر، ويعيشُ الحجازُ فيما بعد الثورةِ الإسلامية مُرسِخاً شعرَ الغناء الجميل والحبَ العذري المستحيل ويَطردُ الصعاليكَ، ويَحدث التفككُ في العقلانية النضالية النسبية الشعارية في العصر الحديث، فالنقدُ يكفُ عن التحليلات العميقة للأدب والفن كنوعين يتنفسان في بُنى إجتماعية متناقضة تعلي الأغنياء وتفقرُ الفقراءَ، وبضرورة إعتبار كل جنس إبداعي خلية حية أو ميتة تبعاً لدورها في التغيير أو في التبرير، ويُقال الثقافة أكبر من الصراعات الاجتماعية والروحية، ودعونا نعيشُ ونكسب!
البرجوازية الصغيرة الشرقية العالمية
قامت البرجوازيات الصغيرة الشرقية بقيادة شتى التحولات في الشرق ثم إنساحت في الغرب في قارة أمريكا الجنوبية خاصة.
كانت الطبقتان الكبريان البرجوازية الخاصة والعمال غير موجودتين بقوة وإتساع في المجالات الفكرية والسياسية خاصة، فالأسلوب الرأسمالي لم يتغلغل صناعياً في شتى الحقول إلا بشكل يسير.
وكان الحراك الفكري السياسي هو لهؤلاء المثقفين الطالعين من مختلف الطبقات خاصة من الفئات المالكة الصغيرة، التي لديها قدرة على العيش مع مختلف الطبقات، وعلى الحراك بينها.
تلعب عناصر الثقافة، والإمكانيات الاجتماعية المتاحة من تعليم وأسر صغيرة، ومن غياب للأملاك الكبيرة، ومن غياب البؤس الساحق، أن تقوم هذه الفئات البرجوازية الصغيرة بالنيابة عن القوى الاجتماعية الرئيسية في التوجه للقيادات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأن تطرحَ نفسها كبدائل عن الطبقات الكبرى الصانعة للتشكيلات الاجتماعية.
من لينين وماو وبومدين وعبدالناصر إلى حسن البنا وعفلق والخميني وغيرهم كثير طرح البرجوازيون الصغار أنفسهم كمنظرين وصانعين لأنظمةٍ كلية متجاوزة للرأسمالية الغربية، وشكلوا أنظمةً وتنظيمات شمولية بهذه الدرجة أو تلك من الثورات الاقتصادية.
تصل هذه البرجوازيات أحياناً للسلطة وأحياناً لا تصل، وتشكل إيديولوجيات متناقضة، تحوي التناقض بين رأس المال وقوى العمل، وهي أي هذه الفئات تقول إنها قادرة على حل هذا التناقض، وتجاوزه والإنطلاق بالبشرية خطوات مغايرة للرأسمالية الغربية.
تتعدد مستويات الطرح فبعضها يتوجه لحل كافة التناقضات وإلغائها المفترض، بعضها يتطور، وبعضها ينهار.
البرجوازي الصغير هو مالكٌ وعاملٌ في نفس الوقت، في بنيته الأساسية خاصة عند صغار الفلاحين والحرفيين، وهذا يماثل في سمات معينة مع الموظف الصغير، والمثقف منتج ومالك المعرفة وبائعها.
وهو لهذا يقف وسطياً، ثم يصنعُ الأنظمة الخاصة الشرقية بقيادته، كما يصنع(الفلسفات) الهجينة كذلك، ويريد أن يلغي الرأسمالي والعامل في نفس الوقت، ويصيرُ هو المالك والقائد، فيتحول في مجرى التاريخ إلى مالكِ الرأسماليةِ الحكومية، ويصعدُ من الوظائف الدنيا والرتب العسكرية الصغيرة والمتوسطة إلى رئاسةِ الشركات والبنوك الحكومية ومؤسسات الثقافة والإعلام.
وعلى الإيديولوجية التي صنعها في ضباب الشرق الاجتماعي ومن أية مواد: دينية وقومية وإشتراكية يعتمدُ مسار التحول، وإلى أي مدى تمضي الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يقوم بها. وكلما تعمقت التغييرات التي يقوم بها يكون ثمنها باهظاً ودموياً. لكونها جاءت من كرسي البرجوازي الصغير وهو على قمة السلطة، وداخل الدبابة. فتقوم بإختراقات كثيرة للحم البشري وللحم الاجتماعي، وتحتاج بعد ذلك لعمليات جراحية وتطبيبية كبيرة.
إن التناقضَ بين رأس المال وقوى العمل لا يزول، بل يتعمق ويتسع، ويصير داخل أجهزة الدول، وفي ثنايا الأفكار، وفي أدمغة الثقافة العصابية، ويصير أمراضاً باطنية، وهلوسات دينية، وإنفجارات قومية أو عمالية.
يتحول البرجوازي الصغير إلى رأسمالي حكومي كبير، وتحدث هنا إختزالات للنظريات والعلوم وتجميع فوقي للثروات، وإفقار مستمر للقواعد العمالية، مثلما يحدث إفقار للثروة الثقافية.
إن الدولة تصير رأس المال، وقوى العمل تتغرب عنه، والسلع تضعف وتفقد قدرتها على التطور، والمنافسة، وفي حالات أخرى من الممكن جلب عمالات أجنبية رخيصة تقوم بسد النقص في ضعف العمالة المحلية أو قصورها أو لرفضها لأجور متدنية.
في أحاديث البرجوازي الصغير الأولى عن تجاوز التاريخ، يستندُ إلى الإيديولوجية السحرية المعمولة في المصانع الحزبية الشمولية، إنها إيديولوجيات لا تتعرض لديمقراطية فاحصة مضيئة طويلة، ويتم إستقطاب الجمهور الفقير مادياً وثقافياً إليها، لتحويلها إلى أدوات للبرجوازي الصغير، ليغدو برجوازياً كبيراً، مع إستمراره في قمع الفقراء والعمال!
قياداتٌ برجوازية مخنوقة
أدت التحولاتُ الدراماتيكية في آسيا إلى إضعافِ مواقع القطاعات العامة المسيطرة خلال عقود، والتي نشأت معها الأنظمةُ الشموليةُ الحديثة، وأتاحتْ تلك التحولات صعود شخصيات لا ترتكز على الأفكار الشمولية بكل تجلياتها الدينية والعقائدية الجامدة، لكن في روافد صغيرة مخنوقة بسبب الميراث الديني الشمولي الطويل والميراث السياسي الاستبدادي(العريق)!
شخصيات مثل موسوي وكروبي وعلاوي وقيادات بعض الأحزاب المصرية والسودانية وغيرها، عبرت عن ظاهرات جديدة في المنطقة، أهمها إنها تسبحُ في ضباب فكري، وكأنها مجموعةٌ من الأشباحِ تتردد بين القديم والجديد، غير قادرة على الظهور بمظاهر سياسية وفكرية واضحة مبهرة!
وفي البلدان المُفتَّتة طائفيةً وقومياً والتي لا تمتلك أغلبية شعبية لمذهبٍ أو قومية، لا تُستثمر العناصرُ الديمقراطيةُ والليبرالية في إنتاجِ سياسةٍ نهضوية ديمقراطية، فتجد الزعماء الطائفيين يتقلبون من وجهةِ نظرٍ إلى وجهةِ نظرٍ مضادة، ويهرولون من معسكر إلى آخر، ليس لديهم من حراك سوى (حماية) الطوائف أو قلْ حماية مصالحهم داخل الطوائف الجامدة العائشة في تقاليدٍ غيرِ ديمقراطية وفي عوالمِ الجهل والتخلف الاجتماعي وإضطهاد النساء والركض وراء المصالح والغني مهما كانت الأسباب يبيعون الدينَ والمبادئ، ويقومون بإستغلالِ ألعاب الطوائف لبقاء كراسيهم وأحزابهم الديكورية وهذه الكهوف المعتمة من القرون الوسطى ويضحكون على هؤلاء البسطاء الجهلة!
الحراكُ السياسي هنا حراكُ فقاقيعٍ تطير حسب الرياح اليومية السياسية!
ودعك من الكلمات الضخمة عن الاشتراكية والقومية والإسلام والوطن العزيز فهي مجردُ يافطاتٍ تخفي الفقر السياسي المبدأي وراءها!
أما قوى الزعماء المرتبطة بالقوى الوسطى التي بدأت تطلُ برؤوسها داخل بلدان تجري فيها معارك إجتماعية وسياسية عميقة وحادة كإيران والعراق ومصر وغيرها، فقد دخلت في صراعات متباينة مع أنظمة دكتاتورية وجهت أهدافها لتحقيق تحولات ديمقراطية عميقة في حياة السلطات المهيمنة الرافضة للتغيير الحقيقي، والتي تواصل أبنية القرون الوسطى وإعتقال الشعوب والنساء والعقول تحت لافتاتٍ لم يُنزل بها من سلطان سوى سلطان الإستئثار والتحكم في الشعوب المتخلفة وإبقائها في هذه الزرائب التي صنعوها باسماء الاشتراكية والأوطان المبجلة والإسلام والقومية وقيادة الثورة المظفرة والدفاع عن الأمة ضد الكفر والتغريب، وما هنالك من مسميات إخترعوها لتضليل العوام السذج عقوداً طويلة!
دساتيرٌ خُيطتْ على مقاسات الأقزام، وظلمات صوروها كالأنوار، وما هي بأنوار بل حروب إجتماعية متخلفة تتفجر ذات يوم بأشكال دموية مدمرة!
لا يريدون الإلتحاق بالبشرية الديمقراطية ولا يرفعون أحكامَ الطوارئ عن النساء والعوام والدين، ولهذا فإن قيادات الطبقات الوسطى التي تقفُ أرجلُها على قواعدٍ إجتماعيةٍ هشة، هي نفسها لا تعلن الشعارات العظيمة من علمانية وديمقراطية وعقلانية، بصلابة وبتحليلات عميقة في كل شؤون المجتمع لتضرب الخرائبَ الآيلةَ للسقوط، فتختطفُ حدثاً سياسياً مهماً وتحوله لنهر سياسي يتلف حوله الناس، بلا ثقافة تنوير سياسية واسعة، وبلا مهمات إجتماعية كبرى، لضخامة الجور المحيط ولغياب أساطير العائلة الوطنية الواحدة، والمذهبية الشقيقة المتحدة!
موسوي يركز على تغيير مجرى الإنتخابات المزورة، وعلاوي يكاد يختنق بين القوى الطائفية العريقة في التحايل والتلاعب بالدين والأحزاب الديمقراطية المصرية تغرقُ في الفساد!
إن الخطابات السياسية التجديدية مخنوقة لأن المصانع الخاصة مخنوقة، والفضائيات الحرة ممنوعة، والوزارات الفاسدة أبدية، والميزانيات موجهة لكراسي العسكر، وللبذخ السلطوي، ومشروعات الحروب التي لا تتوقف لأن في توقفها زوالهم، وفي سلام الناس عمارٌ يخنقهم!
العملية الرأسمالية الكونية ذات الأشكال والمستويات المختلفة، لها مصائبها كذلك، ويواجه الشرقيون سلبيات البلدان الرأسمالية المتطورة وكوارث الرأسماليات الشرقية المتخلفة، وكلها تصبُ عليهم محولةً بلدانهم إلى مستنقعات للسلع البائرة، والغالية، وللجنس الأبيض والمخدرات ولتجارة المنظمات الإرهابية التي لا أحد يعرف أرباحها من الأموال ويعرفُ خسائرَها من البشرِ الجثثِ الملقاة في الطرق مثل الذبائح وللحكومات التي تغتني وتزداد الشعوب فقراً ومعاناةً!
هي الشعوبُ الجاهلةُ المُفكَّكة طائفياً ودينياً مسئولةٌ عن كل ذلك وتترك الجزارين يقطعون من لحومِها كالمقاصب وتقول هل من مزيد؟!
