إن التقاء مصائر المذهب الإسلامي المتشدد الحنبلي والإمبريالية هو جزءٌ من تعقد وتشابك سمات وعمليات العصر السياسية والاجتماعية.
فتوجهات الرأسمالية الغربية منذ القرن التاسع عشر تتوجه إلى احتلال مناطق المستعمرات والثروات، ومن هنا كانت مناطق المذاهب الإسلامية المعتدلة هي التي واجهت الغزو المبكر، في حين نأت المناطق الصحراوية مكان إنتاج المذاهب الإسلامية المتشددة عن ذلك، ومن هنا عرفت المدن الإسلامية التي تعرضت للاحتلال نمواً في الفكر الاجتهادي الإسلامي بصورة مبكرة.
وإذا قيل بأن جمال الدين الأفغاني من أصل إيراني وليس من أصل افغانى، فليس ذلك بغريبٍ، لكون الفرس عُرفوا بالتبكير في الوعي، في مختلف المراحل التاريخية، كما أن إيران وأفغانستان كانتا متداخلتين منذ أقدم العصور.
وهكذا فإن النزعات الاجتهادية الإسلامية الحديثة لم تلامس الحنبلية التي تمترست في الصحارى، وإن كانت الهجمات الاستعمارية البربرية قد أيقظت قوى التطرف منذ وقت مبكر كما حدث في الجزائر التي لها عوامل قديمة في التجذر الديني العنيف.
أما المناطق الحضرية الإسلامية فقد حاولت المزاوجة بين الحضارة الغربية بإنجازاتها في التقنية والأشكال الفكرية والفنية، وبين المحافظة على الطابع الديني الخاص، وحلحلة هذا الطابع من جموده الكلي القديم، غير أنها لم تستطع ذلك كلياً، بسبب أدواتها التي لم تنفصل عن الجمود المتوارث .
وهكذا فإن الحنبلية الصحراوية وجدت نفسها فجأة في عمق التواجد الغربي بسبب النفط وعملياته. فهي لم تتوفر لها فرصة للاحتكاك بهذا الغرب كما جرى لبقية المسلمين، بشكلٍ مطولٍ وجماهيري، فظلت محافظةً على أبنيتها الاجتماعية التقليدية العتيقة، ومن جانبٍ آخر فإن تدفق النفط واستشراء الثروات لديها، دون أن تغير من أبنيتها المحافظة تلك، مكنها من الهيمنة المذهبية والسياسية على بقية المذاهب الإسلامية السنية، ثم أخذت بالتوغل في المذاهب الشيعية كذلك.
وكان دور الإمبريالية في هذا المسار هو تقوية الجانبين، جانب العزلة عن التطور الحديث، وتكريس التقوقع والتخلف والعصبية السياسية، وكذلك تقوية جانب الانتشار والتأثير على الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية.
إن هذا الزواج غير الشرعي تجلى في حقبة الحرب الباردة، وهكذا وجدت الإمبريالية في خدمات الحنبلية والجماعات المذهبية السياسية الأخرى، فرصةً في ضرب تجارب التحرر والتقدم في بقاع الأرض. وتجسد ذلك بعلانية في أفغانستان.
ومن الملاحظ هنا أن الحنبلية غدت فرقاً ومستويات، فظهرت حنبلية رسمية حكومية، وحنبلية أهلية، وحنبلية سياسية نخبوية. وحدثت تداخلات وتعقيدات في العملية. لكن الحنبلية النخبوية السياسية التي تمظهرت أخيراً في (القاعدة) استثمرت التقنية الإمبريالية وكذلك غياب النوازع الأخلاقية والبرجماتية النفعية أما جذور العنف الواسع فهي تاريخياً فيها، وموثقة بأحكام (الرعية) مؤدلجة من تاريخها نفسه.
إن التغلغل في أوساط المسلمين ووجود الثروة الواسعة والحصول على التقنية الرفيعة، والحصول على الفقه الُمبرر والذي حصل على رعاية غربية، جعل المآسي تتساقط على الضفتين الغربية والإسلامية.
فحصد الغربيون ساسةً وأناساً أبرياء نتائج تاريخ شاركوا في صنعه بالمساهمة المباشرة أم غير المباشرة. أما المسلمون فتعرضت بلدانهم للغزو مرةً أخرى، ولإعادة التشكيل بمنظور غربي مختلف، غائيّ وبراغماتي ومُقننٍ حسب مصالح وظروف جديدة.
الحنبلية والامبريالية
أضف تعليق
