بين الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر صداقة وطيدة ونضال مشترك، كما بينهما اختلاف كبير في العمل السياسي، فأولهما رقيق واسع الصدر، والثانى شديد، صلب. لكنهما اتحدا في الحق، الذي له سبل مختلفة وطرق أداء متباينة!
ولا نريد أن نخوض في بحر علاقتهما، ولكن لنرى هل أثرت هذه الصداقة الحميمة في دوريهما في الحكم؟ فالوجود في قمة السلطة يغير الأحوال ويبدل المشاعر!
ورغم معرفة أبي بكر الصديق بعمر وأخلاقه لكنه وهو في مرضه الأخير راح يسأل عنه كبار الصحابة، ليدرك مدى قبولهم أو رفضهم لمجيء عمر للحكم والخلافة.
بطبيعة الحال أدرك أبوبكر إن الكثيرين طامحين في السلطة فقال لعبدالرحمن بن عوف: (إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر! ورأيتم الدنيا مقبلة – حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذربي كما لم يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان).
ويشير أبوبكر هنا إلى أن الكثيرين في ذلك الوقت قد اندفعوا للثروة، حتى راحوا يتألمون من الجلسة فوق الصوف القادم من أذربيجان وهو شديد الرقة، بينما لم يكونوا يتألمون من الشوك الصحراوي!
فكان هذا الزمن السياسي بحاجة إلى قائد صلب عادل حكيم، فكان عمر بن الخطاب هو رجل هذه المرحلة. لكن أبابكر لديه مخاوف من عمر كذلك، فماذا لو استبد بالأمر؟ ومارس قوته في غير الحق؟
كان رأي أبي بكر في عمر الشخصي كبيراً وعظيماً فهو يقول عنه في أواخر حياته: (اللهم إني لم أرد إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملتُ فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدتُ لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم، وأقواهم على رشدهم).
وتحيلنا هذه الكلماتُ الدقيقةُ إلى دقة أبي بكر في التشخيص السياسي، فهو عبر حكم عمر الذي لا يختلف عليه أحد، يتمكن في زمن لاحق لا يعيشه، أن يضمن السلام الاجتماعي للمواطنين والعدالة، عبر وجود شخصية خيرة، وقوية، وهو أمر يشير إلى ابتعاده عن العصبية القبلية والأسرية، حيث تجنب البيوت القرشية الكبرى، وركز على عمر كشخصٍ يستند إلى وجوده الأخلاقي والسياسي المحض.
ولكن هذا لم يمنع الخليفة الذي سيغادر الدنيا، من أن يترك أمور الناس للناس، رغم كل هذه الحصافة في الاختيار والتدقيق.
وقد أحضر عمر نفسه وواجهه بحقيقة الأوضاع السياسية والاجتماعية المتغيرة التى تحتاج إلى صلابة وتضحية فقال له بقوة وشدة عُرفت عنه في الأوقات العصيبة كعادته: (أن أولَ ما أحذرك نفسك! وأحذرك الناس، فإنهم قد طمحت أبصارهم، وانتفخت أجوافهم! وأنهم سيخافونك كما خفت الله!)، (الفاروق عمر، عبدالرحمن الشرقاوي، ص 58).
ليس ثمة إيجاز للوضع السياسي والاجتماعي وقتذاك مثل هاتين الجملتين، فالكثيرون من الساسة قد اندفعوا متوثبين للحكم، مثلما شاعت الثروةُ وكثر الطمع!
عانى الخليفة المريض جسدياً من ولاية العهد هذه، حتى استقر رأيه أخيراً ولكنه كتب خطاب التكليف للناس عن صديقه فقال فيه بشكل رسمي وموضوعي: (إني استخلفتُ عليكم بعدي عمرَ بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا.. فإن عدلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب..).
فبعد أن قدم أبوبكر الشخصيةَ البديلة بكل التمحيص والتذكير والنقد جعل الخليفة الجديد مسئولاً عن حكمه والناس مراقبين له. وفي اليوم التالي بعد أن تسلم عمر مقاليد حكم الإمبراطورية، قدم الخليفةُ الراحل عن طريق ابنته السيدة عائشة، تركته الباقيةَ لبيت المال وهي (خادم، وبعير، وقماش بخمسة دراهم)! فصاح بعضهم: أتسلب ورثة الخليفة أبي بكر هذه الأشياء التافهة يا عمر؟
بكى عمر وقال: لقد اتعبَ أبوبكر من جاء بعده! ولكن عمر أخذ ورثة صديقه الحميم ووضعها في بيت المال!
بين أبي بكر وعمر
أضف تعليق
