يتوحد الانتهازيون في ثقافة ذات أنماط عامة، وهي الثقافة الأكثر انتشاراً في العالم العربي والأخطر حضوراً، ولا بد من درس قوانينها وتجلياتها كماة خام للدرس. تنقسم هذه الثقافة إلى شكلين أساسيين، الشكل اليميني والشكل اليساري، لأن هذين النمطين يصوران نفسيهما بالدفاع الأقصى عن الناس، لكن هذا الدفاع الأقصى هو شكل من خداع الناس كذلك! إن هذه الحمية والعاطفية الشديدة والكلمات الحادة ولغة الأستعراض والأدعاء هي أمور توحد الفريقين رغم تعارضهما الظاهري، فهما يعتمدان على خلق مزايدة ما سواء بهذا الاتجاه أو ذاك ويبتعدان قدر الإمكان عن التفكير الموضوعي. فهناك دائماً فيهما انتفاخ ذاتي، يغطيانه بألفاظ ملتهبة، ليغطيا به عن ضحالة تحليلهما، عتمدين على المساعدة الضمنية المتوارية التي تأتي من القوى السائدة في المجتمع. حين يكره الاتجاه الانتهازي قوى المعارضة فهو يضخم أخطاءها بهدف الكسب من جهة أخرى. وحين يضخم من أخطاء الحكومة فهو يهدف للتقرب إلى أتجاه آخر. إنه لا يقدم تحليلاً موضوعياً يمكن عبره تطور الحالة السياسية وتغيير الظروف الاقتصادية دون أن يبالغ في الصواب أو الخطأ. كما أن الحالة الدينية وأهميتها في حياة المسلمين تجعل بعض الاتجاهات تبالغ فيها، فجأة يصبح بعض الأشخاص المنافحين عن جماعة معينة من المسلمين ويقوم بالضخ التشنجي التعصبي فيها، بغرض إستغلالها واستثمارها لمصالحهم، وينبهر بعض البسطاء بهذه الحالة، فهم لا يتحدثون عن أخطاء هذه الاتجاه، بل يتعمدون ذكر فضائله من أجل أن يستغلوا هذا الشحن العاطفي لمصلحتهم. وتتناقض مثل هذه الآراء الشخصية في كلها، فهم يمدحون هذه الاتجاهات في بلد بعيد، فإذا جاءوا لبلدهم انتقدوها! وأقرب شيء لذلك هو مدح الزعماء وإستغلال أسماء الرموز، وجاءتنا فترة غثة سابقة أندفع بعض (المثقفين) فيها لتأييد شخصيات دكتاتورية فقط لمجرد إرضاء مشاعر عابرة هنا أو هناك! لماذا يتركز المدح أو الذم على الأسماء الحادة في سياستها؟ ! فمثل هذه الشخصيات عرفت بالحدة في السياسة والتعصب وقيادة شئون البلدان إلى حافات الهاوية؟ لماذا لا تتوجه أفكارنا للتخفيف من حدتها من أجل الحفاظ عليها ومن أجل تطوير نهجها بدلاً من سيول المديح التي تفقدها الرزانة والعقلانية فتتوهم إن كل ما تفعله صواب؟! ومن البشري الذي لا يخطئ؟ ! لماذا لا نحافظ على هذه الشخصيات بشكل عقلاني نقدي فلا نضخمها ونحولها إلى آلهه! وإذا كانت شخصيات دكتاتورية تمت إزالتها ينهمر عليها نفس المديح بغرض إيجاد بدال لها، وهي قد خربت ما خربته؟ ألسنا قادرين على تطوير النهج الإسلامي والنهج القومي بشخصيات موضوعية رصينة تدافع عن هذه الثوابت بشكل حديث ونقدي؟ هل عدمت الأمة إلا من شخصيات السحل والحرب والمحو للآخر؟ ولماذا تكون الشخصيات المعتدلة والزعامات البعيدة النظر والداعية للسلام هي في نظر هذه الكتابات والسياسات الانتهازية هي العدو؟ لماذا خلق هذا التشنج؟
منذ أن تشكلت الدولة العربية الإسلامية وامتدت وصارت أقطاراً وسيطة فحديثة، ظلت السياسة والدين مصدري تكوين الوعي السائد. وإذا كان الخلفاءُ والحكام ومن بعدهم لا يشكلون فكراً ولا يقدمون مادةً لآلة الدولة الإيديولوجية فقد قامت بذلك الفئاتُ الوسطى الصانعة للمعرفة، تستقيها من النصوصِ الدينية وتنتج وتغزل حولها، شرانقَ لاعتقال الكائن الإنساني أو فتح ضوء له. على الرغم من ظروف الثقافة العربية في العصر الوسيط إنتشر فيها النقد الايجابي ومحاولة التجاوز للأوضاع، نظراً لأن النظام التقليدي العربي في ذلك الحين أتاح للفئات الوسطى العديد من الحريات التجارية والاقتصادية الحرفية والإنتاج الثقافي، رغم وجود الدولة الشمولية الدينية. وهذا ما كررته الفئات الوسطى في زمن النهضة العربية، حيث كان ثمة فضاء عالمي للتجارة والتبادل الاقتصادي والتأثير الثقافي. لكن بعد حصول الاستقلالات العربية وبروز الدول الشمولية بقطاعاتها العامة وسيطراتها على الفضاء الإعلامي، تم خنق الحريات في العديد من البلدان باسم التقدم وباسم الوطنية وباسم الدين. كما قال ابن خلدون غدت الدول هي السوق الأكبر، ولهذا فإن الكثيرين من المثقفين منتجي الوعي، غدوا مقدمين سلع لهذا السوق وما تتطلبه ظروفه وصراعاته. في الصراع بين الدول الشمولية الوطنية والدول الشمولية المذهبية العربية الإسلامية، غدا الفريقان(الوطني أو الليبرالي) الخفيفان في وطنيتهما وليبراليتهما و(المذهبي، والشموليات بألوانها)، هما المعسكران السائدان. لم تستطع الأنظمة العسكرية والدينية الشمولية أن تقدم مناخات لتصاعد الحرية، لقد قامت بإنجازات على أصعدة تطور البُنى المادية والاقتصادية، لكن داخل الانغلاق ودون معلومات عن إشكاليات هذه الأبنية ما تحقق وما لم يتحقق، من إستفاد ومن لم يستفد. قسمات الحداثة المتعددة لم تطبق سوى أجزاء قسرية منها، وحُجبت الأقسام الأكبر أقسام وضع التنمية في دوائر التعاون الديمقراطي بين القطاعين العام والخاص، ولم تطلق الحريات الفكرية والثقافية. وأنتشرت مكائنُ الدعاية لا أصوات البحث. ومكائن الدعاية هذه هي التي تُعطى الأمتيازات المادية والنوافذ لكي تسد مسام الأجسام العربية عن التفتح والكشف. وبهذا وجدنا هذه الأنظمة وهي تعاني الأمرين من حروب الهزيمة ومن الانفجارات الاجتماعية التي أكتسحت المنطقة. ولا تختلف الأنظمة الدينية والمقاربة المحدودة لليبرالية عن الجوانب الجوهرية للأنظمة السابقة، أي غياب تداول السلطة والعلمانية والعقلانية، ولكن الكثيرين من المثقفين إنحازوا للصراع بين الوطني والديني، بين الداخلي والخارجي، بين هذا الفريق من السلطة أو ذاك من المعارضة المحافظة، ولم تُطرح البدائل الأخرى المتجاوِّزة لهذه الثنائية الصراعية القاتلة. كان أجدادُنا المثقفون معذورين في غيابِ البديل وغياب التحليل الكلي للواقع والعصر، وتوجههم نحو النجوم والكواكب والغيبيات المختلفة، ولكن حتى من هؤلاء ظهر باحثون يضعون الناسَ على بداية التحليل الاجتماعي الموضوعي.
في واقعةِ ثورةِ حزب العمل المصري اليساري ضد رواية(وليمة لأعشاب البحر) للكاتب حيدر حيدر، مادةٌ تحليليةٌ مهمةٌ لنسيجِ قوى وَضعتْ نفسَها في تيارِ اليسار والعلمانيةِ والحداثة والمقاومة، ثم دافعتْ عن قيم إنتهازية. فكيف تحدثُ هذه القفزة غير المعقولة من نسيجٍ فكري يحترمُ الكتابَ في إبداعاتِهم ويثمنُ ويوسعُ هذه الإبداعات إلى أن يقفَ شرطياً متدخلاً في عمق هذه الإبداعات؟! كيف تجري هذه القفزة من جماعاتٍ يُفترضُ أن تنمي حالات الوعي والنقد للتراثِ وللواقع إلى أن تصطفَ فجأةً مع قوى اليمين التي تفتقدُ أية قراءات في فهم الوطن والإسلام والواقع والمستقبل؟ الجواب واضح وبسيط لكلِ من يتابع هي السياسةُ الذاتية والمصالح الخاصة! جماعاتٌ صغيرةٌ ظلتْ منعزلةً عن الجمهور لعقود، لم تملك قوى فكرية نظرية تحليلية حقيقية، وكونتْ بعضاً من تحليلاتٍ محدودة نادرة فاقعة بضرورة تجاوز الأنظمة الراهنة وقتذاك وهي الأنظمة (الإشتراكية) القومية العسكرية، إلى ضرورة هيمنة البروليتاريا وإقامة دكتاتوريتها الساحقة لكلِ أشكالِ الإستغلال. وهي _ أي هذه القراءات – لا تكتبها تلك الأحزاب بل يكتبها فردٌ فيها لأنها أحزاب أمية إجتماعياً وهي تتبعُ الفردَ في جنوحهِ للاشتراكية الصاعقة ول(لإسلام) المهاجم لكلِ تَنور ولكل ثقافة حرة والمعمق لمصالحه الخاصة المتجذرة داخله! أفكارٌ تنتقلُ بشدةٍ من نقيضٍ إلى نقيض، ولكن إنتقالها هو هو، المضمونٌ واحد، هو عدم القراءة الموضوعية للنص الأدبي، وللنص الديني، وللواقع المنتج في تاريخهِ لكلا النصين. النص الأدبي وهو (وليمة لأعشاب البحر) يجسدُ خطابات الثوار العراقيين الفوضويين المهاجرين للجزائر، وكلمات العراقيين ملأى بالشتائم للحياة والسلطات والناس والدين. وقد تحولتْ هذه الشتائم لدى جماعة حزب العمل اليساري في تصوره إلى هجومٍ مخطط ضد الإسلام تقوده قوى الحكومة المصرية! لم يخطر في وعي كاتب الرواية أن يُحَاكم من خلال أقوال شخصياته، لكن هذا يدل على أن رواد النضال (الديمقراطي) التحديثي في مصر قد إنعزلوا عن عوالم القراءة والثقافة والحداثة، وهو ديدن الأحزاب العربية عامة، فليس فيهم من يقرأ نصاً أدبياً بعمق، وأن يصبرَ على قراءته كله، وأن يقدر على فهم معناه العام، بل هو يقتطعُ جملاً ثم يتصورُ أنها هي أقوالُ المؤلفِ وتهجمه. هذا الوعي العامي يرتبطُ من جهةٍ أخرى بوعي عامي سياسي، فهذه النخبةُ السياسيةُ التي عاشتْ في (صمودِها) على علاقاتها بالدول الدكتاتورية في المنطقةِ ومعوناتِها، إنقطعتْ علاقاتُها بالجمهور، وبالجدلِ السياسي العميق معه، وجاءتْ جماعاتُ الشعارِ الديني المعارض السطحي لتنتشر في الأزقة، وتسيطر على الناس. في هذه الحالة لا تستطيع جماعة اليسار القديم وقد تآكلتْ أدواتُها التحليليةُ للنصِ الأدبي، وللنص الديني بتحولاتهِ عبر العصور، وفي وجوده الراهن ضمن بنية مختلة، أن تفهم هذا الواقع المركب، وأن تتصور أن هذا المؤلف الحداثي هو معها، وأن حلفاءها الدينيين والسياسيين هم خصومها، لأن مستوى وعيها هو قطعُ الجملِ من كتابٍ كامل غني بالمعاني، وتعليقها في مناخ ديني سياسي، وقطع ظاهرة في الواقع الراهن كفساد الطبقة الحاكمة، وعزلها عن سيرورة التطور والديمقراطية والحداثة، وجعلها هي الكل. وبالتالي فإن من يعارض تلك الجمل في الرواية، وذلك المظهر في الواقع هو حليفي. التسييس الفاقع والتسيس اليميني هو لدى إنتهازيي اليسار ظاهرة مقدسة، في مرحلةٍ سابقةٍ كان يمكن أن يرى تلك الجمل في الرواية بأنها عظيمة مبهرة، وأن يرى الفسادَ ضريبةً ضرورية في عملية التنمية، لكن ليس ثمة قراءة كلية موضوعية للإيجابي والسلبي، ومن الحماقة الكبرى أن تُهاجم رواية نقدية مضيئة لبضعة جمل فيها لا تتفق مع رؤيتك، ثم تتحالف مع قوى ظلاميةٍ ستخربُ الواقعَ كله. يمكن أن تنقدَ الجملَ في كليةِ الرواية، لكن من المستحيل الاتفاق مع قوى دينية وسياسية تريدُ العودةَ بالتاريخ الراهن للوراء أو التمركز حول الذوات الحصالات، بدلاً من نقدها وتنويرها لتكتشف الواقعَ الحقيقي ولتتطور ديمقراطياً. نقد الواقع أساسي لكن عبر رؤية الحلقات فيه، فأهداف التقدم والحريات وفصل الديني عن السياسي لا تنفصل عن النضال من أجل حقوق الناس وتطورهم. وأبطال رواية (وليمة..) في صراخهم الكلامي وطفوليتهم اليسارية والانتهازية كانوا يعبرون عن فشل التفجير المدوي للجمل الثورية وللتلاعب بين المعسكرات لأجل ملء الحصالة التي لا تشبع ولغياب التحليل العميق النقدي للواقع لديهم، وغربتهم المكانية والنضالية، فكانت الروايةُ تحللهم لا أن تمدحهم!
يقول: إن فيلم (كلنا يا عزيزي لصوص)، فيلم مبالغ فيه وأنت تمدحه بقوة! أقول له: هذا زمن سادت فيه الانتهازية وأنت لن تعرف فيه المناضل من الحرامي، والكاتب كان رغم تشاؤمه ذو استشعار دقيق، فحتى معارك الكفاح والسجون والتعذيب قد تـُجير للانتهازية والتلاعب بالمشاعر والمواقف! ـــ كيف ذلك ؟ أنت تخيفني؟ ـــ الناس عامة تعيش سذاجة سياسية، خاصة بعد غياب طويل للممارسة السياسية المباشرة، فما بالك أن تكون عندها ثقافة نقدية عقلانية تزن الأشياء بمعايير الحقيقة لا بمعايير التحزب والتطبيل، وأي جماعة وأي ثلة سياسية لديها طابور من المنافقين والمداحين، بغض النظر عن تاريخها السياسي ومدى عمقها الفكري ومدى إخلاصها للوطن ولتحوله إلى الديمقراطية. ـــ هل تشير بهذا إلى تجربة معينة؟ ـــ العديد منا عاش فترة مؤلمة في السجون، واكتشف هناك قبل أن يكتشف هنا أن الكثيرين من السياسيين ليست لديه أية أمانة أخلاقية ونضالية، وإنه مستعد أن يتعاون مع مهربي المخدرات والقتلة قبل أن يتعاون معك وأنت معه في زنزانة واحدة! ليس لشيء سوى لأن هؤلاء المجرمين قادرون على إعطائه بعض السكر والشاي وعلى تهريب رسائله! ـــ إلى هذه الدرجة ؟ أين المبادئ؟ أين الأخلاق؟ ـــ أي وضع كنا فيه، أكلٌ يجعلُ أمعاءك تتفجرُ ويُسمع دويها عن بُعد كبير، وأولئك المجرمون الممسكون بمطبخ السجن يتلاعبون في المواد المعيشية، ولكن زميلي في الزنزانة يجد لهم كل المعاذير! وبعد هذا كله تريدني أن أثق بهؤلاء؟! هؤلاء بلا ذمة وبلا شرف سياسي، وإنما هي المصلحة الشخصية ومصلحة العصابة الحزبية وهي فوق كل شيء لديهم. يبحثون عن مصلحتهم أين توجد فيندفعون إليها، فلا أهمية لحركة ديمقراطية، ولا أهمية لحركة وطنية، اليوم مع الله وغداً مع الشيطان، اليوم ضد الحكومة وغداً معها، اليوم مع الطائفيين وغداً ضدهم. المصلحة فوق كل شيء! ألمانيا فوق الجميع! ـــ للأسف حدث هذا حتى في زمننا مع الدينيين أيام السجن، كانوا يعتبروننا أنجاساً مثل الكلاب، ويغسلون محل مشينا وملابسنا المعلقة على حبال الغسيل المشتركة! ـــ أحدث هذا؟ ياللعار! ـــ لكن ألا يوجد أحد فوق هذه الانتهازية؟ ـــ لا تعرف تماماً، فما دام هؤلاء البرجوازيون الصغار، مثقفو الجمل الثورية، مسيطرون على حركة الحياة السياسية، ويضللون بها العامة، وهم يستهدفون إنتقالهم إلى صفوف البرجوازية الكبيرة، فيتلاعبون بالقواعد النائمة الساذجة، لكي ترفعهم على الأعناق الحزبية نحو الثروة والمجد، ثم يقلبون ظهر المجن لها، كما تقلب آخرون كثيرون، وقالوا أن الظروف تغيرت وعلينا بالتكتيكات المرنة، وهم يقصدون الدفاع عن مواقعهم الاجتماعية الجديدة، فلا أمان للجمهور العامل منهم، وعليه أن يستقل عنهم، وينأى بنضاله عن صفقاتهم وألاعيبهم. وأن يؤسس عمله المستقل بعيداً عن كل هذه الجماعات. ـــ ألاحظ كيف كنا نركض وراء هيئة الاتحاد الوطني ودفعنا الكثير من التضحيات وعاد بعضهم ليكسب الغنائم، وذاب الشهداءُ في الذكريات الجميلة، وكذلك جماعات القوميين والتحديثيين والليبراليين، تكلموا كثيراً عن النضال والتضحيات ثم رسوا على الغنائم من الدول، والقواعد خبر خير! ـــ ذكرتني بالشهداء، الغريب أن كل حركة سياسية عربية من العصور القديمة حتى الزمن الحالي، تبكي على الشهداء، دون أية جردة حساب على ميزانية التنظيم والجماعة على مدى تاريخها الحافل بالاشتراكات والتبرعات، ولماذا لا يجري تقييم دقيق لدور الجماعة ومشكلاتها وتطوراتها، وأسباب إخفاقاتها وما تثيره من نزاعات بين القوى السياسية، وما تسببه من كوارث للقوى الوطنية؟! وتسأل أين ذهبت وثائقها وأموالها ومن أعطاها كل ذلك ولماذا هذا المسمار الدائم في الظهر وأي وأين . .؟ والتاريخ سري غامض مريب، ولا يبقى لأعضاء الجماعات سوى البكاء على الشهداء؟! فهل تتحول الأحزاب العصرية إلى مراكز للبكاء؟ ـــ هذا ضمن وحدة القوى النضالية على مستوى الماضي والحاضر، أي على مستوى الانتهازية التراثية والعصرية! بكاء وسرقة! ـــ النضال هو من أجل الأحياء، وهؤلاء السياسيون الانتهازيون على مدى التاريخ الحديث يحرنون دوماً على مسألة قومية ما، في السابق حين ننتقد عبدالناصر أو العروبة يحرقون الأخضر واليابس، والآن انتقد هذين الرمزين فلا أحد يهتم! وصار الدفاع الآن عن الطائفيين وسيطرتهم على الحركة الوطنية هو الراية المرفوعة، فهؤلاء صاروا المقدس! فكيف تجري التحولات وتصير الشعارات والكلمات كالأحذية والجوارب العتيقة! ـــ كما قلت ليس سوى أن العمال ينأون بأنفسهم عن هؤلاء، ويتوجهون لمصالح طبقتهم، أوسع الطبقات في الناس، وأكثرها فقراً، هنا تتوضح المسائل وتتحدد، فمن يناضل عنهم ويرفع من حياتهم المعيشية وظروف عملهم السيئة فليتقدم، هنا تخرس الإيديولوجيات والمزايدات، كذلك فإن العمال ابتعدوا عن الفوضى والعنف، وشقوا طريق العقلانية النضالية، يحدثون بها تغييرات في حياتهم وظروف عملهم، ويجمعون الطوائف والأمم في طبقتهم، وبدلاً من أن يسمحوا للسياسين والبرجوازية الصغيرة بسرقتهم والقفز فوق ظهورهم يطورون حياتهم بأنفسهم، ويعرفون إلى أين تمضي أموال النقابة وكيف تتوزع ويتفاوضون مع الشركات على زيادات وتغييرات محددة. ـــ لكن حتى في هذا فإن القوى السياسية اليمينية وأنصارها قادرون على التلاعب بكل شيء وتمييع القضايا الوطنية التوحيدية وتمزيق صفوف الشعب، فلديهم حجج وتلاعبات وحيل يصنعونها بكل طول نفس وذكاء، فلا تظن إن القضية هينة. ـــ على العمال أن يعرفوا ذلك، وعلى القواعد الشعبية أن تبصر، وتحدد مصالحها الطبقية وتناضل من أجلها، فلن يعطيها أحدٌ شيئاً، وعليها أن تعتمد على أدمغتها الواعية المخلصة وساعدها، عبر النضال القانوني وتكوين وحدتها، ولا تلتفت لألاعيب السياسيين الانتهازيين حتى لا نصير كلنا لصوصا! انتهازيةٌ نموذجيةٌ منذ أن أخطأ بعضٌ من أفراد الجيل الوطني القديم في التحالف مع الطائفيين، نظراً لهشاشة جذورهم الفكرية السياسية العلمانية الوطنية، والأعشاب الضارة تتالى من هذا المنبت. قام الجيل بتضحياته ومغامراته وكان من الضروري نقده، لكن الحالة النموذجية الانتهازية رغم تكرارها لأهمية العقلانية والهدوء التحليلي وبعد النظر تروح تصرخ هائجة وتحيل الموقف وتشريح الجيل القديم لحالةِ تشنجٍ شخصية بدلاً من تطبيق تلك المفردات الكبيرة في الموضوعية والعلمية لكون القائل الناقد لا يعجبها ولا يقترب من مستنقعها وانتهازيها. ويمكن أن يستفيد بعض المتعلمين من خلفياتهم السابقة، ويتلاعبوا أكثر بقضايا النضال بدلاً من تجاوز الجيل القديم الذي لم تتح له فرص الدراسة الأكاديمية. خلطهم بين العمل السياسي والدين يغدو تلاعباً، فهم من المتعبدين ومن الانتهازيين. فأي جهة تجلب مصلحة ذاتية يمكن تسويقها. من حقك أن تصلي لكن ليس من حقك أن تلغي تاريخ التيار الوطني في العلمانية وفصل الدين عن السياسة! حين يغدو الصراع السياسي الطائفي حالة اشتباك عامة يجري تصويرة كثورة وجر الوطنيين إليه، وحين يفشل يتبدل القناع، وتـُفضل المصلحة الخاصة. ولا تـُنقد هذه الأخطاء وتـُحلل بل تـُترك للاستفادة من غموضها! حتى كوارث الشعب العارمة لا تنجو من الفلتر المصلحي الذي يقضم بعض خيراتها رغم الضحايا والكوارث! كتاباتٌ هزيلة تستفيد من أي موقع، ويهمها التراكم المالي لا النقدي، لا تقوم بتجذير أي تحليل، وتحاول التقليل من شأن الكتابات الوطنية التقدمية وتخريب حتى أسماء أصحابها والتصغير من نتاجاتهم والتعتيم على وجودهم بأشكال صبيانية. هذا الحقد نتاج تضخم ذاتي وإعطاء هذه الذات الهزيلة فكرياً مقاماً رفيعاً، فهي يجب أن تكون القائد الأول والزعيم المعترف به رغم الهزال الفكري والتلاعب السياسي وغياب النتاج الموضوعي الدارس للبنى الاجتماعية والصراعات الطبقية. تخريب التيار هو جزء من المصلحة الذاتية فكلما كثر العميان المتخبطون في الليل السياسي كلما وجدت هذه الذات فرصاً للتلاعب بمصير الوطن والناس. هي جزء من هذا الخراب الذي أمتد عقوداً وهو خريف اليسار حيث لا جدل عميق ولا شخصيات تؤصل الماضي وتصعد بإنجازاته، فهي مشغولة بمنافعها واستغلالها للماضي والحاضر، أو هي جامدة لا تقرأ وتدرس.
في زمنيةِ الرأسماليات الحكومية القومية (الاشتراكية) كان تسلق البرجوازيات الصغيرة على أساس الشعارات اليسارية التوحيدية، حيث كانت الأنظمة بحاجةٍ لتوحد شعبي واسع من أجل بناء البُنى التحتية. لكن التسلق على ظهور العمال والفلاحين عبر رفع شعاراتهم لم يؤدِ لتغييرٍ كبير في حياة هؤلاء العاملين. والبرجوازيات الصغيرة العسكرية من ضباط وموظفين ومثقفين إغتنى بعضُها وفرشتْ الأرض الاقتصادية السياسية لرأسمالياتٍ نصف ليبرالية وفوضوية في أغلب نماذجها، ولم تخلُ من القبضة الحديدية، إرتفعتْ فيها جماعات حكومية إلى مصاف النبلاء وتهدمت فيها شعارات الجمهورية والاشتراكية. وحين أفلستْ شعاراتُ القومية والاشتراكية الحكومية الشمولية ظهرتْ البرجوازياتُ الصغيرة بديكوراتٍ جديدة هي الديكوراتُ الدينية. لم تستطع أنظمةُ الرأسمالية الحكومية إزالةَ الإقطاع، وأدت فوائضُ النفط الوفيرةِ التي جرتْ في البلدان الصحراوية إلى إنعاش الإقطاع الديني مجدداً حيث سال لعابُهُ من التحول الجديد. وهو إنعاشٌ غذى الشركات المالية والنصوصية الدينية وعودة الأساطير الخرافية للطائفيين السياسيين. فجأة ظهرت دعاوى الإيمان وحجَّ اليساريون المتطرفون الذين كانوا يزعمون أن الإسلامَ دين وثني، وتحول آخرون لفتح المكتبات الدينية يستوردون الكتب والأشرطة الصفراء يعيدون الجمهور بها الجمهور للعصور الوسطى. وفيما كانت بعض المكتبات تزخر بالمؤلفات الإنسانية الأدبية والعلمية صارت على كل الواجهات الكتب الدينية المطبوعة في مطابع حكومية. وفجأة إختفت الفروق بين التنظيمات الوطنية العلمانية والتنظيمات السياسية الطائفية. وتبدل المروجون للسياحة والمشروابات الكحولية كذلك إلى مروجين للتدين وطاعة ولي الأمر والاقتداء بالسلف الصالح، مثلما يكتشف قادةُ بعض الفصائل أهمية اللحى لمنع إنتشار الجراثيم في الذقون. الترويج للجماعات الطائفية السياسية من قبل هذه المجموعات التي إنهار وعيها النضالي الديمقراطي الحديث جاء في أعقابِ ظهور قطبي الصراع الحكوميين السني والشيعي في المنطقة حيث يزخُ كلُ قطب ماكينته الطائفية بالمواد المطبوعة والمروجين المتنقلين بين الجمهور بشكل مكشوف أو مقنع ثم صارت الفضائيات والوسائط الحديثة تغذي بشكلٍ هائل نقل التخلف والعداوات بين المسلمين. عودةُ الإقطاعِ أو إستمراره في البلدان الصحراوية والقروية النفطية قبل البلدان العربية الحكومية العسكرية المتجهة للأزمة ثم الانهيار، هو بسبب عدم تحولاتها مثل البلدان الأخرى العسكرية التي أجرت ضربات أكبر للحياة التقليدية، فجاء تأخرُها الفكري السياسي بسببِ عدم وجود فئات وسطى وعمالية تحديثية واسعة، فكانت أشكالُ الوعي والثقافة غيرُ منتشرة بتوسع بين الجماهير، فيسهلُ خداعها من خلال بعض الشعارات وإستثمار تقاليدها وإرثها وجرها للنشاط السياسي العنفي الكامن أو الظاهر، كما أن جذورَ المنظمات الطائفية السياسية وأعتبار هذه البلدان مركز الهروب للجماعات الدينية، كل هذا جرّ جماهير هذه البلدان للحراك السياسي الجماهيري الفوضوي. ولهذا فإن الجماعات البرجوازية الصغيرة المتذبذبة بطبيعتها وعدم رسوخ الرؤى التقدمية والديمقراطية داخلها تنجرُّ للسائد دائماً، ولكن قفزة هائلة من الاشتراكية والقومية والحداثة إلى الطائفية وثقافة الإقطاع كانت مفضوحة. ضخ الأنظمة لجزء من ثروات البلدان لهذه الجماعات وتوسيعها وهي الواسعة أصلاً كجزء من بُنى الحرف ومعامل ومصانع المواد الأولية التي تغدق الفوائض على القوى المتنفذة نظراً لعدم وجود أسلوبِ إنتاج وطني متجذر يغذي مختلف الطبقات، يؤدي لتحولات الفوضى والانقلابات الخطرة على التطور. وهكذا تنقلبُ تنظيمات كانت تتعيش على التسول من الأنظمة إلى أن تكون عدوة لها وتجد سببيات واهية للفوضى السياسية، وتتحالف مع تنظيمات يسارية كانت تعتبرها لوقت سابق قصير ملحدةً خطرةً على الإسلام! اللاعقلانيةُ والذاتيةُ والمصالح العابرة وإنتهاز الفرص والتلاعب بالمذاهبِِ والأديان والقيمِ والركوب على ظهور الجماهير غير الواعية وعدم خلق التراكمات التحديثية بصبر وحكمة وبإقناع للشعب وكل هذا لكي تصبحُ هي في مركز الزعامة والسيطرة ويتفق معها أناسٌ لهم مثل هذا الطموح الذاتي وعدم التجذر في المصالح والمبادئ العامة. إستخدم العلمانيون المرتدون نفس طرق الكهنوت في إستغلال الدين وإفراغه من مضمونه النضالي وتأجيره للقوى الاستغلالية للهيمنة على الناس بدلاً من الانتاج العقلاني التحديثي وتطوير الوعي.
حين نرى المسار المؤلم للجماعات التحديثية التي بدأت حادة مخيفة في أطروحاتها ثم انتهت وهي تبحث عن المال بأي صورة، لا بد أن نقوم بدرس ذلك، فهو مسار معقد وقد يتكرر لدى المجموعات الدينية كذلك وربما بطريقة أكثر حدة وتعقيداً. لنلاحظ ان الاهتمام بالأشكال والجوانب التحديثية المفصولة عن مضمون تغيير أحوال الناس، أي الاهتمام بالأنا على حساب النحن، وكذلك لغة الهجوم الحادة على الإرث والتقاليد وتوجيه المجابهة بين قوى المعارضة، تماثل الطرح قبل عقود أن حل كل المشكلات يمكن عبر البندقية ولغة النار. ولكن مجموعات الفئات الوسطى المعبرة عن تجربة أقصى اليسار، كانت وهي تدفع ثمناً باهظاً من حياتها لمثل هذه الأفكار، لم تتعلم منها أثناء التجربة، وإذا غدا الحرمان مكروهاً، وتطوير وعي الذات الحزبية بالواقع وبالفكر غير ممكن لأسباب كثيرة، لهذا كان الاتجاه نحو النقيض، نحو المال والمراكز والشهرة والصداقة مع الأنظمة والحركات الشمولية ومع المهيمنين بشتى ألوانهم، والمهم خدمة الأنا. كان هذا الإفلاس الفكري يتجلى بالوقوف عند المرتكزات الشمولية للنظام الشمولي القديم، (الاتحاد السوفيتي، والصين وكوبا) أو بالارتهان كلياً للتجربة الغربية، وتأتي عدم القدرة على فهم النظام العربي التقليدي الراهن، وتشجيع الأنظمة كذلك لانفتاحية الفئات الوسطى، في التوجه للانتهازية اليمينية هذه المرة، أو التشدق بألفاظ اليسار عبر جمل باترة وامضة؛ مع غياب الموقف التوحيدي لليسار والقوى الديمقراطية عامة.. إن هذا ينطبق على انهيار أنماط الوعي المستخدمة، كغياب الدراسة العلمية، وتخثر الشعر، وجمود القصة، وشكلانية اللوحة التشكيلية وموتها، وسفر الأغنية الثورية إلى الصمت والتجارة، وانتهازية القانون حسب مواقف الجماعة الخ.. إن العجز العميق عن التطور يولد أمراض جنون العظمة، وتشجيع الشلل لتخريب الثقافة الوطنية ومعاييرها الموضوعية، وتكريس النجومية وحب المال، وتفكيك الجماعات اليسارية والوطنية عموماً. إن الخراب كان كبيراً في العمق، وهو خرابٌ غير مدروس، وغير معروفة آثاره، ولكن ظاهرة العجز عن الفعل، وتكرارية اللغة الميتة، والعودة للمأتمية، والاصطافات اللامبدئية، والعجز عن النقد العميق، هي وغيرها تشير إلى تخثر فعل ممثلي هذه الفئات الوسطى، وعجزهم عن العمل الاجتماعي الفاعل. ومن هنا نجد أن الثقافة الرسمية السائدة في بعض الدوائر تشجع على كل ما هو منقطع عن الموقف المبدئي، والاحتفاء بالخارج، ولهذا فهم يشجعون ثقافة من موزمبيق لكن لا يمدون ايديهم للمنتج المنهار المحلي، إلا إذا تخلى عن ثقافته الوطنية المنتجة وتحول إلى أراجوز سياسي أو شعري أو تشكيلي أو مسرحي، فالمهم هو الاستعراضات. لغد قامت القوى (التحديثية) بتقزيم بعضها بعضا، فتلك الجماعة تحتكر أغلب جوانب الثقافة المفيدة المدرة للأرباح، ولكن إلى ماذا قاد ذلك؟ إلى التخلي عن نقد الواقع، وعدم قدرة النتاجات ان تعري الأخطاء، وهذا الجانب لم يتغير حتى بعد أن أخذت الدوائر الرسمية تنقد نفسها. وتغدو التحالفات غير مبدئية، فالسياسي الذي ينقد بقوة وحِدة الواقع السياسي، يصمت عن نقد الواقع الثقافي الفاسد، فلم يمتلك منهجين مختلفين؟
هم أساسُ العيارة والجمبزة والانتهازية وتخريب التطور، المنافقون المعاصرون، لهم في كل حزب موقع، ولهم في كل ثورة نصيب، ولهم في كل ثورة مضادة نصيب، وهم مع الفقراء والأغنياء، وهم مع اليسار واليمين، وهم مع الدينيين ومع الملحدين، وهم مع الحكم وأعدائه، وهم مع الحقيقة والباطل، كيفما شئت والمهم أن تدفع! المهم أن تغذيهم بالأموال، أو بالشهرة والمجاملة والنفخ، فالأموال والجوائز والعطايا والكراسي تغذي النشاط الفكري لديهم، تجعل مكوناتهم العقلية فجأة تتفتق بالاكتشافات المبهرة، والثلاجات المليئة باللحوم والسيارات والأراضي. هم متخلفون في الفكر وإنتاج الكتب، نتاجهم مزيف، ليس فيه أي تحليل للصراعات الطبقية المعاصرة، لأنهم يرفضون أن يتخذوا موقفاً بين الفقراء والأغنياء، بين العمال والإقطاع والبرجوازية، عيارون جدد، ثم يتشدقون بالكثير مع الخرافات الحديثة والقديمة، وهم جبناء انتهازيون يهتمون كثيراً بجيوبهم، وليس بالدفاع عن الحقيقة والناس. من هنا لا يتعمقون في المعارك الاجتماعية والسياسية، فكيف يواصلون ذلك وفيها قطع أرزاقهم الوفيرة؟ فتجد دائماً أن كلماتهم تنصب في اتجاه معين وحيد، مستمر أبدي، لا يتحول ولا يتبدل، وكأنهم آلات ممغنطة وكائنات موجهة، تقرأهم وأنت في البيت دون الحاجة للقراءة، يخافون من أي توجه آخر، مدارون إلكترونياً من أقمار صناعية ومن مخافر كونية، كأنهم وُضعوا على سكك الحديد، لا يلتفتون يمنة أو يسرة، يدافعون عن حكومات، أو عن اتجاهات سائدة بالشعرة مهما ناوروا أو أدعوا، ولهم البنوك والمعاشات والكراسي والجوائز والمنافع والمناصب والبلاعات، فهي أفكار مدفوع لها سلفاً، وهي كتابات مأجورة مقدماً، وسخافات لانفع فيها وضررها كثير على العقول. بين عشية وضحاها يتقلب البرجوازيون الصغار الانتهازيون، من العلمانية والثورة التقدمية إلى مساندة التخريف الديني، التخريف الديني والشعوذة وليس إلى تصحيح هذه المفاهيم وإنتاج عقلانية دينية مفيدة مهما كانت كذلك مصائبها، وينتقلون من الدعوة للثورة العمالية وانتفاضات الكادحين إلى خدمة الملالي والمجرمين المطاردين دولياً، وتبرير الأرهاب بكل اشكاله لكن دون أن تصيب حصالاتهم وعائلاتهم المقدسة أي ضرر، ويعملون لخدمة الطائفيين وأجهزة الاستخبارات للدول القومية والدينية الدكتاتورية، (يا إلهي كيف يبيع هؤلاء الناسُ أنفسَهم بين عشية وضحاها؟!). والأدباء واللامبدعون لهم نصيبهم الكبير الوافر من هذه الانتهازية، وقد كنا ننتظر نضالهم وفضحهم للاستغلال وجلب العمالة الأجنبية الرثة والتصدي للدكتاتوريات وحكومات السرقة، في قصصهم وأشعارهم ورواياتهم، ولكن لا خبر جاءَ ولا نشرٌ نزل! لكنهم يتعللون أن الأدب والفن ساميان لا يتلوثان بهذا الأسفاف الشعبي، وأنهما نائيان عن المادة، وعن الجمهور البسيط ومحدودية إدراكه وسذاجة مفاهيمه، ومع هذا فنجد أنهم مشغولون بالمادة الذهبية كثيراً، خاصة في شراء اللوحات وكسب الجوائز وطباعة الكتب مجاناً والحصول على تذاكر السفر وحضور المهرجانات بأبهة، ويقولون إن ليس لهم علاقة بالأجور والسفاف الدنيوية فهم من مادة صوفية أثيرية تضحوية خالدة إلا إذا انخفضت مرتباتهم الكبيرة، فسوف يجأرون بالشكوى كثيراً، لقد جفت أشعارهم ولوحاتهم وكتباتهم فقد نأوا عن نضال الشعب، وصارت الكلمة هي الحصالة، وصار الموقف تبعاً لأسعار البورصة، وقل أعطني شيئاً أكتب لك ما تشاء، ثم صار الهراءُ الشعري المادة السماوية التي منها يمتحون كل سخافاتهم وأعمالهم المسرحية والفنية وبراءتهم من دم يوسف! دم الشهداء والمناضلين! وتجدهم يهرجون في المسرح وفي الكتابة وفي السياسة ويظنون أن القراء والمشاهدين جهلة لا يعرفون ما وصلوا إليه من إنحدار ومن عجز عن المقاومة! هل إفادتهم كلماتهم ولوحاتهم وأصنامهم شيئاً إلا ما هو عابر؟ ولا يقل مواطنوهم وأقران السؤ الآخرون (الدينيون) عن هذا المثال (المشع)، بل لقد سبقوهم في العيارة والنصب على السذج، وهؤلاء تاجروا في الدين وهذه من أعظم الكبائر، وجعلوه مصيدة وحصالة فبئس ما يصنعون! إلا من ناضل جاهراً قوياً من أجل حقوق الناس لا تهمه في الحق لومة لائم وإذا صار لا يُدفع له شيء واصل طريقه، وليس نضاله متوقف على دخله الرفيع، أو على رئيس وكرسي بائس! البرجوازيون الصغار الانتهازيون ليس لهم من مال كبير يحفظهم من السؤال، ولا من موقف متجذر يرفعهم عن الانحدار، ولا من عمق الفكر ما يسمو بهم عن التسول، ولا من عمق الدين ما ينأى بهم عن التجارة بما هو ثمين لا يُقدر بمال! خسروا الموقف وهو جوهر الشخصية وتراكمها الأخلاقي الرفيع وقدرتها على النمو والتأصيل والتحليل والبقاء الشامخ والنقد الشجاع الذي لا يطلب مكأفاة ولا رعاية من لصوص، ولا تقدير من الحقير ذي الجاه والمال.
أرقصْ على حبال الطبقات والتيارات وأرفعْ مصلحتكَ الخاصة لدرجة المقدس. كنْ مع الحركة إذا رفعتك وقربتك من السلطة والمغانم وأهربْ عنها إذا حرقت شعرةً من جلدك. كنْ ضدها إذا خسرتْ ولا تقطعْ الخيوطَ تماماً فربما أعطتك شيئاً في مستقبل الأيام. كنْ مع الاشتراكية إذا كانت كراسٍ وتذاكرَ ودراسة مجانية وأبناءً يذهبون للنزهة. لكنك دائماً مع الرأسمالية، هذه الملعونة اللذيذة. كنْ مع اليسار إذا أغنى أهل اليسار، وكن مع اليمين إذا صعد نجمُ اليمين. كن مع الالحاد إذا كان مفيداً وساعتهُ دانية وكنْ مع الإيمان إذا كانت قطوفه دانية. كنْ ماركسياً تقدمياً حيث لا ضررَ ولا ضرار والجمهورُ الكادحُ يعطي تضحياته لها، وكنْ دينياً طائفياً حين ينقلب الجمهورُ ويصبحُ منشئاً لحصالات الخير والتبرعات ويسفكُ دمَهُ من أجل الخيال. أنت أيها الراقصُ على حبال الطبقات والتيارات، يا لك من ذكي في زمن الغباء السياسي. قامتك تصلُ للسماء وأنت تمشي وراء جيفارا وكاسترو وهوشي منه وتدقُ طبولَ الثورة في الغابات العربية الصحراوية، تحملُ بندقيةً من خشب وتقاتلُ في الفضاء، ولكن لا مانع من إستثمار أبناء هوشي منه في المصانع والسكوت عن الاستغلال الفظ للملايين منهم. إذا جاء زمانُ الثورة العمالية والاشتراكية فأنت إشتراكي لا تقبلُ بربطةِ عنق برجوازية، وتدينُ الأكراميات وإنشاء المتاجر عند اليساريين المتخاذلين الانتهازيين، ولكنك لا تمانع من المتاجرة بالدولارات في الاشتراكية وبيع البضائع المهربة بالسر في روسيا السوفيتية. جاء زمانُ الطائفيين ففجأة إكتشفتْ طائفتك، وبكيتْ على ماضيك الإلحادي، وكراهيتك للمساجد والمآتم حسب تصنيفك الطائفي، وعرفتْ مزايا مذهلةً في هؤلاء الطائفيين المقاتلين من أجل الديمقراطية وحقوق الجماهير، أو لكونهم عقلاء يؤسسون رأسمالية بنوك الخير ومساعدة الشعوب وينخرون الحكومات والأنظمةَ بدأبٍ من أجل مستقبلِ رأس المال الطفيلي، وفي الإمكان أن يقفزوا للسلطات فجأة. فأنتَ دائماً مع الخير وتقدم الشعوب والموجة الغالبة. مع الدولةِ والرواتبِ المجزية والعلاوات والبقشيش ومع المعارضةِ الطائفية تضعُ في صندوقَها الأسود بطاقةً للمستقبل، وربما يحضرُ مقعدٌ عال في قادم الأيام، فالعاقلُ لا يفلتُ فرصةً. مع الاشتراكية هناك ومع الشيعة هنا، ومع السنة هناك ومع الربيع ومع الخريف حسب الأسعار، ومع الألوهة ومع الإلحاد، ومع المقاومة ومع التراكمات النقدية حسب الطلبات الوطنية والعالمية والشركات المتعددة الأيديولوجية. التناقضاتُ تملأكَ ولكنها لا تدمرك، كيف تُدمرُ حصالةٌ؟ وكيف يفلسُ بنكٌ إيديولوجي سياسي متحرك؟! التناقضاتُ تصيبُ المناضلين الخائبين الذين لا يغيرون مبادئَهم حتى في الأعاصير، الذين إذا قلّ أنصارهم بقوا، وإذا كثروا لم يغتروا. يكتفون بضلع من بناية، ويزدهرون في البساطة والشظف والفرح. أما أنت فعملاقُ عصرك ترتفعُ عن هؤلاء المحنطين، وتزدهرُ أسهمك ومدخراتك، وترهفُ السمع لأي تغير في الذبذبات السياسية والمالية، وتزحف وتزحف حتى تهترئ نفسك ولا يبقى عظيمٌ في روحك، تتحسُّ موجات الهواءِ الصغيرة لتتعرف الاتجاه القادم وتبقى في الاتجاه السائد. قدمٌ في الرأسمالية وقدم في الاشتراكية، قدم في اليسار وقدم في اليمين، قدم مع الإرهابيين وقدم مع الشرطة العربية حسب مسار الأسهم. هؤلاء أعداؤك الذين كانوا يريدون قتلك فكيف تظهر بينهم وتزرعْ زرعهم، وهذه أوراقكَ كيف توقفت وأهترات، وهذا مسرحك كيف هدمته، وهذه أدبياتك كيف توقفت وهذه صحفك كيف أهترأت، وهذه خطاباتك كيف مُحيت، وهذا تيارك كيف دمرته، وهذا شعبك كيف تلاعبتْ بمصيره؟
مع انهيار الوعي الوطني بدأت أشكال الوعي الطائفي تتغلغل في شتى مظاهر الحياة. والأدب أحد التجليات الخطيرة لهذا الانهيار. علينا أن نرى أولاً كيفية انهيار الوعي الوطني داخل الأدب وكيف صار ذلك ممكناً. فالأدب الذي كان أحد أشكال تجليات وعي المعارضة السياسية ارتبط على مدى قرن بعملية توحيد الشعب البحريني، سواء كان ذلك في كتابات النهضة الأولى، التي برزت زمن الغوص، أو مع ظهور الاقتصاد الجديد بدءً من الثلاثينيات، وسواء كان ذلك في الموضوعات التي توجهت لموضوعات عامة نهضوية كأهمية التعليم أو تشكيل نمط جديد للأسرة. أو من جانب المضامين التي كيفت تلك الموضوعات مع كفاح الجماعات الفكرية والسياسية التي تصدت لعملية التغيير. إن الفقير أو العائلة أو الناس أو الرموز لم يكن لها ترب محددة، بل هي تتشكل في فضاء مجرد، وإذا كان لها بعض الملموسية هنا أو هناك، فهي ملموسية محدودة، كما يفعل إبراهيم العريض مثلاً حين يتحدث عن القرية. أو حين كان الكتاب السياسيون يوظفون بعض مفردات القصة أو الشعر للتعليم والتوجيه، فلم يكونوا يوجهون كتاباتهم تلك لطائفة، بل كان هاجس (الشعب) مسيطراً عليهم، ومن هنا كانت المناسبات الدينية لا توظف للخصوصيات الأثنية، كما يحدث الآن بغرض التفتيت والتكسب. ولهذا كانت المناسبات الدينية قليلة، ومركزة على التوحيدي منها، ولا تجعل في بؤر الحياة اليومية، في حين كان الشعر رأس الحربة في الأنواع الأدبية، بسبب مستواه العاطفي المباشر والذي يشكل تماساً مع الجمهور، وكذلك لجذوره العريقة. ولهذا فإن التحديثية المبالغ بها في الشعر، أو في القصة، وصعود السياسيين المذهبيين على منبر الكلمة، واستيراد الأدب المذهبي العتيق وترويجه، والتسطيح الفكري والأدبي والانتهازية الفردانية الواسعة، وانتشار سطحية الأدب، واتساع الابتذال فيه، وعدم تطور الأجيال الأدبية الجديدة، فتنسخ ما هو سطحي ومبتذل، هي كلها مظاهر مشتركة متداخلة. إن تدهور الوعي الوطني يتجلى في المظاهر الفكرية السياسية التي كانت بوابة التخريب في الأدب، وعبرها ولعدم قيادتها العمليات الفكرية الوطنية النضالية، وبرجماتيتها التي وصلت حد الانتهازية واستغلال ما هو رائج، لم يتبلور وعي وطني صلب للأدباء والفنانين عموماً. ومن هنا لم تناضل ضد الشكلانية ولم تعمق الواقعية، فداخل الحركة الوطنية نفسها كان التفسخ الفكري يشتغل بقوة، حتى تلاشت الأدوات النقدية والعقلية لتحليل السياسة والثقافة، اللتان هما ضفتا الوعي المنتشر. إن طغيان موجات الطائفية على الحياة بسبب الترويج الاقتصادي والسياسي الواسعين لها، وانتشارها، قد فل من عضد الحركة الوطنية لمقاومة هذا السرطان، وعمل البرجماتيون على استغلاله في مشروعاتهم السياسية، دون أن يشغلوا أدوات العقل والتحليل الوطنية، ويثابروا على تكريسها في مجال الأدب والفن. وتغاضوا عن نموها واستفحالها، ودخولها مجالات الأدب والفن بعد أن لم يتصدوا لها في مجال السياسة. فمن جهة هم جهلة بتاريخ الإسلام، ومن جهة أخرى هم جهلة بتاريخ الفنون الثقافة عامةً. وحين تحطمت طليعة الوعي الوطني، فإن الأدباء والفنانين يأتون بشكل تال في المسئولية. ومسئوليتهم تنبع من نفس المناخ العام للقادة السياسيين وهو التقوقع في الأشكال الإبداعية الصغيرة المعزولة عن سيرورة المجتمعات العربية، وعن حركات النضال الحديثة. وحين توارى قسمٌ كبير ٌ من جيل التحديث الإبداعي عن مسئولية الكفاح الوطنية، منغمرين في الهيئات البيروقراطية والاقتصادية والسياسية ومنافعها، تآكلت الأدوات الإبداعية الوطنية عن الانتشار والتأثير في الأجيال الجديدة خاصةً، التي وجدت نفسها في تبعية للقشور السائدة الطافحة على جسد الواقع المريض. والتأثر بالجهل والكسل العامين، أدت إلى تضاؤل إرادة الكفاح أكثر. جانبان أساسيان ميزا الوعي عامة هما الذاتية والانتهازية، وهذان جانبان قد دغما الفئات الوسطى أكثر من غيرها بسبب إنها منتجة الوعي والراغبة في تغيير مستوى المعيشة والباحثة عن الثروة كذلك. إن التعليم الخاص وتدهور التعليم العام و انتشار الأدب العامي الركيك والسطحي وسيادة الغموض لدى التجريبيين وسيطرة المسرح التجاري الغبي هي وغيرها من المظاهر تعبر عن السمتين السابقتين، في توليفة مركبة. لكن ظاهرات الأدب معقدة، فلا تظهر السمتان تلك بذات الوضوح، فتوجه القصيدة إلى الذاتية وشحوب العالم الخارجي هو شكل من الابتعاد عن نقد الظواهر الخطرة المسستفحلة، فيلجأ الشاعر للتعقيد والرموز غير المبنية على توليفة نقدية اجتماعية بحرينية، فتخبو صور المجتمع البحريني وصرعاته لأن الشاعر لا يريد أن يتخذ موقفاً تجاه الصراعات المتفاقمة حتى لو احترق جيرانه، مستمراً في نسج صور متقطعة أو ذاتية، أو صور من الهوس والفتنة الخاصة.. أو حين تدور القصص القصيرة حول الشخصية الغارقة في فرديتها، فالقاص يصور بعض صور الأحياء والشخوص عبر مشاكل فردية أو جزئية، وهذا لا يدل فقط على غياب التراكم الفكري الأدبي الوطني، بل كذلك على الغرق في الوعي الطائفي المنتشر، فهو غير قادر على تصوير المجتمع بصرعاته الحقيقية، فيتسيس وعيه الفني المسطح بذلك الوعي، لأنه غير قادر على التغلغل في المشكلات العميقة لأبطاله. فكما تقل البطولية والملحمية والدرامية في القصيدة تقل العمليات الروائية في النوع القصصي. وتقل الدراسة التحليلية العميقة في النقد، ويغدو التعبير الصحفي المسطح، الانفعالي، اليومي، هو شكل الوعي الكتابي الغالب، فالوعي للفئات الوسطى المنتجة للفكر، تسطح وغدا مثل حركة الزئبق، تشده الأحداث، وهو غير قادر على قراءتها وتحليلها، ولهذا فإن المجموعات الحديثة، التي هي منتجة هذا الوعي بنسبة كبيرة، لا تتلاقح على مستوى إنتاج الفكر، ولا على التعاون السياسي العميق. من هنا تصعب إن لم تستحيل الدراسة النقدية العميقة، وتغدو الكتابة (أكل عيش)، فينزلق مثل هذا الوعي السطحي الرجراج نحو سيدة الموقف السياسي؛ (الطائفية)، فيقوم المرشح وعضو البرلمان في خطبه بمغازلة طائفته، وتقوم الجامعة بالاهتمام بالأدباء المحافظين من الطائفة المسيطرة فيها، وتقوم الجمعية الفلانية بالاحتفاء بالأديب الراحل من طائفتها، وهو الأديب ذو الإنتاج المتدني أو الذي لا قيمة له، أو يروح كتبةُ الطائفة بالتركيز على فترات وأهمال فترات من التطور الوطني العام. وسيطرة مثل هذا الوعي السياسي الطائفي على هذه النخب التي تمسك زمام جوانب فاعلة في الحياة الاجتماعية ، يقود إلى توسيع شبكته في أنحاء الحياة، وخلق الشبيبة السياسية المروجة له في المدارس والجامعات، ومن هنا نرى خبو ظاهرات الثقافة المبدعة في هذه الأجيال التي تم تسميم عقولها بالثقافة الإعلامية السطحية وبالتعصب المذهبي المنغلق على أشكال ورموز لا يتعداها، وتبعد عن قراءة الأدب الحديث، وعقله يصير مثل أشرطة المسجل، وبتكرارية الأدعية والمناسبات الدينية التي تردح بمثل هذه المنولوجات. إن تفتت الإنتاج الفكري الوطني، يعقبه تفتت على مستوى الأنواع الفكرية والأدبية والفنية، فيحدث التدهور من العام إلى الخاص، ويصير الشعب مجموعات مفتتة، يزيد من تفتتها ظواهر العولمة؛ عمالة أجنبية، وبث فضائي يحول البيوت إلى قواقع، فيتحول العقل الوطني إلى عقول طائفية كل منها له بثه الخاص، وأدبياته ومناسباته، وكل هذا المناخ لا يخلق أدباً وطنياً. ويغدو عمق هذه التجزيئية الفكرية أحياناً كارثة، فنظرة الطائفة وتاريخها وإرثها ينعكس في مثل هذا النتاج الذي يصدره مثقفون، وبدلاً من التوحيدية الإسلامية، يجري تكريس نقيضها، مع كم من أساطير الطائفة وتواريخها الخاصة، فتطبع كتب قديمة هائلة الصفحات وتنشر بشكل واسع. ولا يظهر هنا وعي تحديثي يقوم بقراءة مثل هذا الإرث ووضعه في إطاره التاريخي باعتباره من أدب زمن الطائفية وتفتت المسلمين. فهؤلاء المثقفون لا يسيطر عليهم هاجس الفكر الوطني، ومن هنا يغزلون شرانق ذاتية غير قادرة على تحليل الواقع الراهن بصراعاته الاجتماعية، غارقين في الصراع الطائفي والرؤى الطائفية، التي تذبل.
كلمة الغلاف الخلفي لكتاب الجزء الثالث الأعمال الروائيــة
الرواية عند عبدالله خليفة تنطلق من الماضي وتذوب في أطيافه، تمتزج بالواقعية، وتتمادى في تعقيد حبكتها الروائية، تؤسس لحياة غابرة بقلم الحاضر، تستدعي شخوصها وأمكنتها بتاريخ هذا اليوم وتحاول عبر عالمها الروائي أن تشيد الزمن برؤى الحاضر، تحكي بصوت الراوي المنفرد أصواتاً مختلفة وتعبر عوالم لا منتهية، عوالم البشر والطبيعة، عوالم الزمن والمكان الذي يشتغل برمزيته على الأحداث ويؤطرها وفق فترة زمنية وحقبة تحكي بشخوصها وملامحها ملامح عصر ربما عفت عليه الأيام لكنه يعيد تشكيل ذاته من جديد وبشكل مغاير يختلف بطريقة ما عن سابقه ولكنه يعتصر من الماضي مقومات حضوره.
هكذا كانت هي رواية «الأقلف» لــ عبدالله خليفة رؤية تسرد حكاية من لا يعرف لذاته طريقاً، ومن يجهل ملامح صورته ومن يسأل عن جذور هويته ولكن لا سبيل للوصول فالحقيقة تظل سراباً والواقع أكبر من ان نفهمه.
من أنا؟ ومن أكون؟ ما هي ديانتي وهويتي؟ أسئلة كثيرة في حياة «يحيى» فالوطن والحب والأثنية ثلاثي أنتج قلقة مبعثرة هادئة لكنها صاخبة، مسالمة لكنها قوية، حالمة لكنها مستاءة وحزينة، رواية من لا يعرف لذته طريقاً ومن لا يجد لأسئلته مجيباً ومن لا يكف عن البحث عن السكون إشكالية الوجود وعبر إشكالية الذات تتمحور إرهاصات الحياة وتبرز ثنايا النفس وعيوبها..
على مساحة واسعة عمقاً وسطحاً يجمع عبدالله خليفة عُقَد الخيوط بيديه، يشدها، يمَّدها، أو يُرخيها، بامتداد فضاءات حكائية سردية مترامية، تشبه إلى حد كبير القصيدة الملحمية المطوَّلة، أو النشيد البطولي الاسطوري، حيث تتوالي وتتقاطع وتلتحم، تلك الفصول كحبات المسبحة كما تترى وتائر الوقائع والأحداث والناس والشخوص، وتحتدم الصراعات وتتضارب المصالح والطموحات والغايات.
وفي ثلاثيته الينابيع، وفي غيرها من رواياته العديدة، التي تعتبر منجزاً وطنياً إبداعياً، ولعله الوحيد الذي يحسب له كتابة تاريخ البحرين الحديث «روائياً» في ثلاثيته «ينابيع البحرين» التي ستظل مرجعاً تأصيلياً مهماً لتاريخ البحرين والرواية السردية على السواء.
كلمة الغلاف الخارجي للاعمال التاريخية
إنها غوصٌ حميمٌ غنائي سردي في شخصيةِ النبي محمد، نبي الإسلام، حيث تتجسدُ البطولةُ في المفرداتِ الإنسانيةِ الطفوليةِ الأولى، وتنمو بشكلٍ درامي صدامي مع الواقعِ والآخرين، في نأيهِ عن عبادةِ الأحجار والتحامه بالمغمورين من البشر، وببذور المعرفة والنضال، وفي تساؤلاتهِ وبحثهِ عن طريقٍ متحضرٍ لجماعةٍ غارقةٍ في التخلفِ والتمزق. هي لحظاتهُ الدراميةُ المتفجرةُ وثورته. هي روايةُ محمد الإنسان، في حبهِ لخديجة، ونمو علاقتِهما وسط الوثنيين، المعادين، وفي عملِهما المشتركِ المضني المتصاعد. ويتجسدُ من جهةٍ مضادةٍ الوثني الأناني الإستغلالي المتخلف، الذي يريدُ كرسياً وملكاً فوقَ رقابِ البشر، ويستعينُ بكلِ شيءٍ لوقفِ التقدمِ والحرية ودولة الجمهور. محمد ثائراً
تعتدلُ الأسواقُ حين يمر. يتطلعُ الباعةُ إلى موازينهم جيداً. تعتدلُ الأسعارُ ويتجرأ الفقراءُ، ويحترمُ الرجالُ نساءهم، ويختبئ اللصوصُ والدجالون في أوكارهم، وتزهرُ غيومُ العصافير على الشجر، وتتدفق كتبُ الأمصار بأخطاء الولاة، فيندفع رجالٌ على خيولهم أو أبلهم لا توقفهم الصحارى والسيول والذئاب والصعاليك والأمراء، يقتحمون أبوابَ الإمارات العالية، وينزعون سياطَ الحراس ويحررون الخدمَ من الأحباس، ويسحبون الولاة للمحاكم والأسواق، ويعرضونهم لصفعات الناس ، وكلماتهم القاسية.. يقحمون رؤوسَهم في خزائنهم، يدققون في الأرقام والمعادن النفسية، والرخيصة، يأخذون الكثيرَ وينثرونه على المساكين، ويتطلع أؤلئكَ الفقراءُ في أزقتهم المعتمة لهؤلاء البدو الغرباء ذوي الثياب الرثة، يحولون النقدَ الثمين مثل مطر مضيء رخيص ينهمرُ على العشش. يرون أبوابَ الولاة الثمينة تـُهدمُ وتنفتحُ دارُ الإمارة للمتسولين والنساء والمجلودين في الحقول والمسروقين في أهراء القمح، وتتكاثر الحشودُ على الولاة. حين يظهر عمرُ بدرتهِ في الطرقاتِ والأسواق والحارات، يختفي المتسولون وباعةُ الغش، وتمشي النساء باحترام، وترتاح حيواناتُ الحمل من صناديق ثقيلة وأحمال متعبة، ويوقف المتحدثون خطبهم الطويلة عن الفضيلة، ويتجه الرجالُ للحقول ويتركون مجالس الثرثرة. ويبعث الحطابون والمزارعون والنساء والعراةُ من وراء الصحارى بخطاباتهم لأمير المؤمنين ينتقدونه على عدم عنايته بهم، ويتطلع بعضُ الصحابة في الرسائل بغضب، في حين يدقق فيها عمر، ويسألُ، ويكتبُ، ويرسل رجالاً مصنوعين من عظام الفضيلة والجرأة السميكة، يقتحمون مخادعَ الولاة النائمين ويجرجرونهم عن المحظيات، ويعرضونهم لسياط العامة، ويستبدلونهم برجالٍ آخرين من التراب، ويحملون خزائنهم ويلقونها في بيت المال، حيث حشدٌ من العبيد والخدم السابقين، حراساً غلاظاً على كل درهم. عمر بن الخطاب شهيداً
من رأى عهداً للحب والحنو والمساعدة مثل عهدي؟ اسألوا الأباطرة الذين رحلوا ووسعوا المقابر، اسألوا الغاضبين الذين قُتلوا! انظروا العاصمة التي تخلو من الحرس والشرطة والمشعوذين والمخبرين والشحاذين! ولكن بعض النفوس الصغيرة لا تحبني، يريد لكل هؤلاء الفقراء أن يزهدوا في الدنيا بل لا بد أن يفرحوا ويأكلوا في الموائد العامرة، وينتشوا بالحياة! عثمان بن عفان شهيداً
تنامُ العيونُ وتهجعُ الأجسادُ، وهو لا ينامُ ولا يستريحُ، في الأزقةِ المتربةِ، في خيامِ القادمين من الأمصار، في الأسواقِ الناعسةِ والضاجةِ بالصراخ، يرونه.. اسمهُ مثل عاصفةٍ على الأشرار، يسترخي الفلاحون تحت الأشجار، وترتاح حيواناتُ الجر، وتتوقف الفوائدُ المجحفة، وتقلُ الأرباحُ النهمةُ، وتسالمُ جيوشُ الفتوحِ السكانَ والزرعَ، وتغمغمُ القصورُ والبيوتُ الكبيرة بالشكوى. يوجهُ الرسلَ والأمراءَ والدعاة:
اذهبْ لمصر واعدْ السلام وأخمدْ الفتنة.
أذهبْ إلى اليمن وأحمِ الرعاة.
أذهبْ إلى الكوفةَ وأسألْ الناسَ عن واليهم.
أمضِ إلى البحرين ووزعْ الفيءَ على الفقراء. يتأملُ الليلَ والنهارَ، ويغسلُ بيتَ المال من أثر الذهب والفضة، ويجلسُ ليأكلَ وجبتَهُ الشحيحة. يتساءلُ: هل سيتركونني أعملُ ونقفز على مستنقعات الدم؟ هل سوف ينسى كبارُ رجالات قريش الماضي والكراسي؟! علي بن أبي طالب شهيداً
تتوجه هذه الرواية بأسلوبٍ عصري مختلف لحدثٍ تاريخي شهير. إن مأساة الحسين تتحول هنا إلى حراك شعبي واسع مع غياب جسد الحسين نفسه. فالرأس التي تُحملُ على أسنة الرماح نحو مقر الخلافة حيث زعامة القهر تحرك الجمهور ليقرأ واقعه الذليل، وتحملُ هذه الرأسَ عدة شخصيات، وتدخل مدناً، وتلتحم بمنولوجات شخصية وحوادث فردية وجماعية، حتى تتشكل دائرة واسعة من الأحداث والصراعات والحوارات. لكن الرواية كفنٍّ عصري لا تكتفي بعالم من الأحداث التاريخية الحقيقية، بل تمزجها بخيال فني، يوسع من تغلغلها في الشخصيات التاريخية المحورية، فتوجدُ الشخصية الشعبية المتحولة كمحور كبير، فيتمازج المتخيل بالحقيقي، وما هو شعبي كفاحي متوارٍ يغدو في مقدمة اللوحة، وما هو تاريخي فوتوغرافي يتراجع للوراء ليكون خلفية الرواية، ليتغلب الشعري على النثري، وتغدو الرواية جزءً من ملحمة الصراع في بداية التاريخ الإسلامي. إن تراجيديا التاريخ الإسلامي تتحقق هنا على صعيد الرواية كحوارات صراعية بين شخصياتها المحورية. إنه عمل روائي من نوع جديد. الحسين شهيداً
كلمة الغلاف الجزء الخامس
تمثلُ الأنواعُ الأدبية والفنية قضايا جوهرية في الأدب، فهي تعبرُ عن قدراتِ شعبٍ أو أمةٍ ما على التطور الثقافي على مدى قرون، فليستْ هي بناءاتٌ شكلانية تُرصفُ الكلامَ وتجمعُ المعاني في «قوالب» لكنها تعبيرٌ عن قدراتِ المبدعين والنقاد على الحراكِ التحويلي لمجتمعاتِهم، أي على مدى تمكنهم من إقامة علاقاتٍ عميقةٍ مع البشر وجذورهم الدينية والثقافية والاجتماعية وتغييرها تبعاً لخُطى التقدم، ومجابهة قوى التخلف والاستغلال والتهميش للناس، وتصعيد القدرات على الحوارِ والبحث والتجديد.
أي هو التحولُ من هيمنةِ الصوتِ الواحد إلى تعدديةِ الأصوات، ومن سيادةِ الأنا المركزيةِ الاجتماعية إلى تنوع الأفراد وقدرتهم على الحوار والنقد والتغيير.
وإذا كانت صناعة الأنواعِ الأدبية تخضعُ للأفعال الحرة للمبدعين فإنها لا تستطيع أن تقفزَ على الظروف الموضوعيةِ للواقع والناس. وهيمنةُ نوعٍ أو وجود الأنواع كافة هي قضيةٌ مركبةٌ من الذاتي والموضوعي، من سيطرةِ قيودٍ تعبيرية قَبْليةٍ ومن مساهماتٍ تحريرية لنزعِ تلك القيود، من آفاقٍ مرصودةٍ سلفاً نتاج سابقين ومن قدرةِ المعاصرين على تغييرِها تَبِعاً لتطورِ الحياة والمساهمة في تغييرها.
والمبدعون يظهرون في شروطٍ سابقةٍ على إبداعهم، إنها تقيدُهم وتجعلُهم يعيدون إنتاجَ الماضي الثقافي أو يضيفون عليه بعضَ الإضافات اليسيرة والمهمة غير التحويلية الواسعة.
ومن هنا فظهور الشعراء في عالم العرب الجاهلي يختلف عن ظروف أخرى تالية حين حدثت نهضة، فسيطرةُ الصحراءِ والحياةِ الرعوية، هي غيرُ ظهورِ المدنِ وميلادِ دولةٍ إسلامية واسعةٍ تختلطُ فيها الشعوب.
لكن ان تبقى الهياكلُ الإبداعية الجاهلية في عمقِ المدن وتسيطرَ على الإنتاج فهي أيضاً هيمنة قَبْلية مستمرة.
وقد طُرحتْ بقوةٍ مسألة قصورِ الأنواعِ الأدبية والفنية على نوعٍ واحد بشكلٍ كبيرٍ هو النوع الشعري، وضمور النوعين الآخرين وهما النوعان الملحمي والدرامي، كما هو غيابُ الأنواع الفنية، وهي قضية ليست تجريدية بل قضية تاريخية واجتماعية وفكرية طويلة ومعقدة.
كلمة الغلاف الجزء السادس
تنتمي رواية «ساعة ظهور الأرواح» لـعبدالله خليفة إلى النوع الروائي الذي لا يهادن ما اتفق عليه في القراءة، ويعود الأمر إلى تركيبته البنائية التي تجعل النص تجربة تخييلية تعيش حالات مستمرة ومتنوعة من التطور التقني والإجرائي والأسلوبي والمعرفي، مما يجعلها منفتحة على الإيحاء في أبعاده المنتجة للتعدد والتنوع في التأويل.
…………….♦♦♦ …………….
في لغة تفاعلية بين الفكرة والصورة، وبين الصوت السياسي الاجتماعي، والتأليف الجمالي الشعري، يسعى الكاتب عبدالله خليفة لإرساء بناء روائي لا ينقطع عن إحالاته الواقعية والتاريخية. فمناط الكاتب في رواية «التماثيل» كما فيما سلف من رواياته، قضايا اجتماعية وفكرية، ينطلق منها لكشف مرتكزات وأشكال الاستغلال الاقتصادي والزيف السياسي، ومرد التلوث الأخلاقي والسلطوي، والإضاءة على عالم المفارقات والتحولات. وتتراوح بين استرجاعات فردية وجماعية، واستدماجات واقعية وحلمية. وتنفتح على اليومي والمعيوش، كما على التاريخي والأسطوري.
…………….♦♦♦ …………….
الفردُ الوحيدُ حين يُسحق، يُداسُ كحشرةٍ، ويقاومُ في هذا الوجودِ الممزقِ المتلاشي، يفقدُ رجولتَهُ وأبوتَهُ ، هل يزول تماماً؟ هل يبقى فيه عرقٌ ينبضُ؟
بل حين يفقدُ كرامتَهُ، ويبيعُ كلمتَهُ، هل يتلاشى كلياً؟!
هنا الشخصيةُ المعقدةُ المركبةُ وهي تضجُ بالكلام، والأحلام، والكوابيس، وبمشروعاتِ الأنتقام والأمتهان، وتخلقُ، وتتمزقُ بين ثورةٍ باطنيةٍ وإنسحاقٍ ظاهر، في أشكالٍ من السردِ الغرائبية الواقعية.
الخصمُ ملأ الساحةَ، حازَ الثروةَ، وصارَ كائناً كلياً جباراً، معبوداً كأنه إله، وتحولَ المواطنون إلى حشرات، ولم يبقْ سوى أن يذيبَ هذا المثقفَ الوضيعَ الذي لا يزالُ يقاوم، لكنه لا يذوبُ بل يتناسخُ ويظهرُ بأشكالٍ جديدة.
ما أن تشرع بقراءة رواية «عنترة يعود الى الجزيرة» حتى يطالعك منظر الصحراء وهي تصحو على الفجر. هي البلدة الراقدة قرب الشواطئ ذات البيوت الصغيرة المتلاصقة المسماة «سبخة» التي غزاها الغرباء على عيون أبناء القبيلة.. يتخذ الروائي من شخصية عنترة البطولية مادة للتعبير عن ذلك التلاحم والترابط الذي يبلغ أشده في الدفاع عن الهوية، فثمة إيحاء معتقدي واجتماعي وسياسي لهذه الشخصية التي اختارها عنواناً لروايته وأناط البطولة فيها الى «هلال العبسي» الذي يدخل السجن عقاباً على شجاعته. ما يميز العمل أنه يسلط الضوء على علاقات انسانية تشكل جزءاً من تاريخ مجتمعات الجزيرة العربية والخليج العربي في الماضي والحاضر في حراكه اليومي: إذ تؤرخ الرواية لحدث واقعي بأسلوب رمزي يضفي على البيئة المحلية نكهتها الخاصة..
…………….♦♦♦ …………….
«هو الأسطورة الحية، له أسرة واسعة من الطمي والتاريخ والرموز، مازال يرقب الثورة المغدورة، يمشي بين الجمهور، يرسل رسائله عبر الزمن».
هو هنا يمضي، على عرشِ النيل الخالد، قلوبِ الجماهير.
يرى جمالٌ أصابعَهُ تشقُ الجبلَ، وتنهمرُ المياهُ، ومن الزقاقِ الضيقِ والباعةِ الصغار راح يطيرُ في الفضاء قربَ السحب، يمسكُ جذورَ النهر ويحولُها عن صخورِ الطحالب، يقربُهَا من منازلِ الصيادين والخدمِ وعمالِ التراحيل، يكسرُ أحجارَ الجبال ويضربُ بها العمالقةَ الطالعين من القبورِ والكهوفِ ويركضُ السحرةُ حولَهُ ويمسكون ساقيهِ الضخمتين المتشبثتين بتاجِ فرعون، يفضهم كورقِ الشجرِ نحو الزنزانات والفيافي، يتطلعُ للأزقةِ المزدحمةِ الخانقةِ فيجدها لم تتبدل، والفولُ هو نفسُهُ صغيرٌ صغيرٌ حتى كأنه لا يُرى، لكنه صامدٌ أبدي في الشوارع مع الدخانِ والبخار والذبابِ، يهجمُ جمالٌ على السحبِ والغبار والأموالِ وتعلو المداخنُ توزعُ الأرغفةَ على الجائعين، وتملأُ رئتيهِ رماداً فيحولُهَا لسجائرَ ثم غليوناً وتتغلغلُ في خريطةِ ظهره.
من رسائلُ جمال عبدالناصر السريةِ
كلمة الغلاف الجزء السابع
كيف تكونت القصة القصيرة لدي؟ لماذا لم تنفصل عن صرخاتي السياسية والاجتماعية؟ لماذا وجدت نفسي كاتباً للقصة القصيرة وللاحتجاج الوطني والاجتماعي معاً؟ لماذا غدت شخوصي مستقاة من المشاهدات والحكايات المروية والمواقف الحقيقية والرموز العربية ومن التجربة الحياتية بكل عفويتها في البدء؟
لا أعرف لماذا وأنا طفل توجهت لقراءة سيرة عنترة بن شداد، فلماذا هذه الشخصية هي التي ظللت طفولتي، فرحت أقرأها واشاهدها على شاشة السينما القريبة من حينا؟
هل مخاض التحدي المحيط، والحي الفقير المهموم بالحرائق والاستغلال، هو الذي يخلق جواً من البحث عن البطولة، واستبصار طرق الكفاح؟
هل يلعب مخاض الشعب البسيط المستعبد الباحث عن حريته من الأسياد الخارجيين والداخليين، دوره في خلق مناخ جاذب للفتيان، ومحرضاً لهم على الالتحاق به، والإضافة فيه؟
هل يغدو واقع الأمة المفتتة التابعة، والتي تستعيد نهوضها وتفكك شبكة تبعيتها وإرثها، روحاً هائمة قوية فوق نفوس شبابها؟
لا شك أن مناخ الخمسينيات الذي تشكلت طفولتنا فيه، والممتلئ بضجيج الإذاعات، وخبز المنشورات الساخن، والمعبأ بالمظاهرات، كان له دوره في الذهاب إلى رموز البطولة القصصية، سواءً كانت عنترة أم السندباد أم أولئك الأطفال اليتامى الذين يتلقون المساعدات من القوى السحرية.
لقد كان نمونا الدراسي والثقافي هو صراع ضد تركات المجتمع التقليدي، في عقد تخلص النخب الثقافية ــ السياسية من الأفكار العتيقة في الثقافة والسياسة، عقد تجاوز الأقصوصة الميلودرامية والإنشائية، والتلاحم مع مستويات الواقع، والتاريخ، عقد تجاوز أفق «الطبقة المتوسطة» على مستوى الممارسات الفكرية والإبداعية.
لا شك أن صعود ثقافة الشعب البسيط كان محصلة لتغير عالمي غامر، كان يدفق أدبياته ورموزه وخلاياه في الأحياء المأزومة.
من هنا كانت أقصوصة رصد الواقع الفاقع، والتقاط ما هو طافح وبارز، وكشف مثالب «الأشرار» هي تعبير عن هذا المناخ الشعاري، أما البُنى الفنية السائدة فهي تعتمد على: التصوير الفوتوغرافي لنماذج بائسة، أو خلق بنية أولية لكشف التضادات الاجتماعية الحادة، واعتماد على اللمحات الخاطفة وعلى الرموز الأكثر حضوراً وديناميكية في الوعي العام كالنماذج الأسطورية والدينية. .
تجربتي في القصة القصيرة
كلمة الغلاف الجزء الثامن
الكاتبَ والمثقّف البحرينيّ الكبير عبدالله خليفة، بعد مسيرة طويلة شاقّة ومضنية وحافلة بالعطاء والتنوير، وإنتاجات دافقة وعميقة وثريّة ومتنوّعة في الفكر والفلسفة والأدب خلّفها وراءه لتشهد بآثاره التي حفرها في ذاكرة الوطن بترابه ونخيله وبحره وهوائه وشخوصه وتاريخه التليد والطارف، لقد توسّل عبدالله خليفة بالكتابة لِتقوم «بالانغراس في جذور الأرض لأنّ كلّ يوم هو لحظة ألم وأمل»، ولكلِّ لحظة مضمون، وكلّما كان المثقّف ممتلكًا أدوات التعبير عن هذه اللّحظة، ومتمكِّنًا من الإفصاح عمّا تحتويه كان إنتاجه الكتابيّ أقدر على مقاومة الفناء والتّلاشي، وأجدر بتسجيل جوهر اللّحظة وتجلية خصوصيّتها.
والناظر في تجربة الكتابة الروائيّة عند عبدالله خليفة يلاحظ تراكم النصوص وانتظام صدورها؛ ليكون بذلك أغزر كتّاب الرواية في البحرين إنتاجًا، وأشدّهم حرصًا على ممارسة فعل الكتابة؛ لإيمانه بأنّ «الكتابة تنمو فوق الأرض الحقيقيّة، تسحب الصواري من عند البحارة الذين غطّسوهم موتى وهياكلَ خاليةً من المعنى في قعر الخليج، فتغدو الروايةُ الكبيرة المخطّطة في الرأس رواياتٍ عديدة»، تزخر بما يزخر به الواقع من صغير الشؤون وعظيمها، ذلك أنّ روايات عبدالله كلَّها مشدودة إلى الواقع شدًّا وملتصقة بالحياة التصاقًا، تكشفُ ما يمور به المجتمع من قضايا ومعضلات، وتعمدُ إلى فهم حركة التاريخ، ومظاهر تطوّره، وما ينعكس فيه من تجاذبات وصراعات وتغيّرات ثقافيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة وسياسيّة، وتنظرُ في بنية المجتمع، وتنشغلُ بمحرّكات التاريخ؛ لتقتنعَ بالتّصوّر الاشتراكيّ الذي ينتصر لمقام الكادحين والعمّال. فقد صرفت الروايات اهتمامها إليهم، وأخذتنا إلى الفلاحين يكدحون في حقول ملتهبة، والغوّاصين يجوبون بحارًا قصيّة، ويركبون الأهوال والآلام من أجل الكفاف والعفاف، ورحلت بنا إلى المصنع حيث العمّال «مندفعون في تيّار الحديد والنار والهواء البارد واللاهب»، وتنقّلت بنا بين القرية والمدينة، والماضي والحاضر، والأنا والآخر، وفتحت لنا المجال للنّظر في علاقة الإنسان بالمكان والتاريخ والتحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة، وصلته بمصيره والسلطة.
كلمة الغلاف الجزء التاسع
إنّ أوّل ما يسترعي الانتباه في الإبداع القصصيّ والروائيّ لعبدالله خليفة هو ذلك الحضور المكثّف للإنسان البحرينيّ بصفة خاصّة، والإنسان العربيّ بصفة عامّة، والإنسان الكونيّ بصفة أكثرَ شموليّة. إذ ينطلق المبدع من عالمه الخاصّ عبر مساءلة الواقع الذي ينتمي إليه، والبحث في مظاهر تهافته، وآثار تحوّلاته؛ ومن هنا تتحوّل الذات إلى مرآة تعكس وجوهًا من الواقع، وتكشف معاناة ذات جماعيّة تمثّلها الفئات المقهورة والمعذَّبة، جاعلاً منها مادّة للحكي، ومعطًى لبلورة الوعي، فلم يكن عبدالله خليفة في أيّ عمل من أعماله، على تعدّد أصواتها، واختلاف أنماط صوغها الفنيّ، بعيدًا عن ذاته، ولم يكن بعيدًا عن مجتمعه ووطنه، ولم يكن بعيدًا عن جوهره الممتدّ في بعده الإنسانيّ. لقد كان، وهو يكتب تجربته العميقة، يُطْلِق العِنان لفكره الغزير، وأحاسيسه الصادقة، وحواسّه كافّة لتسبر غور هذا العمق أينما كان، والجمال حيث تبدّى، والقبح أنّى تخفّى، مازجًا الكلّ في طين المتخيَّل. فالذات الإنسانيّة هي التي يسعى الروائيّ إلى التأكيد على استحضارها عبر الشخصيّات المتخيَّلة، من ناحية، وعبر تقمّص الرواة أدوارها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة من ناحية ثانية، وعبر التوصيف الإثنوغرافي من ناحية ثالثة.
على هذا النحو تتحدّد الرؤية الأولى للمتخيَّل الروائيّ لعبدالله خليفة، فهو قبل كلّ شيء رواية للإنسان المرجعيّ في نضاله اليوميّ، وصراعه الدراميّ المحتدم ضدّ العوائق والمعضلات التي تهدِّد كيانه الإنسانيّ. وكأنّ عبدالله خليفة سخّر موهبته ورؤاه لخدمة تلك القضايا التي تشكّل الرأسمال الرمزيّ للإنسان. وبالانطلاق من موقفه المسؤول والملتزم كان يعي تمامًا أنّ أيّ إبداع تحيد رسالته عن هذا المغزى سيكون مصيرُه الذبول؛ لأنّ الإنسان هو المقياس لكلّ شيء، وهو الغاية من كلّ شيء، وهو الصانع لمصيره، وهو المسؤول عنه، وبهذا المعنى يغدو السرد أحد مكوّنات الهويّة الإنسانيّة.
كلمة الغلاف الجزء العاشر
هي دارين التي خرجَ منها. نقطةٌ صغيرةٌ تضاءلتْ وغطستْ وراءَ البحر، هو الربانُ الكبيرُ أحمد بن جبر خرجَ بسفينتين كأنهما أسطول، البحرُ الأزرقُ الواسع يفتحُ ذراعيَهِ، وبدتْ الصحارى الترابيةُ اللامتناهيةُ وراء تاروت متجهمةً تدورُ فيها دوائرٌ كريهةٌ من الغبار، الجزيرةُ تلويحةٌ خضراءُ بين الصخور، تشمخُ النخيلُ ورأسُ القلعةِ ينزل لقعر المياه.
للأرواحِ نفثاتُها على هذه المياهِ المشتعلةِ ولهمامِ جسدهُ الصلبُ المنغرس في الخشبِ والأرضِ، سفنٌ كثيرةٌ نزلتْ إلى الأعماق، أجسادٌ كثيرةٌ لم تُكفن وهي تُحاصرُ بين الأشياءِ المحطمةِ والأشلاءِ، أجسامُهم صارتْ جزءً من الأعشابِ والأسماكِ والمحار والقواقع.
سألتهُ القوقعةُ وقروشُ البحر من أكثر خلوداً أنا أم أنت؟
◇ خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ
كان البحرُ يتحرش ببيتها، تتغلغلُ موجاتهُ بين أحجارهِ وقيعانه، فكأنه يطفو على الماء، في دورةِ المياهِ يصلُ إلى ساقيها، ويتضخمُ مدهُ فيضربُ حتى أحشاءه، وتغرفُ منه في النافذة وتداعبُ نوارسَهُ وتطعمها من فتات خبزها. كان يتنائى حيناً فيبتعدُ حتى كأنه غادرَ أرضَها، وترى القواربَ جافة، منقلبة على جهة، وثمة شظايا من زجاجٍ الماء تلمعُ وتتوهج.
كان يحضرُ على مائدتِها، فترى أمَها بين أدخنةٍ كثيفة تقلبُ على الصفيحةِ المعدنيةِ الرقيقة بناته، تلك السمكات الكثيرات الصغيرات مثلها اللواتي يقفزنّ على اللهب، وتنضجُ جلودُهن، ويطرطشُ دهنهن في فرقعاتٍ لذيذة، والحطبُ يُلقى، ومن هنا كانت هي حمالة حطب، تمشي على الساحل الطويل وتجمع قطعه.
وأمُها تقول: ابنتكَ سرايةُ ليلٍ، هي جنيةٌ أو خليلة، وتروي إنها رأتْ قواربَ وسفناً ونخيلاً وينابيع بعدد التراب، ابنتكَ تخاوي الجن!.