كما أشرنا مراراً إلى كون الحنبلية قد نشأت كرد فعل عروبي على النزعات الفكرية النهضوية الأقرب للفرس في بغداد، فإنها اعتمدت على نصوصية مغلقة، وتكريس سلطة الحديث النبوي كما هو متوارث دون فحص، وهذا ما جعلها تتحول إلى عداء للحداثة العربية والإسلامية القديمة، وقام الحنابلة في بدء أمرهم بحمل السلاح ضد كل من عمل بالفلسفة والمنطق، وحرقوا الكتب، ثم هاجموا الفرق الإسلامية السنية الأخرى، والمؤرخين الخ..
استطاعت الفرق السنية الأخرى أن تكون أقل تضرراً بموجة التخلف التي هاجمت العالم الإسلامي مع انطفاء شعل الحضارة، وذلك بإتاحتها مجالاً للقياس والاجتهاد، كما حدث للمالكية من بعض التطور في المغرب العربي، فنجد ابن خلدون المالكي يطرح أفكاراً متقدمة عن الاجتهاد.
لكن كافة المذاهب تم اعتقالها من قبل السلطات المتخلفة؛ وغدت الحنفية راية الأتراك العثمانيين دون أن يكون لهذه الحنفية أي علاقة باجتهاد وفقه مؤسسها أبي حنيفة النعمان، وربما لأنه له جذور بالأصل الأفغانى، أي أن المنبت القومى كان له صدى!
رحلت الحنبليةُ من المدن الإسلامية الهامة، إلى المدن الصغيرة البرية، كما جرى ذلك لمدينة الفقيه ابن تيمية، فمدينة الرها، التي عُرفت بأنها مدينة الترجمة المسيحية والإسلامية الطبية والفلسفية، صارت شيئاً مختلفاً مع مولد ابن تيمية.
قوّى ابن تيمية الطابع النصوصي للحنبلية، ورفض الثقافة الحديثة الإسلامية وقتذاك، خاصة جوانبها المنطقية والفلسفية سواء أكانت شديدة الغيبية أم عقلانية، وحول العلوم إلى جوانب جزئية تقنية، مؤكداً أهميتها، وجاهد ضد الصليبيين الغزاة، ولكن آراءه الفقهية المتشددة لم تكن مقبولة لحكومات ذلك الزمان، فقد واجه التيارات الصوفية المنتشرة الجماهيرية، واعتبرها كفراً، مما أثار عليه الناس كذلك، فتم سجنه ومات في السجن.
بطبيعة الحال حولت هذه المواقف والجهاد الفكري الطويل لابن تيمية إلى أن يكون قدوة للحنابلة وبطلاً تاريخياً، ولكن ابن تيمية هو نفسه لم تؤخذ قدراته الفكرية والعقلية الاجتهادية من قبلهم بمأخذ الدرس ولم تتم مراعاة ظروف زمنه.
تغلغلت الحنبلية أكثر وأكثر في الصحارى، حيث البدو البسطاء البعيدون عن الحضارة، والذين لأئمتهم هذه الأفكار المتشددة بحكم طبيعة حياتهم، وأعطتهم هذه الأفكار مبرراً للهجوم على المسلمين الآخرين ومصادرة أملاكهم. وراكز عبادتهم وقراهم، زاعمين أنهم كفرة.
إن البدو هنا يستعيدون نمط حياتهم القديم القائم على الغزو، والذي تم قبل الإسلام بالحروب والغزو والصعلكة، وفي الإسلام عبر أفكار الخوارج والقرامطة وغزوات الهلالية!
ولم تتطور هذه النزعات مع العصر الحديث، وأعطت الثروات النفطية لهذه الأفكار قوة، فتغلغلت في بلدان إسلامية لم تعرف مثل هذه الحنبلية فى عصورها القديمة الأشد تخلفاً، فصار فيها لأول مرة إباحة دم المسلمين والمسيحيين، ورُفضت أشكال الحضارة، وغدت مراكز العبادة غير الإسلامية والفرق الصوفية الإسلامية والقوى الحديثة مركزاً لهجمات هذه الجماعات التي تحولت إلى المسمى المزعوم (الجماعات الإسلامية) ولم تكن ثمة صلة حقيقية بين مذهبية البدو وهذه الحنبلية الُمسيّسة، التي كرستها أموال النفط الباذخة.
وعبر أربعين سنة من تكريس هذه الجماعات من قبل الغرب والحكومات في المنطقة، وتشعبها في الأرض الجماهيرية تحت شتى المسميات، وجذبها للمذاهب السنية الأخرى، التي لم تتعرض هي الأخرى لفعل الاجتهاد خلال قرون التخلف، فإن القضية تغدو أكبر من قضية قمع بوليسي، وأكبر من شعارات سياسية محدودة، فالأمر يحتاج إلى تحولات ثقافية وسياسية عميقة.
الحنبلية والتصحر
أضف تعليق
