يشكر للباحثين الغربيين هذا الاهتمام الدقيق بالتراث العربي الإسلامي، حيث تفوقوا على أبناء العربية في الدخول الى دقائق التراث، وبأساليب حديثة ومنهجيات خصبة.
من هؤلاء الباحثين الجدد كلاوس كلير من جمهورية ألمانيا، حيث قدم رسالة دكتوراه في العلاقة بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، الصحابيين الجليلين، باسم (خالد وعمر، بحث نقدي في مصادر التاريخ الإسلامي المبكر)، دار قدموس في سوريا ولبنان سنة ٢٠٠1م ويعجب المرءُ كيف يتغلغل باحثٌ أجنبي في تراث العربية بهذا الشكل، حيث درس أمهات كتب التاريخ برصد تحليلي ورصد كمي، والجانب الأخر من الرصد هو الذي يستوقف القارئ، حيث يكشف نظرات المؤرخين العرب للعلاقة بين عمر وخالد عبر الجداول الإحصائية والبيانات وليس بالبيان التحليلي المجرد فقط.
كما يعجب المرء من تحول الرسالة الجامعية الى دفاع عن خالد بن الوليد تجاه ما صدر ضده كما يقول الباحث من الخليفة الراشد عمر ومن المؤرخين كذلك، الذين قللوا من جهد خالد نظراً الى ما حدث له من عزل.
والعجب يكمن في أن باحثين غربيين يقومون بهذه المهمات في حين يعيش (باحثونا) في عملية نقل مستمرة لما يُنشر في الغرب. وكأن أولئك الباحثين أقرب للعربية والتراث من أهله!
وعلى الرغم من ذلك فالباحث أخطأ في جملة بحثه واستنتاجاته، فرغم أن خالد بن الوليد قامة عسكرية عملاقة مقاييس البشرية، حيث يقف جنباً الى جنب مع الإسكندر. ونابليون وغيرهما من القادة العسكريين الكبار، فإن قامة عمر بن الخطاب السياسية تكبر عنه وتصعد صعوداً كبيراً، على الرغم من محاولة الباحث التنقيص من هذه القامة.
فالباحث يوجد لخالد بن الوليد الأعذار في أخطاء اجتماعية قبل أن تكون أخطاء عسكرية: (فالسلوك الإسلامي وآثار الوثنية في شخصية خالد لا سبيل إلى إزالتهما هما النقطة الجوهرية في الاتهامات التي يتم إيرادها ضده وبصورة خاصة على لسان عمر)، ويعد قتل خالد للاسرى في غزوة بني جذيمة، وقتل مالك بن نويرة وبعض قومه في حرب الردة والعديد من الأخطاء الأخرى، ليس تجنياً من عمر بن الخطاب بل هي حقائق معروفة في التاريخ.
لكن القضية ليست قضية أخطاء تتعلق بالأسرى بل هي قضية قائدين مختلفين في طريقة تفكيرهما، فعمر ليس قائداً عسكرياً فحسب، بل هو قائد سياسي مسؤول عن نظام اجتماعي ديمقراطي شعبي، يرفض عنهجية الملأ القرشي السابق وطريقة إدارته للحياة السياسية والحروب ونتائجها.
وعمر لم يؤمن بقائد سواء أكان سياسياً أم عسكرياً مترفعاً عن العامة، منتفخاً مهما كانت انجازاته، يضع اهتماماته الشخصية محل المصلحة العامة. إن النهج الفردي أمرٌ محبذ في ثقافة الغرب الفردانية، التي تركز على الفرد وعبقريته مهما تضادت مع الجماعة، لكن في تلك الثقافة الشعبية الإسلامية الديمقراطية الأولى كان هذا مرفوضاً.
إن عبقرية خالد العسكرية هي ممدوحة من قبل عمر وغيره، فقد حققت انتصارات هائلة، فضربة فتح دمشق المفاجئة الغريبة، وضربة اليرموك قد وضعتا حداً للامبراطورية المهيمنة على نصف المشرق. لكن عمر تخوف من تحول هذا الإعجاب الى غرور سياسي يكتسح قواعد تلك الديمقراطية الشعبية التي لم تكن تدعمها مؤسساتٌ راسخة.
ولهذا فان عمر كان يريد قيادات عسكرية جماعية وأن يصعد أبناء العامة المسلمون إلى هذه القيادة، وألا يظهر دكتاتور عسكري.
ولهذا فإنه لم يذل خالداً وابعده كلياً عن القيادة والمشاركة في الحروب، بل جعل القيادة لأبي عبيدة بن الجراح، وهو قائد عسكري من طبيعة عمر بن الخطاب الزاهدة الديمقراطية، فجعل من علاقته بخالد نموذجاً لخضوع العسكري الفذ للقيادة الجماعية ولأهداف الحرب من منظور إسلامي ديني.
كما أدت هذه العلاقة الى ظهور قادة عسكريين عباقرة آخرين، فلم تحجب قامة خالد قامات كثيرة بعده.
أن عمر هنا حارب الفساد العسكري، وأوقف تحول القادة العسكريين إلى أباطرة نظراً إلى انتصاراتهم العسكرية الكبيرة. وعلى الرغم من أن ذلك أثر في خالد وجعله يتألم كثيراً لكنه ادرك حكمة قرارات عمر مع هذا، وقد تأسى عمر كثيراً كما يذكر الباحث الألماني نفسه لموت خالد المبكر نسبياً.
بين عمر وخالد
أضف تعليق
