عبدالله خليفة ــ حاورته: فاطمة المحسن كاتبه وروائية عراقية
✤ الكاتب والروائي عبدالله خليفة لك رصيد اللآلئ وكلماتك جمعت الرمل والياسمين كقرصان تدخل مدينة الحرف وتبعثر إبداعك في يوم قائظ تصدح فيه أغنية الماء والنار كامرأة يلفها الضباب أو هي سهرة لنشيد البحر حين يعانق الينابيع لتتركنا في دهشة الساحر بين هذا الإنتاج
ــ كيف تحدثنا عن تجربتك؟
❈ هي تجربة طويلة توجهت لجوانب عديدة من الكتابة ، سواء في مجال القصة القصيرة ، أو مجال الرواية ، أو مجال الدراسات الأدبية والفكرية .
وفي كل هذه الجوانب المنوعة اهتممت بالإنسان والحياة وفهمها ومشاركة القراء في هذه العملية وتطويرها على مدى السنوات الأربعين السابقة ، وعبر تطوير الأدوات حسب جهدي ونظرتي .
✤ هناك علاقة قوية جمعت الكتاب في جيلكم بالوطن حتى أصبحنا لا نميز السياسي من الكاتب ؟
❈ لا يوجد كتاب لا يشكلون علاقة بالوطن ، في كل الأجيال ، ولكن تتنوع هذه العلاقة بينهم حسب مواقفهم الفكرية ، فهناك كتاب تغدو علاقتهم بالوطن نفعية أو استثمارية وربما هامشية ، وقد يبدأون علاقة نضالية ثم تتبخر مواقفهم ، وتغدو (الأنا) هي التي تظهر كأنا مركزية مهيمنة وينكمش العالمُ من حولهم . وآخرون يظلون مكافحين ، فتغدو السياسة معياراً ووجهاً من وجوه العلاقة بالوطن والمواقف منه ،ولهذا تتنوع ارتباطات الكتاب بالسياسة والأحزاب . والكاتب الذي لا يشكل له موقفاً سياسياً يعني بأنه في حالة غموض اجتماعي .هناك كتاب مواقفهم مائعة لأنهم يقيمون علاقات متضادة بين القوى الاجتماعية ، و ثمة كتاب انحازوا للسلطة وآخرون للقوى الشعبية . فتعبر المواقف الفنية – الفكرية المتداخلة عن جذور ما مختلفة .
✤ أصبحت الثقافة تعني الوطن ، والوطن رديف الثقافة ، كيف تفسر هذا الوضع ؟
❈ الوطن كيانٌ مختلفٌ عن الثقافة ، فهو جسمٌ تاريخي ومادي واجتماعي ، بينما الثقافة هي شكلٌ من أشكال الوعي الإنساني ، ولهذا تكون لدينا ثقافات متعددة ، بعضها يكون تحليلاً وتجسيداً وسيرورة مع الوطن ، وبعضها مغترب عن الوطن ، وبعضها مستغل مستنزف للوطن ، وبعضها قادم من الخارج وطفيلي وبعضها قادم من الخارج وإنساني . . هي مسألة معقدة ومركبة وتحتاج لتحليلات معمقة في كل جانب!
✤ هل دور الكاتب والمبدع تعرية الواقع وتغييره ، وهل نستطيع أن نحدد وظيفة أو هدفاً معيناً وراء الكتابة الإبداعية ؟
❈ (الواقع ) كلمة كبيرة، ومسألة تغييره هذه تحتاج إلى حشود وجهود بشرية متنوعة وتاريخية، أي أن التغيير يتشكلُ عبر أجيال ومراحل، وبالتالي فإن الأدب النضالي يساهم في هذه العملية المركبة الطويلة تاريخياً، بقدرته على أكتشاف هذا الواقع ، واستثمار أدوات فنية متعددة وغنية، وكلما التحم الأدب بالعملية النضالية العامة للناس ، كلما كان أقدر على فهم الواقع ونقده، وخاصة وهو يتوجه لعقول ونفوس البشر ، ويشكل علاقة حميمة باقية معهم ، لأن أدباً كثيراً يكون له دور نقدي ما في مراحل يتساقطُ في مراحل أخرى، وثمة أدب لم يكن له دور في مراحل، يتصاعد دوره في مراحل جديدة، فالعلاقة بين الأدب والواقع والتغيير تخضع لمستويات مركبة من التداخل والتقاطع والتباين .
✤ يرى البعض أن هناك قوالب وأركاناً ثابتة للتعبير تحدد شكل الكتابة الأدبية لا يحق للمبدع أن يكسرها تحت دعوى الإبداع . ما رأيكم في هذا القول؟
❈ هناك أنواع أدبية كبرى كالنوع القصصي، والنوع الشعري ، والنوع الدرامي، وهذه الأنواع لها سمات وخصائص عامة، أكتسبتها عبر القرون، وطنياً وإنسانياً ، وبالتالي فإن المبدع في أي نوعٍ منها لا بد له أن يتجذر في سماتها ويتشرب روحها، وهناك عمليات درس وعلوم لذلك، لكن الإبداع من جهة أخرى لا يتوقف، والإضافاتُ تحدثُ بشكلٍ مستمر من خلال التجارب الأدبية المتنوعة، في كل هذه الأنواع، وتحدث تداخلات وعلائق مشتركة . فالقاص لا يستطيع أن يخرجَ من تشكيلِ الحدث والشخصية لأنهما جوهريان في هذا النوع ، لكن تأتي إضافاته في أسلوبه واختياراته للشخوص والأحداث وزوايا تشكيلها..
✤ هل يمتلك الكاتب العربي اليوم خصوصية في الكتابة بعيداً عن الموروث وتأثيرات الثقافة ؟
❈ الموروث هو جزءٌ من الكتابة ، فاللغة الأدبية كائنٌ تاريخي، وأي لفظ له سيرورة طويلة، وأي نوع له تجربته الخصوصية ، فالكاتب يقفُ عليها حين يبدأ، لكن خصوصية الكتابة عملية راجعة للكاتب نفسه، أي كيف يستفيد ويستثمر الموروث ويطوعه لعصره ولغته الخاصة به، وليس الأمر يتعلقُ بموروثهِ القومي فقط بل الأمر يتعداه للموروث الإنساني الواسع. .
فنحن ورثنا قصة معينة من القدماء لكن على ضوء العصر طوعناها شكلاً ومضموناً لعمليات جديدة .
ويظل التراث القومي معيناً لا ينضب للإبداع والتأثر والتجاوز، مثل الثقافة العالمية كذلك .
✤ للرواية اليوم أهمية جوهرية مؤثرة في زمننا الإبداعي حتى حتى أن البعضَ أطلق عليه زمن الرواية ، فما رأيك في الجيل الجديد والحامل لتصورات مغايرة في الكتابة والنقد الروائي ؟
❈ كلُ نوع أدبي يحملُ أهمية جوهرية ، فلا يوجد نوع مختص بدم أزرق . لقد كان النوع القصصي ذا قيمة كبيرة للبشرية دائماً ، ولكن ما حدث في العصر الحديث أن النوع القصصي تداخل مع وعي جديد ، وعي قراءة الحياة بشكل موضوعي ، فراح يتغلغلُ تحليلياً في مشكلات الإنسان ، عبر أساليب فنية كثيرة ، وعبر بنيته الفنية التي أتاحت له هذا التغلغل ، وهذا الجانب جعل الرواية تغدو شريكة فكر ومتعة ، كما أن النوع القصصي توسع بشكل هائل في الدراما التلفزيونية وفي الفيلم الخ.. وهذا كله جعل إنتاج الرواية يتعاظم بشكل لم يسبق له مثيل .
وحول الجيل الجديد وكتابته للرواية فقد سبق لي أن كتبت عن أعمال الجيل الجديد في مجلة (كلمات) وفي الصحافة العربية، وهو بحث عن الرواية في الجزيرة العربية ، وقد لاحظت أن بعض الشباب يتوجه نحو نسخ التجربة العربية في خارج الجزيرة، والبعض يتوجه للإثارة والكتابة عن موضوعات حساسة دون بناء محكم، والنادر من يتجه للحفر في الواقع وللتعب في صياغة المعمار الفني. لحسن الحظ بعض كتابنا الشباب البحريني صار يتوجه للحياة الشعبية ويغرفُ منها موضوعاته وهذا ما جعل مثل هذه النماذج النادرة للأسف تحقق عملية نمو للرواية المحلية خاصة لدى فريد رمضان وجمال الخياط .
الأول لجأ في روايته الأخيرة (السوافح.. ماء النعيم) إلى بذور البناء الملحمي، حيث نجد اتساع الشبكة الشخوصية التي تتراوح من العراق إلى البحرين، في نسيج متنامٍ يجمع هذه الشخصيات الشعبية ويكشفُ صراعاتها ونفسياتها المتضادة. فريد لديه الأسلوب الواقعي (المحفوظي) الذي يشكل بنية موضوعية وينميها في التضاريس الاجتماعية اليومية ، بينما جمال يتوجه نحو المنولوجات الداخلية للشخصيات ، ويطلق طاقتها على الذكرى والتأمل والصراع، فتأتي التضاريس من دواخل هذه الشخوص المتشظية .
بطبيعة الحال الكاتب يصنعُ بناءه عبر سنوات طويلة، فما لدى الشباب الآن بذور قابلة للنمو في اتجاهات شتى لأن الزمن الكتابي يضيف إليها .
✤ الرواية هي عالمٌ حافلٌ بالصراع والمتناقضات :
فكيف ننظر للسيرة الذاتية من هذا المنظور ؟ وهي التي تمثل مفردة من مفردات عديدة للرواية ؟
ــ وماذا أضافت السيرة للمنجز السردي للرواية ؟
ــ ولماذا يلجأ الكاتب لكتابة التاريخ الذاتي ؟
❈ هذه الأسئلة الفرعية كلها في الواقع تدور في سؤال واحد هو ما علاقة الرواية بالسيرة الشخصية ؟
لا يوجد روائي لا يجعل سيرته مصدراً أساسياً لأعماله الروائية. إننا نجد إن روائياً بحاراً يكتب روايات عن الحيتان وصيدها. نجد روائياً آخر عاش حياة طويلة من التشرد فتغدو العديد من رواياته مشاهد من الترحال ومعاناة أهل القاع. هناك روائيون آخرون يحجبون حيواتهم الشخصية لأنها عادية ليس فيها ما هو مثير روائياً .
فالسيرة مصدر للرواية لكنها ليست رواية، فهي مادة خام ، ومرتبطة بحيثيات الحياة المباشرة اليومية، في حين أن الرواية تنزع للارتفاع عن هذه المباشرة، لأنها غوص إلى الأعمق، ولكن الغوص يعتمد على الأدوات الفكرية – الفنية للكاتب المتداخلة ، فالبعض لا يستطيع أن يرتفع عن سيرته لأنه لا يمتلك قدرة تعميم فنية .
ثمة كتاب كبار نجد أن سيرهم لا تقل قيمة عن رواياتهم، مثلما فعل نيكوس كازانتزاكيس في (تقرير إلى غريكو )، فجمع بين قدرة روائية كبيرة و سيرة ذاتية نارية ، لأن نيكوس عاش حياة فكرية خصبة وتجربة اجتماعية ثرة (وطنية– صوفية)، فتبدو سيرته ورواياته مثل أساطير الإغريق مواطنيه. ويبدو لي هنا أن حياة الروائي غدت أكبر من رواياته التخيلية، فتغدو الحياة أكثر روعة وعمقاً من تلك، ربما بسبب طابع استثنائي فيها وامتلائها بالمغامرات والأحداث الجسام وبطريقة الكاتب الفذة في عرضها .
أما حين تكون حياة الروائي عادية مثل نجيب محفوظ فإنه لا يستطيع أن يكتبها إلا كظلال ونفحات كما فعل في (أصداء السيرة الذاتية).
✤ نهتم كثيراً بقراءة الرواية المترجمة، كما اهتم الغرب بقراءة الأدب العربي القديم ((ألف ليلة وليلة مثلاً))
ــ هل يقرأ الغرب النتاج الأدبي الحالي؟ وهل هناك معوقات لوصول الأدب العربي للغرب؟
❈ إن الغرب يقرأ بعض الأعمال العربية المشهورة وبالتالي لا يستطيع قراءة الرواية العربية الواسعة الضخمة. وهي عادة تــُترجم لعلاقات خاصة أو لدور البلد وأهميته في المنطقة، أي هي نتاج عوامل سياسية غالباً ، لكن الغربلة الفنية تستغرقُ قروناً، وهذا ما حدث حتى للرواية الغربية نفسها في بلدانها ، فلكي تصبح رواية (دون كيشوت) مَعلمَاً روائياً ريادياً احتاجت إلى ثلاثة قرون .
وغالباً ما تأخذ العوامل الثانوية دورها في الاتصال الثقافي بين الأمم، فنجد بعض الروايات تــُترجم بكثرة، نظراً لعدم إطلاع المترجمين على حشود الروايات العربية، أو لأنها تتكلم عن الغرب، ولا يحدث حتى في النقد العربي ذلك التمييز العميق، والنقاد والمترجمون مهتمون بعوامل الوطنية والصداقة والحزبية وغيرها من العوامل الجانبية في الأدب، ولكن الزمن ينفي ويغربل هذه العوامل، وتتوجه عمليات الأصطفاء التاريخي إلى ترشيح أعمال بعينها وتصعدُها عبر الأجيال .
نجد (والتر سكوت) الروائي البريطاني لم تكن روايته التاريخية تمثل في نظر معاصريه سوى مغامرات فجة ، لكن النقاد الكبار وجدوا فيها بعد حقبة طويلة أنها ذات سمات إبداعية عبقرية ! ( راجعي بهذا الصدد كتاب الرواية التاريخية لجورج لوكاش ) .
✤ ما تصورك الشخصي لكتابة الرواية اليوم ؟
❈ غدت الرواية بالنسبة لي أهم جانب كتابي، فهي تعيشُ في البؤرة، وحتى كتابة الأبحاث كانت غالباً للبحث عن جوانب جديدة تحفرُ في الرواية، فقد أردتُ أن أكتبَ روايات عن التاريخ العربي قبل عقد فرحتُ أدرس جوانب من التراث، جعلتني أصنع كتاباً حولها. وحين أنهيت هذا الكتاب المؤلف من أربعة أجزاء توجهت ثانية لتلك الروايات التاريخية ولكن الفرق كبير بين تخطيطات ما قبل الدراسة وما بعدها، فقد وقفتُ على قواعد من فهم موضوعي للأجواء الروائية، فكتبتُ بعدها عن الشهداء الكبار في الإسلام والذين يمثل عصرهم أكثر العصور دراماتيكية ، وعصر الانتقال من الحلم الجماعي إلى التفكك والمآسي ..
هكذا تغدو الرواية مدار الحياة الكتابية . .
✤ ماذا يعني لك كل :
- اليوم العالمي للشعر ؟
- تكريم أسرة الأدباء كل عام بعض أعضائها.
- تكريمك هذا العام.
- نتاج جيل الشباب في الأسرة
- القصة والرواية في البحرين
- لجؤك إلى الكتابة الفلسفية
- كلمة أخيرة توجه إلى أسرة الأدباء والكتاب .
❈ – اليوم العالمي للشعر هو تذكير بالجمال والفتنة والدهشة في زمن مضاد، يحاول تكريس القبح ، وهو نوع من المقاومة المتوهجة. . - هو احتفاء بالنتاج وليس اهتماماً شخصياً، لأن ما يهمنا هو تكريس البناء الثقافي الفاعل والمغير للحياة، ويغدو الاحتفاء بالنتاج خلق مشاركة جماهيرية وعمليات نقد وتحليل، وما يمكن أن يثري الحياة الأدبية عامة.
- كما قلت لكِ هي عملية اهتمام بالإنتاج الوطني وترسيخه ودعوة المنتجين الثقافيين للمزيد من العمل .
- نتاج جيل الشباب هو أعمال جديدة وبحث مختلف في زمن مختلف ، والخوف أن يكرر هذا الجيل الأشكال الخارجية للجيل السابق بدلاً من أن يبحث عن صوته الخاص ، ويحفر في واقعه الذي اختلف عن واقع الأجيال الماضية .
- القصة والرواية في البحرين في حالة إنتاج مستمرة ، وثمة نقلة نوعية فيها عن بلدان المنطقة الأخرى ، لأن قضايانا وصراعاتنا أكثر تبلوراً، وغدت عملية إصدار الرواية تتم على مستوى جيلين بل ربما ثلاثة ، مما يعبر عن تجاوز الرواية مرحلة التقطع والندرة وعدم وضوح السمات .
- هي كما قلتُ لك هي عملية حفر في جذور الواقع والثقافة ، وهذه ربما حتى تؤدي بالنقد للفلسفة كما اهتممت في كتابي الأخير (نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية) بجوانب الوعي الفلسفي لدى الروائي الراحل، دون أن تتحول الدراسة إلى بحث في المقولات فنحن كروائيين نركز على إبداع الصورة أكثر من البحث في المفاهيم المجردة.
ـــــــــــ
فاطمة المحسن هي كاتبة وناقدة عراقية. كانت عضوة في الحزب الشيوعي العراقي، وعملت محررة بجريدة طريق الشعب التابعة للحزب، واعتقلت أثناء حملات اضطهاد الشيوعيين في عهد صدام حسين، ثم هربت إلى إيران ثم أقامت في لبنان وسوري…
