زايد بن سلطان آل نهيان 1918 ــ 2004
المواطنُ لا يُذل
حين أبصرَ الشيخُ محمد بن زايد آل نهيان إن ثمة فتحة في إحدى الوزارات الحكومية بدولة الإمارات العربية تــُجبرُ المواطنين وهم يستلمون الأوراقَ على الأنحناء وعلى إدخال رؤوسِهم تحت حديدها، جاءَ وطلبَ تكسير هذه الفتحة المُذلة وجعلَ رؤوسَ المواطنين عالية شامخة لا تنحني!
وليس هذا بغريب على أبناء زايد، فهم قد ورثوا الحكمة والتواضع من أبٍ كبير، أعطى أمثولة في الحكم، وصار شجرة خضراء كبرى تـُعطي بذورها وثمارها لمن يسمو بنفسه ويرتفع لمهام التاريخ العظيمة!
لم يكن زايد آل نهيان في بدء حياته الحافلة بالعطاء سوى شاب عانى الكثير، وعرك حياة الفقراء البسطاء، وحين جاءهُ الحكمُ وجاءتهُ الثروة الخرافية لم ينفصل عن ذلك التاريخ، ولم يقطعْ علاقته بالمحرومين، ولم يتكبر أو يتجبر، بل طور هذه العلاقة لتغدو نظرة كبرى ومدرسة لمن يريد أن يتعلم، وما أقل المتعلمين وأكثر الحمقى المغرورين!
كانت الدولة صحراءَ شاسعة، لا حدود لرملِها وجفافِها، فأخضرت وتحولت رمالها وصخورها وجدبها إلى أكبر حديقة في الجزيرة العربية، والدولة التي كانت بلا نخل صارت النخيل غابات فيها، وزادت عن ثلاثين مليون نخلة!
وزايد الذي عاش في الشظف والصحراء، فأثرت ثقافته ونظرته السياسية، كان هذان العدوان أكبر خصمين له، فراح يجثتهما زراعة خصبة لا تعرف الاستسلام أمام العدو الأصفر، وإغنى المواطنين بحيث أن الفقر غدا لعنة من الماضي!
والمواطنون الذين كانوا يعيشون في الخيام أو البيوت الحجرية الصغيرة، صارت بيوتهم أكبر من مضمار الخيل، يعيشون ويزرعون ويتريضون ويضعون سياراتهم في كل هذه المساحة.
وهذا البدوي المفكر، والشعبي المثقف، كان يعبر بلغته عن أفكار معقدة لدى المثقفين والحداثيين، فعبر عنها بمنطقه ولغته البدوية، لكنهم لم يفهموها وغابت عن أنظارهم لأنهم يريدون اللغة المتحذلقة، وبيانات يعدونها من ورائه أناسٌ مزورون منافقون، يضعون على لسانه كلمات من منتدياتهم ومن جعجعتهم الفارغة ويحشونها بعبارات وألفاظ منتفخة لا مضمون حقيقي لها وهي زائفة مثل الحديد المطلي بقشرةِ فضةٍ رخيصة، ولكنه كان يريد أن يعبر عن نفسه بنفسه، وبألفاظه التي تبدو لهم مضحكة، لأنهم وكلماتهم زائفون، ولكن لغته البسيطة تتطابق مع أعماله العظيمة!
ومن هنا لم يحتاج لفرق الطبالين والمشعوذين وحملة البخور الذين يفبركون المقابلات واللقاءات ويكتبون ما شاءت لهم الكتابة، المدفوعة الأجر، فزايد لم يحتاج إلى مثل هذه الصناعة الإعلامية الكاذبة، لأن أعماله تشهد له، ومن لم ينظر لضخامة هذه الأعمال، ومن لم ير مثل هذه المنجزات فلا فائدة من كلامه ومن بيانه!
كان المختلفون معه هم الذين يشيدون به، وكانت إنجازاته تتحدث بنفسها، فلا حاجة لتطبيل وتزمير في الصحافة والإذاعة والتفزيون وفي الحزب المسيطر ومن جلبٍ للصحفيين الذين تـُشترى الدستة منهم بدينار، فيكفي هذه الخيرات التي تنصب على الشعب وعلى البلدان العربية والأراضي المحتلة وجنوب لبنان وعلى البلدان الفقيرة، لتتحدث عن نفسها، وكفى بالخير شاهداً ولساناً ناطقاً!
وهذا الرجل البسيط كان أبعد نظراً من السياسيين، فقد تمرد في بدء تكون دولة الإمارات نفرٌ من الشباب الغض، وأراد الحرب، فاستدعاهم زايد واقترح عليهم أن يعبروا عن آرائهم ويثقفوا الناس عبر جريدة أو مجلة، لعل هذه الآراء تنتجُ شيئاً طيباً، بدلاً من المراهقة، لكنهم لم يستفيدوا فضاعوا، فكيف لحاكم أن يشكلَ معارضة ويدعوها للبقاء لا للزوال؟!
وأخضرتْ كلماتُ زايد كما أخضرتْ الأغصانُ الصغيرة التي زرعها في الرمال، وغطت الأشجار والنخيل التي زرعها الشمس الحارقة، وأتت المنجزات أُكلها في دولةٍ كبيرة، متقدمة، مليئة بالحريات، نادرة المشاكل، ذات شعب مرفوع الرأس، سعيد. وتأثر الحكامُ الحكماء منه وتعلموا وغيروا من حياة شعوبهم.
وأخضرتْ كلماتُ زايد كما أخضرتْ الأغصانُ الصغيرة التي زرعها في الرمال، وغطت الأشجار والنخيل التي زرعها الشمس الحارقة، وأتت المنجزات أُكلها في دولةٍ كبيرة، متقدمة، مليئة بالحريات، نادرة المشاكل، ذات شعب مرفوع الرأس، سعيد. وتأثر الحكامُ الحكماء منه وتعلموا وغيروا من حياة شعوبهم.
فتحية لزايد وأبنائه وسيرته العطرة لتبقى نموذجاً في الحكم.
الشيخ زايد والآخرون
من أصابع الشيخ زايد تدفقت أنهار الزيت والماء والحدائق والظلال في الصحراء العطشى.
إن هذا الرجل الصحراوي القادم من (العين) في مستهل الثلاثينيات، اكتنز بحكمة العرب في خيامهم وبراريهم وبعد نظرهم، أعطته البساطة سعة الصدر، والقصص والشعر والأمثال معاني إنسانية جديدة للسياسة الدولية المثقلة بالحديد والنار.
جاء والبخلُ مهيمنٌ على الحكام، والجدبُ والصحراءُ في الأرض والحكم، وكان بعض المتنفذين يريد نقل التجارب العربية الانقلابية والدموية والمتعالية على الشعوب إلى الجزيرة العربية موطن البساطة والألفة.
كان النفط يتدفقُ ومعه الثراء والانفصال عن الناس وعن القيم، فصار البعض أباطرة وحولوا خيامهم وأبلهم وقطعانهم إلى قصور فارهة وقلاع مفصولة عن الناس، مليئة بالتايلنديين والبنغال، وصارت بلدانهم مجرد حصالات يجمعون فيها الزيت والنقود والعظام ويضعونها في حصالات غربية وشرقية أوسع.
جاء زايد لينشر الخضرة والغابات في الصحراء العربية التي لم تر السدود والأنهار منذ سد مأرب، ومنذ أن سرقت الفئران ذهب النساء، وحولت أهل الجزيرة إلى قوافل للفقر والتسول في الدول الأخرى.
كان أهل الحكم لا يتحملون الرأي الآخر، وقد تمرد بعض المثقفين الإماراتيين على الدولة، وكانوا يريدون نقل دبابات البعث والحرس القومى وبيانات أحمد سعيد إلى البدو البسطاء، فاجتمع معهم زايد وقال انشروا يا أولادي أفكاركم بين الناس، وأنا أعطيكم صحيفة تبثون منها آرائكم، فإذا كانت جيدة فسوف تنبتُ في الأرض، وإذا كانت سيئة فستذهب مع سيول المطر والعشب. لكن المثقفين الانقلابيين رفضوا حكمة الفيلسوف البدوي، وأصروا على الانعزال والرفض، فكرت السنون وتبخروا في الهواء !
كان المثقفون الانقلابيون يتطلعون الى أمثال (ناقص)، إلى ذلك الثوري المزعوم المتشدق، واللص في الحقيقة، الذي جاء للحكم وبلاده واحة خضراء، مليئة بآبار النفط والأنهار والحدائق المعلقة، وإلى أمثال هذا من المترفعين والمغرورين الذين جلسوا على الكراسي فزادتهم غروراً وطغياناً، هؤلاء المتشدقون بخدمة الأمة والشعب، الذين لا يسيرون إلا وحولهم الحشود من العسكر والمسدسات معلقة في خصورهم، خائفين مرعوبين من أي عصفور يمر وأي فراشة تحلق!
وكانوا يمطرون الناس كل اليوم بالخطب العصماء عن الإنجازات، وتوحيد الأمة، ورفع الشعب إلى الذرى، وهم لا يبقون على مدخرات رياض الأطفال وبراءة الشواطئ ويأكلون الأخضر والجبال والجزر والواحات والصحاري.
وكان زايد يعمر الصحراء، وينشر الحدائق والبيوت العامرة والسدود والمدن في العالم العربي والإسلامي، فيعرفه البدوي المنعزل في الصحراء المغربية، وينزعج ثقبُ الأوزون من أصابعه الخضراء.
في حين كان (ناقص) يقود شعبه إلى الحرب الأهلية وإلى استخدام القنابل الكيماوية في مأثرة كبيرة للحكام العرب المهتمين بالتنمية الجماعية للإبادة، وتحويل البدو ذوي الكرامة وعزة النفس إلى جلادين، ومخبرين، ثم إلى حرق بيوت هؤلاء البدو والفلاحين وتجفيف العيون والأنهار ونشر المستنقعات وتحويل البلد إلى خرابة كبيرة وحصالة هائلة لجمع أموال الزيت ونشرها على الأقرباء والمنتفعين والفاسدين ..
تحولت أبوظبى إلى حديقة كبرى، وجاء الناس من كل أنحاء الدنيا للعمل وامتدت أنابيبها وشرايين الحياة إلى المعوزين، وأخذت النخيل تغطي السماء، في حين كان ناقص يزيل الحدائق ويحول البلد إلى بلد العاهات والفقر والتصحر!
