عبرتْ القبيلةُ عن الوحدة السكانية الصوانية للجماعات في ظل حياة الرعي. امتدت عبر ألوف السنين مؤكدةً أن الطبيعة الصحراوية هي الأساس، والثابت، بينما الأنهار والزراعة هي نقاطٌ صغيرة، تحيطُ بها الصحراءُ والقبائل.
البقاءُ شبهُ السرمدي للقبيلة جعلَ مبناها مهيمناً، متحركاً، غازياً، فاتحاً، قوقعته الصوانية لا تقبلُ دخول الكائناتِ لتصير لآلئ وأفكاراً جديدة، والمدينة عدوتُهُ وكنزه ومحطة ترحاله ولحظة تفسخه.
يحملُ إليها تماثليَّهُ وأوثانَهُ وقصائدَه فتُحضرُه، وتربطهُ بسلطتها، وتقودُهُ للغنائم والكنوز التي لا تبقى للجميع، بل لقواد القبيلة.
لا تستطيع المدينة عاصمةً بدوية أن تشيعَ الزراعة والحِرف في كل مكان، وأن تحجم الصحراء، وتسيطر على العلم، لأنها لا تحملُ مشروعاً ديمقراطياً في جوفها المنقسم أبداً بين قمةٍ وقاعدة، بين رؤوساء وجمهور يعودُ إلى صحرائهِ يؤسسُّ قبيلة جديدة.
تغدو القبيلةُ بناءً تحتياً جاهزاً عبر التاريخ في صحراء الشرق المترامية، تؤسسُ العبوديةَ المُعمَّمة حيث يغدو الفرعونُ (الملكُ باللغة المصرية القديمة) مالكاً أكبر للعبيد.
قوى الإنتاج هنا هم البشرُ العاملون، في طفولةِ التاريخ، ولكن تحولَ القبيلةِ الحرة لمجموعة عبيد جرى عبر ألوف السنين، وهم عبيدٌ غيرُ مسلسلين بقيود، بل تابعون لكيان فوقي يحركهم كموادٍ لبناءِ قبر هائل، أو ليُقتلوا في الحروب.
لكن القبيلةَ أقوى من ممالك العبودية التي بدت كأنها سرمدية من طول ما أناختْ على أعناق البشر، فخلقت الخلافة.
إمتدادُ الإلهِ على الأرض يُستبدلُ بخليفةِ الله في الأرض، والامتدادُ غير الخلافة، لأنها نتاجُ لحظةٍ ديمقراطية في القبيلة، حين لم تعد القمةُ نائيةً عن القاعدة، والملاكُ أخوة العبيد، ولكن القبيلةَ تضمرُ في كيانها الخلية الأساسية العتيقة، وتغدو تلك لحظةً نموذجية استثنائية، لأن القبيلةَ تقوم بالفتوح وتحوزُ الكنوز، وتنقسمُ ثانية بين القمةِ والقاعدة، وتنفي ماضيها العابرَ لتبقى في حاضرها الدائم المنقسم ككيان قرابي اجتماعي متناقض.
تؤسس المدينةَ الحضارية الدينية كقبيلةٍ مسيطرة، فتبقى القمةُ فيما تتحللُ القاعدة، القمةُ تستأثرُ بالخراج فيما تبحث القاعدةُ عن أعمال صغيرة تقتات بها.
ويزدادُ التناقضُ في المدينةِ القبلية الدينية كلما ضاع الخراجُ في البذخ والمنافع الخاصة، وكلما جاءت القبائلُ المستأجرة للخدمات العسكرية، وتفاقمت مشكلاتُ المعيشةِ والحروب وتكاليف الحياة، وكثيراً ما تغدو كثيراً القبائلُ المُستأجَرة عسكرياً لأن تكون حاكمة فعلياً، فيما تذوب قاعدة القبيلة المؤسسّة بين الأنقاض السكانية والمادية المتساقطة عبر القرون.
المدينةُ الدينية تصيرُ حاراتٍ وقرىً مذهبية، لكن الحارات والقرى تغدو هي الأخرى مساكن مخططةً قَبلياً، ومناطقَ قبائل للزحفِ الرعوي نحو مدن الثروات الضائعة في السراب، وكما تحملُ المدينةُ السياسية القبليةُ جرثومةَ القبيلة، فكذلك تكونُ القريةُ قبيلةً تعيشُ بين الحِرف والزراعة، تحكمها القرابةُ والمذهبيةُ والانقطاعُ عن حركة التاريخ.
البناءُ الرعوي القبلي المؤسسُ يستمرُ في نخر المتتالياتِ العمرانية، لهذا تغدو تناقضاتُ وصراعات المدنِ والقرى هي صراعاتُ القبائلِ في لحظاتٍ متعددة من تطور التاريخ الذي لا يتغيرُ جوهرياً، وصراعاتُ المذاهبِ هي صراعاتُ قرى تعيشُ ما قبل الحداثة، لم تستطع السوقُ أن تدمجها وتوحدها وتخلق منها شعباً.
حين تصير المدينة القبيلةُ أو القريةُ إمبراطوريةً تحكمُ أجزاءَ من العالم لا يتغير الجوهرُ القرابي الطائفي.
وقد تتصادم الإمبراطورياتُ الطائفية لتتحطم وتحترق في أتون التاريخ، لتعود من جديد مدناً صغيرة رثة، وقرى على حدود العالم لم تؤد تراكمات التاريخ الغني كله لتبديل كود الانصهار الذاتي في القبيلة.1
البناءُ التحتي القبلي العابرُ للتاريخ ــ كتب: عبدالله خليفة
أضف تعليق
