أمين صالح: ملاحظات حول مجموعة : الفراشات

أمين صالح: ملاحظات حول مجموعة : الفراشات

هذه هي المجموعة الثانية للقاص أمين صالح الصادرة عن دار الغد بالبحرين، والتي تعتبر امتداداً وتعميقاً للخط الذي شقه لنفسه في ميدان القصة . اننا لن تعتبر هذا الامتداد تطوراً وقفزة إلى الأمام ، بل سنجد فيه استمراراً لأزمة هذا العالم الأدبي الفكرية والفنية .
إن إطلاق النعوت الفضفاضة والتعبيرات الشعرية والمصطلحات الغريبة غير المفهومة . لن تؤدي إلا إلى عزلة أكثر لهذا الأدب وتفاقم أكبر لموقفه الصعب، وعرقلة تطور الكاتب. علينا أن نتحاور كأصدقاء، لنكتشف مواقع ضعفنا ونساعد بعضنا البعض، في غيبة النقد العلمي . وهذا النقد ليس منافسية وصراعاً لتدمير الوحدة الأدبية، بل هو لتعميقها، واكتشاف مواقعنا على نحو أفضل وتوجيه كلماتنا للتأثير المشترك في الواقع.
سوف نناقش هذه المجموعة من زاويتين، الزاوية الأولى هي زاوية البناء ومدى قدرة الكاتب على خلق بناء قصصي متماسك. ولا يعني هنا أن الرؤية المتجسدة في هذه الأعمال ــ‏ سواء المتماسكة أم الضعيفة ــ إيجابية، فقط أننا بتركيزنا على هذا الجانب نستطلع جوانب التشكيل المختلفة حتى نعثر على جوانب الخلل التي تقودنا الى خلفية هذا التشكيل وأسباب جفافه وضعفه. الزاوية الثانية هي زاوية الرؤية أو تناقضها، هذه الرؤية التي تؤدي إلى التشكيل بهذه الصورة. أي أننا ننتقل من الشكل إلى المضمون ونرى علاقة التأثير بينهما.
بين التداعيات والقصة القصيرة:
العديد من قصص المجموعة عبارة عن صور متناثرة لم يستطع الكاتب أن يخلق المعيار الفني الذي يوحدها ويعطيها الدلالات المبتغاة. انها تداعيات ربما وحدتها أحاسيس ما، لكن لم تأخذ فرصة النضوج الكافية للتبلور في هيكل حدثي متناسق، فانطلقت الصور المقطوعة؛ والتعبيرات المباشرة في كل اتجاه.
أن التداعي والانطباعات حينما تتحول الى انطلاق عفوي، لا تضبطها الهندسة الفكرية يتبعثر المحور الذي يربط كل الجزئيات ويوحدها . ليست المسألة مسألة التخطيط والمنطق الحسابي، ولكن ذاك التفاعل الخلاق بين الوعي والعفوية، بين المنطق والتدفق.
سوف ننتقل مباشرة من النظرية الى التطبيق .
في (انفعالات طفل محاصر) نجد عشرات الصور المبعثرة والتداعيات لكن لا نجد هيكلا حدثياً نامياً .
في البدء تطالعنا صورة الراوي والفتاة التي تجلس قربه . ليس بينهما وبين البحر سوى جداد سميك . بينهما حب ولكنه حب خارج على القانون، وهو حب سخي، تلاحقه معاطف المخبرين و . . . و. . . يخرجان من المقهى، يستلهمان الماضي والمستقبل، وكانا مأخوذين بسحر العرائس، ولكن يعود الحصار فجأة ويعود الجدار السميك .
ثم ننتقل إلى صورة أخرى، لا تأتي كتوليفة وتركيب؛ بل كقطع في البناء. فثمة غرفة موصدة وخالية إلا من طائرات تقذف قنابلها في لحظات خاطفة، نجد عيناً في الأرض وأخرى في الرأس . الطفل المحاصر يحصي أصابعه فيجدها سبعة .
الصور الثانية جاءت ولم تحدث تركيباً بنيوياً، انفصلت عن الصورة الأخرى؛ وتأتي الصورة الثالثة أولا كأقوال تقريرية (أعشق الريح والخليج والوقت الآتي والرمل والبحر والمراكب)، تقريرية لأنها لم تتجسد تصويرياً، فنحن نبغي الخليج ولكن أين هو؟ وهذه الانفلاتات التقريرية تأتي لتزيد الفصل بين الصور، وليس لها من قيمة بنائية . والكاتب مولع بهذه الجمل غير القصصية وهي جزء من حالة عدم النضوج الفني للقصة.
ثم نرى امرأة أيضاً. تبقى بذات الحالة التجريدية الأولى . ( ساعدها ثمرة شهية لها طلعة بهية يعشقها كل الأطفال )، الكاتب لا يبني، يبقى بحالة التداعي الأولى، لا يطور من هذه المرأة، لا يجسدها بشكل خاص وحميمي، لكي يحولها من أوصاف عامة تنطبق على أشياء كثيرة إلى إنسان ذي ملامح . اللغة الناعمة الملمس المنتقاة، تقيده . لا ينتقل إلى الإنسان، إلى تركيب صورة تكشف أعماقه .
يقفز إلى الملهى الليلي ويدع تقريريته تتحدث . فهو يمقت الرقص الشرقي في العلب الليلية وامتهان الأجساد ويكره مدير الملهى واللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف . لقد جاءت هذه الصورة أيضاً بلا توليف، فلا تطور جانباً حدثياً سابقاً . بل تنقلنا إلى أشخاص جداد وموقع جديد مضيعة الفرصة للتركيز على الأشخاص السابقين . إن هذا الانتقال لا يضيف فنياً أي شيء . ويمكن الانتقال أيضاً إلى أصحاب المزارع والقصور والقضاة وغيرهم ولكن ما فائدة ذلك بنائياً؟
النقلة الأخرى الى شخصية ( أبي ذر). ودائماً تكون الأوصاف العامة ذات الرنين الشعري، كدقات الطبل، هي المدخل إلى الشخصية أو الحدث . أنه لا يدخل لها ببساطة، لأنه يكره أن ينزل إلى الملموس والعادي، فلغته يجت أن تكون محلقة، مجردة، فهي عبء يعانيه، وليست أداة تساعده لخلق الشخصيات والأفكار .
أبوذر يرسم وطناً دامعاً ويكاتب عالماً مجرداً هو الوطن والأمهات . إن هذه المكاتبة لا قيمة لها، تبقى شعاراً، لأنه لا بد من أم ما، خاصة؛ تتم إليها المكاتية. عندئذ مع وجه ذي قسمات معينة تتشكل علاقة حدثية قصصية، والعلاقة لها شروط أيضاً . أهم هذه الشروط صلتها بالصور السابقة وتناميها في الصور اللاحقة. فالمسألة ليست اعتباطية فثمة قوانين للأبداع.
وأبوذر يطبع قبلة على جبين فتاة كانت تزوده خلسة . ولكنها تختفي . انه يصورها كعادته مركزاً على تعبير (المطر المالح) لا الانسان الرائع .
أبوذر يدخل هكذا بلا مقدمات . الصور الأولى لم تشيده، عبارة عن كلمات لم تتآزر وتتشكل في بناء عضوي . والإحساس بالاضطهاد أو الحصار لا يشكل هيكلا . فكل صورة لها قيمة في ذاتها، وليس في العلاقة بينها، والعيب هو في هذه الصورة لأنها مبنية بشكل «ميتافيزيقي»، أعني أنها منفصلة وساكنة، وليست جدلية؛ مرتبطة ببعضها البعض، مؤثرة ومتأثرة، خالقة بذلك لوحة عامة.
وفي المقطع الخامس نقرأ مانشيتات إخبارية لا علاقة لها بالصور والبناء السابق . إن الحديث عن الشهداء والاعتقال لا يكفي ليشكل قصة فما بالك بقصة ثورية، في ضوء عدم الاهتمام بالتكنيك القصصي أولا ؟
وتكملة لهذا المقطع نعثر على صورة . يصادف الراوي قاطع طريق . القاطع يقدم أكلا قليلا، وكان كلاهما جائعين؛ فلم يشبعا . تحدث عن نفسه فأوضح أنه يحارب عصابه احتكرت مياه الشرب عن الأهالي، فيسلب مواشيها وعربات المياه، ثم يوزعها على الناس . وهو منكر لذاته أيضاً، فيراوغ عن قول اسمه .
هذه صورة لا علاقة لها بالحدث أيضاً . وسندرس في جانب آخر دلالة قاطع الطريق هذا.
أما في المقطع السادس فيخرج الكاتب عن الموضوع تماماً . يصور لنا حكاية رجل يبيع ذراعه الوحيدة بعشرة فروش . ان من الممكن كتابة عشرات المقاطع مثل هذه ولكن ما وظيفتها ؟ ما الإضافات التي تقدمها للبناء ؟
وفي المقطع السابع نقرأ نداءات متكررة الى المرأة المطهمة بالنار والماء . وهي بلا قيمة فنية، وتبدأ الصورة حين تزمجر الذئاب في وجه أبي ذر، وهو ممدد ومقيد على الأرض . الدماء تغادر جسمة والذئاب تلحس ما تبقى .
ولا يطور هذه الصورة بل ينطلق في تداعياته وانثيالاته، يرتفع ويتوغل في الوقت، ويمضي معه .
وفي المقطع الثامن استمرار لهذه التداعيات . الجمل الناعمة، الشاعرية، لكن قصصياً، الفارغة .
وفي المقطع الثامن يصل أبوذر إلى موقع لا ماء فيه ولا شجر . ولكن قبل أن يكمل أو ينشىء الصورة يزوغ إلى التداعيات والاقتباسات ثانية . يكتب عن سفر الرؤيا . ولا يتم مسيرة «بطله».
نرى أن الكاتب لا يتحول إلى قصاص، يمتلك كيفية البناء القصصي، فهو لم يقم بإنضاج الفكرة/الصورة لكي تصل الى معمار محدد المعالم، فقبل أن تتشكل وتكون بناءها، أجهضها وأخرجها الى «النور» .
ولأن البناء غير مكتمل تنهمر العبارات المباشرة وترفع اللافتات، فلم تنصهر هذه الشعارات في لحمة الحدث، بل بقيت كدليل على التسرع وعدم إتقان التكنيك.
وجانب آخر من عدم الاكتمال هذا نجده كما قلنا في عزل الصور عن بعضها البعض، فالنظرة التركيبية هي وحدها التي ستحيل هذه الشظايا إلى منظومة . أن (شخصية) أبي ذر كان يمكن أن تتحول إلى محور، فتتجمع حولها كل الجزئيات غير المنجذبة إلى مركز .
إن الكاتب أضاع الشخصية من التاريخ والواقع المعاصر . لأنه بكل بساطة لم يرسم شخصية . فهو لم يجهد نفسه تكنيكياً من أجل خلق هذه الشخصية، واستساغ لعبة التداعيات والأجزاء المبعثرة والجمل الشاعرية؛ ونسي واجبه كخالق للشخصية، فتلاشت الشخصية والقصة والشعر معاً .
اللغة الجميلة البعيدة عن اليومي لها دور في الاتجاه إلى التجريد، فالكلمات تتدافع بقانونها المستقل غير موظفة لبناء الحدث، وحينئذ تفرض شروطها عليه . هي تبقى كغاية؛ بدلا من أن يكون الحفاظ على جمالها يأتي بالدرجة الأولى من خلال دورها ووظيفتها في البناء .
ــ (العواء) أيضاً عجزت عن التشكل كقصة . ثمة بطل يوحد الصور المبعثرة، وهو الراوي، وهذا التوحيد ليس المعمار المطلوب، فهذا الراوي لا يختلف عن صوت المؤلف . فكأن الكاتب يفكر ويحلم و يمشي .
نرى أولا صورة المقهى، يبدأ الكاتب كالعادة بعبارات كبيرة، فلا يخلق حدثاً منذ أول كلمة، بل يفتتح المشهد بأبهة الكلمات الفخمة ( توقفنا عند حدود الكلمات المنطوقة والمهربة). ( لنكتشف لغة أخرى بلون أحداق الشمس) .
رواد المقهى أجادوا لغة الكلام فصمتوا . لذا يقرأ أحدهم ملصقاً سرياً . ثم يقفز كهل ويقوم برقصة عنيفة تمثل بدوياً أنهكه البحث عن خيمة وعشب .
خيبة الراوي تتجلى في الشارع البارد أيضاً . يطارده عواء فيفزع ويجري. تحتويه الغرف الخالية . ليس فيها سوى ذكرى حبيبة، وهي ليست حبيبة حقيقية بل مجرد نداءات تطلق الى شيء غير محدد بالمرة . فالمرأة لدى الكاتب ــ عبارة جميلة وليست انساناً ــ عنصر المرأة لا يتضافر مع الصورة السابقة لكي تنمو حدثياً، بل هي تداعيات يجمعها إحساس بالضجر والخواء .
الصورة الأخرى التالية تشكل نمواً؛ وهي صورة الصديق الذي قرأ الملصق وهو ملقى في سرداب قذر تمزقه الطعنات . وهذا النمو تجسيد لبشاعة الواقع المحيط بالبطل وليس أكثر من ذلك . بمعنى أنه لا يتشكل مع المرأة والبطل ليشكل علاقة قصصية . وبدلا من هذا التشكيل ينطلق في حديث مباشر لغيمة «ثورية». حديث غير عضوي، مجرد استطراد للملصق .
و بشكل مفاجئ يدخل الجنود أيضاً مسرح التداعي . تحدث مجزرة فيأتي صوت من بعيد هو العواء . لم يكن تردده سابقاً إلا إيذاناً بمجيئه هذه المرة ولكن بشكله المجسم في هيئة جنود وعلى شكل أسلحة . وهذا الصوت ليس وحده، فثمة صوت آخر ؛ هو الأغنية . اللغة المضادة للعنف .
يرقد الراوي، هناك أصابع خشنة تتجول في جسده وجروحه .
مقطع الحوار التالي يدل على تغير موقف الراوي، على انتقاله إلى الغناء، ولكن بغموض؛ فليس ثمة تغلغل في نفسه؛ أو كشف للابن الذي يخاطبه، عبارات مبهمة لا تروي شيئاً .
أما النداء الأخير الى المرأة/العبارة فيكشف موت الراوية أو استشهاده، وذلك سيان .
إن هذه الصورة الباهتة، التي تفتقد إلى الحرارة العاطفية والتشكيل المتفجر حيوية، لا تشكل قصة . إن الصراع بين هؤلاء الأشباح والمضطهدين نراه في قصص عديدة، ولكنه ليس مشجباً يعلق عليه الكاتب كسله الفني، لا بد من تشكيل بنية ذات علاقة عميقة، تميز هذه القصة عن تلك، تخلق أبطالا لهم شيء محدد خصوصي، يعطيهم نكهة، ويعطي علاقتهم مناخاً متميزاً .
لكن الكاتب ينثر تداعياته، مقهى، امرأة، غيمة، جنود، منزل، غير قادر على خلق علاقة حدثية بين هذه العناصر . مضيفاً إلى هذا التبعثر جواً مجرداً يعمق هذا التبعثر.
ــ قصة (ولم ينته هذا الحلم البلوري) تختلف بعض الشيء عن المحاولتين السابقتين؛ فالمجموعة المتناثرة من الصور نجد أنها تتألف وتتضافر حول البطل وهو الرجل البرجوازي وخادمته . هذا الرجل وهذه المرأة يؤلفان نقيضين، أي قطبين متنافرين في الصراع الاجتماعي . ومن خلال «شخصيتيهما» ومن خلال الصراع بينهما ينمو المحور ويتشكل .
هو رجل مذعور ووحيد في منزله . وهي امرأة تعمل وتقرأ . في انطلاقة المذعور من البيت يقابل (صديقه) وزوجته. وحين يشتهي المرأة لا يتردد بينما يقف الصديق مغطياً عينيه المفتوحتين . ولكن حين يشتهى الخادمة ترفض وتقاوم.
هذه هي العلاقة المحورية لدينا، الرجل رغم كثرة المقاطع عنه ظل غريباً، بعيداً مجرد رمز ك/ س/ مثلا، وهو رجل بملامح غربية . فهو لم يتشكل بمناخنا وتربتنا الوطنية، تشكل من قراءات القاص، ليس كنتاج للواقع المحلي، والخادمة أيضاً هي رمز لا شك أنها تتمتع بمزية المقاومة، ولكن لم تخرج عن كونها شيئاً مجرداً، وليست إنسانة، فنبع البطلين واحد.
لن نناقش الأسباب الفكرية وراء هذه الظاهرة الآن، بل سنقتصر على رؤية التشكيل . وبهذا الصدد نقول: إن العلاقة الرئيسية لم يمعمقها الكاتب نفسياً واجتماعياً. لم يركز على ذات البطل لينتزع ملامحها وخصائصها الجوهرية، وليكشف من ثم أساسها الاجتماعي؛ ليتشكل البطل كشخصية حيه ــ وكذلك البطلة . إن الكاتب لا يزال يبعثر أجزاء القصة، غير قادر على لحم الأجزاء بمهارة . وبدلا من إتقان التكنيك يلخص بعض قراءاته وينثرها في القصة . فهنا مقتطع من سيناريو وهناك مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي وأيضاً مشهد من فيلم ! هذه «التوظيفات» لا قيمة لها على الإطلاق . لأنها لا تضيف شيئاً لتعميق رؤيتنا للشخصية أو لتطور الحدث بالإضافة إلى أن ثمة صوراً أخرى لا تقوم بهذه الوظيفة أيضاً، رغم صلتها بالحدث . كأمثلة : منظر المصنع؛ المحكمة، الجنود . هذه كلها تدلل على أن الكاتب لا يختار الزوايا الهامة والدقيقة لاكتشاف شخصياته، لأن رؤيته لا تتركز على (الإنسان) بالدرجة الأولى .
ــ (ايزادورا . . دعوة للمشاركة)، هذه ليست قصة، ثمة امرأة راقصة ذات اسم معروف، لكننا نجهلها في الحقيقة. لم يصهرها القاص في حدث ساخن؛ فنرى أعماقها وطبقتها الاجتماعية وصراعها. الصورة عبارة عن منظرين صغيرين لا أبعاد لهما. الرجل الغربي البرجوازي في القصة السابقة تحل مكانه امرأة غربية. وليس ثمة صدى لواقعنا، فنحن ضيوف غرباء على المنظر .
المرأة لا تفعل شيئاً سوى أن تتعرى وترقص تحت رذاذ المطر، ثم يلقى القبض عليها قبل أن يحضنها حبيبها.
هذه الصورة قطعت إلى ثلاثة مشاهد، وهناك أيضاً استشهاد بأحد أقوال راقصة عاصرت ايزادورا ولحسن الحظ وضع الاستشهاد خارج القصة هذه المرة . تقطيع الصورة الصغيرة الى ثلاثة مشاهد ترينا سيطرة الشكل على وعي الكاتب . الفكرة ظلت باهتة، لكن الشكل ظل يتمتع بالاهتمام الأول .
ــ يصل الكاتب في العديد من القصص إلى التماسك الشكلي، فتتشكل عضوية موحدة، وتتآزر العناصر المختلفة لتبلور فكرة .
في (النافذة) تبقى ملامح الصراع ذاتها. الخادمة هي المرأة المضطهدة التي تعاني يومياً شراسة السيد ووقاحته. تفتح النافذة فيستقبلها الهواء ويدعوها للطيران . والطفل يضحك أمامها فتحاول أن تقلده فلا تستطيع، والنهر يدعوها لتتعلم الكفاح فلا تقدر أن تفعل شيئاً، ويبقى السيد سيداً وتبقى الخادمة عبدة . . وتغلق النافذة.
هنا ليس ثمة شيء زائد، كافة العناصر البشرية والطبيعية تؤدي دورها في انسجام عضوي، ولكن هناك أشياء ناقصة . يتضح في القصة دور العوامل الطبيعية كالهواء والنهر في إعطاء المرأة صورة أخرى لوضعها من أجل أن تغيره . أيضاً (الطفل) وهو عنصر رومانسي في أدب أمين، يومئ لها نحو الطريق ولكنها عاجزة عن الضحك والسير . إن هذه العوامل تتشكل كرموز، وليس كعلاقات بشرية مع المرأة . القاص يقطع صلتها بالناس، بالحياة الاجتماعية الغنية، ويترك لها علاقة شاحبة مجردة؛ وعليها أن تثور من خلالها. أن اضاءة تاريخها بشكل ومضات سريعة، ووضعها في إطارها الاجتماعي، قد يكشف محدودية قدراتها للتطور؛ وقد يفتح لها أفاقاً جديدة .
القاص بوضعه «البشر» في ثلاجات يريدهم أن يزخروا بالنار . فقط في حالة ذوبان الجليد واكتشاف الكاتب للمناطق الحارة في منطقتنا، سوف تتشكل نفسية حية لهؤلاء الشخصيات المطمورة بذاك التشكيل المدمر لقدراتهم وإمكاناتهم .
ــ ملاحظات صغيرة :
نستطيع أن نحدد ملاحظات أخرى على التشكيل نكمل بها الصورة :
أولا : هناك تباين بين عنصرين مختلفين وهما عنصرا التجريد والمباشرة . فبقطع جذور الشخصيات عن واقعها الملموس، وافراغها من محتواها الاجتماعي، يتضاءل التوجه الثوري للعمل الأدبي وتضعف مهمته التحريضية، فتظهر العبارات المباشرة تعوضاً عن نقص في البناء والتوصيل.
ثانياً : الاهتمام بالشعر والسينما يأتي ضد القصة، فهذان الفنان لا يندغمان في التكنيك القصصي، بل يظلان طافحين فوق السطح، ولهذا يكون لهما أثر مدمر على التشكيل القصصي، أن أي وسائل تستخدم يجب أن تساعد الشخصية والحدث في التكون والتطور وأن تذوب في الهيكل العام للقصة لا أن تكون مفردات طافية على وجه القصة .
ثالثاً : ثمة تناقض في هذه القصص، وهو التناقض بين «الحالة الشعرية» والوعي «الموضوعي» الذي تتطلبه الكتابة القصصية، فتلك الحالة تعطي غنائية ونطلاقاً غير مخطط الصور؛ وهذا الوعي يتطلب تخطيطاً وبناء فكرياً لخلق شخصيات في حركة وفعل . والقاص حينما يثبت قدماً في القصة وقدماً أخرى في الشعر تختلط الحالتين في عمله، فلا يكون قصة أو قصيدة .
رابعاً : الكاتب في محاولته للوصول إلى العام والجوهري يخفق تماماً، لأنه يضع طريق الوصول اليه دون المرور بالملموس والثانوي .
إن تصوير الحدث والشخصية بعمومية وإطلاق يؤدي إلى عدم واقعيتها، أن الواقعية تتطلب مزجاً بين الملموس والمجرد، بين الثانوي والجوهري، وبدون هذا المزج نتحول الى مدرسة أخرى .
ــ المناخ الغربي :
قاد تجريد الشخصيات والأحداث من واقعها المحلي والعربي، الكاتب إلى سيطرة أجواء قراءاته ومشاهداته لنتاج الثقافة الغربية . كان التصور السابق أن القاص بقطع الجذور الاجتماعية والوطنية لكائناته الفنية انه يجعلها مطلقة، مجردة، غير محددة الجهات، ولكن اتضح أن ثمة واقعاً آخر يجذبها ويجعلها تدور في فلكه، فغدت هذه الكائنات تعيش في أجواء غربية . فانقطعت عن واقعها الذي تستمد منه الماء والضوء .
ستتناول عناصر مختلفة لرؤية هذا المناخ .
ــ (هنالك امرأة تطل من الشرفة وترمق البحارة الذين يتزاحمون داخل وخارج الحانة . . ص 5)
ــ (. . ومدير الملهى يفتح زجاجة الشمبانيا في تخب زوجته التي تعاقر اللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف جهراً . ص 13).
ــ كان بضعة رجال يرتدون ملابس عسكرية غريبة؛ منهمكين في صنع صليب خشبي ص 33).
ــ ( الغرفة خالية ، بدون أثاث أو لوحات عصرية أو تماثيل افريقية ص 42).
ــ (عارية ورذاذ المطر يداعبها ويعانقها).
ــ ( ضباب شفاف يدور حولي . امرأة بيضاء قادمة نحوي . ص 50).
ليست المسألة مسألة كلمات مثل «الحانة»، «الصليب» ، «التماثيل الافريقية» فحسب، ولكنه جو شامل يغطي معظم مساحة المجموعة . المرأة في قصة «الفراشات» تظل بلا نكهة شعبية، فهي ترمق بحارة في حانة ذات مواصفات غربية . تظل المرأة باهتة وغريبة، ليس لأنه مسخ شخصيتها فحسب، بل لأنه وضعها في مناخ غير مناخها . لم تلتهب بنار أرضنا، رغم أن زوجها سجين، ظلت في غرفتها الباردة وشرفتها البعيدة ولم تر حاراتنا وحاناتنا . هذا الجو الناعم الغربي جعلها غير واقعية فماتت .
البطل البرجوازي في (ولم ينته هذا الحلم البلوري) هو من قراءات القاص وتأثراته بالثقافة الغربية، فهذه الشخصية لا يجمعها جامع باناسنا، حيث أن الكاتب شكلها في جو غربي صرف . علاقته بالخادمة، واقع السهرة، لقطة الفيلم الفرنسي، مضاجعته للزوجة أمام زوجها، منظر المحكمة ووجود عنصر المحلفين، مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي . هذه العناصر المتعددة «تغرب» الموضوع والحدث . إضافة الى عنصر التجريد المتفاعل معها، فهذا كله يساهم في إخراج القصة من التربة المحلية .
مناخ القصص يميل عادة إلى البرودة، والمطر ليس قليلا؛ أما الصيف والحرارة الشديدة ــ وهي السمة الغالبة في مناخنا ــ فقلما نعثر لها على أثر .
والشخصيات هي مثل و«تجنسكي» و«ايزادورا» حيث البروز الأكثر وضوحاً لسيطرة القراءة لا الواقع، وسيطرة موضوعات لا تمثل هاجساً لإنساننا . تتلاشى ملامح الخليج بتراثه ورجاله ونسائه ونضاله وأجوائه، لا أثر للزنج والغواصين وعمال البترول . بل هي وجوه شاحبة وخطوط مجردة وأجواء غربية .
ــ الموقف المأزوم :
أن تأثر الكاتب بالثقافة الغربية ليس الا تأثراً بمواقف معينة في هذه الثقافة، وهي تلك المواقف المأزومة ذات التوجه البرجوازي والبرجوازي الصغير .
في (نجنسكي . . حنجرة الرعد) نكتشف بعض جوانب هذا الوقف .
نجنسكي يرقص رقصة الحرب . يمثلها بحركة جسده . اللغة الشفافة تمثل الحركة الخارجية وسطح الموقف. نجنسكي يركض وينزف ملحاً . يغادر نجنسكي خندقاً ‏ــ قبراً إلى خندق ‏ــ‏ قبر آخر . ثمة جنود وضباط يخطبون بحماس وقتلى .
القاص صور ساحة حرب، ولكن لم يتغلغل إلى أية أبعاد اجتماعية وراءها. فبالنسبة إليه يقف المعتدي والمعتدى عليه على صعيد واحد . المناضل كالفاشي، لا فرق، هي مجرد حرب لا أبعاد لها . الراقص، والكاتب؛ ضد هذه المجزرة ولكن من سببها ؟ وما هي أسبابها ؟ أنه لا يجيب، فقط يتعرى، متخلياً عن توجيه الاتهام الى عدو محدد ، متجهاً الى لعن الزيف ومن أجل البراءة . هذا الموقف الهروبي يتستر بالمجردات، فيبدأ درجة درجة صاعداً نحو الجنون والانفصال عن الواقع والبشر .
تجاه الحرب يرقص عارياً، وتجاه متعهد حفلاته يغمغم في ذاته . ليس لديه موقف حقيقي تجاه الإثنين، وفي هذا الفراغ المرعب وانعدام الوعي للنضال ضد الشرور الاجتماعية وخالقيها يفتح له الكاتب باباً عريضاً وهو باب الصوفية تجليه الأول من خلال الرعد الذي يبحث عن حنجرة له . أنه لا يصل إلى حالة فقدان العقل حتى يتحد في هذه اللحظة، بل يستمر في تحديه للناس . الصالة غاصة بالجمهور وهو واقف كالتمثال لمدة نصف ساعة . ثم أخذ ينزع ملابسه قطعة قطعة. الجمهور ينسحب . زوجته تبكي، فلا يجد الا الطفلة يراقصها. يتمنى أن يظل الأطفال أطفالا حتى الممات، معبراً بهذا عن فشله وأزمة طريقه .
ويتعمق بهذا طريق الصوفية والجنون . ولا يصور القاص هذا الطريق كأزمة بل كتطور خطير وعملقة للبطل . أن الله نار في رأسه !!
نبذه الناس فانطلق في الهواء والفراغ فاحترق والتقى بالرعد حنجرته . الكاتب حول الأزمة إلى موقف عظيم والانهيار الى تألق،‏ والهروب الى بطولة .
وعوضاً عن كشف موقف نجنسكي وجذوره الاجتماعية الضاربة في تربة طبقية قلقة، يقوم بوضع أكاليل الغار على هذا الانحدار .
لغة الشعر المستخدمة والتمثيل الصامت والعناوين الجانبية والأقواس كلها عجزت أن تحول هذه الصور الي عمل حي رائع . لأنها ارتكزت على موقف طمس القضايا الحقيقية لتمجيد بطل فردي لا يمتلك أياً من مميزات البطولة .
ولكن ليس هذا وحده مما يشكل موقف الكاتب فهناك جوانب أخرى فيه . في قصة (انفعالات طفل محاصر) رأينا وجود قاطع طريق . انه ليس قاطع طريق حقيقة بل هو شخص متمرد على امتيازات الأغنياء واستغلالهم . يعطي البطل جزءاً من طعامه القليل ويكشف له عن مهنته . وهي أنه يحارب عصابات من الأغنياء احتكرت مياه الشرب عن الأهالي فيسلب مواشيها وعرباتها المحملة بالماء ثم يقوم بتوزيعها على الأهالي . وحين سأله عن اسمه راوغ وتحدث عن الحصاد وأغاني الراعيات ورؤيا الأنبياء.
هذه «الشخصية» تمثل إضافات أخرى إلى نجنسكي، فإذا كان ذاك في موقف غائم ضد المعسكرين المتصارعين دون وعي عميق، فإن هذا يقف بشكل أكثر وضوحاً وتطوراً ولكن بطريقة تمردية وفردية . وتختلط في وعيه الاحلام الجميلة والمشاعر الدينية . وهو بهذا نموذج آخر لذات التركيبة الاجتماعية .
في (هذا فرحي . . اغتالوه وهو طائر) نجد صوراً عديدة وكلاماً إنشائياً ولكن لا نعثر على قصة، البطل يحلم وهو في المهد بأنه طائر يقطف نهود جنيات البحر؛ ولكن الواقع يؤكد لغة أخرى، فبين المقهى والمقهى قتيل جائع؛ ومقصلة تمضغ رأس طفلة . انه شخص مأزوم، نفسيته تضطرب بين الرفض والاستسلام . والكاتب لا يصور هذه الأزمة ويبينها في حدث متكامل بل هو كالبطل لا يستطيع أن ينضج أزمة بطله، ويعرضها من خلال معادل ما، بل يلقيها وهي في حالة الاجهاض هذه .
وتتحول هذه الأزمة في كلمات خاطفة إلى صرخات ومحاولات للقضاء على الصحراء المحتضنة للأعداء والسجون والكلاب ومؤسسات الإبادة . الآن يعود حاملا بندقيته مع رفاقه ليعلن الغزو . في لحظة أخرى نراه يبحث عن لبن الأم . لم يجد سوى ملصقات واعلانات . الأم ، المرأة ، كانت مسجونة في قفص وأحياناً يعرضونها في السيرك وفي البرلمانات . قال الصديق : العنف باب الأبجدية . تبقى المسافة بينه بين الصحراء وتغدو الأم قتيلة .
إذا كان نجنسكي ضد الحروب بشكل مطلق . فهذا البطل في قصتنا هذه مع العنف بشكل مطلق، انه ينزل إلى المدينة مع رفاقه معلنين بدء الغزو ولكن لا يتم من ذلك شيء . ليس ثمة عمل صغير يعملة، في ضوء هذا الحصار الشكلي الذي قيد فيه .
إن هذا التناقض في الموقف بسبب اضطراب الرؤية وانعدام الانسجام في أساسها الاجتماعي . وهذا الاضطراب لا نلاحظه فقط في الرؤية الفكرية بل وفي التشكيل الفني أيضاً . حيث الاضطراب في البناء وبروز الخلفية السينمائية والشكلية .
الاضطراب في المضمون يقود إلى الاضطراب في الشكل . فالقاص بملاحقته البعيدة لواقع غير واقعه يشحب المضمون الفكري لعمله، فيصاب بالجفاف، فلا يبقى سوى ملاحقة الأشكال الجديدة، مع الرغبة الدائمة غير المجدية لتحطيم استقلالية الأنواع الأدبية، هذا كله يؤدي إلى أزمة العمل ككل .
الرجوع الى الينابيع؛ الى الوطن والناس، برؤية تبحث عن علاقاته وبشره، مع الاستفادة من التكنيك الجديد للتغلغل أكثر في الحياة والارتباط أكثر بصناع الحياة الحقيقيين لا الوهميين، هذه فحسب تضع الشروط الأساسية لحل التناقض بين الشكل والمضمون في أدب القاص .
ــ نلاحظ الأثر السيء للأسلوب في قصة (ارتجافات عناقيد الماء في الهواء)، القصة متماسكة، صورها تخلق أثراً هاماً موحداً؛ والكاتب يوظف حادثة أسماء وابنها عبدالله بن الزبير التاريخية ليعطيها دلالات جديدة معاصرة ومضيئة .
يقترب من خلق «أسماء» كشخصية حية ولكنه يتوقف في منتصف الطريق، فالأسلوب ببلاغته الشعرية يجعله على سطح الشخصية والموقف، تجذبه الصور الجميلة فتتولد من البحر الجنيات والزنابق بينما لا تلد الشخصية شيئاً . الصور لم تساهم في التغلغل في الذات، وهنا يقيد الشكل المضمون ويكبحه .
الكاتب يبتعد في أحيان عديدة عن التجريدات فيصور أسماء كامرأة عادية تنشر الغسيل وتشتري الخبز وعبدالله كعامل يضرب مع المضربين . وللأسف فهذا الصعود الحقيقي إلى الشخصية يضيع في غمرة عبادة الجملة ذات الرنين الموسيقي، وبسبب التوجه المباشر أيضاً. أخذنا مونولوج عبدالله تحت سقف الحانة كمثال، فماذا سنجد ؟
(نخب الانتفاضة المطعونة . في الظهر، نخب النتائج، نخب الشواطئ ، التي استهلكت بكارتها فعربدت ثم نامت مفتوحة الساقين، أضحت البنادق خنادق وفنادق نعاقر فيها خيبتنا ونضحك ملء أفواهنا رمل …).
إن هذا ليس بمونولوج فهو تعبيرات عامة واضحة ليس فيها من صور البطل الشخصية وذكرياته وتداعياته شيئاً، فيها الصدى الجميل وفيها الطرح المباشر رغم أنه لا علاقة له بالحدث . فالقضية قضية اضراب فاشل وليست انتفاضة مطعونة في الظهر . فأين هذه الانتفاضة في القصة؟ ومن طعنها ؟
بدلا من مسك الخيوط الفنية و تنمية الشخصية بأعطاء لمحات نفسية تحولها الى لحم ودم ينجرف الكاتب مع شلال الخطابة فيأسره التدفق اللغوي فيضعف التغلغل في الشخصية والواقع بالتالي .
يأخذنا للتفاعل المتبادل بين الشكل والمضمون، نرى شحوب هدف العمل الأدبي، نتيجة التجريد و«التغريب»، ولهذا تتركز اهتمامات الكاتب في تطوير الشكل، وهذا التطوير نتاج الثقافة الغربية وفنونها. وبالأخص الفرنسية، ولكن القاص في محاولاته للوصول الى مضمون أعمق، وفي لحظات اقترابه من واقعنا، يكبح الشكل الذي اعتاد عليه هذا التطور .
وهنا ضرورة وجود حلقة «كسر» لهذا الشكل . ولكن ذلك يتطلب تعميقاً للنظرة وتغييراً لاهتمامات عديدة . يتطلب عناية بالتكنيك القصصي، وكسر الجو الغربي . هذا يعني تغلغلا في الواقع المحلي، والدخول الى تاريخ المنطقة وتراثها وحكاياتها الخ . .
ان مشاكل القصة عند أمين هي ذاتها مشاكل القصة العراقية في الستينات. يقول برهان الخطيب في مقالته (الاتجاه الواقعي في القصة العراقية القصيرة) «كثير من قصاصي الستينات كان يكتب بهذه الطريقة الحرة، وهذا الأسلوب كما نرى نموذج لخضوع الكاتب لمؤثرات خارجة عن عمله، فإن مسايرة الإيقاع اللفظي هنا لا تقود إلا إلى الابتعاد عن خط الموضوعة.» _ راجع الأقلام ؛ العدد 12، 1980.
ليس هذا فحسب بل غلبة الفكرة المنتشرة في الأدب الفرنسي المعاصر وهي فكرة اتحاد النثر بالشعر، والاتجاه نحو صهر كافة الأنواع الأدبية في كل واحد، نجد صداها لدى أمين .
أن الأنواع الأدبية من الممكن أن تستفيد من بعضها البعض أما الصهر فغير ممكن ومدمر لكل الأنواع الأدبية .
ــ الحصيلة :
بعد جولتنا في هذه المجموعة ما في خلاصة الموضوع ؟
أولا ــ‏ نرى أن العديد من القصص ما هي إلا محاولات لم تتشكل في هيكل ما . وهذا التبعثر في الصور نجده لسببين . الأول: الكاتب لم يقم بإنضاج فكرته الأولية بحيث ترسم من خلال تقنية القصة فحدثت لها عملية إجهاض . الثاني: وقوف هذه المحاولات بين الغنائية والتشكيل الموضوعي القصصي، بسبب أفكار الكاتب المتأثرة بتيارات معينة في الأدب الفرنسي .
ثانياً ــ‏ في حالة تشكيل القصة فنياً نجد تحول شخصياتها إلى خطوط مجردة تعيش في بيئة غير بيئتنا وتتنفس هواء غير هوائنا . الكاتب لا تملكه رغبة ملحة في تجسيد تجربة شعبه وأرضه .
ثالثاً ــ ‏ بهذا يقف الكاتب على العكس من المدارس الواقعية بمختلف تشكيلاتها، فهو لا يقوم باكتشاف واقعه وقوانين تطور هذا الواقع، بل ينفصل عنه، فلا نجد «الإنسان» في قصصه لأنه ينطلق من التعالي على الواقع الذي يشكله .
رابعاً ــ‏ تعويضاً عن افتقار المضمون إلى حرارة الواقع والحياة تتركز ابداعات القاص في استخدام وسائل تكنيكية عديدة، ومعظم هذه الاستخدامات تأتي غير مصهورة في البنية القصصية .
خامساً ‏ــ أن ثمة تبعية في الموقف من الثقافة الغربية وعالم الكاتب الفني يحتاج إلى موقف نقدي تجاه هذه الثقافة كشرط أساسي لتطوره . وما دامت هذه التبعية ملازمة له فسيكون بعيداً عن الواقعية، سواء كانت نقدية أم اشتراكية، قديمة أم حديثة، لأن الواقعية تعني اكتشاف القوانين الموضوعية لتطور بلده وشعبه، وليس في نقل النتاج الثقافي الغربي وشكليته المتغيرة دوماً تعبيراً عن أزمة مغايرة لواقعنا وتطورنا وثقافتنا.
هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق.

أضف تعليق