إذا كان أسلوب الإنتاج الإقطاعي الديني لم يتبدل منذ عمر بن الخطاب، منقلباً في الشكل مع تغير الحكام، صائراً مذهبياً بعد أن كان إسلامياً عاماً، فإن بؤرته الاقتصادية المركزية تقومُ على ملكية الدولة للثروة العامة، وعبر هذه الملكية تتحدد أنواع وأحجام الطبقات والفئات.
ولكن هل أدى العصر الحديث بشركاته وصناعاته واستعماره إلى تغيير جوهري في أسلوب الإنتاج؟ ألم تقلبه هذه التغيرات «الكبرى» كما يقولون إلى أسلوب رأسمالي؟
إن أسلوب الإقطاع – المذهبي، يتضمن إنتاج الثروة المادية، عبر الإقطاع الاقتصادي السياسي، وإنتاج الدين عبر المذاهب، ولهذا فهو يشمل كل البنية الاجتماعية، بطوابقها الثلاثة: الاقتصادية والثقافية والسياسية، وحين جاء الاستعمار حافظ على البناء الإقطاعي – المذهبى فى الدول العربية والإسلامية، فلم تنشأ الفئات الوسطى إلا من خلال فيض الإقطاع الاقتصادي المسيطر. ولهذا ظلت تابعةً له بشكل مباشر أو غير مباشر، بشكل وطني، أو بشكل قومي.
ولهذا وجدنا الاستعمار يكرس حكم الأسر والأفخاذ القبلية والطوائف، وحين جاءت الأنظمة الجمهورية تحولت المكاتب السياسية وهيئات الضباط الحاكمة إلى قبائل تغرف من الثروات العامة كذلك.
هنا نجد تعبيرات جديدة مثل الميزانية العامة، التي فرضها الاستعمار بسبب الضرورات الاقتصادية المختلفة، ولكن حتى الإقطاع السياسي الديني في العصر العباسي والفاطمي الخ.. كان يخصص أموالاً للخدمات العامة، أي ليس ثمة هنا تغيير جوهري، فلاتزال الميزانية في يد الحكام، وهم لا يكتفون بذلك بل يطمعون حتى في الميزانية العامة التي خصصت للإنفاق العام، عبر دخولهم إلى الوظائف العامة، وتخصيص نسب ومكافآت لهم، إضافة إلى العمليات غير القانونية الكثيرة التاريخية، كعدم تحديد الأراضي العامة والمشاعية وكيفية التصرف بها الخ.. والعمليات غير القانونية العادية كإرساء المناقصات عليهم، وبيع الممتلكات العامة بمبالغ رمزية لهم وتحديد النسب الكبرى من الوظائف لهم ولأسرهم ومعارفهم وأقربائهم الخ..
لم يعد الحاكم يقول للغيوم بأن خراجها هو له أين ولت بوجهها، لكن المضمون هو نفسه، لكن الخراج لم يعد فقط في الزراعة باعتبارها القطاع الرئيسي الوحيد في أسلوب الإنتاج، بل أضيفت إليها الصناعات الاستخراجية، «البترول، والفوسفات الخ…» وهي شكلٌ آخر متطور عن الزراعة، فهي لا تقوم بتحويل تقني واسع لقوى الإنتاج، بل تعتمد على شطف المادة الأولية واستخراجها وتصفيتها الأولى. كما أن الزراعة ذاتها دخلت في عمليات تصنيعية محدودة، غير أن ذلك لا يغير في علاقات الإنتاج.
إن ذلك يؤدى إلى احتدام التناقضات بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج؛ في ظل أسلوب إنتاج واحد، حيث أخذ يتعرض لصراع متفاقم متعدد المصادر . ولكن أين تكمن عقدة «علاقات الإنتاج»؟ إنها تكمن في السلطة وأسلوب إدارتها للثروة العامة.
إن أساليب الإنتاج الغربية المماثلة لأساليب الإنتاج الشرقية تختلفُ في كون العقدة موجودة خارج السلطة، لكن أساليب الإنتاج الشرقية، ووريثتها الراهنة علاقات الإنتاج الإقطاعية – المذهبية، تكمن عقدتها في السلطة بجانبيها السياسي والديني.
ولهذا فإن الباحثين عن موديل مماثل في تاريخ الغرب، لكي يطبقوه وينقلوه إلى العرب والمسلمين، لن يجدوه.
ولهذا فإن علاقات الإنتاج تتكون من خلال السلطات الشرقية عبر تاريخ الهوة العسكرية وتشكيلها للمجتمعات. ومن هنا فإن العصر الحديث افتتح بالقوى الغربية العسكرية ومحافظتها على أسلوب الإنتاج السابق – الراهن، فلا أحد يستطيع أن يغير أسلوب الإنتاج بقرارات.
إذا كانت الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج الرئيسية الإقطاب المذهبية في المنطقة تغدو بالضرورة هي الطبقة الحاكمة سياسياً، فإنها لا تتشكل من خلال انبثاقها من عوى الإنتاج، بل من خلال القوة العسكرية التي عبرها تفرض ُ سيطرتها على قوى الأنتاج، سواء كان ذلك من خلال الأسر القبلية أو زعماء الطوائف كما في لبنان؛ أو من خلال الضباط الأحرار واللجان المركزية للأحزاب الخ ..
ويغدو الحكم ناجحاً أو فاشلاً بشكل اقتصادي مؤقت عبر نجاح القوة العسكرية في فهم الإنتاج وتطويره. ولهذا فإن عمليات الإصلاح الاستعمارية التي تمت في بداية القرن العشرين الميلادي كنست الجوانب الأشد تخلفاً فى أسلوب الإنتاج الإقطاعي الموروث، كالرقيق والغياب الكلي للمرأة عن سوق العمل، ونظام السخرة، ونظام أهل الذمة، ولا مركزية الدول الخ..، وهي خصائص عموماً غير جوهرية وغير أساسية في أسلوب الإنتاج الإقطاعي. ولهذا فإن جانباً كبيراً من الثروة العامة ظل في يد قوى الإقطاع السياسي، فدخول الاستعمار الغربي لم يكن ثورةً برجوازية بل كان مخافظةً على الإقطاع في ظل إصلاحات محدودة.
ان تشكل الإقطاع السياسي الجديد بدءاً مما يسمى بـ«الثورة العربية الكبرى» حافظ على ملكية الحكام وأتباعهم للأراضي الكبرى في المشرق العربي الشمالي، حيث كانت لاتزال الشكل العيني الهام للثروة، وفي مصر كانت أسرة محمد علي العسكري الألباني هي التي حددت الملكية الكبيرة ووزعتها، وقامت الإدارات الاستعمارية في شمال افريقيا بتحديد من يملك أكبر حصة من الأرض وفي ثورة المهدي في السودان رفض المهديون توزيع الأراضي على الفقراء مما أدى إلى انتصار الإنجليز، وقام الوهابيون بتملك الثروة العامة في الجزيرة العربية عن طريق الحروب ونظام الغنائم الخ..
إن ملكية الأرض الكبرى في زمن التحول من العصر الوسيط إلى العصر الحديث في العالم العربي، كانت هي الشكل الاقتصادي الهام في عصر الانتقال الأولي من الإقطاع إلى العصر الحديث العربي، والتي أنتجت الريع العقاري وأشكاله، كشكل مباشر للإقطاع الاقتصادي، وهو المستوى الوحيد الذي يفهمه الباحثون التقليديون للإقطاع. نظراً لخلفيتهم الأوروبية الدراسية وعملية النقل الجاهز منها.
لكن ملكية الأرض لم تعد هي الثروة الكبرى مع تطور الاقتصاد وعمليات التفاعل بين الاقتصاديات المحلية والغربية والعالمية عموماً، بل إن الزراعة راحت تتدهور، وأخذت أسعار الغلات الزراعية فى هبوط مستمر، ثم غدت الأرضُ كعقار هي مصدرُ الدخل الأهم؛ ولهذا فإن عائلات الإقطاع السياسي هي التي استفادت من تخصص الأراضى الزراعية ذات المحصول الغني كالقطن في مصر والسودان أو التمور فى العراق أو اللؤلؤ في الخليج أو الحرير في لبنان الخ.. وقد تحدث عمليات التداخل بين الأراضي الزراعية والسيطرة السياسية المؤدية للضرائب والمكوس وغير ذلك.
لكن الثروة العائدة من المواد الخام التقليدية الزراعية أخذت تتراجع، ومع ظهور النفط في العراق بعد الحرب العالمية الأولى أخذت المواد الخام الصناعية المكانة الأولى في تشكيل الإقطاع وثروته. وكما كانت مفاتيح الأرض الزراعية والأرض المشاعية تنتقل لشيوخ القبائل والحكام والموظفين الكبار فإن صفقات الاستخراج الجديدة والتصنيع المعالج الأولي كانت من نصيب من هم في الحكم، أو أن الامتيازات تتضمن حقوقاً اقتصادية تعود للهيمنة السياسية. وبذا فإن كبار المهيمنين على الحكم والأرض انتقلت سيطرتهم إلى الصناعات التحويلية والنشاطات الاقتصادية الحديثة. إن انبثاق الثروة من السلطة السياسية والقوة ينتقل من الأرض إلى البنوك والصناعة والاستخراج وفيما بعد إلى المحافظ النقدية الغربية والعمليات المالية الدولية. لكن هذا لا يغير من الطابع العام للتشكيلة الإقطاعية ــ المذهبية.
إن العلاقات الرأسمالية المتنامية في النظام الإقطاعي العربي والإسلامي تُؤسس من قبل قوى السلطات، ولهذا فإنها تُوضع بعيداً عن البناء الاجتماعي، فالألوية السياسية المسيطرة لا تقوم بخرق الأبويات الأسرية والقبلية والهيمنة الذكورية والثقافة الطائفية المسيطرة، فهذه كلها تبقى خارج علاقات الرأسمالية المتولدة من الحكم الإقطاعي المسيطر. إن العلاقات الرأسمالية تشتغل خارج مملكة النفوذ الاقطاعية الراسخة، لكنها تملأ خزائنها بالفيض النقدي، الذي يؤدي للمزيد من الرسوخ للعلاقات المحافظة.
لكل بلد عربي وإسلامي مستوى معين من التطور ومن شكل التجلي الخاص به لسيرورة الإقطاع – المذهبي. إن الرأسمالية الطالعة من تحت عباءة الإقطاع تنبثق من العمليات الاقتصادية الكبرى لهذا الأخير، ففي مصر يظهر الرأسماليون من الريف ومن بيع القطن وتصنيعه، ثم يكبرون، في حان يظهر الرأسماليون في العراق من العمليات الزراعية ومن النفط، وفي الجزيرة العربية من التجارة البحرية والغوص على اللؤلؤ ومن ثم النفط، وفي لبنان من الزراعة ثم التجارة الواسعة الخ..
إن ارتباط ظهور رأس المال بالسلطة كعامل أساسي لأنتاج الفيض النقدي، تتشكل على أثره الطبقات والفئات على قدر اقترابها من نبع المال، وبالتالي فإن طابع الحكم العشائري أو القبلي أو الطائفي أو العسكري يحدد كم التوزيع، وكلما تبعثر الفائض الاقتصادي على كم سلطوي كبير ينفقه في استهلاكه، ازداد الخلل في البناء الاجتماعي.
وتتضاعف الأخطار حين يكون التركيز شديداً في القمة، أو مرتبطاً بقرارات مغامرة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
إن ملاك الأرض المصريين حين نقلوا الفيض النقدي الزراعي إلى الصناعة والبنوك والحرف في الثلاثينيات تجنبوا الأزمة ووسعوا من التطورين الاقتصادي والثقافي. والرأسمالية المصرية تعاني الأن عدم قدرتها على رسملة الريف مصدر ثروتها الأول ودون ذلك يصعب انتقالها إلى الرأسمالية «الحرة».
إن ظهور الثروات الراسمالية داخل التكوينات والعائلات والشرائح الإقطاعية، يجعل نمو الرأسمالية مرتبطاً بالأجهزة السياسية الحاكمة أو المعارضة التي تنتقل للسلطة، لتكرس السلطة الإقطاعية المذهبية كيفية نمو التجارة والصناعة والبنوك، فتقوم العائلات المتنقذة بالسيطرة على الموارد العامة، وكلما اقتربت من هرم السلطة ازدادت ثروتها ونفوذها وتوسعت أعمالها الاقتصادية. وكلما تنامت ثرواتها تغلغلت في السلطة أكثر.
ولهذا فإنها تقوي أساسها الاجتماعي الإقطاعي – المذهبي، على أساس ركائزها المذهبية والاجتماعية، فإذا كانت طائفة مارونية أو سلطة سنية فستحافظ على مذهبيتها كمصدر أولي للثروة وللسلطة وللحشد الاجتماعي وسوف تكرس تمايزها عن الطوائف الأخرى، أو إذا كانت إدارة دولة متوارثة بيروقراطية شمولية فستحافظ على تمايزها كجماعة «مسلمة» في مواجهة مسيحيين، أو في مواجهة بربر، أو أكراد أو زنوج الخ..
تغدو السلطة السياسية، أو السلطة المذهبية، مصدرين لتوزيع الثروة وتناميها وهي القادمة من المنتجين، أو لدمارها كذلك، ولتداخلها ولصراعها، فلكونهما موزعتي الثروة يجري الصراع الشديد حولهما، وبينهما.
إن كون السلطة والمذهب مصدري توزيع الثروة على القوى الاجتماعية المختلفة، يجعلهما مستقرين ومتوحدين في أزمنة النهضة، ولكنهما يتزعزعان في أزمنة الأزمة، فتنشأ مراكز متعددة للسلطة، وتظهر المذاهب المتصارعة، وقد عرفت أزمات الإقطاع المذهبي لدينا عدة حلول أساسية، فأما تفكك النظام السياسي، وإما سيطرة سياسية جديدة تعيد توزيع الفائض الاقتصادي بطريقة جديدة، وإما الحرب الأهلية التي تعيد المتصارعين إلى ما قبل الانفجار.
وخيار الدول العربية الآن هو سياسات جديدة تبعد مصدري الثروة الدولة والدين عن أن يكونا موزعي الثروة، وتعود آليات توزيع الثروة للأنظمة الاقتصادية المحضة، وقوى الإنتاج المختلفة.
توزيع الطبقات والفئات الإسلامية الحديثة ــ كتب : عبدالله خليفة
أضف تعليق
