هو مؤسس الفكر البعثي الذي كان التتويج للأفكار القومية المناطقية في الهلال الخصيب وتحويلها إلى رؤية قومية عربية، وفي البيان التأسيسي لحزب البعث سنة ١٩٤7 يجري القول العفلقي بالصورة التالية:
«حيث شدد على تميز الأمة العربية وقدرتها على الخلق والتجدد والإبداع، معتبراً أن الرسالة القومية لهذه الأمة ليست شيئاً جديداً، بل هى (بنت تاريخ طويل) ذلك أن هذه الأمة التي أفصحت عن نفسها في الماضي.. (إفصاحاً متعدداً متنوعاً… في تشريع حمورابي وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الأزمان، ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف..»، (عن رهانات النهضة، مصدر سابق، ص 210).
يقوم خطابُ البعث على أشكال فكرية تعميمية تقفز فوق التكوينات الاجتماعية العربية وفوق العصور والمراحل ، وتُسقط وعي بعض النخبويين القوميين المعاصرين على الظروف الموضوعية السابقة المختلفة، فالقبائل البابلية المتحضرة الوثنية التي تعيش في العصر العبودي تابعة لحكام آلهة، هي نفسها القبائل العربية الجاهلية المفككة المتناحرة في عالمها ما قبل الحضارة، ويتمظهر وجودها القومي العروبي في قوانين حمورابي وشعر الجاهلية!
إن التكوين القومي هنا هو نفسه الروح الغيبية المنزلة لدى الحصري والأرسوزي التي لا تعرف التضاريس الصحراوية أو نمو المدن، بل تظهر كالسحر في كل مظهر يريد المثقف القومي المثالي أن يسقطه على الأشياء والتاريخ ، ومن هنا فلن يعترف بحدود بين التشكيلات الاقتصادية أو المراحل التاريخية أو الأقطار السياسية، ولهذا فسوف يأخذ من التاريخ ما يلائم النخب القومية الغنية المعادية للأمم الإسلامية الأخرى، مكرساً هنا بشكلٍ متوارٍ التوجهات المذهبية السنية، فهو يختار عصر ثقافة المأمون الإلهية التجريدية المركزية الرافضة للتعدديات الدينية.
إن عدم الدرس الموضوعي لتطور تجربة القبائل العربية في العصر الوسيط وتشابك هذه التجربة بالإسلام وغيره من الأديان والمذاهب، يخرج هذه العروبة من الفحص المعملي الاجتماعي ليجرها إلى منطقة التجريد الشعري والتلاعب بالألفاظ.
ويلغي الفحص المعملي والديمقراطي هذه الأفكار الخيالية للبعث، وليذا فإن ميشيل عفلق بخلاف غيره من مفكري العرب والمسلمين التحديثيين يرفض ثقافة الغرب:
«إن النظريات والأنظمة المنبثقة عن حضارة الغرب لا تلبي حاجات البيئة العربية وأن الأمة العربية ليست (أمه صغيرة ثانوية) كي تتبنى رسالة غيرها»، (السابق).
لقد قام ميشيل عفلق هنا بتوجيه فكر البعث بشكل مضاد للعناصر الديمقراطية فى ثقافة الغرب، وليس بشكل مضاد كلي لثقافة الغرب فالعاصر القومية الشمولية في الثقافتين الألمانية والإيطالية سوف تحصل لها على مكانة في منظومته الفكرية، ولكن هنا هو يصرح بشكل إطلاقي عام. وهو هنا يجوهر حضارة الغرب فليس هي شكل لتجل مرحلي للحضارات الإنسانية في سيرورتها التاريخية، بل هي حضارة غرب منقطع عن غيرها، مما يشكل بالمقابل حضارة قومية دينية شرقية متجوهرة هي الأخرى على ذاتها، وإذ يرفض عفلق العناصر الديمقراطية داخل الحضارة الغربية فهذا للحفاظ على العناصر الدكتاتورية داخل الثقافة العربية، وهي هنا النظام الإقطاعي التقليدي، ببنيته الاجتماعية المذهبية.
فهنا أي عناصر غير سنية محافظة أو غير عربية وتدخل غرفة البخور القومية هذه فإنها تخلع ثيابها وتتماهى في هذه الثقافة العروبية المذهبية الشمولية وقد غدت الآن غائرة، أى غير مُعلنة ، لكنها في مراحلَ تاليةٍ سوف تظهرُ ما أخفته في مراحل سابقة؛ كانت فيها تمثلُ أصواتاً من عناصر الفئات الوسطى التي لا تزال بعد مستقلةً، والتي بعدُ لم تدخلْ أجهزةَ الدول وتتحدْ بهياكلها الشمولية السياسية – الاجتماعية. فتؤدلج أفكار الفئات الوسطى؛ في الحرية؛ والعلمانية، والديمقراطية، تبعاً لهذه الهياكل الشمولية التي سوف تقضمُ بأسنانها الحديدية أفكار التحديث هذه، مثلما فعلت تجاه أفكار محمد عبده في مصر.
وفى هذا الطور فإن البناء الإقطاعي المذهبي سوف يظهرُ من أفكار النفي لا الإثبات، في (النظريات والأنظمة المنبثقة عن حضارة الغرب) مرفوضة بسبب تجريدي غامض، لأن الأمة العربية لا تقبل برسالة تاريخية من أمة أخرى كما يقول، والأمر هنا ليس أمر رسالة، يسلمها ساعي بريد متغطرس لديوان ميشيل عفلق، بل هي تجارب شعوب على مدى عشرة قرون قامت فيها بمراكمة التجارب والاكتشافات في العلوم الطبيعية والاجتماعية، لكن العملية تعني رفض العناصر الديمقراطية في الحضارة الغربية كي لا تقوم بتفكيك رسالة البعث التاريخية في الحفاظ على الأبنية الإقطاعية – المذهبية.
إن مفهوم (الرسالة) يتضح هنا وهو أنه يعني مفهوم الغزو والاستعمار، فالغرب له رسالة هي هذا الغزو المكتسح وللبعث رسالة هي رسالة الأمة العربية في التحول إلى أمة متفوقة غازية، ورسالتان غازيتان لا تتوافقان. كما أن مفهوم الرسالة البعثي هذا هو محاولة كذلك للتمظهر بالرسالة المحمدية والتشبه بدورها، دون العودة إلى أسسها كثورة نهضوية شعبية.
إن عدم أخذ العناصر الديمقراطية الغربية يعني ضمناً تشكيل أحزاب شمولية، تقوم على الحفاظ على تلك البنى الاجتماعية المماثلة لطبيعتها الحزبية:
«فمن خصائص المرحلة الانقلابية إذاً أن تكون قيادة الحركة الشعبية بيد أقلية.. ولكنها أقلية من نوعية خاصة، أقلية واعية لواقع أمتها مؤمنة بقضية بلادها وبحقوق شعبها.. هذه الأقلية تتقدم لتمثيل الشعب قبل أن يفوضها الشعب تفويضاً صريحاً بهذا التمثيل، وهي التي تبدأ بأن تتجه للشعب لتوقظه على واقعه ولتنظم نضاله وتقوده في طريق الانقلاب».
إن التغييرات السياسية المستحيلة التى ما كان من الممكن أن تتم في المدن العربية تصبح الآن ممكنة بفضل التنظيم السياسي الذي يصل إلى الجيش والدولة عبر الانقلاب. لكن البناء الاجتماعي العربي الديني التقليدي يجري الحفاظ عليه، عبر رفض العمل التدريجي الإصلاحي داخل المجتمع على نحو طويل ، وعبر دمقطرته العميقة، ويجري هذا استلهام التجارب في اللينينية أو غيرها وعبر الارتكاز على هذه الجموع البسيطة المؤدلجة الشمولية.
إن رفض التطور التدريجي الإصلاحي يعني عدم هدم البنية الإقطاعية – المذهبية المترسخة عبر القرون والتي يجري الآن (بعثها)، وهنا بدلاً من أن تقوم الفئات الوسطى باستثمار الحرية العربية فهي تعود لأصلها السابق :
«الماضي شيء حقيقي أصيل في حياة أمتنا…إننا نقصد بالماضي ذلك الزمن الذي كانت فيه الروح العربية متحققة. وماذا نقصد نحن بالمستقبل الذي يغرينا ويدفعنا إلى النضال إن لم يكن هو الزمن الذي يجب أن تتحقق فيه روحنا الأصيلة، فماضينا، بهذا المعنى الصافي الصادق، أرسلناه أمامنا إشعاعاً ينيرُ لنا الطريق».
لا تقع هذه الكلمات فوق جسد اجتماعي معين، بل فوق الروح الغامضة المبهمة، أي ترفض عمليات التحليل الموضوعية للهياكل الإقطاعية الدينية العربية في العصر الوسيط، فهذه الهياكل العامة التي تعود لسيطرة تلك القوى الاجتماعية العليا من ملوك وارستقراطية بدوية هي المراد بعثها ، وليست حركات التغيير الاجتماعية ونضال الفئات الوسطى القديمة الذي لم يكتمل من أجل الديمقراطية والتحديث، ومن هنا فالعناصر البعثية المرتبطة بالفئات الوسطى المعاصرة تؤكد ارتباطها ببعث الهياكل الإقطاعية الدينية السابقة، وليس بإنتاج ثورة ديمقراطية معاصرة.
وهي تطلقُ بخورَ الكلمات مثل الروح الأصيلة والدين والإسلام لتعشى عيون الفحص العلمى:
(لأن القومية مثل الدين (تنبع من معين القلب وتصدر عن إرادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصةً إذا كان الدين يمثل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها)،.. «إن الدين دخل أوروبا من الخارج ولم ينزل بلغاتها القومية .. فى حين إن الإسلام كان أمره بالنسبة إلى العرب مختلفاً ولا يمكن أن تكون علاقته بالعروبة مثل علاقة أي دين بأية قومية.. وذلك على اعتبار ان العرب قد انفردوا عن سائر الأمم في اقتران يقظتهم القومية (برسالة دينية)».
ليس ثمة فروق موضوعية بين مرحلة الدين ومرحلة القومية، فهذا التطور التاريخي بين عصرين هما العصر الوسيط والعصر الحديث، ينتفيان، ولهذا فان التشكيلتين المختلفتين وهما الإقطاع والرأسمالية الحديثة تتنفيان هما الأخريان، وهنا تتضح عملية استعادة التركيبة التقليدية الماضية، ورفض الحداثة والرأسمالية المعاصرة وآليات تقدمها الديمقراطي، فالقومية ليست نتاج الدين، وقد كانت العناصر العربية في الحضارة الدينية السابقة عناصر ثقافية في وعي قبلي وديني، لم تصل ابداً الى وعي قومي، ولكن تدمير عناصر التحليل الموضوعية هنا يجري بقصد إلغاء فهم القومية كنتاج العصر الحديث، وربطها بعمليات دينية عامة واستغلال الدين كمظلة اجتماعية وسياسية.
إن الدعوة البعثية تستغل هنا الميراث الرسالي وتصوير نفسها كطبعة جديدة منها، مثلما تفعل الحركات المذهبية الأقطاعية، لكنها تختلف عنها عبر عدم الرجوع الى النصية الدينية الحرفية، والاكتفاء بعبارات عامة مجردة (الإسلام، القومية، النهضة الخ..) تسمح للفئات الوسطى المنتجة للبعث باستيراد مفاهيم ومظاهر أوروبية لا تصل إلى تجاوز المنظومة الإقطاعية — المذهبية.
وعدم التطابق مع الغرب هنا هو بقصد ألا تتماثل الفئات الوسطى العربية المعاصرة حسب الوعي البعثي بمثيلاتها الأوروبية وتنتج ثورة برجوازية ديمقراطية.
إن عدم وجود نصوصية دينية هنا والاعتماد على ذلك البخور الغيبي المجرد، هو بقصد التجاوز المظهري للانقسام الطائفي الإسلامي، فهو تجاوز مظهري لأنه لا يصل الى العلمانية، وقسمات الحداثة الأخرى ، لكونها تتطابق والنضالية الديمقراطية الثورية الغربية المماثلة. فهذه اللامذهبية الزائفة هي طائفية غائرة.
فلكون ميشيل عفلق لا يقوم بتحليل تطورات الصراع الاجتماعي والسياسي في الإسلام، وكون ذلك الصراع اتخذ طابعاً طائفياً، معبراً عن صراعات اجتماعية جرت باشكال دينية، مطلقاً همهمته الدرويشية الحديثة: روح نقية، معين القلب، رسالة السماء! الخ.. فهو يقوم بالانزلاق الاجتماعي السياسي نحو القوة المسيطرة على ذلك التاريخ: طبقة الإقطاعيين وممارساتها المذهبية السائدة، أي سيتماثل ووعي سني مذهبي محافظ في خاتمة المطاف ، لأنه لم يقم بنقد الصراع الاجتماعي — الطائفي السابق وتجاوزه بشكل حقيقي ، بل تجاوزه بشكل زائف، أي لم يقم برفض الإقطاع ومنظومته المذهبية.
إن (التنظيم الانقلابي) (سيكون أعضاءه الجنود المحاربون لنهضة عربية أصيلة تغذي الإنسانية جمعاء). واعتبر عفلق ان الحركة الانقلابية (وفكرة السرعة من صميمها) هي نقيض الحركة الإصلاحية، ورأى في التفكير التطوري شذوذاً مرضياً (فالعرب، أو خلافاً لغيرهم من الأمم لم يعرفوا غير نوعين من الحياة: الانقلاب أو الانحطاط، وارتقاؤهم بالتالي لا يمكن أن يتحقق بالنمو أو التطور الطبيعي، إذ أن الشقة (واسعة بعيدة، ولا بد من الانقلاب حتى يتحقق الارتقاء العسير).
وتتكامل هنا عناصر التطابق مع الماضي الإقطاعي الديني وأساليبه في التغيير، أي غير الوصول للجيش، ونظراً لكون القبائل العسكرية قد انتفى دورها الانقلابي في بلاد الشام رغم أماني زكي الأرسوزي في ذلك ، ولكن هذه القبائلية العسكرية البدوية ستبعثُ عبر الاستيلاء على الجيش، وهنا يتحقق شيء من التماثل مع الماضي، فبدلاً من الغزو الرعوي على الطريقة العربية والبربرية والتركية سيكون الانقلاب العسكري، وهذا ما سيشكله البعث السوري كمادة نموذجية لأقطار عربية اخرى، فيغدو الجيش هو الغزو الرعوي الجديد للحواضر المدنية العربية.
ولكن أين توجد أغلبية المادة البشرية الرعوية العربية غير لدى أهل السنة الصحراويين خاصة؟! وهنا ستغدو الجيوش المشرقية البعثية متوجهة لهذه المادة البشرية الطيعة. وقد كان البدو العرب الصحراويون عسكريين دائماً في حياتهم، ومن هنا ستتوجه التجربة البعثية للمذهب (السني) المحافظ المكرس في أجهزة السلطة عبر القرون، وعبر المادة العسكرية البدوية التي ستكون القواعد التحتية الطيعة لأنظمة شمولية جديدة.
ولكن التعابير العفلقية الغامضة عن الإسلام والنهضة من شأنها كذلك الإتاحة للعناصر المذهبية والدينية الأخرى من التواجد في هذا الفضاء العلماني الزائف، وهي عناصر غالباً ما تتكون من الفئات الوسطى ، وهي التي ستتواجد غالباً في المراكز المتوسطة والعليا من الجيش والإدارة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.
ميشيل عفلق
أضف تعليق
