الأرشيف الشهري: أكتوبر 2021

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ الطبقة العاملة في البحرين

كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

ملحـــــــــــــــق الدراسات :
الطبقة العاملة في البحرين

العمال والرأسمالية
العمال في البلد والجزيرة العربية ككل يواجهون مهمات مختلفة عن عمال العالم العربي والعالم، وتحتاج من أجل لحلحتها وتغييرها إلى وعي ديمقراطي يتغلغل في الحياة.
وفي تجربة مع نشرة عمالية رفض المسئولين فيها عبارة لي تقول بتقوية الرأسمالية في هذه المنطقة، وكأن هؤلاء يناضلون لتجاوز الرأسمالية وإزالتها!
لا تستطيع حتى الأقسام المتقدمة للبشرية في الغرب تجاوز الرأسمالية في خلال القرن الحالي، الواحد والعشرين، لعوامل موضوعية عميقة، وتغدو سياسة الزحزحة التدريجية للرأسمالية وتصعيد دور القطاعات العامة المُراقـَّبة والملكيات التعاونية ومقاومة الأستغلال المتطرف هو السياسة الممكنة هناك.
في حين تتطلب السياسة في بلداننا تطور قوى الإنتاج للحاق بالثورة التقنية ولتسريع عمليات نمو الرأسمالية، وتشكيل رأسمالية وطنية وخليجية جزيرية عربية، بحيث تتوجه رؤوسُ الأموال لمنطقتنا، ولتوسيع عمالتنا الوطنية والعربية، ولتتكامل الرأسماليات الوطنية وهي الجزر الصغيرة في عوالم الاقتصاد التقليدي وسيطرة الجماعات الحكومية المُتنفذة، وليتم تصعيد دور الشعب في كلِ بلدٍ في المراقبة على المال العام وللقضاء على الظاهرات السلبية وعلى الأستغلال المفرط، ومن أجل تصعيد دور الجمهور العامل في الحياة السياسية.
وإزالة الأستغلال هو حلم في الزمن الراهن، وتحويل الحلم إلى سياسة يومية هو كارثة، فالعامل منذ البداية يقوم ببيع قوة عمله، مؤكداً اعترافه بأهمية الأستغلال ودوره الموضوعي، وإذا كانت لديه أموال وشغلها فهو سوف يستغل الآخرين، وليس ثمة خيار ثالث.
وهكذا فإن فائض القيمة المترتب على استغلال العمال في منشآت النفط والمصانع يغدو هو المُشغل للحكومة والتجارة والصناعة، ونظراً لأنه فائض قيمة مُنتج بأغلبيته من صناعة استخراجية زائلة، فيتطلب وعياً سياسياً كبيراً ووعياً نقابياً، ليتجه الوعي السياسي من أجل الاستثمار الوطني الأمثل لذلك الفائض، بدلاً من الأهدار والشفط، حتى يؤسس بنية صناعية تقنية متطورة غير قذرة كما يجري بتوسع رهيب في الوقت الراهن، ومن أجل توزيع جانب كبير من الفائض على الخدمات المختلفة.
في حين أن الوعي النقابي يناضل لمصالح العمال في المنشآت.
وهكذا فإن العمال يناضلون من أجل رأسمالية وطنية ديمقراطية، مع اهتمامهم بمصالحهم المستقلة.
ومن هنا يغدو النضال ضد السياسة الإقطاعية المهيمنة على المال العام وتوزيعه، وعلى المخلفات الاجتماعية لهذه السياسة وسيادة الذكورة المطلقة وغياب التنوير والثقافة العقلانية، هي المهمات التي ينبغي أن تكون في المقدمة لا القضاء على الرأسمالية الوطنية التي لم تتجذرْ ولم تقمْ بدورها.
ويشيرُ قلبُ المهمات هذه، وسياسة حرق المراحل هنا، إلى الطبيعة التقليدية للجماعات المتقدمة لقيادة العمال والقوى الشعبية عامة، فهي متخلفة، وتحن للزمن الديني الرومانسي، وغير قادرة على فهم الواقع الراهن، بمهماته المركبة المتداخلة، نظراً لعدم تثقيف نفسها، واكتفاءها بالحشو واللغو السياسي.
وهذا ما تنقله هذه القيادات إلى الشباب والطلائع العمالية، ومن هنا تتداخل مع بعض الجماعات المذهبية السياسية الجامدة.
والغريب أن بعض هذه الجماعات المذهبية هي الأكثر حراكاً في القراءة والبحث، ومنها يخرج الكثيرون من الكتاب والفنانين والنقابيين، نظراً لأن قواعد هذه الجماعات هي من العمال والفقراء، وهم يحتاجون أكثر من غيرهم لفهم تعقيدات المرحلة الراهنة، وللعقلانية السياسية والإصلاحية النقابية المتدرجة، بحيث تتحول النقابات إلى مؤسسات اجتماعية كبيرة مؤثرة في حياة العمال الاقتصادية، وفي حياة المجتمع السياسية.
ولكن هذه المهمات الصعبة مركبة، فهي تحتاج إلى وعي نظري مرهف، وإلى نشاط كبير، وإلى تمهل وصبر طويلين.

العمال في الآخر
كان العمال هم الذين بنوا المصانع، وحولوا أوربا المتخلفة إلى قارة تملك الدنيا!
ثم كان حصادهم قليلاً!
وقالت الرأسمالية الشرقية: (الطبقة العاملة قائدة النضال من أجل الاشتراكية!) ثم خربوا هذه (الاشتراكية) وعاد العمال إلى بيوتهم الصغيرة والبطالة والتسول أكثر بؤساً من عمال الغرب!
وقالت الرأسمالية الحكومية الدينية الشرقية: (العمالُ هم أكثر المضحين في الثورة الإسلامية)، فكانوا هم القتلى على خطوط النار، والمتحملين للغلاء والفقر والبطالة!
وما زال العمال يُخدعون.
وقال غيرهم: (بناء الوطن)، لكن لماذا تـُبنى الأوطان دائماً على حسابهم؟! ثم رأوا أنها بناء القصور والفلل والبلاجات الباذخة وجزر المتعة!
ونسوهم بعد الثورات والتضحيات وأنزلوهم من طوابق الأحلام العالية إلى حضيض الأرض.
يتم استثمار حضور الطبقات العمالية مع تصاعد الفئات الوسطى حين تدخل الفئات الأخيرة في عمليات تغيير تاريخية كبيرة، وعبر استعمال الأخيرة لأدوات دكتاتورية سياسية وفكرية، تقوم بتعبئة العمال لمصلحة صعودها وجلوسها على الكراسي والأموال.
نداء الأمة، بناء الأشتراكية، هزيمة الرأسمالية، القضاء على الاستعمار، نهضة الإسلام العظيمة، بناء الأوطان الحرة، ذات الأسر الواحدة المتحابة!
كلها عبارات غامضة ضبابية، كبرى، لها جانب من الحقيقة وواقع النضال المشترك، لكن بدون اتفاق يضمن للعمال المشاركين والمضحين نسبة من الكراسي والفوائد وتغييراً لمعيشتهم وظروف علمهم، وحين تنتهي المهمة الوطنية والطبقية والدينية، يعودون لمصانعهم وطروفهم وفقرهم وينساهم السياسيون المحنكون!
ثمة فوائد مشتركة للجانبين، لكن العمال سوف يدفعون هم الجهد الأكبر والتضحيات، وإذا لم يشكلوا أدواتهم المدافعة عن مصالحهم، سيبجدون أنفسهم في النهاية في حالات بؤس وإستغفال!
العمال هم في تطور التاريخ من سيكونون القوى المستمرة في النضال والبحث عن التغيير فهم ليس عندهم سوى أجورهم، ومن لديه أكثر من ذلك سوف ينضم لحركات المالكين السياسية.
(الحرية، الأخاء، المساواة)، صرخة البورجوازية الفرنسية، عبر لغة سياسية مجردة، تريد تغيير عالم ديني محافظ ذي طوائف وأمتيازات مجحفة للأقلية، والشعارات ذاتها هي تشكيل لمجتمع تهيمن عليه هذه البورجوازية عبر العلاقات الاقتصادية الرأسمالية بدون هيمنة قطاع حكومي.
(الماركسية – اللينينية ، والماوية، والكاستروية والناصرية والبعثية والخمينية والعربية الخليجية والتونسية والجزائرية والغاندية الخ)، شعارات البورجوازية الشرقية ذات الرأسمالية الحكومية الاستبدادية وهي تشكل نهضة مغايرة لنهضة البورجوازية الغربية لكنها مماثلة لها في صعود النظام الرأسمالي الحكومي الشرقي وبأدوات الدكتاتورية، حسب الدول وتجاربها ومستويات تطورها.
(الطائفيات الإسلامية)، صرخاتٌ لصعود البورجوازية الطائفية لتشكيل أنظمة رأسمالية حكومية بأدوات دكتاتورية بهذا المستوى من القمع أو ذاك، بتقزيم أكبر للعمال والنساء وللحريات. وهي طائفيات لأنها تعجز عن التوحيد الاجتماعي للمواطنين في مثل هذه اللحظة التاريخية المشتركة.
بعد كل فترة تحالفية اجتماعية التي تسودُ فيها أدواتُ التخدير الإيديولوجية، وهي تتماثلُ من حيث النصوصية الدينية الغيبيية اللاعقلانية وغياب النقد وشخصنة السياسة وعبادة الأفراد، تصعدُ الفئاتُ التي استحوذت على الثورات – الثروات، وتنفصلُ عن العمال وهي القوى التي تطوعتْ لخدمة مستغلِيها نظراً لعوامل التخدير السابقة الذكر والمهمات الطبقية والوطنية المشتركة، وتجدُ نفسَها في وضع متدنٍ فقير وهو من الناحية الفكرية مزر، وقد شحبت أدواتها النقابية والرقابية وتخدرت بالكحول الرخيص أو بالعبادة الشكلانية، وتشكلتْ طواقم انتهازية فيها، تضعُ قدماً هنا وقدماً هناك، بغية استمرار الاستغلال والتغييب السياسي للعمال.
وخلال الفترة الطويلة لغياب العقل العمالي المستقل، حسب تجارب الدول والأمم، تكون العودة للنضال أصعب، بعد عقود من التبعية.
هذا إذا لم تـُدخلْ العمال القوى المسيطرة في مغامرات الحروب وكوارث التسلح، وهي من ثمرات جهودهم.
وغالباً ما يتضررُ العمالُ اقتصادياً من وضع الرأسماليات الحكومية وهي تـُخرجُ شياطينـَها من داخلها، أي حين تبيعُ شركات القطاع العام، وحين تعلن انفصالها عن الإيديولوجيات الشمولية التي صنعتها وجيرتها واعتبرتها مقدسة، وتعود لقانون السوق المرفوضة سابقاً، وهو أمرٌ يعني ترك العمال في ظروفهم المتدنية، وتشغيل آليات الأسعار غير المُسيطر عليها حكومياً، ويجري التداولُ الحرُ للنقد والبضائع، وتوضع القطاعات العامة التي صنعوها خلال عقود في مجرى البضائع المتحركة في السوق الداخلية ولصيد أرباب العمل من الخارج، فيكتشف العمالُ مدى تدني قوى عملهم التي تـُباع من خلال بطالة واسعة وحريات تنقل كبيرة للعمال المهاجرين.
في أزمنة وجود القطاعات العامة رغم كل فسادها وبيروقراطيتها تكون لهم فسحٌ من درس وتنظيم لكن أغلبها يضيع بسبب جهل أغلبية العمال لكون الرأسمالية الحكومية عابرة، لن تظل إلى الأبد، وسوف تتحول إلى بضائع خاضعة لأسعار السوق، وهم في هذه الأثناء كانوا يتبعون قوى البورجوازية الصغيرة الشمولية، مجيرين لمشروعات سياسية أكثر من الدفاع عن مصالحهم المستقلة، وهي المشروعات التي فككت صفوفهم، وجمدت مداركهم، وابعدتهم عن قوى عمالية أجنبية تعاني مثل ما يعانون وأكثر.
تسللت إلى العمال أفكارُ القوى الأخرى التي تستغلهم، وأخرتهم بفضل قيادات انتهازية أو مغيبة الوعي، حتى جاءت الفكرة وسقطوا على الأرض.
والفرق كبير بين عمال الأمبراطورية البريطانية وبين عمال الأمبراطورية الروسية، والإيرانية، والعربية، لم يتخدر العمال الأنجليز بالحشيشة القومية والدينية و(الأشتراكية) وفي حين تحول الكثير من أولئك إلى مستولين وجدت النقابات العمالية البريطاينة نفسها تصنع الحكومات.

حيرة عمالية
مع تبدل المنظومة العالمية وتكشف طبيعتها الموضوعية فإن الحركات المؤدلجة تخسر الكثير من الوقت في وقت التحولات العاصف.
إن شعارات مثل (تسقط الرأسمالية) في العالم الثالث ولنبني الاشتراكية ربما لا تزال تدورُ في ذهنِ بعض النقابيين واليساريين، خاصةً في حالات جمود الطبقة الحاكمة وتحجر نهجها الاقتصادي وتوسع الفقر والبطالة فإننا يمكن أن نصادف مثل هذه الشعارات وتظهر ردود أفعال لدى بعض الفئات المغبونة.
وسوف تكون الشعارات المعاكسة مثل لنساهم في تطور الرأسمالية أو لنقمْ بتصحيحِ الرأسمالية، مثار بلبلة في هذه الأوساط.
إن رؤية هذه الأوساط جامدة للحراك التاريخي الذي جرى في القرن العشرين السابق، حيث أتضحت العملية المركبة المعقدة لتطور الرأسمالية العالمية، وإنتقلتْ أحزابٌ إشتراكية في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية للحكمِ أو للمشاركةِ في الحكومات، من أجل أن تجعل القطاعات العامة أكثر شفافية، ومن أجل تقليص هيمنتها على الاقتصاد والحياة السياسية والاجتماعية والإعلامية، وكذلك من أجل أن يتوسعَ حضورُ القطاعات الخاصة في الاقتصاد والمسئولية السياسية الوطنية وتَصححَ بعضَ جوانب ذاتيتها الحادة.
أصبحت قضايا الحد من البطالة والفقر والمشاركة في الثورة الصناعية والثورة التقنية، وخلق الرأسماليات التي تحقق القفزات الاقتصادية الكبرى على الطريقة الصينية والكورية الجنوبية والفيتنامية، من مطامح قادة اليسار والنقابات.
إن الحد من الإستغلال الجامح ومجابهة عدم التفكير في أوضاع الطبقات العاملة ومخاطر العولمة ونقل العمالة الأجنبية ومقاومة تفشي الأوبئة وتصعيد حضور النساء في العمل والنقابات والحكم، ونقل الثورة التكنولوجية والتعاونية للأرياف، وغيرها من قضايا غدتْ محوريةً في تطور الرأسمالية بمستوى تطوراتها الراهنة، كل هذه القضايا والأفكار تغدو أكثر صعوبةً وأوسع تحدياً في حياة المجتمعات العربية الإسلامية المنغلقة العائدة للوراء والمتجهة للتفتت وتذويبِ نفسِها في عالم يقفز نحو التكتلات الكبرى!
فإذا كانت القياداتُ النقابيةُ واليساريةُ العربية لا تقدح زنادَ فكرِها بعملياتِ تجديدٍ خلاقة فهي تشاركُ بشكلٍ صامتٍ في تدهور الحال العربي، ولا تجد نفسها إلا مع قوى التفتيت.
لكن الأمور أعقد من ذلك وأخطر. فقد رأينا الكوكبين الرأسمالي الغربي والاشتراكي القومي الشرقي يصطدمان ويكونا أرضاً جديدة، لكن العمليةَ القادمة هي التصادمُ الداخلي لهذين الكوكبين داخلَ كل بلد، أي تشكيل رأسمالية صرفة في البلدان الشرقية، وتبدل موقعا الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة، ليظهر مزيجٌ منهما حسب ظروف ومستوى كل بلد.
بلدان مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية يهيمنُ عليها العسكرُ وقوى الصناعات الحربية يغدو تحولها أكثر عسراً من الهند والصين وفيتنام والبرازيل حيث قوى الصناعات المدنية.
دول عربية ذات مهمات أكثر تواضعاً من تلك، تريد حضوراً لقوى الصناعة الخاصة والنساء والعمال والعلوم التقنية في الإدارات وتغيير مستوى قوى العمل المتخلفة.
ليست مهمات الأحزاب اليسارية والنقابات هي واحدة في كل مثل هذه البلدان، لكنها في مواقع المساعدة على تغيير مواقع قوى الرأسمالية العامة والخاصة، وتوجيه الفوائض نحو إعادة هيكلة البلدان المتخلفة لما فيه صالح القوى العاملة والتنمية الوطنية والشعوب ككل.
فبلد يوجه فوائضه للخارج أو يركز على إقتصاد الخدمات ويفيد قوى عاملة معينة أو يكرس تخلفاً في القواعد العمالية، أو لا تهمه سوى مصلحة طبقة صغيرة ضيقة، ولا يقارب خططاً وطنية، أو يهدر فوائضه في التسلح والحروب، يحتاج للنقد والتصويب.
إن المزيد من الدرس الموضوعي لحالةِ كل بلد، ورؤية الأهداف التنموية المشتركة لمعظم القوى السكانية، والاهتمام بتطوير الإنتاج الوطني، وتطوير أحوال الطبقات المنتجة، عمليات كلها مهمة وخاصة من قبل المهتمين السياسيين والنقابيين.
ستخضعُ عملياتُ الإندماج بين الرأسماليتين الحكومية والخاصة لأشكالِ التطور الوطنية، وستنهمرُ كميةٌ كبيرةٌ من الإيديولوجيات والصراعات الدينية واليسارية والوطنية الغامضة والحادة، وتحدث تصادمات وتُطلب مساهمة القوى الشعبية والعمالية لمعاونة هذا الطرف أو ذاك، وتجري عملياتٌ قومية – دينية فوق رأسمالية، لأن البلدانَ المتخلفةَ وهي تشكلُ سوقَها الخاصة، وبنيتَها الرأسماليةَ الوطنيةَ هي في علائقَ دينيةٍ ما قبل رأسمالية مع جيرانِها، وهم سوقٌ تاريخية لها، كما أن بنيتَها الوطنية التي تحوي قوميات أخرى تتفتت وتتطلبُ لُحمةً.
ومن هنا فإن القوى الشعبية لا تجابه فقط دراسة واقعها الخاص وضرورة أن تشكل سياسةً موضوعية فيه، بل أن يكون لها موقف أممي وموقف قومي إنسانيين من جيرانها وأخوتها.

الاشتراكية بين النضال والأحتيال
ورثتْ الحركاتُ الاشتراكيةُ كلَ مخاضِ وتجاربِ البشر السابقين من أجل التغيير والمساواة الاجتماعية وأحلام العدل، وظهرتْ الاشتراكية العلمية مفرقةً نفسها عن الإشتراكية الخيالية، باعتبارها باحثةً موضوعيةً في سببياتِ زوالِ الرأسمالية وسببيات نشؤ الاشتراكية.
وقد استطاعت قوى الحضارة الغربية بما فيها من مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ رأسمالية (شعبية) وشفافيةٍ ومن مُرَاقبةٍ وقوى عقولٍ باحثةٍ كثيرة وجمهورٍ متعلم، أن تحدَ من مخاطرِ نشؤِ الاشتراكية بشكلٍ عنيفٍ وعبر إنقلاباتٍ كارثية ووضعت حدوداً لصراع الفريقين الاجتماعيين: مالكي وسائل الإنتاج والعاملين في هذه الوسائل في ظروفٍ قاسيةٍ ولكنها تتغيرُ بنضالِهم داخل هذه المجتمعات الصانعة للمؤسساتِ الوسطى المقاربة بين القوى المتصارعة.
وحين قاربتْ الفاشيةُ الاشتراكيةَ وزعمتْ إنها جزءٌ منها، بانت إحدى علامات الأخطار المُحدِقة بالدعوةِ الاشتراكية (النبيلة) الإنسانية، من التصاق دعواتٍ أخرى بها، وهي دعواتٌ دكتاتورية أسسها أناسٌ منتفخون بالعظمةِ الجنونية، صرخوا من أجلِ إنقاذِ الفقراء والعمال المأزومين، لكنهم أرادوا خلقَ مستعمرات بعد أن إنتهى أو كاد عصر الاستعمار!
في جنون الاشتراكيات الوطنية لدى موسوليني وهتلر نلمحُ ثأرَ الأمم المتأخرة عن النمو الديمقراطي، التي لم تشهد تاريخاً ديمقراطياً عريقاً، وهذا التضخم القومي الهائل المتواري، خاصة لدى ألمانيا الجريحة المهزومة من حربٍ عالمية، ومن إقتطاع لأراضيها، ومن جذورٍ عسكريةٍ دموية تشكلتْ في تاريخها التوحيدي، ومن هذه الرغبةِ المتأججةِ لديها للثأر والرفعة وسحق الآخرين.
إن أغلب الدعوات (الإشتراكية) هي دعواتٌ قوميةٌ، لأمم ولشعوبٍ متخلفة، أو مسحوقة، أو مهانة، تريدُ العزةَ والقفز على تخلفها، وتستغلها وتوظفها أحزابٌ شتى قومية وإشتراكية ودينية. وتغدو في دول الشرق مرادفةً للتحرر الوطني والتقدم التحديثي، ولكنها تفتقدُ في الاشتراكية ما كان مؤِسِساً غربياً فيها، وهي شروطُ الحداثةِ والعلمانية والديمقراطية والعقلانية. فأغلبُ دولِ الشرق وأمريكا اللاتينية تفتقدُ هذه الشروط، وهي حين تزعمُ إنها سوف تقفزُ للاشتراكية إنما تقومُ بعمليةِ خداعٍ إيديولوجية.
لقد كانت دعواتٌ قومية دكتاتورية غير عقلانية وغير علمانية وغير ديمقراطية، إن تلك المضامين القومية المتوارية توضعُ عليها طبقات كثيفة من الشعارات الأخرى، لكن القومية السائدة المتوارية المسيطرة تظهر مع نمو البناء(الإشتراكي). إن روح الاشتراكية في أمريكا اللاتينية هي القومية اللاتينية ذات المذهب الكاثوليكي المعادية لأمريكا الشمالية البروتستانتية الرأسمالية المتفوقة. ويغدو إستخدام شعارات رفعة الكادحين من قبيل توظيف قوى الجمهور البسيط لتضحياتٍ جسامٍ وتشكيلِ رأسماليات لاتينية، مثلما حدثَ في روسيا والصين.
إن تداخلَ (الاشتراكية) هنا مع اللاعقلانية والدكتاتورية يتجسدُ في قيامِ نخبةٍ صغيرةٍ بتقريرِ مصيرِ أمم، وهو أمرٌ يتحقق من خلال تنامي القوى العسكرية الباطشة وأجهزة المخابرات وما تفعلهُ من كوارث تجاه الحقوق الإنسانية وتجاه الوعي العقلاني، وتجاه العلمانية لأنها بعملياتِ سحقِ الأديان إنما تقوي أشكالَها اللاعقلانية، وتخلقُ ديانةَ عبادةِ الزعماء، وهي عودةٌ لأشكالِ بدائيةٍ من التدين. ثم هي أشكالٌ تنهارُ ويعودُ الوعي الديني المحافظُ العتيق.
لكن (الإشتراكيات) القومية الشرقية خاصة الكبرى منها، المجسدة لسيرورة تطور الأمم العظيمة كروسيا والصين والهند(والأخيرة أسرعت بنفضِ الاشتراكية الوطنية سريعاً)، تخلقُ مقاربةً ملتفةً مع الرأسماليات الغربية، فتدخلُ الرأسماليةَ الحديثةَ من الأبواب الخلفية ومن القمع، ومن الفسادِ الحكومي، ولكن الصراع الاجتماعي لا ينتهي، بل يتمظهر بأشكالٍ أخرى.
إن قيام الاشتراكية يحتاج لأسسٍ موضوعية طويلة، لأن إحتكار الفوائض الاقتصادية لمجموعات قليلة، ولأمم صغيرة، يفجرُ تطورَ البشرية ربما إلى الهلاك العام، وتغدو السيطرة على قوى الإنتاج وإستخدامها لصالح الأغلبية مهمة، لكن من خلال أدوات المؤسسات العريقة وقوى الأغلبية وليس من خلال عمل النخب الصغيرة، أو المغامرات.

التحولات ونصيب العمال
تزدادُ المنطقة دخولاً في التحولات العالمية وعلى مدى السنوات القادمة ستشهدُ المزيد من تفكك قوى المحافظين السياسيين والدينيين، ومن تصليح أداء الليبراليين واليساريين كذلك.
إن اللافتات العامة المرفوعة المجردة عن الوطن والدين لا تكفي وحدها لاستقرار الاجتماعي، فالجمهور صار يتوجه لنقد الملكيات العامة المتجمدة وفشل المصانع الحكومية وهو بحاجة إلى حريات سياسية واقتصادية أكبر ليدفع باقتصاديات (الثروة الفقيرة) إلى طريق النمو الحقيقي، فالنمو الحقيقي لا يتحقق دون تغييرات عميقة في حياة المنتجين.
إن الشعارات المجردة تنقشع لأن الملايين تريد أن تعيش في مدن صحية وبظروف إنسانية، ولهذا فإن فكرة الانتخابات الحرة تنتشر، لكن العديد من الأنظمة العتيقة تخشاها، فهي عاصفة اقتصادية وسياسية لا أحد يعرف إلى أين سوف تستقر.
إن الجمهور العمالي الذي وثق في القوى الدينية بدأ يتراجع عن ذلك التأييد الذي غمر الشوارع في عقود سابقة، فقد وجد إن حياته لم تتغير كثيراً، في حين أن الفئات الدينية وصلت للثراء والفاحش أحياناً، وسواء عبر النفوذ الحكومي أم عبر تسلق أكتاف الجمهور وتضحياته، أم عبر الشركات والبنوك التي أرسلت توظيفاتها لأممٍ أخرى.
كما أن بعض القوى الليبرالية راحت تتخلى عن ليبرالتها المجردة وتدمجها بالبحث في مصالح العمال والفلاحين الذين تدهورت أحوالهم خلال هذه العقود، حيث تم التراجع عن التأميمات وأستعيدت أراضي الإصلاح الزراعي ونهبت الشركات العامة.
عبرتْ الشعاراتُ الدينية عن مناخ الغموض الاجتماعي وعن دخول جمهور من البسطاء الريفيين والحرفيين إلى العمل السياسي، وهؤلاء يصدقون الزعماء الروحيين منذ قرون، لكنهم راحوا الآن يختبرون هذه اللافتات عبر معاشهم ويقارنون الأقوال بالأفعال، ويعتبرون حياتهم المعيشية وتحويل ظروفهم البائسة هي المقاييس لتمييز الجماعات دون أن يتخلوا بطبيعة الحال عن تدينهم.
ولهذا فإن أحزاب القومية والدين والوطن المجردة الحاكمة أو المعارضة التي تصل للسلطة تواجه أسئلة المعيشة أكثر مما تواجه أسئلة الشعارات العامة.
وتواصل أحزابٌ دينية الحديثَ بالنغمة القديمة ولكن البعضَ الآخر العملي راح ينزل للشارع والظروف ويفهم الاقتصاد الحر وقوانينه.
إن مكانة أكبر قادمة لأحزاب الوسط التي تجمع بين الجذور الدينية وتغيير الأوضاع الاقتصادية السيئة، والتي تقلص نفوذ القطاعات العامة وتقوي الفئات الوسطى، والمسار يتجه عموماً نحو الفئات الوسطى الغنية وقادة البنوك والمصانع والشركات، حيث تتراكم الأرباح لديها فيتسع نفوذها على حساب رجال الدين والجماعات التقليدية عموماً.
في البدء يكون المناخ الديني السياسي فهو المتنفسُ الوحيد في دولٍ شمولية عديدة، لكن هذا المتنفس يغدو بعد ذلك على المحك، ويتصاعد دور الطبقات الشعبية في تأييد اتجاهات معينة أقرب إلى تطوير عيشها، مما يؤدي إلى تصاعد دور الفئات الوسطى الحديثة التي تجمع حولها العمال المستنيرين وقادة النقابات.
وبطبيعة الحال فإن هذه الفئات تعمل لمصالحها ولنفوذها المتزايد، وربما لدى بعضها مغامرات، لكن أصحاب السلطان المطلق في الدين والمال العام يواجهون العد التنازلي لسلطاتهم.
إضافة إلى ذلك فهذه الفئات أقرب للاقتصاد الحديث وفهم طبيعة تطوره وبضرورة تغيير البناء الاجتماعي تبعاً لذلك، ومن الممكن كذلك أن تقيم تحالفات مع بعض القوى الدينية المؤيدة للحداثة، وعموماً فإن الطبقات الوسطى تتقدم لاحتلال منصة المسرح السياسي، عبر تراكم الثروة المادية وعبر فهم جديد للثروة الروحية، وهذا لا يمكن أن يتحقق كذلك دون إعطاء مكاسب للعمال.

كسل القيادات العمالية
بعد كل حقبة سياسية ينتصرُ أغنياؤها الذين سيطروا بخيوطٍ متعددة عليها.
لم يحدثْ في التاريخ أن أنتصرتْ وهيمنتْ قوى الفقراء والعمال. تنطلق شعاراتٌ كثيرةٌ وتموجُ أدخنةٌ متلبسةٌ، لكن بعد ذلك يظهر المسيطرون من كبار الأغنياء.
ودائماً كذلك هناك المناضلون الطيبون والسذجُ والانتهازيون والمتحمسون الرومانسيون للشعارات التي تطلقها الطبقاتُ المسيطرةُ على علاقات الإنتاج، وكذلك القوى الهامشية المترجرجة وراء علاقات الإنتاج هذه.
تمثل الرأسماليةُ الحكوميةُ في الشرق أقوى المراكز في علاقاتِ الإنتاج هذه، وليس السياسيون ورجال الدين والمثقفون سوى قوىً خارجَ هذه العلاقات، ولا يحصلون على فتاتٍ مهم سوى من دخولهم في أحضان هذه العلاقات، أو إستفادتهم منها، أو معارضتهم لها لكي تعطيهم شيئاً!
ويجري العمالُ وراءَ هذه القوى الهامشية مرةً لتحقيقِ الإشتراكية وهي ليستْ سوى رأسماليةٍ حكوميةٍ بشعاراتٍ ثورية، فيجدون بعد ختام الحقبة السياسية كيف تحول ضباط الجيش والمخابرات والحزب الاشتراكيون، رأسماليين كباراً!
ومرة بصفة ثورة قومية تنتهي بإنفتاح وله القطط السمان التي إستفادت منه.
ومرةً وراء الثورة الإسلامية وهي ليست سوى رأسمالية حكومية بشعاراتٍ دينية، فلا يعرفون الآن أين يمضون، هل لحربٍ كارثية أم لتطور سلمي ديمقراطي؟!
رجالُ الدين وأتباعُهم من السياسيين هم قوى هامشية ليس لديها رأسُ مالٍ حديث قوي ومسيطر، ولكنها تريدُ أن تكَّونَ رأسمَالها عن طريقِ الدين، وهذا يتم كذلك عبر الشعارات الدينية، فما هي مصلحة العمال في ذلك؟
المتحالفون والمتعاونون معهم من مثقفين وتجار صغار يريدون أن يركبوا هذه الموجة ويستفيدوا من موسم التجارة بالدين، وهذا هو مسار سياسي بات معروفاً.
لكن القيادات العمالية لا تعرف ذلك، هي تعيشُ في ثقافاتٍ شموليةٍ متعددة، ثقافات دينية إشتراكية قومية متداخلة، تعبر عن دكتاتوريات الشرق، وسيطرة ذكوره على نسائه، وسيطرة حكامه على محكوميه وسيطرة سياسيه على الكتل العامية، وإنتزاعهم الثروة من كل ذلك.
ويفترض أن تكون القياداتُ العمالية هي التي درست وأستوعبت كل كوارث وإنجازات الشرق هذه، وتعلمت من سابقيها، وأن تؤسسَ الاستقلالية العمالية عن هذه الكتل المشبوهة إجتماعياً، والخطرة على النضال العمالي، الأكثر عرضةً للعذاب والضرائب والكوارث ودفع الفواتير.
والمشبوهية هنا تتعلقُ بعدمِ فهمِ هؤلاء لأفكارِهم وشعاراتِهم ومن يمثلون هم حقيقة، فهل يمثلون العمال أم قوى إخرى تتغلغلُ بين ثيابهم وجلودهم!؟
المحكُ والفيصلُ هنا عن مدى إيمانهم بالقضيةِ الملتبسةِ هذه في حياتهم السياسية أن يطوروا حياةَ العمال، من شتى النواحي الاقتصادية والثقافية والعملية.
أما أن تكون أوضاعُ العمال في اسوأ حال، وكتلهم ممزقة، وتواجه عمليات خصخصة وتفقير وبطالة وغربة وأوضاع أسرية معيشية قاسية، وكلُ قطاعٍ يحتاجُ موسوعةً لفحصِ مشاكلهِ وتدوينها ودرسها وبحث حلولها، والعمال الأجانب قوى بائسة ومنافسة وفوضوية لهم، ثم يتوجهون لقضايا سياسية كبيرة أغلبها مجرد وبعضها إستعراضي، فهو يعني إنهم مجردُ أدواتٍ لم يتطوروا ليكونوا قيادات عمالية متجذرة.
نريد أن نرى شيئاً من جهدهم لحياة العمال ومستقبلهم، حتى وإن بدأ ذلك على شكل درس وضع العمال بدايةً. فحتى الآن لا نجد شيئاً أولياً في ذلك، فأين هي عمليات قراءة أوضاع العمال؟
كم هي أعدادُ العمال المواطنين والأجانب؟ ما هي شرائحهم؟ كم العمال اليدويون وعدد العمال المهنيين والفنيين؟ ما هي الأجور المتوسطة والحقيقية في كل هذه الفئات؟ ما هي أبرز المشكلات لدى مختلف هذه الفئات العمالية ولدى مختلف الشرائح البارزة ؟ أين يتركز العمال وأين هي المؤسسات الصغيرة ؟ كيف يحدث الحراكُ العمالي عبر الهجرة والبطالة وظهور الأجيال الجديدة وماهي فروع الإنتاج في هذا الحراك؟ ما هي تحديات العمل النقابي؟ ما هي العلاقة بين العمال المواطنين والعمال الأجانب؟ كيف تتم المنافسة والصراع والتعاون بينهم؟ الخ.
يُفترض أن تشتغل قوى الدرس والبحث والتأمل على مثل هذه القضايا الأولية الأساسية(لأن ثمة قضايا كبرى بعدها)، بحيث أن تقدم النقابات عمليات فحصٍ أولى وتراكمات معرفية وتحددُ أبرزَ القضايا والمشكلات بحيث تقوم بالعمل لتغييرها بالوسائل المتاحة والتي يكمنُ في بدايتها التثقيف والمعرفة بالأوضاع الحقيقية ونشرها على الجمهور العمالي بدرجة خاصة.

العمال بين اتجاهات حادة متضاربة
كل جماعة تواجه خيارات فكرية وسياسية متعددة ومتضاربة، بطبيعة مرحلة الانتقال الحالية، لكن توجهات الحداثة الديمقراطية هي ثقافة تخترق كل هذه الجماعات، ولكن كلَ جماعة تهيمن عليها ثقافة الشمولية والمركزية والأنا في نفس الوقت!
والعمال رغم كونهم طبقة فقيرة يتطلعون مثل غيرهم إلى الأستئثار بالخيرات المادية وحدهم، خاصة وهم يعانون الأمرين في إنتاج هذه الثروات، ويأتي اناسٌ ويدغدغون فيهم مثل هذا الحلم، لكي يتسلقوا في سلالم السلطة، فينشرون بينهم وعياً زائفاً عن إسقاط الرأسمالية وسحقها المظفر في جزيرة العرب التي تناضل من أجل سفور المرأة ولم تستطع أن تفعل ذلك!
هذه الطفولية اليسارية هي نتاج معاناة مريرة كذلك، خاصة وهي ترى جماعات (اليسار) تتقرب لمن لديه الذهب، سواء كان معمماً أم متوجاً!
فترى شباب هذه الجماعات وقد فقدوا نضالية آبائهم، وتوجهوا لنضال الشموع والرحلات والتغزل بالبنات! فأين هم من التغلغل في الحارات الفقيرة والنضال بين الأميين والأميات وتثقيف البسطاء والعمال؟ لأن تثقيف العمال صعب، ويحتاج إلى تضحيات جسام، وهم لا يريدون أن يضحوا ويكرسوا وقتاً من أجل تثقيف الجمهور الأمي والعادي بل أن يتمتعوا بالمشروبات والمعسل اليساري!
فهو النضال الجاهز ( away take) بعد أن أنتشرت المطاعم الغربية، وقد جعلها بعضهم (نظرية) فصار التسلق مدرسة، فتسلقوا على الدول الكبيرة في الخارج، وراحوا يمدون خيوطهم وخطوطهم لمن يدفع، ولمن يرفع، وبغض النظر عن كون من يدفع شبكة خطرة تقود جماعتهم لمأزق فكري، فالفكر لا أهمية له، ما دام هناك الكثير من الجهلة من شعبي، والذين يصدقون هذه الشعارات البراقة، ويتحمسون للمفرقعات الصاخبة، لكنهم لا يعملون من أجل توحد العمال والفقراء في كيان واحد، لأنهم يخافون من هذا التوحد لأنه يقضي على ذلك التسلق والكسل السياسي.
ومن جهة أخرى يمكن أن ينشأ فصيل آخر يزايد على الشعارات العمالية والثورية، فيصرخ لتسقط الرأسمالية، ولنحطم الأغنياء وعاشت دولة العمال والفلاحين، وهو بالكاد يكتب أربعة أسطر باللغة العربية السليمة!
وهو من هؤلاء الشباب المتحمسين لقضية الفقراء لكنه لا يريد أن يفتح كتاباً، وأن يدرس التحولات العاصفة في العالم، فيقوم بالنقل من الكراريس القديمة في أوائل القرن العشرين، فيعتبر إن كل الجماعات السياسية انتهازية، ويجب مقاطعتها ومقاطعة البرلمان ومقاطعة الدينيين الرجعيين، في حين أن قراءة آراء هؤلاء مهمة، ونقدها وتحليلها ضروريان، وجعلهم يفهمون التاريخ الإسلامي عملية أساسية، لأنهم مثل القوى الأخرى يعيشون حالة جمود فكري وشمولية وتسلق على حساب العاملين، وتطورهم باتجاه الديمقراطية مهم، ومساهمة العمال في تطور هؤلاء مهم، لأنهم يقررون أجورهم وظروف عملهم وتسريحهم أو بقائهم في أعمالهم، فكيف يمكن مقاطعتهم وإلغائهم؟
لكن مقاربة الدينيين والمستقلين المعبرين عن القوى الأخرى تعتمد على القوى النقابية والسياسية، ومدى حضورها في مناطقهم كمعبرين عن العمال، ومدى دور نقاباتهم في الدفاع عن معيشة الشعب العامل في القطاعين الخاص والعام معاً.
إن دينامكية التفكير العمالي في هذا العصر المعقد وفي هذه المنطقة الصعبة يعتمد على مرونة شديدة من قبل الشباب خاصة، لأنهم بلا نضج ويشتغلون بحماس وتهور أو بكسل، ومن هنا يغدو رفض إشكال التسلق والاعتماد على النشاط المستقل وطرح الحلول المعقولة للمشكلات، واعتماد الفقراء على أنفسهم ونضالهم، هو الطريق الصحيح الصعب ولكن الذي سوف يؤتي بثماره.

الديمقراطيةُ البرجوازيةُ العماليةُ
إذا كان المصنعُ هو أساس الحياة الاقتصادية للمجتمع، فإن المستثمرين والعمال هم أساس تطوره الاجتماعي السياسي على مدى العصر الحديث حتى ينطفئ هذا الأسلوب تدريجياً.
هذه الضرورة لا تتكشف من أول وهلة بل عبر مجرى الزمن الاجتماعي الصراعي الطويل.
في البدايات لا يكون للعمال وجود إجتماعي سياسي، فهم كم مهمل، لكن الضرورات الاقتصادية وتطور الصناعة وإنتشار التعليم والوعي النقابي والسياسي، يجعل لهذه المجموعات المفتتة كيان طبقة بعد عقود طويلة.
أما الوجود السياسي وكونها طبقة مؤثرة ليس في المصانع فحسب بل في البرلمان والمؤسسات السياسية فهي مسائل تتعلق بمدى تطور الديمقراطية الاجتماعية السياسية في المجتمع: تغير طبيعة العائلة الكبيرة، وإنتشار الثقافة الموسوعية وسط العمال، وظهور العائلة العمالية المكثفة المتطورة، وتحول العمال اليدويين المستمر لعمال تقنيين وخبراء وعلماء، وهذا يتعلق بمجرى تطور الثورة العلمية التقنية.
زمنيةُ العمالِ اليدويين الأكثر تخلفاً تحددُ زمنيةَ البرلمانات التي تملأها البرجوازية وفئاتها المتعددة، في هذا الزمن لا يستطيع العمالُ فهمَ السياسة وتنتشر الأمية بينهم، هذه الزمنية تؤجج الأحقاد وإستعمال العنف من قبل فئات من العمال، وفي هذا الزمن النقابات ضعيفة والأحزاب الاشتراكية ذات نهج شمولي.
تتطور البرجوازية والعمال في مجرى الصراع التعاوني، فالأولى تقودُ تطور وسائل الانتاج، وتربط المصانع بمعاهد البحوث، وتطور العلوم المرتبطة بالانتاج، وهو أمر يقود لتوسع فهم العالم، وتنشأ فئاتُ العلماء المنفصلة عن الانتاج في بادئ الأمر، ثم تتغلغل العلومُ في المصانع وفي فئات العمال، فتتضاءل الشمولية وسط الطبقات العمالية وتغدو منتجة في الوعي السياسي الديمقراطي.
تعتمد تطورية البلدان على تطور المصانع وعلاقاتها بالعلوم والتقنية، ووجود الأسواق والمواد الخام، وتضيق الأسواق بشكل دائم فتتوسع البلدانُ الرأسمالية المندمجة مع بعضها البعض، مثلما يصبح العمال قوة إجتماعية قارية. ولهذا فإن أوربا الغربية تغدو أكثر ديمقراطية فيما يلعب الحجم الاقتصادي الضخم في الولايات المتحدة دوره في التوسع والاستعمار وخسارة الفوائض الاقتصادية على التسلح والحروب، ويبقى العمال فيها قوة غير مؤثرة على التطور الاقتصادي السياسي. ولهذا فإن أزماتها الأكبر في الطريق. الاعترافُ المتأخرُ بالعمال كقوة سياسية يخلف قوى الانتاج ويؤزم التطور سواءً في الغرب أو الشرق.
في بعض البلدان النامية ترتفعُ راياتُ العمال الحمراء والمتعددة الألوان كقوةٍ سياسية مجردة فالمستوى الاجتماعي المتخلف لهم والهيمنة السياسية الإيديولوجية الزائفة عليهم يجعلان الفئات الوسطى الصغيرة أو الارستقراطية أو الإقطاع تزيح الطبقتين المنتجتين وتتحكم في الفوائض، ويختنق التطور الاجتماعي السياسي الديمقراطي لعقود حتى يظهر مجدداً ويغدو العمالُ أكثر الخاسرين وتتشوه البناءات الاقتصادية: ضخامةٌ في الرساميل غيرِ المنتجة وتقزمٌ في المنتجة منها؛ سواءً كان ذلك بسبب البذخ أو التسلح أو التوجهات للأرباح السريعة، لكن السبب الأهم هو غياب الجدلية الصراعية التعاونية بين المستثمرين والعمال، وعدم تحول الديمقراطية لترشيد إقتصاد السوق نحو تطوير قوى الانتاج البشرية والمادية.
في البلدان النامية ضخامة أعداد العمال الهامشيين والعاطلين وغير المؤثرين في الحياة الاجتماعية، تعبيرٌ عن ضعف الانتاج، وإنهيار الانتاج القديم وعدم التمركز في المصانع وضعف صلاتها بالعلوم والتقنية، ولا توجد برجوازية صناعية هنا، بل فئات وسطى صغيرة تفتقدُ القدرة على تكوين الرساميل الصناعية ولهذا تكون ذات وعي ديني، حيث لم يندغم الوعي هنا بالعلوم وقراءة الطبيعة وتطوير العمال والمصانع.
الضرورات تكسرُ الأشكالَ الحِرفية الصغيرة، مثلما تتضخم رؤوس الأموال، ويتمركز العمال، وتتصل المصانع بالتقنيات والمعارف الحديثة، فيكرر الشرقُ مسارَ الغرب بصور أسرع، وتصبح القاراتُ السكانيةُ قادرةً على تجاوزه حين تطور صراع المستثمرين والعمال التعاوني الديمقراطي، فيصبح القرن الواحد والعشرين بدايات العصر البرجوازي العمالي العالمي المشترك المديد في القرون القادمة.

الأفكارُ والمراحلُ التاريخية
تتداخل الأفكارُ الوطنيةُ والعالمية، فالبشر يتبادلون المنتجات الفكرية والسلعية، وتحدث التأثيراتُ بسببِ حاجاتِ الأبنية الاجتماعيةِ الوطنية للتغييرِ وقدرة القوى الفاعلة الصاعدة في هذه المراحل على إنتاج الأفكار المُحركة للواقع وعلى التفاعل مع الجمهور الشعبي، محرك التاريخ الأساسي.
لكن هذا الوعي غائبٌ حتى في الدراسات الجامعية، لصعوبةِ قراءة التداخلات والبُنى الاجتماعية الوطنية في كل مرحلة، التي تحددها ظروفٌ موضوعية وإنتاجٌ وطني عالمي للأفكار.
وجود طبقة ذات تقدم تاريخي هو بؤرة الموقف، ولنأخذ هنا موقفاً من التاريخ المصري الثقافي السياسي، لأنه معروف عربياً غير أنه من الصعب فهمه.
فالفئاتُ المتوسطة التي ظهرت في أوائل القرن العشرين بمصر هي التي طرحتْ التنظيمَ السياسي المعبرَ عنها، وكذلك الأشكال الفكرية والفنية والأدبية المسايرة لها.
إن مستوى هذه الفئات الوسطى السياسي الفكري هو مستوى إستيراد لليبرالية ذات شعارات نهضوية، ولهذا فإن قدراتها لا تسمح لها بتركيبٍ جدلي معقدٍ يغوصُ في البنية الاجتماعية ذات الجذور العميقة، أي أن تقومَ بتحليل البناءِ الاجتماعي المصري العربي الإسلامي المسيحي وإكتشاف قوانين تطوره، فهي لا تقدر على هذا الغوص، فتطرحُ شعاراتٍ عامة، تتمظهرُ في كلِ شكلٍ من أشكالِ الوعي بدرجةٍ معينةٍ وحسب الناشطين في هذا الحقل أو ذاك، فالزعامةُ السياسيةُ تطرحُ ديمقراطيةً مقاربةً للملاك الكبار والصناعيين، مثلما يتبدى ذلك في قيادة سعد زغلول، وهي رؤية تقزمُ اليسارَ والفلاحين، ومحمد حسين هيكل يطرحُ رواية أوربية على جسد الريف المصري الذي يخلو من الإقطاع، فيما تتقدم الفئاتُ الوسطى في وعي نجيب محفوظ، لكنها لا تصطدمُ بالإقطاعِ المحلي، إلا بشكله السياسي التركي الأجنبي وفي علاقاته الأسرية حيث الأبوية الشمولية. وهنا تتمظهر بشكل محسوس فني رؤية الليبرالية لما بعد الحرب العالمية الأولى، فهي لا تتغلغل في جذورِ البنية الاجتماعية، فالإسلام والمسيحية غائبان، ليس لأنهما غائبان عن الحياة ويفعلان فيها كثيراً، بل هما غائبان عن رؤيته. يتمظهرُ الإقطاعُ في شريط عرضي خاصةً حين يعرقل نمو الفئات المدنية.
الليبراليةُ الاستيراديةُ هنا هي في وعي فئاتٍ وسطى ذاتِ ثقافةٍ معينة وظهرتْ في ظروف معينة، لهذا تقاربُ العموميات، كما أنها تجذبُ فئاتٍ كثيرةً في البدء لأن هذه الفئات الكثيرة متحدةٌ في أهدافٍ مشتركة هي؛ طرد المستعمرين، ونهوض الصناعة والاقتصاد الوطني، لكن التطور التاريخي يسير حسب مصالح الطبقة القائدة للتحالف الشعبي، وهي التي تتمايز مصالحُها شيئاً فشيئاً عن الجمهور العمالي والفلاحين والفئات الوسطى الصغيرة التي تجدُ أن فئات(البرجوازية) والملاك الزراعيين الكبار، تخذلهم شيئاً فشيئاً، وتكرسُ مصالحَها فتنقضُ عنهم.
الطبقة القائدة للتحول التاريخي هنا تعجزُ عن إقامةِ تحالفاتٍ عميقة، إنها لا ترضي العمالَ بالدفاع عن أجورهم ولا تقوم بتغيير ظروفهم، وهي تصمتُ عن الفلاحين ولا تطرحُ تغييراتٍ في المُلكية الزراعية وتتجنبُ الإصلاحَ الزراعي.
التحالفُ يتفكك، لكن لا تظهر طبقةٌ حاملةٌ لتشكيلة جديدة تاريخية، لأن الطبقة الرأسمالية التي كان يجب أن تجذرَ هذه التشكيلة وتغيرَ الإقطاعَ في الزراعة والبيوت والثقافة وترفع من أوضاع العاملين وتجعلهم قاعدتها الجماهيرية القوية، توقفتْ عن معركتها فتنطعت لهذه العملية فئاتُ البرجوازية الصغيرة الدينية واليسارية والعسكرية وأدخلت مصر والبلدان العربية في مراحل تجريبية تائهة.
لهذا نجد التنظيمات السياسية تتجه خاصة بين الحرب العالميتين الأولى والثانية، وبعدهما، لأقصى أشكال اليسار والدين.
على مستوى الوعي سنجد عبدالرحمن الشرقاوي يكرس أهمية الإصلاح الزراعي وتغيير حياة الفلاحين ويهتم بالإسلام كثورة شعبية، بأشكال جزئية وأدبية، وفقهية، لكن بلا رؤية تقدمية شاملة.
وحين تجسدت هذه الرؤى التجريبية وسيطرت فئةٌ عسكريةٌ من البرجوازية الصغيرة المضطربة في زمنية الناصرية، نجدها لم تستطع أن تخلق نظاماً حاملاً لهوية، ولتشكيلةٍ، فقدمٌ لها في الرأسمالية والإقطاع وقدمٌ لها في الاشتراكية، فلم تفهمْ الإسلامَ ولا الحداثة، وفي النهاية نجدُ هذا التآكلَ السياسي الاقتصادي والإنفتاح الاقتصادي الفوضوي تعبيرين عن فشل الطريق نحو التشكيلة الحديثة.
ومن هنا فإن الفئات المثقفة التحديثية الطالعة في الستينيات والتي ذهبت لسجون العسكريين لم تعد تثق بالمطلق كنظام، ولم تقدم رؤى بديلة. وفي هذا إستمرارية لأزمات أجنحة البرجوازية الصغيرة الحديثة، فبدأت أجنحتُها التقليدية في النهوض مدعومةً من أموال النفط في الجزيرة العربية وإيران ومن فشل مغامرات العراق وسوريا. والآن تنتصر الأجنحة المحافظة مكرسة تقاليد أكثر تخلفاً من سابقاتها.
هذه خطوط عريضة أساسية لما جرى في مصر والبلدان العربية، وكل بلد له مساره التاريخي الخاص في الخطوط العريضة السابقة، ضمن هذه الممارسة للفئات الرأسمالية الليبرالية الأولى والتي توقفت عن التغيير، ثم جاءت الفئاتُ البرجوازية الصغيرة يساراً ويميناً، ولم تفلح في إيجاد نظام، وإستمرارية هذه الفئات في إنتاج الأزمات تتشكل في رؤاها، وعلينا أن نراقب مرحلة التجريب الجديدة في اللحم العربي.
إنها عاجزة عن تغيير الإقطاع وعلاقاته المتجذرة في البنى والعلاقات الاجتماعية والثقافية وفي رؤاها، فيغدو أمامنا تاريخٌ تجريبي آخر، يستنزف القوى والموارد، ويضيع عقوداً أخرى من الحلول الكلية والسحرية والشمولية.
إن هذه الفئات لا تتحد لتغيير ما هو تقليدي وتتفق على هذا وتتبادل العملية السياسية وتجعل الجمهور حكماً، بحيث تغدو الأدوات السياسية والإعلامية حرة تحترم كافة وجهات النظر، مركزين على تغيير ما يتفق الناسُ على تغييره من علاقات إقتصادية متخلفة وتوضع الخطط لتطويرها.

المراحلُ التاريخيةُ والموقفُ المغامرُ
تمثل الفئات الوسطى الصغيرة أساس الحراك التاريخي في البلدان النامية المنتقلة من الإقطاع إلى الرأسمالية، وهي تغدو أساس الحراك ومشكلته معاً.
فهي أكثر الفئات عدداً وأنشطها إنتاجاً سياسياً وهي قادرة على خلق الاضطراب التاريخي في ذات الوقت. فنظراً لعدم حملها علاقات إنتاج تتذبذب مع القوى الغالبة سواء التي تشد للإمام أم للخلف، وهي تخلقُ مراوحةً طويلة مقلقلة للشعوب حتى تتقدم الطبقات المنتجة لاحتلال مسرح التاريخ.
في المرحلة الليبرالية إندفعت لقشور الليبرالية بدون القبول بإصلاح زراعي وتحرر النساء والعقول بشكل جدي فبقيت البنى الاجتماعية في الإقطاع.
في المرحلة العسكرية برزت الفئاتُ الوسطى الصغيرة بذاتها وإندفعت للاشتراكية البيروقراطية وهمّشت الإصلاح الزراعي وتحرير النساء والعقول وخربت المـُثُل الاشتراكية.
تكسرت المبادئ الليبرالية والاشتراكية بسبب المبالغة الشكلية في الدعوة لكن تطرف هذه المجموعات قطع الطريق على التدرج والتنامي الإصلاحي، مما خلق ثنائية الحرب الباردة التي كانت تحطيماً نارياً للقوى الديمقراطية المناضلة الصغيرة في أحشاء المجتمعات التقليدية النامية، ونفياً للطبقتين المنتجتين العمالية والبرجوازية في الدول (الاشتراكية) الحكومية الشمولية.
وبعد أن إنقشع السرابُ الليبرالي والخيالُ الاشتراكي عادت المجتمعات لمستوياتٍ إيديولوجية سياسية محافظة متطرفة في الرجعة للوراء كما كان تطرفها في القفزات إلى الإمام!
في المرحلة الحالية برز (الإسلام) المفهوم بمثل تلك الضبابية والانتقاءات الإيديولوجية حسب طريقة هذه الفئات الصغيرة المتراقصة بين الحبال الطبقية، والتراقص هنا يغدو بين رأسماليات الدول الحاكمة وبين المهمشين فيها، بين الحكومات ومجموعات المعارضة الطائفية المختلفة، بين العصر الحديث والعودة للعصور الوسطى، ويتحول هذا الرقص لصراع مذهبي ديني عنيف يجر الناس للاضطرابات، بدلاً من تحويل رأسماليات الدول لرأسماليات حرة وعبر نضال الشعوب المتدرج المتنامي وإحترام الصراع الاجتماعي فيها، وتكوين الأسس المادية والفكرية للانتقالات السياسية والاجتماعية الأكثر تطوراً.
المجتمعات النامية التي تطورت إقتصادياً وإجتماعياً بعض الشيء تراجعت للوراء كثيراً في الفهم الإيديولوجي للحياة والصراعات.
فبعد فشل الاشتراكية والليبرالية برزت التياراتُ الطائفية السياسية وإندفعت أغلبُ قوى البرجوازية الصغيرة فيها متحمسة لها، نافية ما عداها، مؤسسة نفس أخطاء المراحل السابقة، فهي تصاب بسكرة تفقدها أي توازن وتطير بأجنحة الحماس نحو النار.
إنها فئات مع الغالب والسائد فتداخلت بصور غرائبية مضحكة، لكن قوى الإقطاع الدينية التي تصاعدت بعد فشل الليبرالية والاشتراكية، مستندة للعلاقات الريفية المحافظة غالباً، تقوم بجر هذه الفئات البرجوازية الصغيرة للوراء، فهي ليست ديمقراطية ولا قومية بل تتبع قيادات التنظيمات والمراجع الكبرى الدينية التي تريد قولبة الحاضر حسب مفاهيمها العائدة للعصور الوسطى خادعةً الجماهير بالحديث عن الإسلام.
لكن فئات البرجوازية الصغيرة هي الأكثر صخباً وحماساً لهذا الخيال الحارق العائد للخلف، مثلما كان الحال أيام اليسار المغامر والصخب من أجل الكفاح المسلح وإسقاط الرأسمالية.
العقدة هنا تمكن في تحريك الجمهور العاطفي الذي يعيش في سديم إجتماعي وإيديولوجي متصوراً الذهاب للجنة، بدون شقاء الرأسمالية والتصنيع ومصائب العمل النسائي!
إن ما إستُخدم سياسياً ليس هو الإسلام أو الاشتراكية أو الليبرالية، بل هو مصطلحاتٌ معلبةٌ وشعاراتٌ غير متجذرة في تُربٍ موضوعية، بل مسلوقة ونيئة، ومقدمة بأعداد هائلة صاخبة للجماهير.
وطريقة السلق هي واحدة في هذه المجموعات رغم مواقعها الإيديولوجية المتنافرة. فهي ترفض النمو المتدرج في بُنى رأسمالية متخلفة شرقية واضحة القسمات وترفض التوجه للنموذج الغربي العالمي الديمقراطي العلماني، وتقدم تصوراً إيديولوجيا من خيالها الواسع، فبداية هي لا تقرأ هذه البُنى الشرقية، بسبب أن مشاعرها الحادة وجملها الصاخبة وحياتها المحافظة المهيمنة على النساء والحرية والعقول والعائشة في الثقافة السحرية ترفضُ الواقعَ الموضوعي، فهي تريد القفز بدون أن تعالج سلبياتها وتخلف بيوتها ووعيها وتطور عملها.
الآن تجمعت بأعداد وفيرة للمشروعات الطائفية المحافظة الممزقة للبلدان العربية الإسلامية، وتعمل بنفس الصخب وبنفس الروح المطلقة المتعصبة لكن هذه المرة المشروع قفزة للوراء بشكل كارثي.

حركية الفئات الوسطى وثبات العمال
يحتاج العمل السياسي الديمقراطي إلى نشاط الفئات الوسطى الديناميكية عادة، المتحركة، الباحثة عن مواقع قدم لها في الأرض الاجتماعية، وكذلك مبدأية العمال وصلابتهم في النضال.
ومن حق أي حركة سياسية أن تعمل في كل أرضها الوطنية وتختار المواقع المناسبة لها، والتي تعطيها منتوجاً سياسياً أكثر من غيرها، خاصة تلك المواقع التي لها حضور تاريخي فيها.
كانت الانتخابات السياسية قد تجيرت بشكل طائفي خطر من قبل الهيئات المتنفذة حكومياً وأهلياً، وهو مصير سيء للجميع مع الاستمرار في تجذيره، ولعدم القدرة على إنتاج ثقافة وطنية حديثة.
عبرت القوى التقليدية المتسيدة على الأرض عن أفكار قديمة، مثلما أن القوى الجديدة عاجزة عن إثبات جدتها.
رغم النشاط الذي تقوم به الفئاتُ الوسطى بطبيعةِ أعمالِها الحرة والوظيفية الحديثة لكنها ترتكز على الجانب التقليدي الفكري، والدعاية والأدلجة ونشاطات المقر.
هل تفكر القوى السياسية بالظروف الاقتصادية الصعبة للجمهور؟
هل تحلل أوضاع المدن التي تشتغل فيها سياسياً وظروفها العمرانية والاقتصادية والصحية والبيئية والمرورية؟
هل تعالج مشكلات العمالة الأجنبية وظروفها السكانية والاجتماعية المخلة بتطور البلد وظروفها؟
ما يتم التركيز عليه هو الخطابات السياسية والتحالفات للوصول إلى المقاعد، فليس ثمة خطط اقتصادية، ولا قدرة على معالجة التطور الاقتصادي الوطني برمته، ووضع الخطط البديلة الشعبية للخطط الحكومية.
فلا بد من تلاقي الجمعيات والتيارات السياسية على خطوط عريضة ترتكز على المطالب العامة، وعلى النمو العقلاني للتيارات، وليس على الاستفادة من الحماس المؤقت.
يجب طرح مثل هذه الشعارات:

  • نطالب بمراقبة للشركات العامة وميزانياتها ومداخيلها وكيفية توزيع فوائضها بالصورة المناسبة.
  • نريد مساندة وإصلاح ومراقبة الشركات والبنوك الكبرى الخاصة لما فيه فائدتها وفائدة الأغلبية العاملة البحرينية.
  • تغيير أوضاع الخدمات العامة المتراجعة في الصحة والتعليم والبيئة والعمل الخ..
  • رفع مداخيل الجمهور بالصورة الاقتصادية التالية..
    إن القوى الوسطى تتوجه للصراعات فيما بينها لأسباب فكرية لا تهم الجمهور، وبهذا تتصارع طائفياً وسياسياً بشكل غير حضاري، وهو أمرٌ يبدو في الشعارات، وليس ثمة تركيز على الأوضاع الاقتصادية العميقة، لأن دراسة هذه الأوضاع بشكلٍ موضوعي ليس بقدرة أحد التيارات بل تحتاج لتعاون جماعي كبير من التيارات المحلية.
    التعاون المشترك من قبل القوى السياسية لتقوية الرقابة البرلمانية وجمع المعلومات الواسعة.
    والهدف الاقتصادي الاستراتيجي خلق تعاون بين القطاعين العام والخاص يستهدف ضبط تطورهما المشترك وتنمية القطاعين ومداخيلهما ورفع مستوى معيشة الناس في ذات الوقت.
    إذا وَضعتْ الفئات الوسطى والتي بيدها النشاط السياسي الإنتخابي مصالحَ الغالبيةِ العامة من الناس فهي تجذر تياراتها وأفكارها على صعيد حقيقي ومستقبلي بعيد المدى، بدلاً من انتهاز الفرص والوصول للكراسي بغض النظر عن المسقبل وإستغلال المشاعر المؤقتة، وهو ما لا يجذر أفكارها مهما كانت.
    كما أن من المناسب للقوى العاملة أن تبحث عن مرشحين متجذرين ذوي خطط مستقبلية طويلة، فالاقتصاد يعاني كثيراً، والحكومة تعتمد على ما هو مؤقت، وعلى الإبر البترولية المؤقتة، وتدفق الشركات وفيضها العابر، وحتى الآن لم ينجح الاقتصاد المنوع الذي طـُرحت شعاراتهُ خلالَ عقود طويلة، مما يشير إلى سياسة اقتصادية غير ناجحة على المدى الطويل، سوف تتضح مشكلاتها مع تضاءل الإنتاج البترولي.
    ولم تنجحْ الإبرُ المؤقتة في السنوات الأخيرة والمعالجات القصيرة، والأمور تحتاج إلى تعاون وطني واسع بين قوى الدولة والتجار وأرباب العمل والعمال، تعاون سياسي عميق وليس اتفاقات مؤقتة وعاطفية.
    وليس إلى تدفقات عفوية كبيرة تؤدي لبعض الدخول وللكثير من الزحام والتضارب وفوضى السوق ونتائجه على إزدحام المواصلات وعلى الخدمات.
    كذلك فإن الاندفاع على الموارد المحدودة ليس هو الجانب السليم.
    وكذلك التدفق في إستخدام الأراضي بأشكال مؤقتة سريعة.
    هناك إذن مشروع حكومي لاستثمار ما هو مباشر وبشكل سريع ودون وجود خطط اقتصادية موضوعية مسقبلية بعيدة المدى.
    وثمة مشروعات خاصة للنمو الاقتصادي الربحي السريع بدون تعاون ورؤى جماعية ودون رؤية لأوضاع الغالبية.
    بطبيعة الحال لن يهتم الجمهور العريض بمسائل الخطط المستقبلية وهياكل الاقتصاد وغير ذلك من القضايا المعقدة، بل سوف يطالب بخدمات رخيصة ومكاسب مادية كبيرة، ونواباً يحققون له مثل هذه الرفاهية.
    وهي أهداف مهمة فهناك دخول كبيرة قادرة على ذلك، وجزء من الرقابة البرلمانية والبلدية والسياسية لا بد أن يتوجه لذلك، ولكن هذا لا يكفي دون رؤية بعيدة المدى، وقوى سياسية ذات إدراك مستقبلي وذات قراءات للاقتصاد وكيفية إصلاحه وشرح ذلك للجمهور لكي تتشكل كوارد مستقبلية فيه تفهم هذه القضايا وتناضل من أجلها.

النضال السلمي بلا حدود
فيما تصر قوى العنف والتخلف على القنابل النووية ووضعنا في مضمار قتل ضيق، تعمل قوى النضال السلمية بضعف وتشتت وحيرة.
والسبب يعودُ لعقليتها العنفية المضمرة.
النضال السلمي لا حدود له، يوسع الأفق السياسي، يقوي ويقرب الخصوم، ينتج أساليب تقدم مستمرة، يحرر الشعوب وهي مقاربة لحالات تطور.
تعبرُ الجزائرُ عن فخرِها بثورة المليون ونصف المليون شهيد وكان يجب أن تتأسى وتفكرَ بعمقٍ لماذا حدثت هذه المأساة المروعة وبذلت كل هؤلاء الضحايا؟ فكرْ لو أن هؤلاء كانوا أخوتك، ماذا كنتَ ستشعرُ في هذا المصاب؟
ثم لم يترك الجزائريون فرنسا الاستعمارية وذهبوا إليها عاملين بظروف قاسية وكأنهم لا يريدون ترك مستعمريهم المتقدمين الذين افتقدوا حضورهم في بلدهم المحررة!
لم يسأل خوارج الحاضر عن تأسيس المغرب الأوسط من قبل خوارج الماضي! فهو تاريخُ حدةٍ سياسية لم يجرِ فيه سلمٌ حضاري طويل.
عنزةُ غاندي كانت أكثر أهمية من مدافع الباكستان، وفي حين تصعدُ الهندُ لقمم التقدم الاقتصادي تتفككُ وتتمزق الباكستان ويكون فيها الأبطال أجساماً مفخخة وقتلى بجنون ولا أحدٌ يأبهُ بإحتضارِها السياسي!
لماذا تسرعون في القضاء على الإحتلال الإسرائيلي البغيض؟! هو مفيدٌ في جوانب لكم، يعلمكم كيف تتشربون وتتجاوزون اليهود في إقتصادهم وتقنياتهم ومعلوماتهم، هذه فرصتكم للتعلم من أكثر قوى الإستغلال في العالم ذكاءً، وهم أكثر المدارس خطورة ودهاءً في تاريخ الإنسانية، فحولوا شبابكم لعلماء وتقنيين، وحولوا متاجركم البائسة لمصانع صغيرة للمعلومات والتقنية، وأنتم أكثر نسلاً منهم ولستم أكثر ثقافة منهم حتى الآن، ولا تجعلوا المقاومة الدموية هي طريقكم فإنها إستمرار للاستعمار وقضاء عليكم، وقد سبح اليهودُ في بحر التقدم الغربي وكان معهم رأس المال الطويل المكين، وعددهم ضئيل ونوعي متطور فوقفوا على رأس العالم الرأسمالي المسيطر على الكرة الأرضية وهم أقل الشعوب عدداً!
ألم نشبع من تاريخ التشنج؟
ولهذا فإن جماعات (النضال) في الجزيرة العربية والخليج يقضون على سبل التطور الوفيرة الغنية في المنطقة، فليست لهم من طرق التغيير سوى الحرائق والدماء والسيارات المفخخة، والمذابح، وصارت القاعدة بطلة في المدارس الثانوية، وهي تحضرُ المزيدَ من قوى العسكر الغربيين إلى بيوت المحصنات المسلمات.
ضعْ قنبلةً وأهرب وتقضي على الاستعمار والعدو وتحرر المسلمين وتنصرهم على أعدائهم الكفرة!
جملٌ سهلةٌ تدغدغُ عقولَ المراهقين وتطيرُ بهم في سماء البطولات، ويقتربون من أبطال المسلمين والمجاهدين والسلف، ولكنهم لا يفعلون سوى تمزيق هذه الدول، وزرع القواعد فيها، ونهب ثرواتها بتقوية الجيوش وتضخيم الميزانيات العسكرية، ولا يدرون إنهم مجرد مواد غبية في إستراتيجيات دولية تريدُ حصدَ الأخضر البترول وتركَ الأعشابَ الصفراء المسمومة من حروبٍ أهلية ودمار بعد ذلك لهم.
إن تضخم العسكر على كل الضفاف العربية الإسلامية – الغربية هو المشروعُ المشترك الأكثر حضوراً وسيطرة، ويقوم الأولادُ الأغبياء بدورِهم المرسوم وهم يتمزقون ويفخخون الأسواق ويقتلون العرب والمسلمين خاصة.
في كلِ قنبلةٍ يزرعُها هؤلاء في المدارس والمعاهد والمتاجر والمعابد هي قفزة في وزارات (الدفاع) وهي توسع في مقابر العرب وقضاء على مشروعات تحررهم وتقدمهم!
هل تدري كم مومس ظهرت بعد إرهاب الجماعات المسلحة في إفغانستان؟
وكم عائلةٍ باعتْ أغراضَها وبناتها؟ وكيف حول هذا (الجهاد) إفغانستان لأرضٍ مدمرة وأي تحرير سوف ينتجُ – لو حدث – من كل هذا الدمار الاجتماعي وبيع البشر لأنفسهم وأعراضهم؟
نعم إن النضال السلمي هو بلا حدود، وفيه أن لا نستكين لقوى خارجية وقوى داخلية إستغلالية، وكلما تجذرنا فيه إنفتحتْ سبلٌ جديدة، وتنامت قدراتُنا، وكانت مقاومتُنا أكثر صلابة وأوسع علماً.
والسلام لا يعني الأستسلام بل يعني تراكم قوانا وعدم حرق البشر والأرض في سبيلِ أهدافٍ سياسيةٍ يمكن بلوغها بتضحيات أقل.

العمال بين الرأسماليتين
تشير الملامح العامة للاقتصاد الوطني إلى تمتع الرأسمالية الحكومية بأقوى الشركات ذات الدخول العالية، رغم أن بعضها يواجه مشكلات إقتصادية كبيرة بسبب الأداء البيروقراطي الطويل، وبطبيعة الحال لا بد أن تكون أجور الموظفين والعمال في القطاع العام، وهم القاعدة العريضة التحتية للبروليتاريا أفضل من القاعدة التحتية الأوسع لعمال القطاع الخاص، والفارق بين الأغلبيتين في وجود الأجر العام المتوسط في الفئة الأولى بين 200 – 300 في حين ينزل لدى القطاع الخاص بين 50 – 150.
إن ثمة مشكلات محورية في البناء كصغرِ السوق وما يترتبُ عليه من ضعف قوى الشغيلة العددية والنوعية وضعف مستواها المعيشي، وتدني إنتاج النفط في البلد، والمشكلات البنيوية في الإدارة كوجود موارد كبيرة دون قدرة على الضبط والتدقيق والتوزيع الوطني، وخروج فوائض كبيرة من الرأسمالين العام والخاص للخارج، وعدم قيامهما بإعادة تشكيل بنية الاقتصاد الخدماتية القائمة على تصدير المادة الخام، فيما يكون مجيء الرساميل الأجنبية للاستحواذ على أرباح أخرى، وبعدم المساهمة المؤثرة في السوق المحلية.
إن ضعف الأجور لدى القاعدة العريضة التحتية من الشغيلة البحرينيين والأجانب يلعب دوراً في جمود السوق وعدم تطور قوى العمل، وتسببُ ذلك عملياتُ إنتزاعِ الربح الأقصى في مثل هذه السوق الضيقة بكل شيء.
الرأسمال العام لا يُحكم بوسائل الرقابة الدقيقة، وفئاته العليا تمتص الزيادة فيه وتوجه أجزاء كبيرة منها نحو جوانب إستهلاكية حكومية عامة، فالدخول العامة كبيرة لكن الهيكل البيروقراطي يمتصها، لتضخمه غير الفعال، ولضخامة العمليات غير الاقتصادية البذخية والمظهرية وغير ذلك من مشكلات وكذلك التسربات غير المنظورة منه للقطاع الخاص.
إن إتساع القاعدة العمالية الضعيفة الأجور من أجانب ومواطنين والتي تمثل السبب المحوري لضعف الاقتصاد والحياة الاجتماعية، لا ينفي وجود الفئات المتوسطة ذات الرواتب الأعلى، والتي تلتقي مع الفئات المتوسطة الحرة في القطاعات الخاصة.
إن هزالة الأجور تُقابل بارتفاع وسائل المعيشة وبارتفاع الأسعار المستمر، وبالمنافسة بين الشغيلة البحرينيين والأجانب، وبضيق السوق المحلية، وبالسياحة التي ترفع الأسعار على المواطنين والعاملين الأجانب.
إن الرأسمالية الخاصة لا يمكن أن تعطي أجوراً مرتفعة للشغيلة اليدويين، بسبب الموارد المحدودة والمنافسة الشديدة في هذه السوق الضيقة، وبسبب الرغبة في الحصول على أرباح أكبر دائماً، ولهذا فإن حياة الشغيلة كلها تعاني الفقر والحاجة وعدم الوصول للخدمات الجيدة من تعليم وصحة وغذاء ومواصلات.
ويلجأ الرأسمالُ الخاص بشكلٍ كبيرٍ إلى جلب مثل هذه العمالة الرثة للحصول على الفروق الاقتصادية بين البلدان، وهو أمرٌ يؤدي للتلاعب بالحدود الدنيا للأجور وتخفيضها بشكلٍ مستمر، ويتواصل ذلك عبر رفع أسعار السلع، خاصة في المواد الأولية كالأرز والطحين والسكر والدهن وغيرها، فيحدث تآكلٌ مستمرٌ للأجور. ويتم التغلب على كفاحية العمال بجلب عمال جدد دائماً وإحدث المنافسة الشرسة بين العمال المحليين والأجانب.
وفيما يحافظ الرأسمالُ العام على أجوره المحددة لكنه يلجأ لوسائل أخرى لتخفيض الأجور، عبر الإستعانة بشركات المقاولات التي تجلب عمالاً متدنيي الأجور.
ليست مصادفةً أن يكون أغلب العمال من الأرياف سواء المحلية أو الآسيوية، لأن ذلك يتم بآلية الأجور المنخفضة، كما يعطي ذلك وعياً نقابياً طبقياً محدوداً وأشكالاً من الوعي الديني التجسيمي التنفيسي غالباً، وتسهلُ عبرهِ العملياتُ الاقتصادية الرأسمالية المتخلفة، رغم طرح الهدف لإنشاء مدينة تحتذي الغرب المتطور!
وتُقدم الخدمات الإسكانية من قبل الرأسماليتين الحكومية والخاصة بشكلِ الإستغلال الكبير، فالعمالُ المحليون يشترون بصعوبةٍ كبيرة منازل ذات قيم بأربعةِ أضعافِ قيمتها الحقيقية إن لم يكن أكثر، ويُستنزفون طوال حياتهم من جراء ذلك، فيما يحصل العمال الأجانب على مساكن قديمة رثة، أو شقق ويسكنون فيها بأشكال جماعية متعددة.

تكوينات الطبقة العاملة في البحرين
إن الطبقةَ العاملةَ البحرينية التي تكونتْ بعد الأربعينيات من القرن العشرين، تشكلتْ في الصناعات الاستخراجية، أي ما ارتبط بصناعة الاستخراج والتكرير النفطية، وذلك شكلَ جسما اقتصاديا محدودا، يظلُ دائما هامشيا على قوانين البنية الاقتصادية، أما بقية القطاعات فهي لم تكن صناعية أو قريبة من الصناعة، فهي أعمالٌ تجارية أو خدماتية ذاتُ تمركزٍ قليلٍ قياساً لدول أخرى، ومن هنا لعبت البؤرُ الاقتصاديةُ الاستخراجية والتحويلية الصناعية والخدماتية الكبيرة المهمة دورا إقتصاديا مركزيا وغدت مراكز مهمة في نضالِ العمال من أجلِ تغيير ظروف العمل وتحسين الأجور بأشكالٍ متعددةٍ تعكسُ تباين القوى الاجتماعية في كل مرحلة.
ولم ينمُ الهيكلُ الاقتصادي الصناعي بدرجةٍ أساسيةٍ بل أدتْ فوائضُ النفط إلى تصاعدِ الأقسام والمستويات الاقتصادية الخدماتية المختلفة كالبنوك والمؤسسات التجارية والشركات المخلتفة.
كان هذا يشكلُ قفزةً على طبيعة الاقتصاد الإنتاجي البسيط، فتصاعدتْ الفوائضُ المالية إلى هياكل اقتصاديةٍ غيرِ مخططٍ لها، وشكلتْ سوقاً غيرَ مبرمجة ولا متسقة، فتنامتْ العملياتُ الاقتصادية في كل اتجاه، حسب قوانين العرض والطلب ومن لديه أغلب الفوائض النفطية، في الداخل والخارج.
ظلت الصناعاتُ الاستخراجيةُ المحوريةُ المحدودة تمثلُ الهيكلَ الاقتصادي الأساسي، ونتجتْ عنها صناعاتٌ متوسطةٌ وصغيرة، وظهرتْ نسخٌ جديدةٌ في العقود التالية في مواد خامٍ ومُصنعة أخرى شكلت صناعاتٍ جديدةً لا تختلفُ عن هيكليةِ الصناعات السابقة، وإن تغيرتْ مواقعُها وتبدلَ عمالُها المواطنون إلى أجانب.
هي الاستراتيجيةُ الاقتصاديةُ نفسُها التي وُضعتْ في بدايةِ الستينيات، من دون قراءةٍ جديدةٍ لطبيعة التطور الصناعي العالمي الثوري، ولكن من أجلِ ضخِ الفوائضِ في الأجهزةِ الحكوميةِ وما يصلُ إلى السوق من دخلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ منها، من دون العناية بقضايا التلوث ومشكلات الاختناق المروري وانحصار الخريطة الجغرافية الوطنية في مثلث واحد ضيق.
هذه السياسةُ الاقتصاديةُ غيرت خريطةَ الطبقة العاملة البحرينية، وكما أن الاقتصادَ لم يعد وطنيا، فكذلك الطبقة العاملة في البحرين لم تعدْ وطنية، بل صارت وطنية – مناطقية – عالمية.
وفي حين كان الجسمُ البحريني هو الأغلبيةُ في السابق، صار الأقلية، وهذا التكوينُ الموضوعي لا علاقةَ له بالمشاعرِ الوطنية والقومية، بل هو جزءٌ من إشكالياتِ البنيةِ الاجتماعية، أي من كونِها تقومُ على صناعةٍ استخراجيةٍ لمادةٍ ذاتِ سعرٍ مرتفع غير موجهة وطنيا، وتندفعُ الفوائضُ بلا خطةٍ مُبرمجةٍ وطنية وتبدلُ البنيةَ الوطنيةَ القديمةَ المرتبطةَ باقتصادٍ سابقٍ مرتبطٍ بسعرِ نفطٍ منخفض.
إن عمليةَ الانتقال شكلتْ صدمةً اجتماعيةً وتحولاتٍ لم تتمْ السيطرة عليها في بنيةٍ اجتماعيةٍ صغيرة، وإذا كانت لها نتائجٌ مختلفةٌ ومتحدة في المستويات كافة، وفي الظاهراتِ الوطنية عامة، فإننا نركزُ الآن في انعكاساتِها على الطبقة العاملة التي لم تعدْ بحرينيةً خالصةً، لنحاول قراءة هذه التأثيرات داخلها من خلال بُناها ومستوياتِها المرصودةِ رصدا كميا فقيرا.
إن التناقضَ الأولي في هذا الجسم الاجتماعي هو بين ما هو وطني وما هو أجنبي، وهو أمرٌ يؤدي إلى تفككِ أجزاء الطبقة، بسببِ غيابِ أسلوبِ الإنتاج الحديث المتماسك:
“قدرتْ ورقةُ عملٍ صادرة عن منظمة العمل الدولية ارتفاعَ نسبةِ العمال الأجانب مقارنة بالسكان في البحرين عام 2010 بـ (1،39%)، مشيرة إلى أنهم يمثلون ما نسبته (58،58%) من إجمالي القوى العاملة.
وأوضحتْ ورقةُ “هجرة اليد العمالة الدولية والعمالة في الوطن العربي” المقرر عَرضُها في جلسات المنتدى العربي للتشغيل الذي تنظمه منظمتا العمل الدولية والعربية، أن العمال الآسيويين يستحوذون على النسبة الأعلى مقارنة ببقية الجنسيات، فقد بلغ عددهم (542) ألف عامل، مقارنة بـ (38) ألف عربي، و(12) ألف أوروبي وأمريكي.
وتطرقت الورقة التي تناقش أوضاع العمالة الأجنبية في المنطقة العربية إلى أن النساء الأجنبيات يشكلن غالبية العاملين في المنازل في البحرين، حيث بلغ مجموع تلك العمالة في عام 2007 ما يقارب (64) ألفا، منهم (7،64%) من النساء”، جريدة الوقت البحرينية،20/10/.2009
علينا أن نستعيرَ الأرقامَ من المنظمات العربية من أجل رؤية بعض الصورة المحلية، وهي صورةٌ توضحُ التناقضَ بين قوتي العمل الرئيسيتين: المحلية والأجنبية، وهي أرقامٌ تقفُ فقط عند أرقام الهجرة والجوازات، ولا تستطيع أن تضيف إحصائيات أعمق في بُنى قوى العمل الغائرة.
وإذا كان التناقضُ قد تجسدَ بين الرجالِ المحليين والأجانب، على مستوى كميةِ بيعِ قوى العمل خارج البيوت، فإنه كذلك يتجسدُ بين النساء داخل البيوت وفي المشاغل الصغيرة، وهو يوضح كذلك ضخامة الأيدي العاملة النسائية المستخدمة في المنازل، أي في أشكالِ عملٍ بذخية وهامشية.
إن الجسم الوطني من الطبقة العاملة هو الذي يلعب الدورين السياسي والنقابي، وسنجدُ تغيراتٍ كبيرةً في هذين الدورين خلال المرحلتين السابقتي الذكر: مرحلة الوطنية ومرحلة المناطقية العالمية.
لقد انقلبَ الواقعُ في الحياة الاقتصادية عنه في الحياتين السياسية والنقابية، فقد ساد العمالُ الأجانبُ في بُنية العمال وتحجم العمالُ الوطنيون.
كان العمال المسيسون الوطنيون والنقابيون البحرينيون في الشركات الكبرى قد مارسوا دورهم من خلال ذلك بالتناسق مع الحركة السياسية الوطنية الاجتماعية من خلال مطالبها المختلفة.
وهذا الواقع تعرضَ للتغيير مع تبدل البنية الاقتصادية، وفيضان العمال الأجانب.
يُلاحظ من خلال الإحصائيات تدفق العمال الأجانب نحو الخدمات الإنشائية، والأعمال الهامشية، وأعمال الملكيات الصغيرة الاسمية قانوناً، وقلة منها تتجه نحو الأعمال الإدارية الكبيرة، وهذه الفئة تنضم إلى القوى المالكة للمؤسسات الاقتصادية أكثر من ارتباطها بالعمال.
يوجهُ هذا التكوينُ العددي الكبير الواسعُ سهمَهُ الحاد في مجتمعٍ صغيرٍ على العمال اليدويين وذوي التعليم المحدود وغير ذوي الإمكانيات التقنية والعلمية، سواءً كانوا في المدينة أو القرية، لكن ما يجعل أكثرَ ضرباتهِ تتجهُ للعمالِ في الريف هو تماثلُ الشروط العملية بين العمال الأجانب والعمال الوطنيين الفقراء في القرى، واختلافها في الشروط الاجتماعية، فالمشرعُ يجلبُ عمالاً ريفيين ذوي أجور زهيدة جدا ويلقي بهم في سوقٍ ضيقةٍ مكتظةٍ وبشكل كثيف.
فوجدَ عمالُ القرى والأحياءِ الشعبية المدنية أنفسَهم يواجهون منافسين أشداءَ كثيرين، وبشروطٍ معيشيةٍ غير متساوية، فتغدو قوانين حساب قوة العمل الوطنية بشروط تجديد إنتاجها هنا غير شروط تجديد العمال الأجانب عيشاً وكلفة وفروق أسعار للعملات، بسبب تباين قيم المساكن وإعادة إنتاج العائلة معيشيا وتعليميا وغير هذا من متطلبات الحياة المختلفة بين البحرين والبلدان التي جاءَ منها العمالُ الأجانب، فمجيئهم من الأرياف والمناطق المهمشة في بلدانهم يجعل كلفتهم متدنية جدا، وردود أفعالهم على سوء المعيشة وفقد الحقوق ضعيفاً.
كما ان إسكان أغلبهم في المناطق الرثة، وحملهم الأمراض الجسمية، وغياب أي حس وطني أو حضاري في المناطق الجديدة التي سكنوا فيها وأغلبها في مدن البحرين العريقة في الحارات القديمة، يدمرُهم إنسانيا، ويجعل تجميع النقود لديهم بأي صورة عملية ملغية لطبيعتهم العمالية الكفاحية المفترضة، إضافة إلى سوء الطعام المقدم والمبيع إليهم من المطاعم الرخيصة السيئة المواد والطبخ، ورداءة المساكن التي يعيشون فيها بأشكال جماعية تعاونية، وغياب زوجات الأغلبية منهم، ان كل هذه الظروف أهلت الأغلبية الأجنبية من العمال لتلعب دورا سلبيا في تطور الحركة العمالية البحرينية، خاصة مع مجيء قيادات نقابية عمالية بحرينية ذات رؤى معينة.
ولقد ظهرت الحركةُ العماليةُ النقابية خلال العقد الأخير كنتاج ردود فعل لهذا الواقع الاقتصادي العمالي المتناقض، فثمة تدهور لمراكز تجمع العمال المواطنين، وغياب أي دور نضالي عمالي عام، وثمة كثرة للجزر العمالية المفصولة عن بعضها بعضا، وكثرة للعمال الموجودين خارج النقابات، إضافة إلى وجود الأغلبية العمالية الأجنبية جسماً موجوداً في البحرين ومؤثراً في اقتصادها وظروف معيشتها ولكنه خارج النقابات فعليا.
وليست مصادفة هذا التقابل بين قيادات نقابية دينية وجسم عمالي أجنبي معزول. لقد جاءت القيادات النقابية البحرينية ذات التفكير المذهبي كردِ فعلٍ على اقتحام العمال الأجانب الحياة البحرينية، مثلما دخل جمهور العمال الريفيين خاصة في تأييد كبير للحراك السياسي الديني.
ولهذا فقد واجهت الوجود العمالي الأجنبي الكثيف بشكل سلبي، فلعله يختفي بالتجاهل، وبالتالي فقد أضعفت من أوراق الطبقة العاملة في البحرين ككل، من حيث غياب درس هذا الوجود العمالي الأجنبي ورؤية مشكلاته وأوضاع بشره السيئة المنعكسة على البلد صحة وسكناً ومعيشةً ومصيراً عماليا.
إن الوعي الديني المحافظ انعكس في مشاعر كراهية الأجانب، وعدم إدخالهم في التكوينات النضالية المحلية، وبالتالي ضيع هذا أوراقاً مهمةً في النضال العمالي وفي التفاوضات وفي الصراع ضد الاستسهال في جلب العمال الأجانب ونشرهم في أي مكان وفي غياب حقوقهم وبجعلهم مادةً مؤثرةً ضد العمال البحرينيين.
عبرتْ الأشكالُ النقابية البحرينية عن انقسامٍ عميق في الشعب والقوى المنتجة عامة، فالانقسامُ السياسي الطائفي عكس نفسه على التكوينين النقابيين، ولمحدودية حضور البحرينيين في الانتاج المادي (26%) من العمل العام للسكان المواطنين والأجانب، وجسَّد كذلك صغر حجم الانتاج الرأسمالي الكبير الخاص والعام وضخامة الانتاج الصغير وهي نفس السمة التي تمثلُ أسلوب الإنتاج العربي ذا المواد الخام الرئيسية المُحاطة بشبكةٍ من المؤسسات التجارية والمالية والسياسية الاستنزافية له، وأعطى هذا الجسمُ الاقتصادي تكويناتٍ نقابيةً محدودةً ضعيفة العضوية وشبابية بالدرجة الأولى وبحرينية لا تضم العدد الكبير من العمال الأجانب والأجيال القديمة من العمال البحرينيين أنفسهم.
ضعفُ هذه التكوينات النقابية لا يعود فقط إلى انقسامها بل أيضاً لطبيعة الجسم الاقتصادي الاجتماعي، من حيث قلة عدد الشركات والمصانع الكبرى، وكونها كما قلنا لانتاجِ وتحويل المواد الخام: النفط، والألمنيوم، والحديد المستورد، وإعادة تصديرها، مما يجعل جسم الطبقة العاملة لا يعتمد على التكوينات البشرية الكبيرة، وهذا التكوين الاقتصادي للبلد لا يقوي البناءَ الصناعي العلمي للسكان، فالشركاتُ الصغيرة الكثيرة العمال المتناثرين، تعتمدُ كذلك على غالبيةٍ عمالية أجنبية، ووراءهم أيضاً ما يُسمى بحثالة البروليتاريا، أي عمال كثيرون هامشيون، هاربون، أو باعة جوالون، أو عارضون لقوة عملهم في الشوارع!
طبيعةُ أسلوبِ إنتاجِ المواد الخام، لا يجعلُ الصناعةَ تضم القوى الرئيسية للسكان رجالاً ونساءً، وهذا الأسلوبُ الصناعي القديم يضعفُ الصناعةَ والتطور الاقتصادي عامة، وينعكسُ في الطبقة العاملة، المنتوج البشري لهذا الأسلوب، الذي يهدرُ الكثيرَ من الفوائض، ولا يقومُ بإعادتِها للبناء الاقتصادي لأجل تغييره وتحديثه بالصناعات الجماهيرية أو بالصناعات المتطورة التي تبدل نمط السكان الاقتصادي.
لهذا يغدو الهدرُ الاقتصادي وتوجه الفوائض المالية خارجَ الانتاج كما أن القسم الأكبر من الفوائض يعيدُ إنتاجَ نفسِ البنيةِ الاقتصادية المتخلفة ولشروطِ تجديدها في الإدارة والتعليم والصحة الخ.
ينعكس ذلك في تكويناتِ الطبقة العاملة، من حيث ضخامةِ القوى العاملة الأجنبية(مائتا ألف عامل وعاملة)، يعمل أغلبهم في مصانع المواد الخام أو في المهن الثانوية الكثيرة، وتذهب أغلبيةُ الأجور للخارج.
وتغدو التكويناتُ السياسيةُ والمالية والاقتصادية تعيدُ إنتاجَ هذا النمط وتوسعه بأشكالٍ غيرِ مخططةٍ وتلقائية حسب قوانين السوق العفوية.
هذا الأسلوبُ الانتاجي (القَدري) المعتمدُ على هباتِ الطبيعة المباشرة، وهو الشكلُ الأولي من الانتاج الرأسمالي العالمي، والذي يغدو تابعاً للأشكالِ الرأسمالية المتطورة في الغرب والشرق، يعتمدُ على هذه المواد الخام الثمينة ومراكز إنتاج الطاقة لكي يحصل على فوائض يبددُهَا في الاستهلاك، فيخلقُ عمالاً ذوي رؤى دينية، يعيشون هم كذلك على هبةِ الطبيعةِ المباشرة بدون تطوراتٍ علمية مهنية وفكرية وسياسية كبيرة في مهاراتهم العملية وفي أنشطتِهم السياسية والنقابية، ولهذا فإن العمال اليدويين أغلبية كاسحة.
ومن هنا هم ينقسمون نقابياً بحسب المذاهب الاسلامية المحافظة التي سيطرتْ على إنتاجها قوى الإقطاع القديمة، وينقسمون بحسب أديانهم في مجموعات العمال الأجانب القومية والدينية غير المنظمة نقابياً والمتجمعة بأشكالٍ جماهيرية خاصة.
كما أنهم ضعفاء لصغر أحجامِهم في المؤسسات الاقتصادية، الميكروسكوبية، مع قلة العمال المنظمين للنقابات، وغياب القاعدة الرئيسية من العمال، كذلك فإنهم يضعفون أنفسَهم بتبني الآراء الطائفية المحافظة المغرقة في الرجعية الفكرية، والانتهازية السياسية، ولهذا فإن توسع مثل هذه الجماعات النقابية يمثلُ مشكلةً وخطراً نظراً إلى نشر الانقسام والصراعات الطائفية وتغلغلها في الشركات وبين العمال والناس!
وكانت الطبقة العاملة سابقاً تلعبُ دوراً طليعياً في توجه المجتمع والشعب نحو الوحدة والتحرر والديمقراطية بسبب طبيعة الطلائع في ذلك الوقت، لكن الطائفيات السياسية لم تواجه الواقع بموضوعية، وتوجهت للصراع السياسي الفوضوي فأضعفتْ النقابات وشلتْ الوعي العقلاني والدارسَ لبُنية الطبقة العاملة وكيفية تطويرها، ولسبب قيادة الإقطاع الطائفي الذي وجهها للصراعات السياسية المغامرة فكانت النخبوية الصغيرة والانقسامات وعجز العمال عن رفع أجورهم حتى بدولار واحد!

العمالُ والأفكار
لعبت الطبقةُ العاملةُ دوراً مؤثراً في تشكيل الأفكار الوطنية التحولية، عبر محافظتها على نواتها التقدمية العلمانية، رغم أن هذه النواة من الأفكار لم تتبلور تبلوراً عميقاً في ذلك الحين من زمانِ النشأة.
كانت بدايةُ الأفكار وهي تبحثُ عن بوصلةِ التوجه للشعب ووحدته وتقدمه، في مسارِ الأمةِ العربية والإنسانية، وكانت كفاحيةُ العمال هي ضمانةٌ مهمةٌ لوحدةِ الشعب والعمل لتحرره.
هذه النواةُ تعرضتْ للتآكل بعد تحول البنية الاجتماعية المقاربة لسمات من الرأسمالية الحرة، نحو رأسمالية حكومية، ولإنهمار العمالة الأجنبية، وعدمِ توازنِ تطور البنية الاجتماعية، ووقوع خلل في مستوياتها وغياب الديمقراطية فيها.
عدمُ صمودِ النواةِ التقدمية العلمانية تجلى في الموقف من الأفكارِ الدينيةِ السياسية ذاتِ الشكلِ الطائفي المعين. لقد أُخذت هذه الأفكارُ بدون أداوتِ تحليلِ تلك النواة، فلم يُر الطابعُ الطبقي لهذه الأفكار الطائفية السياسية المستوردة، وهذا معيارٌ أساسيٌّ لما كان في ذلك الوعي، وغُيّبَ الطابعُ الطبقي لتلك الأفكار الطائفية باعتبارها آراء وممارسات رجال دين محافظين إيرانيين تشكلُّ وجهاً للإقطاع وعدم وجود أفكار ديمقراطية فيها.
لقد قُطعتْ جذورُهُا الطبقية، وعُلقتْ في الفضاءِ السياسي البحريني المعارض وتم تبنيها والسير وراءها، ونشرها بين الناس.
إن المضمونَ الطبقي الإقطاعي هو ضررٌ بالغٌ للشعبين الإيراني والبحريني، ولكافةِ الشعوب التي تُدخلُ هذه الأفكارُ في حقلِ ممارستِها السياسية، فهي آراءٌ لمجتمعٍ آخر ذي تطور سياسي خاصٍ به، مأزومٍ بشكلٍ تاريخي معقد.
وعبرَ فرضِ هيمنةٍ ذكورية حادة متخلفة، وشمولية سياسية طائفية على المجتمع القومي المتعدد الأعراق كما في إيران والعراق ولبنان، وثنائي الطائفة كما في البحرين، وفرضِ نصوصيةٍ دينية محافظة تقليدية غير عقلانية، فإن المساراتَ السياسية لهذه الأفكار تُحدثُ أضراراً فادحةً لكافةِ المجتمعات التي تَدخلُ فيها وتلعبُ دوراً في حياتها السياسية.
وفقدانُ النواةِ التقدمية العلمانية لهذه المعايير الأساسية في رؤيتها، كان يَضربُ أهمَّ حائطٍ فكري له تجربة وطنية يتصدى لدخول هذه الأفكار الدكتاتورية العنيفة للمجتمع، وبالتالي فإن خطرَها تغلغل بين كافة الجماعات.
إضافةً لتغييبِ الطابع الطبقي لتلك الأفكار تم إلغاء قراءة تطورها الاجتماعي الخاص، أي سيرورتها التاريخية، وكيف نبتتْ في مجتمعٍ وتحت أية حاضنةٍ وكيف سارتْ وتفاعلتْ مع قوى أخرى داخلية وخارجية، أي داخل إيران وخارجها، فإلغاءُ السيرورةِ التاريخية لدرسِ هذه الأفكار وقطعُ علاقاتِها يؤدي لعدمِ معرفةِ الحاضنة الاجتماعيةِ المماثلة لها في بلدان أخرى، كما حدث في الريف البحريني لما جرى قبل أعوام في الريف الإيراني، أو غيرها من الأرياف العربية التي لها أشكالٌ إجتماعيةٌ وإيديولوجية مشتركة إحتضنت تلك الأفكار دون درايةٍ، ونظراً للمنابت المشتركة وعدم التصدي الوطني الإصلاحي والعمل التقدمي المتنوعين الحازمين ضدها.
وهنا في الريف البحرين كانت ثمة جمهورٌ عمالي كان يمكن أن يشكلَ حائطاً آخر يصدُّ تغلغل الأفكار الطائفية اليمينية الخطرة، لكن النواةَ التقدميةَ العلمانية كانت قد تفككتْ وضعفتْ في تنامي الأحداث، فضُربتْ خصائصُ الوعي الطبقي المستنير المستقل المناضل لدى عمالنا وجمهورنا بشكل عام.
ولهذا فإن مصالحَ الطبقة العاملة البحرينية تعرضتْ للأخطارِ الجسيمة سواءً بالدفاع عن سلامتِها البشرية أو بالدفاع عن مصالحِها الاجتماعية.
فغيابُ الرؤية الطبقية لجذورِ الأفكار الطائفيةِ في المصدر الإقطاعي الإيراني يحولُها لأدواتٍ لصعود القوى الدينية ذات الرؤى التقليدية المعادية للتقدم والديمقراطية، ولتفكيك المجتمع البحرين وتعريضهِ للانقسامِ وللصراعاتِ المذهبية ويقدمهُ لقمةً للتدخل الأجنبي.
والمستقبلُ السياسي يحتاجُ لتقويةِ تلك النواة التقدمية العلمانية في ظروف أخرى، حيث نمت ظروف التنوع الوطني الديمقراطي، وظهرت قوى عديدة تقارب الحداثة والديمقراطية والوطنية، وصار بالإمكان تشكيل لحمة إجتماعية مشتركة من الدفاع عن مصالحِ الأغلبيةِ الشعبية التي تؤدي معاناتها وعدم تبلور وحدتها وكفاحيتها الحديثة لاختراقِها من قبل قوى التدخلِ والفوضويةِ السياسية، وجرها لمعارك جانبيةٍ بدلاً من خلق وحدة العمل الديمقراطي الإصلاحي المتنوع التوجهات لحل القضايا السياسية والاقتصادية للناس.
إن التعاون الاقتصادي بين الطبقات الوطنية للوقوف سداً واحداً ضد قوى التدخل والشمولية هو المعيار الأساسي لهذه المرحلة، عبر تصعيد دور المؤسسات المنتخبة وعملها لتقدم ورفاهية الشعب بأسره.

الوعي البحريني وإشكاليات التقدم
ترنح الوعي البحريني بكافة أشكال وعيه منذ نهاية السبعينيات بسبب تضخم رأسمالية الدولة بشكل كلي وغياب مشروعات التقدم الخاص، وإعتماد اليسار على خطابات إنقلابية، وضمور الليبرالية.
كانت معرفة إشكالية رأسمالية الدولة الحكومية المتضخمة، ممكنة وأساسية، لأنها تغدو المشكلة المحورية لتطور الاقتصاد لقوى سياسية عديدة لكن من خلال وسائل ديمقراطية متفق عليها من الأغلبية ضمن التطور السياسي.
كان دعم تطور الرأسمالية الخاصة وصنوها الفكري السياسي (الليبرالية) محدوداً جداً إن لم يكن معدوماً، بسبب غياب الرصد الدقيق لهذه الليبرالية، ومطالبة اليسار بظهور ليبرالية وطنية صارخة سياسياً، وكان هذا أمر غير ممكن، مع تجربة الخمسينيات الحادة، وكذلك مع تضخم الرأسمالية الحكومية، ولكننا سنجدُ أن الليبراليةَ ليستْ بهذا التقزم المطروح من قبل قوى اليسار المتطرفة، فلو أقمنا بمقرابة أولية موضوعية لجريدة (الأضواء) البحرينية فسنجدُ أن هذه الجريدة الرائدة أفسحت المجالَ للكثير من الأدبيات الفكرية والسياسية الوطنية الليبرالية، وكانت المسرح الكتابي الذي بزغت فيه أزهارُ المرحلة النقدية، ثم تنامت في شتى حقول المعرفة.
وهذا الطرح إستمر بأشكالٍ متعددةٍ في الصحافة وفي أشكال الوعي الكتابية المختلفة: الشعر، والمسرح، والقصة والرواية، والبحوث والمقالات وغيرها. ووجد له تجسيداته في الكتل الوسطية المدنية في البرلمان.
بطبيعةِ الحال كان الفكرُ المجردُ والوعي النظري بقدراتهِ على التحليلِ وكشف البُنية الاجتماعية محدوداً وضامراً بشكلٍ كبير، لكننا نستطيع أن نجدَ بعضَ البذور لذلك في تحليلات سياسية نادرة أو في دراساتٍ فكرية وثقافية عامة، لكن البُنية الاجتماعية لم تُدرس بشكلٍ عميق.
ولهذا كان فكرُ التيارات السياسية فقيراً جداً، لم يقمْ بمثلِ هذه التحليلات المُعَّمقةِ، وكانت قراراتهُ السياسيةُ ترتكزُ على هذه التبسيطيةِ الفكرية السياسية، ويتكشفُ ذلك خاصة في الأحداث الجسام، وزمنية الافتراق بين تأييدِ البُنية الاجتماعيةِ الليبرالية والصبر عليها ونقدها وتطويرها، وبين وعي المغامرة للقفزِ إلى شكلٍ سياسي ونظامٍ شمولي مبهمين وخطرين كذلك.
ويتجلى ذلك في بؤرٍ تاريخيةٍ كعدمِ دقةِ تشخيصِ أحداث التسعينيات، أو في غموض المسألة الدستورية وتحميلها قوالب حادة فوضوية، غير ممكنة التنفيذ المفيد، وتأييد الديمقراطية بدون دعم القطاع الخاص وتجلياته الفكرية والسياسية.
غياب الدراسات المعمقة لدى اليسار جعل قواعده الفكرية هزيلة، قابلة للاختراقات من قبل الطرف الخطر سياسياً وهو الجماعات الدينية المحافظة، فقدراته على فهم الإسلام وتحليله غير ممكنة لديه، وهو جزءٌ من هذه البنية الاجتماعية. فلا يعرف الحد بين الإسلام كثورة وبين الأشكال المحافظة والرجعية التي تتلبسه.
إن عمله غير الملتحم بتطور ونقد الليبرالية يكشف عن شموليته، ورغبته التسريعية في التغيير، وعدم فهم الخريطة الاجتماعية السكانية بمشكلاتها، وكيفية طرح الحلول فيها، ومساعدة الجمهور عليها، وهذا أدى لإلتصاقه بالقوى الدينية المحافظة الحاملة للجمهور والسائرة به عكس التاريخ الديمقراطي، التي لم تتشكلْ خلال النضال البحريني، بل جاءتْ مستورَّدةً، شعارية، ولم تلتحم بشعب البحرين.
لكنها هي الأخرى معادية لليبرالية، أي انها تفوق كراهية اليسار لها، فهي تعبرُ عن أشكال الحرية الاجتماعية والسياسية والبشرية المُدانة من قبل القوى المحافظة.
هذه القوى البرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى التحتية، لم تتكون بشكل رأسمالي كبير، ولم تعمل لتعميق تجربة القطاع الخاص، وتطويره، وخلق علاقة تعاونية ديمقراطية مع القطاع العام للوصول بالبلد إلى الديمقراطية الحديثة المنجزة.
فيظهر عداءٌ إيديولوجي للرأسمالية الوطنية من الطرفين: اليسار الجامد، واليمين الديني المحافظ، وليس ثمة قدرات على الدرس، ورؤية الخريطة الاقتصادية–الاجتماعية البحرينية المستقبلية، وبالتالي فإن إتخاذ المواقف السياسية يتم على أساس عفوي، وغالباً ما يتم ذلك خاصة في أوقات الأزمات بشكل مغامر لأنه لا يوجد عند الطرفين نضال حقيقي داخل البنية الوطنية الرأسمالية لتطويرها.
تغلب الشعارات السياسية المستوردة يعبر عن إفتقاد الدرس وغياب تراكمية البحوث، وتشكل عقلانية سياسية، وبث هذه الشعارات في عامة مغيبة الوعي، متحمسة.

الأغلبية عمالية
البلد ليست ذات أغلبية سنية أو شيعية، البلد ذات أغلبية عمالية!
النقابات الكبيرة كألبا وبابكو وبلتكو وغيرها عرفت كيف تمضي نحو مصالح أعضائها لأنها ذات قوة في منشآتها الاقتصادية المستقلة، والعمال والموظفون الحكوميون فهموا بأن السادة النواب مشغولون بقضايا غير آنية، وبالإصلاح الاقتصادي لشركات الحكومة المتعثرة في كشف البيانات الدقيقة عن أحوالها، وعملية الكشف والتدقيق فيها وإعادة فوائضها لسكة الأمان والسلامة تحتاج لشهور إن لم تكن سنوات!
ولهذا سارع الموظفون بتثبيت نقاباتهم خارج الدوام الحكومي، وكتبوا عريضتهم لإصلاح رواتبهم المتجمدة لعقود والتي تبخر أغلبها بسبب صعود أسعار كل المواد الغذائية، التي غدا ارتفاعها عند كهنة الاقتصاد مسألة شديدة الغموض، وليس بسبب قطف الكبار في الجماعات التجارية والمالية الثمار البسيطة التي تحققت من زيادة الدخول لبعض الفئات، فغلوا المواد الغذائية والايجارات واندفعت المؤسسات المالية في عصر المديونين وتحويل تأخرهم في دفع الأقساط ورهانات بيوتهم إلى أرباح جديدة هائلة تــُعلن على الملأ كل يوم!
وتململت الفئاتُ العمالية وموظفو الحكومة التي تتشابه أوضاعهم مع العمال، بسبب اللقاء السعيد في عالم الأجور المتدنية، وبسبب ضخامة فاتورة أقساط الديون والإيجارات واشتعال كل ما حولهم من مواد شيطانية.
هذه الجماعات العمالية الكبيرة الممركزة في مؤسسات ووزارات تستطيع أن تتكاتف وتعمل من أجل مصالحها في حدود الدفاع عن الأجور الحقيقية المتآكلة، وفي معركة لا تتوقف لكي تكون للنقود قيمة حقيقية في السوق التي لا تعترف بسلطة سوى أسعارها المفروضة.
لكن عمال وموظفي القطاع الخاص المبعثرين وهم الأغلبية الكاسحة في البلد عاجزة عن الوصول لشيء من ذلك وهم مثل الأطرش في زفة الفلوس!
ومن الواضح إن القضية لها بعدها الاجتماعي الكبير، فقد أدرك جمهورُ العمال بأن أحداً لن يهتم بمصالحه، وأن الكتلَ السياسية خاصة الفائزة في الانتخابات، مشغولة أما بدفع الأقساط المتراكمة عليها من فترة المقاطعة، أو بتعلم اللغة العربية للنطق في البرلمان، أما الكتل الفائزة القديمة فهي مشغولة كذلك بتضخيم ثروة جيوبها، و(النضال) في حدود الممكن، مثل تقديم منحة للمتقاعدين أو توجيه بركاتها للعجزة والدعاء لهم.
أما الكتلة الأسوأ فهي المشغولة بفتح المعارك الجانبية مع أخوانهم في المجلس أو مع الصحافة أو مع الفنادق والسياحة، والمهم لديها إشغال الناس بالضجيج لأبعادها عن الإصلاح ما أمكنتها حناجرها في ذلك!
العمال تعلموا اللعبة السياسية بسرعة، وبدلاً من الأنتظار سنوات طويلة شحيحة، راحوا يتقدمون بأشكال حضارية للاحتجاج على نسيانهم من قبل مجالس الإدارات التي تعيش حالات من غليان الفرح والابتهاج لضخامة الأرباح التي تتدفق عليها من كل حدبٍ وصوب، وهي في غمرة هذه الاحتفالات تدفع بالهبل، وحين رفع العمال وهم واقفون في الشمس لافتات تدعو هذه الإدارات للانتباه إليهم، وزيادة بضع دنانير، صرخ بعضهم وغلت الدماءُ في عروقه!
لكن النضال العمالي الحضاري مستمر، والزيادات تتحقق، بدون كسر مصباح واحد، وإرسال صواريخ للسماء!
تنتشر الجماعات المعبرة عن اليمين بمختلف تجلياتها ولكن كلها تجمع في برامجها على الاهتمام بالفقراء والعمال ولكن بشكل ضمني.
استطاعت قوى اليمين على مدى العقود الثلاثة الأخيرة أن تمد نفوذها للطبقة العاملة والفقراء، عبر عباءة الفكر المذهبي السياسي.
ومع ذلك فرغم تواجدها الكثيف في البرلمان والنقابات فإنها لم تقدم للعمال زيادة في الأجور، بعد عدة سنوات من التجربة البرلمانية وبعد عدة سنوات كذلك من تشكيل النقابات.
ما هو سبب عجزها عن الاهتمام بظروف العمال وخاصة في القطاع الخاص؟
نجد إن التيارات المذهبية السياسية هي ذات توجه يميني غير عصري، أي مع الرأسمالية دون أن تعرف إنها مع الرأسمالية فهي ذات قصور في فهمها حتى لوجودها السياسي.
لكنها تخاف من نمو حركة القوى الشعبية مستقلة عن سيطرتها السياسية المذهبية، خاصة حركة العمال المتوجهين للنضال من أجل تغيير أجورهم وظروف عملهم المتدنية، مع وجود حشد هائل منافس من القوى العمالة الأجنبية الذي يقبل بأي شروط عمل وبأي أجور، على الأقل في هذا الوقت، ولا ندري ماذا سيفعل غداً، لأنه حين يتقوى سوف يطالب بتغيير ظروفه هو الآخر، مع دعم المجتمع الدولي، الذي صار يرفض التفرقة في الأجور بين العمال مهما كانت هوياتهم القومية، وهو مع الشعار الدولي: أجور متساوية لأعمال متماثلة.
ومع الصعود لقوى اليمين المذهبية السياسية وانتعاش الحركة العمالية المطلبية في الظروف الراهنة، فهذا يعني اختلافاً إن لم يكن صداماً بين ممثلي الشعب في البرلمان وممثلي الشعب في المصانع والشركات!
وإذا كانت قوى اليمين المذهبي السياسي قد تخلت عن ممثلي اليسار والعمال في أثناء الحملة الانتخابية، وصعدت أعضاءها وممثليها بشكل كلي، فهذا وقت العمال البحرينيين بأن يفكروا في مصالحهم، وأن يدعموا ممثليهم السياسيين، المعبرين عن مصالحهم، والذين يعرفون ظروف العمال في المصانع والشركات وأحجام الاستغلال التي يتعرضون لها، ويستطيعون تقديم مشروعات قوانين تطور أوضاعهم.
لقد قامت كتلة الوطنيين الديمقراطيين في الدورة البرلمانية السابقة بصراع كبير من أجل حقوق العمال في هيئة التأمينات الاجتماعية، وواجهت عملية سرقة الأراضي بشكل قانوني وعرائضي ووقفت بقوة ضد القوانين المعرقلة للحريات.
والآن تواصل قائمة الوحدة الوطنية هذا النضال في مرحلة برلمانية جديدة، متوجهة لقضايا أكثر خطورة، وأهمها فيما يتعلق بالعمال هي زيادة حجم العمال الوطنيين، ومواجهة البطالة ودعم مشروع الحكومة ضد البطالة وتعميقه، وتحرير التأمينات الاجتماعية من النفوذ البيروقراطي وأعادتها للجسم العمالي، وتوسيع العمالة البحرينية في القطاع الخاص، ودعم عمالة المرأة وتطوير أجورها وظروفها، وتوسيع وجودها في القطاع الخاص الخ..
إذن تنتظر العمال مهمات كبيرة، والحديث عن فصل العمل النقابي عن العمل السياسي لا يجوز خاصة فيما يتعلق بالانتخابات التي سوف تنعكس نتائجها بقوة على حياة العمال، سلباً أم إيجاباً، فكلما قل حضور اليسار والديمقراطيين كلما ساءت ظروف العمال، والعكس صحيح.
إن شلل حركة الطبقة العاملة النقابية سياسياً وعجزها عن دعم ممثلي اليسار والقوى الديمقراطية هو من الإشكاليات التي تسببت بها المرحلة السابقة من التطور السياسي، حيث اتضحت الهوية اليمينية للقوى المذهبية السياسية، وتجميدها لحضور العمال السياسي وعرقلة دعهم للقوى الوطنية الحديثة.
بهذا الشكل أو ذاك، عبر تلك الجمعية أو هذه، أرتفع ممثلو الفئات الوسطى إلى سدة البرلمان، وعاد العمال إلى بيوتهم وغرفهم ومصانعهم يحلمون بالتغيير!
كانت الخطابات السياسية والبرامجية للمثلي الجمعيات، تطرح مبادئ عامة، وتعد بتحول مستوى المعيشة لكل المواطنين، لكن دون خططٍ محددة ملزمة بشيء، فهو كلام عام يلقى من أجل الأصوات، ولم يكن للعمال وعي يحاصر ممثلي هذه الفئات الوسطى عن برامج وأرقام محددة لتغيير وضع العاملين، كما تفعل الأحزاب في الدول المتقدمة، والتي تضع برامج لزيادة الأجور والرواتب بمعدل محسوب برقم، وتشكل خططاً بناءً على هذه الأرقام التي يقدمها خبراء متخصصون.
وإذا لم تقم هذه الأحزاب بتنفيذ وعودها فهي تنسحب من الحكم، أو تجبرها إضرابات العمال على الرحيل!
والفارق كبير بين أحزاب ذات خبرة عريقة في العمل السياسي، ولديها لجان من الخبراء والباحثين، وبين جمعيات تتعلم أوليات العمل السياسي، وذات لغة إيديولوجية صاخبة، وهو أمر يقودها إلى التوهان بين ممثلي السلطة الأشد استعداداً وحنكة، والذي استعدوا لها بخطط وقيادات ومؤسسات تقلب أولياتها أو تجعلها تتصادم، محرضةً أكثر على الإيديولوجي والسياسي العام الصاخب، ثم تقوم هي بتنفيذ ما تريده في الحياة الاقتصادية.
كذلك فإن تغير حياة ممثلي الفئات الوسطى الذين ارتفعوا على جسم العمال سيلعب دوره في تخثر خطاب الصراع الحماسي، الذي لم يكن يستند على أسس علمية، وتحدث عمليات انفصال شيئاً فشيئاً بين النواب والبلديين (الأفندية) والجمهور العامل، الذي سيجد أن طريقه هو للنقابات هو الذي يمكن أن يعوضه عن خيبة الأمل في ممثليه السياسيين.

العمالُ والإصلاحُ الوطني
لعبَ العمالُ خلال عقود الخمسينيات والستينيات دوراً تحولياً وطنياً، نظراً لوجود جماعاتٍ من العمال المثقفين المتنورين الوطنيين، ولم يكن بإمكان التطور الاجتماعي الصعود السياسي الكبير لولا هذه الجهود.
إنغماسُ هذه الجماعاتِ في الهموم المعيشية والاجتماعية للعمال وعدم التطرف في تسييسها، والاهتمام بتطور التجارة والصناعة وتطور الاقتصاد عموماً، جعل هذا النضال مقدمةً للحقوق الدستورية كما ظهرتْ في أوائل السبعينيات، وهي العلامةُ التي جعلتْ العديدَ من المثقفين يصبحون سياسيين مشاركين في صياغة الدستور والمرحلة السياسية وقتذاك.
كما أن هذا النضال الذي لم يُصدعْ الحياةَ الاقتصادية فإنه لم يعبث بموارد البلد ومؤسساته، وهو أمرٌ يدعونا لملاحظة المرحلة الراهنة حيث تغدو السياسة مغامرة وعبثاً، وغابت تلك الطليعة المتنورة من العمال ولم تورث كفاحها للأجيال التالية.
لم تكن الأمية الثقافية منتشرة بين تلك الطليعة، فكان أولئك العمال الشباب خاصة يقرأون مختلف أنواع الكتب، ويساهمون في أنشطة الأندية وفي الثقافة والسياسة.
الوعي الوطني الذي يربط بين تقدم البلد ككل والحياة الحديثة، وينشر علاقات إجتماعية جديدة في العائلات، يصطدم بمعوقات سياسية ودينية وإجتماعية كبيرة تعرقل تطوره.
ومع إنتشار العمالة الأجنبية لحد الغلبة السكانية، وخاصة العمالة الرثة غير المنظمة في نقابات وتيارات، وتضخم الرأسمالية الحكومية وإتجاهاتها نحو التخضم الوظيفي والهيمنة على مشروعات كبرى، وإنتشار الغربة في المدن الكبيرة القديمة وغياب العلاقات الوطنية فيها، وتحولها لأمكنة تسلية، أصبح عمال الريف هم الأبرز في مستويات الطبقة العاملة البحرينية، وقد هيمنت عليهم الشعارات الدينية وغابت الثقافةُ الحديثةُ المعبرةُ عن طبقة العمال من صفوفهم إلا فيما ندر.
إن الانقسام القومي للعمال، وتعدد مصادر الهويات القومية التي ينحدرون منها، وهيمنة المستويات الدنيا للبروليتاريا، وضخامة المؤسسات الصغيرة، وعمال المقاولات غير الدائمين، وإتساع الفئات الوسطى والصغيرة، جعل من حضور العمال السياسي مُغيباً.
رغم أن العمال هم أغلبية السكان فليس ثمة ممثل سياسي لهم في البرلمان، ومن الممكن أن يطرح بعضُ النواب مشكلاتهم إلا أنهم كحضورٍ مستقل مميز غائبين.
يعبر الوعي الديني السائد بين الكتل الاجتماعية عن تغييب الواقع، والاهتمام بالأطروحات الأخلاقية والوعظية، ولهذا فإن أصحابها لا يكادون يعرفون مشكلات المصانع والورش وقضايا العمال من ظروف مادية صعبة ومن ظروف عمل متنوعة.
وإذا أستولتْ نفسُ الأشكال الدينية على هيئات العمال وعلى أعصابهم السياسية وحركتهم الاجتماعية فإنها تقودهم لدروب خارج الواقع، وتجعلهم لا يفكرون في قضاياهم العملية والمعيشية ويتحولون إلى أدوات للقوى الدينية السياسية وأغراضها الخاصة.
عدم الربط بين قضايا العمال المعيشية والقضايا العامة علامة هامة هنا، ولكن هذا يخص فقط العمال البحرينيين فيما العمال الأجانب يهتمون بقضاياهم العملية والمعيشية بدرجة خاصة وقد حققوا مكاسب في ذلك! كما أن السفارات تراعي أوضاعهم وظروف تشغيلهم وعقودهم وتحاول تطويرها وتطوير حقوقهم ومساكنهم.
فليس للعمال البحرينيين نواب وليس لهم أنصار من النواب يعبرون عن قضاياهم، فهم بلا صوت نقابي وبلا صوت سياسي معاً.
في الظروف السابقة ومع ندرة العمال الطليعيين الوطنيين ووجود حشود من العمال الأميين، كانت للكلمة تأثيرها على تطور الأوضاع المعيشية والاجتماعية للعمال، وعبر ذلك ازدهرتْ مشروعاتُ الإسكان، والتعليم والصحة وغيرها.
الأمرُ يعودُ لطبيعةِ الوعي الوطني المسئول في ذلك الحين، ولغيابهِ في الفترة الحالية وسيطرة المغامرين الدينيين، غير الواقعيين في نظرتهم السياسية وثنائية إنتمائهم، وينتجُ من ذلك عدم إهتمامهم بحياةِ الأسر العمالية وظروفها الصعبة، وإعتبارهم العمالَ مجردَ أدواتٍ للتكتيك السياسي الذي ينتظرون صدوره من جهات خارج النقابات والحياة العمالية.
إن تأثيرَ العمال في الانتخابات وتصعيد قوى عقلانية إصلاحية صارتا ضرورتين طبقيتين ليس في الوقت الراهن فحسب بل في الدورات القادمة من أجل أن يكون للعمال صوت مؤثر في الحياة الاقتصادية خاصة.

تدهورُ الوعي العمالي
لعبت الطبقة العاملة البحرينية دوراً وطنياً توحيدياً، خاصة في التعاون الوثيق مع هيئة الاتحاد الوطني المعبرة عن الفئات الوسطى، فغدا التصدي للاستعمار والتقدم الاجتماعي مهمات مشتركة متداخلة بين القوتين الاجتماعيتين الرئيستين.
لكن في الانفكاك الذي جرى بعد ذلك وتوجه كل قطب نحو مصالحه وتوجهاته السياسية الاجتماعية لم تتطور العملية السياسية نحو تعميق الديمقراطية.
إنفصال التجار عن العمال حدث لضعف تطور الصناعات المحلية وغلبة التكوينات غير الصناعية ثم فاقم ذلك جلب العمال الاجانب بصور واسعة غير مخططة وغير معبرة عن أهداف وطنية عميقة.
لكن الطبقة العاملة واصلت الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والاهتمام بالأهداف العامة للمجتمع عن طريق المعبرين السياسيين عنها، لكن الذين لم يطوروا التحالف الاجتماعي مع الفئات الوسطى.
ومع تصاعد القوى الدينية الطائفية التي قسمت الشعب حدث الانقسام في صفوف القوى العمالية كذلك.
لم ينفصل هذا التدهور في الوعي عن التحولات في البنية الاجتماعية للعمال، الذين تبدلوا من أغلبية القوى العاملة البحرينية إلى أن يكونوا ثلث العمال، وغدا العمال الأجانب هم الذين يكونون الأغلبية، وكثرت الفئات العامشية وما يُسمى بحثالة البروليتاريا فيها، كذلك تصاعدت الفئات البرجوازية الصغيرة في تكوين الطبقة العاملة وحدثت لها تأثيرات فكرية وسياسية، وغلب تكوين العمال الريفيين على الأصول السكانية لها، وتبدلت البنية الاجتماعية العامة من بنية شبه حرة إلى بنية رأسمالية دولة غالبة.
هذا كله أنعكس على توجهات العمال وغلبة الانقسامات.
فالخطابات الوطنية العقلانية المهتمة بالإصلاحات والتحولات التدريجية تغيرت إلى خطابات طائفية سياسية ومغامرة مما قاد إلى خسائر سياسية وإجتماعية دون تقدم في أوضاع العمال الاقتصادية والاجتماعية، بل على العكس زادت مشكلات الغلاء والبطالة وضعف الأجور ومنافسة القوى العاملة الأجنبية وتدني مكانة التكوين العمال النسائي وعدم حصوله على مواقع نقابية هامة رغم توسع حجم النقابات وحصولها على مكانة عامة مميزة.
غلبة الوعي الديني الطائفي على الجماعات الإدارية العمالية أضعف مكانة العمال كما أضعف بقية المكونات الاجتماعية وغدت قدراتها في التفاوض والدخول للبرلمان والتعبير المميز عن الطبقة العاملة وتاريخها الوطني خارج الوضع السياسي العام.
هذا لا ينفصل عن تدهور الوعي الوطني للجماعات التي كانت معبرة عن الشغيلة فيما سبق والتي لم تقم بخلق ومواصلة التراكم السياسي الديمقراطي خلال التاريخ الاجتماعي عبر العقود السابقة.
يعود ذلك لتدهور الوعي العمالي الطبقي الوطني حيث غابت عمليات التحليل للرأسمالية وإتجاهاتها وكيفية إصلاحها وتحديد بنية الطبقة العاملة ومكوناتها وكيفية تغيير هذه البنية التي غلبت عليها التكوينات غير الصناعية وإنتشرت فيها الفئات القادمة من المؤسسات التجارية والمالية، وهو أمر كان يحتاج لمزواجة بين النضال الوطني السياسي العام والنضال النقابي.

العمال والتغيير الاجتماعي
لا يستطيع العمال البحرينيون أن يدخلوا في معارك سياسية طاحنة ويكونوا هم الطليعة والضحية، لقد مضى هذا الزمن العتيد!
وحين نتذكر تاريخنا المضيء الزاهر بالنضال الوطني نرى قوى العمال هي التي تنزل للشوارع وتجابه وهي التي تضحي في معارك السويس والحرية وهي التي تـُفصل من الأعمال وتشكل الوحدة الوطنية على الأرصفة المضرجة بالدماء، وهي التي تطالب بالدستور والتحديث والمساواة الوطنية بين الطوائف والأجناس.
وكانت حصيلتها هي من كل هذه التضحيات قليلة، ومضى الأجدادُ والآباءُ وهم مثقلون بالديون والفقر، فيما ارتفعتْ القوى التي كانت صامتة أو منتظرة، وهي القوى الميسورة التي تتكلم وتصرخ في السر وتصمت في العلن، فسقطت ثمار كل المراحل في أحضانها، وبنت الفنادق والعمارات والشركات والبنوك، ثم وظفتْ وضخمت ورقت القوى العاملة الأجنبية!
كان العمال هم الورقة القوية الرابحة المستخدمة في الصراع السياسي، وفي كل فترة يطل عليهم مندوبون معينون ليؤججوا غضبهم على النظام السياسي، لكي يندفعوا في إضرابات ضاعت هويتها النقابية والسياسية، وتداخلت تداخلاً مغرضاً وحماسياً، فلا تحققت الأغراض العمالية ثم ركب السياسيون الموجات ليصلوا إلى أهدافهم.
وقد تكون تلك أغراضاً وأهدافاً عظيمة، وقد تكون دواعي السرية وعدم وجود أدوات نضالية علنية أخرى، من الظروف المخففة لهذا الإستيلاء السياسي على العمال.
لكن كل تلك الظروف السابقة المريرة تستدعي نظراً ثاقباً من القيادات العمالية، حتى لا تكون مجرد أداة سياسية بأيدي غيرها يستخدمونها من أجل تحريك الوضع السياسي أو من أجل استخدامها كأدوات ضغط في معارك سياسية تهمها حتماً باعتبارها عضواً مهماً في الساحة الاجتماعية، لكنها ليست هي الوسيلة المجانية للركوب السياسي، فلديهم أدواتهم وقنواتهم، فليستخدموها ويطوروها بكل قوة وصبر وعناد!
ومن هنا فينبغي على القيادات النقابية والعمالية أن يكون هاجسها الأول هو تغيير حياة ومعيشة العمال، فقد شبع العمال من الفقر والبطالة وتسمين بقية الطبقات، ومن التضحيات الوطنية على مدى نصف قرن ثم يكون جزاؤهم التهميش وتفضيل القوى العاملة الأجنبية!
وليس المنهج النقابي المركز على حياة العمال الداخلية بمنهج غير سياسي، فهو منهج سياسي بامتياز، لأنه منهج سياسي بعيد المدى، فلا يمكن للعمال أن تكون لهم مواقف سياسية وهم ضعفاء مهمشون ومجرد أدوات للمرشحين حتى لو كان هؤلاء المرشحون من قوى تهميش العمال والسكوت عن أجورهم المنخفضة ومساكنهم الرثة، وعن سؤ تعليم أبنائهم، والمطبقة ألسنتهم عن فصلهم وعدم إعطائهم أولوية على الخريطة الاجتماعية.
فالعمال ليسوا ورقة انتخابية بيضاء، ولا يمكن أن يكونوا مجرد ذيول ومصفقين للمرشحين، ولا يمكن ان يدخلوا في الطوابير السياسية الزاعقة وللجماعات الشمولية الفاشلة على مدى عقود، ولكي يرفعوا قوى جديدة سياسية على اكتافهم ليصلوا للثروة والمراكز على حسابهم كما فعل قرناؤهم السابقون!
أن صوت العمال لدى النقابات الطليعية يقول لقد نضجنا أيها السادة الميسورون، فابحثوا لكم عن ضحايا آخرين، وظفوا العمال الذين لا يعرفون العربية في مهرجانتكم السياسية والانتخابية، فلتعطكم البروليتاريا الأجنبية المسكينة التي جلبتموها من كل حدب وصوب أصواتها وأكتافها لكي تصعدوا.
فليعطكم المدراء والموظفون المسترخيون في شركاتكم أصواتهم، فلا يمكن أن نعطيكم أصواتنا من جهة وأنتم تفصلوننا من أعمالنا وتقللون أجورنا من جهة أخرى.
لا يمكن أن نعطيكم أصواتنا وأنتم تريدون معارك سياسية مذهبية، وهاهم العمال مشتتون تائهون مع هذه الجماعات، يرفعون لافتات كل يوم تندد بالفقر والتلوث والبطالة والتجنيس وغيرها من القضايا دون أن يتحقق لهم متر واحد من التقدم الاجتماعي.
بسبب أن هؤلاء العمال والفقراء تائهون سياسياً، ضاعوا بين كراديس القوى المذهبية ومعارك طواحين الهواء التي تخوضها، وبعدم معرفتها النضال الطبقي ودور النقابات والأحزاب العصرية.
إن العمال قوة منظمة عصرية، تستطيع أن تحقق مطالبها المهنية عبر نضالها الخاص المنظم الدقيق، نيابة عن أنفسها وليس عن فريق سياسي يستغلها في مآربه.
ولكم في تجارب النقابات الطليعية خلال السنوات القليلة الماضية خير مثال على ذلك، فلقد حققت منجزات معيشية كبيرة لعمالها بدون هذه المعارك الدونكيشوتية في الشوارع والأزقة وتفجير الأسواق وتخريب دكاكين الفقراء والصيادين وحصار القرى وتعريض البشر للقنابل والأدخنة، ثم تكون نتائجها (فالصو) على حد تعبير العامة، بل تكون نتائجها محاكمات وسجون وتعذيب للأهل الذين يرون فلذات أكبادهم يتم التجريب فيها بهذا الشكل!
لا شك أن هذين النهجين سيتصارعان ويخضعان لمحكمة الأغلبية الواسعة من العمال والموظفين والحرفيين، وكل الشغيلة البسطاء الذين بعد لم ينضموا لدائرة التأثير والفعل ولم يرفضوا بقوة الأساليب المغامرة والفوضوية لجرهم إلى أجندة سياسية لم تخضع لحكمهم ولصوت العقل.

العمال البحرينيون يشكلون الوحدة الوطنية
لا تستطيع القوى الغنية أن تشكل وحدةً وطنية في المرحلة الراهنة في الكثير من البلدان النامية، بسبب تنازعها على السلطة وتعدد انتماءاتها الإقليمية والعالمية.
فنجد كبار التجار يصرون على الاستخدام المفرط للعمالة الأجنبية ويترتب على ذلك في الثقافة السياسية تمييع موقفهم من القضايا المحورية في حياة الأغلبية من الناس، فإذا جاءت مسالة تقنين وتطوير خريطة العمالة تبعاً للمصلحة الوطنية، دخلوا في منطقة ضبابية تحركها مصالحهم التي يريدونها مطلقة لا تـُقيد ولا تـُجدول بأجندة وطنية ما.
أما الحكومة فهي كذلك لا تقدر على جعل الأغلبية العاملة أغلبية بحرينية لأن مصالحها تتوافق مع كبار التجار، ولكون العمالة الأجنبية لها صدى في العديد من فئات الموظفين كبارهم قبل صغارهم.
والقضية أنه لا يمكن إزالة العمالة الأجنبية بين ليلة وضحاها ولكن المسألة خطة لتغيير مثل هذا الوضع، خطة متدرجة، تفعل كل العاطلين والنساء العاطلات في بيوتهن والبرامج التعليمية
ولكن هذا لا يتوافق ومصالح الكبار من المستثمرين الذي يريدون الأمور تمضي بلا خطة وطنية، وبشكل تلقائي، وهو أمر مضر حتى بمصالحهم على المدى البعيد.
ومن هنا يغدو العمال البحرينيون هم المتضررون من مثل هذه السياسة الاقتصادية الحرة بلا ضبط وطني .

الحفاظ على النضال والأمن معاً
تواصل الأغلبيةُ البحرينيةُ الجمعَ بين النضال الضروري لتغيير الجامد واللاوطني والفاسد في الحياة، وبين الأطر الاجتماعية التي يتحقق فيها هذا النضال، وأهمها إطار الأمن وسلامة البشر والمؤسسات والممتلكات.
العمل في إطار فوضوي ودموي هو ليس نضالاً هو تخريب، هو مشبوهية سياسية، هو عجز عن التطور السياسي، وعن نمو قدرات الشباب الاجتماعية.
يمكننا أن نضع علامات إستفهام ونقوم بتحقيقات سياسية وفكرية حول هذه المشبوهية، ومتابعة خيوطها ومدار إثاراتها.
إن الأغلبية التي إتحدت في مشروع هذا النضال يجب أن تقرأ الثغرات التي يتمُ بها هذا التسلل؛ من أين يدخل؟ كيف يتجذر في بقاع دون غيرها؟ ماذا يستخدم من مواد شعارية؟ ولا أن تُحولَ ذلك إلى قراءة أمنية كلية، بل إلى قراءات إجتماعية كبيرة وسياسية متجذرة.
فضعفُ شكلِ هذه الأغلبية الوطنية وإعتمادها على النمط المذهبي أمر يُسهل الإختراق، لقد قامت بتجزئة الشعب وفككت صفوفه، وبالتالي فإن الإختراق يمكن أن يتم بوسائل عدة.
لكي تَهزمَ هذه الأغلبية قوى التدخل والتسلل يجب أن تتحدَ سياسياً، أن تجعل مشروع التغيير الشعبي السلمي المتحد دائرة محصنة بوثائق وبمؤسسات ديمقراطية، وبالتالي فإن المتسللين يتعرون وينكشفون في دائرة الفراغ الخارجي. وتتكشفُ روابطُهم وأهدافهم.
حين تبلورُ قوى الأغلبية هذه الدائرةَ الوطنيةَ التي تعمل للتغيير من خلال المؤسسات وبأشكال سلمية، وتضع مشكلات كل المواطنين في بؤرة عملها، فإن قوى الفوضوية وقوى الإرتباطات الخارجية وقوى الشباب اليائس ومعدوم الوعي ستنحصرُ في دوائر ضيقة وتُهزم على المدى الطويل.
لا بد أن قوى العمل البرلمانية المتحدة والقوى السياسية التي تؤازرها ستسدُ ضربةً قوية لهذه التدخلات.
هي بحاجةٍ لهذا التماسك والتداخل وصياغة برنامج موحد بسيط وغير معقد يركزُ على حل مشكلات المال العام وتوزيعه ومكافحة الفساد والتمييز والتجنيس في ظل التمسك بالأطر القانونية والحفاظ على السلم الأهلي والأمن.
نجد إن غياب هذه البرامجية وهذا الوضوح السياسي الجامع بين تشديد النضال والحفاظ على الأمن، ما يجسد بعض خصائص قوى الأغلبية السياسية البرلمانية، على سبيل المثال، وكيف لا تقوم بحملات فكرية لتوضيح هذا الخط بين الجمهور، الذي يتهمها بالتقصير وبجمع المال، وكأن العمل البرلماني طاقة سحرية تقوم بين ليلةٍ وضحاها بحلِ كلِ مشكلات الفقر والبطالة والكسل الشبابي والتمييز والتجنيس، وليس أنه عمل سياسي كبير يحتاج إلى تكاتف الطاقات الشعبية، ويحتاج لقادة متفرغين لهم رواتبهم الجيدة، ولكن لهم نشاط كبير كذلك.
إن جذب دوائر الشباب المتقلقل والحائر تجاه برنامج الأغلبية الشعبية في التغيير هو أمر حيوي.
فالأمر لا يعني صمتاً تجاه مشكلات الجمهور، ولا كسلاً ونوماً، بل يعني نشاطاً وجمعاً للمعلومات، ودراسةً للشركات الحكومية، وإكتشافات للوزارات وطرق علمها ومشكلاتها، ولا يعني سخرية من النواب وعدم تقديم المعلومات والتنصل من واجب النقد الموضوعي.
إن لجؤ المتظاهرين للعنف ولجؤ قوى الأمن للعنف بدون مبرر، هي أمور تطرح ضرورة تطوير الأجهزة العسكرية وبحرنتها بصورة شبه كلية، فقوى التطرف الفوضوي تلجأ للعنف لتوسيع العنف في الواقع، وخلق ضحايا، وتأتي بعض قوى الأمن وتقع في الفخ، نظراً لفقدان ربما فهم الموقف أو عدم فهم اللغة.
لكن هذه الجوانب الجزئية تحتاج إلى تحول قوى البرلمان الراهن أو القادم إلى قوة إتحادية وطنية تنزل بشكل مشترك لتوعية الجمهور وخلق من أطرها حملات لطريق نضال الأغلبية المشترك في التغيير وتطوير أحوال المعيشة خاصة وتحجيم التدخلات الأجنبية بكل صورها.

إنتهى زمنُ العمالِ الآليين
لم تشتغل النقابات من أجل النضال من أجل العمال الكادحين في معيشتهم الصعبة، وفي ظروفهم القاسية، تركوهم لسنوات وهم مشغولون بخطاباتهم السياسية، ولكن حين تضرر هؤلاء الإداريين ومساعدوهم صار على العمال النضال من أجلهم.
القياداتُ البيروقراطيةُ تجعلُ الناسَ ضحايا وخدمَاً لها، لا أن تكون هي المضحيةُ من أجل العمال.
لأنها تظن أنفسها لا من طينة العمال والبشر بل من طينة مقدسة عليا من واجب هؤلاء العبيد العمال طاعتها والموت من أجلها!
لكن كيف تكون هؤلاء؟ ومن أي مواد إيديولوجية تم تخريب وعيهم الإنساني البسيط المضحي؟
من النسخ المزيفة من الدين والإيديولوجيات الشمولية.
لم يكونوا يفهمون الإسلامَ ويعيشون في تراثه النضالي، بل كانوا يصلون بشكلٍ آلي، مثلما يعيشون في المصانع كأجزاءٍ من تروس، كوظائف آلية، يومية مُتعبة منهكة، لكنهم يؤدون الحركات الآلية المطلوبة، والدينُ غدا في عيشهِم الأمي مثل مصنعٍ يؤدون فيه الحركات خدمةً لرؤوساءٍ مُغيبين أو حاضرين، يقودون الجموعَ، دون عيشٍ في مفردات الدين، دون تلمسٍ لأصابع الكادحين الصلبة القاسية من حملِ الحصى، وحمل الأدوات، ورؤية هذه الأجساد المضناة في العيش بين الآلاتِ والدخان والسخام، أو أن هؤلاء (الرفاق) يعيشون في غرفٍ ضيقةٍ مزدحمة بالعيال.
أو أن هؤلاء العمال يذوبون بين أزقةٍ ضيقةٍ وينطفئون بين الجدرانِ والعملاتِ الصغيرة الهاربة، وحمل الأغراض المرتفعة الأسعار دوماً، ويحملون أطفالهم أو أجسامهم لمستشفياتٍ مزدحمة، وينتظرون طبيباً أو ممرضة في طوابير طويلة. إذا أمكن لهم أن ينجبوا ذرية ولم ينطفئوا بين التراب والتراب.
القادةُ الخرافيون المستخدمون للإسلامِ كنصوصٍ مجردةٍ مفرّغةٍ من الأنسنة، لا يرون العمالَ، لا يرون ملامحَهم، لا يطالعون عيونَهم المنطفأة من التلوث والأمراض، وعظامَهم التي تنحني حتى تلامس الأرض.
إنهم يرون سلامة حركات الصلاة، وضخامة الطوابير الموجهة للعبادة، دون حتى مراقبة الأرض المفخّخة، وحملة المتفجرات، ولهذا حين يظهرُ هؤلاء تظهرُ مستنقعاتُ الدماء وتزدهرُ البلدانُ بالحرائق.
إنهم في عليائهم السياسية البيروقراطية كالنجوم، كالأقمارِ الصناعية الموجهة للحشراتِ البشرية، لكي تموتَ في حرب، أو تتعذبَ في مواجهات، ولا تفتحُ مسارحَ لترى هؤلاء العمال يضحكون، ويمثلون، ويحركون العرائسَ لأطفالهم، ويجادلون عائلاتهم ويطورنها، بدلاً من السهرات المطولة في الخارج والإختفاء القسري.
حراكُ السماءِ والأفلاك والنجوم العالية لذراتِ البشر العمالية، حراكُ نصوصٍ إستبدادية شرقية، تجعلُ العمالَ أدواتٍ لمخططات سياسيين شموليين يتحكمون من وراءِ القصور بالمواد البشرية الآلية.
وكلما طالت شبكاتُ هذه الزعامات كلما تعقدت ظروفُ العمال المصطادة كالفراشات في الخيوط الطويلة.
ولهذا فإن كائنات الزعامة هي متواريةٌ سيدةُ الوجودِ والحضور، والكائنُ البشري المرهف مُلغى، هو في خدمةِ البيروقراطي السائس، ومن مستلزماتِ الخطة السياسية المغامرة المُعّدة بدون مشاركة منه أو دراية له، لكنه سيجدُ نفسَه في عاصفةٍ مفاجئة تقتلعهُ من بيته ومن عياله.
زمنُ العمال الآليين إنتهى، زمنُ هيمنةِ النقابة البيروقراطية، بل هو زمنُ العمالِ الحواريين، زمنُ العمالِ المشاركين في صياغة النقابة، وحراكها وتطورها، كلُ حبةٍ من المصنع ومن النقابة ومن الحزب ومن البيت ومن ملعب الفتيان وروضة الأطفال هي للإنسان العامل، هي حوارٌ معه، ومن مسئوليته، وغايته.
هم العمال الديمقراطيون لا عمال المؤامرات البلانكيين والباكونيين، المغامرين، والانتهازين، هم عمالُ التراكمات الديمقراطية الحريصون على تطور الشعب ومصالحه، لا المقامرون في صالات القمار السياسية وبهوياتٍ شمولية طائفية تمزيقية للمسلمين والعرب والمواطنين والكادحين الأجانب الرفاق على الأرض وفي المصنع والوطن.
إنهم العمال الديمقراطيون لا الآليين التابعين الذيليين، فهم الذين يقرأون ويدرسون، حتى على شموع الحزب والدولة الأخيرة، يقدرون زوجاتهم ولا يأتون إليهن في الساعات الأخيرة وهن ضحايا اللصوص والفقر.
في أدلجتهم للدين يلغى المحافظون العمالَ من التراث، يذوبونهم في حضور الأسر الارستقراطية، وتضحياتهم ومعاناتهم، مثلما يلغون حضورهم في العصر الحديث، فهم مجرد أدوات في الماضي والحاضر.

آلياتُ النضال الحديث
يقول أحدُ القراء كاتباً بأسم مستعار ما يلي:
(لا أعتقد أن السيد عبدالله خليفة يجهل طبيعة القاعدة الاجتماعية العريضة للقوى السياسية – المعارضة – الدينية – الشيعية في البحرين، وهى التي تشكل واحدة من أساسيات ودعامات تبنى الموقف الوطني – التقدمي إزاء الثورة ، وهذه الجماهير وإن لم تكن بأكملها بروليتاريا، بالمعنى الكلاسيكي، فإنها من جملة الكادحين والمُعدمين والمُهمشين، ومن هنا فإن نضال القوى السياسية – المعارضة – الدينية – الشيعية إجمالا يعبر فى الوقت الراهن عن مصالح اجتماعية للمسحوقين، ولا يمكن أن يتجاهلها الماركسيين(؟)، وهذا أيضا ينطبق على الجماهير من المتدينين وغير المتدينين السنة الذين انضموا إلى جمهور الثورة ولم تخدعهم دعايات الثورة المضادة، وقلتهم العددية لا تنفي دورهم وإنما تنفي ذرائع الثقافة السائدة حول إدعاءات الطائفية.).
يستدرجُ الأخُ البحرينَ إلى واقعِ الثورةِ بصورةٍ ذاتية، فهو يقرر أنها في حالةِ ثورة، أو من أنجر معهم، وبالتالي فيجب أن ننخرطَ نحن كتاباً وقوى أخرى مع هذه(الثورة) وحسب أجندة قادتها!
الثورةُ في مثل هذا الوعي فعلٌ ذاتي تقررهُ نخبٌ، ويخضعُ هذا الوعي لقراراتِها، ولكن الأمور بهذا الشكل ليست ثورة في الواقع ولكنه تآمر. أي أن تقومَ نخبٌ معينة بفرضِ واقعٍ سياسي بالقوة، وليس أن يكون فعلاً نابعاً عفوياً من الشعب.
الثورة ذات شروط موضوعية، وتتجلى حين يقوم الناسُ العاديون بالانفجار لأنهم لم يعودوا يحتملون الظروف القاسية لأسباب إقتصادية حارقة.
لكن ما قادتهُ الجماعاتُ المذهبيةُ السياسية هو فعلٌ ذاتي منها، هو نسخُها لأحداثِ في مصر ومحاولتها إعادة تكرارها لدينا، والأرض غير الأرض، والجماهير غير الجماهير، والواقع غير الواقع.
الجماعاتُ المذهبيةُ السياسية من طائفةٍ واحدة، وهو أمرٌ ينفي فعلَ الثورة من أساسه.
الجماعاتُ المذهبية السياسية إشتغلتْ لنفسها خلال عقود: هيمنةٌ على طائفتها، تكريسٌ لقياداتٍ فيها، رفضُ تكوين العلاقات الوطنية الديمقراطية بين الشعب الواحد، ثم سيطرة فصيل واحد على بقية الفصائل من نفس الطائفة وإبعاد الأخرى عن مركز القرار وجعل كافة المواد السياسية تخضع لهذه الجماعة التي تقوم بإعلاء هيمنتها شيئاً فشيئاً.
وقد كنا نقول بأن من حق الطائفة أن تناضل نتيجة لحرمان ولمشكلات تاريخية لكن بدون شكل سياسي طائفي، لكن الأدوات الخاطئة أُتيحتْ لها، والمجلسُ المنتخبُ أعطاها حضوراً كبيراً، وبلديات عديدة إمتدت تحت عملها، ولكن أين النضال؟ وأين الإنتاج السياسي؟!
إشتغل التيارُ المذهبي السياسي لتشكيلِ دولةٍ خاصة به، وليس أن يكون تياراً وطنياً بحرينياً من أجل تطوير دولة مشتركة، وأن يستوعبَ أفضلَ ما في طائفته من عناصر ديمقراطية ومهنية، وأن يستوعبَ أفضل ما في شعب البحرين التي تقبل ببرنامجه، وبهذا يتقدم لتغيير ما في الواقع من سلبيات، وأن يراكم الايجابيات الموجودة في النظام، وأن يجعل ذلك مقدمة لتطوير أعمق.
إن عجزَ التيار المذهبي عن التطور العلمي من أهم الأسباب لتشكل وعي المغامرة السياسية عنده.
فقد تواجدَ خلال ربع قرن وعاشَ على شعارات، ولم يقمْ بتطوير قدراته وجماعته، وتحويلهم لكوادر، ولم يقمْ بتطوير ثقافته وعلمه بالواقع، فأين قضايا ومشاكل الجماهير المرصودة لديه؟ أين الدراسات عن الفقر والبطالة ومشكلات العمالة؟ أين تطوير الآداب والفنون والثقافة؟ أين درس خريطة البلد والأسكان ومشكلات الجزر؟ أين الحلول المقترحة لكل هذا؟.
لا شيء من الإنتاج العلمي لدرس البلد، وكوادر المنظمة المذهبية السياسية تتدهور، وتجلب الشبابَ الصغار ليكونوا نواباً، وبقية المنظمات من نفس الطائفة والمبعدة عن الفعل والمشاركة مع هذا التنظيم الرئيسي تتطرف أكثر فأكثر، نظراً لعزلتها وحرمانها.
الريف البحريني فيه طاقات شبابية وعلمية وفكرية، لكن هذه الطاقات لا توجه للبناء، ويجري إهمال قاعدة عريضة من الشباب تخسر نفسها في الفراغ واليأس والكسل.
وينتج من ذلك لعدم الاستفادة من هذه الطاقات أحلام مغامرة وتآكل للروح الخلاقة، وتحريف توجيهها نحو الصدام السياسي.
لقد لاحظنا وجودَ إمكانيات إبداعية وفكرية خلاقة لبعض هؤلاء الشباب، رأينا تطوراً مذهلاً في بعض النساء، رأينا حباً لديهن للحرية والانفكاك من قهر القرون الوسطى! رأينا أن هذا الشباب خلاق ولكن الفرص الاجتماعية لا تُتاح له.
الريف البحريني الذي لم يعد ريفاً بل ضواح لمدينة البحرين الموحدة،

خارجَ الطائفةِ داخلَ الطبقة
حين يحول المثقفُ الواقعَ الاجتماعي السياسي إلى عالمِ طوائفٍ ويرفضُ عالم الطوائف والعيش في الوقت ذاته على مادتها الاجتماعية الأثرية يواصلُ البقاءَ في الطائفية.
رفضُ الطائفةِ هو موقفٌ متقدمٌ على موقفِ المتعلم السياسي الطائفي، لأن الرفضَ هنا يشيعُ قيماً جديدة في عالم القرية المتبلد حيث يجري قمع النساء والرجال من قبل المؤسسات التقليدية المهيمنة، وقمع النساء أشد وتغييب الحقوق أوسع لكن الرجال العامة هم كذلك مقموعون، لكن هذا الرفضَ غير كافٍ لأنه ضحل الوعي، لا يحلل الجذور، ولا يخرج من الطائفة للانتماء الاجتماعي العصري.
نجدُ تاريخَ المسلمين عبر الدول الارستقراطية التي شكلتْ الحضارةَ وانهيار الحضارة معاً، بإنجازاتها وسلبياتها معاً، حين قام الأمراءُ والخلفاء بالسيطرة على مسار التاريخ وبجعلِ حراكهِ في الطبقةِ العليا الذكورية، التي تنتقلُ عادةً من البادية أو القرية أو المنطقة الرعوية كما إنتقل العربُ من شبه الجزيرة للحواضر الشمالية، وتعيشُ على الغنائم بشكل هائل عبر الحروب وجلب العبيد والجواري ثم حين تنقطع الحروب ويصعب وجود ضحايا أو بلدان قريبة للغزو، أو حين تقف الصحارى كالصحراء الكبرى دون توغلهم في عوالم القبائل المسالمة أو الدول القبلية المماثلة، يركزون على الخراج وتحصيله بكلِ دقةٍ وقسوة.
ولهذا فإن دولةَ المسلمين العامة، دولةَ المواطنةِ المفترضة، تضمحل، ومشروعُ التحديثِ الديمقراطي الأولي، مشروعُ تعاونِ الطبقات المختلفة يتلاشى، والرجالُ الارستقراطيون النخبُ(من الملأ) الجديد هم الذين يصوغون هذا العالمَ الطبقي الذي يصنعهُ ملاكُ وتجارُ العبيد وأصحابُ الخراج، في حراكِهم لاستعادةِ الجاهلية وقبائلها وفخرها وحروبها وتسجيل كل نأمةٍ من خرابها على أنه الوجود العربي الأبدي.
عالمُ الطوائفِ يتكونُ قليلاً قليلاً من نقاطِ العَسفِ المتراكمة، من تحولِ النصِ الديني إلى حروفٍ متيبسة عن الحياة أو أغلال، ومن عجزِ المعتزلةِ عن الدخول في الطبقة التجارية أو الطبقة الكادحة، ومن التلاعب اللغوي الفكري بين الطبقات، ثم عيشهم على فتاتِ الارستقراطية.
ظل الوعي الديني في تجريداتهِ أو ملموسيتهِ الفقهية التاريخية مركزاً على مطلقٍ خارج الخريطة الاجتماعية، وعلى جزئياتٍ إقتصادية واجتماعية متناثرةٍ متحركةٍ من قبل المطلقِ لا من قبلِ العياني الاجتماعي المتحرك.
ولهذا فإن منتجي الفكرِ والثقافةِ صاروا مثل الارستقراطية يعيدون أسبابَ الحركة الاجتماعية والغربة وغياب العدل واللامساواة وظلم النساء إلى عدمِ فهمِ المطلقِ الديني لا إلى الظروفِ المادية من تحكمِ الحكمِ وسوءِ توزيع الثروات وبناء الخراج من أجل الجيوب الخاصة لا من أجل مؤسسة الدولة، دولة المواطنين.
ولهذا فإن صانعي فكر الطوائف أكدوا على الولاء للمطلق ورفض الطوائف في حين كانوا يصنعون طوائف جديدة. معتبرين أن سبب الضياع الديني الاجتماعي هو لعدم فهم النصوص الدينية التي أعطتْ طائفتهم مكانةً عالية.
لهذا فإن حرمان الطائفة المميزة المختارة من السلطة هو سبب كارثة المسلمين الأبدية، في حين تؤكد الطوائفُ الأخرى انها هي المعبرة عن النص، والمطلق وروح الديانة والأمة وأن الطوائف الأخرى معدية وأنها منحرفة.
تغييب النص الديني عن نضاليته الديمقراطية الأولية وعن مشروع المدينة النهوضية اللاطائفية المشروع المجهض بسبب صراع الارستقراطيات على المنافع، هو بسبب هيمنات طبقية متعددة حولتْ سيطراتها إلى تملكٍ للنص والبشر، وأخرجتهم من الحراكِ السياسي المستقل وجعلتهم توابعَ لها.
حرمتهم من التعبير عن أنفسِهم كرجالٍ محرومين، وكنساءٍ ضائعاتٍ من العمل والانتاج ومن تشكيلِ الشخصية، وكمثقفين مستقلين يجسدون شخوصَهم لا أن يعبروا عن نماذج منمطمة في الحكم ويلغوا ذواتهم المتنامية في الانتماء للناس وللقيم الرفيعة.
يتحول الانتماء للطبقات المنتجة المتضادة ثراءً للمدينة الديمقراطية، حيث أسلوب الانتاج يجعل الناس تتصارع على تطوير ما هو عام للجميع وما هو خاص للطبقة والأفراد، وتصبح الطائفةُ وراءَ ظهورهم السياسية وتصبح الطبقة السياسية محل نقدهم وتطويرهم.
لهذا فإن إدارةَ المدينة لا تنظر إلا لدور القوى السياسية الانتاجي، وقدرة الجماعات السياسية على ابتكار المشروعات وتنفيذها ويجري حساب عملهم عبر هذه المؤسسات.
هي البداياتُ الصغيرةُ للخروج من عالم الطوائف.

عمال المدن وعمال القرى
إن ظهور العمل بالأجر بدأ مع دخول الشركات والبنوك الغربية إلى البحرين، وتركزت هذه في المدن، خاصة مدينتي المنامة والمحرق، وفيما قبل ذلك لم يكن نظام العمل بالأجر سائداً، وتحول بعد الأربعينيات من ظاهرةٍ محدودةٍ مرتكزة على عمال المؤسسات التجارية وجماعة عمال النفط، إلى نشاط إقتصادي سائد، وأختفت الأعمال غير المحسوبة بالأجر فتحول العمال إلى طبقة واسعة، مع تنامي فوائض النفط وظهور المؤسسات الحكومية والخاصة.
لم يكن لعمال ومزارعي الأنشطة السابقة كالغوص والزراعة، أجور محددة بل يتم التعامل معهم بالقطعة والأنصبة في عمليات الإنتاج، مما يزيل الحدود بين الأجر والسلف، مع غياب التسجيلات الدقيقة لمدد العمل وثماره.
لكن العمال بالأجرة أختلفت ظروفهم، وغدت محددة، ومحسوبة، وكان ذلك من جراء كون المؤسسات حديثة، ذات جذور غربية، وأدى تواجدهم في المدن وإنبثاقهم الواسع من الأجيال القديمة ومن تدفقات الأجيال الحديثة المتعلمة، ونشؤهم في ظرف نمو المنظمات القومية واليسارية الحديثة، أن تشربتْ الجموعُ بحداثةٍ معينة تلحظ في مسالكهم الشخصية، فلم يكن ثمة محدودية إجتماعية تسيطر عليهم، واتسم سلوكهم بالحرية، كالمشاركة في دور الطرب والغناء والسفر وحضور المسرحيات وقراءة الكتب والصحف، وفي الحي المدني كانت المؤسسة الدينية غير ذات سطوة على تفكيرهم، وبهذا تداخلت جموعهم التي هي في أغلبها جموع أمية أخذ التعليم طريقه إليها بتدرج طويل، مع تلك التنظيمات، التي نشرت بينهم أدبياتها.
كون هؤلاء العمال المدنيون على مدى عقود، أجيالَ المنظمات السياسية وخاصة اليسارية منها، وصار العمال الشباب قواعدها، مما زادها حضوراً في المؤسسات الصناعية والاقتصادية المختلفة.
وليس معنى هذا بأن القرى لم تكن تنتج عمالاً، بل كان يتدفقُ منها عمالٌ على مدى كل هذا التاريخ. لقد كانت منطقة سترة منتجة كبيرة للعمال، خاصة لشركة النفط ولأعمالها المختلفة من حفر الآبار إلى إنشاء مصنع التكرير والقيام بالأعمال اليومية المختلفة.
لكن عمال القرى أخذوا يتدفقون بمعدلات أسرع في سنوات لاحقة، خاصة في السبعينيات والثمانينيات وما بعدها بشكلٍ أكبر من عمال المدن، التي توقفتْ عن ذلك الفيض العمالي الواسع كما كان من قبل، فقد غدت الأنشطة الاقتصادية كثيرة، وجذبت القطاعات الحكومية العسكرية والأمنية العمال اليدويين خاصة، وارتفعت الأجور فيها، بينما غدت الأعمال اليدوية غير مرغوبة بها.
وتوسعت المدينتان المحرق والمنامة وخاصة الأخيرة التي أحتضنت الشركات والبنوك بشكلٍ كبيرٍ عما كان سائداً من قبل.
وهكذا فإن الفيضَ السكاني في المدن توجه إلى المهن الإدارية والفنية والاقتصادية، وتصاعدتْ الأنشطةُ الاقتصاديةُ الخاصة، وبهذا فإن الفيضَ العمالي تقلصَ وإن لم يختفِ تماماً، فما تزال هناك بروليتاريا تظهرُ ولكنها تتوجه إلى المهن الدنيا في الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة.
يمثل حراكُ العمالِ والشغيلة عامةً الأسسَ الموضوعية لجذور المنظمات السياسية المختلفة، فحراكُ عمالِ المدن بين الأربعينيات والسبعينيات، أنتجَ حراكَ المنظمات القومية واليسارية التحديثية، فكانوا هم القواعد الأساسية لتحركاتها، وبدون وجود عمال ذوي ثقافة مدنية متفتحة لم يكن بإمكانِ هذه المنظمات أن تجد مناصرين.
لكن الأحوال تغيرت مع توقف التدفق العمالي الواسع، وصعود الفئات الوسطى في المدن بصورةٍ كبيرة، وعوامل الضغوط على الحركات القومية واليسارية، فجنحتْ الفئاتُ الوسطى لخطاب اليمين السياسي خاصةً الذي وجدتهُ في الجماعات الدينية السنية، وفيما بعد توسع هذا أو رُحَّل إلى المدن الجديدة.
كما أن خطابات تلك المنظمات اليسارية خاصة ركز على العمال، في الوقت الذي أخذ حضورُهم المدني يتقلص.
زاد الحضور الريفي للعمال، وأخذت مناطقٌ كثيرةٌ في الريف وبعض الأحياء المدنية الفقيرة في خلقِ سيل من الرجال والشباب العمال، وغدا عمال القرى هم الأكثرية في واقع المنتجين البحرينيين وأعطى هؤلاء العمالُ المنظمات الدينية الشيعية حضورها وتوسعها. أدت مشكلاتهم وفقرهم الكبير وغياب الثقافة الحديثة إلى ضخامة لتلك المنظمات، رغم أن الجذور الاجتماعية تختلف بين هذه القواعد العمالية والقيادات الراجعة للملاك ورجال الدين.
إن تباين الفئات المكونة للطبقة العاملة البحرينية وتاريخية نشؤها المعقد، وتضاد الحداثة والتقليدية في تشكيلِ أجيالِها، جعلها غير قادرةٍ في الفترة الأخيرة على الوحدة والدفاع عن مصالحها بقوة، فهي لا تملكُ وحدةً فكرية نقابية قوية، كما أن وجود عمال أجانب أكثر منها جعل العمالَ البحرينيين في وضع منافسة قاسية، كما أن مشاعر الموجة(الدينية) نأتْ عن التوحد مع العمال الأجانب والدفاع عن ظروفهم، مما جعل الطبقة العاملة البحرينية والأجنبية في حالة إستغلال هائلة وظروف صعبة كبيرة.

مشكلاتُ عمالِ الريف
إستطاعت القوى المذهبية السياسية إختراقَ نضال شعبنا وحرفهِ عن مساره الديمقراطي التحديثي العلماني، وجاءت أكبر الضربات في شقِ صفوفِ الطبقة العاملة وتذييلها لمصالح الطائفيين السياسية، إبتعاداً عن مواصلةِ المسار الديمقراطي الوطني والتبعية لسيناريوهاتٍ خارجيةٍ مغامرة بالشعوب.
تتجسدُ في عمال الريف بؤرة هذه الأخطاء والمشكلات في البُنية الرأسمالية الوطنية المتفاوتة المستويات.
لقد عبر الريفُ في البحرين عن أوضاعِ رقعةٍ جغرافية صغيرة وطنية راحت تنمو في التحديث الرأسمالي بسرعةٍ شديدة مغايرةً لكافة البلدان الأخرى في المنطقة، بسبب الطابع الجغرافي الخاص وتنامي المدن وصعوبات وضع الزراعة، مع تقلص المياه الجوفية بصورة مستمرة، ولهذا فخلال عدة عقود تنامت المؤسساتُ الاقتصادية الصناعية الكبيرة مع تقلص الرقعة الزراعية، ووجدتْ القرى نفسها أمام فيضٍ سكاني مستمر، لم يهاجرْ للمدن بسبب القرب الجغرافي والقدرة على الدخول في سوق العمل.
لقد غدت الطبقةُ العاملة هي الطبقةُ الأكبر في مجتمعٍ غير زراعي، وغدت هي المؤثرُ الاجتماعي الهام على الحراك السياسي.
وقد دمجت الحركةُ الوطنية التحديثية بين المشكلات العمالية وقضايا التطور الوطني والديمقراطية، وحققت نقلةً مختلفة عن المسار التقليدي السابق، مما جعل العمال أساس التوحيد الوطني، فإنصهرتْ في المؤسسات الاقتصادية جماعاتُ السكان المختلفة.
هذه البنيةُ الاجتماعية هي لزمن بداياتِ النفط وقبل التسارع في أسعاره، وحين إندفعت أسعارُهُ للذروة، تبدلت البنيةُ الاجتماعية، وصار هناك فيضٌ كبيرٌ من الرساميل المحلية والخليجية والعالمية، ولم تستطع القوى العمالية الوطنية أن تلبي حاجات السوق من حيث العدد والنوعيات المختلفة ومن حيث تبدل قوة العمل وسوقها الخاص.
ضخامةُ الانشاءات العمرانية والاقتصادية ومشروعاتُ البنية التحتية الكبيرة جلبت قوى عمالية أجنبية واسعة، صارت هي الأكبر خاصة في القطاع الخاص.
بعض العمالة المحلية وقوى الموظفين وجدت لها مجالات في المشروعات المتطورة في الشركات الكبيرة والبنوك، وكانت هذه هي جزءٌ من مواليد الفئات الوسطى والعمال حيث كان ثمة تعلم جيد، في حين واجهت أجيالُ الريف والأحياء الشعبية الفقيرة في المدن مشكلات كبيرة أمام التشغيل وكانت من الصفوف التعليمية الدنيا أو من المتسربين من التعليم.
وقد واجهتْ هذه الأجيال من أبناء العمال أو المزارعين السابقين والحِرفيين والعاطلين المنافسة غير المنتظرة مع العمال الأجانب المتدفقين بوفرة والقابلين بأجور متدنية.
تصادمَ مستوى العمال الوطنيين المنخفض مع تدفق العمال الأجانب الوفير، وهذا مثّل أزمةً معيشية لهؤلاء الذين وجدوا نفسهم مطرودين من السوق أو مُهمشين فيه، وتوسع ذلك خاصةً في فئة الشباب.
ولم تشتغل الجماعات النقابية لدرس وحل هذه المشكلات بل عملت لتوظيفها سياسياً، وهو خط مثّل الطريقة المغامرة التي كانت تطفحُ في السنوات الوطنية والتي قللت من خطورتها نقابيةٌ ديمقراطية وأعمالٌ سياسية عقلانية، لكنها كانت موجودة رغم الصراع ضدها لضعف تقاليد النضال العمالي السياسي الديمقراطي وإنتشار روح المغامرة.
كان يُفترض النضال مع هؤلاء العمال الأجانب وضد الانخفاض المريع لأجورهم وسكنهم وعيشهم المزري، والصراع المشترك ضد الأجور المنخفضة وغياب قانون للحد الأدنى من الأجور والعمل لتغيير التعليم المهني البحريني، ومنع التسرب من المدارس، ومكافحة البطالة بشكل عميق ومستمر، ودعوة وزارات العمل والتربية والصناعة على حل مشكلات العمال الريفيين والعمال الفقراء عامةً وأوضاع النساء العاملات الاجتماعية المتخلفة سواءً من ضعف أجور النساء ومن إخراج البنات من التعليم أو من غيابِ رياض الأطفال في الريف والحرفِ والصناعات المخصصة للنساء وضعف التعليم التقني الزراعي والصناعي.
تفككُ أقسام الطبقة العاملة وعدم وجود قيادات موحَّدة ودراسات موضوعية عن أقسامها وأوضاعها حولها لطبقة ليست من أجل نفسها، وحوّل عمال الريف وعمال المؤسسات الصغيرة لكيان إجتماعي ضائع في السوق عاجز عن تغيير أوضاعه الصعبة وتطوير السوق الوطنية وتقدم المجتمع.

تفكيكُ وحدةِ العمال
لوحظ لسنوات سابقة نهج مختلف في نقابة عمال ألبا عن نهج قيادة نقابات العمال البحرينية، التي تمثل أغلبية النقابات والحراك العمالي البحريني منذ سنوات التحول السياسي.
وهذا النهج أعتمد على التعاون والصراع مع إدارة الشركة وتحقيق مكاسب مهمة للعمال، في حين لم نجد هذا النهج موجوداً بقوة في قيادة نقابات العمال. وربما كانت هناك نقابات تقوم بذلك النهج على مستوى بعض الشركات وبعض النقابات ذات القيادات المستقلة وتحقق مكاسب للعمال لكن هذا لم يتحول إلى خط نقابي واضح ومستمر.
نهجُ الصراع المسيّس الحاد ونهج التعاون الصراعي أخذا يبرزان بشكلٍ غامض خلال السنتين الأخيرتين، اللتين كانت مفصليتين في حياة الطبقة العاملة في البحرين، ربما كانا متشابكين وغير متبلورين نظرياً وسياسياً، حيث عاشت القوى السياسية والاجتماعية الطالعة من العقود السابقة بدون فكر إصلاحي ديمقراطي وطني واضح ومتبلور، وهذا ما أنعكس على وقائع الأحداث في السنة السابقة، وبرز نهجُ المغامرةِ السياسية الحادة خطيراً على مصائر العمال طبقياً قبل أي شيء آخر، فقد أُلحقوا مثلما كانوا يُلحقون سابقاً بأحداث سياسية إجتماعية دون قراءة لنتائجها ومصيرها، ودون أن تكون لطبقتهم رؤية وقرار مستقل لكن هذه المرة بشكل وطني مناطقي كبير وخطير.
فكانت الخسائرُ جسيمةً على العمال وأسرهم بشكل خاص، لكن الأخطر هو بقاء مشكلاتهم في الشركات والمصانع والأعمال المختلفة بدون حلول، كما أن مشكلات الأسعار وتصاعدها وغلاء الايجارات وكافة القضايا الأخرى المتعلقة بمعيشتهم تفاقمت بدون حلول.
أنتج نهج المغامرة تعطيلاً لمجلس النواب وفقدانه للحراك الشعبي والجدل الساخن على المستوى السياسي، كما أنتج تعطيلاً للعمل النقابي المواجه لمشكلات العمال المتفاقمة غير المحلولة خلال هذه السنوات، كما أضر بالعمل البلدي وغياب حركته التي كانت مهمة واعدة.
وصار هناك صوت واحد في البرلمان لا أثر له ولا قوة تأثير ولا جدال حيوي، مما يجعل البلد في حالةِ بطالةٍ سياسية كبيرة، على مستويي المعارضة والموالاة. أما الهذيان السياسي اليومي والإدعاءات بالنشاط فكلامٌ فارغ لا يُقنع حتى الصبية في الشوارع!
أكثر المتضررين من نهج الانقسامات وتمزيق كل حي وكل جماعة هم العمال الذين يعانون في كل جانب، في مؤسساتهم وفي الحياة الاقتصادية المتفاقمة الغلاء والمصاعب المعيشية وتدفق العمال الأجانب المساكين بدورهم في كل مكان يخطفون اللقمةَ من المواطنين.
حين يكون الحل بالانقسام يغدو الأمرُ مشكلةً. كنا نتمنى أن يعالج إتحادُ النقابات الأمرَ بالحكمة، ويصّعد الديمقراطيةَ في داخله، وكان تجمعُ النقابيين الذي جرى قبل مدة وحاول أن يحل الاختلافات، ويجمع النقابيين على كلمةِ توحيد، تم نقضه من قبل البعض في إتحاد النقابات، فلم يُصعِّد هذا البعضُ نهجَ التوحيد فكان لجؤ الطرف الآخر للانشقاق.
بطبيعة الحال هذا ما يفرحُ خصومَ العمال لكن العمال وحدهم هم الذين سيتضررون من هذه الانشقاقات، حيث لن يقف الأمر عند إنشقاق واحد بل ستتكاثر الانشقاقات والاتحادات مثلما حدث في الجمعيات النخبوية المتكاثرة كالعشب بعد الأمطار الشللية والنرجسية!
وكان يُنتظر من إتحاد النقابات أن يتوجه لحل مشكلات العمال في مؤسساتهم وشركاتهم، وأن يُحدث قراءات وحراكاً لفهم القضايا الاقتصاية وتقديم الحلول لها، وبدلاً من ذلك تكاثرت الخصومات بين النقابيين وتبودلت الاتهامات وكان هذا شيئاً مؤسفاً كما أنه أمر وطني خطير ومفجع، لكن ما ذنب العمال أن لا تجد القوى النقابية حلولاً لمشكلاتها؟ وكان يُفترض أن تتكرسَ لمشكلات العمال!
هل هو بسبب(ضخامة)أجور العمال؟ أم بسبب غياب المنافسة مع القوى العاملة الأجنبية أم هو بسبب الحضور الكثيف للبرلمان في قضايا العمال والدفاع عنهم وحل مشكلاتهم!
فيما النقابات مهيئة فقط للصراع السياسي ولإدخال الصراعات السياسية والمذهبية داخلها؟!
التسييس المطلوب هنا هو تسييس وطني لتفعيل البرلمان والبلديات والحريات العامة وتوحيد العمل النقابي الوطني الديمقراطي، لأن العمل النقابي لا يمكن أن يكون بلا سياسة، لكنها سياسة مسئولة ديمقراطية وطنية تراكم الإصلاحات وتطور قوى العمال سياسياً وثقافياً وأسرياً وصحياً.
إن الديمقراطية تتطور بعمال متوحدين وشعب متماسك ولديه أدوات التغيير والإصلاح منعزل عن ظروف وصراعات المنطقة التي تفرضُ مشكلاتها علينا، فيستقلُ عنها ويدرك إن إختلافه الوطني أمرٌ داخلي لا تستغله قوى خارجية أو داخلية فتوظفها لمصلحتها.
إذا كنتم مسلمين فالقرآن دعا للوحدة، وإذا كنتم تقدميين فالبيان يقول يا عمال العالم إتحدوا، وأنتم تفرقون الأزقة البحرينية عن بعضها البعض، وتُدخلون العمالَ البسطاء في مشكلات سياسية وخلافات ولديه الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يريد حلولاً لها.

العمالُ والطائفية: ظرفٌ عامٌ
يُفترضُ أن تكون الطبقات العاملة هي أكثر القوى الاجتماعية إبتعاداً عن مزالق التعصب القومي والشمولية الطائفية المحافظة، ولكنها أنزلقتْ كغيرِها من القوى الاجتماعية في نفس المسار الذي عقّدَ وأسنَّ وطيفَّ التطورَ الوطني الديمقراطي في كل بلد عربي إسلامي.
إنها قوى تعيشُ في ظروف قاسية وفي أعمال بسيطة خاصة عمال القطاع الخاص، حيث كثرة متنوعة من المؤسسات التي تعمل في مستويات مختلفة، وبإرادات كيفية في مسائل الأجور وظروف العمل.
إن تعقد مسارات التطور السياسي الاجتماعي في بلداننا وخاصة دول الخليج والمشرق العربي الإسلامي عامة يتمثل في عدم نضج التطور التاريخي السياسي، وغياب النضج هذا هو الذي أسسّ قواعدَ الرجوع المتعثر للماضي.
تكون الطبقتين المحوريتين في الديمقراطية الحديثة وهما البرجوازية والعمال جُوبه بعقباتٍ إقتصادية وإجتماعية وثقافية كبيرة، فزمنُ الاستعمار شهدَ صعود هاتين الطبقتين بحكمِ جوانب الليبرالية التي أشاعتها الدولُ الغربيةُ للهيمنةِ على المواد الخام المتوجهة إليها، رغم رثاثةِ أوضاع الشغيلة في المؤسسات النفطية والاقتصادية الأخرى، والتي كانت تقبلُ أية أجور متدنية وهي النازحة من الأرياف الفقيرة والمهن البحرية والحِرفية المختلفة وبلا تجارب نقابية وسياسية، لكن كانت تتواجد جوانبٌ من الحريات التي ساعدتْ على تطور الوعي النقابي والسياسي المحدود، فقد كانت الدولُ الغربية تريدُ من الدول العربية والإسلامية نسخَ تجربتِها لكن بدون توفير أسسها الموضوعية سوى فتاتٍ منها.
توفيرُ الأسس التحديثية الغربية من صناعات متطورة وقوى إجتماعية منبثقة منها، وحريات مواكبة، هو هدفٌ ظلَّ مثل السراب في حين كان الواقع هو العودةُ للوراء، والمضي نحو المجتمعاتِ التقليدية الطائفية! والأخطر نحو المجتمعات الدينية المتقاتلة ضد بعضها البعض كما يجري حالياً!
وهكذا قامت الانقلاباتُ العسكرية والإيديولوجية بتزييفِ الوعي الثوري، وإحلال الماضي الطائفي بديلاً عن المعاصرةِ العلمانية الديمقراطية، فكانت الانقلاباتُ تنحدرُ نحو الطوائف عبر رفض الحكوماتِ المختلفة المنبثقة منها أو المختلفة معها، للنموذج الديمقراطي العلماني، فالحكوماتُ عبرتْ عن قوى ارستقراطية عليا في طوائف غدتْ هي روابطُها وقلاعها في ظل رفضها للنمو الديمقراطي العصري، ووجدت نفسَها بتفاقم إمتيازاتها وتراكماتها المالية غير قادرة على الديمقراطية، فكان أن شجعتْ القوى الطائفية للعمل السياسي الواسع، أو أن العسكريين الكبار تحالفوا مع رجال الدين الكبار من أجل حَرف التطور السياسي نحو ضبابٍ إجتماعي يُصّعدُ الصراعَ الحربي بين الأمم والقوميات الدينية المختلفة بدلاً من عقلانية الصراع السلمي الديمقراطي الداخلي.
كان العمالُ أكبرَ الضحايا من جملة التطورات العاصفة، فأرتفاعُ قيم وسائل المعيشة المختلفة، ساير الإزدهارَ الزائفَ للعولمة، حيث كل السلع الجديدة معروضة إضافة إلى ثورة وسائل الاتصال والبناء والديكور، لكن المشترين قلةٌ في ظل أن مجالاتِ العمل محدودة، وقابلة للاختراق الواسع من قبل العمال الأجانب الذين هم ضحايا عماليين على مستوى القارات، لكنهم يزاحمون رفاقهم الوطنيين، ويطردونهم خارج السوق، واتسعت الاختراقاتُ للأسواق الوطنية عبر تفجر حروب إقليمية، أو عبر صراعات طائفية حادة.
وهذه المساراتُ عبرت عن رفض الدول العربية والإسلامية المستقلة السير على النموذج الديمقراطي الحديث، وتوجهها للسوق المعاصرة ببُنى وهياكل إقطاعية سياسية وإيديولوجية. فحمايةُ السوق الوطنية وإنتاج رأسمالية وطنية قوية وبعمالها الوطنيين المتطورين هو صلبُ التطور السياسي الديمقراطي المعاصر، لأنه لا ديمقراطية وحرية وطنية مع عمال عاطلين ومتخلفين، لكن هذا معدوم عبر هيمنة الرأسماليات الحكومية وإهتمامها بأرباحها، فيما القوى الرأسمالية المحلية المُحاصَّرة تلجأُ للعمال الأجانب ومستويات متخلفة من القوى من أجل البقاء في الأسواق المشتعلة.
وكل هذا يؤدي لتآكل الأسواق وتوجه الفوائض من أرباح المؤسسات الحكومية والخاصة، أو من العمال الأجانب، إلى الخارج لتنمية رأسماليات أخرى وراء الحدود! فيما تزداد العروضُ في الأسواق الوطنية تأزماً ويتدهور الطلب.
هذه الارتباكات في السوق تصعدُ الوعيَّ الديني المحافظ، حيث يغيبُ الفهمُ العقلاني وإدراكُ الأسباب ويغدو الغيبُ تعويذةً سحرية لحل كل المشكلات العصية، فالجمهورُ العمالي يعود لوعيه الطائفي وهو يرى السلعَ والأجور تتبخر من بين يديه العاملتين بقوة، فيلوذُ بنصوصه الدينية وعباداته، لكي تنجيه من ظروف مادية تعصرهُ كل يوم، وهي جوانب تساير الطبقات العليا المسيطرة على الفوائض والسياسات غير الديمقراطية والإعلام والمؤسسات الدينية، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، فتتصادمُ مع بعضها البعض بدلاً من تكوين منظومات إقتصادية حديثة متعاونة وتقود الصراعاتُ والحروب للمزيد من الانهيارات والطائفية واللاعقلانية السياسية.

العمالُ والطائفيةُ: إبعاد التحديثيين
نشأت مؤسسةُ المصنع في العالم العربي الإسلامي بشكل غير تاريخي متدرجٍ ممتدٍ في الشبكة الاجتماعية الثقافية، بل كطفرةٍ داخلية وإستيراد، فخضعت للخيارت الذاتية للأفراد والجماعات والدول.
إعتمدت هذه المؤسسةُ على العلاقة الصراعية التعاونية بين الرأسماليين والعمال، وعبرتْ عن إنتقالها من التعسف والاستغلال المطلق إلى التعاون والديمقراطية الاقتصادية والسياسية، وعبرت عن تاريخ غربٍ أوربي خاص، إحتاجَ لعقود طويلة ليتجذر في غرب أوربا نفسها ثم إنتشر بصعوبة في بقية الغرب.
نشأةُ المصنعِ في المشرق العربي الإسلامي نشأةٌ مختلفة، ولم تكن تحولاً إستراتيجياً حتى ظهر المصنعُ بشكل مصنع تكرير النفط.
ظهورُ المصنع في المشرق بهذه الصورة كان علاقةً صراعية تعاونية مع الغرب، تمثلت بهِ ما ظهر في نشأة المصنع في الغرب والتسلسل التاريخي له من تعسفٍ وإستغلال ساحق حتى تعاون ديمقراطي.
لكن الجماعات السياسية المشرقية لم تفهم هذا الحضور الثنائي الصراعي، فقد تصورتهُ ملكيةً أجنبية على أرضها في البداية ثم تصورتْهُ ملكيةً وطنية خالصة لمن يسودُ الدولَ المشرقية المستقلة.
هذه الخليةُ الانتاجية المهمة التي اسمها مصنع التكرير واكبتها خليتان أخريتان هما الحزب الرأسمالي والحزب العمالي.
لقد أعطى مصنعُ التكرير وهمَ العلو والطيرانِ على الواقع المتخلف، فخلال ومضةٍ من عمر الزمن كان المالكون له قادرين على إمتلاك السيارة والقطار والطائرة والتحليق في الفضاء السياسي.
لقد توهموا الحداثةَ والمساواة مع مكتشف النفط ومستخرجه ومصدره ومستغله أبشع إستغلال حينذاك وهو الذي يمتلكُ شبكةَ التصنيع والتحديث والمواصلات والعلوم.
إن التحولات المفاجئة التي خلقتها فوائضُ النفط أوهمت الخليةَ الرأسماليةَ المبكرة إنها قادرة على المغامرة السياسية، سواءً بتأميم النفط أو بتحرر البلدان من الغرب. تجلى هذا في روسيا ولدى مصدق أو في العراق. وقد تحول الوهمُ لديها إلى كوارث وطنية.
كما تحول ذلك في الخلية العمالية إلى وهم آخر هو إمكانية التخلص من الرأسماليين، وهذا قاد لصناعةِ إيديولوجيات الطيران السياسي فوق الخرائط الموضوعية.
المصنعُ الغربي الذي تجاوز الثنائيةَ الصراعية المطلقة بعد عقودٍ طويلة إحتاج لشبكات إقتصادية وإجتماعية وتعليمية كثيفة لم تتشكل إلا من خلال الصراعات العنيفة بين طبقتي الانتاج، لكن العلاقات التي تطورتْ ديمقراطياً أتاحت تجنب الحروب والخسائر البشرية المنتجة وتلاشي الثروة المادية.
ولكن المصنعَ المشرقي النفطي خاصة إعتمد على التحليق فوق الظروف معتمداً على الوفرة المالية التي يتيحها معملُ التكرير الذي لم يستطع أن ينتجَ مصانعَ حقيقيةً مغايرة للنفط ومشتقاته، بل واصل إمتداده في مصانع خامات له، معبراً بهذا عن عدم قدرته على خلق ثورة صناعية حقيقية، وجسّدَ توسعاً إستهلاكياً ورساميل عقارية ومصرفية وخدماتية متسربة للأمان المالي وتاركةً الوطن العربي في جوع تنموي.
الطبقاتُ التي تملكتْ معامل التكرير أزاحتْ الرأسماليين والعمالَ معاً، وتوجهت الفوائضُ لجوانب تحديثية مظهرية، وراكمت الطبقاتُ الرأسمالية البيروقراطية الفوائضَ لديها ولم تعد لقوى الانتاج أي للرأسمالية الخاصة والعمال، وانتجت حشوداً من البرجوازيات الصغيرة التي إعتقدت قدرتها الكلية وإزاحت كل القوى وبهذا تتالت المشروعاتُ السياسية القوميةُ والشيوعية والطائفية أخيراً الكاسحة.
لم تعد الفوائضُ لهياكل الانتاج وتضخمتْ الجوانب الاقتصادية الاجتماعية الثانوية، فثمة ملايين المتاجر للاستهلاك ولا مصنعاً واحداً لصنع سيارة أو طائرة.
بتهميش الطبقتين المنتجين الرأسمالية والعمالية تم تكرار الوعي الطائفي الذي يكرسُ البقاءَ في العصر الإقطاعي بما فيه من تفتيت البلدان والجماعات والأحزاب والطبقات.
ولهذا يشكل الوعي الطائفي السياسي الأخير الراهن محاولة أخرى لإبعاد التحديث الديمقراطي العلماني وفرض شموليات طائفية محافظة، ولهذا يلعب النفطُ أو مؤسسةُ تكريره دور تصعيد هذه الجماعات وإشاعتها ودعم فصائلها من فوائض النفط والغاز، بقصد الحفاظ على الطابع المحافظ للدول العربية الإسلامية وعدم إنتقالها للحداثة الحقيقية.
إن مؤسسةَ التكرير النفطي لم تجعل المصنع رائداً واسعاً تحويلياً وبالتالي رفضت حضور الطبقتين المنتجتين وغذت وعيهما بالأوهام، والكرة التاريخية في ملعبهما وبضرورة إستعادة دوريهما.

العمالُ والطائفية : وحدةُ المصنع
تتكرس الوحدةُ الوطنية ليس في الشوارع بل في المصانع أساساً.
المصانعُ هي الخلية الرئيسية لانتاج الوحدة الوطنية والعقلانية السياسية.
العلاقات الصراعية بين الرأسماليين والعمال تؤدي تاريخياً لتأطيرها ضمن الوحدة الصراعية، وبدونها تتعرض المجتمعات والتجارب السياسية للتمزق والفشل والعودة مجدداً إليها.
إن أرباب العمل لا تدفعهم إلى المشروع الصناعي نزعاتٌ خيرية بل البحث عن أرباح متصاعدة وسريعة لو أمكن.
إن أوضاعَ السوق والمتاح المفيد من المشروعات هي المحركات السريعة للمخاطرة برأسمالهم، وهذا الوعي المباشر النفعي هو ما يتكرسُ غالباً وطويلاً في الفهم التجاري السائد، وكل ما كانت دورةُ رأسِ المال سريعةً ومفيدة وخالية من المخاطر الاجتماعية والسياسية كلما كان ذلك هو الأفضل.
أما تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاهتمام بطبيعةِ العمال الفكرية والوطنية فهي خارج الوعي النفعي المباشر، ولكن تلك الأوضاع وطبيعة العمال الوطنية هي أمورٌ جوهرية تؤثر في مصائر المصنع والحياة الاقتصادية عامة.
ورب العمل الكائن الاقتصادي النفعي المباشر يتطور ويفهم الأوضاع التاريخية التي تؤدي لازدهارِ بنية إقتصادية معينة وإنهيار بنية إقتصادية أخرى.
فالعمالُ ليسوا كماً بشرياً بل هم طبقةٌ شديدة الأهمية والضرورة للمصنع، وبدونها وبدون تطورها وإعادة إنتاجها في الأجيال القادمة، لا آفاق تاريخية له.
تفجرت الأزماتُ الوطنيةُ والتاريخية في البلدان المختلفة حين تفجرت الأزمات في المصانع بدايةً، فعملياتُ التسريحِ الواسعة، أو الاعتماد الكثيف على العمال الأجانب بدون خطط للتطور الوطني، كانت هي المصادر الأساسية للأزمات السياسية الطاحنة عبر العقود.
أرباب العمل في تسريحهم للعمال أو في تفضيلهم للعمال ذوي الأجور الشديدة الانخفاض الأجانب كانوا يلغون الوحدةَ الوطنية في المصنع.
هذه الأوضاع أدت للقلاقل الاجتماعية السياسية الطويلة وغالباً ما يرون الربيع العربي بدون هذه السببيات الجوهرية. فقد إختلتْ الوحداتُ الوطنية على مستويات المعامل والمناجم والممتلكات الحكومية الاقتصادية أساساً وفاضت على المجتمعات.
المنجمُ يقدم مواداً ثمينة للشركة الحكومية ويقدم أجوراً شديدة الانخفاض للعمال وتقوم القوى الوسيطة: المقاولون والإدارات الحكومية والبنوك الحكومية والخاصة، بالاستفادة الأكبر من الفوائض الاقتصادية، بحيث تتحول المنطقة المنجمية أو الصناعية، إلى حزامِ فقرٍ وحين يتكاثر الأبناءُ بدون قدرة على الدخول في المناجم والمصانع والاشتغال في مهن هامشية كما حديث لبوعزيزي، فيؤدي ذلك لقيام قوى غير منتجة خاصة الأحزاب بإستغلال الأزمة والصعود للسلطات، ولكن المنجم يُتركُ في فقرهِ ولعدمِ تغيير العلاقات داخله ويُطلب منه الاستمرار في الانتاج داخل نفس الخريطة الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة!
وذلك لأن عمالَ المنجم وأرباب العمل لم يتفاوضوا هم ويشكلوا وحدةً سياسية وطنية ويحددوا دور المصنع أو المنجم في الحياة الاقتصادية السياسية المشتركة وكيفية تطور الشبكة الصناعية العمالية التعليمية في النطاق الوطني بأسره بحيث لا تعتمد على الوسطاء الطفيليين وبحيث تتكاثر المصانعُ من خلال الفوائض النقدية ويتم تطويرها التقني المواكب للعصر.
الوحدة الوطنية هي من خلال هذا الصراع التوحيدي الرأسمالي العمالي فيقوم إنقسامُ الجماعاتِ على أساس موقعها في الانتاج وليس على أساس عقيدتها الدينية، وعلى إختلافِ مفاهيمها في كيفية توزيع الفوائض الاقتصادية، وكيفية تطوير القواعد الاقتصادية الوطنية، ومحاربة البطالة والفقر وضعف المدارس الصناعية وعادات البذخ والكسل والأدمان الجماهيرية، فثمة نقاطٌ مشتركة وثمة إختلافاتٌ، وهذا يجري عن طريق تيارات سياسية تبلورُ هذه الاختلافات وتعمل أعمالاً مشتركة أو أعمالاً فردية في ظل الاختلاف الوطني التعاوني تحت قبة البرلمان.
الوعي النفعي المباشرُ للطبقات يظهرُ من خلال النزعات العفوية الصراعية المؤثرة على تطور المنتجين، وعبر تركِ قوى سياسية تستغلُ هذه الصراعات لمصالحها الذاتية، ولهذا فإن حزبي أرباب العمل والعمال يكونان مهمين في حضورهما التاريخي القائم على إنتاج المعرفة الاقتصادية السياسية الاجتماعية لكلا الجانبين، ولوجودِ المصانع ومستقبلها الاجتماعي والتقني وعلاقاتها بالأسواق وبالمواد الخام المتجددة وعلاقاتها بالعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية وبتطور القوى المنتجة، وعبر الارتفاع عن هذا الوعي النفعي المباشر لكلا الفريقين، هذا يهتم بأرباحه لأقصى درجة وذات يهتم بأجوره لأقصى درجة.

العمال والنقابات والطائفية
كان العمالُ السوفييت هم مؤسسو الحكم (الاشتراكي) وتحرر القوميات في الشرق حيث قامت تضحياتُهم في بناء المصانع وتقديم الفوائض المالية للطبقة الحاكمة بل وقبل ذلك في القيام بالانقلاب المسلح وتأسيس الحرس والجيش وصنع الدولة الموحَّدة والدفاع عن حدودها ضد كافة المتدخلين والغزاة، أي أن دورهم كان محورياً، لكن السلطة كانت بقيادة فئة من البرجوازية الصغيرة، راحت تنفصلُ بعد عقودٍ عن هؤلاء العمال وورثتهم في الإنتاج.
غيابُ الديمقراطيةِ وعدمُ مراقبةِ الفوائض وبالتالي عدم معرفة التكوينات الطبقية في نموها داخل أجهزة السلطة وكيفية تشكل الفئات الجديدة من خلالها في المجتمع على مدى تلك العقود وكيفية سدها لمسام الديمقراطية الشعبية الأولى أدى إلى إنفصال العمال عن السلطة وعن التضحية من أجلها.
أشكالُ الوعي الوطنية التوحيدية التي رافقت عملية البناء المؤسِّس راحت تنهار مع إنفصال الحكم عن العمال، لنجدَ أن المؤسسات التوحيدية والحزب القائد والرؤى التقدمية والنقابات العمالية تتعرض للتبدل الهائل والانقلاب على أدوارها وهو أمر جرى في أغلب دول العالم النامي.
يمكننا هنا أن نقرأ تجربتَنا الوطنية البحرينية العمالية على ضوء ذلك مثل كل التجارب البشرية المعاصرة خاصة، فالأفكارُ الوطنية التي خُلقتْ عبر المنورين في بدايات القرن العشرين خاصةً والتي تغلغلتْ في الأندية ما كان لها أن تؤسس نضالاً وطنياً تحررياً من الاستعمار لولا إيمان العمال بها، مترافقاً ذلك مع الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية في المنشآت خاصة النفطية منها.
وهذا النضال إتسع وتجذر في العقود التالية جاذباً إليه فئات مختلفة. ولهذا كان الاستقلال الوطني ونشؤ المؤسسات الدستورية مترافقاً مع النضال العمالي وزيادة مكاسبهم.
إن نشؤ رأسمالية الدولة في السبعينيات وإتساعها كان حجز الزاوية للتطور الاقتصادي الوطني ولكن إنفصالها عن العمال بعد ذلك، وهو الذي ظهر في حل المجلس الوطني وغياب المؤسسة البرلمانية، وتسرب الفوائض في جهات غير مراقبة أدى بعد سنوات لانفصال العمال عن التوحيد الوطني.
فمختلفُ الطبقات والفئات راحت تبحث عن مصالحها الخاصة، عبر الأشكال المباشرة من الوعي الديني.
كان الوعي الوطني الذي نشأ عبر عقود القرن العشرين وتعملق في الستينيات وفي زمن الاستقلال وتكرس في الدستور، لم يجد أدوات تطوره في المؤسسات السياسية والاجتماعية المختلفة المشتركة.
وكانت بعض التيارات هي المشغولة بتأصيل الوعي الوطني وترافقت مع بذوره ونموه الكبير، وهي كذلك إنفصلت عنه، عبر التركيز على الوعي الطبقي المستورد من الرأسماليات الحكومية الشرقية، والذي أغنى الثقافة الوطنية بأدوات تحليل جديدة متطورة عن مستويات هيئة الاتحاد الوطني خلال عقدين لكنه لم يتطور ويواكب المرحلة الجديدة ولم يتح له الاندماج مع العمال ويقيم تحالفهم مع الفئات الوسطى التحديثية، فيما كانت اللجان المشتركة سائدة ولم ترتفع إلى مستوى الوعي الديمقراطي بالصراع الحر الوطني المتحد كذلك بين العمال والإدارة، بين العمال والرأسمالية الحكومية أو الخاصة. وهكذا تدهورت أدواتُ الوعي الوطني والوعي العمالي المستقل بسبب غياب تلك العلاقات الصراعية الاجتماعية الوطنية وأتيح للطائفيين السياسيين أن يتغلغلوا من بين هذه الثغرات.
إنفصالُ كافة الطبقات والفئات وإنكفائها نحو مصالحها الخاصة خلال عقود رأسمالية الدولة الشمولية، أدى إلى غياب أشكال الوعي الوطنية المنتجة خلال العقود السابقة، وبالتالي الرجوع لما قبل تلك المرحلة.
نشؤ النقاباتِ الطائفية كان نتيجةً إذن لتدهور الوعي الوطني، حيث كان لا بد لرأسماليةِ الدولة من أن تكون محوراً لكافة العمليات الاقتصادية الاجتماعية الثقافية وعبر أدوات الديمقراطية، وبحيث تتوزع الفوائض بأشكال وطنية وإنتاجية عادلة على مختلف المنتجين العماليين والرأسماليين الوطنيين، كما بدأت عملية التغيير في الوقت الراهن والتي تحتاج لتعميق واسع.
عودتنا لتلك المرحلة الوطنية ولأشكال وعيها وتطويرها لمستجدات العصر حيث أن خسائرها لا تزال تعرقل تطورنا الوطني فلا بد من عودة العلاقات الديمقراطية الصراعية الموحَّدة بين العمال ومختلف أرباب العمل سواءً في الشركات العامة أو الخاصة، بحيث يجد العمالُ مصالحهم تلتقي والتمسك بالدولة الوطنية ومؤسساتها، وبرامج التحول الدستورية فيها. وحين تتمكن هذه المؤسسات والقوى النقابية المتخلية عن الطائفية السياسية والمنتجة وحدة وطنية وتعددية ديقمراطية من تطوير حياة العمال الاقتصادية فإن أشكالَ الوعي الطائفية السياسية سوف تذبل كذلك.
إن الكثير من أشكال الحياة والظروف كالصحة والتعليم والبرلمان والبلديات وغيرها تتداخل والمؤسسات العمالية النقابية والمؤسسات الاقتصادية الانتاجية، وهي تتأثر بمدى نشاط العمال السياسي وممثليهم والجماعات السياسية المدافعة عن تطورهم وهي كلها تتجمع وتصب في تطوير المجتمع بشكل ديمقراطي.

العمال وواجب النضال والتوحيد
لم تستطع التطوراتُ الاقتصادية السياسية الإيديولوجية أن تُظهر سوى عدة قوى بحرينية ذات حضور جماهيري وبينها التفاعل الإصلاحي الديمقراطي ضعيف.
قوة الدولة وفيها تمت قيادة البناء الاقتصاد الواسع خلال أكثر من نصف قرن، وشكلت الشركات العامة ومن خلال إدارة صعدت بمستوى البناء بشكل كبير ونتج منها كذلك مشكلات إقتصادية وإجتماعية وسياسية لم تتم معالجتها.
ورغم الفيوض المالية الكبيرة خلال نصف قرن من تدفق الثروة النفطية والانفتاح السياحي عبر بناء مئات الفنادق والشركات المالية ووجود أنظمة رسوم دقيقة على كل سلعة مستوردة وكون مشروعات الإسكان تجارة رابحة للدولة وتدفق المساعدات كذلك من دول الخليج إلا أن وضع الدولة الاقتصادي يتضح من خلال إجتماع لمجلس الوزراء الأخير الذي بحث:
في(عدد من الخيارات لمعالجة الاختلالات المالية بتفعيل برامج للضبط المالي لتقييد الديّن الحكومي العام وخفض نسبته الى الناتج المحلي الاجمالي، واعادة هيكلة الدعم واستهداف توجيهه الى مستحقيه)، وهو الامر الذي اقترن بتشكيل لجنة على مستوى عال لترشيد المصروفات وضبط النفقات الحكومية ومعالجة أوجه الاختلالات المالية.
فمرئياتُ مجلس الوزراء تتجه للخارج الاجتماعي الشعبي وليس لأداء الحكومة خلال عقود، وتحويل قضية الفساد وإلتهام الملايين من قبل الهمين إلى مشكلة للضبط المالي وتقييد الدين الحكومي! ورغم ضخامة الطاقات الاقتصادية المستنزفّة من الأموال العامة فهي تتجه لوضع العبء الحكومي المستمر عن الخدمات الاقتصادية والصحية والتعليمية وتحميلها للسكان، لتتوارى عبر هاتين العدستين الحكوميتين الذاتيتين القضايا الحقيقية لتتجه نحو (إعادة هكيلة الدعم الحكومي وضرورة توجيهه لمستحقيه)!
وبهذا فإن الإدارة الحكومية كقوة سياسية مهيمنة لم تنجح خلال السنوات الأخيرة في تغيير المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحرجة، فهي مترهلةٌ وهائلةُ الإنفاق، وهي تستطيع أن تتبدل لكنها لم تحصل على آليات تغيير إدارة الثروة العامة حيث هي لوحدها في التنفيذ فيما القوى الاجتماعية السياسية خارج عمليات الجدل السياسي والمساهمة الفعالة الإيجابية.
ولكن على ضخامة حضورها في المجتمع فلم تكّون قوةً سياسيةً مؤيدة لها بشكلٍ فعال ومنظمةً قادرةً على الدفاع الإيجابي عنها، وإصلاحها عبر وجود مرونة سياسية تنظيمية وقدرة على تحويل إدارة الدولة لقيادة ديناميكية إقتصادية سياسية للمجتمع، بمعنى أن تحول الوزارات لقيادات تنفيذية قادرة على تقليل نفقات الإدارة وتغيير البيروقراطية الواسعة المهدرة المتنفذة ولصناعة مشروعات مفيدة جماهيرياً.
وهذا الوضع الحكومي العام السياسي إنعكس على القوتين السياسيتين ذات الجمهور.
فالجماعات السنية المؤيدة للدولة ليست لديها رؤية نقدية تحليلية عامة للنظام تقوم على تنفيذها بقدر ما هي تعتمد على الصعود السياسي المالي خلال عقود طويلة سابقة، ومحاولة فرض السياسات المحافظة التي لم تكن تقبلُ بها الدولةُ نفسها ولا النخب المتطورة من السكان، نظراً لوجود منحى ليبرالي كبير في توجه الدولة، وقد برزت هذه الجماعاتُ السنية السياسية المحافظة في السنوات الأخيرة خاصةً لكونها تعارضُ الجماعات السياسية الشيعية فلم تساهم في إصلاح الدولة خلال تلك العقود أو تمد أيديها لتغيير أوضاع الناس ومساعدة الحكم في التغيير فصعدتْ لإحداثِ توازن سياسي أكثر من أن يكون لها دور تحويلي واضح، وهو أمرٌ يفترض أن يتغير وتُخلق ديناميكية فكرية تحليلية لقضايا الناس وعلاجها.
وكانت وما زالت الجماعات الشيعية ذات سياسة معارضة للنظام من الخارج ولظهور نظام شيعي مقابل للنظام السني، وهو أمرٌ جعلها في السياق الإيراني الانقلابي المتصاعد في السنوات الأخيرة خاصة.
ولهذا نجدها مثل الجماعات السنية المحافظة رغم الجمل الثورية الصاخبة، بلا برامج عملية محددة ملموسة لتغيير أوضاع الوزارات والمشكلات الجماهيرية مركزة على الشعارات السياسية العامة المجردة التي تمثل مناطحات وليست سياسات ممكنة وليست علاجات حقيقية لظروف البشر، إن عدم دخولها في النظام ومعالجة المشكلات بصور حقيقية يجعلها ضعيفة سياسياً وبلا خبرة في الإدارة فلم تتعلم شيئاً خلال هذه العقود إلا في مسائل البلديات.
أما الجماعات التحديثية اليسارية خاصة فهي لم تُعط أي فرص للحضور والمشاركة بل على العكس جُوبهت طويلاً، ويُفترض أن تكون لها سياسة مستقلة مشاركة لجهود الحكومة والبرلمان المختلفة في التغيير وإزالة المشكلات عن الناس، لكي تبرزَ وتعرف الحياة السياسية الاقتصادية الحقيقية وتساهم في تطوير البرلمان.
إن كل المشكلات الاقتصادية والسياسية تنزل فوق رؤوس العمال في النهاية، والفئات السياسية الوسطى تستطيع أن تعيش بظروف جيدة، لكن إنشقاقات القوى السياسية ترك أثره على الطبقة العاملة القوة الوحيدة الرئيسية القادرة على طرح مطالب الشعب وتطوير الإصلاح، ولهذا لا بد للقوى العمالية من رؤية منابع الفساد وهدر الأموال العامة وعرض ذلك في الكتابات والمطالب وفي البرلمان والبلديات، بدون تشنجات وفوضوية، بحيث تعود الفوائض المالية للسكان.
إن موضوعية الطبقة العاملة ومتابعتها جذور المشكلات والتقدم بخطوات نقد وطرح حلول وكتابة دراسات عن هذه القضايا العميقة واليومية هي المسائل المطلوبة من قيادات النقابات وهي العملية النضالية التي سوف تتجه لتوحيد الطبقة العاملة وحين تتوحد ويكون لها شأن في النضال العام ستوحدُ الشعبَ وتتغير التيارات السياسية السائدة.

تسريحُ العمالِ ومسئوليةُ الانتهازيين السياسيين
لم يعدْ لشعبنا العامل أية أداة للدفاع عن مصالحه، فحين تتجرأ شركةٌ على تسريح أكثر من ألف عامل بكل بساطة وهي التي ضُخت فيها الملايين من عمله وقوته، فإن أكبر النقد يوجه للقوى الشعبية التي نزعت كلَ أدواتها النضالية الديمقراطية وجلستْ على طريق التسول العامة وتستجدي وتمدها يدها حسنة سياسية لله.
هذه عينةٌ صغيرةٌ لما يحلُّ بالجمهور العامل، الذي تمت قيادة جماعات مؤثرة منه في المغامرات السياسية، دون قدرة منه على خلق قواعد حقيقية صلبة للدفاع عن مصالحه الاقتصادية والاجتماعية خلال عقود من المراهقة السياسية.
ضربُ وحدة الشعب البحريني كانت هي المنجزُ الأولُ الكبير لهذه الجماعات السياسية الطائفية، عبر تشغيل موادٍ مذهبية مستوردة ونقلها للمجال السياسي وحشرها في لحم الناس، والحماس الصاخب لها، وعدم المبالاة بكوارثِها المتتالية، وإنتاج حراك الطوائف كان المعول الأول لضرب وضع العمال.
وبطبيعة الحال لم يكن العمال وحدهم من تعرض لشق الصف، فهناك التجار والشرائح المختلفة من الصناعيين والعقاريين وغيرهم، الذين تضررت مصالحها من محاولة فرض إرادة طائفة من قبل مجموعات من الطائفيين السياسيين الصاخبين وهو الأمر الذي نقل تناقضات الطائفية السياسية الفوضوية إلى المناطق التجارية والسكنية المختلفة.
إستكانت مجموعاتٌ من السكان لإرادةِ الطائفيين السياسيين اليمينيين المعادين للكادحين لعدم وعيها بجذورِ هؤلاء الطبقية وتصورت إنهم يمثلون طائفة وليس إنهم مجموعات من البرجوازيين الصغار الفوضويين التابعين لرجال الدين الإقطاعيين.
نقص الوعي الطبقي السياسي لدى السكان البسطاء سهلتْ ووسعتْ تمزقاته الجماعاتُ المدعيةُ الأنتماء لليسار والقوميين، التي لم تعر الطابع الطبقي لهؤلاء الطائفيين اليمينيين وتركتهم يوسعون دوائرَ نفوذهم في السكان، بحيث غدا هذا النفوذ تعطيلاً لكل وحدة ممكنة، وبل للحياة العادية الآمنة، ولهذا نقلتْ الأزمة والوعي الذيلي الانتهازي لهذه التنظيمات نفسها، فأقالت نفسَها من الحياة السياسية الحقيقية وغدت أداةُ زفةٍ لا أداة موقف نضالي صلب.
إستطاعت هذه الجماعات أن تشل التطور الديمقراطي الممكن للشعب، بتعطيل أدوات المجلس النيابي، الذي كان مشروعاً مفيداً لكنه تعرض للانقسام الحاد ثم للعجز السياسي الراهن.
كان البرلمان مطلباً مرتبطاً بتطور الديمقراطية، ووحدة الناس، وتطور وعيهم السياسي الوطني، لكن الاختطاف الطائفي لم يُرد سوى هيمنته الطائفية وإرادته المفروضة على الشعب، ولا يعبأ بظروف الشعب ومعاشه وتضحياته.
في هذا التعطيل الواسع للبرلمان والنقابات والبلديات ماذا يمكن أن يفعل غيرهم سوى أن يبقوا كطائفةٍ أخرى مختلفة؟
لكن هل يمكن بطائفيةٍ مضادة أن تتحقق مطالب الناس في تطور العيش وحل مشكلات البناء الاقتصادي؟
والعملُ بطائفيةٍ مضادة هو تكريس نفس الفعل الخاطئ، ولا يمكن تصحيح الطائفية إلا بوعي وطني مسئول، يعيدُ بناءَ ما دمرهُ الطائفيون السياسيون منذ البدايات التمزيقية، عبر الوقوف ضد شبكاتها وآراءها ومجمل عملها.
بدون ذلك يستمر الشللُ لكافة الطبقات، فالعمالُ يُفصلون ولا يجدون قوى نقابية وسياسية متماسكة موحدة تفكر فيهم كقوى عاملة وطنية وعربية وأجنبية، ذات مصالح مشتركة، والرأسماليون الوطنيون تتعرضُ أعمالهم للخطر والكساد وهم ينقلون الأزمة للمستهلكين وللبناء الاقتصادي ككل، فيقلصون أعمالهم ويفصلون العمال ويرفعون الأسعار.
فلا توجد هيئة تضامن وطنية بين العمال والرأسمالية الوطنية، ولا توجد أسسٌ للتعاون والنضال المشترك ضد الفوضويين الطائفيين الخطر الأكبر الداهم على شعبنا، فكلُ فريقٍ منفصل، ويتخذ الإجراءات التي تفيد مصالحه الخاصة، دون التفكير فيما هو مشترك.
لكن هذه الإجراءات والأنشطة سلبية وتؤثر على الناس ككل، وتفيدُ الفوضويين الطائفيين الذين ليس لهم مشروعٌ سياسي وطني حقيقي، فما هم سوى أدوات عميلة، لا تملكُ من قرارِها شيئاً وطنياً مسئولاً، وتغدو الفوضى ونشر الحرب الطائفية الأهلية هو نتاجُ تصرفاتهم في خاتمة المطاف.
فإذا لم تتحدوا عمالاً وأرباب عمل، وقوى وطنية ونواباً وتناضلوا من أجل الشعب لا من أجل فئات صغيرة نهمة للمكاسب الشخصية والفئوية، فالجميع يخسر ويتعرض للمكشلات الصعبة، خاصة العمال الذين يفقدون لا مكاسب تجارية بل فرص العيش والحياة.

عن البطالة
ليس ثمة قضية كبيرة تحلها المؤسسات من دون أن تؤكدها الأرقام، لكن هنا كل شيء خاضع للتسييس، والأدلجة، والمواقف العابرة غير المتجذرة في مصالح البلد والشعب.
فأبسط شيء لحل قضية هو أن تـُعرف أرقامها بدقة، ومن دون معرفة هذه الأرقام التي يجمعها ويبثها جهازٌ موضوعي محايد لا يدخل في لعبة السياسة بالتالي، فإن القضية لا تتشكل ولا تنتهي، فهي مصدر إزعاج مستمر من جهات عدة، لكنها قضية حيوية لهؤلاء الذين لا يتاجرون فيها وهم العاطلون أنفسهم.
حين نقرأ بعض الأرقام للأجهزة الحكومية سوف نصاب بالحيرة والدهشة لأن الأرقام أولاً لا تكاد أن تتغير، وهي هنا أرقام بسيطة، محدودة، كأن يقول الوزير المختص إن عدد العاطلين لا يتجاوز ألفاً.
فلماذا إذًا كل هذه الضجة على ألف إذا كان الرقم صحيحاً؟
لنأخذ بعض الأرقام المسجلة عبر التصريحات المختلفة للمسئولين والجهات الإعلامية والتجارية:
(قال وزير العمل البحريني والشؤون الاجتماعية (السابق) عبدالنبي الشعلة إن عدد الباحثين عن العمل زاد إلى 9670 فرداً وهو الأعلى منذ سنوات وتمثل البطالة المسجلة 3،1% من القوة العاملة البالغة 307 آلاف فرد، في البحرين، ويبلغ عدد السكان 666 ألف نسمة، ثلثهم من الأجانب، وقدرت البطالة بحوالي 2،5% في نهاية 1999)، هذا التصريح لوزير العمل وقتذاك قيل سنة 2001، علق عليه اقتصاديون ودبلوماسيون كما يذكر الخبر بأنهم يقدرون البطالة بـ 10% بمن فيهم غير المسجلين لدى وزارة العمل.
لكن وزير العمل وقتذاك الأستاذ عبدالنبي الشعلة قال بعد فترة وجيزة وعبر مانشيت مثير نشرته إحدى الصحف (بالغة مستوى لم تبلغه البلاد من قبل.. البطالة في البحرين ترتفع إلى خمسة في المائة) ما يلي:
(قالت البحرين إن 16 ألف مواطن عاطلون عن العمل وفقاً لسجلات شهر ديسمبر. قال وزير العمل إن هذا الرقم يمثل 5% من إجمالي عدد سكانها البالغ 651 ألفا أكثر من ثلثهم أجانب. وفي أبريل الماضي لم يزد عدد المسجلين لدى الوزارة على 9670).
خلال فترة وجيزة تغيرت الأرقام وتغيرت النسب، من دون أن نعرف من قام بالإحصاء ومن حدد الأرقام وغيرها هذا التغيير الكبير كله.
نرى أن العالم الخارجي دائماً يشكك في أرقام المسئولين وهي عادة تجري دائماً، ولكن الفجوة كبيرة بين أرقام الوزير وقراءات الخبراء.
ولكن أن تكون لوزارة العمل أرقام ثم تتغير تغيراً كبيراً بين شهري أبريل وديسمبر من العام نفسه فهو بفضل تلك العجائبية في الوزارات البحرينية.
ثم نجد الشعارات المطروحة نفسها:
(ومنعت البحرين الأجانب من شغل بعض المهن لتوفير الأعمال للبحرينيين)، كلام من سنة .2002 رويترز.
عليك أن تقارن هذا (المنع) بتزايد الأرقام لأعداد الأجانب فقد تفاقمت الأرقام كثيراً ولم يحدث المنع لبعض الأعمال بل حدث الانتشار كما سيظهرُ لاحقاً.
(وخصصت 25 مليون دينار(66 مليون دولار) لسنة 2002 للمساعدة على إيجاد فرص عمل وتوفير تدريب مهني). لكن لمن؟ للألف من المسجلين في سنة 1999 أم للألف المسجلين سنة 2002؟ أم للأعداد المتزايدة الجديدة المجهولة سابقاً التي ظهرت فجأة وبفعل السحر الوزاري؟
وفي الفترة نفسها قالت الحكومة إن على (القطاع الخاص أن يوظف عشرين ألفا من العاطلين).
(ويشير بعضُ أعضاء مجلس الشورى إلى أن ظاهرة البطالة التي دفعت حدتها مؤخراً بعض الشبان للاعتصام احتجاجاً داخل مبنى وزارة العمل في المنامة تطول ما بين 20 و30 ألف شخص وبما معدله 25% من اليد العاملة في هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها 700 ألف شخص)، (العربية، 10/ 5/ 2001).
وبما أن الأرقام للمشكلة، لأعداد العاطلين، متحركة زئبقية، ضائعة وتائهة، وقد غادرتْ علمَ الإحصاء ودخلتْ علمَ الجان، فقد تاهت المشكلة وجسمها المحدد.
لكن الأرقام تختلف عند وزير العمل الحالي الدكتور مجيد العلوي، فرغم ان سعادته يكرر رقم الألف العاطل الشهير مراراً، فإنه يقول بعد فترة من تطبيق برنامج التوظيف الوطني ما يلي:
(قال وزير العمل البحريني د. مجيد العلوي إن نسبة البطالة انخفضت من 15% إلى 4%. كما قال سعادته إن هناك ستة آلاف وسبعمائة وظيفة شاغرة في الحكومة)، (إيلاف، يوم الأحد، 26 نوفمبر، 2006).
لكن اتضح أن الوظائف الشاغرة في الحكومة ليست بهذه الأرقام الكبيرة، فهل كانت نسب الوزير دقيقة؟
ويبدو هذا التوهان في الأرقام قد تسرب إلى كتابة أستاذ جامعي وخبير اقتصادي ونائب حالي في البرلمان فذكر(لا يُعرف على وجه الدقة حجم البطالة في البحرين فحسب تقرير لوكالة الاسوشيتد برس تبلغ نسبة البطالة 15 في المائة في اوساط العمالة الوطنية، إلا أن نسبة البطالة أقل من ذلك بكثير حسب الاحصائيات الحكومية. يبقى الشيء المؤكد هو أن الإناث يشكلن الغالبية العظمى من العاطلين، وعلى هذا الأساس فإن مشروع التأمين ضد التعطل سيفيد النساء أكثر من الذكور)، (جاسم حسين، مشروع التأمين ضد التعطل، صحيفة الاقتصادية الإلكترونية، 2008).
يجعلنا هذا الكلام نظن بوجود بطالة في العمالة غير الوطنية أيضاً، كما أنه كلام في حالة ذهول غيبي عن الأرقام، ثم يعلمنا معلومة خطيرة أخرى هي أن النساء هن الأكثر بطالة واستفادة من مشروع التأمين ضد البطالة، وليس هنا ثمة تعريف لبطالة النساء، لأن ثلث النساء قابعات في بيوتهن في بطالة إلزامية منذ عقود، وهذا يعني ان الأرقام المطروحة أكثر بكثير من أرقام وكالة أمريكية للأنباء تعرف أفضل من متخصص بحريني في الاقتصاد.
نجد بدلاً من هذه الأرقام التائهة معلومات محددة من دراسة مؤسسة ماكنزي التي أعدت دراسة حول البطالة وتطورها المتصاعد مستقبلاً:
(وجاء في الدراسة التي أعدتها مؤسسة ماكنزي للاستشارات لحساب مجلس التنمية الاقتصادية وطُرحت في ورشة عمل نظمها المجلس.. أن هناك حوالي عشرين ألف بحريني من دون وظيفة) مضيفة ان هذا الرقم سيشهد ارتفاعاً كبيراً إذا لم يتم شيء حياله.
(وأضافت إذا استمرت التوجهات الراهنة في نوعية الوظائف الجديدة ومشاركة البحرينيين في سوق العمل يمكن للبطالة أن تبلغ 70 ألف عاطل أي 35% من اجمالي قوى العمل بحلول عام 2013 في حال بقاء الأوضاع على حالها).
وتابعت الدراسة (ومع أن هذه الأرقام مثيرة للقلق فإنها لا تكشف بالكامل عن مدى خطورة المشكلة، فإن ثلث البحرينيين يعملون في وظائف لا تفي بمستوى مهاراتهم وسوف تزداد النسبة إلى حوالي 70% من قوى العمل بحلول 2013)، (شبكة النبأ المعلوماتية 2004).
الظاهرة غير معروفة تماماً لدى الجهات المسؤولة، أرقامها متبخرة متحولة، والدولة وعدد سكانها في حالة سيولة غامضة، فكيف تـُحل مشكلة؟
كانت الدراسة الأخيرة أقرب للموضوعية بسبب عدم وجود خلفية مسيسة ومؤدلجة، وحاولت أن تضع أرقاماً وحقائق مستندة إلى جسم الاقتصاد المدروس بشكل موضوعي.
تغدو المقاربة هنا مهمة عبر درس الهيكل الاقتصادي وأعداد السكان المواطنين والعمالة المهاجرة وحراكها الداخلي المضمر والخارجي المحدد بأرقام.
لكن من جهة الوزارات كل شيء مخفي متوار، والسحرة يشتغلون ويخرجون الأرانب والأرقام من القبعات.
في الصين التي يبلغ عدد سكانها مليارا وثلاثمائة مليون أرقام البطالة محددة ومعروفة تماماً، والحكومة لا تخفي الأرقام على ضخامة السكان.
علينا أن نبحث ما وراء هذه الأرقام البحرينية المضطربة.
رأينا الاضطراب في أرقام ظاهرة محورية من حياة المجتمع البحريني، وهذا الاضطراب يرجعُ إلى جملةٍ من العوامل، فهناك العوامل السياسية المباشرة، حيث يقول جهاز وزارة إنه مسيطر تمام السيطرة على تلك الظاهرة وهو بسبيل القضاء عليها.
فهو يقدمُ أرقاماً غير دقيقة تبعاً لحالته السياسية، حيث ان تفاقم هذه الظاهرة وتحولها إلى مشكلات في الشارع، هو أمر مختلف عن رصد هذه الظاهرة حين يسود الهدوء وتنتشر الأعمال المربحة.
كما أن الأمر يعود إلى مستوى أكبر من وزارة العمل، إلى بناء اجتماعي عام لا تستطيع السيطرة عليه، وهو يعود إلى وضع البناء الاقتصادي الوطني المتناقض وغير المبرمج وغير المحكم التطور، فهناك ثلاثة أبنية اقتصادية تشتغل في نظام اجتماعي واحد.
الأول هو القطاع الحكومي الأقرب نسبياً للمعرفة العامة.
الثاني هو القطاع الخاص الذي ينأى عن هذه المعرفة نسبياً، ويختلط فيه الوضوحُ والغموض، لأسبابٍ كثيرة.
الثالث هو القطاعُ المختلط، القطاعُ الذي تخرجُ إليه أموالٌ حكومية وخاصة وينمو بطرائق مجهولة تماماً. وهو قطاع لا نعرفه ولا نستطيع رصده لغياب المعلومات لكنه مؤثر كثيراً.
هذه القطاعات الاقتصادية الثلاثة تشكل منظومة اقتصادية غير محكمة التنسيق والترابط، فالقطاع العام الذي يُفترض أن يعبرَ عن ملكية الناس.
ولكن القطاع العام بدوريه السياسي والاقتصادي المهيمنين يحاول أن يسيطر على البطالة بإجراءات لا تضر القطاع الخاص، فهو أيضاً بحكم التداخل مع القطاع الخاص، لا يريد أن يضعف القطاع الخاص.
ومن هنا ثمة (بطالة) مقنعة داخله فدوره الأبوي وعدم معرفة كيفية ظهور ونمو المداخيل العامة، يجعله يقوم بالتوظيف الإداري الواسع، من دون أن يكون العديد من الوظائف ذا جدوى اقتصادية.
ويمكن القول هنا إن القوى التقليدية غير الرأسمالية الحديثة تعمل على بقاء الأبوية من جهة الدولة بتضخم أجهزتها وأعدادها، وتحولها إلى (أب) راع لكنه يخسر دوره باستمرار، لأنه لا مكان للأسرة الأبوية السياسية، وينتج عن ذلك (البطالة) المقنعة. وسوف تجبر عملياتُ التطور والتقشف وتراكم العجز على أن تتحلل الدولة من دورها كأب سياسي، وتخفض من البطالة المقنعة فيها، ولا يحدث هذا من دون نمو العملية الديمقراطية خاصة مساهمة أرباب العمل والعمال في الحياة السياسية، ومن دون حضور هاتين الطبقتين في أعمال البرلمان وتحملهما مسئولياتهما مع الدولة وتراجع الدولة عن العديد من سلطاتها الاقتصادية، لا يمكن القضاء على البطالة بشكل مؤثر.
في حين يلعبُ شيوخ الدين دور الأب في حياة الأسرة الخاصة، ويزداد حضورهم فيها كلما نأت هذه الأسر عن العمليات الرأسمالية التحديثية وعدم تشغيل نسائها. فتزداد فواتير الحياة المتراكمة عليها، إذا لم تقم بتحديث علاقاتها السياسية الاجتماعية الأسرية نحو الديمقراطية المنزلية، ولهذا فلدينا بطالة مقنعة كبيرة في البيوت، رغم أن النساء يقمن بعمل شاق في المنازل من دون أن يأخذن عليه أجوراً.
فلابد للقضاء على البطالة المقنعة من رسملة الدولة والأسرة، وهو الأمر الذي يقود إلى تخفيض البطالة المقنعة وزيادتها في الحياة العامة إذ لم تتخذ تطورات مناسبة كإحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية وإعادة تأهيلها خاصة في مجال التقنيات الحديثة لأنه الأنسب للبلد والأكثر جدوى.
لهذا فإن وزارة العمل توجه قدرتها على متابعة القطاع الخاص، ومراقبته ومحاولة جعله يسهم في حل مشكلة البطالة في إطار نظرة جزئية بيروقراطية تعالج بعض الطفح الجلدي ولكن لا تخترق الأنسجة الداخلية للمريض.
والقطاع الخاص يتهرب من أن يكون كبش فداء لنظام اقتصادي تهيمن فيه الحكومة، وهو يقول إنه اقتصاد حر، ولهذا فإن أجندة العمالة في القطاع الخاص تابعة لمسألتي الربح والخسارة، لا للاستقرار السياسي والوحدة الوطنية والانتخابات وغيرها من أجندة الحكومة.
فهو لن يقدم لها المعلومات الدقيقة عن العمالة داخله وجنسياتها ولن يسهم في توظيف العمال البحرينيين بالشكل المطلوب في هذه التحديات.
إن هذا يعود لمدى قدرته الاقتصادية، ولمدى تطور العمالة البحرينية تقنياً ومدى قبولها بالأجور داخله، فالقضية هنا ليست سياسية، فإذا كانت الحكومة بسيطرتها على 80% من الاقتصاد الكبير في البلد لا تستطيع أن تفعل ذلك فهل يفعله من يملك أقل من تلك النسبة؟
أما الاقتصاد المختلط الثالث في هذه القائمة فهو مليء بتجار “الفري فيزا” واستغلال الموظفين الحكوميين لنفوذهم في تأجير بناياتهم للموظفين الأجانب، والتهام الأراضي والشواطئ، واحتكارهم أفضل الشروط الاقتصادية والمالية والجغرافية، فهذه كلها منطقة معدومة الرؤية، يجرى فيها كذلك جلب العمالة الأجنبية بتوسع ونشرها في البلد “تطفيشها” المواطنين من أرزاقهم وزياداتها لبعض المواطنين في حصالاتهم.
أناس تدخل وأناس تخرج، فكيف يتم حصار البطالة؟
كيف تتم معرفة الأرقام والبلد في حالةِ سيولةِ مصالح، هذا يفتح شركات ويطلب عمالة، وهذا يغلق شركات ويسرح عمالة تبقى في البلد؟ وهذا وذاك يجلبان عمالة بتوسع فهي رخيصة عابرة بلا أوراق مدققة، ويتم التلاعب بحالاتها ومصائرها وأجورها؟
هو اقتصاد غير راسخ البناء، الرواتب والأجور والمداخيل في القطاع العام لها مسارات.
ويتسبب ذلك في ضبابية الأرقام وهامشيتها وعدم وضوحها.
وفي القطاع الخاص للرواتب والأجور حسابات مختلفة، مغايرة عن القطاع العام، وصار للقطاعين إجازات وعطل ومعاشات مختلفة، وهذا يُدين وذاك يستدين، وهذا يخفي أرباحه وذاك ينشرها على الملأ بمباهاة تجارية وسياسية، وكتل من المواطنين والأجانب ذات نسب اشتغال مختلفة تماماً عند كل من (الأرباب)، وصارا مثل الطائفتين لهما مواعيد متعددة، فغدت هناك طائفية دينية وطائفية اقتصادية.
كذلك فإن للقطاع الخاص فساده المختلف.
وثمة علاقة وطيدة بين البطالة المقنعة والبطالة المكشوفة، الدولة لا تستطيع أن تقوم بعملية جراحية اقتصادية عميقة، ولكن الظروف الاقتصادية المتفاقمة سوف تجبرها على ذلك، والقطاع الخاص لا تهمه سوى مؤسساته النائية في ظنه عن القطاع العام ومشكلاته، ولهذا ليست لديه سياسة وطنية بامتصاص العمالة الزائدة في الدولة والبطالة المتزايدة في المجتمع. والدولة لا تستطيع أن تتحول إلى دولة ذات حسابات رأسمالية شاملة وذات حسابات سياسية تحديثية ديمقراطية كاملة، ومن هنا تبقى القطاعاتُ الثلاثة تفرز البطالة من كل مسامها. التبصر والتخطيط والوطنية وغيرها من الصفات الحميدة مطلوبة، لكن هل تـُطبق؟
إن غياب الأرقام الدقيقة، وغياب السياسات البعيدة المدى، وتناقضات الهياكل الاقتصادية الثلاثة، هي كلها عجينة واحدة.
ولهذا فالقول إن اقتصادنا هو شبيه باقتصاد الدول المتقدمة هو أمر غير دقيق، فاقتصادنا هو اقتصاد لمجتمع تقليدي متحول إلى الرأسمالية ولكن لم يصل إلى الرأسمالية المتقدمة، ولذلك فالبطالة هناك ناتجة عن مجتمع رأسمالي توحدت هياكله، وتلعب فيه الدولة دورا سياسيا فقط.
كذلك فإن العمالة النسائية العالية شرط له، في حين هناك أكثر من ثلاثين امرأة في المنازل، وهي بطالة مقنعة أسرية واسعة، في حين تأتي النساء من الخارج للعمل بشكل واسع.
اتجهت وزارة العمل بجهود حثيثة للقضاء على البطالة، الظاهرة الطافحة على جسد المجتمع، وكانت الجهود متواضعة.
وهي تتركز كما قلنا في قطاع الشباب والخريجين والعمال المفصولين من أعمالهم، وهو قطاع صغير إذا قسنا البطالة بمعناها الواسع السابق الذكر. وهو قطاع رغم صغره ظل بعيداً عن الرصد الكمي، من حيث التدفق المستمر للأجيال الجديدة التي تتخرج من التعليم أو التي تتسرب منه (يعاون ذلك عدم وجود قانون للتعليم الإلزامي)، وكذلك تصاعد جهود النساء للخروج من البطالة المنزلية، وعددهن غير محدد. كذلك هناك العاطلون وهم عدد ممكن ضبطه وهناك المهاجرون وبعضهم ذاب في المجتمعات الأخرى وبعضهم لم يذب.
ومنذ يناير توجهت وزارة العمل للسيطرة على ظاهرة البطالة الشبابية في أغلبها الأعم، فظهر قانون الضمان ضد التعطل في بداية سنة 2007، حيث نص القانون على دفع مبلغ شهري للعاطل وهو 150 ديناراً، وهو بالكاد يكفي للمواصلات وبعض الوجبات خلال شهر، ويُدفع هذا المبلغ بعد دراسة حالة العاطل وكونها حقيقية، وهذه عملية بيروقراطية مجهدة للعاطلين للحصول على مثل هذا المبلغ الهزيل.
ثم إنه إذا حصل العاطل على شهادة جامعية يُرفع المبلغ إلى 180!
وقانون الضمان ضد التعطل تتعاضد معه إجراءاتُ رفعِ كلفة العمال الأجانب واستخدام الرسوم المتحصلة في تدريب العمال البحرينيين.
فهنا تقوم المؤسساتُ الحكومية بأخذ الأموال من القطاع الخاص للتدريب وللقضاء على البطالة، فالأموال تؤخذ من القطاع الخاص، ولهذا تبدو هذه الأموال والعملية كلها متواضعة.
ومن الواضح هنا كيف تتم المعالجة لظاهرة البطالة بصورة إدارية وبالاعتماد على أموال محدودة، لا تمثل شيئاً كبيراً للعاطلين، ولا لاجتثاث الظاهرة.
وعلى طريقة هذا التعكز جاء إجراء فتح مكتب التوظيف في قطر:
(صرح وزير العمل الدكتور مجيد العلوي انه سيتم افتتاح مكتب توظيف البحرينيين في الدوحة بدعم من الحكومة القطرية مشيراً إلى أنه سيلحقه ثلاثة مكاتب في أبوظبي ودبي وسلطنة عمان خلال الأشهر الثلاثة المقبلة)، جرى ذلك يوم 29/10/.2007
وأكد الوزير في حواره ان توظيف البحرينيين بدول الخليج لا يعني خروج الكفاءات البحرينية إلى الخارج، وإنما يعتبر نقلاً للكفاءات وتبادلاً للخبرات بين دول الخليج في إطار قانون التأمينات الجديد)، وأضاف العلوي أن العمالة الأجنبية زادت بنسبة 40% سنوياً مع الطفرة الاقتصادية في البحرين).
ولنلاحظ هنا التناقضات التي تتشكل في مثل هذه السياسة لمكافحة البطالة، فإن سياسة التدرج في القضاء على البطالة ودفع القطاع الخاص بإجراءات زيادة رسوم العمل التي تبلغ حسب تصريح الوزير بين 20 إلى 30 مليون دينار، وهي التي تقوم بإعالة العاطلين بذلك الفتات.
أي أن هذه السياسة لم تثمر، بسبب إن العمالة الأجنبية زادت على حد قول سعادته بنسبة 40%.
ولا نعرف من الذي زادها وعرقل إجراءات الدولة، ولماذا لم تحدث تدخلات بهذا الشأن كأن يوضع العمال البحرينيون على قائمة هذه الزيادات؟!
ولكن الوزارة تقوم بعمل جبار آخر هو افتتاح مكاتب توظيف!
وهل احتاج البحرينيون على مدى السنوات الطويلة السابقة للعمل في دول الخليج إلى مكاتب توظيف؟!
ثم كيف يكون ذهاب البحريني للبحث عن عمل في بلد آخر تبادلاً للخبرات؟
وهل هناك خبرات من تلك الدول في بحريننا الغالية لكي يحدث هذا التبادل العميق؟
وأي تبادل للخبرات لأناس فقدوا أعمالهم في بلدهم ليتغربوا في حين ان الوزارة عاجزة عن فتح مكاتب توظيف لهم في المنامة والرفاع والمحرق؟
تبدو مثل هذه الإجراءات البيروقراطية المحدودة هي أقصى جهد يُبذل، نظراً لتلك الرؤية المحدودة للمشكلة وعدم تناولها من جذورها.
فليس ثمة قوانين توظيف تجاه القطاع الخاص بنسبة معينة ولو ضئيلة.
وليس ثمة إجراءات بحرنة في أجهزة الدولة ذاتها المليئة بالموظفين والعمال الأجانب.
مع كثرة دخول الدولة وكثرة الرسوم والموارد المختلفة، فتقوم بمشروع جبار للقضاء على البطالة لكن من خلال رسوم على القطاع الخاص؟!
وما يمكن أن يحدث للإجراءات التي تقوم بها وزارة العمل تجاه ظاهرة البطالة هي المعالجة الجزئية المفيدة على كل حال، لكنها محدودة وناقصة، لكون مسامات المجتمع المتعددة سوف تضخ عاطلين بشكل مستمر ومتصاعد.
وإذا تذكر توصيات دراسة ماكنزي فإن البطالة سوف ترتفع إلى معدلات قياسية مستقبلاً، حيث لا يقود على التوظيفات ولا تحديدات، وضخ المجتمع للعاطلين عبر التخرج والبيوت سوف لن يتوقف.
والعمالة الأجنبية ذاتها تضخ بطالة أو تحل محل وظائف وطنية، فالعمال الأجانب يجلبون أسرهم ويوظفونهم في مختلف الأعمال، من دون ضبط.
لقد جاءت التصريحات الحكومية الأخيرة عن تراجع نسبة البطالة بصورة مفرحة، حيث بلغت كما قيل 8،3،% والمقصود بها القطاع الشبابي، لكن مثل هذه النسبة في هذا القطاع تعني الخريجين الجدد والطلبة والعمال البحرينيين المفصولين من الشركات وغيرهم في حين أن معدلات توظيف العمالة الأجنبية يزداد.
فهذا لا يعني السيطرة على الظاهرة، إلا بشكل محدود.
ولهذا فإن الخبراء يطرحون ضرورة السيطرة على مشكلات البنية الاجتماعية ككل:
(لم تنجح حكومات دول الخليج الغنية بالنفط حتى الآن في القضاء على مشكلة البطالة على الرغم من الفورة النفطية التي تدر عليها عائدات قياسية وتغذي نموها الاقتصادي.
واعتمدت معظم دول مجلس التعاون الخليجي برامج لتأهيل مواطنيها لدمجهم في سوق العمل إلا ان القطاع الخاص مازال يعتمد بشكل واسع على اليد العاملة الاجنبية. وقال الخبير الاقتصادي السعودي احسان بوحليقة ان اسواق مجلس التعاون شوهت بسبب انفتاحها المفرط على اليد العاملة الاجنبية ولكون القطاع العام يشكل ملجئاً ملائما جدا بالنسبة للمواطنين.
وقال بوحليقة ان تدفق العمال الاجانب الى دول مجلس التعاون حيث باتوا يشكلون حوالي 40% من السكان يمثل ظاهرة فريدة في العالم “فليس هناك أي مكان آخر في العالم تسير الامور فيه على هذا النحو”. ويبلغ اجمالي عدد سكان دول المجلس 37 مليون نسمة بحسب آخر ارقام للامانة العامة للمجلس يمثل الاجانب 40% منهم).
ويقول أحد المحللين الاقتصاديين تعليقاً على اتساع البطالة في الدول العربية عامة بشكل غير مسبوق:
(تعلمنا من دراستنا للبطالة في البلدان العربية إنه لا توجد إحصائيات رسمية أو شبه رسمية يمكن الارتكاز عليها في الدول العربية، بسبب ضعف الإدارة والفساد، وحتى لو كانت النسب مقاربة إلا أنها لا تشمل البطالة المقنعة الحكومية حيث يقوم عشرة عمال بأداء وظيفة عامل واحد، أو العمال المسجلين بدون عمل، فعلى الحكومات العربية إعادة نظر شاملة لتوزيع الثروات وتوجيه الاستثمارات الخاصة والعامة..).
وفي الواقع إن عمليات تغيير البطالة تتطلب إجراءات واسعة من قبل الحكومات والبرلمان والنقابات وهي إعادة تشكيل للمجتمعات وهي مسألة تاريخية.

جذور الرأسمالية عند العرب

فصل من كتاب : رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي

ومن الواضح بأن جغرافيا الجزيرة العربية هائلة، وأن ثمة مناطق زراعية متنوعة متباعدة، كاليمن وعمان والبحرين ويثرب – المدينة، والطائف الخ ، وهذه المناطق تفصلها عن بعضها البعض الصحارى الواسعة، وهي لا بد لها من إقامة علاقة تبادل بينها وبين بعضها البعض ومع العالم القريب كذلك.

لا تسعفنا المصادرُ في الحديث عن وجود أو عدم وجود العمل المأجور ومدى حضوره في العصر الجاهلي والإسلامي الأول، رغم أنها مسهبة في تعداد الثروات الخاصة وظهور القطائع، وهي الشكلُ المبكرُ للإقطاع العربي، وتحدد العلاقات التجارية وطرقها والعلاقات الاجتماعية – السياسية المصاحبة لهذه التجارة، وكذلك تذكرُ الموادَ الأولية العربية والحرفَ المُقامة عليها، ومن هنا من الصعوبة بمكان معرفة طبيعة رأس المال الجاهلي – الإسلامي.
في البدء لا بد من معرفة المواد الأولية وهي السلع التي سوف تدخل السوق، وقيم هذه السلع، ومن أي عمل بشري أُنتجت، وماذا يحدث لهذه القيم في السوق، والأثمان التي يأخذها الوسطاء، ونوعية هذه السلع وأسباب نموها بهذا الشكل أو ذاك.
ومن الواضح بأن جغرافيا الجزيرة العربية هائلة، وأن ثمة مناطق زراعية متنوعة متباعدة، كاليمن وعمان والبحرين ويثرب – المدينة، والطائف الخ ، وهذه المناطق تفصلها عن بعضها البعض الصحارى الواسعة، وهي لا بد لها من إقامة علاقة تبادل بينها وبين بعضها البعض ومع العالم القريب كذلك.
إن الوقائعَ تشيرُ إلى عمليات تبادل تجارية بين هذه المواقع المختلفة، ويعبرُ التبادلُ عن وجود فائض اقتصادي، تمكنت قوى العمل الشعبية القبائلية من إيجاده، فقام وسطاءٌ هم تجار بإرساله للمناطق الأخرى فاغتنوا واغنوا التجار في المدن، ثم كانت مكة هي الوسيطة الكبرى التي نهضت فوق قوى العمل هذه حتى قوة تجارية عالمية.
كانت هناك مناطق ذات تاريخ قديم في الإنتاج كاليمن، ومن اليمن خرج اليهودُ إلى يثرب وأسسوا فيها الزراعةَ والحرف، كما خرجت قبائلٌ يمينة عديدة إلى يثرب وغيرها من المناطق خاصة شمال الجزيرة العربية، وتعبر قدرات اليهود في يثرب عن تعمق كبير في الجوانب الحرفية.
كانت سلع اليمن هي مثل: النسيج الفاخر، والذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، ومواد التجميل، والتوابل بأنواعه ، والأسلحة وغيرها.
إن هذه السلع تدل على تجذر قوى العمل ومهاراتها المتنوعة، وإذ تشير إلى صلات تجارية بالخارج كالهند وأفريقيا، إلا أنها بضائع ومواد خام مستوردة تقوم قوة العمل اليمنية بإعادة تشكيلها ومن ثم تصديرها.
وتعبر مدينة يثرب عن هذا الطابع اليمني الحرفي المتأصل:
(أسس اليهود يثرب وعملوا الزراعة والحرف وصناعة السلاح والحدادة والدباغة والنجارة والصرافة وكان العرب يملكون 13 أطماً واليهود خمسين، وكان في المدينة أكثر من 300 صائغ حلي وكلهم من اليهود العرب وثمة حي اسمه حي الصاغة، (المال والهلال ، شاكر النابلسي ، ص 132)
وكانت المناطق الجزيرية الكبرى الأخرى كعمان والبحرين أقل من اليمن في التطور الحرفي بسبب التكون الحضري البعيد لليمن ومركزية حكمها، وعمان والبحرين تنتجان الموادَ الزراعية غالباً، مع ما يتبع هذه المواد من حرف.
إن هذا التكون التبادلي بين مناطق الجزيرة العربية كان يتبع الطريق التجارية الدولية أساساً، فهو يضخُ ما يزيد عن حاجتهِ إلى الأسواق الخارجية، فأغلب السلع الاستهلاكية الضرورية كالمواد الغذائية تـُستهلك محلياً، وما يزيد عنها وما يُخصص للبيع والتجارة يتوجه للأسواق المحلية ومن ثم المناطقية، وهي أسواق ثلاث كبيرة هي (عكاظ ومجنة وذو المجاز).
وتوضحُ طبيعة السلع اليمنية المُصَّدرة غلبة السلع الاستهلاكية البذخية، التي تباع لمركز التصدير ومن ثم تباع خارجياً، في حين يعيش أغلبية المنتجين على السلع الضرورية.
وبحكم تحول مكة إلى المركزين التجاري والديني معاً، فقد اختلطت السلعُ بالقيم الدينية. كانت المناطق الجزيرية العربية التي تقيم التبادل بينها بحاجة إلى سوق موحد تجري فيه أكبر عمليات التبادل، فكانت مكة التي تحولت من قرية إلى مدينة بفعل الخط التجاري الدولي المار بها، ومن ثم غدت المركز التصديري الرئيسي، فكان المنتجون لكي يستمروا في عيشهم بحاجة إلى تصدير الفائض نحو قبلة مكة التجارية، التي راحت تصير قبلة دينية كذلك ، بحكم إن الشعائرَ الدينية تحمي السلع والنقود الناتجة منها والعمليتان متداخلتان.
لكن المنتجين لم يفعلوا ذلك مباشرة، بل من خلال الوسطاء التجاريين، الذين كانوا يأخذون تلك السلع ويبيعونها، وفي البدء نيابةً عنهم بحكم النشؤ القبلي، ثم مع استمرار التمايز بين المنتجين والمالكين، انفصلوا وصاروا تجاراً مستقلين.
وتبينُ نشأةُ مدينة مكة هذا النموَ المتمايزَ للفئات التجارية من قلب العلاقات القبلية، ففي البداية نجد أن جد القبيلة (قصي بن كلاب) عنده أغلب وظائفها الدينية والتجارية مما عبر عن وحدة قبلية كلية في القمة، ثم تنشأ البيوتاتُ التجارية العائلية؛ كأمية وبني مخزوم وبني هاشم الخ .. مثلما تظهر العائلات الغنية والعائلات الفقيرة.
لكن الفارقَ بين مكة وبقية المناطق إنها غير منتجة لسلعٍ، بل هي تستقبلُ السلعَ وتصدرها، وتحتفظ بجزءٍ ضئيلٍ منها للاستهلاك، فهي بلا جذور حرفية وبلا زراعة، ومن هنا قامتْ بتحويل جزء من رؤوس أموالها لتملك الأراضي في المناطق المجاورة فكانت(الطائف) بستانها، و(جدة) ميناءها فغدت دويلة اقتصادية.
تعبرُ مكة عن المدينة التجارية الخالصة، التي لم تتطور من داخلها لتكون مدينة تجارة، بل هي قد أسستها الضرورة التبادلية العالمية والمناطقية، ولهذا فإن المناطق الأخرى لم تستطع أن تتطور مثل مكة في نموها الاقتصادي وفي عقليتها التحديثية.
لقد ساعدها غيابُ الجذور الزراعية والحرفية لكي تكونَ مدينةَ مالٍ وسلعٍ بالدرجة الأولى.
لكنها مع ذلك بحكم خلفيتها الدينية التي رُكبت وتصاعدت بفضل دورها التجاري التوحيدي، فكان هذا الدور يعضد المكانة التجارية ويضفي عليها قداسة، ولكن هي قداسة تجميعية للرموز الدينية مثلما هي تجميع للسلع التجارية.
ومع ضخامة دور الوسيط بين المنتجين المتوارين، سواء كانوا عرباً أم أجانب، فإن الوسيطَ هو الذي أثرى أكثر من أولئك المنتجين، وتدلنا الأرقامُ التجارية للسلع ولأرباحها عن ضخامة الرأسمال البضائعي الذي يتدفق والذي يتحول من جديد للتجارة، أو يشتري الأرض العقارية، التي كانت محدودة بحكم ضخامة الصحراء.
ومنذ البداية نلمح هذا التناقض الهام بين كمية النقد الكثيرة المتوفرة وغياب التوظيفات الفاعلة، فيذهب قسمٌ كبير من النقد نحو الاستهلاك البذخي، فيضيع من دورة رأس المال، ولكنه في هذه المرحلة لايضيع بل يوظف لكن حين ستنشأ أسرٌ حاكمة ويتراكم الفائضُ لديها فسوف يتجه إلى البذخ الخالص.
كان في جزيرة العرب طريقان للتجارة (أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس براً، ثم يجوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام) (والطريق الثاني هو الأهم وهو غربي يصل اليمن بالشام مجتازاً بلاد اليمن والشام ناقلاً أيضاً بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة والهند عن طريق البحر)، (كتاب أسواق العرب، ص9).
من المدن التجارية الهامة في العصر القديم (تيماء: المحطة الكبرى العامة شمالي الحجاز مروراً بسلع وبُصرى وتدمر ودمشق).
(كان للعرب دراية بالملاحة منذ القرن العاشر قبل الميلاد)، (عن تاريخ العرب الأدبي نيكلسون) ويضيف: (وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعلهم يفضلون الطريق البري).
(كانت القوافل تقوم من شبوت في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ ثم تتجه شمالاً إلى مكربة (مكة) وتظل في طريقها من بترا حتى غزة).
(كان الحميريون هم المسيطرون على التجارة جاعلين العرب الحجازيين عمالاً عندهم حتى قبيل البعثة) (السابق ص 11).
(منذ القرن السادس انتقلت التجارة تدريجياً من اليمنيين إلى قريش).
قال الألوسي:
(وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة لما في بلادهم من الخصب والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة)، ص 11(على أن لطيئ ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب).
(وقدّر بعضُهم ما يشتريه العالمُ الروماني من طيوبِ بلاد العرب والفرس والصين بقيمة مائة مليون من الدراهم) ص 12.
وتعبيراً عن التبادل المناطقي الواسع قالوا:(برود اليمن وريط الشام وأردية مصر).ومن أقوالهم:(الطائف مدينة جاهلية قديمة وهي بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة). أما(هجر والبحرين فهي متجر التمر الجيد).
كان التجار يُسمون السماسرة فجاء الإسلامُ بكلمةِ معشر التجار. وهناك اسماء أعجمية وَرَدتْ للعرب تحملُ أسماءَ البضائع:(الصنج والصولجان والفيل والجاموس والمسك وخصوصاً أنواع النسائج كالديباج والاستبرق والابرسيم والطيلسان) السابق ص 18.
وتعرفنا بعض الكلمات الأعجمية التي عربت وصارت جزءً من التسميات العربية على تغلغل العلاقات البضائعية في الحياة الجاهلية مثل:(ترف وجزية ودرهم وفندق وقارب ولص).سردَ هذه الكلمات بندلي جوزي في بحثه (بعض إصطلاحات يونانية في اللغة العربية) في مجلة مجمع اللغة العربية 3 / 330 نقلاً عن المصدر السابق، ص 19).
قال معاوية لصوحان صف لي الناس فقال: خلق الناس أخيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق.
وقد عرف العربُ سندَ الملكية(طابو) والعقود.
ومن كتاب المحاسن والأضداد نقرأ( إن العديد من رؤوساء قريش كانوا باعة وحرفيين). وتعددت البيوع عندهم مثل: بيع الغرر، أي بيع ثمر النخل والشجر لمدة عام أو عامين وهو مرفوض دينياً.
بيع التصرية وهو عدم حلب الناقة لفترة من أجل أن تمتلئ وهو شكل من التحايل.
البيع الناجز وهو البيع الصحيح يداً بيد.
(في البدء كانوا يتعاملون بالمقايضة ثم تعاملوا بنقود الروم والفرس، الدنانير والدراهم، ويقدر الدينار بعشرة دراهم، والدرهم يساوي عشرة قروش مصرية ( حسب زمن المصدر 1960)
ويدل هذا على ضعف تطور العلاقات البضاعية – النقدية، ثم نموها عبر تنامي إنتاج القبائل عبر مئات السنين، واستمرار سيطرة الفرس والروم السياسية، فكان فائضٌ ما ينتقل من الجزيرة للأمبراطوريتين، ثم غدت نقودهما نقودَ الأمبراطورية الإسلامية التي وورثت الهيكل الاقتصادي – السياسي العبودي – الإقطاعي دون أن يستطيعَ التراكمُ المالي أن يؤدي إلى المرحلة الرأسمالية.
وجاء لدى المقريزي إن أول من ضرب السكة عمر بن الخطاب على نقود فارسية مع كلمات عربية إسلامية.
وكان لديهم (المكس) وهو أخذ العشر من بائعي السوق والمكس في اللغة النقص وفي البيع انتقاص الثمن. قال الشاعر:
أفي كل أسواق العراق أتاوة/وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
وحول الاستغلال وتراكم الأموال، جاء في خزانة الأدب (كان أحيحة بن الجلاح كثير المال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا في المدينة).
عُرف بعض الصحابة باستخدام الربا كخالد بن الوليد وعثمان بن عفان وحين جاء الإسلام تركا الربا بطبيعة الحال، وكان الرهن يصل إلى رهن البشر مما يعبر عن كوابح تطور العلاقات البضائعية النقدية وانغمارها بعلاقات العبودية وقتذاك.
وهناك ربا الأضعاف المذموم بشدة في القرآن ((لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)) آل عمران 3، وهو أمرٌ يعبرُ عن هدف سياسي هو زعزعة سيطرة القبائل اليهودية على المدينة وعلى العرب وقد أخذ الفقهاءُ هذا الحكم كحكمٍ مطلق وليس نسبياً، ثم جاء فقهاءٌ حاولوا تجاوز هذه الإشكالية عبر ما ُسمي بفقه(الحيل). وهذا كله يبين استمرارية تنامي العلاقات البضائعية النقدية لدى العرب رغم الكوابح الطبيعية الهائلة والشظف والتحكم السياسي الجائر في عصور الدول الاستبدادية.
لم تستطع العلاقات المالية والبضاعية كشكلٍ أولي من العلاقات الرأسمالية أن تحصل على مساحة أساسية في البناء الاجتماعي العربي الجاهلي، بسبب ضخامة العلاقات الأبوية التي تتمظهرُ في سيطرة شيوخ القبائل على أجسام القبائل في حركاتها الانتقالية المكانية وفي توجههاتها، عبر الحفاظ على البناء الاجتماعي التقليدي القائم على خضوع الفقراء للأغنياء والصغار للكبار والنساء للرجال والعبيد للسادة.
وهذا كله يؤدي لعدم ظهور وتراكم الرأسمال.
وتلك سيطرة اجتماعية موجودة في كل القبائل، لكن لم يكن لرؤساء القبائل مركز سياسي ما، فجاءتْ الدولةُ العربية الإسلامية لتضعَ الأسسَ لانتقال سيطرتهم الاجتماعية لتكون سيطرة سياسية بعد هزيمة دولة الجمهورية الشعبية زمن الخلفاء الراشدين.
وتلك السيطرة الاجتماعية على كل قبيلة منفردة، توحدت بالنظام السياسي الأمبراطوري، الذي كرسَّ سيطرة زعماء القبائل، وأشركهم في المداخيل واستعان بهم في الجيوش والحروب الخ..
وبهذا فإن العلاقات المالية البضاعية في زمن الجاهلية لم تحصل على بنية اجتماعية مُستوعِبة لها، بسبب ضخامة الصحارى وتشتت القبائل والمدن.
فبقيت العلاقاتُ الرأسماليةُ الجنينية على ضفاف العلاقات الاجتماعية الأبوية وحين تكونت المدنُ الإسلامية الأولى خاصةً، كالبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان وفاس فإنها كانت معسكراتٍ للجيوش، مما جعلها مراكزَ سياسية بدرجة أولى، ثم تحول بعضُها إلى مدنٍ تجارية كبيرة لأسباب خاصة بها كالبصرة التي غدت الميناء الكبير على ضفة الخليج.
أما السيطرة الاقتصادية الكبرى على الثروة والإنتاج فكانت من نصيب نفس تكوين الشيوخ القبليين في زمن الجزيرة الجاهلية، ولكن صارت سيطرتهم مركزةً في أسرة واحدة وفي شخص الخليفة، وغدت الأملاكُ الكبرى الزراعية هي الأساس الاقتصادي للدولة، ومن الخراج و مكوس التجارة تتشكل أغلبية الدخول.
تغدو الملكية الزراعية الإقطاعية هي ملكية عقارية غير داخلة في التداول البضائعي بشكل عام، لأنها بعضها يُوهب أو يُباع، ولكونها هي مصدر أغلبية الثروة الأساسية فإن (المجتمع) يكون قد أعاق نمو العلاقات البضائعية بطريقة سياسية مخربة على المدى الطويل.
إن الملكية العقارية الكبرى هي بضاعة في ذاتها لكنها مملوكة للإدارة السياسية فتتجمد وتعرقلُ تطورَ السلع ونموَ رأس المال، وهي كذلك وسيلة من وسائل إنتاج البضائع، عبر تحول مداخيلها عند الأسرة الحاكمة وأسر الكبار عموماً إلى وسيلة اكتناز وبذخ، فتغدو مصدراً لحراك اقتصادي يؤدي مع مرور السنين إلى الأفلاس، لأن المداخيل (أو الجزء الأكبر منها) لا تعود لبنية الإنتاج.
إن الطبقات والفئات التي تستولي على النصيب الأكبر من الفائض الاقتصادي تدرجهُ في الاستهلاك الشخصي، فسواءٌ كان ذلك لدى الخلفاء وزوجاتهم وابنائهم أم لدى التجار الكبار والقواد وكبار رجال الدين الحكوميين، فإن الفائض لا يعود مرة أخرى لتطوير الإنتاج إلا بنسبة ضئيلة كترميم السدود.
وسنجد بعض مظاهر تدهور رأس المال التجاري كالهجوم على أموال كبار التجار وقيام هؤلاء بإخفائها تحت الأرض، والسطو على أموال الخلفاء أنفسهم وسرقة مصاغ زوجاتهم، في حين إن الوضع الاقتصادي العام يشير إلى الخروج المستمر للذهب من الديار الإسلامية، وتدهور قيمة العملتين الذهبية والفضية، وتدني وتدهور الحاصلات الزراعية، وجمود الحرف بسبب عدم تغلغل الرأسمال المادي والعلمي بها، فتغدو الحرف عاجزة عن التحول للصناعة، بل تصيرُ مهناً تقليدية يسيطر عليها أسطوات ومعلمون يحولون طرق الإنتاج فيها إلى أسرار، ويحولون الشغيلة إلى تلاميذ. وهذا ما يكون مناسباً في مستوى الثقافة مع الثقافة الصوفية التي تغدو هنا طرق دراويش مخلوطة بسحر وخزعبلات.
هكذا فإن رأس المال يغدو على ضفاف المجتمع الإسلامي، سواء بتدميره على مستوى الطبقة الحاكمة بالبذخ، أو على مستوى الشغيلة بتحجر الإنتاج وتدهوره المستمر.
ولكن بين التوسع الكبير للإنتاج الزراعي وضخه للموارد في المدن وبين انهياره ثمة قرون من التطور الاقتصادي الذي تظهر فيه إبداعات اجتماعية وثقافية كثيرة.
ونستطيع أن نرى تبايناً في علاقات الإنتاج والتداول، فثمة علاقات عبودية جزئية وإقطاع سياسي متحكم بشكل عام، وعلاقات رأسمالية غير سائدة تتمركز في التجارة خاصة.
وإذا حدث تناغمٌ بين الإقطاع السياسي والعلاقات الرأسمالية، بمعنى عدم قيام الإقطاع الحاكم بتضييع الثروة وساهم بفتح المجال لنمو التجارة والحرف، أي بتطوير مصادر الإنتاج، فإن العهدَ يشهد ازدهاراً، كما حدث في بعض فترات الحكم الأموي أيام معاوية وعبدالملك بن مروان، ثم في الدولة العباسية لدى المنصور وهارون الرشيد والمأمون، ولكن مع تفاقم نفقات الحكم والجيش فإن ذلك يؤدي لتدهور مصادر الإنتاج، وقيام فترة الاضطرابات و مجيء الحكام الضعاف وتدهور الثقافة الخ، كما نلحظ ذلك مع حكم المعتصم العسكري البذخي ثم تنامي التدهور في الخلفاء من بعده، وتؤدي الحروب دور المعجل للتفسخ والتجزؤ للأمبراطورية.

    وعلى الرغم من السيطرة العامة لنظام الإقطاع على النظام الاجتماعي الإسلامي إلا أن هذا النظام شهد نمواً كبيراً للرأسمال التجاري لا يصل بطبيعة الظروف السابق شرحها إلى تجاوز ذلك النظام.

وقد أوضحنا كيف إن هذه العلاقات التجارية والمالية ازدهرت بشكل واسع، وعرفت كل أشكال التبادل التجاري والمالي، بين المناطق العربية الإسلامية وبينها وبين العالم.
وإذا كانت هذه العلاقات لم تصل إلى إزاحة البناء الاقطاعي، أي هيمنة الأسر على المال العام والإنتاج، فإنها نقلتْ جوانبَها المتقدمة إلى القارة التي سوف تتفتح فيها هذه العلاقات التجارية المالية على أوسع مدى وهي القارة الأوربية.
وبعكس الآراء الزاعمة بقيام العرب بخلق التخلف الأوربي فإن المعطيات التاريخية الموضوعية تشير إلى العكس أي قيامهم بخلق أسس النهضة على مستويي الاقتصاد والثقافة.
وهكذا فإن درجات التطور الرأسمالي العالمي لها حلقات مشتركة من الأدنى إلى الأعلى وبالعكس، فبعد التدهور الاقتصادي الذي جرى في أوربا خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، ظهرت الدويلات الإقطاعية الصغيرة وصارت الكنيسة الكاثوليكية أكبر مالك للأرض الزراعية وتحكمت الجيوش والأنفاق الهائل عليها مما زاد من الضرائب التي أضعفت الإنتاج.
ووقع الاحتكاك العربي الأوربي الاقتصادي الإيجابي في حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن هنا نرى أن المناطق الداخلية والغربية الأوربية عرفت النهضة لاحقاً، وتركزت النهضة في المدن الإيطالية القريبة من الممالك العربية، ورغم إن الرأسمال التجاري الإيطالي تشابك بقوة مع الحملات الصليبية التي استثمرها إلا أنه تنامى أكثر بفضل نمو التجارة السلمية، فسك العملات النقدية الجديدة وأسس الشركات، وغيّر نظامَ الأرقام مدخلاً نظامَ الأرقام العربية وترجم ونقل الكثير من جوانب العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية العربية، وكل هذه الخميرة انتقلت إلى الدول الأوربية في الوسط ثم في الشمال والغرب، والأخيرة هي التي قامت بالثورة الصناعية والرأسمالية الشاملة بفضل ابتعادها عن مركز الإقطاع في روما وازدهارها بالتجارة والاكتشافات الجغرافية.
بطبيعة الحال فإن قانونَ النمو داخليُّ دائماً لكن المؤثرات الخارجية الإيجابية تسرعُ من الصراعات الداخلية باتجاه التقدم، ولم يستطع الرأسمال الصناعي الظهور في غرب أوربا إلا بتراكمات هائلة أوربية وعالمية، حيث عملت التدفقات النقدية والمعلومات العلمية وحرية بعض المدن على هدم الجدار الكبير بين الحرف والصناعة، أي عبر خلق نظام المحركات في إنتاج السلع: (المانيفكتورة ثم المعامل). وهو أمرٌ عجز عنه العرب للأسباب السابقة الذكر. وبهذا التحول تم ظهور نظام الرأسمالية العالمية ومنشأه أوربا الغربية.
إن وجود مناطق حرة لظهور الرأسمال الصناعي، حرة من حيث عدم تسلط الحكومات ورجال الدين المحافظين، قد تشكل في المناطق البعيدة عن المركزيات المتشددة، وعبر خلق سوق قومية الخ..
ولكن مع تحول الرأسمالي الأوربي القاري – العالمي، فإن السيطرة على المواد الخام والأسواق الخارجية صارت معرقلةً لنمو الرأسماليات في الدول المتخلفة، فقام الغربُ بالتحكم في أسواق الدول العربية والإسلامية، مانعاً إياها من العملية التي ساهمتْ هي فيها وأسست تقدمه، أي أنها كونت مرحلة الرأسمال التجاري التأسيسية، فوضع الغربُ الأمبريالي اثناء سيطرته الأولى القيودَ الكثيرة على بقاء الدول العربية والمختلفة عامة في مرحلة الرأسمال التجاري دون المساح لها بالصعود إلى مرحلة الرأسمال الصناعي. فعاش الشكل الأعلى وهو الرأسمال الصناعي(الحر) أكثر من قرن على التحجيم والقيود.
فحين جاء الاستعمار الغربي لم يعمل على تغيير البناء الإقطاعي الموروث بل حافظ عليه ووطده. بأن جعل الحكام يحصلون على قسم كبير من الثروة من خلال التحكم في أجهزة الدول، وهو الأمر الذي حافظ على البناء الإقطاعي القديم، بكل بنيته الاجتماعية، وكان الحكام هم الغربيون ثم سلموا الحكم للقوى المحلية التي جُيرت لخدمة البناء الاقتصادي التابع.
وهذه العملية الاقتصادية العالمية المتضادة، أي دفع العرب أوربا للتقدم ثم دفعُ الغربِ العربَ للتخلف، تعكس طبيعة النظامين العالميين الإقطاع والرأسمالية، في مرحلة النشأة الأولى العالمية للنظام الحديث، وهي تعكس مستوى قوى الإنتاج على الجانبين، فالنظام الأول العربي يقومُ اقتصادياً على الخراج والمكوس والغزو(وهو شكل من الاستيلاء المباشر على السلع)، في حين يقوم النظام الثاني الغربي على تصدير رأس المال والسيطرة على الأسواق. فكان من الطبيعي أن يحدث تصادمٌ كبيرٌ ومأزقُ بين التشكيلات الاقتصادية البشرية الكبرى.
وهذه المرحلةُ من العلاقة بين الإقطاع الشرقي والرأسمالية الغربية هي مرحلة أولى لأن مراحل أخرى ستتشكل تبعاً لتبدل قوى الإنتاج الغربية وتطور الدول الشرقية كذلك، فتغدو التشكيلة الرأسمالية عالمية تزيل التشكيلات التي كانت قبلها بشكلٍ تدريجي.
لقد ابقت الرأسماليةُ الغربية الدولَ العربية في البناء الإقطاعي و(تطوراته) ويظهر ذلك في الحفاظ على طبيعة الحكم السياسي الذي يغدو مالكاً لقسم كبير من الثروة عبر الجهاز الحكومي، وهو الجاب الذي يمثل استمرارية للدول السابقة الأموية والعباسية والطوائف، فهنا لم يحدث قطع بنيوي، ولم تجعل الدول الغربية السيطرة الدول العربية على نموذجها بل أبقتها في الماضي، في ذات التشكيلة الإقطاعية، فصارت التطورات المالية والتجارية القديمة والمحدثة تجري في البناء القديم لأسباب سياسية واقتصادية عميقة.
يتحدد تاريخ البشرية في القرن العشرين بصراع الرأسماليات الغربية الكبرى القوية برأسماليات الشرق النامية الضعيفة، وقد قُيض لرأسماليات الشرق أن تبرز روسيا كقوة طليعية عالمية لها، وبطبيعة الحال وبسبب مستوى الوعي، أُعتبر ذلك صراعاً بين الرأسمالية والاشتراكية، وأعطى الشكلُ الذي ظهرتْ بهِ الرأسماليةَ في روسيا كشكلٍ رأسمالي حكومي التباساً في فهم العملية التاريخية، لكن كان ذلك إبرازاً لسببية أقوى هو دور الدولة في الشرق الحاسم في عمليات التحول الاقتصادية.
لقد كان بروز الدولة في هذه العملية التاريخية إستعادةً لهذا الدور القديم الراسخ، ولكن جرى هذه المرة في سبيل إحداث قفزة اقتصادية كبرى، أدت إلى خلق القواعد الرأسمالية الحقيقية للاقتصاد عبر التركيز على الصناعة الثقيلة المحورية في حدوث الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، مع يترافقها من عمليات تحديث اجتماعي وثورة ثقافية ومساواة قانونية للنساء بالرجال، وبالتالي قربت هذه العملية التاريخية الكبرى روسيا من مصاف الدول الرأسمالية الكبرى في غضون نصف قرن، إذا تغاضينا عن الحروب التي شُنت على روسيا والمقاطعة الاقتصادية والعلمية، وكان لذلك ثمن باهظ لكن العملية أُنجزت، كما قامت روسيا كذلك بجعل تجربتها عالمية عبر الصين وفيتنام وأوربا الشرقية الخ..
ثم انضمت دولٌ عربيةٌ إلى هذه التجربة بدون ذلك الحسم السياسي، وهو قوة الدولة في تغيير الهياكل الإقطاعية وإحداث القفزة الكبرى بسحب الفائض الاقتصادي من مسام المجتمع كله وتوجيهه نحو الصناعات الكبيرة والعلوم.
وإذ استطاعت دول روسيا والصين وشرق أوربا من تحقيق معدلات تنمية غير مسبوقة بشرياً، فإن دول العالم الثالث الأخرى ظلت تراوح في مشكلاتها وتخلفها وتجرجر أذيال الماضي كامعاء لا تـُدفن، لكن ذلك لا يعني عدم حدوث أخطاء كبيرة في التنمية.
فقد عملت التجربة على تملك كل أشكال الملكية الخاصة دون تفريق ونظرة بعيدة المدى، فصادرت الأملاك الإقطاعية الأسرية والدينية أولاً، ثم الملكيات الصناعية والتجارية ثم توجهت لأملاك الأرض المتوسطين ومن ثم الصغار، مما حول الدولة إلى المالك الوحيد، باعتبار أنها ستكون جسراً نحو الملكية الشيوعية المفترضة، أي أن هذه الملكية العامة ستلغي نفسها، وهو عكس التصور الشيوعي الأصلي الذي يقول بأن الملكيات العامة الناتجة من تطور تقني هائل، لن تحتاج إلى دولة لتشكلها بل أن الدولة نفسها ستذوب وتغدو إدارة الاقتصاد ذاتية من قبل المنتجين وإداراتهم، فيغدو التصور(الإشتراكي) الروسي مطابقاً لرأسمالية قومية، تقوم بتضخيم الدولة وتسريع العملية الاقتصادية، وهو ما قلنا بأنه يتماشى مع الجذور الاستبدادية الشرقية في عملقة الدول وتحكمها، وهذا ما أدى إلى قدرة هائلة على السيطرة على الفوائض الاقتصادية وتوجيهها إلى الصناعة الثقيلة، وعبر تقشف وزهد ثوري خاصة في البداية، وتوسيع المشاركة الشعبية والحزبية إلى اقصى حد في التنمية ومراقبتها، وبدون هذا التلاحم الشعبي والحزبي والقتالية الثورية التي تشكلت خلال هذا الوهم الإيديولوجي بتشكيل الاشتراكية وإذابة الفروق إلى الأبد بين الأغنياء والفقراء، وعدم العودة للاستغلال، ما كان للتضحيات الشعبية أن تتشكل.
ولكن حدثت المعجزة بشكل آخر وهو انضمام الدول الشرقية الكبرى إلى النادي الرأسمالي الغربي، في حين أن الدول العربية التي ماشت هذا الوهم الإيديولوجي ماشته بكثير من التردد والخوف، فقد عارضت مصادرة الملكية الإقطاعية السياسية والدينية، رغم أنها هي الأخرى كانت تعبيراً عن دكتاتورية شعبية لكن هذه الدكتاتورية لم تلبس ملابس الدكتاتورية الطبقية المفترضة، فهي خائفة من دهسها من قبل هذه الدكتاتورية، وهكذا كان قادة المعسكر (الاشتراكي) قادمين من صفوف العمل السري الطويل ومن الحروب الأهلية ومن بين العمال والفلاحين، لكن قادة (الاشتراكية) العربية كانوا عسكريين بيروقراطيين، فعجزوا عن الحسم مع الملكيات الإقطاعية والإرث الإقطاعي الاجتماعي والديني، فوجهوا ضرباتهم الاقتصادية إلى البرجوازية الصناعية أولاً، في حين تركوا الوسطاء من مقاولين ومن صيارفة ومن ملكيات زراعية كبيرة، وتركوا القوى العمالية الفائضة دون حشدها في قوة العمل الاجتماعية، فاستمرت قوى الهامشيين كالعاطلين واللصوص والشحاذين والمومسات بشكل واسع، وعجزوا عن دمج أكبر قوة مهمشة في الإنتاج الاجتماعي وهي النساء، وكان من ثمار هذه السياسة(الإشتراكية) عدم بناء الصناعة الثقيلة فاستمرت نفس الهياكل الاقتصادية المتخلفة مع بعض التطور في الصناعة المتمثل في بناء بعض مصانع الحديد والصلب وغيرها من المنشآت كمنشآت الري، هي الحدود التي بلغتها مثل هذه التنمية التي رفضت تشكيل الصناعة الثقيلة، بدعوى عدم التضحية بالجيل الراهن، وما لبثت أن تنامت سوسة البيروقراطية والفساد في هذه الملكية العامة نفسها، فقلصت إيجابياتها أو جعلتها في خدمة قوى الطفيلية المتصاعدة.
وفي حين أن الدول الشرقية (الاشتراكية) قد عانت فيها الصناعة الخفيفة المهلة، وأدت البيروقراطية إلى شلل تقني وإلى العجز عن ملاحقة الثورة المعلوماتية والعلمية، بعكس ما كانت تنادي به الاشتراكية في أدبياتها الأولى، لكن الصناعة الثقيلة قد شكلت، وتغلبت في أحيان عديدة على مستويات بعض الدول الرأسمالية الغربية. أما الدول الاشتراكية العربية فهي ضيعت الصناعتين فلم تجذر صناعة ثقيلة ولا خفيفة، وكان من جراء ذلك ما سُمي بـ(الانفتاح) وهو القضاء على الصناعتين معاً وترك الاستيراد يستولي على السوق الوطنية.
ودليل ذلك يظهر في السلعة، حيث لا توجد سلعة مصنعة عربية هامة، في حين إن الدول الشرقية (الاشتراكية) تمكنت من تصنيع سلع كبيرة رغم أن المواصفات ليس بجودة السلع الغربية تماماً، لكنها في الطريق لكسب معركة الجودة والنوعية.
وهذا يعني أن الطبقة الإدارية التي لبست عباءة الاشتراكية في الشرق إعادت تشكيل قوة العمل البشرية لتلائم الاقتصاد الحديث، وحافظت على خلق سوق وطنية كبيرة محمية، ووجهت الفوائض الاقتصادية نحو معركة التغيير الاقتصادي الحاسم، وغيرت البنية الاجتماعية الشعبية المحافظة التقليدية لتلائم سوق العمل العصري في حين لم تفلح ذات الشريحة في العالم العربي القيام بذلك.
يقوم المضمون الإقطاعي العربي الموغلُ في القدم بدمغ أية ظاهرة واردة من الخارج، فيحيلها إلى هيكليتهِ ويمتصُ حداثتَها في تخلفه، ورأسامليتها في إقطاعيته.
فامتيازاتُ النفط وواردته تقسم بين الشركة الغربية والعائلة الحاكمة أو قيادة الحزب أو قيادة الدولة، فبدلاً من أن تكون ملكية النفط إنتاجية خاصة أو تابعة لدولة ديمقراطية، تصبحُ ملكاً لأطراف سياسية متنفذة، تعكس مصالح الطبقة المسيطرة في البلد المعني.
وفي حين يخصص قسمٌ صغيرٌ للخدمات ومصالح الدولة العامة تقوم ذات القوى المحلية المهيمنة وحلفائها في الإدارة بشفط قسمٍ آخر منه ذلك التقسيم الثنائي؛ غربٌ مستكشفٌ مستورد، وشرقٌ منتجٌ مالك، وهي تسمياتٌ على غير مسمى.
هكذا يقوم الإقطاع بتحويل ملكيةٍ رأسمالية حديثة إلى ملكية إقطاعية أساسية، في موارد الإنتاج الكبرى، ثم تجري كل العمليات الاقتصادية الفوقية بطريقة رأسمالية من تحديد للرأسمال الثابت أو المتغير وأسعار المواد الخام وبيعها، ولكن المضمون الأساسي، وتحديد أساسيات الدخل، تتم من خلال عوامل سياسية مسيطرة على العلاقات الاقتصادية، وهو أمر لا يختلف عما حدث في العصرين الأموي والعباسي.
وهذا يندرج على الاصطفافات التجارية وطبيعة العائلات التجارية التي تتشكل من خلال قرارات سياسية عليا، عبر تشكل علاقات سياسية معينة بين الطبقة المسيطرة وهذه العائلات التجارية، فيجري السماح لعائلات معينة أو منع عائلات معينة من التجارة أو من الدخول إلى البلد، أو إعطاء جنسيات معينة حق مزاولة مهن مهمة، كما حدث للعائلات الأوربية المهاجرة في بعض الأقطار العربية ومنحها أمتيازات لا تـُمنح لمهاجرين آخرين.
وتقوم العائلة المالكة للأرض والعباد أو المكتب السياسي للحزب الحاكم أو هيئة الضباط المتنفذة، بتقريب أو إبعاد الموظفين الكبار وتحديد بناء الوزارات والإدارات تبعاً لمصالحها ونفوذها ومداخيلها.
بل حتى الموظفين الصغار يتأثرون بالسيطرة الإقطاعية على أجهزة الدولة، فهي ترتبُ الدوائرَ لخلق صراعات مذهبية أو دينية أو قومية وتكون خالية من الأفكار المناوئة لها، وتخفض الرواتب هنا من أجل ضبط السيطرة وخلق االفئات الدنيا المحتاجة.
وإذا كان المضمون الإقطاعي هو المشكل لجوهر الملكية العامة فالطلاء الغربي الخارجي يكون متحداً بذلك المضمون، عبر المظاهر الحديثة والأشكال المحاسبية الغربية، لأن السلعة الخام لن تبقى في البلد المعني، بل سوف تكون من نصيب البلد الغربي، فليس مكان الإنتاج سوى مكان عابر، في حين يكون البلد الغربي الرأسمالي هو المكيف للسلعة من أجل حاجته ومشروعاته وتطوره. فيغدو البلد(المستورد) هو المنتج، ويصير المشتري هو المتحكم في عملية البيع.
يغدو مكانُ إنتاج السلعة ضمن النظام الإقطاعي المحلي مستهدِفاً لغاياتٍ سياسية بارزة، أهمها استمرار تدفق المادة الخام الثمينة، كمادةٍ خام أو كمادة محوَّلة بعض التحويل، في حين تبقى العمليات التقنية والاقتصادية العميقة من اختصاص البلد المستورد، وهذه التحولات العميقة هي التي تبقي البلدُ المتطور مسيطراً ورأسمالياً في حين تبقى البلدُ المصدرُ إقطاعيةً تابعة.
وإذا حدثت تطوراتٌ رأسمالية في البلد المصدر فإنها تبقى رأسمالية فوقية أو سطحية لا تصل إلى تصنيع المادة الخام إلى اقصى مدى.
وليست المادة الخام ثمينةً إلا لظروف اقتصادية تاريخية تتعلق بأهميتها في بلد الاستيراد المُسيطر، وليس في البلد المُصدر، فمن اكتشفها أو زرعها وخلق شبكة إنتاجها المحلية وشبكة توزيعها الدولية هو البلدُ المستورد، لظروف اقتصادية مرحلية تتعلق بتطور قواه المنتجة، ودور السلعة المستوردة البارز في هذا الإنتاج، وحين تُشاع مثل هذه السلعة أو تحل محلها بدائل كالقطن الذي نافسه الحرير والنايلون والقماش العادي، فإن نظام الاستيراد المسيطر يتغير.
ولا تقتصر قوى نظام المستورد المحلي على الطبقة الإقطاعية المالكة أو المشاركة في الملكية، بل على قوى تقدم مساندة مالية وخدماتية وعملية للمشروع، كالمقاولين الذين يستأجرون عمالاً أو يبيعون مواداً مفيدة للمشروع، أو كالتجار الذين يشترون جزءً من المادة الخام أو المكررة ويوظفونها في السوق المحلية أو يصدرونها للسوق القريبة، ولا بد لهؤلاء أن يكونوا مرضيين عنهم من قبل الطبقة المسيطرة، حيث يمثلون جزءً من الحزام الاجتماعي الحامي للمشروع.
أما العمال فهم يجلبون بسبب قوة عملهم، التي يخضع تطورها لتطور قوى الإنتاج في المشروع.
إن السيطرةَ الإقطاعية تصيرُ دائماً هي مضمون الظاهرات الاقتصادية، في حين يغدو الشكلُ رأسمالياً، وهذا التناقضُ هو مشكلُ البضاعةَ الأساسية، التي هي المادة الخام الكبرى التي يقوم عليها الاقتصاد كالفوسفات أو البترول أو القطن، ومن ثم يتغلغلُ في كل ظاهرات الإنتاج والحياة.
فكما رأينا كيف غدت سلعة البترول وهي البضاعة الأساسية التي ستحركُ نظامَ الإنتاج برمتهِ متناقضةً بين سيطرة الإدارة السياسية الاستعمارية – المحلية، ذات التوجه السياسي المفروض من أعلى، وبين طبيعة السلعة ذات المعايير الاقتصادية الحديثة المجلوبة من الغرب والمعبرة عن عالم (حر)، فنرى في (البضاعة) صراع التشكيلتين وتباينهما.
فهنا إقطاع وهناك رأسمالية، هنا قديمٌ مهيمن، وهناك حديثٌ براني خارجي، وكما يبدو ذلك في السلعة التي تشكلُها قوةُ العمل فإن قوةَ العمل ذاتها تعيشُ نفس التناقض.
فقوة العمل المنضمة لأحدث نظام اقتصادي عالمي وقتذاك تكون مُخرجةً من حقولٍ خربة أو كاسدةٍ أو من مغاصاتٍ انتهى زمانها، أو من اقتصاد رعوي ضاق بأهله، أو من ريف متخلف تكنولوجياً واجتماعياً.
ومن هنا فالعاملُ وهو يبيعُ قوةَ عملهِ يبيعُها في وقتِ كساد أو أزمة أو انهيار أو ضعف، ولهذا فإن المعروضَ من قوة العمل يكون كبيراً، فتتدنى الأجورُ إلى أدنى حالاتها، في سلعةٍ هي ثمينة جداً على المستوى العالمي.
فالمجتمع المتخلف التابع لا يعرضُ سلعتيهِ: البترولَ والعمالَ، وهو في حالةِ حرية، بل في حالة تبعية، فيعرضهما بأسعار متدنية، سواءً على المستوى السياسي الذي يظهرُ في امتيازات النفط الممنوحة بشكلٍ أسطوري للشركات الأجنبية، أو في حالة أجور العمال التافهة.
ومن هنا فهو يقدمُ قوةَ العمل وهي في مجتمع تقليدي، مصنوعةً من موادِ عيشهِ البسيطة كالأرز والخبز والأسماك أو العدس والفول، أي كل المواد التي تصنعُ جسمَ العامل بأسعار متدنية جداً.
مثلما أن أماكنَ سكنهِ هي الأكواخُ والبيوتُ الكبيرة المزدحمة بالأطفال، ذات الإيجارات البسيطة، مثلما أن معرفته معدومة وعقله مشحون بالخرافات، وهو يجلبُ للاقتصاد الحديث ما تعلمهُ من عادات في أعمالٍ سابقة أو من فنون تعايشت واقتصاد مختلف، كما يجلبُ خاصةً أميتَهُ التي تكون بعيدةً جداً عن قراءة اتفاقيات النفط أو كيفية تشغيل الآلات.
وهكذا فإن العاملَ القادمَ لاقتصاد عصري يكون قادماً من اقتصاد إقطاعي ينهار، يعرضُ قوةَ عملِهِ كبضاعةٍ تشكلتْ في اقتصاد تقليدي، ومن هنا يتحدثُ هذا العامل شكلانياً، أي يصيرُ جزءً من عالم الحداثة وهو يحملُ داخلَهُ علاقات المجتمع الإقطاعي وثقافته، فيقوم بتغيير الثوب البحري أو الريفي أو البدوي، ويلبس البنطلون، الذي هو زي موحد سواء في مصر أم بريطانيا، مثلما يلبسُ القميصَ أو يضع النظارة، أو يتعلم بعض جوانب المهنة الحديثة.
وحين يرتقى أكثر يعرف بعض أسرار هذه الآلات الجديدة بعض الشيء، من تشغيل وملحقاته.
إن التناقض في البضاعة له مستوياتٌ متعددة، ففي البضاعة ذاتها كجسد مادي خالص، وهي هنا تتبدى كشكل سائل، فإنها تبقى في أرضها الذي ظهرت منه بجسدها نفسه أو بعض مشتقاته، في حين أنها تحصل لها تطورات هائلة حين ما تنتقل للعالم الآخر. ففي الإقطاع تظل مادة تشغيل لبعض المحركات أو مادة ثقيلة للشوارع، أما في الغرب المستورد فإنها تظهر بكل تركيباتها وتتشكل عليها مجموعة كبيرة من الصناعات.
وعلى مستوى آخر فإن هذه المادة حين تتحول إلى رأسمال في البلد المستخرجة منه تتحول إلى مداخيل في اقتصاد إقطاعي، أي تتجه أساساً لخدمة الطبقة الإقطاعية الحاكمة، وإداراتها وجيشها وبوليسها، والجزء الباقي يتوزع بين التجارة وقوة العمل.
أي أن المداخيل في البلد المصدر تتوجه أغلبها لعمليات اجتماعية وسياسية لا تضيفُ تراكماً نقدياً على البضاعة، بل تصبُ في جهة الاستهلاك الجماعي، خاصة مداخيل الطبقة الحاكمة، في حين إن التجارة توظف بعضه لعمليات استيرادية معاكسة لعملية التصدير، والجزء الأخير الأقل شأناً يظهر كأجور.
وفي حين تتضاءلُ رأسماليةُ البضاعة المنتجة في البلد المصدر، وتستحيل إلى علاقات إقطاعية اجتماعية وسياسية وثقافية، فإن كل ينابيع رأسمالية البضاعة تظهر حين تصل البلد المستورد، فتظهر مكونات كثيرة لها، كما تتصاعد قيمها بتحولها إلى مواد مصنعة، فتطور السوق الرأسمالية بقوة.
ويتعاكس التصدير والاستيراد حول البضاعة المركزية، وهي مركزية فقط في حياة البلد المصدر، لكونها مادة خام أولية أو شبه مصنعة تكون أقرب للمواد الزراعية منها للصناعة.
سلعة (البترول) سلعة حديثة رغم عفاريت الكيروسين والقار القديمة التي كانت تتراءى لبدو الصحراء ورغم الجمال المنبوذة التي تـُطلى بها.
فهي سلعة غربية اكتشفها وانتجها الغرب عبر شركاته، فضخم من وجودها ودورها كما يفعل تجاه البضائع العصرية المركزية، كالفوسفات والذهب والفضة وباقي المعادن.
لم يعرف العالمُ القديمُ السلعة المركزية التي تهيمن على البناء الاقتصادي هيمنةً كبيرةً بهذا الشكل، فهو يعيشُ على سلة كبيرة من البضائع، صحيح إن سلعة الذهب كانت تدوخه إلا أنها تبقى أداة نقد واكتناز.
إن تشكيلَ البضاعة المركزية في العالم الشرقي هو في حدِ ذاتهِ عمليةٌ جراحية خطيرة تـُعمل لمريض بالجوع ومصاب بكل الأمراض القديمة، لكنها عملية إعاقة أكثر منها عملية علاج، فهي فقط تشفي الطبيب الغربي من نهمه للذهب. فالبضاعة الرئيسية المركزيةُ تقودُ إلى تورم الجسم، فالمجتمع النفطي يغدو نفطياً، والمجتمع الفوسفاتي يبقى فوسفاتياً، ومجتمع الحرير يبقى حريرياً، ويسيطر الشاي على الهند وسيلان، وتبقى العديد من أقطار أمريكا اللاتينية مصابة باستفحال الموز كبضاعة، وتحاول بريطانيا أن تجعل المجتمع الصيني أفيونياً فلا تقدر وتستطيع أن تجعل المجتمع الأفغاني حشاشاً.
إن الاستعمار يركز على إنتاجِ سلعةٍ واحدة كبرى في البلد المعني، مثلما يقوم في المصنع بتخصيصِ أصبع واحدة للعامل من أجل العمل تاركاً كل جسده الباقي معطلاً، وكما أنه يجعل العامل معاقاً في مصنعه فإنه يجعل شعوباً كثيرة معاقة عن المشي التاريخي الطبيعي.
وفي حين إن بضاعة الشاي الهندية تظهر كجزء طبيعي من الزراعة الهندية، مثل الموز في أمريكا الوسطى، لأنها تظهر في شبكة من البضائع القديمة المختلفة، الناتجة من كيان زراعي ومدني له تاريخ هام، إلا أن بضاعة البترول مختلفة فهي تظهر فجأة من باطن الأرض المجدبة وحولها قفار وصحارى واسعة، ومن هنا كان ظهورها وتفجرها يُربط بشكل سحري وأنه جزء من نشاط الجن.
لقد ظهرت عبر استكشاف غربي، علمي، فهي بضاعةٌ لها علاقة بتطور المحركات والطاقة، وبالبحث الغربي عن مصادرٍ لطاقةِ المصانع والآلات الضامئة أبداً للنار، وجاء هذا النشاط الاستكشافي ككل حركة علمية مرتبطاً بالحاجة الضرورية لقوى الإنتاج، وفي هذا الوقت كان التفسخ يتوالى على الأمبراطورية العثمانية آخر أمبراطورية جمعت المسلمين، فكان تفكيك هذه الأمبراطورية يتناغم مع انفتاح شهية الدول الغربية للاستعمار، ومع ظمأ المصانع لطاقة رخيصة كبيرة، فاشتغلت اليدان السياسية والعلمية على تقديم البلدان شبه الصحراوية و الصحراوية كبضاعة سياسية كبيرة على مائدة جوع العواصم الغربية وآلاتها.
وهكذا أختلفت بضاعة البترول عن بضاعة الشاي الهندي، فهي بضاعة مرمية في الصحراء البعيدة، لا تربطها وشائج بالمدن، وهناك شيوخ القبائل يمرون ويتغوطون دون أن يعبأوا بهذه الرمال الخالية.
فليس ثمة شبكة تربطها بمدن أو بزراعة، وليس ثمة أحد يملكها، فهي (معجزة).

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ لينين و مغــــــــامرةُ الاشتراكيةِ ــ الكتاب الثاني

لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته

مقدمة

لينين في محكمةِ التاريخ
إنتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظللَّ هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرسَّ نفسه لكي يكون ديكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها كما تصور.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون لعشرات السنين وربما لمئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها وديكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما تغلغلت زادت البرامج شموليةً وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالمٌ إستبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة لا يستطيع أن يغير، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الديكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي إعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهضْ على أكتافِ مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حركا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ على الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركز على مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز على النضالات السلمية، والمحبة، وعلى(البعث الروحي) وهذه إعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ لنفس مسار روسيا بدون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فبدون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وإنتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون إشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في إستبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها نفس السمات كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في(ما العمل) أكدَ ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وإنقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون إستبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويغلغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيرَّ روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى إستعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!
سبب إنقلاب لينين على الحكومة الديمقراطية وقتذاك الكثير من المآسي للشعب ولكنه حقق نهضة هائلة.
كان تصعيده للصراع ضد حكومة أتاحت الأحزاب والانتخابات لكونِ برنامجه من البداية ينادي بإبعاد البرجوازية عن السلطة، وحين جاءتْ سنةُ التحولِ في 1917 سّرع من الدعوة لتحقيق مطالب شعبية ملتهبة، وعزلَ البرجوازيةَ عبر التحالف مع الفلاحين، وكان قبلاً لا يؤيد إعطاء الأرض للفلاحين لكنه في خضم الصراع ومن أجل تفكيك الخصوم وضرب بؤرتهم جذب الحزبَ الثوري الشعبي ذا الأغلبية وتبنى برنامجه وأضافه في لعبته السياسية، فحقق البلاشفة الأغلبية لأنفسهم وجاءت الملايين لتأييده، فهذا الإجراء حقق قاعدة هائلة في بلد يحكمهُ على الأرض الفلاحون.
لكن البرنامج البلشفي ليس هو هذا، وهو برنامجٌ عامٌ مجرد في بداياته، ويتوجه نحو ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة بشكل أساسي، بتأميم المصانع، وبهذا فإن البلاشفة أسسوا جيشاً كبيراً ومخابرات قوية، وراحوا يصفون الخصوم الخطرين، ثم ينقلبون على الحلفاء، فالحزبُ الشعبي حاول أن يعري هذه الدكتاتورية التي هي ليست دكتاتورية العمال، بل دكتاتورية البلاشفة، فكانت ضربة الحزب العنيفة حين أعلن بعضٌ بحارتهِ وعماله التمرد وتحول لغبار بشري!
تكوين سلطة بلا جذور، وعبر إجراءات إجتماعية وتشكيل أجهزة عسكرية وإستخباراتية عملاقة، أتاح صد المعارضين والقوى المتدخلة الأجنبية على التراب السوفيتي، وكان المتصور إنها بإمكانياتها العالمية قادرة على سحق هذا النظام الغض المحاصر، لكن تلك الأجهزة وإجراءتها التحولية لمصلحة الغالبية الشعبية، وعمل إنضباط هائل ومصادرة أية حبة قمح زائدة عن إستهلاك الفلاحين، أدت لتماسك النظام وإنتصاره وحدوث قمع رهيب وضحايا ومجاعة.
لكن هذا الرجل صاحب المشروع الدكتاتوري النهضوي مرهف لشعيرات التحول، فحين رأى تجاوز المرحلة السابقة وكم الدمار والتخلف والضحايا، تبدل عن هدفه في إزالة الطبقات، وتحول بنفسه لرئيس نظام رأسمالية الدولة.
ومنذ البداية كان مدركاً لطبيعة النظام الذي يؤسسه، قال في سنة 1918 في اللجنة المركزية: إننا نبني اليوم رأسماليةَ الدولة فعلينا أن نطبق وسائل المراقبة التي تسعملها الطبقاتُ الرأسمالية). وبعد ذلك في 1921 تحول هذا إلى نظام وعادت بعض الطبقات القديمة المالكة، ومضى المجتمع في تطور إقتصادي مع بقاء الأجهزة العسكرية والأمنية المتصاعدة النفوذ، وذابت قوى المعارضة أو أُذيبت، وإنتشرت معسكرات العمل الأجباري والمنافي وتحضرت البلاد لدكتاتورية أسوأ من دكتاتورية لينين.
إن مشروع الاشتراكية في إجراءات لينين قبل موته لم يزل قائماً، ولم تُعرف تصوراته للمستقبل، وماذا كان ينوي لو كان حياً، فهذه القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وبقاء الملكيات الصغيرة الفلاحية الهائلة، كان لا بد من تغييرها ونشؤ الملكيات العامة والتعاونية في كل الاقتصاد حسب التصور المفترض، وكان المكتب السياسي به قيادات مثقفة كبيرة، وكانت قادرة على متابعة فكره وتطبيقه بمرونة.
لكن الدكتاتورية المؤسَّسة بأجهزتها وبزخمها العامي وجدت في ستالين رمزها، وهو رجل داهية إستطاع الوصول لهذه الأجهزة، وقد حذر لينين المؤتمرَ العام للحزب من خطورة هذا الرجل، وبضرروة تقليص صلاحياته.
هذا الجانب ينقلنا لطبيعة الدكتاتورية التي أسسها، فهي دكتاتورية عنيفة لها أخطاء وتجاوزات كبيرة، لكن تستند على تطور المشروع بشكل ذكي، وقد نوّهَ بقياداتٍ أخرى غير ستالين، ولكن الهيمنة البوليسية صعدت داخل الحزب، وكرست الدكتاتور الأكبر.
وهذا جزء من طبيعة النظام وتاريخه وإمتداداته في العامة، وتصعيد الانتهازيين وطلاب المكاسب، وتحنيط اللغة الجدلية التاريخية تدريجياً وتحولها لقوالب، وشمولية كلية، وهذا يؤدي لغياب الغنى والتنوع وتمركز السلطة أكثر فأكثر.
المشروعُ في النهاية ظهر عبر مضمون المجتمع ومرحليتهِ التاريخية، فرأسمالية الدولة تتوسع على حساب الطبقات المنتجة، فتم عّصر الفلاحين والعمال وإنتزاع رأس المال منهم، وتحويله للصناعات والعلوم وتغدو الدولةُ أكثر فأكثر ذاتَ مضمون رأسمالي داخلي، بشكلٍ إشتراكي زائف، حتى يصل المضمون لتجليه الكامل عبر إعادة البناء، ويقوم بالتخلص من النفقات المكلفة ومن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية(الأممية الثالثة)التي تبخرت ومن مساعدات حركات التحرر ويصدرُ السلاحَ السلعة الوحيدة التي تمكن منها ويبحث بكل قوة عن النقد.
كان لينين دكتاتوراً ولكن ليس من خلال رؤية ذاتية، بل من أجل نظام آمن بتشكله عبر إجراءاته، لكن ستالين كان ذاتياً، أسقط شكوكه وكراهيته وتخلفه الفكري على إدارته، فأضاف الكثيرَ من القمع بلا مبرر.
قال أحدُ الرأسماليين المثقفين الروس في أثناء تلك التحولات العاصفة: إن لينين يقوم بإنشاء رأسمالية متطورة وبوسائل دكتاتورية وهو أمرٌ نعجزُ عنه نحن.

الفصل الأول

الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية
يضعُ لينين تعريفَ المفكر فريديريك أنجلز بدايةً لكتابهِ(الدولة والثورة)، الذي يُعرفُ الدولةَ في كتابهِ(الملكية الخاصة والعائلة والدولة)بأنها تنشأ:( لكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطفُ الاصطدامَ وتبقيه ضمن حدود «النظام».(1).
لكن لينين يقولُ شيئاً آخر:
(إن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدرِ ما لا يمكن، موضوعياً، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها).
وجهتا نظرٍ تبدوان متقاربتين لكن ثمة تشويشاً إيديولوجياً في تعبير لينين.
فحين تتصاعد التبايناتُ الاجتماعيةُ في القَبليةِ على سبيل النشأة التاريخية فإن جهازَ الدولةِ يظهرُ من رؤساء العشائر والمتنفذين ليجعل التناقضات الاجتماعية غير مفجرةٍ للقبيلة، وأن يستمر وجودها الاجتماعي الموحّد، وحين تغدو القبيلةُ متحكمةً في مدينة وتقوم القوى العليا بالحكم فيها وتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ فتظل الدولةُ قامعةً للخارجين عن سيطرتها ولخلق وحدةٍ إجتماعية سياسية.
إن التناقضات الطبقيةَ يمكن الموائمة بينها حسب طبيعة أسلوب الإنتاج ومدى تطوره أو تفسخه، وليس بشكلٍ تجريدي عام كما يصورُهُ لينين.
فإذا كان أسلوبُ الإنتاجِ مستمراً متطوراً فإن الدولةَ المعّبرةَ عنه تبقى مستمرةً وتبدأ الدولةُ في التخلخل والانهيار التدريجي حين يغدو أسلوبُ الإنتاج متناقضاً، وتصطدمُ قوى الإنتاجِ بعلاقاتِ الإنتاج المتخلفة، وعلى قدرةِ الدولةِ والقوى السياسيةِ بفهم هذا التناقضَ الجوهري وإيجاد الحلول له، فإن الدولةَ تبقى وربما تتطور، وربما تدخلُ في تناقضاتٍ مستعصية على الحل كالحالة الروسية.
لا يقومُ لينين بدرسِ أسلوبِ الإنتاج ليضعَ بعد ذلك الجوانبَ الداخليةَ فيه كالدولة والصراع الطبقي ضمن مساره، فيقرأها على ضوء الكل، على ضوءِ التشكيلةِ التاريخية.
(الإيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الإيديولوجيون البرجوازيون الصغار، – المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمراً ممكناً. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق – الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! – الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفاً اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.)، (2).
يتم الصراع الإيديولوجي هنا بين وجهتي نظر محصورتين في جوانب جزئيةٍ ضيقة، فالدولةُ لدى لينين أداةُ ظلمٍ من طبقة لأخرى، وكلمة ظلم مثالية أخلاقية، ويمكن قراءتها بأن الدولةَ أداةٌ في يد طبقةٍ لإستغلال طبقات أخرى حسب تاريخ التشكيلة، فيمكن لدولةٍ بأن تقوم بالصراع مع الطبقة التي تمثلها، وتطرح إجراءات تحويلية، في الاستثناء التاريخي، ويمكن أن تظل أداتها المعتادة في الحكم في الأحوال العادية.
ما يحددُ التغييرَ والعاديةَ في مسلك الدولة، وما يحددُ الثورةَ هو مدى تطور التناقض في أسلوب الإنتاج. فأسلوبُ إنتاجٍ في بدايتهِ ربما تلجأُ فيه الدولةُ لإجراءاتٍ إيجابية مفيدةٍ للكل الاجتماعي كما يحدث في ظروف الإصلاحات الاقتصادية السياسية. وما يحددُ الانفجارَ هو عجزُ الطبقةِ عن تغيير التناقض المتفاقم في أسلوبِ الإنتاج.
ومن هنا فإن التعبيرات المُستخدمة في هذه الفقرة السابقة أعلاه هي مواقفٌ جزئيةٌ لا تدلُ على أن الثورة لازمة حتمية أو أن الإصلاحات غير ممكنة أو أنها ضرورية، فالأمور هنا خاضعة للمجتمع ودرجات تطوره وتناقضاته وكيفية حلها، من قبل القوى الاجتماعية السياسية المختلفة.
فتعبيرُ لينين بكونِ الدولةِ أداةُ ظلمٍ، أو تعبير الاشتراكيين الديمقراطيين والجماعات الأخرى بأن الدولةَ أداةٌ للتوفيق بين الطبقات، لا يرتكز على قراءة تاريخ التشكيلة وأسلوب الإنتاج.
فالمجتمعُ الروسي القيصري هو مجتمعٌ إقطاعي فيه علاقاتٌ رأسماليةٌ متنامية، لكنه لم يحسم تطوره التحديثي بعد، فعلاقاتُ الإنتاجِ السائدة إقطاعية، وقوى الإنتاج البشرية السائدة وهم الفلاحون، والمادية وهي أدوات الانتاج في الزراعة خاصة تصطدم مع علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة.
ولهذا فإن الدولة الروسية هي دولة إقطاعية وينبغي أن تتحول لدولة رأسمالية حديثة وهو الخيار التاريخي، وحين يتوجه من يسميهم لينين بالبرجوازيين الصغار لتصعيد المجتمع الرأسمالي الحديث الديمقراطي وتغيير طابع الدولة يكونون في المسار التاريخي الصحيح، أما ما يقوله بالقفز على ذلك فهي مغامرة تاريخية كبيرة لها نتائج وخيمة.
في محاولتهِ لإقامةِ دكتاتوريته يتلاعبُ لينين بالنصوصِ الماركسية والحيثيات التاريخية، فالدولةُ كقوةٍ تمثل الطبقة السائدة هذا معنى معروف وشائع، ولكن القوى السياسية المعارضة لا تشكل فصائل مسلحة لهدم النظام بدعاوى مختلقة، بل عبر إعتمادها على التطور الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة المنبثقة عنه، لكنه يقولُ ذلك ويفعلهِ ليبررَ مغامرته العسكرية الذاتية، أي العائدة لفصيل سياسي مغامر يمثل الرأسمالية الحكومية ويقول أنه ممثل العمال وأنه يقيمُ الاشتراكيةُ لهم.
بالاعتماد على نصوصِ الماركسية القائلة إن الدولةَ جهازٌ يمثلُ الطبقة الحاكمة بشكل عام، لكن يمثله حسب تطور أسلوب الانتاج، لا في التجريد السياسي الاجتماعي، وعندما يقومُ بهذا التمويه وينتقي جملاً ويحشدها في برنامجه المغامر.
فهناك التعكز على كومونة باريس وإنشائها لقوةٍ عسكرية، ولكن هذه القوة تمت لغياب الجيش الفرنسي وللاحتلال الألماني لفرنسا، ولهروب الحكومة الفرنسية إلى فرساي، كما أن هذا الحدث الاستثنائي لا يُلغي في التاريخ الفرنسي العودة للمؤسسات الديمقراطية وإلى حكم الطبقة السائدة البرجوازية والصراع معها والدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية كذلك. لكن لا تستطيع الكومونة أن تقيم نظاماً إشتراكياً فرنسياً متواصلاً.
كذلك يستند لينين إلى دعاوى الفساد وأن الحكومات الغربية الرأسمالية ممتلئة برشاوى الشركات.
(وفي الوقت الحاضر«رقت»الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أية جمهورية ديموقراطية كانت).
إن تلوثَ الدول الغربية وتعبيرها عن الاستعمار والإستغلال هي أمورٌ لا شك فيها، ولكن هناك كذلك مؤسساتٌ تقاومُ وتفضح، عبر وجود برلمانات وصحافة مختلفة الاتجاهات وطبقات شعبية وحق الإضراب والتظاهر وغير ذلك، لكن في مشروع لينين الدكتاتوري فإن كل وسائل الفضح هذه سوف تختفي، والرأسماليةُ الحكوميةُ المزعومة إشتراكيةً ستغدو دكتاتوريةً شموليةً تمنعُ الصحافةَ المتعددة وحقَ الإضراب والانتخابات الديمقراطية وتُصعّد الفاسدين البيروقراطيين كحكامٍ ورأسماليين على مدى عقود حتى ينفجر الأتحاد السوفيتي بتناقضاته المزروعة من عهده!
إن التحالف والتعاون الذي تطرحهُ فصائلٌ سياسيةٌ إجتماعية متعددة من أجل إنشاءِ وتطور جمهورية روسيا الديمقراطية يهزأ به لينين ويرفضه، ويقول بأنه صارت في روسيا خلال الأشهر القليلة من سنة 1917 حيث إنتصرت الثورة الديمقراطية على الإقطاع ظاهرة فساد وهي دليل على فساد الحكومات الناشئة عن هذه الحيثيات السياسية وبالتالي يجب إسقاطها.
إن مقاومةَ الفساد هو شأنٌ نضالي جماهيري عبر تطور البرلمانات والأحزاب والصحافة والرأي العام والنقابات المستقلة، وغيابها هو بقاءٌ للفساد وتجذره في النظام حيث سيعششُ فيه ويخنقهُ مع غياب تلك الأدوات الديمقراطية كما حدث في نظام رأسمالية الدولة الشمولية الذي أقامه لينين.
(ويمكن القول في شهر العسل لقران«الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية.)، (3).
إن الإختلافات بين القوى السياسية الديمقراطية يجب أن تُحترم وتتطور لتشكيل نظام ديمقراطي وأن تُقاوم ظاهرات الفساد وفقر الناس وان تطور الإصلاحات في الريف وغير هذا من المسائل الملحة لتحقيق الثورة الديمقراطية الوطنية.
لكن لينين كدكتاتور يستغل هذه الوقائع ويفصلها عن مسار أسلوب الإنتاج والتشكيلة، عبر لصقها مع مقتطفات من أنجلز، وقد قرأنا لأنجلز في كراسه(حول المسألة الدستورية في ألمانيا) (4)
نظرةً مختلفةً عما يقولهُ لينين بالاستناد على أنجلز وكتابه(العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، وهو كتابٌ يعالجُ مسائلَ نظرية تاريخية بعيدة، في حين يوضحُ كراسُ المسألةِ الدستوريةِ أوضاعاً أوربية معاصرة، حيث يؤكد أنجلز في مقالته على أهمية دعم البرجوازية وتصعيدها لتشكيل نظام ديمقراطي حديث، بدون غياب الصراع معها.
نظرةُ أنجلز نظرةُ ثوري عالمٍ ونظرة لينين نظرة مغامر سياسي، لا يقوم بالتحليل العميق الواسع للظاهرة، بل يرتكزُ على مقتطفات غالباً ما تكون مطولةً من الكتب الأخرى، ليبررَ موقفه السياسي المفصول عن قراءة التشكيلة التاريخية عبر بضع عبارات وجمل.
فهل يمكن لنظام رأسمالي وليد في روسيا لم تمض عليه سوى بضعة شهور ليتم القفز عليه؟ فهو نظامٌ رأسمالي في قطاعات منه بينما علاقات الانتاج والحياة الاجتماعية إقطاعية سائدة؟
أسلوبُ الإنتاج الإقطاعي لم يتم تغييره، وثمة أسلوب لم يتعمق هو الأسلوب الرأسمالي، ثم يقال بأن هناك تشكيلة تاريخية أخرى هي التشكيلة الإشتراكية يجب أن تُفرض من أدوات السلطة!؟
ومن هنا فإن القوى السياسية الديمقراطية الروسية في تصعيدها للنظام الرأسمالي التدريجي كان ذلك ضرورياً، ثم جاءت المغامرةُ السياسيةُ البلشفية ومن ثم حدثتْ الحربُ الأهلية والتدخلات الأجنبية وسقط ضحايا بمئات الألوف.
إن غياب الرؤية الكلية لتباين مواقع الرأسماليات الغربية عن الدول الشرقية، وعدم قراءة أساليب الإنتاج في كلٍ موقع بين الغرب والشرق، وإعتماد الانتقائية في القراءة وإخضاعها لأدلجةٍ مسبقة لمشروع سياسي شمولي، وقلب الحقائق والمواقف الطبقية للفصائل المختلفة، وتصعيد المغامرات السياسية العسكرية، هذه هي نظرة لينين للعملية السياسية الاجتماعية، التي ستغدو مادةً وراثية لقوى سياسية كثيرة ستدخلُ في صلبِ أعمالها ومناهج عملها فتقودُ النضالَ الديمقراطي لشعوب الشرق إلى سكك خاطئة تفشل لتصعد القوى الطائفية والرجعية والرأسمالية الحكومية الطفيلية في نهاية المطاف .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
1-(نقلاً عن الدولة والثورة ص 4).
2- المصدر نفسه، ص 5.
3 – المصدر نفسه ص 8.
4 – حول المسألة الدستورية في ألمانيا، من موقع الحوار المتمدن، كتابات فردريك أنجلز.

الفصل الثاني

الماديةُ والعلومُ

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يُصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمُهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغربُ برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.

لكنه أيضاً يتوغلُ في مجال العلوم ويواجه تعددَ المدارس والتيارات الفلسفية المثالية العقلانية والمادية التجريبية من أجل إكتساح المادية الجدلية للمسرح الفكري. لكن أية مادية جدلية لديه؟
ظهرتْ في أواخر وأوائل القرن العشرين مدارسٌ وحركاتٌ علمية عديدة لا تنطلق من المادية الجدلية بل من وعي علمي مختبري ومن غوصٍ تجريبي في العقل ومن إستخدام اللغة في تحليل منتجات العلوم الطبيعية.
كانت مدرسة(التجريبية المنطقية) تتوجه نحو دراسة الظاهرات الطبيعية بأشكالٍ جزئية تجريبية، حيث تفصلُ الظاهرةَ العامة عن كلية الطبيعة، وتدرسُ عناصرَ التجربة، لاستخلاص نتائج موثقة.
تعارضُ هذه المدرسةُ أفكاراً ومسلماتٍ إطلاقيةً من أجل أن تموضع الدراسة، وتحللَ الشيءَ أو الظاهرة، ولهذا رفضت مفاهيم مثل(المادة) و(الجوهر) معتبرة إياهما آراءً قديمة غير نقدية.
(إن اللون هو موضوعٌ فيزيائي إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لمصدر النور الذي ينيره للألوان الأخرى والحرارة والمكان الخ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لشبكية العين فأمامنا موضوع نفساني إحساس).
إن التجريبية المنطقية تقوم بدرس هذين الجانبين المواد والأشياء عبر صلاتها بالأحساس والجهاز العقلي البشري:
(إن الصلة بين الحرارة والنار تخص الفيزياء في حين أن الصلة بين(العناصر) وبين الأعصاب تخصُّ الفيزيولوجيا، ولكن لا هذه الصلة ولا تلك توجد بمفردها بل توجد كلتاهما معاً)، (1).
هذا ما يقوله الفيلسوف الإلماني ماخ في القرن التاسع عشر والذي ينقله لينين في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
فيقسم النقدُ التجريبي عمليةَ المعرفةِ المتأتية من العلوم إلى عناصر شيئية، وعناصر تفكيرية.
ويقول مفكر روسي موجزاً هذا(الإحساس مُعطى لنا أصدق من الجوهرية). بمعنى أن المطلقات هي خارج عملية البحث والتحليل للأشياء.
يعبرُ لينين عن إختلافه بطرق هجومية حادة ويقول محدداً وجهة نطره:
(يجب القول إن كثيرين من المثاليين وجميع اللاادريين.. يلقبون الماديين بالميتافيزئيين لإنه يخيل إن الأعتراف بوجود عالم خارجي مستقل عن إدراك الإنسان يعني تخطي حدود التجربة. وسوف نتكلم في حينه عن هذه التعابير وعن خطئها التام من وجهة نظر الماركسية)، (2).
لا يحللُ لينين بدقةٍ مسألةَ وصف الماديين بالميتافيزيقية هنا، ويخلطُ بين(إن الأشياءَ مستقلةٌ عن وعي الإنسان بالمطلق)، وبين أن الأشياءَ ليست مسقلةً عن وعي الإنسان النسبي.
إن إنفصالَ الأشياء والطبيعةِ عن الإنسان هو أمرٌ موضوعي، لا جدالَ فيه، ولكنها ليست مستقلةً عن وعي الإنسان التاريخي حين يتعامل معها ويحللها ويحاولُ إكتشافَها.
وهكذا كان العلماء القدماء لا يفصلون أفكارهم وعقائدهم عن تحليل المواد، في حين وصلت العلوم بين القرنين 19 و20 إلى عمليات متقدمة لفصلِ الوعي الذاتي للباحثِ عن المادةِ المدروسة.
ومن الممكن بهذا أن يقعَ الماديون في عالم الغيبِ الاجتماعي السياسي كما سيحدثُ للينين نفسه.
ومن هنا تتعاظمُ أهميةُ هذه القراءة للاحساس، ولتحول الانطباعات إلى معرفة، والتركيز على التجربة، التي لها أدواتٌ ومستوياتٌ وتطوراتٌ في أجهزتِها والتي تغدو ملغيةً لمعلوماتٍ وآراء سابقة نظراً لهذه الصلة بين المُعطى والتجربة.
لهذا تغدو العلومُ الطبيعيةُ منفصلةً عن الفلسفات والأديان والآراء المسبّقة، وتغدو الفلسفات مستفيدةً من خلاصات هذه العلوم ومستثمرة لها في وجهات نظرها.
من الممكن أن يكون هؤلاء الباحثين مثاليين ودينيين وماديين من مختلف التيارات، بسبب أن نشؤ العلوم في الغرب جاء من وعي مسيحيين ويهود ومؤمنين عامة، وهؤلاء حاولوا الارتقاء بالعلوم وعدم الاصطدام مع أديانهم وحجموا دلالات ونتائج العلوم وربطها بالصراعات الاجتماعية. لكن لينين ينطلق من رؤية حادة لإزالة الأديان والإستغلال بدون وعي علمي حقيقي، فيؤدي لتجربة مغايرة لما يريد.
خذ مثلاً ما يقوله لينين نفسه عن الأثير وعلاقته بالوعي:
(وهذا يعني إنه توجد خارج عنا، بصورة مستقلة عنا وعن إدراكنا، حركة للمادة، مثلاً، موجات الأثير ذات الطول المعين والسرعة المعينة، التي يولدُ في الانسان، بتأثيرِها في شبكة العين، الإحساسُ بهذا اللون أو ذاك)،(3).
إن حركة المادة العامة المجردة هذه صحيحة التأثير غير أن(موجات الأثير) هذه غير موجودة في الطبيعة نفسها، أي أن هذا المصطلح من مفرداتِ مدرسةٍ علمية قديمة تم تجاوزها فلم يعد هناك شيءٌ اسمه موجات الأثير! لقد جرت تجارب علمية في أواخر القرن التاسع عشر أثبتت غياب هذا المُسمى، وبدأت نظرياتٌ علمية جديدة، ولكن مع غياب متابعة لينين:
(لقياس سرعة الموجات الكهرومغناطسية، قام ميكلسون ومورلي بإجراء تجربتهما الشهيرة سنة 1881وقد كانت هذه التجربة من أشهر التجارب في القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى ثورة علمية لأن نتائجها كانت تعاكس تماما أفكار الباحثين المؤيدين لفكرة الأثير).
بطبيعة الحال إن العديد من باحثي النقدية التجريبية مثاليون ومحافظون وبينهم باحثون مناضلون في نقد وتحليل العالم الطبيعي والاجتماعي كذلك، لكن التعددية وإستثمار العلوم ونتائجها وتطويرها بالنقد يخلق شبكات تحليل واسعة للحياة في مختلف جوانب المعرفة.
يولي لينين أهميةً كبيرة لرجل الدين باركلي بإعتباره مشابهاً بشكل كلي للعلماء الفزيائيين والمنظرين النقديين التجريبيين، أصحاب هذه الفلسفة الجديدة التي قام لينين بمواجهتها في سنة 1908 في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
(إن بريكلي يقول بكل جلاء إن المادة(جوهر لا وجود له)، ص 21.
يعتبر لينين ذلك بمثابة(الهجوم المقدس على المادة)!
إن رجل الدين المثالي هذا في تصوره يماثل أرنست ماخ الباحث من القرن التاسع عشر الفيزيائي المعروف.
لكن ثمة فرق هائل بين القس بيركلي والعالم ماخ!
فمن هو بريكلي هذا؟
(جورج بيركلي(مارس 1685 – 14 يناير 1753)كان فيلسوفًا بريطانياً-إيرلندياً وأسقفا أنجليكانياً يعتبر من أهم مساندي الرؤية الجوهرية في القرن الثامن العشر الميلادي، إدعى بيركلي انه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في عقل الله. وهكذا فأن العقل البشري لا يعدو أن يكون بيانا للروح. قلة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه الرؤية المتطرفة، لكن فكرة أن العقل الإنساني، هو جوهر، وهو أكثر علواً ورقياً من مجرد وظائف دماغية، لا تزال مقبولة بشكل واسع. آراء بيركلي هُوجمت، وفي نظر الكثيرين نُسفت)، (4).
إذن بيركلي صاحب رؤية دينية متطرفة ألغى من خلالها العالمَ الموضوعي، وأعتبرهُ مجردَ فكرةٍ إلهية، وهو إمتدادٌ للعصور الوسطى والوعي الكَنسي التقليدي، ولهذا فهو يختلفُ إختلافاً كبيراً عن إرنست ماخ المثالي الذي عاش في القرن التاسع عشر باحثاً:
(ماخ، إرنست (1838 – 1916م)فيزيائي وعالم نفسي نمساوي درسَ حركةَ الأجسام بسرعتها القصوى خلال الغازات، وطوَّر طريقة دقيقة لقياس سرعتها معبرًا عنها بسرعة الصوت. وتعتبر هذه الطريقة مهمة خاصة في مشاكل الطيران الأسرع من الصوت. ظل عمل ماخ مبهماً إلى أن بدأت سرعة المركبة الفضائية تقترب من سرعة الصوت. وبعد ذلك استُخدم مصطلح رقم ماخ مقياساً للسرعة.)، (5).
وهو(يـُذكرُ باسهاماته في الفيزياء مثل رقم ماخ ودراسة موجات الصدم. كفيلسوفٍ للعلوم، فقد كان له تأثير كبير على الإيجابية المنطقية ومن خلال انتقادهِ لنيوتن، الذي مهّد لنسبية أينشتاين).
تتعدد وجهات نظر لينين تجاه ماخ ورؤيته، فيقول(التصور العام للماخيين ضد المادة) ص16،( الأسقف بركلي يساوي الماخيين)، ص35، وأتباعه يحاولون(تمرير المادية خلسة!)، (حاول أن يميل صوب المادية).
إن علماء الطبيعة يقومون بتنحية المُسبقات المختلفة، ومنها الأفكار، والتصورات القديمة عن المكان والزمان والمادة، وقد يقعون في أخطاء فكرية في هذا الهدف، ولكنهم يلجأون لذلك من أجل البحث العلمي، وعملية التنحية تبدو للينين بمثابة خيانة، ومن هنا يقوم ماخ بالبحث الجزئي المتغلغل في الظاهرة المدروسة للوصول إلى معرفتها والسيطرة عليها تقنياً، ثم يقوم بإختراعاته الكبيرة لكن فهمه النظري المادي الجدلي محدود.
(إن افيناريوس ينعتُ بالبحث المطلق ما يعتبرهُ ماخ صلة(العناصر) خارج جسمنا، وينعت بالنسبي ما يعتبره ماخ صلة العناصر التابعة لجسمنا)، (6).
إن افيناريوس هو عالمٌ مماثلٌ لماخ أقتربَ من رؤيته، وهو يعتبر الطبيعة التي هي العناصر خارج الجسم وبالتالي هي مطلقة، ولن تكون هنا في مجال البحث، لكن العناصرَ التي تدخلُ البحثَ هي متأثرة بوعينا ومستوى إدراكنا فهي نسبية.
كانت ثمة ثورةٌ علميةٌ تجري في أوربا من أجل الإطاحة بمفاهيم الفيزياء التقليدية، ومن أجل تصور جديد للمادة والكون، وهو تصورٌ متراوحٌ متذبذب جزئي محدود لدى كل من ماخ وافيناريوس لكنه يظهرُ بصورته الكبيرة المادية الجدلية لدى انشتاين.
إن التجريبية النقدية المرفوضة عند لينين كانت تغيرُ العلومَ، لكنه كان لا يزالُ مع فكرة موجات الأثير، التي قامتْ تجربةُ العالِمين ميكلسون ومورلي بدحضها، سنة 1881 كما ذكرنا آنفاً في حين كتبَ لينين كتابَه سنة 1908، وطبعَهُ مرة أخرى بعد الثورة الروسية دون تغيير في فهمهِ لموجات الأثير، فتلك التجريبية أكدت أهمية دور العلماء الشخصي وتغييرهم لآراء سائدة مُسّبقة، قَبلية.
في مقابل واحدية الحزب المطلقة وهيمنة الدولة المطلقة يجري كذلك جعل المادية الجدلية مهيمنةً كلية، لكن الدكتاتورية هنا مُصّدعة للعلوم الطبيعية والاجتماعية على نحو خاص.
تتكشفُ في المساواة بين بريكلي والماخيين والتجريبيين المنطقيين عدم فهم لينين للتطور الاجتماعي الفكري العلمي ومراحله التاريخية ومسائل الديمقراطية وتعددية الاجتهادات الفكرية والفلسفية، ففيما يعكس بيركلي رؤية دينية صوفية رجعية يقوم علماءٌ من الفئات المتوسطة بتطوير العلوم مجتنبين الدينَ والمادية الجدلية الجامدة وقتذاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
1 -(المادية والنقدية التجريبية) لينين، ص 53، دار التقدم، موسكو.
2 – السابق، ص 64.
3 – السابق، ص 54.
4 – موسوعة ويكيبيديا.
5 – المصدر نفسه.
6 – المادية والنقدية التجريبية، ص 61.

الفصل الثالث

تصور الاشتراكية

تبرزُ دكتاتوريةُ لينين بشكل أكثر وضوحاً في الطرح السياسي، حيث تكمنُ البؤرةُ الرئيسية لعمله الفكري عامة، فرغم إنه ينطلق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من ظروفِ روسيا المتخلفة في الاقتصاد والحياة السياسية إلا أنه يقارن نفسه بدول رأسمالية أكثر تطوراً كألمانيا وفرنسا، دون أن يعي مستوى التشكيلتين الإقطاعية الروسية المتآكلة والتشكيلة الألمانية والغربية عامة الرأسمالية الصاعدة.

ومسألة تمييز التشكيلات في الماركسية أساسية وهي تشكيلاتٌ مرتْ بها البشريةُ عبر التاريخ؛ المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية.
وتتعلق فترتنا المشتركة في دول العالم الثالث بهذه الحلقة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية، وفيما تشاركنا روسيا في مرحلة الانتقال هذه، فإن ألمانيا المخصص لتجربتِها النقد في هذا الكتيب المُسمى (ما العمل)، بدأتْ تدخلُ الرأسماليةَ بإتساعٍ في ذلك الزمن من أوائل القرن العشرين.
وحين يلغي لينين الفروقَ بين البلدين، ويبدو كما لو أن البلدين يقعان في ذات السياق التاريخي، يبدأ أولُ إنحرافٍ كبير له، وهو الإطاحةُ بقوانين التشكيلات، والدخول في المغامرة السياسية.
سنقرأُ كتابَه لهذه الفترة المحورية وهو(ما العمل؟)، المتعلق بالمهماتِ الكبيرة التنظيمية والفكرية والسياسية للحزب المنقسم وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
في هذا الوقت إستطاعت الحركةُ الاشتراكيةُ الديمقراطية الألمانية أن تحققَ تقدماً كبيراً في الانتشار والحصول على تأييد العمال، بعد أن كرس فردريك أنجلز هذا المسار كما أشرنا لذلك في الفصل الأول، وبدأتْ التأثيرَ في الحكم والمشاركة فيه.
فيما كانت الحركةُ الاشتراكية الديمقراطية الروسية في حضيضِ الحياةِ السياسية الاجتماعية في روسيا في بلدٍ متخلفٍ أغلب سكانه من الفلاحين الأميين الفقراء، فكانت حركةً سريةً تعاني الرقابة والاضطهاد.
يوجه لينين الأنظارَ في كتيبهِ السابق الذكر إلى مسائل خلافٍ كبيرة بدأت تطفو في الحياة الفكرية السياسية داخل الحزب، وهو ما يسميه ظهور خطين للحزب ومستمدين من الصراع في الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية عامة، يقول:
(وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الاتجاه” الجديد” الذي يأخذُ من الماركسية” القديمة” الجامدة موقفاً نقدياً. ينبغي للاشتراكية الديمقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزبٍ ديمقراطي للاصلاحات الاجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطهُ برنشتين بمجموعةٍ كبيرة من البراهين والاعتبارات الجديدة. فقد أنكرَ إمكانية دعم الاشتراكية علمياً وإمكان البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ، أنكرَ واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية، أعلن أن مفهوم(الهدف النهائي) ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا رفضاً قاطعاً، أنكرَ التضاد بين الليبرالية والاشتراكية، أنكرَ نظريةَ الصراع الطبقي وزعم إنها لا تنطبق على مجتمع ديمقراطي صرف يُدار وفق مشيئة الأكثرية)،(1).
إن برنشتين، زعيمَ الحركةِ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية التي توجتْ تطوراً سرياً مقموعاً طويلاً في ألمانيا فتحولتْ لحركةٍ شعبية مؤثرة، يتطلعُ إلى المزيد من التطور لها وللحكم وتنفيذ إصلاحات عميقة في ألمانيا التي كانت قيصرية. ولهذا فإن الحركة وقد غدت بهذا التأثير يعمل لتقدمها ويطرح نقاطاً حيوية مهمة للتطور السياسي الاجتماعية، وبعضها نظري محدود الرؤية وحتى خاطئ مثل إنكاره لقدوم الاشتراكية وإزالة الاستغلال الرأسمالي من تاريخ البشرية القادم لغياب فهمه لجدلية التطور البشري وتصاعد الصراع العمالي البرجوازي خلال العقود البشرية التالية، ولكن الهام المفيد التقدمي أن برنشتين لا يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية التي تشارك في الحكم بل يريد توسيع الاصلاحات المخصصة للعمال والشعب عامة، وتعميق المسار التحديثي الديمقراطي، فلماذا يغضب لينين؟
لينين ينطلق من خطةٍ مضادة هي الإطاحة بالنظام القيصري، كهدف رئيسي في الثورة الديمقراطية البرجوازية، ثم يقوم بالإطاحة بالبرجوازية التي شاركته في الثورة على القيصرية، من أجل ثورة إشتراكية، لأن البرجوازية لا تصلح أن تقود وتؤسس نظاماً، فهي طبقة وصلت إلى الموت الاجتماعي.
هنا رؤيتان غير جدليتين بين برنشتاين ولينين، أحدها تجعل وجود البرجوازية أبدي، والثانية لا تستوعب (ضرورة) البرجوازية بشكل نسبي.
لقد إنساقَ لينين إنسياقاً كبيراً مع إرادته الذاتية، وعوضاً أن يدرس بعمق تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وكيف ناضل خلال عقود عديدة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ليتحول إلى هذا التأثير الكبير ثم ليطرح مطالب عملية هامة، بدلاً من ذلك إنساق لرؤية سياسية إجتماعية مغامرة والدعوة لقفزاتٍ كبرى في بلد إقطاعي شبه رأسمالي متخلف، وذلك لكي تصعدَ الإرادةُ الدكتاتوريةُ الشخصية والحزبية ويزيل البرجوازية بدون أية قواعد موضوعية راسخة.
ولم تكن هاتان الرؤيتان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلشفية والمنشفية) تُدرسان في لقاءاتٍ واسعة وفي جدل خصب إجتماعي، بل كانتا تُبحثان بشكل مقالات وكتابات مختلفة متصارعة تغيبُ عنها الأطرُ الديمقراطية والدرسُ الواسع الشعبي العميق وتتحول إلى وجهات نظر حادة ومبتورة وتكّون أتباعاً متحمسين منفعلين خاصة في الجانب البلشفي ليكونوا بعد ذلك أداة الانقلاب السياسي في 1917.
إن لينين عبر طرحه لخطه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان يريد القضاء على البرجوازية والرأسمالية عبر التحالفات الاجتماعية والسياسية في حدود سنوات قصيرة، مما يمثل قفزةً في الفراغ.
رفضه لقوانين التشكيلات وضرورة ترسخ الرأسمالية في بلد ونشؤ الطبقيتن المنتجتين للتطور الحديث البرجوازية والعمال قاده للمغامرات السياسية والعسكرية.
وقد رأي برنشتين زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني السابق الذكر والذي أستشهد به لينين وأعرض عن درس أفكاره بعمق، أن تحقيق الاشتراكية لم يعد هدفاً للحزب بل هدفه هو تطور وضع الطبقات الشعبية وتحقق إصلاحات عميقة لها. وهذا مقبولٌ بالنسبة لزمنه، وليس مقبولاً في مطلق التاريخ! مثلما أن الأخطاء الفكرية والسياسية تشوه التطور النضالي الديقمراطي وتقسم اليسار وتضعفه!
يقول برنشتين ذلك وهو في دولةٍ متطورةٍ قياساً للينين، وقد دخلت البُنيةُ الرأسمالية بقوة وإتساع، لكن لماذا لم يتجه برنشتين لتحقيق الاشتراكية وهو في مثل هذا الوضع؟
إن إعراض برنشتين عن وضع الاشتراكية كهدف نهائي في تلك السنوات هو أمر موضوعي لكنه غير موضوعي في مطلق التاريخ، فهل تعني سيطرة الطبقة العاملة على الحكم ((حينذاك)) إزالة الرأسمالية؟
هنا يرفض لينين جملةَ برنشتين(إن مفهوم “الهدف النهائي” ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا).
يعتبر لينين ذلك إنتهازية يمينية(حقيرة)وما إلى ذلك من تهم حامية، ويغيبُ عنه مرةً أخرى مفهومُ التشكيلة التاريخية، وهي المرحلة التي تسود فيها علاقاتُ إنتاجٍ لقرون.
إنه يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية كطبقةٍ لكن الرأسمالية ليست فقط طبقة، الرأسماليةُ علاقاتُ إنتاجٍ، سواء كان رأس المال للأفراد أو للجماعات أو للدولة، والقضاء على الرأسماليين الأفراد لا يعني القضاء على الرأسمالية!
لأنهم سوف يظهرون مجدداً في مؤسساتِ الدولة وخارجها، وتتحول الدولةُ إلى أكبر رأسمالي، ويتحدد نموها عبر البنية الاجتماعية التي تظهرُ فيها، بمستوى قوى الإنتاج، ومستوى علاقات الانتاج، وعمليات التبادل وطبيعة الأسواق الخ.
حين تصبحُ الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الأوحد لا تستطيع الإفلات من قوانين الرأسمالية والقيمة، وفائض القيمة وتوزيعه، وضرورة الأسواق لتصريف السلع، التي لا بد أن تكون منّوعة متنافسة لكي تتطور وتلبي حاجات المستهلكين. أما أن تَصنعَ سلعةً واحدة مفروضةً سياسياً فهو أمر يؤدي لتآكل وتوقف قوى الإنتاج عن التطور وتدخلُ في صراعٍ مع علاقاتِ الإنتاج الرأسمالية الحكومية.
فتحدث ثورةٌ لكنها ثورة مضادة، ثورةٌ للعودةِ إلى الرأسمالية الحرة!
إن رفض برنشتين لتطبيق الاشتراكية الراهن في زمنه صحيح، ولكن رفضه للصراع الطبقي وتباين الليبرالية والاشتراكية السياسية كتيار معبر عن العمال مسائل أخرى مختلفة وتؤدي للانتهازية.
ذلك المسارُ العائدُ السوفيتي المرصود أعلاه للخلف الذي تحقق فيما بعد يمكن ملاحظته في إصلاحات خروتشوف وليبرمان القاصرة لإعادة السوق التنافسية في زمن الاتحاد السوفيتي، لكن رأسمالية الدولة ظلت مهيمنة كلياً مكلسة لتطور السلع والحياة الاجتماعية السياسية.
هكذا فإن رأس المال العام حين يحكم بشكل(الاشتراكية) يتعرضُ للتآكل والتدهور، ويُعوض ذلك بالتوجه لصناعة السلاح التي تقع تحت يد الدولة كلياً، وقوى الإنتاج تتدهور ويصبح العمال مجمدين ومتخلفين وكسالى ومدمنين.
ليس رأسُ المال سوى نتاج لقوى العمل المتراكمة، التي تأخذ أشكالاً متعددة، وتتطور عبر توسع قوى الإنتاج والأسواق، حتى يعمُّ هذا الأسلوب البشريةَ وتصبح الطرق أمامه مسدودة في مسائل تصريف السلع ووجودها القيمي نفسه، وهذه مسائل للعقود والقرون التالي، أي هي مسائل القادمين.
لكن أن تتحول بلد متقدم أو متخلف إلى الإشتراكية فهو مسار صعب بعيد وقائد مثل برنشتين الألماني الديمقراطي يعيش في حالات جدال مع الدولة والعمال والبرجوازية ويواجه مسائل تطور عملية متصاعدة، فهو غيرُ قائدٍ سياسي مغامر مثل لينين، يعيشُ في مخبأه، ويحاورُ بضعةَ أشخاص، ويصدرُ الأوامرَ ويكّون تنظيماً شمولياً متجهاً للتحريض المستمر والصراع المتصاعد، ولهذا يغدو التحولُ من موقعه الإرادي الذاتي المنتفخ وعبر فهمه المسطح للاشتراكية منفذاً على مدى سنوات قصيرة، فلا داعي لانتشار العلاقات الرأسمالية بعمق في البنية الاجتماعية، ولا داعي لتطور كل هذه الملايين نحو الديمقراطية والتعددية وإنتشار الثقافة الحرة لا المقولبة كما سيحدث فيمكن إختزالُ الظروف كلها بإنقلاب.
توجه روسيا للديمقراطية وتناميها فيها وتحول روسيا التدريجي للرأسمالية والحداثة كان من الممكن أن يجنبها الكثير من المشكلات الخطيرة والكوارث وملايين الضحايا الذين سقطوا في هذه المغامرات، كما أن تحولها الديمقراطي كان سوف يعمم الديمقراطية في البلدان المجاورة ويرسخها فيها.
أما تحولها لرأسماليةِ دولةٍ دكتاتورية فقد تركَ بصماته الكبرى على ألمانيا على سبيل المثال، إستطراداً من بؤرة المسألة المطروحة، فقد إنتقلت تجربةُ السوفيتيات وما سُمي ب(الثورة الحمراء) إلى ألمانيا ذاتها، التي لم تكن الظروفُ مهيأةً فيها للاحتجاجات فقمعها الجيشُ بقسوة، وإنحازت البرجوازية الألمانية للدكتاتورية وصعّدتْ هتلر كأداةٍ لسحق تنامي دعوات الاشتراكية الحمراء!
ووجد هتلر في إفتراس الاتحاد السوفيتي أكبرَ مهمةٍ له، فيما كان ستالين قد ذبحَ الكثيرين كذلك، ورقد عن هذا الخطر، حتى أقتحم هتلر بلاده، لكن الشعوب في الاتحاد السوفيتي دافعتْ عن وطنها بشجاعة منقطعة النظير.
حين إنقلبت الأمور وحكم السوفييت جزءً من ألمانيا صدروا نظامَهم، حتى ثار الناسُ عليه، وراحوا يحطمون تماثيل ماركس!
كوارثٌ تاريخيةٌ كبرى وتحولات تبدأ من كلمات.
نرى هنا سلبيات النظرةِ الواحدية لكل من برنشتاين ولينين، عبر رؤية جانب من ميدالية التاريخ، قد سبتت الاضرار لكل من ألمانيا وروسيا، عبر التركيز عما هو راهن ونسيان السيرورة التاريخية وقوانين التشكيلات، وأدى ذلك لصعود دكتاتورية حادة في روسيا، أضرت بتطور العملية الديمقراطية القارية في أوربا، مثلما أن الانتهازية الاشتراكية في ألمانيا أضعفت تطور الحركة الاشتراكية الديمقراطية في أوربا وبالتالي إنتصرت الدكتاتوريات الرأسمالية: رأسمالية الدولة الشمولية العسكرية في روسيا، والرأسمالية الاحتكارية في ألمانيا(الموحدة)!
إن هذه النظرة بدأت تُنقد من قوى عديدة خاصة القوى الماركسية العربية المراجعة الناقدة للتجربة وبضرورة تصحيحها، (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1): كراس (ما العمل)، فصل الجمود العقائدي وحرية النقد.
(2): إن إحدى أبرز إشكاليات الحركة الشيوعية تبلورت في روسنة النظرية الماركسية التي مارسها لينين أولاً، وإنتقالها كنظرية روسية(أممية) إلى العالم كله باسم الماركسية،(كتاب فهد والحركة الوطنية في العراق، تأليف: كاظم حبيب وزهدي الداوودي، دار الكنوز الأدبية، ص 495).

الفصل الرابع

الاستعمارُ والديمقراطيةُ

لا بد من فهمِ أعماق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشؤ الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه(الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) بعضَ هذه السمات الجوهرية وعبرها حددَّ تطورَ البشرية، مثل تبدل الرأسمالية الغربية من مرحلةِ المنافسة إلى مرحلة الاحتكار، ومن مرحلة الديمقراطية إلى مرحلة الدكتاتورية العالمية، وإقتسام العالم بين الدول الاستعمارية الغربية، وإقتسام العالم بين إتحادات الرأسماليين المختلفة المتصارعة، وأن الاستعمارَ هو طفيليةُ الرأسمالية وتعفنها، والاستعمار هو تتويجٌ للتطور الغربي بين القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وحتى القرن الراهن الواحد والعشرين.

ولينين يعيد ذلك إلى دور وأهمية الجوانب التقنية أيضاً، كتبدل وسائل المواصلات وتصاعد أهمية القطارات وبالتالي علينا أن ندخلَ كل شبكة المواصلات والاتصالات الشبكية الواسعة التي حدثت حتى وقتنا الراهن.
ولينين يستنتج من الجوانب الاقتصادية والتقنية المعزولة عن اللوحة العامة إستنتاجاتٍ كبيرةً:
(وهذا الحاصل يُظهرُ أن الحروبَ الإمبريالية هي أمرٌ محتوم إطلاقاً على هذا الأساس الاقتصادي طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكاً خاصاً(طالما بقيت علاقات الإنتاج الرأسمالية، علاقات المُلكية الخاصة الرأسمالية مسيطرة)(1).
كما أنه يوسعُ هذه الاستنتاجات على نحوٍّ أخطر:
(لقد غدت البورجوازية في العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في ظل جميع النظم ملكيةً كانت أم جمهورية، “ديمقراطية” كانتْ أم فاشية)،(2).
يضعُ لينين العالمَ بين خندقين، الأول هو العالمُ الرأسمالي المهيمن عبر الدول الغربية والذي هو معاد للديمقراطية، والعالم الجديد الوليد، العالم الإشتراكي، أساس الديمقراطية الحقيقية في تصوره.
ولهذا فهو يرى أن المجتمعات الغربية بين فترتين فترة رأسمالية تنافسية ظهرت فيها أشكالٌ تنويرية ديمقراطية، ثم جاءتْ الفترةُ الاستعماريةُ فسُحقتْ الديمقراطية، ولهذا لا تَميُزَ بين التيارات، ولا يمكن قيام تحالفات بين القوى اليسارية والبرجوازية اليمينية، ومن هنا تغدو أهمية الأحزاب الشيوعية، التي هي حصيلة هذا الفهم حسب تصوره، والتي يقومُ دورها على هزيمة الرأسمالية في الغرب فيما الشرقُ يتجه للاشتراكية.
تقيم هذه الرؤيةُ إستقطابيةً كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الشر والخير، بين الماضي والمستقبل، فهي تعسكرُ البشريةَ عسكرةً ثنائيةً إستقطابية.
نلاحظُ هذا التعميمَ وهو يَخرقُ الموضوعيةَ في فهم العالم الرأسمالي، فمن خلال سمات تنامي الاحتكارات وهيمنة رأس المال المالي على بعض القمم الاقتصادية السياسية، وتصدير رأس المال بدلاً من تصدير البضائع، يصلُ إلى إستنتاجاتهِ السياسية النظرية الجازمة الكلية.
إن هذه السمات موجودةٌ حقاً، ولكن هناك قطاعاتٌ كبيرةٌ لا تهيمنُّ عليها الاحتكارات، وجزرُ السيطرة في قلب المدن الكبرى موجودةٌ وممتدة في شبكات البناء الفوقي، لكن توجد كذلك معارضة متعددة من أقسام برجوازيات أصغر وبرجوازيات دنيا، ناهيك بطبيعة الحال عن العمال، الذين هم أيضاً يناضلون ضد الرأسمالية ويتحول بعضُهم إليها كذلك!
كذلك فإنه لا يمكن الحديث عن كون العالم الشرقي المستغَّل من قبل الاستعمار هو إحتياطي جاهز للاشتراكية، حيث حددَ لينين المصيرَ الكامنَ المجهول في وصفةٍ طبية مُسبّقة، بدون أن ينتهي مصيرَ العالم الغربي الرأسمالي في تطور إستعماري وحيد لا غير فيه ولا إحتمالات متعددة له. فالعالمُ الغربي مليءٌ بالاحتمالات مثله مثل العالم الشرقي التابع.
لكن الوصول إلى هذا التعميمات الكُليةِ بين غربٍ فاسد إستعماري وشرقٍ ناهضٍ نحو الاشتراكية، يكّونُ رؤيةً غيرَ جدلية، ورؤيةً غيرَ ماديةٍ تاريخية، فهي رؤيةٌ آحادية ميكانيكية، تقومُ على نقائض مُعمَّمة مجردةٍ في جهتين متقابلتين. وهي ثنائيةُ الإلهِ والشيطان الدينية الغائرة.
وفي العملِ السياسي ينتجُ عن ذلك جملةٌ من المعالم والمشكلات الهائلة، فالتدرجاتُ والألوانُ الديمقراطية الممكنةُ لدى الأقسام البرجوازية الكبيرة والأقل منها، تُزالُ من أجل لونٍ واحد.
فتغدو الشيوعيةُ هي اللونُ الأبيضُ الذي يجب أن يسودَ اللوحةَ في الغرب والشرق، فتظهر الأحزابُ المطلقة القادرة على محو الرأسمالية في عقرِ دارها أو في العالم المتخلف الناهض بشكل إشتراكي حتمي.
تغدو في الغرب نضالاً فكرياً سياسياً يلغي مشروعية الرأسمالية ووجودها المتنوع، ويصيرُ في الشرق دولةً إشتراكية أو معسكراً إشتراكياً، أو أحزاباً تحملُ المشروع وتحققه.
صارت البشريةُ بكل تضاريسها المعقدة المركبة ومراحل نموها المختلفة، وتباينها بين رأسمالية خاصة سائدة ومشروع رأسمالية حكومية شرقية طالعة، في خطين أسود أو أبيض، رأسمالي أو شيوعي وليس ثمة طريق آخر!
يقدم لنا عنوانُ كتابِ(الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) نهايةً تامةً راهنة للرأسمالية، فالاستعمارُ يمثلُ تفسخ الرأسمالية على المستويين الغربي والشرقي، في الأول تنهار من الداخل، وفي المستوى الثاني تتفجرُ كفاحاتُ الشعوب بإتجاه الاشتراكية، فيكتملُ التطورُ البشري ويجري الإطباق على العدو الغربي، لهذا يتخذ لينين إجراءاتٍ سريعةً راهنة لتنفيذ هذه الرؤية.
إن رؤية لينين صحيحة على المستوى الإطلاقي، على مستوى القرون، لكن حتى على هذا المستوى البعيد فإن الرأسمالية لا تنهار من خلال إنقلابات، بل عبر التطور التدريجي لقوى الانتاج البشرية والمادية، عبر نموها الطويل وتشكل نقائضها داخل هذا التطور وبتداخل الراسمالية الغربية والشرقية ومجيء مراحل مشتركة تجمع بين هذين المستويين المختلفين من تطور الرأسمالية.
إن الوعي الانقلابي للاشتراكية كما لدى لينين، يتم بتحقق الاشتراكية بمعزل عن العوامل الموضوعية الحاسمة في تصور المادية التاريخية، والوعيُّ الخاصُ بالنُخبِ لا يمكن أن يصنع ثورة إشتراكية، فالثورةُ ذاتُ عواملٍ موضوعية، لكن في رؤيته خلط لينين بين الثورة الديمقراطية والإنقلاب لتشكيلِ رأسماليةِ دولةٍ شرقية.
إن سمات الرأسمالية الغربية المتطورة عن بقية البشرية في لحظة سابقة، والتي تطورت من المنافسة إلى الاحتكارات وكل تلك السمات التي لاحظها لينين واستقاها من مصادر علميةٍ غربية في وقته، هي صحيحة، لكنه رَكّب هذه السمات الموضوعية فوق رؤيةٍ مسطحةٍ ذاتية، وهذه المميزاتُ لم تنتقلْ للعالم المتخلف حينذاك، ولم تتحول بُنى الدول الشرقية إلى بُنى رأسمالية، فهي ما تزال في العصر الإقطاعي ومخلفات العصور السابقة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ينطبق على روسيا كذلك.
ورغم هذه المميزات المعبرة عن تطور إقتصادي إجتماعي غربي، وكذلك عن سمات إستغلالية غدت كونيةً، ونهبتْ العالمَ الثالث، لكن هذا الاستعمار من جهة أخرى جرّ هذا العالمَ لحركته التاريخية وبعض أشكال تطوراته، وعبر هذا نشأت حركاتُ التحرر الوطني، ذات الأهداف والميول الديمقراطية بحكم التداخل والصراع مع الغرب. وكلُ تجربةٍ تنامت عبر الليبرالية والديمقراطية والصراع والتعاون بين المالكين والمنتجين غدت تجاربَ مهمة، فيما الأخرى تكدست فيها الظروف الشمولية والتي لم يحدث فيها ذلك التطور الديمقراطي العميق الواسع تراكمتْ داخلها تناقضاتٌ هائلةٌ فانفجرت أو في سبيلها للانفجار.
وحين قدمت روسيا مشروعَ التسريع الشمولي المعادي للغرب عبرتْ عن إزدواجية الأنتماء للغرب ورفضه معاً. وتوجهت لجذبِ بناه التقنية لا مشروعه الاجتماعي الثقافي الديمقراطي. إن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ليسا نقيضا الغرب الرأسمالي، ولكنهما مماثلان له ومتخلفان عنه.
إنهما أخذا قواعدَهُ الاقتصاديةَ التقنية وطرقَ شبكاتهِ المالية وبعضَ علومه، ورفضا بنيته الديمقراطية الاجتماعية. ركبّا الرأسماليةَ فوق بناء شرقي إستبدادي عتيق. وهذا ما سوف تفعلهُ حركاتٌ(شيوعية) ودينية وقومية وغيرها كلٌ حسبَ بناه الاجتماعية ومواقفه.
ومن هنا نرى إن لينين بتلك التعابير المطلقة عن هيمنة الاحتكارات والتفسخ الرأسمالي والطفيلية قفز لاستنتاجاتٍ شمولية، وأقام بناءً رأسمالياً غير ديمقراطي.
فيما عاركت حركاتُ التحرر الوطني الاستعمارَ من منطلقات متعددة، وتوجه بعضها للديمقراطية وتوجه بعضها للاستبداد.
في القرن العشرين ظهر نموذجا رأسمالية الدولة الاحتكارية في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وكلٌ منهما على أساس مختلف، لقد ضربتْ السلطةُ الروسية أشكالَ الملكية الخاصة المتعددة، وغدت هي الرأسمال الأوحد، ولهذا فإن الديمقراطية إختفت، وغدا المجتمع تابعاً لهيمنةٍ عليا ساحقة، ومن خلالها إنبثقت الرأسماليةُ الخاصةُ ثانية مٌُلوثةً بكل ذلك التاريخ السابق.
وهذا إنعكس على المنظومة دولاً وأحزاباً حيث غدت مجموعات بذات التنميط الشمولي الفقير معرفة. إن عسكرة الريف والتجميعات في روسيا تُعطي في النهاية هذا المجتمع الشمولي حيث الدولة المهيمنة والثقافة المغيَّبة عن الأنسنة، فحين تغيبُ التعدديةُ الاجتماعية تصيرُ الدولةُ إمبراطوريةً ساحقة.
هذا ما قامت به حكوماتُ الولايات المتحدة فنشوء رأسمالية الدولة الاحتكارية أدى إلى الهيمنة الشمولية الساحقة للمجتمع الأمريكي وجفاف التعددية والتنوع، عبر سيطرة رأس المال العملاق والقوة العسكرية، وتحول هذا لنموذجٍ عالمي يهيمن على دول العالم الثالث، ويفرزُ جنرالات الشمولية ويؤيد رأسماليات الدول التابعة.
ثم وصل النموذجان للانهيار الظاهر والخفي، الأول عبر السقوط المباشر ثم الجثوم في القوقعة الروسية كآخر حصن قومي له، وتساقطت رأسمالياتُ الدول الشمولية في مختلف أنحاء العالم الثالث بأشكالٍ متعددة منفكةٍ من السيطرة الأمريكية والسيطرة الروسية أو في طريقها لذلك.
وفيما تواصل روسيا تأييد الأنظمة الشمولية العسكرية تؤيد أمريكا الخروج منها من أجل ظهور الأسواق الحرة والتغلغل فيها دون أن تعطي الشعوبَ ومنها الشعب الأمريكي حرياته الديمقراطية الحقيقية.
إن النموذجين الاستقطابيين حسب رؤية لينين لم يتحققا، بل تحقق نموذجا إستقطاب رأسمالية الدولة الاحتكارية في كل من الدولتين الكبريين، وقد أدى النموذج الأولُ الروسي إلى عدم إستغلال التنوع والقوى الرأسمالية والديمقراطية المختلفة في الغرب والشرق، وتعزيز حضورها، مثلما أدى ذلك في الدول والأحزاب التابعة للنموذج الروسي الشمولي إلى تغييب إمكانيات التطور الليبرالي والديمقراطي في بلدان العالم الثالث، ولهذا كانت الهتلرية تتويجاً لهذا التغييب في الغرب، فيما كانت الدولُ والحركاتُ الدينية والقومية الشوفينية والليبراليةُ الفوضوية هي الوريثة للسياسة(الشيوعية) في العالم النامي، ولم يؤدِ الانتصارُ على الهتلرية لإزلة طابع رأسمالية الدولة الاحتكارية، وتعميم النموذج الديمقراطي، فأستمر الصراع بين النموذجين من الحرب الباردة إلى الحروب الأهلية.
فيما طابع الرأسمالية الأمريكية طابع هيمنة الرأسمالية الاحتكارية بدون تعددية في الطبقة العليا كما يجري الأمر في بعض دول غرب أوربا الأكثر ديمقراطية من أمريكا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1)،(2): الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية، دار التقدم، موسكو.

الفصل الخامس

نقدُ المغامرةِ التاريخية

يعومُ لينين مصطلحات السياسةِ بشكلٍ غير تاريخي، ويلغي طابعَها الطبقي، وفي كتابه(مرض الطفولة اليساري) يقوم بتقييمِ تجربةِ حزب البلاشفة بإعتبارها نموذجاً عالمياً صالحاً حتى لأوربا وأمريكا، هذا التقييم نجدهُ عبر لغة تضخيم التجربة الذاتية بأدواتِ اللغة الإيديولوجية المُعّممة.

كلمة ثورة إشتراكية، وسيطرة المجالس العمالية على السلطة، هي مصطلحاتٌ لا تدرسُ كونَ الشخصيات البرجوازية الصغيرة القائدة كلينين وتروتسكي وبوخارين وستالين هي التي تقود العمال، والذين تصور لهم بأن السلطة القائمة حديثاً هي سلطتهم.
وبطبيعة الحال فإن تجربةَ مصادرة المؤسسات الخاصة والقيام بالتأميم تعني ضرب طبقة رأسمالية معينة، ولكنها لا تستطيع أن تضربَ الرأسمالية وتجتث جذورها و تزيلَ علاقات الانتاج الرأسمالية كما يتصور لينين وأنها هي الاشتراكية.
إن الاشتراكيين الديمقراطيين الأوربيين ينظرون لها بشكل آخر كشكلٍ من أشكال دكتاتورية فئات صغيرة.
هي في الواقع ثورة قومية روسية ضد التخلف ومحاولة للقيام بقفزة تاريخية، وفي هذا الغموض الاجتماعي بين تشكيلتين: التشكيلة الإقطاعية والتشكيلة الرأسمالية يتم التصور الواهم بأن ثمة قفزة للاشتراكية، لتشكيلة مستقبلية على أساسِ تأميم الشركات والبنوك.
هذا الكتاب يشترك مع الكتب السياسية الأخرى للينين في عرض تجربة البلاشفة، لكن هنا وهو في حالة السيطرة على السلطة وتصوير ثورة التحول هذه بإعتبارها ثورة إشتراكية ساحقة للطبقات.
المغامرة السياسية العسكرية لسنة 1917 تُعرضُ على أساس إنها ثورة إشتراكية تجاوزتْ الغربَ، فهذا البلدُ المتخلفُ الذي لم يقضِ على التشكيلة الإقطاعية بعدُ يتم تصويره بأنه يقفز إلى الاشتراكية.
لهذا فإن تحليلَ حزب البلاشفة طبقياً، وقراءة طبيعة السلطة المسماة السوفيتات كشكلٍ للسلطة الديمقراطية إنبثق من خلال التعددية الحزبية ثم تمّ تحويله لدكتاتورية حزبية بلشفياً وتقطعتْ علاقاته بالتعددية الحزبية والصحافة الحرة والديمقراطية عموماً، هذه كلها يجردُها لينين من طابعها الاجتماعي التاريخي ويؤدلجها حسب سلطته المطلقة سياسياً ونظرياً.
(ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن حرب ضروس تخوضها بمنتهى التفاني الطبقة الجديدة ضد عدو يفوقها بأساً، ضد البرجوازية التي تضاعفت مقاومتها عشرة أضعاف لسبب اسقاطها (وإن في بلد واحدة فقط)، والتي لا يكمن بأسها في قوة الرأسمال العالمي، وفي قوة ومتانة الروابط العالمية للبرجوازية وحسب، بل في قوة العادة أيضاً، وفي قوة الإنتاج الصغير. وذلك لأن الانتاج الصغير لا يزال موجوداً، مع الأسف، بمقدار كبير وكبير جداً في العالم، والحال أن الانتاج الصغير يلدُّ الرأسماليةَ والبرجوازية باستمرار.)،(1).
من هي الطبقة الجديدة؟ إنها فئة من البرجوازية الصغيرة من المثقفين صعدوا على الجسم النشط للعمال، وهي لا تعرفُ الأفقَ التاريخي الذي تشكله، فالثورةُ الديمقراطيةُ القومية هنا متداخلةٌ مع مهمات التحولات الاشتراكية التي لم يحلُ أوانها، ولهذا فإن مهمات الثورة الديمقراطية كالاصلاح الزراعي وتوسيع رقعة الفلاحين الصغار تُعطي السلطةَ المغامرةَ شعبيةً جماهيرية لكنها تقوم بتوسيع طبقة الفلاحين المالكة الخصم، أي البرجوازية الصغيرة المذمومة، وكأن لينين يتمنى زوال هذه الطبقة لتتحقق نفس مستويات أوربا الغربية وأمريكا من حيث إنتشار الصناعة في المدن والأرياف.
هنا إحدى فئات البرجوازية الصغيرة الروسية التي أستولتْ على الحكم عبر إنقلاب عسكري تتوهمُ ذاتَها بإعتبارِها جزءً من البروليتاريا، ومتجهةً لمحو الطبقات، لكنها في موقفٍ متناقض، فهي إذ تصفي أملاكَ أصحاب المصانع وتحيلها لإدارتها، تصعدُّ من جهةٍ أخرى البرجوازيةَ الصغيرة طبقتَها الواسعة الانتشار.
عملية الثورة الديمقراطية تأخذ بعداً تحويلياً قومياً، فالبرجوازية العالمية كما يقول تقفُ بالمرصاد، لكون هذا التحول يأخذُ طابعاً عسكرياً شمولياً عنيفاً، وهو يعكس طابع هذه البرجوازية الصغيرة الروسية القومي المتصلب، الذي يأتي بشكل الدِينِ الماركسي، حيث يغيبُ التحليلُ الطبقي التاريخي، والتجسيد الديمقراطي وتتصدر الكلماتُ الشعارات: دكتاتورية البروليتاريا، الثورة الاشتراكية، حكم السوفيتات، سحق الأديان.
إن البرجوازية الغربية المسيطرة عالمياً تنظر لخروج روسيا من السوق العالمية كخطر إجتماعي سياسي، لكن النموذج الروسي لا يحصل على أرضية تطبيقية في الغرب، ودون أن ينظر لينين لذلك عبر الخطأ المستمر في منهجه، وعدم إعترافه بالتشكيلات التاريخية المتباينة وتطورها المديد المختلف ولكنه يدرك الآن وهو في التطبيق جذور علاقات الانتاج خاصة الانتاج الصغير خاصة الفلاحي منه.
وهو يعيدُ عدم تحقق التحول الاشتراكي الحاسم عالمياً إلى قضايا وحالات شخصية فردية لزعماء الاشتراكية الديمقراطية:
(فإن سبب هذه الإنتهازية يعود أولاً إلى تشويه آراء ماركس في الدولة بل وإلى كتمانها المتعمد)، (2).
إن السبب يعود في الواقع لتطور تاريخي كبير مختلف بين روسيا والغرب، ففي الأولى ثمة هلاميةٌ إجتماعيةٌ واسعة، وملايين من الفقراء والفلاحين الشديدي الفقر، وبالتالي فإن البرامجَ الديمقراطية العامة كالاصلاح الزراعي تجدُ قبولاً واسعاً لديهم، فيما تجاوزت الدولُ المتطورةُ في الغرب هذا المستوى.
إن عدم توجه العمال الغربيين للثورة الاشتراكية يعود لمستويات المعيشة المختلفة كثيراً عن روسيا، كما أن الثورة الاشتراكية المتخيّلة من قبل لينين غير ممكنة في الغرب بتلك الشروط لأن العمال هناك لا يتحمسون لمثل هذه المغامرة الغامضة وهم يناضلون ضد الرأسمالية كذلك ويصّعدون ممثلين لهم في البرلمانات والحياة السياسية والاقتصادية ويطورون حياتهم الاجتماعية.
تصوير لينين الثورةَ الديمقراطيةَ القومية الروسية بأنها ثورةٌ إشتراكية هو جزءٌ من المتخيّل الحزبي، بسببِ الخلط بين بعض المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور روسيا في سياق صلتها بالتحديث وبعض الإجراءات الاقتصادية المضادة لتلك المهمات.
المتخيّلُ هو بسببِ غيابِ قراءة القوانين الموضوعية للتشكيلات، فتأميمُ مصانع لا يعني إزالة علاقات الانتاج الرأسمالية، كما أوضحنا سابقاً، ولهذا فإن علاقات الانتاج الرأسمالية ستظهرُ عبر المؤسسات الاقتصادية الجديدة الواسعة الانتشار، وعبر وجود إدارة وعمال. ولكن لن يحدث للجانبين الإدارةِ والعمال، القيادةِ والقاعدة، الملاكِ الجدد السياسيين والأجراء، نفس التطور لقرنائهم في الغرب.
إن شكلَ رأسماليةِ الدولة يغدو شكلاً إنتقالياً، فقد عبرَ التشكيلةَ الاقطاعية لكنه لم يدخلْ بعد التشكيلةَ الرأسمالية. ويظلُ يتذبذب لعقودٍ حتى يدخل فيها وهو عالقٌ ببقاياها المؤثرة جداً على تطور المجتمع.
إن سياقَ المهمات الديمقراطية يُؤخذ روسياً في حضنِ الدكتاتورية، فتوزيعُ الأراضي على الفلاحين هو إجراءٌ ديمقراطي إجتماعي، وهو يقوي الأحزابَ المعبرة عن الجمهور الريفي خاصة، ويوسع التنوعَ ويعزز سلطة البرجوازية الصغيرة الشمولية التي تخافُ من إنتشار هذا التنوع فتلجأ لإجراءات القمع الواسعة، ولهذا تجري جوانب مضادة للديمقراطية كخنق السوفيتات، وحل الأحزاب الأخرى، ومنع الصحافة الحرة الخ.
هذه التجربة يعتبرها لينين نموذجاً للغرب ولكن الشرق هو الذي يستفيد منها، بسبب تشابه التشكيلة الإقطاعية التي يعيشُ فيها، وجذوره الدكتاتورية القومية والمحافظة وضخامة البرجوازية الصغيرة المتلاعبة بالتطور السياسي و أسماء التشكيلات.
ومن هنا تأخذ الثورةُ الديمقراطية الروسية طابعاً تأثيرياً تحررياً في العالم الثالث، بمواجهةِ الاستعمار العدو المشترك، والخانق للتجارب الرأسمالية الوطنية، وكذلك تتضافر بعض المهمات الديمقراطية والاجتماعية، ويتنامى المتخيّلُ السياسي كثيراً وتزداد المغامراتُ الرعناء أيضاً.
مثلما يتبددُ ضبابُ التداخلِ بين ما هو ديمقراطي قومي وما هو إشتراكي، أو ديني، والذي يتشكلُ في بدايةِ الأفق الاجتماعي الصباحي التحولي لشعوب الشرق، والذي يبالغُ في تصويرِ قفزاته المتخيّلة بطرح الأسماء الشيوعية والاشتراكية والوطنية والدينية، ثم يقاربُ المهمات الحقيقية، برؤيةِ التناقضات الطبقية العصية على الحلول السريعة وأهمية تطور مستويات التطور للأغلبيات الشعبية في ظل مقاربات ديمقراطية.
أدواتُ لينين التحليلية التي تكونت في ظلِ رؤيةٍ شمولية مستعينة بالتعميمات المجردة، مكونةً مغامرةً تاريخية، تتوجه كذلك لرفض التكتيكات السياسية المغامرة أيضاً!
فهو إذ يعتبرُ ما قامَ به البلاشفة فعلاً تطورياً متصاعداً ناضجاً يرفض بعض الإجراءات السياسية والدعوات الفكرية الرافضة للمشاركة في البرلمانات والنقابات(الرجعية). معتبراً إياها عملاً مغامراً.
هذه الازدواجية تعبر عن كون النضالات التكتيكية هي مقدمة وأدوات للاستيلاء على السلطة، وإقامة السلطة الاشتراكية في البلد المتخلف روسيا، التي تغدو هي المغامرة الأكبر والخطيرة المكلفة لحياة الملايين من الناس. بدلاً من أن تكون وسائل ديمقراطية محولةً للمجتمع وللحزب نفسه.
إن الوعي المغامرَ يبدأ من البداية من نشر الشمولية في الحزب والتصور الواحد وقيادة المجموعة لتلك المخاطر التاريخية، بدلاً من الاعتماد على التعددية والنمو الديمقراطي التدريجي وتفكيك الصلات السياسية الشمولية بين القومية الروسية المسيطرة والقوميات المسيطر عليها، وخلق تجربة نهضوية متدرجة تزيل الألغام الاقتصادية والاجتماعية التي ما تزال روسيا حتى الآن بعد تلك المغامرة تعيشُ عقابيلها وآثارها (2013).
حيث ما تزال القوميات ومجموعات الأديان المختلفة تهز روسيا الاتحادية التي لم تقارب العالمَ الحديث الديمقراطي بعد، ولديها ترسانة عسكرية ونووية كبرى، وما تزالُ تعيش ذلك الضباب الصباحي السياسي ومفترق الطرق السياسية، وتساهم في قمع بعض الشعوب بشراسة.
ولو كانت تلك المغامرة لم تحدث وسارت روسيا في الطريق الديمقراطي لكانت قد فككتْ الكثيرَ من الألغام التي تمشي عليها الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1) كتاب مرض الطفولة اليساري، الفصل الثاني، أحد الشروط الأساسية لنجاح البلاشقة.
(2) المصدر السابق، من الفصل الرابع المعنون(في النضال ضد أي من الأعداء داخل حركة العمال نمت البلشفية وصلب عودها)، النصوص مأخوذة من موقع الحوار المتمدن، عبر طبعة دار التقدم.

الفصل السادس

تراجعُ الخيالِ الاشتراكي

بعد سنواتٍ حارقة من تطبيق ما سُمي بمرحلة الاقتصاد الشيوعي(1917-1920) الذي كان هيمنةً حكومية واسعة على الفائض الاقتصادي في الريف والمدينة، والذي أدى لعسكرةِ الدولة وبدءِ رأسماليتها الحكومية الشاملة، أخذ لينين يتراجعُ عن هذا الاقتصاد العسكري الضاري متوجهاً نحو جوانب إقتصادية رأسمالية، لا تنفي رأسماليةَ الدولة ولكن تجعلها عمليةً في جوانب إقتصادية وإجتماعية ضرورية بدلاً من هلاكِها بسببِ إنتفاضةِ الجمهور الطليعي العمالي ضدها والخسائر البشرية الرهيبة التي سببتها.

(قال لينين في خطابه الموجه للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي في آذار عام 1921، حول ضرورة التعاون مع العوامل الرأسمالية الداخلية والخارجية،”إننا الآن في مرحلة تحول، وثورتنا محاطة من قبل بلدان رأسمالية. وطالما نحن في هذه المرحلة، فإننا مجبرون على البحث عن أشكال عالية التعقيد من العلاقات”. وتكون هذه “الأشكال عالية التعقيد من العلاقات، طبعاً، كان إنشاء أساليب السوق للتوزيع أولاً في القطاع الزراعي وفيما بعد القطاعات الأخرى من الاقتصاد”. وفي ملاحظات أخرى للمؤتمر، أكد لينين للمندوبين أن المشكلة الأهم والأخطر في المرحلة الحالية لم تكن سياسة التنازلات للرأسمالية كما يحذر البعض وخاصة أولئك الذين على اليسار. وعلى الأصح كان المستوى المتدني جداً للقوى المنتجة الذي يهدد بقاء ثورة أكتوبر: “يجب أن لا نخاف من نمو البورجوازية الصغيرة ورأس المال الصغير. وما يجب أن نخافه هو المجاعة، الحاجة ونقص الغذاء، لأمد طويل، وهو ما يخلق الخطر المحتمل في أن(الثورة)البروليتارية تنهار فاسحة الطريق لتردد ويأس البورجوازية الصغيرة”.
وقد أظهرتْ كتاباتُ لينين الكثيرة منذ مطلع العشرينيات أنه توصل شيئاً فشيئاً إلى الاستنتاج بأنه في بلدٍ خاضعٍ للهيمنةِ الفلاحية ولمستوياتٍ متدنية من حيث القوى المنتجة والتعليم والثقافة، يمكن أن لا تكون هناك قفزة لخطوط الإنتاج أو التوزيع الاشتراكية أو الشيوعية)،(1).
السياسة التجريبية التي يقومُ بها لينين التي تشكلت من تجزيئيتهِ النظريةِ والقفز على قوانين المادية التاريخية، والتي إندفعتْ نحو أقصى اليسار في سنواتٍ سابقة تقومُ الآن في سنوات العشرينيات من القرن العشرين في روسيا بالعودة لقوانين الاقتصاد الرأسمالي!
هنا الإحساسُ بالتقارب مع اليمين، فظهورُ دولةٍ عسكرية شمولية هو أمرٌ يتناقض مع الاشتراكية لأن الاشتراكيةَ هي مرحلةُ خفوت الدولة وزوالها التدريجي، حيث تبدأ الطبقاتُ المتضادةُ بالاختفاء، لكن هنا الدولة على العكس غدتْ هي الكائنُ الاقتصادي السياسي العسكري الهائل، وإن الدولةَ لم تكتفِ بالهيمنة الواسعة على المجتمع بل تدخلتْ في كل علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جاعلةً نفسَها المالك الأكبر، ينافسها الاقتصادُ الفلاحي الصغير، حيث لا يمكنها أن تزيله لأن تلك الأراضي الزراعية الصغيرة غير مجدٍ تأميمها، ومن هنا التصور الخيالي الآخر بالقيام بالمزارع الجماعية حيث تُصادر المُلكياتُ الفلاحية الصغيرة، وهذه سوف يستكملها ستالين، بتوسع الاستبداد الدموي، فدكتاتوريةُ البرجوازيةِ الصغيرة التي تبدأُ من لينين تتوسعُ لدى ستالين مقيمةً رأسمالية دولة كلية، فكلٌ منهما يكملُ الآخر.
إذن هي ليست سياسة عالية التعقيد بل عالية التضليل، فالرجوعُ لقوانين الاقتصاد السوق الرأسمالية يستلزمُ النقدَ الموضوعي لتجربةِ التأميمات المستعجلة والمصادرات ومنع الأحزاب والقضاء على الحريات الاقتصادية والسياسية، ويلزمُ الاعترافَ بأن روسيا دولة متخلفة لا بد أن تعيدَ النظر في بنائها الاقتصادي، عبر إعادة المؤسسات الاقتصادية الخاصة وتكوين القطاع العام القائد، وتشكيل تجربة ديمقراطية متنوعة، لكن مثل هذه السياسة تعني إنهيار الأفكار الاشتراكية الحكومية الشمولية وزوال هيمنة رأسمالية الدولة التي غدتْ لها مصالح كبيرة وبيروقراطية هائلة صاعدة تتحكم في دولةٍ ضخمة والتي يقبضُ على خيوطها الدكتاتور الجماعي المتمثلُ في المكتب السياسي للحزب والذي يعبرُ عن التناقضاتِ غيرِ المرئيةِ في الوعي الرأسمالي الحكومي الشمولي هذا.
إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية النهضوية في روسيا وقتذاك بحاجةٍ لرأسِ المال، وبسياسةِ التقشف والمصادرة يتوارى رأسُ المال، فيجب أن يعودَ للساحة بعد أن تم طرده شر طردة!
هنا غدت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة بعثاً للرأسمالية فبدأ لينين في رؤية(أن التأميمات السريعة والآمال العالية للتخطيط الواسع في الاقتصاد التي ميزت السنوات الأولى قد ذهبت “بعيداً جداً” و”سريعاً جداً”)،(2).
فهنا لا بد من الحصول على الرساميل وخلق سياسة للأجور، ذات مراتبية، ولا بد من العودة للسلعة وقانون قيمتها، وإنشاء السوق، وخلق التبادل بين الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، لكن لا تزال الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الذي يشتري ويبيع خلافاً للحلم الاشتراكي بزوال الدولة.
لقد عبرت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة في روسيا في سنواتِ العشرينيات من القرن العشرين عن تحول الدولة الثورية ذات الحلم الاشتراكي بزوالِ الطبقاتِ وإزالة البرجوازية إلى أن تكون هي الرأسمالي الأوحد.
هي إمكانيةٌ كبيرة لدولة شرقية أن تتملكَ ثروات وتقوم بمشروعات صناعية وعلمية واسعة وبشكل شمولي فهي مهمة سهلة في بلدان الفراغ الاقتصادي الشرقي الحديث، لكن لا بد للمشروعات من رساميل، فكيف تضربُ الرأسماليةَ ثم تستعينُ بها؟!
حينها كان لا بد من تصعيد رأس المال من القطاع العام المؤّمم والقطاع الخاص الفلاحي الصغير الذي يمتلكُ ثروةً كبيرة ويكونُ الريفُ هو المُصدرُ المختّرع الزائفُ لظهور الرأسمالية مجدداً، وبهذا سوف يجري لاحقاً مصادرتها ونزعها بالقوة بأشكالٍ تعيدُ طرقَ التراكم البدائي الذي جرى في الاقتصاديات الغربية المنتقلة من الإقطاع للرأسمالية للظهور ثانيةً بقسوة لا تقلُّ دموية.
إن العبارات المتخوفة من الفلاحين الصغار والبرجوازية الصغيرة المنشأُ الموهومُ لعودةِ الرأسمالية- التي يذكرها لينين في خطابه السابق الذكر- لا تجدُ أن المصدرَ الحقيقيَّ لعودةِ الرأسمالية الخاصة هو عبر رأسمالية الدولة ذاتها، وبقيادة البرجوازيين الصغار الحكام، لكنهم كمناضلين تماهوا في زمن الثورة في شظف حياة العمال لن يروا هذه الإمكانية بسبب الخيال الاشتراكي.
إستطاعت التجربةُ الروسية أن تقومَ بتطوراتٍ صناعية وإجتماعية كبيرة، وإعتمدت على التقشف الشديد من قبل القيادات السياسية وعبر سحق الفساد، وبتضحيات الجمهور الشعبي، ودفاعه البطولي عن الوطن، ولكن تشكيل الصناعات الثقيلة وتطوير الحياة المتخلفة كان كله تأسيساً للدولة الرأسمالية القومية، حتى تصل لمستوى معين ثم تعجز القوى المنتجة عن التطور في هذا المستوى.
إعتمدت الدولةُ القوميةُ(السوفيتية)الروسية على تضحيات العمال الذين عاشوا بأجورٍ متدنية، وإستبسال في عمليات البناء الكبرى، ثم راحت الدولةُ القومية تنشقُ إجتماعياً، وتتفككُ صفوفُ الطبقات الموَّحدة قسراً في شكل سياسي شمولي، إلى قومياتها المتعددة عبر دولٍ مختلفة، وإلى عودةِ الاختلافات الطبقية الروسية وإستقطابها في إستمرار رأسمالية الدولة الشمولية حتى الآن غير القادرة على الدخول في الرأسمالية الحرة بشكلٍ كلي، وبقاء التناقض الرأسمالي في أقليةٍ هائلة الثراء وأغلبية شعبية فقيرة.
إن رأسمالية الدولة التي كانت رافعة التطور تنقلبُ لعقبة أمام التطور التقني وتنامي قوى الانتاج الحديثة، وكموديل لحركات التحرر الوطني العاصفة بالعالم الاستعماري، وتصيرُ بعدئذٍ نموذجاً متخلفاً وأداة لمساعدة القوى الرأسمالية الحكومية المحافظة في دول أخرى.
عبرت العملية التحولية نحو السوق والضرائب وتراكم النقد لدى الدولة وتطوير المؤسسات الصناعية النوعية عن رأسماليةٍ ناقصة، وعن إصلاح إقتصادي بدون إصلاحات سياسية وفكرية في بُنية الحزب، لكن على العكس من ذلك تغدو أفكار لينين تياراً، وهي ستنمو عبر تجارب العالم الثالث المتخلف، وتجدُ في بعض المثقفين والفئات الصغيرة أدوات لتوسيع حضورها وإعادة تكرار النموذج على مدى عقود، حتى يصل النموذج إلى عدم القدرة على الحياة.
إن التراجعات نحو إقتصاد السوق لم تُستكمل عبر الديمقراطية، فقد أصبح البلاشفة قوة دكتاتورية لا تقبل بالتراجع عن سلطتها، ولهذا كانت المناقشاتُ تجري في المكتب السياسي، بعد قتل لينين من قبل ضحاياه، حول تصعيد التجربة(الاشتراكية)في بلد واحد أم توسيع حضورها وتصديرها للثورات في البلدان الأخرى لأن الاشتراكية في بلد واحد غير ممكنة!
كانت تناقضاتُ قادةِ المكتب السياسي تعبرُ لا عن تناقضات بناء الاشتراكية في بلد واحد بل عن وهمِ بناء الاشتراكية من خلال الدكتاتورية والتخلف.
ولهذا فإن هذا الموديل التاريخي من الوعي بالاشتراكية لا يلغي تاريخَ الاشتراكية مستقبلاً ولكنه يعبرُ عن تصورات تجريبية حارقة، وسوف تنزلقُ حتى شعوب قصية شديدة التخلف، عبر مثل هذه الجمل التي إستخدمها لينين كما رأينا في القفز على مصائر الشعوب من خلالها ولكن سوف تستخدمها بأشكال أكثر جهلاً وإضطراباً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1): الحوار المتمدن، مقالة: مسألة التحول، وسياسة لينين الاقتصادية الجديدة، بقلم سي. جي، أتكنز).
(2): السابق.

الفصل السابع

أخطاء إعادة البناء

رغم الضبابيات الإيديولوجية في عالم الرأسماليات الحكومية الشرقية فإنها تصل إلى لحظة أزمة عميقة، وتصويرها بأنها ليست رأسمالية، وأنها تمضي في سبيل مختلف عن عالم الرأسمالية هذا كله لا يغير طابع الأزمة ولكنه يطرح تصورات خاطئة وعمليات خداع إجتماعية واسعة.

في الاتحاد السوفيتي كانت عملية إعادة البناء حادة ومكلفة ورهيبة، فالطابع الإيديولوجي السائد كان إعادة البناء للاشتراكية، وتفعيلها عبر الديمقراطية ولم يخطرْ في الوعي السائد للطبقة الرأسمالية الحكومية المتنفذة بأنه ليس ثمة إشتراكية فيها، ولن تكون هناك ديمقراطية كذلك!
لقد أوضحنا سابقاً كيف كان البناء الاشتراكي البيروقراطي وضخامة دوره النهضوي التصنيعي، وتفكك العلاقة بين البرجوازية الحكومية وبين العمال، وتمظهر ذلك في تيبسِ المنظومات السياسية والإدارية من نفوذ العمال، وزوال الطابع(السوفيتي)، وجرى ذلك على مدى تاريخي طويل نسبياً.
كانت مقولاتُ جورباتشوف في إعادةِ البناء ترتكزُ على مجموعةٍ من الأوهام الإيديولوجية، التي بدأتْ منذ ثورة أكتوبر(الاشتراكية العظمى)، ومن أهم هذه الأوهام وصول طبقة العمال للحكم وتفردها في النظام، وتذويبُها للطبقاتِ الأخرى، وتصوره لذلك باعتباره حقيقةً موضوعية، في حين أن نظامَ الرأسمالية الحكومية كان هو السائد، حيث تملكتْ طبقةٌ واسعةٌ من الموظفين العسكريين والأمنيين والإداريين الأملاكَ العامةَ وأخضعتها لسيطرتها الطويلة، بدون رقابة شعبية عميقة، وديمقراطية، وتحولت هذه الطبقة إلى طبقات في مجمل الهياكل السياسية للاتحاد السوفيتي، الذي يضم جمهوريات عديدة ذات قوميات مختلفة، فكما هيمنتْ هذه القوى على المركز كذلك هيمنتْ أشكالُها الأخرى على بقيةِ فروع الاتحاد، وكما نخرت القوى البيروقراطيةُ العاصمةَ وجمهوريةَ روسيا الاتحادية نخرتْ بقية الجمهوريات، عبرَ أشكالٍ من الهيمنة على المرافق الحكومية وبتجميد الوعي السياسي المعارض والوعي الجماهيري عن قراءة الواقع الموضوعي.
وهكذا فإن شعارات إصلاح النظام السياسي طُرحت على أساس أن النظامَ الاشتراكيَّ سليمٌ وينقصهُ بعضُ الحريات بحيث تؤدي هذه الحريات إلى تفعيلِ الاقتصاد الحكومي ويتم كشف الفساد فيه وتطهيره ويتم إحداث تقدم عميق به، يعزز المكاسب(الاشتراكية) عبر الديمقراطية وبعض حقوق الإنسان المهدورة فيه كالتعبير وحق التجمع والتظاهر.
هذا ما أرادهُ جوباتشوف في نظرةٍ مثالية، مرتكزاً على إعتبار أن الرأسماليةَ الحكومية إشتراكية، حققتْ إصلاحاتٍ جوهرية فيما يتعلق بسيادةِ العمال سيادةً كبرى على الحياة السياسية، وإنه لن تستطيع قوى إجتماعية أخرى أن تظهرَ في مواجهة وجودهم الكاسح.
كان الوعيُّ البرجوازي الحكومي السائدُ في الحزب الشيوعي السوفيتي، يمتلكُ مقولاتٍ معينةً عن تحققِ الاشتراكية وتضاؤل الصراعِ الطبقي وقيام الملكية العامة بتذويب الطبقات، وعن سيادة الإيديولوجية الاشتراكية في الاتحاد وهلم جرا من الأوهام.
لكن ما كان متحققاً هو ما ذكرناه سابقاً خاصة سيادة الرأسماليات الحكومية في الاتحاد في هذه الجمهوريات المتعددة، والتي اتخذت أشكال الهيمنة القومية بمختلفِ تجليلاتِها في تلك الجمهوريات، المرتكزة على مختلف أنواع البيروقراطيات التي نخرت الاقتصاد، وعلى قوى الرأسمالية الخاصة المتصاعدة كذلك، وقد ظهرت الرأسمالية فجأة وقارب القطاعُ الخاصُ الروسي القطاعَ الخاص في إيطاليا في بضع سنوات من الانقلاب الاجتاعي! وهذا لا ينفي دور القطاعات العامة في التطور التاريخي وفي الأبوية الاجتماعية، لكن كان إدخال الانتخابات في حياة الاتحاد السوفيتي هو إنفجار للقوى الشعبية المكبوتة خلال سنين طويلة بمؤسسات القهر، خاصة قوى القوميات المحرومة من القرارات المستقلة في الجمهوريات الأخرى، والتي لم تميز بين القهر القومي الروسي والمكاسب النضالية المحققة، وصعّدت قوى قومية، وقوى فساد سابقة وجديدة، فهذه الجماهير لم تـُتح لها فرصة الاكتشاف السياسي والوعي الديمقراطي. وفجأة زُجتْ في طوفان الانتخابات والانهيار العام!
كما أن القرارَ الرئيسي كان قرار المركز وهو جمهورية روسيا الاتحادية التي بنتْ الاتحادَ وسيطرت عليه وجاء الآن الوقت لكي تنفصلَ عنه!
كل شيء يجري عبر تلاعب الرأسماليات الحكومية في عملية البناء والهدم.
كان هدم الاتحاد السوفيتي عملية عالمية كبرى، كانت تجديداً كبيراً للرأسمالية العالمية. في خضم تلاعب الزمن وجدلية الهدم والبناء تكشف الاتحاد الاشتراكي عن مجموعة من الرأسماليات الحكومية العابرة للقارات.
إن الرأسماليات الشرقية التي تتشكل بجهاز الدولة منذ التشكيلة العبودية المُعمَّمة أيام فرعون، استخدمت جهاز الدولة لبناء الرأسمالية، التي تمظهرت بشكل إشتراكي. ولم تحسن أدوات الدولة الروسية عملية التغيير بين رأسمالية حكومية شمولية ورأسمالية حكومية تتيح مجالاً كبيراً للقطاع الخاص. إن البوليس السياسي لعب دور المشكل للتجربة وتغيير ربع الكرة الأرضية. مما سبب كوارث كبيرة للسكان في هذه البلدان.
وكان التفكيك لتجنب الخسائر الاقتصادية المتراكمة، وإنقاذ روسيا في صراع الاقتصاد العالمي، وترك الدول الأخرى التابعة تعالج مشكلاتها، وحين تم بعض العلاج أُعيدت السيطرة في الكومنولث. فكان لدينا رأسمالية حكومية تحت نهب القطاع الخاص المستمر. وهي صيغةٌ شرقيةٌ مُعمَّمة كذلك بشروطِ البلدان وظروفها الآسيوية الاستبدادية.
ولهذا فإن كافة الأدوات الأخرى من برلمان ومؤسسات وصحافة هي مجرد أدوات رقابية شكلية محدودة الصلاحيات، أما اليسار والنقابات فسوف تُوضع في الركن عاجزة عن الوجود أمام ضخامة أدوات الدولة الرأسمالية الحكومية – الخاصة الشمولية.
ولم تتحق إعادة البناء من أجل الاشتراكية الديمقراطية، لكون الأخيرة لا تظهر كمعجزة إلهية، بل تنمو عبر عشرات السنين، أمام التصويت اليقظ للشغيلة، ومن هنا فإن حكم العصابات يولد حكماً جديداً لها بمظاهر جديدة وشعارات مزيفة.
كان عجز الحزب الشيوعي الروسي عن التحول للاشتراكية الديمقراطية، وتجاوز اللينينية في صيغتها لبناء الاشتراكية، ليس هو فقط نتاج جمود فكري بل هو نتاج فساد طويل وتلاحم مع الأجهزة البيروقراطية وأفكارها المحنطة، وعدم النضال وسط صفوف الشعب وخاصة العمال.
لقد كشف تاريخ الرأسمالية الحكومية الروسية حقيقته الموضوعية في لحظة إنفجارية من الزمن، بسبب تراكم الأعباء العالمية عليها، فوصلت لحد الإختناق وكشفت طبيعتها الطبقية، فتخلصت من أشكال التضحيات الأممية وتوجت الأنانية كملكة حاكمة في النظام السياسي.
ظهورها على حقيقتها روع القوى التقدمية في العالم، التي اعتمدت على التصريحات النارية والاحتفالات الصاخبة والمساعدات المسيطرة، والوعي الشعاري السطحي بالاشتراكية.
وقد استفادت الصين من هذه التجربة المرة، وقد كانت قبل إنهيار الاتحاد السوفيتي قد مشت في طريق بعث الرأسمالية الخاصة من داخل هيكل القطاع العام البيروقراطي الشمولي نفسه دون أن تقدر على تجاوز تناقضات التجربة هي الأخرى.

خاتمة

روسيا ومصير تراث لينين

روسيا الاتحادية هي الجسمُ السياسي الذي ورث الاتحاد السوفيتي بعد حله في سنة 1991، وتظلُّ روسيا أكبر بلد مساحةً في العالم، وقد تقلصَّ سكانُها في حدودِ المائة والأربعين مليوناً، ويعبرُ تصديرها عن عدم تحولها خلال العقود السابقة لبلدٍ صناعية متطورة، فهي تصدرُ: النفطَ ومشتقاته، والغاز الطبيعي والخشب والمعادن والمواد الكيمائية والأسلحة والمعدات العسكرية.

عودتُها للكيانِ الروسي القومي المحض لم يُزل كيانَ الاتحادِ السوفيتي فقط بل التجربة (الإشتراكية). ففي أثناء تفكك الاتحاد السوفيتي وما بعده تصاعدت عملياتُ بيع المؤسساتِ العامة للقطاع الخاص، وأُلغي التخطيطُ وقسمٌ كبير من ملكية الدولة. وانتقلت روسيا بسرعة وحدة لاقتصاد السوق فهوت ملايينٌ من السكان في هوة الفقر، وكان معدلُ الفقر 5%1 في العهد السوفيتي فتفاقم إلى 49% في عام 1993، فأنتشر الفساد والأجرام، وتفجرت أزمةٌ إقتصادية وإنخفض الناتج المحلي ل50%.
الانتقالُ الحادُ من رأسمالية دولة شمولية كلية تمنع حتى إصطياد الفقراء للسمك بشكلٍ حر إلى رأسمالية دولة(ليبرالية) فوضوية، يعكس فشل المخاض الطويل في الاتحاد السوفيتي للتحول بين كونه رأسمالية دولة شاملة، إلى رأسمالية دولة شعبية ديمقراطية تحوي نسبة مهمة من الاقتصاد الخاص.
هذه العملياتُ السريعة المفرطة في بيع الأملاك العامة ووجود المشترين الروس أنفسهم، توضحُ الفسادَ المتغلغل لعقود ووجود رأسماليي الباطن الكثيرين، كما تعبرُ عن فقدان العمليات السياسية والفكرية الاشتراكية الديمقراطية طوال سنوات، حيث التصلب الإيديولوجي من جهة والتحلل الإيديولوجي من جهة مضادة. فالحزب السوفيتي لم يفهم العملية التاريخية التي قام بها خلال العقود السابقة، وهو لم يكتشف أساساً طبيعة النظام، الذي تصوره إشتراكياً يتوجه لذوبان الطبقات وإنتصار الطبقة العاملة الكلي على بقية المكونات، لكن أجهزة الدولة كانت تفرخ رأسماليين بالباطن، وهو غير قادر على وقف التحلل الداخلي وغير قادر على السير الديمقراطي للأمام.
ولهذا كان من نتائجِ الانقلاب على آخر رئيس سوفيتي حلُّ الحزبِ والاتحاد السوفيتيين اللذين كانا شكلين فقدا مضمونيهما التقدميين.
يستمر التناقضُ بين رأسماليةِ الدولة القومية الشعبية التي كانت ذات قوة إقتصادية وتماسك نسبي في العلاقات الاقتصادية العامة وحولها الجمهورُ العامل الذي إلتحمّ بمستوى خدماتها المتدنية كذلك، وبين الرأسمالية الخاصة وهي تنمو داخل شبكات الحكم والمجتمع وتحولُ الكثيرَ من الموارد لصالحها وتشكلُ اللاعقلانيةَ الاجتماعية السياسية المفتوحة على الفوضى.
إن الاقتصاد العام المسيطر سابقاً، التفت عليه الشعوبُ السوفيتية عامة، ومثّل تجربة التعاون الأولية لكل إقتصاد قومي متخلف يقفز بسرعة في الحداثة، لكن الاقتصاد العام منخور، والقوى العليا المسيطرة خلال عقود تكونُّ رأسمالَها منه، وتعصرُ العمالَ عبر النظام المشترك.
وهي في التحول الانقلابي الكارثي تُلقي بهذه الجماهير في عرض الشارع، وتتخلى عن كل الميراث النضالي، وتتوجه إلى الحداثة الرأسمالية المبتورة، فتجعل السوقَ متحكماً في الظروف الاقتصادية، والعلاقاتَ البضاعية والنقدية هي القانون لكنها تظل دكتاتوريةً كذلك عبر بقاء جهاز الدولة الصانع للثروات في يدِها وللمزيد من التخلخل الرأسمالي المبرمج لصالح الطبقة المسيطرة ومن يواليها.
أي أن ما كان غير مرئي في العلاقات الاشتراكية الكلية من هيمنة للبرجوازية الصغيرة على المؤسسات وصناعة الأفكار يتفجر وقد تحولت تلك المخلوقات الصغيرة فجأة عمالقةً نهمةً للعملات الصعبة وثمار العمل الشهية.
ولهذا فإن الطبقةَ الحاكمة إنقسمتْ إلى فرعين، وكأنهما العقلُ الاشتراكي الزائف وقد إنفصم إلى عدوين متلاصقين، فهناك أحزابُ السلطةِ التي خرجتْ من أقبيةِ المخابرات والجيش والوزارات والشركات وقد توجهت لليمين ومواصلة إنتاج الرأسمالية الخاصة من أموال الشعب، وهناك الحزب الشيوعي السوفيتي وقد تقزم من خمسين مليون إلى عدة آلاف وصار الحزب الشيوعي الروسي.
فكأن الطبقةَ الحاكمة وهي تتحولُ من منتج للرأسمالية إلى أن تُخرجَ من داخلها المتعفنِ عدواً زائفاً لها كذلك، فهي تعمقُ الرأسماليةَ الخاصة وتحاربها بخلطات الماضي السحرية، وبتواريخ النضالات العارمة السابقة وهي مُحاطة بذات الأطر الإيديولوجية التي أوصلت الناسَ لهذه النتائج الكارثية، أي هي تعمل أيضاً على تعميق النتائج الكارثية مثلما تعمقُ الرأسماليةَ الحكومية المتحولة لخاصةٍ بيروقراطيةٍ والتي ستؤدي لتحطيم أُطر الاتحادِ الروسي كذلك.
عبرت كتلُ الأحزاب والانتخابات في روسيا عن القوى الاجتماعية التي تكونتْ بعد تحول روسيا من رأسماليةِ دولةٍ كلية إلى رأسماليةِ دولةٍ بيروقراطية، وهي الحلقاتُ المتعددةُ التي تقعُ فيها الدولُ الشرقية في عملياتِ نموها من الإقطاع إلى الرأسمالية الحرة، حيث تقوم رأسماليةُ الدولةٍ كجهاز للتحولات الاجتماعية السياسية بيد الطبقة المسيطرة عليه.
وهذا التحول الروسي إلى رأسماليةِ دولة بيروقراطية يوضحُ العجز عن إنتاج الطبقتين السائدتين المتصارعتين المتعاونتين في الرأسمالية الحرة؛ البرجوازية والطبقة العاملة، ويوضح ضعف مستوى القوى المنتجة، وهو أساسٌ يؤثرُ على الأشكالِ السياسية المختلفة بدءً من هيئاتِ الدولة إلى خريطتها السياسية وأحزابها المختلفة وثقافتها السائدة.
ومن هنا فإن الطبقةَ المسيطرة داخل أجهزة الجيش والمخابرات والقطاعات العامة، التي قامتْ بالتخلي عن الاتحاد السوفيتي وأغتنتْ من حطامه، تمثلُ القوة الرئيسية وقد تحددت أخيراً بسيطرة حزب روسيا الموَّحدة وهو حزبُ الرئيس بوتين، المؤسَّّس سنة 2001، وهو الحزب الحاصل على الأغلبية الانتخابية سنة 2003 حين تحكمت هذه المجموعة في المؤسسات السياسية. ويعود ذلك لوفرة المستفيدين من حزب الطبقة الحاكمة، وضخامة أجهزتها ونفوذها المالي.
والحزب هو وريث الطبقة ذاتها في الاتحاد السوفيتي ولهذا فإن رأسماليةَ الدولة المستمرة تحفظُ الهيكلَ العسكري الاقتصادي لروسيا، ويغدو التوحد القومي الروسي هو الرابطة التي تجمع الدولة الكبيرة وتجعل من بقيةِ القوميات خاضعة لها، والتوحد له مؤسسات إقتصادية تمثل القطاع العام أساساً، وبالتالي فإن حزب روسيا الموحدة بجمعه بين السيطرة على الدولة وتقديمه العيش البسيط المستمر للعمال ورفضه التحول لرأسماليةٍ حرة كاملة يحصلُ على شعبية، بسبب أن العمالَ كانوا في ظل دولة أبوية مثلّتْ لهم نموذج الاشتراكية، وأي مقاربة لها تغدو شعبيةً. كما أن حزب روسيا الموّحدة يضمُ النخبَ الغنية الكبرى، فهو لهذا يواصلُ أبويةَ النظام السوفيتي، ويخلق تحالفاً هشاً بين برجوازية بيروقراطية وعمال ضعفاء إنتاجياً وسياسياً وتابعين. ولهذا يرفض التوجه لنموذجية الديمقراطية الغربية وأي تنام للديمقراطية يهدد هذا الكيان الحزبي الحكومي، فهنا تتواصل الهيمنة الروسية الحكومية وسيطرة البرجوازية البيروقراطية هذه الذي تحظى عبر هذا الخداع بالشعبية.
وكما يغدو عيشُ الجماهير الذي استقر طويلاً في إقتصاد الكفاف السوفيتي نموذجياً وحلماً سابقاً، في إطار الدخول الواسع للعلاقات البضاعية النقدية الحارقة، كذلك فإن الأحزابَ تتحددُ بمدى مقاربتِها للحلم السوفيتي بدون كابوسه الشمولي العنفي.
ومن هنا فإن الحزبَ الشيوعي الروسي حظى بأهميةٍ قوية بعد السقوط المروع للنظام السابق، عبر محافظته على الجوانب الإيجابية من ذلك النظام والمرتبطة بعيش الجماهير ومستوى دخولها وحقوقها المهنية المُدّمرة في هياج إقتصاد السوق الأولي.
ولكنه فقد هذه المقاعد بعد سنوات حين تمكن حزبُ روسيا الموحّدة من تثبيت وضع الاقتصاد وتحسين حالة العيش، عبر بيع النفط المتصاعد الأسعار وبيع السلاح على الدول الشمولية الأخرى الصديقة.
وقد ورث الحزبُ الشيوعي الروسي مقرات الحزب الشيوعي السوفيتي وشبكاته المادية كما ورث أيديولوجيته المحنطة. لقد دأب الحزبُ على تصوير نفسه كوريث للمنجزات السوفيتية، وراح يقدم تاريخاً بلا قوة تحليلية نقدية عميقة، فستالين نفسه يظهر كبطلٍ وتُخفف جرائمه لحد كبير، وبالتالي فإن القراءةَ الفردية البطولية للقومية الروسية ونماذجها من القياصرة تحلُّ محلَ المادية التاريخية.
تصعبُ عودةُ الحزب للاشتراكية الديمقراطية وتغيير مسار فكري واسع، لتغدو الاشتراكية إصلاحاتٍ مستمرةً وتبادلية في السلطة ومشاركة الحكم والمعارضة الديمقراطية، أي تغيبُ جدليةُ العلاقة الصراعية التعاونية بين البرجوازية والطبقة العاملة، وتبقى النظرة الواحدية للطبقة، فأما البرجوازية أو العمال، وبهذا فإن بناء الدولة- المجتمع يتعرض للصراع المدمر، للصراع الانشطاري الديني القومي.
ولهذا فأن زعيم الحزب جينادي زوغانوف يقدم لنا تحفاً في(التحليل الماركسي)كتأييده لحزب البعث السوري في حملاته الدموية قائلاً بأن(الحكومة السورية يحق لها الدفاع عن نفسها بكل الوسائل)(في تصريح لوكالة إنترفاكس يوم 23 يوليو)، مشيراً بهذا للأسلحة الكيمائية! ثم يطالب بإعادة التأميمات الكبرى، مما يشير للطرق القديمة وتقوية مركز اليمين الحاكم.
أما الحزب القومي الليبرالي فهو تكوينٌ مساير لقوى الطبقة الرأسمالية البيروقراطية الحاكمة الراهنة أو التي أُطيح بها، ولكن بتطرف عبر كره الأجانب وتصعيد اللغة الحربية. ولهذا فإن اليمين العقلاني يسقط هنا، فيما تحاول بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة تكوين لغات سياسية أخرى بصعوبة شديدة وسط الميراث الاستبدادي الروسي الطويل.

24/12/2012

تم

عبـــــــدالله خلـــــــيفة

‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆                        

𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙

21.10.2014 | 1.3.1948

من مواليد القضيبية – البحرين.

خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1974.

اعتقل من سنة 1975 إلى 1981.

◇ عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعية والثقافية في الصحف البحرينية والخليجية، ونشر في العديد من الدوريات العربية.

عضو اتحاد الكتاب العرب بسوريا.

◇ ساهم في مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، وأول مؤتمر أشترك فيه كان سنة 1975 الذي عقد بالجمهورية الجزائرية وقدم فيه بحثاً عن تطور القصة القصيرة في البحرين، وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، وببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والاستبداد» وذلك باتحاد الكتاب المصريين. والعديد من المؤتمرات الادبية العربية.

◇ منذ سنة 1966 مارس عبــدالله خلــيفة كتابة القصة القصيرة بشكل مكثف وواسع أكثر من بقية الأعمال الأدبية والفكرية التي كان يمازجها مع هذا الإنتاج، حيث ترابطت لديه الكتابة بشتى أنواعها: مقالة، ودراسة، وقصة، ونقد. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي قام بطبع نتاجه القصصي والروائي والفكري في دور النشر العربية المختلفة.

ونتاجه الأدبي والفكري يتنوع على النحو التالي:

القصص القصيرة:

1لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».

2الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل– الأحجار – العرائس – الماء والدخان».

3يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدربأماهأين أنت الخروج – الجد – الجزيرة».

4سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص:السفرسهرة – قبضة تراب – الطوفان  – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».

5دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء – الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».

6جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة –رجب وأمينةعند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد».

7سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش الناروراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».

8الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوسليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى– الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

9أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ– شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – القائدُ مجنونٌ – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف».

10إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – گبگب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار – أنشودة الصقرغليانُ المياه».

11ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة – جزرُ الأقمار السوداء – سيرة شهاب – معصومة وجلنار– سارق الأطفال – شظايا – الترابيون».

12باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الأول: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، 2004.

الأعمال القصصية الكاملة، المجلد الثاني: لحن الشتاء، الرمل والياسمين، يوم قائظ، سهرة، دهشة الساحر، جنون النخيل، سيد الضريح، 2021.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثالث: مريم لا تعرف الحداد، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، الينابيع، 2021.

الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع: محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021.

الأعمال الروائية:

13اللآلئ، 1982.

14القرصان والمدينة، 1982.

15الهيرات، 1983.

16أغنية الماء والنار، 1989.

17مريم لا تعرف الحداد، 1991.

18الضباب، 1994.

19نشيد البحر، 1994.

20الأقلف، 2002.

21ساعة ظهور الأرواح، 2004.

22رأس الحسين، 2006.

23عمر بن الخطاب شهيداً، 2007.

24التماثيل، 2007.

25عثمان بن عفان شهيداً، 2008.

26يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، 2008.

27محمد ثائراً، 2010.

28ذهب مع النفط، 2010.

29عنترة يعود الى الجزيرة، 2011.

30الينابيع, الطبعة الكاملة، 2012.

31عقاب قاتل، 2014.

32اغتصاب كوكب، 2014.

33رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.

34ثمن الروح، 2016.

35ألماس والأبنوس، 2016.

36ابنُ السيد، 2016.

37الأرض تحت الأنقاض، 2017.

38حورية البحر، 2017.

39طريق اللؤلؤ، 2017.

40بورتريه قصاب، 2017.

41مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، 2018.

42شاعرُ الضياء، 2018.

43خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ، 2019.

44هُـدهـُـد سـليمـان، 2019.

الدراسات النقدية والفكرية:

45 – الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي، 2004.

46الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، 2005.

47الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الثالث، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005.

48الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

49نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، 2007.

50– تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية، 2008.

51صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران، 2016.

52الملعون سيرة وحوارات وما كتب عنه، 2016.

53تطور الأنواع الأدبية العربية: دراسة تحليلية للأنواع من الشعر الجاهلي والقرآن حتى الأدب المعاصر، وهي دراسة مكثفة فكرية تكشف علاقة التداخل بين النصوص العربية والصراع الاجتماعي، 2016.

54 – الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي: وهي قراءة جديدة للماركسية، تبحثُ أسلوبَ الإنتاجِ الراهن في الشرق عبر نظرة مختلفة، الكتاب الثاني:لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته، 2016.

55عالم قاسم حداد الشعري، 2019.

56عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله، 2019.

57الكلمة من أجل الإنسان، 2020.

عبــدالله خلــيفة على موقع الحوار المتمدن

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436071

   مليون قارئ. 6, 348,633 عدد إجمالي القراءات:

عدد المقالات المنشورة: 1,218.

عبــدالله خلــيفة على ووردبريس:

https://isaalbuflasablog.wordpress.com

https://iakalbuflasa.wordpress.com

عبــدالله خلــيفة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/abdullakhalifaalbuflasa

عبــدالله خلــيفة على You Tube:

https://www.youtube.com/channel/UCdyc68FyFxWEu1nt9I7K46w

عبــدالله خلــيفة على مدونة بينترست:

عبــدالله خلــيفة على مدونة إنستغرام:

https://www.instagram.com/abdulla_khalifa_albuflasa

البريد الالكتروني لـ عيسا خليفة البوفلاسة

isa.albuflasa@gmail.com

isa_albuflasa@yahoo.com

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ الكتاب الأول

✺ توطئة
✺ الفصل الأول
✺ من تاريخ قوى المال الغربية
✺ إستكمالُ نظريةِ ماركس عن رأسِ المال
✺ الفصل الثاني
✺ الرأسماليات الحكومية الشرقية الكبرى
✺ اليابان تجربة الرأسمالية الخاصة
✺ الرأسمالية الحكومية الروسية
✺ الأجور والسلطة الحكومية الرأسمالية
✺ الرأسمالية الحكومية الصينية
✺ الرأسمالية الحكومية في الهند
✺ الرأسمالية الحكومية في أمريكا اللاتينية
✺ تجربة كوبا
✺ الفصل الثالث
✺ الرأسماليات الحكومية العربية والإسلامية
✺ الرأسمالية الحكومية المصرية
✺ الرأسمالية الحكومية الإيرانية
✺ الرأسماليات الحكومية الخليجية
✺ خلاصات عـــــــــــــــــــــامة
✺ مسارات الرأسماليات الحكومية الشرقية
✺ (إصلاحات) الرأسماليات الحكومية الشرقية
✺ أنماط الرأسماليات الحكومية الشرقية
✺ من يملك الرأسمالية الحكومية؟

توطئة

لم تتح لكارل ماركس فرصة التعرف على رأس المال الشرقي، الذي تطور بعد وفاته، في أواخر القرن التاسع عشر، ولهذا لم تتم دراسة هذا الرأسمال التاريخي المغاير لرأس المال الغربي، فخلافاً للرأسمال الغربي القادم من الإنتاج الشخصي، بدءً من الحرف فالمانيفاكتورة ثم الصناعة الآلية الخ، ظهر الرأسمالُ الشرقيُّ بقوتهِ الكبيرة من الحكومات أساساً.

ولهذا كانت مرحلة الليبرالية العربية وامضة، محدودة التاريخ، لاعتمادها على الرأسمال التجاري بشكلٍ كبير، فجاءتْ مرحلة الرأسمالية الحكومية ورافقتها الأفكارُ القومية والبعثية والماركسية والآن الطائفية.
لتطور أشكال الملكية العامة والخاصة في وسائل الإنتاج وفي نسبهما المتعددة، علاقاتٌ موضوعية، تعتمدُ على تطور هذه الوسائل.
إن تقلصَ الأفكارِ الليبراليةِ يرجعُ لتقلص الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج، والتوزيع، والتمويل، ولهذا رأيناها في المرحلة الحكومية الرأسمالية تذبل، وسواء كان ذلك في روسيا السوفيتية أو الصين الشيوعية أو مصر الناصرية وغيرها من الدول، فالدولُ الشرقية لها قوانينٌ عامة مشتركة، يحاولُ هذا الكتابُ أن يُظهرها.
كما أن الأفكارَ(الاشتراكية)مرتبطة بنمو الملكية الرأسمالية العامة، وهي تذبلُ كذلك مع تقلص هذه الملكية وتوسع الملكية الخاصة.
لن تنتهي الملكية العامة الرأسمالية الكبيرة الحكومية في الشرق إلا بحدوث ثورة كبيرة في قوى الإنتاج، فهذه الدول تسيطر على منابع الثروة كالبترول والغاز والمناجم الكبرى، باسم الشعوب الغافلة، وحتى في عهد الاصلاحات الرأسمالية الخاصة الحكومية في روسيا والصين وبقية دول الشرق التي تقاطرت على هذه العملية واحدة بعد أخرى، فإن الدولَ لم تتركْ هذه الملكية التي تصنع قوى الرأسماليين البيروقراطيين الحكوميين الذين يخرجون من هذه المطابخ الكبرى كقططٍ سمان.
ويجري ذلك أما بالتخلص من قطاعات خاسرة، وتحميل الشعوب فاتورة الفساد، أو عبر المشاركة مع الرساميل الخاصة الوطنية والأجنبية في أرباح مؤسسات قوية، لكن لا يجري ترك الدجاجة التي تبيض ذهباً؛ قطاعات إنتاج المواد الخام الثمينة.
وهذا على مستوى الأفكار يؤدي لشحوب أفكار الوطنية والقومية والاشتراكية.
وفي الدول الطائفية السنية والشيعية فإن المذهبية المحافظة تبقى حجر الزاوية في النظام الإيديولوجي، معبرة عن سياقات خاصة لدول أكثر ترسباً في النظام الإقطاعي.
وفي الوقت الذي تصعدُ فيه القوى البيروقراطية على جثة المجتمع القديم، فإنها لا تستطيع أن تكون ليبرالية ديمقراطية حقيقية، فهي بسيطرتها على أغلبية المال العام وإنتاجه تخشى هذ الديمقراطية، تخشى هروب الدجاجة الذهبية من تحت قبضتها، فتغدو لها تحفظات على هذه الديمقراطية لكونها (لا تتناسب مع تقاليدنا العريقة)، أو بسبب الخشية من الفوضى وغيرها من التبريرات التحكمية.
وتقوم بمزج هذه السلطة التحكمية بكم ما من الشعائر الديمقراطية، لكن التي تجعل حزب السلطة، سواء كان الحزب الشيوعي في الصين أو حزب روسيا بيتنا، أو الحزب الوطني الديمقراطي المصري، أو النخبة من الطائفة السنية المتحكمة في موارد البلد، أو النخبة من الطائفة الشيعية المتحكمة في موارد بلد آخر، أو أن يجري وضع خليط من النخب الطائفية المتعددة في بلد ثالث.
ومهما كانت الصراعات والخلطات فإن النتيجة هي إنشاءُ طبقة مسيطرة على وسائل الإنتاج، تتوزعُ بينها مصادرُ الخيرات العامة، بعضها متنفذ في أغلبية الملكية العامة وبعضها متنفذ في الملكيات الخاصة وبينها تعاون وصراع يتحددان بطبيعة العلاقات بين الطرفين وبحجم السوق ومسائل أخرى كثيرة.
هذه مرحلة رجراجة بين الرأسماليتين العامة البيروقراطية المنتهية ولايتها، وبين الرأسمالية الخاصة التي لم تعط الولاية ولم يحن سعدها الكامل.
هذه المرحلة التي نعيشها الآن والتي تمثل حلقة من حلقات تطور الرأسماليات الشرقية منذ أن كانت جنيناً في رحم الأمبراطوريات الإقطاعية فأنتجت لنا متجراً ومصنعاً صغيراً وبنكاً محلياً متواضعاً، حتى تفتت الأمبراطوريات أو تحولت بشكلٍ آخر محافظة على السوق الهائل كالأمبراطورية الروسية التي صارت أمبراطورية سوفيتية، والأمبراطورية الصينية التي صارت جمهورية الصين الشعبية، وهذا التحول فيهما أدى إلى إنجاز ثورة صناعية كبرى لم تصل بعد لمستوى الثورة الصناعية الغربية، لكن ضخامة السوق كانت معجلاً آخر، وفي حين لم تهدر الصين بضائعها على الجمل الثورية كثيراً استنزفت روسيا نفسها في ذلك.
كان المتفتتون – أي الذين زالت أمبراطوريتهم كالمسلمين – أكثر الخاسرين، فعلينا مراجعة تجربة مفتتة زادتها الأيام تفتتاً، وهي مثلت في النهاية تجربة المذهبيات الإسلامية المشغولة بالحروب الكلامية والحقيقية معاً.
كان بروز الرأسماليات الحكومية بشكل طائفي تعبيراً عن صراعات الماضي الخاوية، وعن الرغبة في إستعادة الأمبراطوريات، وعن ضعف الرأسماليات الحكومية في بلدان محدودة السكان، وعن تخلف هؤلاء السكان الاجتماعي والاقتصادي، وعن عدم وجود طواقم حكومية ذات كفاءة في رؤية مسارات التطور وضعف التعاون بين هذه الإقطار الدينية.

الفصل الأول

من تاريخ قوى المال الغربية

يتحدث العديد من المثقفين العرب عن أزمة الطبقة الوسطى وانهيارها أو صعودها أو غير ذلك في تعميمات ودون أية تحليلات اقتصادية وتاريخية، تجعل عقولهم ومناهجهم تتغلغلُ في البنى الاقتصادية وتفهم ما يجري.

هذا بخلاف علماء الاقتصاد والتاريخ الغربيين الذين كرسوا الكثير من المؤلفات لفحص ذلك، بدءً من آدم سميث وريكاردو حتى ماركس.
ويقدم لنا كارل ماركس وصديقه فريدريك انجلز لوحات تاريخية ومعركة ثقافية ساخرة وعلمية عميقة عن كيف نشوء الطبقة الوسطى وقوى المال عموماً في الغرب، وذلك في كتابهما المشترك:(1).
ويقدم المؤلفان ذلك بصفته تاريخاً للإنسانية الحديثة، ويعتبران ما تشكل ويتشكل في الغرب كأنه تاريخ للشرق كذلك، لكن ما يقصدانه هو تكون الرأسمالية في الغرب، في حين ستكون للشرق رأسماليته المغايرة وذات التاريخ المختلف، ولكن الرؤى الغربية حتى من وجهة اليسار في ذلك الحين تدور في المركزية الأوربية التي سوف تقود للاشتراكية. ويفيدنا ذلك في رؤية النمطين من الرأسمالية، الرأسمالية الغربية الخاصة والرأسمالية الحكومية الشرقية. وكل منهما له سياقه العام المتميز.
يتوجه ماركس في دراستهِ المذهلة عن تاريخ أوربا الاقتصادي إلى كيفية ظهور الإقطاع في العصر الوسيط وكيف برزت المدنُ بعد إنهيارِ الأمبراطورية الرومانية، وهو يمشي على تضاريس الحرف والنقابات الحرفية وكيفية تشكل الرساميل عبر مختلف البلدان، أي إلى الأجسام الاقتصادية لأرباب العمل المختلفين من إيطاليا حتى انجلترا مركز الثورة الصناعية، ويميز بين شرائح كبيرة من هذه القوى: (إن البرجوازية لا تنمو إلا بصورة تدرجية في ذات الوقت مع شروطها الخاصة، وتنشق وفقاً لتقسيم العمل إلى فئات متعددة، وتمتصُ جميعَ الطبقات المالكة التي تصادفها)، (بالقدر الذي تتحول وفقاً له كل الملكية القائمة إلى رأسمال صناعي أو تجاري)، (2)
وماركس حين يعرضُ منتوجات الواقع هذه يتتبعُ جذورَها في التاريخ السابق مثل الحرف، والإقطاع، والنقد الذهبي، والاكتشافات الجغرافية والثقافة، ويمثل ذلك حدوث الشكل الأول الأبتدائي من العولمة الحديثة، لكي يصلَ إلى مكوناتِ التاريخ الاقتصادي الاجتماعية، فمع نمو الرساميل بشكليها الصناعي والتجاري ظهرتْ المصانعُ الأولى؛ (وكانت العاقبة الأولى لتقسيم العمل بين المدن المخلتفة قيام المانيفاكتورات، هذه الفروع للإنتاج التي أفلتت من نظام النقابات الحرفية)،(3) ص66، (واقتصرت على السوق الداخلية)،(وأصبحت المانيفاكتورة ملجأً للفلاحين من النقابات الحرفية التي كانت تستعبدهم أو تدفع لهم أجوراً سيئة). (ومع قيام المانيفاكتورات وُضعت الأممُ المختلفة في علاقات مزاحمة، وانخرطتْ في صراعٍ تجاري، هذا الصراع الذي احتدمَّ بواسطةِ حروبٍ، وحمايةٍ جمركية ، وحظرِ إستيراد).
(وتلقت المانيفاكتورة وحركة الإنتاج بصورةٍ عامة انتفاضة هائلة من جراء امتداد التجارة الذي تحقق مع اكتشاف أمريكا والطريق البحرية إلى جزر الهند الشرقية. إن المنتجات الجديدة المستوردة من هناك، وبصورة خاصة كتل الذهب والفضة التي دخلتْ التداول، قد بدلت تبديلاً كاملاً مركز الطبقات حيال بعضها بعضاً، ووجهتْ صفعة شديدة إلى المُلكية العقارية الإقطاعية وإلى الشغيلة.)، والمقصود بالشغيلة هنا الحرفيين خاصة، (4).
إن قوى الإنتاج الجديدة التي غذتها تطورات العلوم وانتشار المجموعات الكثيفة من المشردين في المدن، والاتساع الهائل للتجارة أدت كلها إلى أن (التجارة والمانيفاكتورة قد خلقت البرجوازية الكبيرة؛ أما في النقابات الحرفية فقد تمركزت البورجوازية الصغيرة التي لم تعدْ سائدة في المدن بعد الآن، بل لم يكن لها بد من الانحناء امام سلطان التجار والمانيفاكتوريين الكبار)، ويحدد ماركس تكوينات القوى الغنية المتعددة بالشكل التالي في الهامش:(البورجوازية الصغيرة – الطبقة المتوسطة – البورجوازية الكبيرة).
أما المرحلة الثانية للتحول فقد بدأت في منتصف القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، التي تتميز باستمرارِ اتساعِ التجارة، وبتطورِ الصناعات المتخصصة كالحرير، وبرفع الحظر عن تصدير الذهب والفضة وبدء النقد الورقي، والمضاربة بالرساميل والأسهم من مختلف الأصناف)، وقد توسع الطلب التجاري بحيث أن قوى الإنتاج المحدودة عجزت عن تلبيته، (وقد عممتْ الصناعة الكبرى المزاحمة وأنشأتْ وسائلَ المواصلات الحديثة وأخضعت التجارة لها، وحولتْ الرأسمالَ بأسرهِ إلى رأسمالٍ صناعي، وانبثقت المدنُ الصناعية العملاقة الحديثة)، (ولقد دمرتْ حيثما تغلغلت الحرفَ اليدوية)، (لقد أكملتْ انتصارَ المدينة التجارية على الريف).
لقد لعبت الملكية الخاصة وقوة العمل المأجور دوريهما في صياغة هذا العالم الاقتصادي، ولم تكن هنا شبكة سياسية تمنع مثل هذا النمو المتداخل الذي بدا فوضوياً، ولكن تضافر الملكية الخاصة والعلوم والمنافسة الاقتصادية أدت إلى تثوير قوى الإنتاج، وعبر ثلاثة قرون من هذه الديناميكية تكون قوى الإنتاج قد تفوقتْ عن كل ما جرى في التاريخ سابقاً.
أما في الشرق فسوف تتعرض الحركة الاقتصادية لتدخل الرساميل الغربية، ثم إلى قيام منظومات سياسية شرقية تقيدُ نموَ الاقتصاد بشكلٍ حكومي، وينجحُ بعضها في أحداث قفزة بفضل أداة الدولة المركزية المُخططة، لكن لا تبلغ درجة تطور الغرب، ثم تتشابك المنظومتان الرأسمالية الغربية الخاصة والرأسمالية الشرقية الحكومية، في صراع عالمي، ثم في توليفة مشتركة راهنة تظل صراعية مفتوحة لاحتمالاتٍ جديدة لا تتوقف.

إستكمالُ نظريةِ ماركس عن رأسِ المال

كانت آراءُ ماركس واسعة عميقة، من جهة الغرب، ومحدودة من جهة الشرق.

جانبان متناقضان يمثلان مستوى الحركة العمالية التقدمية الأوربية بين سنوات 1844 إلى 1882، ويعبران عن حركة العالم المتشكل تحت نقدِ الغربِ وأساطيله.
فكانت الحركة التقدمية العمالية تصحو مشتتة مقموعة ممزقة، غارقة في الأحلام والهذيان الاجتماعي، وفي المعارضة العنيفة، وفي ثوراتِ الشوارع المنطفئة بسرعة، أقطارُها الغربية الثلاث أنجلترا وفرنسا وألمانيا، تصوغ ردودَ الفعلِ الشعبية تجاه ظاهرة الرأسمالية العاصفة التي فجرتْ تحولاتٍ غيرَ مسبوقةٍ في التاريخ البشري.
وكانت أنجلترا وفرنسا هما طليعة هذا الحراك الفكري السياسي، ففيهما بلغت الرأسمالية مستويين كبيرين، خاصة الأولى التي كانت هي الأوسع تطوراً.
ولكن الحركة العمالية كانت غارقة في المشروعات الخيالية الاجتماعية.
شارل فورييه وسان سيمون الشخصيتان الفرنسيتان الاجتماعيتان البارزتان تقدمان مخططات خيالية لكيفية إنقاذ العمال، وكانا ينشران تنظيميهما السياسيين في كل انحاء فرنسا، ويجمعان الأنصارَ والقيادات العمالية في هذه الشبكة الاقتصادية الواسعة من معامل النسيج والمناجم، ويخططان لكي ينقلا العمال إلى جزر ومناطق بعيدة لتأسيس مستعمرات إشتراكية، أو ينتظرُ فورييه الرأسماليين الكرماءَ ليقدموا له معونات لجعل الرأسمالية جنة إجتماعية وظل ينتظر في تلك الساعة التي حددها للقاء أهل الخير طوال سنوات كثيرة حتى مات دون أن يطرق بابه أحدٌ.
وكان برودون الاشتراكي الإنساني يؤسس بنكاً للمعادلات الاجتماعية، من أجل أن يأخذ العمال أنصبتهم من الأرباح وكذلك الرأسماليين، دون ضرر ولا ضرار بين الجانبين المتخاصمين، لتسود العدالة الأبدية هذين الفريقين المتنازعين على الفلوس التافهة.
لكن رجلاً ألمانياً هارباً من ثورة دامية ومطارداً جاء إلى فرنسا وهو مشحون بديالكتيك هيجل المثالي الغيبي، ليعدل هذه الأفكار.
كان عليه أولاً أن يعدل هذا الديالكتيك القادم من الفكرة المطلقة المسيطرة على العالم وتاريخه، وهي التي تكـّون الممالك والجمهوريات والأنظمة وتحددُ طبيعة الأدب في أفريقيا وآسيا، وتكونَ البوذية في الصين.
كان قلبُ هذه الأسطورة ذات المضمون العجيب والمضيء مهمة شاقة كبيرة لرجلٍ مثل ماركس، كان عليه بالتالي أن يقرأ كلَ تواريخ الإنسانية ويحللُ أنظمتـَها، وهو ليس مثل هيجل في موقعه الجامعي ومنزله الباذح في برلين.
وكان العملُ العلمي الذي إشتغل عليه في الجامعة هو تحليلُ الفلسفة الإغريقية، وهو إختيارٌ يدلُ على أوربيته الغارقة حتى العظم.
سنجدُ أن ثقافته الفلسفية والأدبية عن الأغريق هي ضخمة ونافذة إلى علاقات ومضامين دقيقة فيها، يكتب:
(إن ديموقريطس أبعد ما يكون عن رفض العالم، بل كان على النقيض من ذلك عالماً طبيعياً تجريبياً) ،(الذرة بالنسبة إليه، متعارضة مع أبيقور، قد كانتْ مجردَ فرضيةٍ فيزيائية، ذريعة من أجل تفسير الحقائق، تماماً كما هي في التراكيب الخلائطية للكيمياء الجديدة(دالتون وآخرون)، (5) .
هذه فقرة من كتابٍ من كتبِ مرحلة الشباب، الجدالية، مع الكـُتاب الألمان، ويبدو فيها وهو متبحرٌ في الفلسفةِ بضفتيها اليونانية والأوربية الحديثة، وفي قسمٍ صعبٍ هو فلسفة العلوم الطبيعية، والاختصاص الأوربي واضح وعميق فيها، والأهم هو وضعهُ تاريخَ الفلسفة فوق ظروف نشأتِها الموضوعية، محللاً شخوصَ الفلاسفة من حيث الفكرة والشخصية الخاصة كذلك، عبر هذا الجمع الجدلي بين الذات والفكرة والصراع الاجتماعي.
وهو نهجٌ سوف يطورهُ خلالَ صراعاتهِ الفكريةِ المختلفة.
لكنه لم يستطعْ أن يكونَ مثل هيجل وهو المتنقلُ بزوجتهِ وبناته بين بلدٍ وآخر، مطاردٌ من شتى المخافر، وبالكاد يستطيع أن يؤمّن لقمة عيشهِ وبمساعدةِ رفيق كفاحه فريديك أنجلز، وكان عليه أن يقوضَ تلك الأفكار عن الاشتراكية الرائجة في القطرين القائدين لرأسمالية ذلك الزمن، أنجلترا وفرنسا.
إن المصادرَ التي اعتمدَ عليها في قراءاتهِ الاقتصادية لا يمكن عُدها، سلسلة طويلة من المؤلفين في عصور أوربا الغربية النهضوية الرأسمالية، بدءً من سيسموندي الإيطالي وتلميذه شيربوليز وسينيور الأنكليزي وجيمس ميل وجون ويد وآدم سميث وريكاردو وغيرهم كثيرون ).
إن تحليلَ كتب هذه الحشود من الباحثين والمؤرخين الاقتصاديين وضعتْ منهجيتهُ فوق الأرض الاقتصادية الغربية للوصول إلى خلاياها الاقتصادية التكوينية الأولى وهي: البضاعة، ورأس المال، والنقد، وقوة العمل، والآلة وغيرها، أي هي عملية تشريحٍ علمية طويلة في الجسد الاقتصادي الغربي، في تكوينه وتاريخيته.
والتاريخية هنا هي تاريخية غربية، فظهورُ رأسِ المال مأخوذ في مجالهِ الذي يبدأ من العصر الوسيط حتى يتعملق في القرن التاسع عشر، سواءً تمظهرَّ ذلك في الدول الغربية الأوربية أو توسع في أمريكا الشمالية، وقد راحتْ قراءاتهُ تتوسعُ في اقتصادِ أمريكا، وتتنبأ لها بقيادة الاقتصاد الرأسمالي الغربي عامة، وسيتابعُ كذلك انتشارَ العلاقات الرأسمالية دولياً، ليس كما نبتتْ في أقطار العالم الأخرى، بل كما تمظهرتْ بشكلٍ بريطاني، في الهند وهو المثال الوحيد الذي تردد في كتبه عن الشرق الحديث، خاصة بعد استقراره في لندن وتوفر المراجع في مكتبة المتحف البريطاني.
وما يشغلهُ طوالَ سنين الاربعينيات والخمسينيات هو الوضع في المانيا بلده وتحليل البنية الرأسمالية التي سوف تحتاج إلى عقود من أجل الوصول لقوانينها.
وجاءَ اهتمامهُ بألمانيا باعتبارهِ بلده ولهذا تابعهُ بشكلٍ مكثفٍ من أجل حدوث تحول جذري فيه؛(فبينما كانت البورجوازية الفرنسية، وباسطة أضخم ثورة عرفها التاريخ، ترتفع إلى السلطة وتغزو القارة الأوربية، وبينما كانت البورجوازية الانكليزية التي سبق أن تحررتْ سياسياً تثــّور الصناعة، وتخضعُ الهندَ سياسياً، وتخضع بقية العالم تجارياً، لم يذهب البورجوازيون الألمان في عجزهم إلى أبعد من الإرادة الطيبة)، السابق، (6).
إن هذا الهاجسَ الوطني ترتب عليه مناقشات وحوارات عميقة وصاخبة مع العديد من رموز الثقافة الألمانية وخاصة مع ما يُسمى باليسار الهيغلي، الذي طمح في تغيير الفلسفة نحو اليسار لكنه عملياً ظل أسير مثالياتها الغيبية.
الخلاصة هنا هي أن ماركس هو منتج لنظرية اقتصادية أوربية تعكس سيرورة الرأسمالية الغربية عامة، ولها بنية اقتصادية مغايرة للتاريخ السابق وللتاريخ الشرقي.
تدل سنواتُ الأربعينيات والخمسينيات لكارل ماركس وفريدريك انجلز على بحثهما المضني لتفسير جديد للتاريخ، ظلَّ في مادةٍ أوربية غربية خالصة. وقد صدرَ المجلدُ الأول من رأس المال في الستينيات من القرن التاسع عشر.
وترافقَ ذلك مع نضالٍ فكريٍّ مع النخب الألمانية الغارقة في المثاليات والغيبيات والتحليلات الجزئية للتاريخ والمجتمع، والتي بدأت تقرأ تاريخ رأس المال الحديث لكن بمستوياتٍ قديمة.
ومن هنا أخذ هذا الجدالُ سمة المؤلفات ك(بؤس الفلسفة) و(الإيديولوجية الألمانية) و(الأسرة المقدسة)، و(ضد دهرنج)، وهو جدالٌ مليءٌ بالسخرية، والأحكام الجزئية وكثرة الموضوعات ومناقشة الجمل الصغيرة بتوسع، ومناقشة الأفكار الفلسفية النظرية المضادة، وتبيان تهافتها، وهو جدالٌ امتدَّ لفرنسا كذلك مع برودون وسان سيمون وجماعات الاشتراكيات الخيالية.
وفي هذين العقدين بدت لماركس وانجلز إن الثورة العمالية المباشرة هي الفعلُ الوحيدُ الممكن الراهن لتصفية الرأسمالية، بناءً على أثر الغضب المتصاعد في القرن التاسع عشر ولسوءِ أوضاع العمال.
وإذا كانت ألمانيا بلدهما متأخرة في تطورها الصناعي ومحاطة بدولٍ متطورة فلا يمنع ذلك من نشوء الثورة العمالية فيها والتي تزيل البورجوازية:
(ومن البدهي إن الصناعة لا تبلغ ذات المستوى من الأحكام في جميع أقاليم البلد الواحد. ومهما يكن من أمر، فإن هذا لا يؤخر حركة البروليتاريا الطبقية، لأن البروليتاريين الذي خلقتهم الصناعة الكبرى يأخذون زمام القيادة . .)، (وإن البلدان حيث تطورت الصناعة الكبرى تؤثرُ بطريقةٍ مماثلةٍ في البلدان التي تفتقرُ أكثر أو أقل إلى الصناعة، وذلك بقدر ما تنجرف هذه البلدان غير الصناعية بفعل التجارة العمومية في تيار صراع المزاحمة العمومية)، (7).
إن ماركس الألماني الذي تعيشُ بلدُهُ في تخلفٍ صناعي، وبعمال محدودين وبنخب مائعة فكرياً، يريد الثورة العمالية باعتبارها البديل الاشتراكي لرأسمالية متخلفة.
هنا نجدُ الأفكارَ التي استخدمها لينين فيما بعد. وهي الأفكار الماركسية الشبابية التي لم تنضجْ في معمل التحليل المطول. لم يصلْ ماركس لطبيعة الرأسمالية الأوربية بشكل دقيق هنا(أي في المرحلة الشبابية)، كما أنه لا يعرف كثيراً تاريخ العالم، وخاصة الشرق، وهو في هذا المستوى العلمي الأولي، فتبدو له الرأسمالية الظاهرة في أوربا كأنها الرأسمالية العالمية كما سوف تتطور فيما بعد. إنها النسخة الوحيدة المرئية، وحتى فهم التشكيلات وهي التشكيلة المشاعية، فالعبودية، والإقطاعية، ستـُؤخذ من خلال التاريخ الأوربي.
وإذا رجعنا للفقرةِ السابقةِ الذكر المُستشـَّهد به، فنرى إن تيار المزاحمة وانتشار التجارة لا يقودان بالضرورةِ إلى بناءِ أنظمةٍ رأسمالية على الطريقة الغربية، في آسيا وأفريقيا، وهو أمرٌ يلمح إلى أن الرأسمالية تبدو لماركس ذات خصائص واحدة في الغرب والشرق.
إن محدودية فهم الرأسمالية في الاربعينيات الأوربية والحماس وتفجر الثورات كلها تقود إلى إستنتاجات سياسية بزوال الرأسمالية الراهن، وهو أمرٌ يتقلصُ في كتابه (رأس المال) حيث تـُؤخذ على أنها انتشار الصناعات الكبيرة، وهذا يكفي للثورة الاشتراكية وإزالة الأستغلال الرأسمالي، وهي شعارات يُقصد منها كذلك دحر المشروعات الخيالية للاشتراكيين الحالمين. لكنه حتى في راس المال لم يتصور نمطاً آخر من الرأسمالية. فيتوارى تاريخ الشرق المميز عن ماركس كما عن لينين فيما بعد.
ولكن الثورات العمالية كانت تتوجه لتحسين أوضاع العمال رجالاً ونساءً وأطفالاً المعيشية ومكانتهم السياسية حيث يُحرمون من التصويت والدخول للبرلمانات، فكانت هي جزءٌ من عملياتٍ إصلاحية لتغيير مكانة الطبقات العمالية في النظام الرأسمالي الحديث، الذي يجمعُ طبقتيه الرئيسيتين المالكة والعاملة في الإنتاج. وهو أمرٌ صراعي تعاوني غذاه إستعمار هذه الرأسمالية للعالم الشرقي خاصة.
لكن من جهةٍ أخرى فإن ماركس هو كذلك ديمقراطي غربي يدركُ أهمية البورجوازية، وفي مؤلفه رأس المال يواصل الإصلاحية العميقة داخل هذ النظام، ومنذ الشباب يدركُ بعضَ جوانب ذلك؛ (ولقد ظهرت عبارة المجتمع المدني في القرن التاسع عشر، حالما تملصتْ علاقاتُ الملكيةِ من الجماعةِ القديمة والوسيطية. إن المجتمعَ المدنيَّ بصفتهِ هذه لا يتطور إلا مع البورجوازية)، السابق، (8).
لا تبدو لماركس الرأسمالية إلا واحدة، غربية، قامتْ على حراكِ البورجوازية الخاصة، ولم تكن الدولُ إلا مساعدة لصعودِها أو معرقلة لها، مرة من خلال الصراع ومرات من خلال التعاون مع الدول المَلكية خاصة.
لكن ليس من خلالِ مَلكية مطلقة فالملكية المطلقة تعني ضعف تطور الرأسمالية، وماركس يطالبُ من محاورهِ أن يسمي له بلداً(تعهدَ البورجوازية، في شروط متطورة للتجارة والصناعة، وفي مواجهة المزاحمة القوية، بالدفاع عنها إلى مليك مطلق؟)، (9).
تعطينا هذه العبارة، ليس فقط الشروط السياسية لنمو هذه الطبقة القائدة للإنتاج الحديث، بل أيضاً كون هذه التجارة والصناعة خاصتين غير حكوميتين، وكلما تدخلتْ الحكوماتُ المَلكية خاصة عرقلتْ ذلك التطور الرأسمالي في فروع الاقتصاد المختلفة.
كيف يمكن إذن أن تزولَ الرأسمالية؟ هذا سؤالٌ مؤرقٌ تسخنهُ أوضاعُ العاملين وطموحُ الإنسان عامة لإلغاء الإستغلال، فهل تزول الرأسمالية لأسبابٍ أخلاقية؟
يجيب انجلز بعد موت ماركس في مقدمة كتاب الأخير (بؤس الفلسفة)؛ (ونجد بالنسبة لقوانين الاقتصاد البورجوازي أن القسم الأكبر من الإنتاج لا يخص العمال الذين انتجوه. وإذا قلنا الآن:(هذا ليس عدلاً)، (يجب أن لا يكون هكذا). فإنما يصبحُ هذا القول متعلقاً بالأخلاق لا بالاقتصاد. . فماركس لم يُقمْ مطاليبَهُ الشيوعية على هذا الزعم بل أقامها على تقلصِ الإنتاج الرأسمالي المؤكد. هذا التقلص الذي لم يَحُدث أمام عيوننا!)، (10).
إن ظاهرة تقلص الإنتاج بشكلٍ نسبي ممكنة، ولكن التقلصَ بشكلٍ مطلقٍ لا يمكن تصورهُ إلا في عالمٍ تتحولُ كلُ الدولِ فيه إلى منتجةٍ واسعة للسلع فلا تجد كلها أسواقاً، وما دامتْ توجد دولٌ أخرى غير صناعية وفيها أسواق مفتوحة، فإن التقلصَ المطلقَ مستحيل. ولكن حتى التقلص المطلق لا يكفي لإقامة الاشتراكية لكنه يعبر عن الطريق المسدود للرأسمالية، وتلك مسألة أخرى.
وهكذا فإن أوربا الغربية وأمريكا الشمالية التي أوجدت الرأسمالية الخاصة راحت تبحثُ عن أسواق للمواد الخام وأسواق لتصدير البضائع المُصّنعة، وقامتْ بذلك عبر وسائل القهر، لا عبر التبادل الحر، فهي تنتزعُ الموادَ الخام بالقوة وتبيعُ سلعَها بالقوة وتلغي حرفاً قديمة وعالماً اقتصادياً في العالم الشرقي، وهو ما جعلَ البلدانَ المغزوة تنتجُ نمطاً آخر من الرأسمالية هو نمط الرأسماليات الحكومية الشرقية ثم غدتْ كذلك في أمريكا اللاتينية لأنها كحال الشرق.
إذن كان ظهورُ نمطٍ آخر من الرأسمالية قد جاءَ في الشرق كحمايةٍ قومية وتحررية ضد اكتساح الرأسمالية الغربية للعالم.
وفي حين كان أصلُ الرأسمالية الغربية حركاتٍ اجتماعية خاصة تحررية، فإنها قد وصلتْ للسلطة وصارتْ متحكمة في الحكومات، فاستخدمتْ أدوات القوة الرسمية لفرضِ نفوذِها الاقتصادي على الأمم المتقطعة الأوصال والمتخلفة والضعيفة.
وبهذا فإن الرأسماليات التي ظهرتْ في الشرق في مجتمعات إقطاعية متخلفة وجدتْ نفسَها تلتحمُ بأجهزة الحكم منذ البداية. وفي حين وجدَ النموذجُ الخاصُ الغربي الرأسماليُّ مساحة كبيرة من الزمن لنموه تصل إلى أكثر من خمسة قرون، فإن النموذج الرأسمالي الشرقي أختنق في وقت محدود بين مائة أو خمسين سنة، وتحت ضغط مقاومة للسيطرة الخارجية جعلتهُ يحمي أسواقـَهُ الداخلية بأجهزةِ الدول.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الرأسماليات الغربية لم يعد ركود الإنتاج فيها وأزماته إلا فترات مرحلية، يعودُ فيها الإنتاجُ أقوى من السابق، بفضلِ توسع الإسواق المستمر وتطور القوى المنتجة، التي التحمت فيها التطبيقات العلمية وثورتها بأدوات الإنتاج.
ويتعلق ازدهار الأسواق بظروف جديدة جيدة للجمهور في بقاع مختلفة، أما الكساد فهو غياب هذه الظروف، لكن الإنتاج الرأسمالي يشتغل على جانبين إستغلال موارد وتدهور حرف وصناعات، وعلى ازدهار معيشة، وهذان جانبان متناقضان.
وبين إعادة إنتاج الداخل وتنمية الأسواق والقوى العاملة والقوى المنتجة عموماً كانت تحدث توسعاتُ هذه الرأسمالية وتطوراتـُها المتسارعة المتزايدة في التقنيات، في حين وجدتْ الرأسمالية الشرقية الحكومية (ذات النمط المُسمى إشتراكي) نفسها في انقطاع عن السوق العالمية وعن تطور القوى المنتجة الكونية.
وتتراوح عمليات التطور في الرأسماليات الشرقية، ففي بعض التجارب الخاصة كاليابان التي حذت حذو الغرب بشروط البناء الاقتصادي نفسه حدثت تطورات هائلة، في حين أن التجارب الحكومية الرأسمالية العامة المتفوقة كروسيا والصين، واجهت إشكاليات هذا النظام، دون أن تستطع الخروج كلياً من إشكالياته، وضاعت دولٌ أخرى في عمليات تجريبية مشوهة غالباً بدون تجذر كمصر وأغلب دول الشرق عامة.
إن العديدَ من القوانين المكتشفة عن السلعة وقوة العمل والتراكم البدائي وأولوية الصناعة الثقيلة وتحرير الريف والنساء من السيطرة الإقطاعية وغيرها، والتي نتجتْ داخل الرأسمالية الخاصة حيث يلعبُ السوقُ الدورَ المركزي، لن تكون مستوعبة في أغلب تجارب الشرق الحكومية الرأسمالية، حيث لا يلعب السوق الدور المركزي دور ضبط فروع الإنتاج، بل ستكونُ لها تطبيقاتٌ مختلفة ومستويات متباينة في الرأسماليات الحكومية التي غدا فيها جهازُ الدولة هو المخطط وصانعُ الحواجز الاقتصادية والحريات الاقتصادية كيفما تريدُ إدارتـُهُ السياسية، وبهيمنة الأجهزة البيروقراطية في تشكيل المصانع وتحديد قوى العمل وتوزيعها، وفي خلق عمليات التراكم والتجديد الإنتاجي، وتحديد القطاعات الاقتصادية وأولوياتها، حسب وجهة نظر كل دولة، وحسب كل مرحلة من تطور قوى الإنتاج، وكذلك تحديد قوى العمل الفكري الذي يعودُ كذلك لسيطرةِ الدول عبر المدارس والمعاهد، ومدى رفده للعمليات الإنتاجية أو إنقطاعهِ عنها.
وهذا لا ينفصلُ كذلك عن تاريخيةِ المجتمع وطبيعةِ تطوره، ومدى حجم ونوع العلاقات ما قبل الرأسمالية كالعبودية والإقطاع، ومدى عرقلتها أو عدم عرقلتها للتطورات الرأسمالية. وكذلك مدى علاقات التبادل بين هذه الدول والعالم الخارجي، ودور هذا التبادل في تطوير أو عدم تطوير الإنتاج.
ولهذا لا بد أن تـُدرس كل دولة أو كل مجموعة دول في الشرق حسب تجربتها، مقارنة بنموذج التشكيلة الرأسمالية الغربية الحديثة.
إن التشكيلة الرأسمالية الاقتصادية – الاجتماعية الغربية تعبيرٌ يُقصدُ منه تعميم الصفات التي جرتْ في كل دولة غربية لنمو الرأسمالية، فرغم تأخر دول وتقدم أخرى، ورغم تبدل الأنظمة السياسية من نظام جمهوري إلى نظام ملكي إلى سيطرة اليسار في بعض المواقع التاريخية، أو عمليات تبادل الحكم بين الليبراليين – الاشتراكيين الديمقراطيين وبين المحافظين، فإن قوانين التشكيلة العامة تبقى هي نفسها كما حددها ماركس في كتابه رأس المال.
ولكن دول الشرق أُقحمتْ في هذه التشكيلة بدون إرادةٍ منها، فقد كانت منساقة في تواريخها الاجتماعية الخاصة، في تشكيلة تتراوح بين العبودية والإقطاع، في مستويات شديدة التباين، كوجود حتى علاقات مشاعية فيها، أو وجود تجارب إقطاعية ازدهرتْ بعلاقاتٍ بضاعيةٍ كبيرة كالدول العربية الإسلامية والصين، ولكن جميعَ هذه الدول وبغض النظر عن تلك المستويات والتقاليد المختلفة وجدتْ نفسها تـُزجُ في عالمٍ تسيطرُ عليه تلك التشكيلة الرأسمالية الغربية، وهي التي تجعلها كذلك أن لا تصيرَ مثلها، وتمنعَ تطابقـَها معها، بل أن تبقى في تكويناتها العامة ما قبل الرأسمالية الحديثة كي تمدَها بالمواد الخام وتفتح أسواقها لها، أو حتى تعطيها رساميل نقدية.
ورغم أن هذه الصيغة استمرتْ لدى العديد من الدول ارتضتْ لنفسِها دور البقرة الحلوب، مادة خاماً وسوقاً ورساميلَ نقدية موجهة للسيد الغرب، إلا أن دولاً أخرى ثارت أو تمردت بشكل مغامر أو عقلاني مخطط، حسب قدرتها على قراءة التشكيلة الرأسمالية الحديثة بقوانينها المُكـّتشفة، ومدى إستقلال أجهزتها السياسية عن الاقتصاد ما قبل الرأسمالي الخاص، وبهذا فإن أنماطاً عدة من الرأسماليات تكونتْ في تجارب الشرق، بعضها المطابق وبعضها المفارق، وبعضها التجريبي الضائع وبعضها المترنح للوراء بسبب الأبنية الاقتصادية – الاجتماعية شديدة التخلف وأجهزة حكوماته وجنونها السياسي.
وبهذا فإن التشكيلة الرأسمالية الحديثة الغربية وهي تسيطر على العالم الآخر كانت تنقلهُ إلى مستواها بسبب الصراع الذي أثارته، وتظهر منافساتـُها ومصارعاتـُها الرأسماليات الشرقية الخاصة والحكومية، في تكوين بشري رأسمالي تختلط فيه الرأسمالية الخاصة والعامة ويغدو أرفع من الرأسمالية التي وقف عندها كارل ماركس واعتقد أنها الطبعة الوحيدة، فقد ظهرتْ طبعة أخرى ورغم أنها سيئة وأقل جودة من النسخة الأولى، لكنها في مجرى الصراع الاقتصادي تـُحسنُ من النسخةِ المشوهةِ، وتستفيدُ من بعضِ جوانبـِها لتحسن عملية النسخ.
إن الطبعة الوحيدة تـُعّممُ، تغدو عولمية، بمستوياتِها المختلفة المتضادة المتداخلة.
وتحسنُ النسخُ الشرقي للرأسمالية الحديثة يؤججُ الصراعَ كذلك، لأن النسخَ تـُفعل أسواقها وتحولُ المزيدَ من المهمشين والمهمشات إلى عمال، وتخفف من تسلط الدول أو تتحكم فيها كلياً، وتقلل من الاعتماد على العمل البسيط اليدوي وتوسع الاعتماد على العمل التقني وتنتقل تدريجياً للثورة الملعوماتية التقنية الرقمية.
وبهذا يغدو الشرق غرباً، ويغدو العالمُ واحداً، وتصل البشرية إلى إختناق اسواقها بالبضائع، فتبحثُ عن صيغ عيش أخرى.

الخلاصة

قدم كارل ماركس مقاربةً اقتصادية لرأسمالية زمنه، وكشفَ قوانيَن نموها وتطورها لحد نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وجاءت الاحتمالاتُ الكبيرة التي تصورها لرأسمالية زمنه، بأن تدهوراً عميقاً سوف يحل بقوى الإنتاج، نظراً لنزول معدل الربح الوسطي، وبالتالي سيؤدي ذلك أما لتدهور الإنتاج أو لتوسع المصروفات القاصمة لظهر كل منتج، وإنه بالتالي فإن المجتمعات الرأسمالية سوف تشهد ظهور معسكرين لا ثالث لهما، معسكر نخب الأغنياء القليلة الباذخة، ومعسكر البروليتاريا المدقعة في الفقر والمتهيأة للثورة. لقد اكتشف سلسلة من قوانين الإنتاج الرأسمالي التي تمثل ثورة معرفية مثل فائض القيمة، وطرق إعادة الإنتاج الخ.
كانت هذه القراءة العميقة لجذور نمو الرأسمالية تمثلُ معجزةً معرفيةً لرجل واحد مضح، كرسَّ أربعين سنةً من سنواته الأخيرة من أجل القراءة والكتابة في بلد لا ينتمي إليه، وفي عائلة فقيرة وبين كثرة أولاد، لم يعتمد سوى على صديق واحد، ولم تكن له لجان أو مؤسسة دراسات خاصة به.
لكن الرأسمالية الغربية لم تقتصر على جذورها وعلى أوضاعها في القرن التاسع عشر، وراحت تتطور كأسلوبُ إنتاجٍ ديناميكي لم يتوقعه ماركس، وظن إنه سيكون محصوراً في أوربا الغربية وأمريكا النامية بقوة وقتذاك.
إن السوق الضيقة التي توقعها ماركس توسعت كثيراً، وشملت قارات العالم كله، وبهذا فإن الأنظمة الغربية حولتْ العالمَ إلى تابع لها، فما عادت القوانينُ المتعلقة ببنيةٍ اقتصادية ضيقة تشمل غرب أوربا بمماثلة لسوق كونية. وبهذا فإن دورَ الربح الوسطي المتآكلِ والمتدني والمضعفِ لقوى الإنتاج، والذي يعبرُ عن مجتمع واحد لا امتداد متوسع له، والمحكوم بآلية اقتصادية غدت ميكانيكية في رؤية ماركس؛ إن هذا الربح المتراجع تلاشى، وظهرت آفاقٌ لا تحدُ من الأرباح!
لقد توسعت الشركاتُ الغربية، ووجدت عالماً فقيراً تابعاً يمدها بالمواد الخام، وأسواقاً كبرى، ووجدت قوى عمل هائلة في الشرق، بأجورٍ شديدة الانحفاض وهذا هيأ لها الانتقال من عالم الثورة التقنية الميكانيكية إلى عالم الثورة المعلوماتية.
فمن المصانع الكبرى والتلوث وثورة الحديد والفولاذ والمدن المكتظة إلى عالم الأجهزة الدقيقة والكومبيوتر وثورات الفيزياء والكيمياء وتصنيع الزراعة والثورة البيولوجية وغزو الفضاء الخ.
ومن بعد الحرب العالمية الثانية توافقت الرأسماليات الغربية على منظومة واحدة، تجعل الصراع بينها سلمياً، تقنياً، وعبر غزو الأسواق الأخرى وهذا يعني مزيداً من التغيير في السلع والتقنية.
إن رأسمالية كارل ماركس القديمة لم تعد تحكمها قوانين الربح الوسطي وعجز القوى الإنتاجية، لكن تحكمها قوانينُ العالم الواحد الذي صار كتلةً اقتصادية واحدة، متعددةَ المستويات؛ غربٌ غنٌّي مسيطرٌ وشرقٌ ناهض، ذو آفاق في الرأسمالية أكثر توسعاً وتقنية وفتوة وأقل تكلفة من رأسمالية الغرب الكهل.
ظهرت قوانينٌ جديدةٌ للرأسماليات الكونية، رأسماليةٌ غربية حرة قديمة وذات مستوى عريق من التقنية والمستوى المعيشي الجيد ومن السيطرة على البيئة، ورأسماليات شرقية متنوعة تسودُ فيها الحكوماتُ المسيطرة والمتحكمة في الإنتاج والتي تقومُ بالتخطيط وبفتحِ الأسواق معاً، وهذا بسبب تأخر نمو هذه الرأسماليات وبضعف وعي الشعوب وتراثها الاجتماعي المحافظ، مما يجعل الصناعة بأجور شديدة الانخفاض وبدون شروط بيئية كبيرة، وهذا أدى كذلك لنقل صناعات كبيرة إلى الدول ذات النمو المتسارع كالصين والهند وشرق وجنوب آسيا.
فنهضت هذه الرأسماليات الشرقية نهوضاً لا سابق له، بسبب اتساع أسواقها وعوز أهلها وضخامة أعدادهم وكبر ساعات العمل فيها، وجلبها للتقنيات الغربية التي تعبتْ فيها الدولُ الغربية، فحصدتْ مكاسباً من التطور العالمي متنوعةً، وبهذا قامت بغزو أسواق المسيطرين السابقين عليها وانتزعت منهم الأرباح في عقر دارهم.
إنها رأسمالياتٌ كونية متعددة الأقطاب، متنوعة المستويات، وهذا لا يمنع من بقاء التناقض الكبير بين مستويات الغرب والشرق.
فرأسمالياتُ الغرب لديها كذلك عمقها التقني ولشعوبها مستويات حضارية أكبر، وهي لا تزال مسيطرةً على ثروات كبيرة من الشرق، خاصةً من المناطق الضعيفة التطور، والتي لا تزال تقدمُ الموادَ الخام وليس في شعوبها تطور صناعي أو تقدم تقني كبيرين.
ولكن العالم كله تشمله رأسماليات متعددة، مُقادة من الغرب، الذي لم تعد تناقضات كارل ماركس الاجتماعية تجري فيه بتلك الصورة المبسطة، ولكنه لم يخرج من ذلك التناقض المحوري بين البرجوازية والبروليتاريا، وهي برجوازية اصبحت ذات سيطرة عالمية، والبروليتاريا لم تعد البروليتاريا الصناعية المدقعة الفقر، بل تطورت مادياً ومعرفياً، وظهرت بروليتاريا جديدة ذات معرفة تقنية، وانتقل عصبُ قوةِ العمل إلى الدماغ بدلاً من التركيز على اليد كما كان سابقاً، فهي بروليتاريا مثقفة تتطلعُ لمستوى معيشة مرتفع، وتجمع في نضالها بين ورقة الانتخاب والأضرابات الاقتصادية المؤثرة، وآفاق تطور هذه الطبقات العاملة كبير، ليس على مستوى العمل الاقتصادي بل كذلك في دورها السياسي، وفي تغييرها لحياة الاستغلال والثقافة المحافظة، ولا يستبعد في العقود التالية أن تحكم عبر أحزاب ووزارات.
أما البروليتاريا الرثة المدقعة فقراً ذات العمل اليدوي فانتقلت إلى الشرق وأمريكا اللاتينية. إن برجوازيات الغرب تنقل مخلفاتها الصناعية إلى الشرق كما تنقل الوظائف الدنيا في مجتمعاتها، أو تستورد العمالة اليدوية المتدنية، فتصاعد التناقض بين الشرق والغرب وغدا كتناقض كبير يحكم العالم، فغدا سكان العالم الثالث كبروليتاريا عالمية متدنية الأجور وتعيش في أوضاع سيئة وبخدمات رثة، وبدت الفروق بين الأجور والظروف على مستوى العالم مخيفة.
وبدت سيطرة الدول دائم العضوية ودول الشرطي العالمي الغربية كجهاز عسكري يؤبد الفروق بين التكوينين المختلفين ولا يبحث هذه الفروق التناقضية الخطيرة ويحلها.
إن التطور الرأسمالي العاصف خلال القرن الجديد سيكون ذا احتمالات خطيرة، وستظهر رأسمالياتٌ شرقية كبرى تريد أسواقاً وموادا متناقصة باستمرار، ولا يستطيع هذا العالم المكتظ بهذه الرأسماليات المتصارعة إلاستمرار إلا عبر تغييره وتشكيل مجتمعات إشتراكية ديمقراطية تنقله إلى تعاون إنساني أرقى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الفصل الأول:
(1) : (الإيديولوجية الألمانية: كارل ماركس وفريدريك انجلز، دار دمشق ومن ترجمة فؤاد أيوب).
(2) :السابق ص 65.).
(3): (السابق ص 66 ).
(4) (السابق ، ص 68).
(5): (السابق ص139).
(6):(السابق ، ص 197).
(7)(السابق، ص 72)
(8) :(الإيديولوجية ، السابق، ص 85).
(9) : (السابق ، ص 205).
(10)(بؤس الفلسفة، مكتبة ودار الحياة، بيروت، ص 12).

الفصل الثاني

الرأسماليات الحكومية الشرقية الكبرى

لا بد لنا لكي نفهم طبيعة تكوينات الرأسماليات الحكومية الشرقية من مقارنتها بالرأسمالية الخاصة التي تكون تحت ظروف إستثنائية في الشرق وهي التجربة الرأسمالية اليابانية.

اليابان تجربة الرأسمالية الخاصة
حين نقرأ بعض الحيثيات المفيدة التي يقدمها مؤلفون عرب حول مسار التجربة اليابانية، وخاصة كيفية الانتقال من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي، فإنهم يضعونها في إطار المعجزة، الخارجة عن قوانين الانتقال نحو الرأسمالية في الشرق، لكونهم لا يقرأونها ضمن قوانين الانتقال العامة للرأسمالية الشرقية ذات الخصائص المختلفة عن الرأسمالية الغربية.
لقد قفزت اليابان نحو نمط الرأسمالية الغربية الخاصة، خلافاً للرأسماليات المعرقلة بتدخل الدول الشمولية في الشرق. بل وعلى العكس قامت الطبقة الحاكمة اليابانية بتوجيه قوى الأغنياء نحو تلك الرأسمالية الصناعية الخاصة، وهو جانبٌ سياسيٌّ فريد نشأ بسبب صغر اليابان تجاه الدول الكبرى المحاصرة لها والتي تريد التهامها كالولايات المتحدة وروسيا والصين.
لقد عملت الطبقة الحاكمة التي قلصتْ نفسها إلى أسرة صغيرة حاكمة، مزيلة طبقة الإقطاع الكبيرة وموجهة إياها نحو الاستثمارات التجارية والصناعية.
لكن قيادة الأمبراطور لهذه التحولات لم تكن دفعة واحدة بل جرى تذويب الطبقة الإقطاعية على مراحل:
(أطاحت القوى السياسية بالشوجون (قادة الجيوش) وانتقلت مقاليد السلطة للامبراطور من جديد بعد ان كانت في يد مجموعة من نبلاء البلاط استأثروا بها، نظراً لصغر سن الامبراطور مايجي، وقد كان عليهم باعتبارهم قوة جديدة ان يواجهوا المشكلات الملحة وعلى رأسها الزحف الغربي على بلادهم والفساد المالي، لأن مواجهة الاطماع الاوروبية في اليابان تتطلب قاعدة اقتصادية صلبة، بعد ان بدأت السلطة الحاكمة في اليابان في العمل على تعديل النظام الطبقي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، حيث قامت باجراء العديد من التعديلات والقوانين التي تنظم الطبقات، تمهيداً لإلغاء النظام الاقطاعي، وكانت البداية عام 1869 حيث وضعت تصنيفاًَ جديداً للطبقات جعلت بمقتضاه ارستقراطية البلاط وحكام المقاطعات طبقة واحدة باسم النبلاء، وقسمت الساموراي الى مستويين، ساموراي كبار، وساموراي صغار. وفي عام 1870 ادخلت الحكومة تعديلات على أوضاع الطبقة العامة فصار من حقها بمقتضى هذه التعديلات اتخاذ ألقاب عائلية، وسمحت لأبنائها في العام التالي بالتزاوج مع ابناء الطبقة العليا. كما سمحت الحكومة للنبلاء والساموراي بالاشتغال بالزراعة والتجارة والحرف. وفي عام 1872 أعادت الحكومة تقسيم القوى الاجتماعية الى ثلاث طبقات، هي النبلاء، والساموراي و«الهيمين»، والأخيرة تضمنت العامة وصغار الساموراي القدامى والمنبوذين وأصبحت جميع الطبقات بعد ذلك ـ نظرياً ـ أمام القانون سواء، وقد اضطرت الحكومة عام 1872 الى ان تسن قانوناً يجرم الاسترقاق ويحرم الاتجار في الرقيق.)، (1)
كان إبعاد الطبقة الإقطاعية الكبيرة العدد عن الدخول الحكومية هاماً لأجل إبعاد أجهزة الدولة عن التبعية لطبقة من الطبقات، أي أن تكون محايدة بشكلٍ نسبي، بين الطبقتين الكبريين، الطبقة الإقطاعية الآفلة، والطبقة الرأسمالية الصاعدة، فقد أدركَ الأمبراطور إن المستقبل للأخيرة وللصناعة وللحداثة، وهو بحاجةٍ للقوى العاملة الحديثة وللعلوم، ولا بد بالتالي من الانفصال عن إرث الماضي الإقطاعي، ومن جعل الصناعة بؤرة الحياة الاقتصادية، ومن تحرير الفلاحين والنساء، وتشابك ذلك المنحى الاقتصادي بالشعور القومي الاستقلالي، بل والاستعماري التوسعي كذلك، والذي تحول فيما بعد إلى عدوانية خارجية.
ولنلاحظ كيف كانت اليابان مربوطة بوشائج متخلفة مع علاقات الإنتاج القديمة، كالعبودية، وعلاقات اجتماعية متخلفة كثيرة، لكن جهاز الدولة المركزي إستقل عن الطبقات القديمة، وحسم الخيار الحضاري باتجاه مماثلة تقدم الغرب في جوهره، وهو التصنيع الواسع.
(وقد أدى إلغاء النظام الطبقي وتطبيق نظام المعاشات واستبدال نظام سندات حكومية به الى تجريد طبقة الساموراي بشكلٍ كامل من امتيازاتها المادية، ورفع عبئاً كبيراً كانت ميزانية الدولة تتحمله كل عام قامت بتوجيهه للتنمية.)، (2).
إن خلق التراكم البدائي في التجربة اليابانية كان على الطريقة السوفيتية، بأن تـُجلب الفوائض المالية من الطبقات المثقلة بالاستهلاك والبذخ أو الموظفة في الزراعة، وأن تصُبَ في الصناعات الثقيلة والخفيفة. لكن بدون أن تنتقل الثروة المُصادَّرة وعمليات التراكم المختلفة من ضرائب وغيرها، لتشكيل رأسمالية حكومية على الطريقة السوفيتية، بل أن تكون لعمليات التوجيه المركزي نحو المجتمع الرأسمالي من خلال قيادة الأمبراطور!
وهنا فروق كبيرة بين هذه القيادة وما جرى في بعض دول الشرق، فكثيراً ما تـُقارن عملية القيادة اليابانية بمصر في عهد إسماعيل باشا خاصة، كما يقول عارض الكتاب: يتحدث الكتاب في فصله الثالث عن حركة التصنيع ونمو الرأسمالية في اليابان، برصدها في عهد مايجي بشكل يذكرنا بحركة التحديث التي حاول اسماعيل باشا في مصر أن يقودها، وبنفس الاسلوب، حيث لجأ كلٌ منهما للاستدانة من بيوت المال الفرنسية والانجليزية لبناء وتحديث بلاده، وكانت القروض أداة كل منهما لاقامة مشاريعه التي رآها مناسبة لنقل بلاده الى مرحلة التطور والتقدم الصناعي التي تعيش أوروبا في ظلها)، (3).
إن عمليات الاستدانة والتثقف من الغرب والقيام بإجراء تغييرات في الريف لم تكن متماثلة مع نظام إسماعيل، لفارق جوهري هو طبيعة الدولة اليابانية في هذا الوقت التي اختارت التوجه نحو الاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية، وأن تكون منها بل من قياداتها، في حين ظل إسماعيل في دائرة النظام الإقطاعي، وتغدو الاستيرادات المجلوبة من الغرب لديه إستيرادات جزئية، تحديثة فوق جسد متخلف تقليدي.
في حين توجهت الطبقة الحاكمة اليابانية في تلك الأسرة الصغيرة الأمبراطورية إلى إزالة الإقطاع بكل تشكيلته وتداخلاته في الحياة الاقتصادية والدراسية، فجمعت التراكمات المالية لتوسيع الصناعات، وجعلت الأرياف مُلحقة بها، ولهذا كانت ثمة عملية قسوة شديدة موجهة للريف، أدت إلى حدوث ثورة فيه، نظراً لهذا الجلب الحاد لفوائضه من أجل الصناعة البؤرة الكلية التي توجه الدولة المداخيل نحوها.
هذا ما مثلَّ لستالين تجربة هامة سوقها فيما تلى تحت شعار الاشتراكية.
وفي حين انتهى عهد إسماعيل وخلافائه من بعده بتراكم الديون ظهرت الفوائضُ النقدية الكبيرة في اليابان!
إذن مثلت تجربة اليابان تجربة نحت نحو الرأسمالية الخاصة خلافاً لتجارب الشرق حيث تسودُ الرأسماليات الحكومية.
إن تحويلَ القطاع العام إلى قائدٍ سياسي للقطاع الخاص، يتطلب أن لا تـُثقل أجهزة الدولة بالعمليات الاقتصادية الواسعة التي تعيقُ دورَ القيادة السياسية للرأسماليةِ الناميةِ في محيطِ التخلف.
لماذا يجب أن تكون الدولة قيادة سياسية وليست اقتصادية، ولماذا لا يجب أن تأخذ دور أرباب العمل، بل وأن تشجعَ أربابَ العمل على الاستقلال عنها، وأن يفجروا طاقات الصناعات الثقيلة والخفيفة بقيادتها التخطيطية وليست الإدراية؟
لأنها تكون مشغولة بتلك القيادة السياسية ذات المهام الجسيمة الواسعة، فلديها مهمات نقل التجارب العلمية الغربية للمصانع، وتغيير مناهج التعليم لتواكب عمليات التغيير الاقتصادي، ولديها العمليات السياسية الخارجية المختلفة من إنشاء الجيوش والتوسع التجاري الخارجي ومجابهة التدخلات وغيرها.
كذلك فإن تدخل الدولة في تملك المصانع والمؤسسات التجارية وغيرها، يفسد عملية النمو الاقتصادي في مرحلة التشكيل الأولى للعلاقات الرأسمالية، فتغدو العمليات الاقتصادية مربوطة بأجهزةِ الحكم ومصالح الموظفين، وبتدخل الوزارات فيما ليس من إختصصها، وليس هو مجالها، ويضع بين أيديها ثروات هائلة ليس من ملكها، فتتسرب إليها وتضيعها.
ولا تتشكل سوقٌ حديثة تقومُ بتطوير البضائع، بل يحدثُ توجيهٌ بيروقراطي من أعلى، يجمد نمو العلاقات الاقتصادية في مخططات بيروقراطية وعمليات فساد واسعة. وفي مثل هذه المراحل التكوينية ليس سوى السوق يلعبُ دور المطور للسلع.
وتتكفل القيادة السياسية من قبل الدولة اليابانية في فرش الأرضية لنمو القطاعات الخاصة والثورة العلمية والتقنية في مجالي الصناعة الثقيلة والخفيفة على التوالي والتداخل في مرحل لاحقة.
كذلك فإن هذا يرتبط بعمليات الحريات في مختلف أشكال الوعي وأشكال الحياة، فالجامعات ومؤسسات البحث العلمي تكون حرة، غير موجهة بخطة حكومية لإعاقة العقول عن البحث المستقل كما تفعل المؤسسات العلمية العربية، ثم يغدو الصراع الطبقي محكوماً بمؤسسات دستورية، لا تجعل العمال مجمدين بدون تطور في مختلف جوانب حياتهم، بل يتابعون تطور الصناعات ويطورن أواضعهم المادية والعلمية.
تقومُ الرأسمالياتُ الحكومية الشرقية بتوجيه التطور الاقتصادي نحو أهداف سياسية واقتصادية مسبقة، بما فيها من صواب وأخطاء، وبما يفهمه رجالها من معرفة اقتصادية، نظرية، وهو أمرٌ مضادٌ لتشكل الأسواق الحرة، وبُنية الرأسمالية الحديثة.
فلم تقم النخبة السياسية المسيطرة في اليابان بفكرة الأخذ الجزئي من الحضارة الغربية، بالاستيراد الانتقائي لأجزاء من تلك البنية الحديثة الصناعية – السياسية – العلمية، فقد درستها وطبقت هيكلها الأساسي على المجتمع، ولم تقل سوف آخذ التقنية وأتوجه للصناعات الخفيفة أو الاستخراجية حتى لا أرهق الأجيال، بل توجهت للصناعات الثقيلة بشكل أساسي لترافقها وتليها بعدئذ الصناعات الخفيفة، وكذلك لم تفصل بين مستويات البنية هذه؛ مستواها السياسي الديمقراطي، وكذلك مستواها الثقافي العلمي التقني بصورة خاصة، لأنه هو المرتبط بالصناعة، أما مسائل الفلسفة والأدب والفنون فهي تـُنتج من خلال الوعي الوطني.
إن نمو الرأسمالية الخاصة اليابانية جرى من خلال السوق، وليس من خلال هيمنة الدول، وهذا أدى إلى حراك رؤوس الأموال باتجاه القطاعات المربحة والمفيدة للتطور الاقتصادي الوطني، وهذا أدى لتطور قوى الإنتاج والعلوم مع تطور السوق.
وقد شجعت الحكومة البيوتات المالية لتتحول إلى شركات كبرى وليس أن تحجم دور تلك البيوتات وتأخذ مكانها، وهو أمرٌ أدى إلى فوضوية السوق وتآكل الفوائض الاقتصادية في أجهزة الدول، وإلى هروب رؤوس الأموال وتشوه البنية.
هذا لا ينفي جملة من التناقضات كأي اقتصاد رأسمالي خاص، فطبيعة التوجهات الحكومية اليابانية التي أشرفت على تصنيع البنية الرأسمالية الحداثية في الأرض اليابانية، قامت بالإسراع بها، تجنباً للسيطرات الأجنبية وخاصة الغربية منها، وكذلك للحصول على المستعمرات والمواد الخام بأسعار رخيصة، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التدخلات اليابانية وإنشاء المستعمرات، مما كان له أثر سلبي على طبيعة هذه الرأسمالية التي غدت عسكرية توسعية فجّرت نفسها للحروب وللمحور الفاشي، وكان آخرها الحرب العالمية الثانية التي انتهت بمأساة كبرى على اليابان.
وأعطت التجربة اليابانية حراكاً لدول جنوب وجنوب شرق آسيا التي حذت حذوها فغدت الرأسمالية الخاصة الصناعية أساساً لتقدم نصف قارة آسيا.
إن أساسيات التحديث الغربي تم وضعه هناك، والمبني على الوعي العقلاني العلماني الديمقراطي، وعلى الحريات المختلفة، وتشكلت دساتير ومؤسسات على هذا الأساس، مما وسع بشكل هائل من قدرات المنطقة.
لا ينفي هذا صراع العمال والقوى الشعبية ضد هذه الرأسمالية الخاصة، بل هي قوى مشاركة في مثل هذا البناء، ويمكن أن تصل للسلطة من خلال الأدوات التي وفرتها المؤسسات، لكن لتطرح برنامجاً تطويرياً للاقتصاد لكن من وجهة نظر العمال، أي يتواصل النمو الاقتصادي ذاته الخاص من خلال مصالح المنتجين.
في حين أن الرأسماليات الحكومية تطرح أنظمة شمولية، ولهذا ترفض العلمانية والديمقراطية، ويمكن أن تتحدث بأسم العمال والفقراء، لكن بدون منظماتهم الخاصة المستقلة.
في الرأسمالية الخاصة على قرار النموذج الياباني يحدث نمو التراكم الاقتصادي داخل عمليات الإنتاج، ورغم تقسيم الفوائض الذي يقرره المالكون لا العاملون فإن العاملين يناضلون لأعادة تقسيم هذا الفائض باستمرار.

الرأسمالية الحكومية الروسية

عاشت روسيا خلال القرن التاسع عشر مواجهة مستمرة مع الغرب المتفوق عنها، والغرب المقصود هنا أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد نتج التحدي بسبب الطفرة التي قام بها الغرب، من التخلف حتى الصناعة الحديثة، وما استتبع ذلك من تبدل كبير للمجتمعات، ومن انتشار لثقافتها، ومن إستيلائها على مستعمرات كبيرة زادت من تطورها ومكانتها على الصعيد العالمي، بل وجاء هذا الغرب غازياً على خيول نابليون ومدافعه، في حين كانت روسيا تعيش في مرحلتي العبودية والإقطاع المتداخلتين، ففي الوقت الذي كان تنتشر في الغرب الديمقراطية والحداثة، كانت روسيا تناقش تحرير العبيد! كانت أغلبية الفلاحين وهم أغلبية الروس كذلك، مسترقين في قرى شديدة التخلف.

فكانت روسيا تصحو من مجتمع الرقيق على رؤية أكثر العلاقات تطوراً في العالم وقتذاك، وأدى ثقلها السكاني الكبير ومستعمراتها الأكثر تخلفاً منها، إلى إشكاليات في التطور الروسي إلى حد الانفصام، فهي حاضرة في أكبر الأحداث الغربية كهزيمة نابليون ووقف إصلاحات الثورة الفرنسية وراحت تقود المد الرجعي في أوربا وهي في نفس الوقت تتطلع إلى تجاوز أوربا ولعب دور قيادي آخر للإنسانية!
فكانت هناك أفكار وتيارات تنادي بتجاوز الرأسمالية، سواء بشكل أدباء كتولتسوي وديستوفسكي أم بتيارات كالشعبيين والاشتراكيين الثوريين وتنادي بالحفاظ على الإرث المشاعي الذي لا يزال قائماً في بعض المناطق والعلاقات، وهو الأمر الغامض الذي تغلغل في حزب البلاشفة في آخر الأمر، رغم أن حزب البلاشفة قام على الصراع ضد هذه الأفكار أساساً، ونادي بضرورة الدخول العميق في الرأسمالية! ويمكن الرجوع هنا لكتب لينين المتصدي الكبير لأفكار الشعبيين وخاصة في كتاب(تطور الرأسمالية في روسيا).
وحاول بعض القياصرة المصلحين سد الهوة الهائلة بين روسيا والغرب، عبر نقل العاصمة بقرب القارة الأوربية، وبخلق إنفتاح اقتصادي وبقبول المؤثرات الثقافية الفرنسية والألمانية.
لكن ضخامة روسيا ومستعمراتها و تجذر الاقتصاد الإقطاعي وضعف نمو الرأسمالية داخل هذا المجتمع ضعيف التطور الصناعي، جعل من حل تناقضات التخلف الرهيبة مسألة تحتاج لقرون.
كيف تبدل حزب البلاشفة من التصدي للشعبيين والاشتراكيين الثوريين، الرافضين للتطور الرأسمالي، والمنادين بالإبقاء على الجماعية وضرورة تأميم الأرض، إلى أن يتقبل مثل هذه الأفكار؟!
لماذا لم يواصل تأييد التطور الرأسمالي الديمقراطي العلماني والمتدرج؟
فبين الحملات الفكرية ضد أولئك الخصوم (غير العلميين) و(الفوضويين) على حد التعابير البلشفية وقتذاك، إلى تقبل أطروحاتهم ومركستها بصورة عسكرية، لم يمض سوى عقدان.
هل حدثت تغييرات رأسمالية هائلة تستوجب تجاوزها نحو الاشتراكية؟
لم يحدث شيءٌ من هذا القبيل، ولكن حدثت تطورات سياسية كبرى، فقد توسع الاستعمار الغربي، وراحت دوله الكبرى تستحوذ على أقطار الدنيا كلها، وتقوم حروب بينها، وخاصة المجزرة الهائلة، الحرب العالمية الأولى، بل وراحت تتغلغل في روسيا نفسها عبر شركاتها، مهددة ببلع مستعمراتها.
ولم تؤد دعوات لينين بتشكل معارضة قوية ضد الحرب دورها، وانحاز الاشتراكيون الديمقراطيون في كل بلد إلى بلدهم، وأعلن لينين الانفصال عنهم، ونعتهم بأنهم اصبحوا منحازين لبرجوازيات بلدانهم.
في هذه الفترة يمكن رؤية لينين(القومي)، المتواري، الغائر في الثقافة الشعبوية الاشتراكية المنعوتة سابقاً بالتخلف، وهذا التبدل الكبير بين تأييد التطور الديمقراطي للرأسمالية ورفض هذا التطور والقفز عنه، هوة كبيرة.
تم سد هذه الهوة المفاجئة الغريبة بمجموعة من المقولات، أهمها أن(روسيا تمثل الحلقة الرأسمالية الضعيفة التي يمكن كسرها والقفز بها للاشتراكية)، وبظهور الاستعمار الذي هو أعلى مراحل الرأسمالية، مما يعني في هذه المقولة الأخيرة بأن الرأسمالية غدت كونية، وإنه لا داعي لانتشارها الكلي في البلدان المتخلفة.
وكل هذه المقولات تقوم على هواجس قومية بورجوازية لدى لينين، فروسيا أمنا تواجه خطر السيطرة الأجنبية، ولا بد من الحفاظ عليها وعلى مستعمراتها، يغدو لينين هنا رجل التحرر الوطني، الذي سوف يجابه عملية استعباد روسيا، وينقذها بالتوجه الشعبي التحرري التقدمي.
لقد سقطت الأممية الثانية التي كانت ترفع راية الاشتراكية الديمقراطية في رأيه، رغم أنها لم تسقط حقيقة، وسقطت الماركسية المنتجة في الغرب كما يتصور.
هنا مفترق طريق كبير بين الشرق المتخلف الإقطاعي، والرأسمالية الغربية، فالشرق يريد النهضة، والغرب الاستعماري يريد السيطرة عليه، الشرق يبحث عن طرق جديدة للتطور مغايرة للغرب، الذي وصل إلى ذروة التطور الاقتصادي ويريد منع الآخرين من التطور والاستقلال!
قاد لينين عملية إقامة الرأسمالية الحكومية الروسية. لينين هنا أقرب لقائد تحرري شرقي، انزلق تدريجياً من ثقافة الغرب الماركسية الديمقراطية إلى منتوج فكري خليط، يجمع أفكاراً ماركسية إلى أفكار الشعبيين والاشتراكيين الثوريين الروس.
من الماركسية أبقى على بعض المنهجية في معالجة قضايا الغرب، وتجاه الأم روسيا تخلى عن هذه الماركسية، وراح يركب المقولات التي تلائم نهضتها التسريعية وهيكلها السياسي البيروقراطي القومي.
من الماركسية أخذ ضرورة تطبيق الاشتراكية ولكنه جعله في بلد لا يمتلك التجربة الصناعية الكبيرة ولا السكان العمال، وجلب فكرة كارل ماركس بشأن(دكتاتورية البروليتاريا) باعتبارها نظاماً شمولياً وليس فترة إستثنائية لأي دولة شعبية ديمقراطية تواجه نظاماً قديماً شرساً كما رآها ماركس في مذابح كومونة باريس سنة 1870.
إن العودة للنظام الاستبدادي الشرقي هي مسألة شاملة للحركات والأنظمة في الشرق بعد فترة من جلبها أفكاراً ديمقراطية من الغرب، فالبناءُ الشرقي الاستبدادي هو الذي يحددُ تطورَ الأفكار المجلوبة.
إن مصطلح(السوفييت) نشأ من خلال ثورة الجماهير نفسها، وهي تقومُ بخلقِ مجالس شعبية مُنتخبة، تمثيلية للعمال والبحارة، وهذه المجالسُ تكونتْ بفعلِ نضالِ الناس أنفسهم، وصارتْ جهازَ حكم، ديمقراطياً، وكان شعار(كل السلطة للسوفيت)، يعني جعل الحكم في يد هؤلاء الناس، ولو إنه هذا الشكل الانتخابي استمر طوال الفترة اللاحقة لأمكن للقوى الشعبية أن تحد من سلطة الجهاز التنفيذي وتضع حد لتجازوات شرطته السرية خاصة، لكنه تم القضاء على إستقلال السوفيتات، لتـُدمج في النهاية في السلطة التنفيذية. ترافق تحويل السوفيتات لجهاز تابع للسلطة التنفيذية بالقضاء على الأحزاب والصحافة الحرة، وبهذا فقدت الثورة زخمها الشعبي الحر وعيونها المفتوحة.
إن(السوفيتات) تعبيرٌ عن الجهد الخلاق للجمهور وعقليته الديمقراطية، وعَبْرَ كفاحِها ضد القوى المناوئة تمكنتْ من خلق سلطة شعبية مُنتخبة، وغدا (رأسمال الدولة) في ملكيتها العامة، وهذه الفترة تعبر عن الثورة الشعبية التي فجرها البلاشفة، لكنهم لم يتركوها مستقلة، مُراقِبة للسلطة التنفيذية، وأن تجري إنتخاباتها بشكل حر ودوري.
إن أبرز مواقع السلطة التنفيذية كان الجيش الذي بُني من صفر إلى أن وصل إلى ستة ملايين جندي، ثم جهاز المخابرات، فراحت هذه الأجهزة تمثل الهيكل الحقيقي للحكم.
فالرأسمالية الحكومية إذن تشكلتْ والمالكُ الحقيقي (قوى العاملين) يُبعد عن ملكيتهِ، وكان جهدُ هذه القوى في بناء المصانع وتشغيلها ومراكمة الفوائض المالية هو المؤسسُ للصناعة وتطوراتها، لقد كان العمالُ المالكين الرسميين الشكليين لقوى الإنتاج في أغلبيتها، لكن المالكين الحقيقيين كان الموظفون. كانت البيروقراطية هي التي تدير قوى الإنتاج هذه، وتقرر كيفية نموها وإعادة إنتاجها، وكمية توزيع الفوائض والتخطيط لمؤسسات أخرى والعلاقة بينها وبين التعليم والمرافق العامة كلها.
ومثلما يحدثُ في أي ملكية عامة شرقية يبدو الناس هم أصحابها، لكن الملكية الحقيقية تعود للإدارة، وكلما ازدادَ نمو الفوائض وازدهر الإنتاجُ تشبثتْ هذه الإدارة بالملكية.
علينا أن نقرأ شعار(الاشتراكية في بلد واحد) بكونه شعار(الرأسمالية الحكومية في بلد واحد).
لماذا لم يطرح هذا الشعار الأخير بدلاً من كل هذه المناورة الكبيرة؟
لقد كانت شعارات الاشتراكية هي مولدة الزخم والتضحيات الجسيمة لدى الجماهير، فهي مصدقة بأنه في خاتمة جهودها ثمة واحة خضراء تهون في سبلها كل التضحيات، ولهذا فإن حماسَها مشروع، خاصة أن صانعي المشروع يعيشون في مستوى عيشها، في بداية الأمر، ويقومون بنفس تضحيتها، ويصبحُ المشروعُ دينياً ككل المشروعات السياسية في الشرق، فهنا تضحية وهناك جنة، ولكن الجنة أرضية هنا.
إن الإدارة الصارمة العسكرية البوليسية الزاهدة تستنفر معجزات العمل الجماهيري، والذي يقوم بالخوارق العملية حقاً، ففي بضع عقود قليلة يتم إنجاز بناء قوى الإنتاج الكبرى في الصناعات الحديثة. بناء مصانع تنتج وسائل الإنتاج استغرق في الغرب عدة قرون!
هذه الملحمة لا تخلو من أخطاء جسيمة تعبر عن إدخال العسكرة والأرهاب في الاقتصاد، كفرض التعاونيات بالقوة والتأميمات الكلية.
إن رأس المال العام غدا رمزياً من صنع وملكية العمال، لكنه خرج عن هذه الملكية، وانفصل عن هذا الجمهور، فالسوفيتات لم تعد مالكة حقيقية، ولم تعد مراقبة بجدية المُلكية والسلطة والحزب التي اصبحت كتلة واحدة، تقاطر عليها الانتهازيون والاستغلاليون، كما نقول أرى الناس قد ذهبوا لمن عنده الإنتاج والأرباح، ولم تملك أدوات المحاسبة من خلال برلمان حر، ولو إنها فعلت ذلك لكان قد خففت من نتائج الشمولية.
كان لينين مؤسساً لهذه الدكتاتورية، وكان لا بد لفكرة القفزة نحو الاشتراكية أن تصادر أدوات الديمقراطية (البرجوازية)، وهي ثقافة إنسانية واسعة وعميقة من عقلانية ومراعاة حقوق الإنسان، وتعددية حزبية وتعددية داخل الحزب نفسه، وإذا كانت البرجوازية قد ساهمت بها وقادتها في لحظة تاريخية وتخلت عنها في فترات كثيرة، لكنها ثقافة إنسانية من صنع العاملين، ومن دونها تزول الثورة والاشتراكية وكل ذلك، ويظهر الأمبراطور الشرقي في شخصي لينين وستالين، لكن هذا الأمبراطور فقير ومضح!
لقد أثارت التجربة السوفيتية قيادات اليسار في ذلك الحين ومنهم كاوتسكي وروزا لكسمبرغ:
(السيدة روزا لكسمبورغ تقول أن ” نظرية لينين في الدكتاتورية تفترض أن الإشتراكية إنما هي صيغة معدة سلفاً وهي في جيب الحزب الثوري، وجماهير الشعب بأكملها يتحتم أن تأخذ دوراً في ذلك وإلا فإن تحقيق الإشتراكية سيجري بمراسيم تصدر عن دزينة من المنظرين خلف مكاتبهم “، (4).
وتقول أيضاً ؛ (إن التحقيق العملي للنظام الاشتراكي بشكله الاقتصادي والاجتماعي والقضائي إنما هو مسألة غائمة).
بطبيعة الحال كانت هذه الانتقادات تصدر من اليسار الغربي المعجون في عالم الديمقراطية لكن الأمر ينمو بشكل آخر في الشرق.
بدأت الرأسمالية الحكومية بشكلها السوفيتي كنهاية لتاريخ الإستغلال السابق وملحقاته من الأديان والدكتاتوريات واللاعقلانية، والتحمت بأحلام الاشتراكية القاضية على الطبقات وصراعاتها، ومؤدية لعالم بلا طبقات.
إن الرأسمال الشعبي الذي صنعهُ الناسُ بتضحياتهم، لا يزول كلياً حتى في أسوأ لحظات الارتداد، فهو قنطرة غير مباشرة لاشتراكية الحلم تلك، ولكنه في الواقع الراهن الزائل كذلك، قنطرة للرأسمالية الخاصة.
انفصلَّ رأسُ المالِ عن مالكيه لغياب الديمقراطية، وتحولَّ لمالكيهِ الحقيقيين بحكم قبض اليد وهم البيروقراطيون الحكوميون بكلِ تنوعِهم ومراتبهم العليا المتحكمة في مفاتيح الإنتاج.
حين تغدو البيروقراطية حاكمة فإنها تجمد أي نظرية عن الغنى والجدل مع الواقع، سواء على مستوى الرقابة والتشريع، أو على مستوى العلوم الاجتماعية.
وكما تخبو المجالس المنتخبة وتموتُ انتقاداتـُها ورقابتها الصارمة كذلك تفلس النظرية الحكومية، وتغدو الماركسية هنا أداة تبرير لا تحليل، والعمالُ الذين تصوروا الاشتراكية جنة أرضية يصنعونها بدمائهم وعرقهم، يجدون نفس الإدارات الاستغلالية، ونفس الهيئات الكهنوتية، فينفصلون عن النظرية المقولبة كما ينفصلون عن الملكية العامة (المسروقة).
لا يعودون يضحون أو يطورون مهاراتهم، فينتقلون لمستويات أرقى في الإنتاج، بل إنهم يغتربون عن الإنتاج الذي صنعوهُ وصار يسيطر عليهم ويستغلهم، وبينما كانت الماركسية أداة محاربة الاستغلال والاغتراب تغدو أداتهما، فيعود العمال للدين، بعد فشل الجنة الأرضية وتحولها لجحيم!
بعد أن قامتْ الرأسمالية الحكومية الروسية بخلق القواعد الصناعية الكبرى، ومؤسساتِ الطاقةِ العملاقة، وطرق النقل، وقفزت بالثقافة الجماهيرية قفزات هائلة، وكانت أساس هزيمة الغزاة الألمان الذين دمروا الغرب الديمقراطي، ونشرت نموذج التحرر من الاستعمار في العالم، عجزت عن التطور، خاصة بنقل قوى الإنتاج إلى مستوى آخر، فتجمدت سلعها التقنية.
مهماتٌ خارقة في الواقع، تمت بتضحيات أسطورية، وكان لا بد من فك الأغلال السياسية عن قوى الإنتاج، وتمظهر ذلك بنقد تجربة الدكتاتورية عبر خروتشوف، الذي فهم عجز (الاشتراكية) عن التطور بسبب عنف ستالين وجبروته، لكن البيروقراطية عادت وأمسكت السلطة كلية، ثم بدأ الإصلاحيون من داخل الحزب بتفجير الموقف بدلاً من المراجعة الطويلة الدقيقة للأزمة.

رأسمالية الدولة

يقدم لنا (توني كليف) قراءة إقتصادية سياسية عميقة في البناء السوفيتي:

(الرأسمالية بصفة عامة – ورأسمالية الدولة البيروقراطية بصفة خاصة تعنى بخفض النفقات ورفع الكفاءة وليس تلبية الحاجات الإنسانية. إن عقلانيتها ليست عقلانية بالأساس، حيث أنها تغربُ العاملَ، محولةً إياه إلى “شيء”، إلى موضوع متحكم فيه، بدلا من ذات تشكل حياتها وفقا لرغباتها. لهذا السبب يعمد العمال إلى تخريب الإنتاج.
وكما في الزراعة، سعى ورثة ستالين للتعامل مع هذه المشكلة في الصناعة بواسطة الجزرة، ووجدوا أنهم لا ينجحون هكذا، وعادوا جزئيا على الأقل للعصا.
إن إغلاق معسكرات العمل العملاقة بعد وفاة ستالين، قد تلاه إبطال للقوانين التي جعلت العمال عرضة للعقوبات القانونية عند غيابهم أو تأخرهم عن العمل. يقارن كليف هذه التغييرات بما حدث خلال تطور الرأسمالية الغربية: في المراحل الأولى للثورة الصناعية استخدمت كافة أنواع الإكراه “قوانين التشرد، نظام ملاجئ الفقراء” لإجبار الناس على قبول نظام الانضباط في المصنع، ولكن متى صار للنظام الرأسمالي الجديد جذور فان أنواع الإكراه هذه بدأت تعطل إنتاجية العمل، وإستبدلت بأشكال إكراه ذات طابع اقتصادي صرف.
ولكن كانت هناك قيود صارمة على حجم الجزرة التي كان بالإمكان استخدامها لتحفيز العمال لرفع الإنتاجية. في عام 1953 / 1954 وعد أول رئيس وزراء بعد ستالين، مالينكوف، بإنتاج أكبر للسلع الاستهلاكية على حساب وسائل الإنتاج. إلا أن فترة شهر العسل للصناعة الخفيفة لم تدُم طويلاً، ففي إطار التنافس الاقتصادي، والعسكري العالمي، لا يمكن تجنب إخضاع الاستهلاك للتراكم. وما أن حل خريف عام 1954 حتى شنت هجمة، قادها خروتشوف وبولجانين (وزير الدفاع وقتها) وشيبيلوف، ضد “تدليل المستهلكين”، ودعت للعودة إلى المزيد من التركيز على الصناعة الثقيلة. في يناير 1955 أعلن خروتشوف أن:
المهمة الأكثر أهمية، والتي يكرس الحزب كافة جهوده لإنجازها كانت وتظل، تقوية الدولة السوفيتية، وبالتالي الإسراع بتطوير الصناعة الثقيلة.
بعد ذلك بأسبوعين أجبر مالينكوف على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء. أما نصيب الصناعات الخفيفة والصناعات الغذائية في الاستثمار الصناعي للدولة، والذي تراوح بين 16 و17% في الخطط الخمسية للثلاثينيات، و 3ر12% في النصف الثاني من الأربعينات، فقد انخفض لأقل من ذلك في الخمسينات وأوائل الستينات إلى حوالي 9%.
بدون أي حل للأزمة الزراعية وبدون أية زيادة في الاستثمار في صناعات السلع الاستهلاكية، كان هناك حد للارتفاع الممكن في مستويات معيشة العمال خلال سنوات خروتشوف. وبحلول 1963:
بشكل مطلق، تحسن إنتاج السلع الاستهلاكية. ومع ذلك، فإجمالاً لم تصل النتائج في حالات كثيرة حتى إلى أهداف الخطة الخمسية الأولى فيما يتعلق بنصيب الفرد من الإنتاج، على الرغم من كل التغييرات، إلا أن مستويات المعيشة في روسيا ما زالت أقل كثيراً منها في أوروبا الغربية وأعلى قليلاً فقط منها في روسيا في عام 1928 (قبل عهد الخطط).
هكذا فعلى الرغم من أن الأوضاع كانت أفضل كثيرا بالنسبة للعمال في نهاية فترة خروتشوف، مما كانت عليه في ظل ستالين (يذكر أن مستوى معيشتهم كان قد انخفض في منتصف الثلاثينات إلى حوالي ثلاثة أخماس ما كان عليه في عام 1928)، فان التحسينات لم تكن بأي حال كافية لكي تحدث زيادات هائلة في إنتاجية العمل. هكذا ختم كليف فصله عن العامل الروسي:
إحدى الهموم الرئيسية للقادة الروس اليوم هي كيفية تنمية إنتاجية العامل. لم يسبق أن كان موقف عمالهم بهذه الأهمية بالنسبة للمجتمع.
فمن خلال جهدهم في تحويل العامل إلى ترس في آلة بيروقراطية، يقتلون فيه ما هم في أشد الحاجة إليه، الإنتاجية والقدرة الإبداعية. الاستغلال المرشد والصارم يخلق عقبة رهيبة أمام ارتفاع إنتاجية العمل.)،
يقدم توني قراءة تحليلية من الداخل للبنية الاقتصادية- الاجتماعية، عبر رؤية هيمنة الإدارة المركزية على نشاط العمال، ويبين تناقض الخطط مع مستوى الإمكانيات، ويشير أن خطط خروتشوف فشلت وجاء عهد الركود البريجينفي الذي لم يقدم جهود تغيير.
وعبر فسيفساء النظام المتطاير وتكسير الحوائط وتدمير الروابط السياسية بين القوميات وحرق الحدود، عادت روسيا لتكون الأمة المستقلة وهي التي اعتقلتْ كلَ الأمم حولها وقادتها في تجربة نارية كونية!
كان تفكيك الاتحادات وتغيير المسار السياسي يستهدف من البيروقراطية المتغيرة الآن العودة للرأسمالية وقوانين سلعها، وتبديل طوابع قوى العمل، وتوسيع قوى العمل الذهني بدلاً من سيادة قوة العمل البروليتارية. إن ذلك كان يصدر من مفاتيح السلطة في المخابرات والجيش، التي وجدت في يلستين أداة التحطيم المناسبة وإلغاء التضحيات المالية الاشتراكية الهائلة، للعمالة وللشعوب في الخارج وللمعسكر الاشتراكي، وكان عجز جورباتشوف نموذجاً لعدم تطور الماركسية داخل الحزب، وغياب التحام النظرية بالجمهور وطليعتهُ الجديدة عمالُ التقنيات والصناعات الحديثة، وغياب الديمقراطية الحزبية والسياسية العامة.
ولهذا فإن تفجيرات قد حدثت وليس إعادة بناء طويلة وديمقراطية متدرجة، ومثل يلستين هجوم البيروقراطيين الفاسدين ورجال الأعمال، وكان ذلك لا بد أن يكون شعبياً مؤثراً بسبب تلك المتحجرات الدكتاتورية خلال عقود، وإغلاق العقول والإنتاج عن التطور، ومصادرة الحريات، فكانت القوى البيروقراطية في تحولها نحو الرأسمالية الخاصة تستند على تراث طويل من الأخطاء هي التي صنعته، وتهاجم تلك الإدارات المتعسفة في الزمن السابق وهي امتدادها وثمرتها.
إن نشاط الرأسمالية الحكومية الروسية خلال سبعين سنة سابقة كان يجري تحت بند إزالة الطبقات والإستغلال، وهي أمور لا تتشكل بسبب تغيير الإقطاع وإحلال رأسمالية حكومية، خاصة أن الرأسمالية الحكومية هي شكلٌ متخلفٌ من الرأسمالية الحديثة! فهي رأسمالية تقوم على العنف الإداري، والعنف يشكل مؤسسات كبرى، لكن التطوير الداخلي التقني العميق خاصة للقوى العمالية أبرز أدوات الإنتاج، لا يمكن أن تشكله.
لكن الرأسمالية الخاصة التي أُقيمت كانت كذلك بتجريبية مدمرة، يقول الخبير الروسي الاقتصادي (ستانليسلاف مينشكوف) :
إن(إصلاحيي فترة ما بعد الحقبة السوفييتية انتهجوا العقيدة الكلاسيكية الغربية الجديدة، والتي تقوم على فكرة أنه لكي يعاد هيكلة النظام الاقتصادي الاشتراكي على شكل اقتصاد رأسمالي فإنه يكفي الاستعاضة عن ملكية الدولة بالملكية الخاصة، مع إطلاق قوى السوق على هواها، ولكن التطبيق العشوائي لاقتصاد السوق بعد سنوات طويلة من الأخذ بالاقتصاد الموجه، جعل التحول إلى الرأسمالية أمراً محفوفا بالمخاطر، وتسبب في تضحيات اقتصادية واجتماعية جسيمة، تجسدت على شكلِ تردٍ حاد في الأوضاع المعيشية بالنسبة لمعظم أفراد الطبقة العاملة والمتوسطة الروسية.)، (5).
(من كتابه تشريح الرأسمالية الروسية).
إن نسب الأرباح الهائلة للشركات الروسية أعلى من نظيرتها الغربية، فشركة يوكوس(بلغت أرباحها في عام 2003 نحو 36 % من قيمة مبيعاتها الإجمالية، في حين تصل الشركات الأمريكية إلى 10%)، (6).
وإستناداً على ملكية عامة هائلة اصبحت مرتكزاً للشركات الخاصة، حيث غدا النظام الضريبي وسيلة لإعطاء المال للأغنياء من جيوب الفقراء، فصار نشؤ الرأسمالية بشكلها الخاص الرهيب هذا نتاج التحكم العتيق الطويل للرأسمالية الحكومية.

الأجور والسلطة الحكومية الرأسمالية

رغم تباين مسيرتي الرأسماليات الغربية الخاصة والرأسماليات الحكومية، إلا أن للرأسمالية عموماً طابعاً متماثلاً مهما كان طابعها الاجتماعي المتلون بين هذا البلد أو ذاك، بين هذه المنظومة الغربية الرأسمالية ، الخاصة أو تلك الحكومية الشرقية (الاشتراكية؟).

فللرأسمالية عموماً صفات جوهرية فهناك مالك وعمال وأجور، وتشكيل قيمة لأي سلعة، وإنتاج فائض قيمة، وتحول قوة العمل إلى سلعة، ووجود فترة أولية تـُسمى التراكم البدائي، حيث تـُحضر رساميلٌ ومدخراتٌ لتشكيل صناعات كبرى، يسودُ فيها تخفيض الأجور، ومعروف ما كتبهُ كارل ماركس عنها في الجزء الأول من كتابه رأس المال، كذلك معروفٌ ما كتبه عن الرأسماليات الخاصة الغربية في بدء تشكلها من تطويل ليوم العمل إلى 16 ساعة وأكثر، ومن إستخدام للنساء والأطفال بشروط مجحفة إلى آخر ذلك من ظاهرات قام بدرسها طوال عقود.
كذلك فإن من ظاهرات التشكل الأولي للرأسمالية التركيز على الصناعات الثقيلة ثم نشر المكننة في كل فروع الإنتاج، ثم يأتي التتويج لذلك في مكننة الزراعة.
لكن ما لم يُبحث هو كيفية تشكل الرأسماليات الحكومية الشرقية، وهل استطاعت أن تخرقَ تلك القوانين لتشكيل الرأسمالية الغربية وأن تتجاوزها في تكوين مغاير؟
لقد أهيلت الكثير من المصطلحات والدعايات حول هذه التجارب الشرقية، ولكننا سنرى إنها لم تختلف عن تكوين الرأسمالية الغربية الخاصة، لكن بأشكال مختلفة، وفي ظروف أخرى، اتسمت بالتسريع.
إن الطابعَ السياسي الحكومي المُضفى على الملكية الرأسمالية لا يستطيع إختراق أو تغيير قوانين القيمة وفائض القيمة، بل يؤدي إضفاء الطابع السياسي إلى مشكلات اقتصادية وسياسية على المستوى البعيد، تقومُ بعدها قوانينُ الاقتصاد الرأسمالي بالظهور وبكسر الغلاف السياسي الزائف الذي وُضع فوقها.
إن الدولة تضفي على هذا الإنتاج طابعاً إيديولوجياً بالقول إنه وطني أو قومي أو إشتراكي، لكن هذا لا يضيفُ شيئاً اقتصادياً للسلعة المُنتــّجة.
ويُقصد بالطابع الإيديولوجي عادة خلق حماس لدى المنتحين للتخلي عن بعضٍ من أجورهم، وإعطائها للإدارة، وغالباً ما يتخلى العمال عن بعض أجورهم من أجل القضية القومية أو الاشتراكية ولدعم التطور الاقتصادي بل ويشتغلون بلا أجور في مناسبات تضحوية، ولكن أجورهم هي سلعة مشتراة حسب إعادة تجديد قواهم وتجديد حياة أسرهم، فيما تمضي الفوائض للإدارة الحكومية بدلاً من الرأسمالي الفرد.
إن التجربة الروسية في تشكيل الرأسمالية الحكومية هي من أبرز التجارب في إظهار تماثلها مع الرأسمالية الغربية الخاصة، في الجوانب المشتركة، وهي إستغلال العمال، والعودة لقوانين القيمة والربح ووجود فترة تراكم بدائية أولية وغيرها، عبر واقع تاريخي مختلف، ومن خلال بنية اجتماعية مغايرة.
فحين تأممت المؤسسات الخاصة غدت جزءً من القطاع العام، الذي أمسك بشكل متدرج الاقتصاد، وكان السؤال الاقتصادي الأهم هو كيفية الحصول على الموارد أي الفوائض التي يمكن بها توسعة الإنتاج وتجديده على نحو كبير يلغي التخلف؟
إن القطاع العام المُصَّادر من طبقة البرجوازية قامت بإدارته قوى العمال، فتملكتهُ ونظمتهُ على نحو جديد، لكن قوى العمال الأمية كانت غير عليمة بالإنتاج وتوسعه، وتطويره، في المنشأة وعلى المستوى السوفيتي، فتراجعت الإدارة العمالية التشاركية الديمقراطية، وجاءت الإدارات البيروقراطية، وكان هذا أول دخول من الباب الخلفي للرأسمالية الحكومية:
(أرغم لينين عام 1918 على القول بأن ” الإدارة الفردية هي الأكثر نجاعة” في الصناعة. وبحلول عام 1920، طلب استبدال إدارة اللجان بإدارة الأفراد، رغم اعتراضات اتحاد العمال وأعضاء الحزب، هذا رغم أن لينين نفسه كان ضد البيروقراطية.)، (7).
(كذلك قامت التعاونيات بتشغيل عمال مأجورين مبررة ذلك بتخريجات نظرية، إلى جانب تبرير تفارق الأجور. كان ستالين قد تحدث للمدراء عام 1931 قائلاً:(علينا وضع حد للمساواة البرجوازية الصغيرة. إن التفارقات ضرورية للوصول إلى نجاعة أعلى في مجتمعنا الإشتراكي)، (8).
إن تراكم الفوائض من القطاع العام لم يكن يكفي لإحداث التحولات الجذرية في الصناعة، رغم أن التأميمات مثلت شكلاً من أشكال التراكم البدائي، وامتدت إلى سرقة الأموال الشخصية للملاك وسرقة دور العبادة المسيحية، لكن جاء التراكم البدائي الأوسع عبر مصادرة أموال وأراض أغنياء الريف، وإحداث التجميع التعاوني الزراعي بالقوة، وهذا مكن الدولة من الحصول على موارد كبيرة، لخلق الصناعة الثقيلة.
وإذ قامت تجربة الرأسمالية الحكومية على نهب الأغنياء لكنها لم تـُغني الفقراءَ كذلك، فظلت الأجورُ بمستوى متدنٍ طوال عقود من التجربة السوفيتية، وكان بقاء الإدارة العمالية الديمقراطية يعني الاهتمام بهذه الأجور وبرفعها، وكذلك ببقاء السوفيتيات كشكلٍ ديمقراطي للحكم، وكذلك بقاء وانتشار الثقافة العقلانية والديمقراطية الماركسية، لكن كل هذا مُنع لتصاعد دكتاتورية الإدارات البيروقراطية الحكومية.
كان جعل الجماهير العمالية تعيش في الفقر يتم من خلال اليافطات الحماسية، وكان إبقاء الأجور على هذا المستوى المنخفض يعني حدوث تقدم صناعي كبير، وكذلك يعني صعود الإدارات الحكومية فوق ظروف طبقة مغايرة أفضل حالاً نبسياً وقتذاك لأنها ستنمو بصورة كبيرة فيما بعد، فتنفصل عن العمال، وتكون طبقة رأسمالية داخل أجهزة النظام.
إذا رأينا كيفية تشكيل الرأسماليتين الغربية الخاصة والحكومية الشرقية، فإننا رأينا بشكلٍ خاص نمو الرأسمالية الشرقية ومثالها كان الاتحاد السوفيتي، وكيف أن قوانين الرأسمالية العامة راحتْ تتجسدُ على الأرض، خاصة قانون التراكم البدائي، الذي لعب دوراً في تجميع الفوائض الكبيرة وإنتزاعها من المنتجين لتشكيل التصنيع الواسع، وترافق مع ذلك تحديث الريف ومكننته، وهو شرط هام آخر، لعدم العودة للإقطاع. وهو أمرٌ طبقته التجربة الصينية في زمن وظروف أخرى.
ومهما كانت شعاراتُ الحكم فإن الاقتصاد له سببياته المستقلة في النمو، وتكوين المصانع وخلق شبكة هائلة منها، وتنويع السلع، هذه كلها جوانب تنموية تقدمية، لكن في النهاية تغدو البضائع هي الأساس، وعمليات تسويقها، وتنافسيتها، وقدرتها على اختراق الأسواق المحلية والعالمية.
إن الهياكل البيروقراطية تؤدي إلى تخلف البضائع وتدهورها، فالسكان مضطرون لشراء السلع الرديئة حيث لا تأتيهم سلعٌ خارجية، وتقوم الدولة هنا بسرقة المنتجين والمشترين على حد سواء.
فالعمالُ يصنعون هذه البضائعَ بأجورهِم الهزيلة ثم يشترونها بمبالغ كبيرة، ويُمنع هنا نقد البضاعة السيئة، وكذلك إحتجاجات العمال ضدها وضد الأجور المنخفضة!
هذا يقود إلى إستزافٍ اقتصادي، فالبيروقراطياتُ المعجبة بنظامِها الإنتاجي، تؤبدهُ ببقائِها داخل المؤسسات، وبالرشاوى التي تدفعها للصحافة أو لأعضاء الحزب، وبنظامها السياسي الذي يمنع التكوينات السياسية الأخرى، والتدقيق في العملية الاقتصادية السيئة.
إن تعرض البضائع للتدهور المستمر يتشكلُ من جانب آخر فوق تقسيم عمل دولي معين، أي في ظل شروط الصراع بين الرأسماليتين الخاصة الغربية والحكومية الشرقية، صراعٌ سبقت فيه الأولى الثانية بأشواط طويلة، وعبر شروط المنافسة وبتحكم السوق الحرة وعبر النمو المتدرج لقوى الإنتاج والتقنيات فيها، وعبر إستقلال الثقافة والعلوم عن هيمنة الحكومات.
إن خروج الرأسماليات الحكومية الشرقية من السوق الدولية لا يغدو خروجاً مطلقاً، فهو خروجٌ نسبي مؤقت، بسبب التنمية التسريعية لقوى الصناعة، ولكن ما تتوصل إليه من بضائع مُنتجة داخلها لا يحتك داخل سوقها الوطنية المنفصلة، ولا يتعرض للمنافسات، ولا يتطور عبر السوق، التي تغدو مثل بقية أدوات الاقتصاد كالمصنع والسلعة والإدارة مشكلة بطريقة سياسية فوقية.
هذا يؤدي لتدهور البضائع، ويتوقف تطور المصانع عند بناء المؤسسات الكبرى والبنى التحتية، ثم تتجمدُ العملياتُ الانتاجية، عاجزة عن التطور الرأسي، وتطوير قوى الإنتاج، ويؤدي ذلك لبقاءِ الأجور عند مستوياتها المنخفضة، والتركيز على بيع المواد الخام أو الأسلحة للسوق الخارجية، واتساع التهريب لأسواق هذه الدول، وتغدو المهربات سوقاً إستنزافية وأداة تعرية لجمود التطور التقني في الرأسماليات الحكومية.
وهذا ينعكس على حياة العمال، فمن الحماس للتجارب إلى خبوه، والعودة للدين الذي يمثل مانعة الصواعق في كل العصور، وإلى الأدمان، وعدم ظهور أجيال من عمال شباب ذوي ماهرات عالية وتقنيات رفيعة، واتساع الهوة التقنية والتنافسية بين الرأسمالية الغربية والرأسمالية الحكومية الشرقية.
وتؤدي السياساتُ الجامدة لمزيدٍ من التدهور في الإنتاج، كما تؤدي السياساتُ الذكية والمرنة لتطوراتٍ جيدة على مدى المقاربة مع قوانين إنتاج التشكيلة، ولهذا فإن خروتشوف حاول أن يغير من النظام الجامد على مستوى نقد الماضي، وتحريك الوعي النقدي في السياسة والفكر، مثلما حاول أن يغير الاقتصاد في نواح محدودة، واتجه أغلبها نحو إعادة الاعتبار لبعض قوانين إنتاج البضائع.
(علينا التأكد فيما إذا كان تمويلنا للسد العالي في مصر مربحاً أم لا. لا شك أننا نريد تقوية علاقتنا بأصدقائنا، ولكن هذا مجرد حديث سياسي بحت، حيث يجب أن لا نلقي بنقودنا في الهواء. علينا التأكد بأن المصريين قادرون على الدفع لنا من قطنهم الجيد ومن أرزِّهم)، (9).
(إن خروتشوف هو الأول الذي جعل من تحصيل أعلى معدل للربح هو الهدف الرئيسي للنشاط الإقتصادي، كما استخدم الحساب الرأسمالي “الكلفة – الفائدة” وتعديل الأسعار لتمكين هذه المعايير.)، (10)
ترافق ذلك مع آراء الاقتصادي السوفيتي ليبرمان الذي خفتت من المركزية وأعطت للمؤسسات الاقتصادية استقلالها ووضعت أهمية للسوق. لكن لم يترافق مع ذلك أعطاء الفرصة لظهور المؤسسات الخاصة، وإحداث ديمقراطية سياسية وفكرية، ويرتبط ذلك بسيطرةٍ هائلة للبيروقراطيات، التي رفضتْ خلال عقود المشاركة العمالية في ظل النظام، مما كون رأسمالية سوداء باطشة وعصابية، وهو الأمر الذي خفتتْ منهُ الحكومة الصينية، فأحدثتْ تدرجاً في التحول الاقتصادي.
لقد بدأ التحطيم المتدرج للسوق (السوفيتية) المُسيّسة، وللأدلجة البيروقراطية للماركسية، واصبحت العودة للسوق الدولية محتمة، مثلما العودة لقوانين الإنتاج الرأسمالية، فقال خروتشوف بضرورة (دخول السوق العالمية طبقاً لقانون القيمة الدارج في هذه السوق)، ورغم الردة في عهد بريجنيف إلا أن كوسيجين رئيس الوزراء أكد على ضرورة؛ (توجيه المشروع ليحقق نجاعة أعلى، ويبدو أنه من الأفضل استخدام مؤشر الأسعار).
لكن هذه التحولات الجزئية في نظام الرأسمالية الحكومية السوفيتية لم تعبر كذلك عن فهم طبيعة المنظومة السوفيتية، التي فـُهمت بأنها نظامٌ إشتراكي يعاني من بعض الاختلالات في طريقه نحو الشيوعية في حين إنه نظام رأسمالي حكومي ذو صعوبات كبيرة في التطور وفي فهم العملية الاقتصادية، ويحتاج إلى ديمقراطية عمالية كان قد فقدها في تلك السنوات الثلاثينية خاصة، ولأن العمال المتخلفين تقنياً وفكرياً ومستوى القوى الإنتاجية المتخلفة لا تبني الاشتراكية عامة وربما لو وُجدت كانت قد أصلحت بعض الشيء من الكوارث التي انفجرت في خاتمة المطاف.
اكتشفت الرأسماليتان الغربية الخاصة والشرقية الحكومية وحدتهما المشتركة عبر الصراع والتطور التاريخي المتداخل، وعبر التهام الطبقات العمالية بكل شكل ولون.
وما كان تبايناً شديداً تم رؤية نسبيته، وكونه مرحلياً في العملية التاريخية المشتركة، فليس النمطان سوى مرحلتين من تطور العملية الرأسمالية العالمية، قامت الأولى في ظلِ سيطرتها على المواد الخام والعمال والأسواق الواسعة، بشكلٍ مبكرٍ نظراً لظروفٍ خاصةٍ بالقارة الأوربية والقارة الأمريكية، وكان إنتاجها المتميز المتطور في القرنين 19 و20 هو ثمرة لتلك التراكمات على أصعدةِ قوى العمل والعلوم.
ولم يكن لحاق الرأسماليات الشرقية الحكومية تحت واجهات سياسية، وبدعوى رفض الطريق الغربي، نظراً لجراح الاستعمار وللجذور القومية والدينية المنتهكة من قبل القوة الأولى، سوى شكلٍ آخر للرأسمالية حاول اللحاق بالشكل الأول وتجاوزه والظهور بمظهر المجدد المتميز المختلف.
وكانت الرأسمالياتُ الغربية، التي ضمتْ كذلك رأسماليات خاصة فتية في قارةِ آسيا، قد دخلتْ في حقبةِ النصف الثاني من القرن العشرين عصرَ الثورةِ التقنية والمعلوماتية، وكان هذا العصرُ قد كشفَّ بوضوحٍ قيادة الرأسمالية الغربية – اليابانية للتطورين الاقتصادي والعلمي في العالم، وعجز الرأسماليات الشرقية بسيادات الدول البيروقراطية، عن اللحاق ليس بالمستوى الجديد من تطورها بل وحتى بالمستوى القديم.
ولم تكن هذه سيادة في الفراغ، بل كانت سيادة بضائعية متطورة من نوع جديد، وإستغناء عن الكثير من المواد الخام، وعن الكثير من المصانع القديمة، وهي كلها أمورٌ فجرتْ العديد من أغلفة الأنظمة الشرقية الاستبدادية.
أخذت التطوراتُ الجديدة تغزو المنظومات الشرقية المتعددة المستويات، فتتخلى هذه عن الاقتصاديات القديمة المتكلسة، وتحررُ أقساماً من الاقتصاد، وتسمح بقطاعات خاصة كبيرة، وتقوم بتقليد السلع الغربية المتطورة، خاصة في بلدان الصين وروسيا وجنوب شرق آسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدول، وكما هي العادة فقد لعبت قوى العمل دورها في تفجير طاقات هذه الدول، ونقلها لمستويات تطور جديدة.
إن ضعف الأجور وتدنيها لعبَ مرة أخرى دوره في تفجير هذه الطاقات، وفي انتقال الثورة التقنية للدول الآسيوية ذات القوى العمالية الواسعة، والأسواق الكبيرة، وهذا أثرَّ بدورهِ على وضع العمال المتميز في دول الغرب.
قامت العديد من الشركات العالمية بالانتقال لدول مثل الهند تجد فيها حريات اقتصادية واسعة وقوى عمل هائلة ورخيصة ومتقدمة.
إن العملية الرأسمالية المتطورة بوصولها لدول الشرق اطلقت كبيرة فيها، وانتقل جانبٌ كبير من التحديث إلى الشرق، وبهذا حدث تداخلٌ على مستوى جديد بين الرأسماليتين العالميتين، وهو تداخل مباشر وعالمي مختلف، فلم تعد الرأسمالية المتطورة الغربية ذات مكان جغرافي محدد محصور برقعة جغرافية، بل صارت كونية، ولكنها كونية مرتبطة بالأجور وتدنيها، لا برتفاعها وتطورها، إلا إذا اعتبرنا أن العمال في بعض دول الشرق حصلوا على أجور مترفعة قياساً لما تقدمه الرساميل المحلية.
لكن هذا التداخل بين الرأسماليتين العالميتين يمثل حلقة جديدة من التطور التاريخي للمنظومة الرأسمالية المعقدة والمركبة، فنحن هنا أمام رأسمالية ذات مستوى متطور ورأسمالية ذات مستوى متخلف تصطدمان بقوة خلال بضع سنوات، مما ولدت ظاهرات بالغة الحدة والثراء والتنوع والخراب كذلك!
كوكبان يصطدمان ويولدان جسماً ثالثاً، قد يكون مسخاً وقد يكون وليداً جديداً ذا تكوين انتقالي لرأسماليات حكومية ديمقراطية، يلعب فيها العمال دوراً مغايراً مختلفاً عن دور البقرة الحلوب ويشاركون في الحكومات على أساس كونهم ممثلين للطبقات العمالية بشكل حقيقي وليس أدوات للطبقات الاستغلالية المتوارية تحت يافطتهم.
وفيما تزدهر الهند بشركات التقنية المتطورة، فإنها لا تزال تعيش ريفاً إقطاعياً متخلفاً، فيما تغدو الرأسماليات الحكومية على نمط روسيا والصين أكثر قابلية للتطورات الثورية في وسائل الإنتاج العصرية، فيما تتزعزع بعضُ الرأسماليات الغربية الكبرى. يطلق زعيمٌ ألماني من جمهورية ألمانيا الاتحادية على الرأسمالية في بلده بأنها (رأسمالية الجراد!)، ويقول:
(في الآونة الأخيرة بلغ هذا التناول الانتقادي الجديد للرأسمالية ذروته في سلسلة من الهجمات التي شنها زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي فرانتز مونتيفيرينج . فقد اتهم رجال الأعمال الذين ينقلون الإنتاج إلى الدول ذات الأجور المتدنية بأنهم يؤكدون بهذا على فرط جشعهم وافتقارهم إلى الإحساس بالمسئولية الاجتماعية. ثم شبه مديري صناديق الأسهم الدولية بوباء الجراد الذي يحتل الشركات ويستغلها ثم ينتقل إلى غيرها بعد أن يكون قد أتم عمله التخريبي وأجهز عليها.)، (11).
وفيما تقوم الرأسمالياتُ الخاصة بتطور جديد في دول الشرق المنهكة من السيطرات الحكومية، فإن الرأسماليات الخاصة بحاجة للتغييرات الشعبية والحكومية الديمقراطية في الغرب.
مسارات مختلفان، ومركبان، يرسمان حركة تاريخية مختلفة للرأسمالية العالمية، لا تبدو لنا الآن سوى بضع ملامح من تكوناتها.

الرأسمالية الحكومية الصينية

تمثل الصين تجربة تاريخية فريدة وغريبة، فهي خلافاً لما كان يُسمى(الدول الاشتراكية) والتي لم تستطع القيام بقفزة صناعية كبرى بفضل مواردها السلمية، أستطاعت أن تصل لمستويات الدول الكبرى الصناعية في خلال نصف قرن.

يقول أحد المسئولين الصينين:
(قامت الصين بدفع الإصلاح والانفتاح بكل الثبات على مدى الـ25 سنة الماضية، حيث تم بناء نظام اقتصاد السوق الاشتراكي وتكوين اقتصاد الانفتاح، وازدادت القوة الإنتاجية الاجتماعية والقدرة الإجمالية للدولة وتطورت جميع القضايا الاجتماعية على نحو شامل، وتم إنجاز القفزة التاريخية لمعيشة الشعب من حالة الكساء والغذاء إلى مستوى الرغيد بشكل عام. فخلال 25 سنة من عام 1978 إلى عام 2003، حقق الاقتصاد الصيني معدل النمو السنوي %9,4، وزاد كل من اجمالي قيمة الناتج المحلي (1400 مليار دولار) وحجم التجارة الخارجية (851,2 مليار دولار) واحتياطي النقد الأجنبي (403,3 مليار دولار) بـ10 و40 و2400 مضاعفة على ما كانت عليه في عام 1978. وحاليا، يتربع الحجم الإجمالي لاقتصاد الصين المكانة السادسة في العالم ويحتل إجمالي قيمة التصدير والاستيراد المرتبة الرابعة في العالم)، (12).
تشير عبارتا (تكوين السوق الاشتراكي) و(اقتصاد الانفتاح)، إلى الهيكلين اللذين رأيناهما في اقتصاديات الدول الشرقية عموماً، حيث جهاز الدولة الذي سيطر خلال عمليات التنمية والتغيير، وشكل القطاع العام، وكذلك إلى هيكل الاقتصاد الخاص.
لقد حاول ماو تسي تونغ أن يخلق اقتصاداً عاماً كلياً خالياً من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وأن يقوم بقفزة اقتصادية على هذا الأساس وعارض بقوة ظهور وتوسع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وكانت الثورة الثقافية التي قادها قد رفعت شعارات القضاء على البرجوازية، اقتصاداً وثقافة، وفي سبيل ذلك اضطهد الكثير من قيادات الحزب، لكن النزوع نحو ظهور البرجوازية كان قوياً في الاقتصاد والسياسة.
(في عام 1979، بدأت الصين تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، لاكتشاف طريق جديد للتنمية الاشتراكية ودفع التحديث بكل القوة) (من حديث السفير السابق الذكر)، أي أنه في هذه السنة تم حسم خيار التطور الاجتماعي الصيني، واتسع حضور القطاع الخاص جنباً إلى جنب القطاع العام المسيطر.
علينا أن نتجاوز مصطلحات القادة الصينيين ونحن نفسر مثل هذه التحولات الكبرى، فما قامت به الصين عبر ماو كان تشكيلاً لرأسمالية حكومية عامة كلية، وكانت الأجور المنخفضة، والتأميمات، والتعاونيات، وتوسيع الزهد والاكتفاء ب(صحن الأرز)الوحيد لكل صيني، والتي سُميت عبر الطرح السوفيتي ب(إشتراكية الثكنات العسكرية) كان تراكماً رأسمالياً أولياً، والتراكم البدائي قانون كلي عام في التجارب الرأسمالية غرباً وشرقاً، كما رأينا في التجربة الروسية، وهكذا فإن نشؤ الرأسمالية الحكومية كان قوياً، وواسعاً، عبر خلق قوى الإنتاج الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الوطنية العامة، ثم توقف عن التطور النوعي نظراً لحبس الملكية الخاصة، وجمود الملكية العامة. أما كيف ظهر قادة صينيون من قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وألغوا التجربة الماوية، فهو أمرٌ يظل غامضاً ولم يُطرح في الأدبيات السياسية الصينية بوضوح. لكن كان يظهر في المسار الصيني قوة التوجه القومي في الحزب، والبحث عن حلول للتطور الاقتصادي من خلال ظروف الصينيين، وليس عبر نسخ مستوردة، وكان الحزب يعيش بين الجماهير كالسمكة في البحر كما يقولون، فقام بتجديده الكبير من خلال هذا الاهتمام بمصالح نخب الحزب والدولة والجيش وبمصالح الناس، فزاوج بين القطاعين العام والخاص.
ولا شك أن البرجوازية التي حاربها ماو طويلاً وهجس بها موجودة داخل القطاع العام، وهي التي زاوجت وقادت تشكيل القطاع الخاص الهائل، لكن تظل الحكومة في يد المسئولين(الشيوعيين)!
ولا تستطيع هذه البرجوازية الحكومية – الخاصة، أن تقذف البلد في تجربة رأسمالية على النمط الغربي دفعة واحدة، ومن هنا فهي تتخندق في (الحزب الشيوعي)،الذي يجمع بين الملكيتين، ويرفع من مستوى معيشة الشعب، ويشكل كذلك فئات برجوازية مرفهة.
مذا يحدث للثقافة (الشيوعية) التي كانت تـُحفظ حتى لأطفال المدارس؟ تظهر المصطلحاتُ السابقة الذكر المزودجة تعبيراً عن كل شيء مزودج في الصين، وعن هذا الخيار الثنائي المعقد؛ إنها مصطلحات(اقتصاد السوق الاشتراكي)، و(سياسة الانفتاح).
فيتم تخفيف الحديث إن لم تـُـلغ تماماً الكلمات عن زوال الطبقات، وإزالة البرجوازية، وزوال الأجهزة الحكومية القامعة، وتنتشر ثقافة مزدوجة، ثقافة البرجوازية الحكومية المسيطرة وظلالها من ثقافة رجال الأعمال الغربية، وهناك ثقافة الشعب العادي الخافتة والذائبة في ظل سيطرة الطبقة الحاكمة بفرعيها العام والخاص.
وكما حدث للماركسية في روسيا عبر خفوتها وتحولها إلى نمطية بيروقراطية، يحدث هنا ذلك، مع بقاء (الماوية) كشكلٍ منافس للماركسية الحكومية وقد صارت ليبرالية شمولية.
يجادل بعض الكتاب اليساريين بأن ما تم في روسيا والصين هو تجربة إشتراكية، وأن ما يُسمى بإصلاحات الصين الأخيرة هو هدم لتلك الاشتراكية.
(هُدم الانجاز الاقتصادى التاريخى المتمثل فى الثورة الزراعية الصينية التى لم تحرر مئات الملايين من البشر فى ذلك البلد من أسار العلاقات الاقتصادية الاقطاعية فى منتصف القرن العشرين فحسب، بل نقلتهم فى النهاية الى اعتاب الاشتراكية؛ وكيف تم هذا الهدم بصورة فوضوية تحت دعاوى نظرية تطوير القوى المنتجة تحت ستار تحقيق “اشتراكية ذات خصائص صينية”، ذلك الشعار الذى صار مثاراً لتهكم العمال الصينييين الذين حرّفوه الى شعار ” بل هي رأسمالية ذات خصائص صينية”. فبعد شروع الحزب الشيوعى الصينى فى التحول لبناء الاشتراكية فى الستينات من القرن الماضى كان جوهر الصراع، فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، داخل الحزب والدولة فى الصين هو صراع بين دعاة نظرية تطوير القوى المنتجة كيفما اتفق، والمدافعين بقيادة ماو عن ضرورة التغيير الاجتماعى الجذرى لاحداث ثورة فى القوى المنتجة. كان هذا جوهر الصراع، الا انه ظل، بين الفينة والاخرى، يبرز متستراً بأشكال مختلفة من الخلافات الفكرية والآيديولوجية.) ، (13).
إن تشكيل الرأسمالية الحكومية يبدو بشكل إشتراكي، وقد عملت لبناء ذلك الشعار القوى العمالية والفلاحية بتضحيات جسيمة، ولكن أشكال حكم هذه القوى الشعبية التي ظهرت في بدء الثورة يُلغى لصالح الأجهزة الحكومية، وهي التي تقود عملية الرسملة، مثلما جرى ذلك في التجربة الروسية وأن كانت الصين أقل دموية وأكثر اهتماماً بشعبها وبعدم الخوض في صراعات عالمية ذات خسائر جسيمة، ومثلما جرى ذلك في تجارب التحرر الوطني، والبناءات الوطنية المغلفة بمصلحة الشعب والقومية والدين ثم تكشفت هوياتها الحقيقية.
ولهذا فإن الحديث عن جمهورية الصين الديمقراطية ذات التعددية، لم يستمر طويلاً بل هيمنت اللجان العليا في الحزب الشيوعي الصيني على المجتمع، وتحولت لجنين قيادة الرأسمالية بشكليها العام والخاص.
لقد حدث المسار الديمقراطي بشكل وميض سريع أثناء شعارات مثل(دع مائة زهرة تتفتح)، ولكن نشؤ الملكية العامة والإدارة العامة والحزب الواحد يؤدي إلى الرأسمالية الحكومية البيروقراطية بشكل عادي كما جرى في التجارب ذات التركيزين الاقتصادي والسياسي الحكوميين.
فتنبثق الرأسمالية الخاصة كحل لانسداد الطريقين السياسي، بغياب مشاركة العمال في الحكم ومنظماتهم، وكانسداد اقتصادي بسبب تحجر الملكية العامة.
إذن (دكتاتورية البروليتاريا) في الشرق هي شكلٌ من أشكال نمو التجربة الرأسمالية الحكومية، ولو أنه انبثقت تجربة ديمقراطية شعبية حقيقية وحافظت على النمو الاقتصادي المتصاعد وكذلك على المشاركة الديمقراطية لمختلف القوى الاجتماعية، لحدث الوصول إلى رأسمالية دولة ديمقراطية، وهي شكلٌ أولي لظهور الاشتراكية. لكنها تفتقد هنا عوامل القفزات والتسريع الذي تطلبه كل قومية عملاقة ذات مصادر طبيعية غنية وشعب هائل والتي يقودها حزب واحد دكتاتوري عموماً.
بمعنى أن (رأسمالية الدولة) الديمقراطية لا تصبح مجرد حصالات لظهور الرأسماليين من قنوات الحكم كما يحدث في دول الشرق عموماً، بل تتم مراقبة الدولة وأجهزتها بشكل شعبي، وتظهر رأسمالية خاصة في النور ولكن أملاك الناس العامة يتم الحافظ عليها وتطويرها.
ولكن الدكتاتورية الشخصية لماو والسياسية للحزب والاقتصادية للقطاع العام، جعلت هذا مستحيلاً، وكرست ثقافة سياسية مسطحة ذات لون واحد.
الآن يبقى مسار جمهورية الصين المستقبلي غامضاً، فرغم النتائج الكبيرة في الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية، فإن التطور غير مراقب من قبل الجمهور، والبلد تفتقد إلى الأحزاب والصحافة المختلفة مع الدولة والحريات الديمقراطية بشكل عام.
والإنجازات إذا لم تراقب فإنها تضمرُ بعد سنين وتتحول الفوائض الكبيرة للحصالات الخاصة، وللتبذير.
ويتراكم الفقراء والمعوزون والعاطلون في جانب وتتضخم الملكيات الخاصة للرأسماليين، ثم يحدث صراع كبير حاسم، أما بإستكمال مسيرة رأسمالية الدولة باتجاه ديمقراطي إشتراكي أو يغدو المجتمع رأسمالياً صرفاً، تتفجر فيه صراعات قومية واجتماعية حادة.
وما دامت الدولة قادرة على توفير العمل للأغلبية وهي أغلبية هائلة جداً، فإن الناس سوف تسير وراءها، وإذا وجدت في أجهزة الحزب والدولة قوى تواصل النهج الاشتراكي الديمقرطي فإنه سوف تقلل من الكوارث التي سوف تحدث في حالات الاستقطابات الاجتماعية في بلد واسع وخطير مثل الصين.

الرأسمالية الحكومية في الهند

رغم ضخامة السوق الوطنية الهندية، وكثافة القوى العاملة ذات الأجور الزهيدة، فلم تستطع الهند القيام بتجربة مماثلة للرأسماليات الحكومية في كل من الصين وروسيا، وقاربت تجربتها تجربة بعض الدول العربية كمصر، رغم توجهها لحكم علماني ديمقراطي.

يعود ذلك للطابع المسالم لتجربة حزب المؤتمر والتي كانت تعني تداخلات بين الفئات الوسطى القائدة لهذا الحزب وطبقتي الإقطاعيين الزراعيين والدينيين، وهو أمرٌ ماثل حراك الفئات الوسطى المصرية منذ الوفد حتى الضباط الأحرار، ومن هنا جاء اللقاء في كتلة عدم الانحياز.
لكن مسائل التشابه تعود لقضايا أكثر تعقيداً وبشكل أوسع وبطريقة تلاق غريبة، فقد قام حزب المؤتمر بعد الاستقلال عام 1948، بتأميم صناعات عديدة وأنشاء القطاع العام في العديد من الصناعات، في مشابهة أخرى للتجربة المصرية.
يقول تقرير عن المشكلة الاقتصادية للهند بالرؤية التالية:
(ويرى كثير من الخبراء الهنود والأوروبيين أن هذا النمط التنموي الموجه ظل يعمل بكفاءة طيلة فترة حكم نهرو، حيث نجح في خلق قاعدة صناعية واسعة ومتنوعة، فضلا عن تحقيق قدر كبير من الحرية للاقتصاد الهندي في مواجهة التبعية الخارجية. ويذهب البعض إلى أن الفضل في ذلك يرجع إلى ما كانت تتمتع به النخبة الهندية في ذلك الوقت من رؤية للتحديث، مما ساعدها على التوظيف الأمثل لموارد الدولة المتاحة واستثمارها في القطاع العام الصناعي. ومع هذا تظل نقطة الضعف الأساسية في هذا النمط التنموي في أنه لم يكن مصمماً على افتراض ضرورة التصدير للأسواق الخارجية، استناداً إلى اتساع السوق الداخلي الهندي والوفاء باحتياجاته من السلع والخدمات. وبالتالي فإن بؤرة تركيزه انصبت على تحقيق طفرة إنتاجية كمية وليست نوعية عالية للصناعة الهندية، وهو ما أدى بدوره إلى ضعف قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية.) ، (14).
رغم صوابية هذه النظرة إلا أنها تبقى جزئية، فالقضية أكبر من ضعف القطاع العام الصناعي، فالثورة الصناعية تفترض ثورة في الإنتاج الزراعي وتغلغل المكننة في الريف، وهذا ما لم يحدث، بل تـُرك الريف في تخلفه وبسيادة الإقطاع داخله، وبكل فسيفساء القوميات وهيمنات رجال الدين الكثيرين والسحرة وغيرهم وهذا أمرٌ ينفي الثورةَ العلمية الرديف الثقافي للتصنيع في المدن والأرياف. وبهذا فإن المدنَ الهندية الكبرى تعرضتْ لموجاتِ الهجرة من الريف نحوها وملئها بالعمالة الرثة وببحر من المقتلعين والمهمشين وبمدن الصفيح، فنجد شيئاً من المشابهة هنا كذلك مع الاقتصاد المصري والعديد من إقتصاديات الدول العربية والإسلامية.
وبدلاً من ذلك لجأت الحكومة الهندية إلى عمليات واسعة لاستصلاح الأراضي حققتْ شيئاً من الفوائض الزراعية لسنوات، لكن الإنتاج الزراعي ظل راكداً.
إن فشل القطاع العام الصناعي كان متوقعاً، أولاً بسبب جزريته وسط المحيط الزراعي الحرفي القروي، وثانياً لضعف الموارد التي كانت سوف تأتي من عمليات إصلاح الريف، وثالثاً للفساد والبيروقراطية داخل هذا القطاع.
وبهذا فإن تجربة (الإشتراكية) الهندية استنزفت الموارد وعجزت عن القيام بتحولات جذرية في القطاعات الاقتصادية الكبرى، فحصلت أحزاب اليمين على فرصة لرفع شعارات الخصخصة، وتغيير التحول الاقتصادي بجهات جديدة.
إن الهند وهي تشكل نظاماً إنتخابياً حراً، لم تستطع أن تقوم بإصلاحات شبيه بإصلاحات ستالين وماو، في إستنزاف الريف وإستخراج الفوائض منه، لتوسيع الصناعات الكبرى، ولم يكن ذلك ممكناً عند أقطاب المؤتمر وأساسهم الاجتماعي البرجوازي الوطني، فحاول المؤتمر أن يوازن ويحتفظ بدور الأب السياسي الراعي للطبقات المحافظة، والفقيرة على حد سواء ، وهذا محالٌ إلا في فترةِ توازنٍ اقتصادي مترجرجة بين الطبقات الأساسية، لكن الطبقات الفقيرة تنمو بمعدلات هائلة، والتصدير ضعيف، والصناعات مُستنزفة بيروقراطياً، فكان مجيء اليمين والأحزاب الهندوسية الدينية، والتوجه لتصعيد دور القطاع الخاص، كقيادة للاقتصاد. وقامت هذه بإجراءات الخصخصة الواسعة بدءً من أوائل التسعينيات.
لكن مقاومة القوى البيروقراطية والنقابية العمالية والتقدمية كانت تتصدى لعملية بيع القطاع العام أو إلغاء دوره، وأيدت عملية إزدواجية القطاعين، فتنامت إجراءات الخصخصة والتحولات الانفتاحية:( وقد كان التدرج والحذر هما سمة التحول، وليس أدل على ذلك من أن قطاع التأمين لم يتم تحريره أمام المستثمرين الأجانب إلا في أوائل عام 2000، كما لم يتم التحرير الكامل لسعر صرف الروبية الهندية إلا عام 1993.) ، (15).
إن الفئات البرجوازية التي تشكلت في القطاع العام وجمدته وجمدت الثورة الزراعية تحالفت بعد ذلك مع الفئات البرجوازية الجديدة الصاعدة من الأحزاب الدينية والبرجوازية الكبيرة، ومع القوى اليسارية أيضاً، لمواصلة وتوسيع تغلغل الرساميل الأجنبية، (من قبيل إعطاء حق التملك الكامل للأجانب في مشروعات(الطرق والسياحة والصناعات البترولية وتوليد الطاقة) أو الحق في تملك 49% من قطاع الاتصالات و51% في الصناعات الدوائية، فضلا عن كثير من القطاعات الأخرى التي أصبحت الموافقة عليها بصفة آلية مثل الكيماويات والتعدين والنقل والغزل والنسيج)، (16). وكانت العملية الأكبر والهائلة هي في خلق مراكز البرمجة والمعلوماتية.
لقد تهمشت الرأسمالية الحكومية بعد عقود الجمود، فقاد اليمين المتطرف الهند مرة واليسار مرة، في تناوب اجتماعي اختفى منه حزب الوسط التاريخي مؤسس (الإشتراكية) والرأسمالية الحكومية الهندية!

الرأسمالية الحكومية في أمريكا اللاتينية

تجربة كوبا

تداخل النضال من أجل التحرر الوطني بالنموذج الاشتراكي في كوبا تداخلاً شديداً، فلم يكن التخلص من الدكتاتورية السياسية السابقة يهدف فقط لمجتمع ليبرالي متحرر من السيطرة الأجنبية ومن حكم العسكر والإقطاع. كانت تحمل نموذجاً مبهماً ومضموناً راح ينمو بشكل عسير ومتحول وعنيف.

فكوبا تقع على بعد خطوات من أكبر دولة مهيمنة في العالم، وراحت تتحداها وتشكلُ نموذجاً مغايراً صلباً وذا حماسة ثورية فائقة!
وعلى الرغم من التغييرات الاجتماعية الثورية التي قامت القيادة الكوبية والمؤامرات الأمريكية الخارجية المستعينة باللاجئين إلا أن الحكم لم يتزعزع.
ثم أضيف إلى هذه التدخلات العسكرية تبدل المنظومة(الاشتراكية) وسيرها نحو خطوات تحولية مغايرة، أطلقت التعددية الحزبية والصحافة الحرة وحكم البرلمانات وكوبا رفضت ذلك كله!
وكان غياب الاتحاد السوفيتي سنة 1990 يعني على المستوى الكوبي زوال مساعدة تبلغ عدة مليارات من الدولارات تـُعطى سنوياً لجزيرة (المقاومة والحرية) كما يُطلق عليها!
ولكن غياب هذه المساعدات وتبدل التجارة الجيدة مع سوق الكوميكون (سوق الدول الاشتراكية) لم يقد كذلك إلى زوال حكم الحزب الشيوعي الكوبي ولا إلى انفجار اجتماعي كاسح من الشعب، رغم أن أزمة البلد الاقتصادية بدءً من أولائل التسعينيات كانت قوية مشهودة في المرئيات الإعلامية العالمية بصور الهاربين في القوارب والغارقين في المحيط والواصلين بعسر إلى شواطئ الدولة العدوة من جزيرة الحرية!
تعود صلابة الحكم في كوبا إلى قيامه بإجراءات اجتماعية جذرية، فقد سلم الأراضي الزراعية للفلاحين، وسلم المصانع والمتاجر للعمال، وصار هؤلاء المنتجون مالكين حقيقيين لقوى الإنتاج الرئيسية، ومسئولين عن منجزاتهم، وأي عودة للمنفيين الكوبيين يعني إستعادة هذه الأملاك، وبالتالي إحداث إضطراب مخيف. فجعل الحكم هذه الجماهير على مدى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مالكة ومسئولة ومعسكرة بمليشياتها وجيشها ضد أي تدخل أجنبي.
بل هي كانت تقدم خدماتها العسكرية عبر القارات وخاصة في أفريقيا وتساهم في دحر قوى معادية للثورات الوطنية فيها.
هذه الأحزمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية مربوطة بأدلجة كفاحية مضحية زاهدة تجعل هذه الجماهير في حالة إستنفار دائم.
هذا الصمود الأسطوري تشكل على مدى العقود بلافتة النظام الاشتراكي، وهي لافتة تشيرُ إلى سير المجتمع الحتمي نحو زوال الطبقات والملكية الخاصة وأجهزة الحكم القسرية وما إلى ذلك من مصطلحات الرؤية (الماركسية – اللينينية) التبشيرية بتحقيق الاشتراكية بدون أدوات الرأسمالية.
إن هذه الرؤية الملتحمة بين الحرية الوطنية والإجراءات الاجتماعية التأميمة والإصلاحية الزراعية، غدت هي فكر الدولة ووجودها، وحياة الناس، وأي استعادة للأرض مثلاً من قبل المالكين القدامى من بين أصحابها المالكين الجدد يعني الحرب الأهلية، وسواء جاء الملاكون القدامى عبر التدخل الأجنبي أم عبر صناديق الاقتراع فإن الأمر واحد.
وتحولت هذه الرؤية والمصالح الشعبية إلى دولة لا تقبل برؤية أخرى وهي على خندق المجابهة المستمرة، فصارت الدولة هي دولة الرأسمالية الحكومية الوطنية، ولكن بعد لم يتحول موظفو الدولة إلى المالك الحقيقي، ويبعدوا الناس عن الفيء العام كما نقول بلغة الفقه الإسلامي.
وهذا الفيء صار تعليماً وعلاجاً مجانين في كل الظروف والمراحل، وهو أمر أدى إلى مزيد من التلاحم بين هذا الشعب الفقير الذي توزع عليه الخيرات العامة المحدودة بشكل متقارب، ولكن هذا لا يعني أن الوزارات لم تبدأ بالانفصال عن الجمهور، وأن الفساد لم يظهر.
ولكن تلك الرؤية المشار إليها سابقاً تصدعت في مركز إنتاجها في روسيا، وأنعكس ذلك ليس بشكل فكري فقط بل بشكل مالي حاد أيضاً، وتلك العقود المحمية بمساعدة الرفيق الأكبر انتهت، والأزمة الاقتصادية وصلت إلى كوبا بعنف.
وفي العقود السابقة وضعتْ كوبا أسسَ قاعدتها الاقتصادية، وتخصصت في إنتاج سكرها ومعدن النيكل والتكنولوجيا الحيوية والصناعة الطبية الالكترونية. وهي كلها لا توفر تطوراً واستقراراً أقتصاديين، ولهذا تنامى العجز وزادت مشكلات الفقر.
فـُطرحت أسئلة كبيرة على التجربة ومدى صحتها، وكيفية تجاوز مشكلاتها، وهل يتم التوجه نحو التجربة الروسية وتحولها أم تستمر كوبا على نفس النظام بدون تغيير أم يحدث الخيار الثالث وهو الخيار الذي أتبعته تجارب مثل فيتنام والصين؟ فكان الاتفاق على الخيار الثالث الذي يواصل تجربة مقاومة الجار الثقيل، وقد طرح سياسيو كوبا ومفكروها آراءً تؤدلج رأسمالية الدولة الوطنية هذه وتقول بأن الماركسية المتبعة لديها ليست جامدة بل تتطور عبر أزمات الواقع وتبدلاته، دون أن تلغي الأساس الاقتصادي الذي صار الهيكل العظمي للدولة، بل تحسنه لمزيد من الانجاز، كما أن الأساس الفكري للحكم وهو الاشتراكية سيظل متبعاً، وأن تفاوت الثروة المتصاعد لن يلغي هدف المجتمع لإزالة الطبقات، وبالتالي لن يسمح للقوى البرجوازية الصاعدة عبر هذه الإصلاحات في الوصول للسلطة. لكن كيف يتم زوال هذه القوى الجديدة المطلوبة اقتصادياً؟ وإلى أين ستوجه نموها؟ وهل سيبقى البلد بعد هذا بلد الحزب الواحد؟ وهل لن يحدث تداخل وتحالف بين القوى البيروقراطية المتحكمة في الأجهزة ومنافعها وبين هذه القوى المالية الجديدة؟
عموماً انطوت صفحة معينة من تاريخ كوبا وانفتحت صفحة جديدة ودخلت الرأسمالية الخاصة للاقتصاد المُسمى إشتراكياً.
ظهرت تغييرات كبيرة في الاقتصاد الكوبي بعد سنوات طويلة من تحكم الدولة في الهيكل الاقتصادي العام. فقد جرت إجراءات مالية واجتماعية كثيرة:
(شملت هذه الاجراءات فتح الباب امام الاستثمارات الاجنبية وتوسيع الشركات ذات الملكية المشتركة (بين الحكومة الكوبية والشركات والاستثمارت الاجنبية) وانتقال هذه من قطاع التصدير والاستيراد الى قطاع التمويل الاستثماري والقطاعات المحلية في الاقتصاد الكوبي. وقد أدت الازمة الاقتصادية الى التعجيل في علمية الاصلاع الاقتصادي الذي شمل العناصر التالية:
على مستوى التجارة الخارجية:

  • انفتاح متزايد على رأس المال الاجنبي وازدياد عدد الاستثمارات المشتركة بين الحكومة الكوبية والشركات الاجنبية وتنشيط الاستثمارات الاجنبية (السياحة الدولية، صناعة الادوية، تطوير البيوتكنولوجيا، انعاش انتاج السكر). وقد لاقت هذه الاجراءات نجاحات كبيرة في معالجة الازمة والتصدي لآثارها المدمرة على المستوى الداخلي، كما شكلت محاولة منتظمة ومثابرة في انعاش الاقتصاد الكوبي وادخاله الى السوق العالمية.
  • ازالة احتكار الدولة للتجارة الخارجية
  • السماح بتداول العملات الاجنبية وتحديداً الدولار الاميركي وافتتاح المزيد من مكاتب صرف العملات الاجنبية تحدد سعر صرف هذه العملات على أساس العرض والطلب. وقد صُرّح للمشاريع الخاصة بالتداول بالدولار وتمويل ذاتها مقابل تحويل جزء من دخلها (بالدولار) الى خزينة الدولة. وتشكل الدولارات التي يرسلها المغتربون الكوبيون في الولايات المتحدة الى ذويهم في كوبا الجزء الاكبر من الدولارات التي غزت السوق الكوبية. إضافة الى ذلك، فقد سمحت الاتفاقيات التي عقدتها الحكومة الكوبية مع الشركات الاجنبية العاملة في كوبا، ان تدفع جزءا من رواتب الموظفين الكوبيين العاملين في هذه الشركات بالدولار.
  • تعديلات في الهيكلية التنظيمية للدولة من اجل ضبط العلاقة في التعامل مع الشركات الثنائية والاستثمارات الاجنبية
  • التعديلات القانونية التي صاحبت هذه التطورات الاقتصادية والتي كان من اهمها التعديل الدستوري في يوليو 1992 والذي اعاد تعريف “الملكية الاشتراكية”، والاقرار بظهور شكل جديد من الملكية، وتحديد الملكية وتغييرات اخرى داخل نظام التخطيط الاقتصادي.)، (17).
    هذه عينة من التحولات الاقتصادية الصناعية والمالية خاصة التي جرت في كوبا، وهناك إجراءات في الزراعة التي تمثل جذور التجربة، فقد تم إلغاء سيطرة الدولة على الأرض، وهذا يعني إن ملكيات الفلاحين التي كانت شكلية أصبحت بيدهم فعلياً وقانونياً كذلك، كما عملت الحكومة على تشجيع التعاونيات الزراعية وهي إجراءات تشير إلى خوف الدولة من تنامي الفئات البرجوازية في الريف، بعد جعل تطور الملكية الخاصة قانونياً وفي وسيلة إنتاج مهمة وكبرى في الجزيرة.
    إن الدولة الاشتراكية المفترضة هنا تقوم بتغذية نمو الطبقات المختلفة، فهذا سوف يقوم بخلق إزدهار للفئات الوسطى، ويوسع أعمالها، وتستفيد الحكومة من ذلك عبر الضرائب المستحدثة، وتنامي خزينتها، وقد عمقت ذلك أيضاً عبر إعطاء إستقلالية للمؤسساتها الاقتصادية، التي غدت حرة، وتتعامل مع السوق بشكل مباشر، وتنمي ماليتها المستقلة، وهو أمرٌ سيؤدي إلى تطوير الإنتاج والتقنية.
    ولا تنعدم في مثل هذا الاقتصاد الخاص المتنامي حالات الفساد والتداخل بين الرأسمالين الحكومي والخاص، في ظل تنامي العمليات الاقتصادية المختلفة.
    وبهذا يتشكلُ مساران اقتصاديان مختلفان، متضادان كذلك، ودرجة التضاد وعمقها تعتمد على إدارة الدولة، وهو شأن تقوم به وزارة التخطيط، وبهذا تكون تكونات الفئات الوسطى المالكة محسوبة، ومستثمرة من أجل تطوير القطاع العام.
    لكن هذا يعتمد على الرقابة الشعبية والحرة، وهو أمر لا يتشكل في مجتمع بلا صحافة حرة وبلا إنتخابات وبرلمان حر، ومن هنا فإن العكس قد يكون هو المتواجد والمستمر، أي أن يقوم القطاع العام بتسريب أمواله إلى القطاع الخاص، وحين يصل القطاع الخاص إلى قوة كبرى فإنه يعيد تشكيل التجربة لصالحه.
    (حقق الاقتصاد الكوبي في الفترة الواقعة بين العام 1994 و1999 معدل نمو سنوي يساوي 4.5 % . وفي العام 1995 كان النمو 6.2 %. وفي العام 2000 وصل النمو الاقتصادي إلى 5.6 %. وفي عام 2001 وصل إلى 3%، ولم ينم الاقتصاد أكثر من ذلك حتى الآن)، (18).
    يشير هذا إلى نمو بطيء ومهم وإلى توقف عن التطور اخيراً، فسيطرة الدولة وحجم الاقتصاد ومواده لا تسمح بأكثر من ذلك، وظلت الخدمات الصحية أفضل خدمات صحية على مستوى العالم، وأكبر عدد من الأطباء قياساً للسكان. ولكن بدأت المجانية الكلية تختفي، وبدأت رسوم على بعض الخدمات.
    إن شعارات مختلفة تنمو في المجتمع الكوبي، فالشعارات الاشتراكية ومؤسساتها تخبو، والشعارات الرأسمالية تتصاعد، ولكن نموذج رأسمالية الدولة الوطنية أنتصر ليس على مستوى كوبا بل على مستوى أمريكا اللاتينية التي بدأت بعض بلدانها بإصلاحات عميقة دون أن تتحول الدولة إلى دكتاتور كما في كوبا، وهو ما يشير كذلك إلى أن القارة اللاتينية سوف تصبح سوقاً موحدة ذات خصائص متقاربة، مستقلة عن الهيمنة الأمريكية الشمالية، وسوف تتغلغل الحريات السياسية والفكرية في كوبا أيضاً، ويتشكل نظام جديد مرتكز كذلك على الماضي الثوري.

بقية تجارب رأسماليات الدول في أمريكا اللاتينية

عبر صعود اليسار في أمريكا اللاتينية وإستلام العديد من الأحزاب القومية الاشتراكية واليسارية الديمقراطية عن تنامي حركة التحرر الوطني والتوحد والإصلاحات الاجتماعية في هذه القارة، وهي كلها معانٍ متداخلة معبرة عن تبدلات في هذه القارة.

فمنذ الانفصال عن الاستعمارين الأسباني والبرتغالي والقارة في عملية ديناميكية لإزالة التكوين الإقطاعي الشديد التخلف والجمود، خاصة في ملكية الأرض، ثم واجهت ككل وبصور مختلفة هيمنة الحكومات الأمريكية الشمالية، التي كرست حكم القوى الإقطاعية والكمبرادور وخصصت القارة لإنتاج المواد الخام، وظهرت في خلال ذلك فئاتٌ وسطى واسعة، راحت تطرح رؤى ليبرالية ويسارية عديدة بهدف التغيير الاجتماعي الذي تحقق بأشكالٍ بطيئة ومتضادة، وظهرت تجاربٌ قومية تحررية على أساسٍ استبدادي غالباً وكانت هي أقوى التجارب وما زالت تتمظهرُ حتى في حكومات اليسار الأخيرة.
عبرتْ هذه المضامينُ الاجتماعية القلقة المتتالية عن هواجس مشتركة لدى(اللاتين) في الاستقلال عن هيمنة القارات الأخرى، وعن تكوين قارة متحررة ذات سمات قومية متقاربة، يجذرُ ذلك الأصولُ العرقية التي يؤسسها الهنودُ الحمر المنتشرة في القارة، والأصول القرابية الاستعمارية لشبه الجزيرة الأيبرية، (الأسبانية – البرتغالية)، وهو ما يؤدي إلى إنشطار اجتماعي بين الفلاحين الهنود والأرقاء السابقين، والأقليات البيضاء، التي تشكل غالبية الفئات الوسطى والحكام غالباً، وما يؤسس ذلك الوحدات الوطنية لدى كل شعب، وبمدى تغلغله في عملية الثورة الديمقراطية وحدوث الإصلاحات في الريف وتطور العمال في المدن، وتنامي الصناعات التحويلية غالباً، وهي كلها أمور تخلق تنام للوعي السياسي الديمقراطي.
لم تستطع أمريكا اللاتينية أن تخلق تجربة (إشتراكية) على غرار روسيا والصين، الدولتين الكبريين، تعيد تشكيل التخلف بصور قاسية وسريعة، إلا في كوبا التي عجزت عن ذلك بسبب صغرها وضعف مواردها الاقتصادية وقلت قواها السكانية، وكونها جزيرة مفصولة عن بحر القارة الواسع.
ومن هنا كانت كوبا تمثل هاجساً سياسياً لكل أمريكا اللاتينية وتحريضاً مستمراً على القفزة الاشتراكية المنتظرة وعلى التحرر الناجز والعداء المطلق للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هنا ظهر الرافدان الأساسيان لحركة التغيير في العقد الأخيرمن القرن الماضي وتصاعد حضورهما في بداية هذا القرن، وجاءا من مصادر فكرية واجتماعية متداخلة مركبة معقدة بطبيعة هذه القارة.
كانت التأسيس اليساري القومي الشمولي من الحركات الأولى في القرن الماضي زمن الخمسينيات، وخاصة الحركة (البيرونية)، التي قامت بخلق تغييرات اجتماعية نقلت البلدان اللاتينية درجة جديدة من الصراع الاجتماعي وغدت نسخة مطبقة في بلدان عدة؛ حيث قامت حكومات لاتينية متعددة بتأميم بعض مصادر الإنتاج الرئيسية، ووزعت بعض دخولها على الجمهور الأكثر فقراً، وخلقت بهذا شعبية حماسية للتغيير.
وتمثل هذه الحركات (الاشتراكية) العسكرية والحكومية بداية لصعود رأسمالية الدولة الوطنية، مرتكزة على قيادات قادمة من الطبقات القديمة المسيطرة وتنحو باتجاه تحويل اجتماعي نهضوي يفكك العلاقات الإقطاعية المتحكمة في النسيج الاقتصادي خاصة، ويدعم هذه السياسة العاملون اليدويون والفلاحون بدرجة خاصة، ومن ثم فهي حركات لا تعتمد على تطور عميق في قوى الإنتاج، مما يقود إلى عجوزات مالية وأرتفاع للأسعار وهبوط للأجور، وبالتالي لا تجد هذه الحكومات العسكرية الشمولية، ذات الجمل الثورية الحماسية، آفاقاً كبيرة للتطور، وتسقط بانقلابات مضادة، ويستولي على الحكم ممثلو الطبقات القديمة وممثلو الفئات الوسطى الموالون لهم. وتنتشر في القارة معادة اليسار والشيوعية وتتوسع هيمنة الولايات المتحدة وتكرس الأنظمة الموالية لها، ويصبح اليسار محاصراً في(كوبا) أو مُسقطاً بشكل دموي في (تشيلي) أو مُطارداً يعمل على حروب العصابات في الغابات الكثيفة بكل مآسيها وكوارثها وإنتصاراتها النادرة.
ومع سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت التيارات اليسارية بالأزدهار، فقد سقطت مسألة المعسكرات الدولية المتصارعة، ولم يعد الجمود الاقتصادي والإقطاع الرث بمقبول حتى على المستوى الأمريكي عامة، كما أن التيارات اليسارية خلال العقود السابقة كانت قد أنتشرت في مراكز العمل والإنتاج، وغدت ذات جماهيرية في مناطق الفقر والهنود، كما توسعت الحريات السياسية التي ساعدت هذه القوى على الأنتشار بصورة أكبر، مع تخلي الكثير منها عن أفكارها القديمة؛ أفكار حرب العصابات، و(الماركسية – اللينينية) ورؤى الدولة الشمولية وبدأ إنتاج فكر ماركسي ديمقراطي يستحضر تجارب أوربا الشرقية والرؤى الديمقراطية الإنسانية الغربية خاصة تجارب الاشتراكية الديمقراطية.
لكن مستوى هذا التمثل مختلف، فقد أبرزت تجارب صعود اليسار الرافدين سابقي الذكر، في مؤسسات الحكم، وعكست نهجين مختلفين في إدارة الاقتصاد وفي العلاقة مع الجمهور وفي تشكيل علاقة دولية ولاتينية.
يعبر مصطلحُ(اللاتين) عموماً عن الجذور الدينية الكاثوليكية، وهو أمرٌ يشيرُ للسيرورة التاريخية المغايرة لأمريكا الشمالية، حيث هناك قاد البروستانت الأنكليز والهولنديين والألمان تكوين القارة، فصعّدوا العلاقات الرأسمالية بقوة، خاصة إنها ليست ذات إرث إقطاعي، وغدت موحدة كذلك، في حين حمل اللاتين تراثاً ضخماً من الإقطاع، في قارةٍ مفككة، لم يذبحوا فيها الهنودَ كما فعلوا في الشمال، وهذه الأنسنة والمعاداة للرأسمالية وتحول الشمال إلى مسيطر ومشكل للرأسمالية، وهياج الوحدة القومية – الأممية اللاتينية، حملَ أرثاً (يسارياً) راح يتمظهرُ في كل مرحلة بأشكال.
عبّر الرافدان السياسيان المهيمنان على حكومات أمريكا اللاتينية اليسارية عن عقليتين مختلفتين، عن يسار قديم لم يتشرب الوعي الديمقراطي، وتيار آخر بدأ يدرك نسبية اليسار ومرحلية حكمه، وموقعه في تنشيط العمليات الاقتصادية الرأسمالية والدفاع كذلك عن مصالح الأغلبية الشعبية.
هذه الجدلية في تكوين هذا اليسار الجديد الحاكم لا تعني انتفاء النواقص، ولا التناقضات الاجتماعية، بين أن يكون حاكما وينشط علاقات إنتاج رأسمالية ويدعم قطاعاً عاماً ويعمل على زيادة الإنتاجية، بدلاً من نثر النقود والمعونات على الفقراء، وهو أمرٌ يثير اقصى اليسار، ويعتبره خيانة فيشكلُ يساراً مصارعاً منافساً!
تمثلت تيارات اليسار الديمقراطي في التجارب التالية:
(حزب العمال الموحد” بزعامة (لولا)، عامل الصلب والمناضل العمالى فى البرازيل، و”الحزب الاشتراكى الديمقراطى” بزعامة ريكاردو لاجوس ثم ميشال باشليه (ناشطة حقوق الإنسان) فى تشيلى، و”الحزب الاشتراكى الديمقراطى” فى أورجواى بزعامة تابارى فازكويز (المقاتل السابق فى حركة توباكوموراس). وهذه الأحزاب تتولى مقاليد السلطة فى بلادها حالياً. كما تشهد نيكاراجوا صعوداً متسارعاً لتحالفات يسارية من هذا النوع وإن كانت مازالت فى المعارضة حتى الآن ومرشحة بقوة لتولى زمام السلطة.)، (19).
إن ظهور هذه الأحزاب الحديثة وتحولها عن اليسار القديم ونشؤها من مناضلي حرب العصابات والمثقفين الاشتراكيين الديمقراطيين وطلوعها من مواقع الإنتاج والأرياف، لم يكن بدون أفكار إشتراكية جديدة ديمقراطية، تلاقحت مع النشاط العمالي، وغدت ذات أشكال ديمقراطية في تكوين مؤسساتها السياسية المعتمدة على غياب المركزية المتصلبة، وتعددية المنابر وتكوين وحدة سياسية عملية مؤثرة في الواقع، أي أنها راحت تعمل على فكر سياسي عملي في خدمة الجمهور وفي العلاقة الديمقراطية معه، وكان وصولها للسلطة ليس إنقطاعاً عن تلك العلاقات الجماهيرية، وعبر خلق تحولات لها، لا تضربُ كذلك قوانين الاقتصاد وترعب الشركات الخاصة، وهي تقدم أيضاً تغييرات يحسها الناس في حياتهم المعيشية، بدون الأدعاءات بالقضاء على الاستغلال.
وهناك اليسار القديم المتمسك بثوابت الصراع المطلق مع الولايات المتحدة، وتكوين تحالفات ضدها، وهو يعبر عن نمط تجارب الرأسماليات الحكومية التي كان مشروعها الأول إزالة الرأسمالية وإلغاء الطبقات والاستغلال، وتجسد ذلك في كوبا، وكما رأينا في موضوع سابق، كيف تجمدت التجربة وتحولت نحو نموذج مغاير، ونضيف هنا بأن التجربة الكوبية هي في قلب تجارب النضال القديمة والجديدة في أمريكا الجنوبية، فتجارب اليسار الجديد ترفض حصارها وتقدم المعونات لها رغم إختلافها الفكري عنها، ورفضها لطريقتها السياسية، في حين أن تجارب مثل التجربة الفنزويلية بقيادة شافيز تعتبرها هي النموذج وتقدم لها مساعدات كبيرة غدت مكان المساعدات السوفيتية السابقة.
يقدم لنا أحد الصحفيين المطلعين على تجارب الصراع بين نمطي اليسار ملاحظات نارية في تصوير هذا الصراع، ويكشف المحور اليساري الصاعد وخصمه الرئيسي، فقد برزت:
(مجموعة ثلاثية جديدة من زعماء أمريكا اللاتينية ـ الرئيس الكولومبي ألفارو أوريبي، والبرازيلي لويز إناسيو لولا داسيلفا، والمكسيكي فيليبي كالديرون ـ العازمين على القضاء على أباطرة المخدرات والحركات العصابية المسببة لزعزعة الاستقرار في أمريكا اللاتينية، فضلاً عن عزل زعيم الدهماء مُـحدث النعمة، الرئيس الفنزويلي هيوغو شافيز.)، (20).
إن السياسات الداخلية المعتمدة على الحكم البرلماني النزيه والقوانين التي تدعم نمو الرأسمالين العام والخاص، وبالتالي تقوم بتطوير الدخول الوطنية، تشكل في السياسة الخارجية سياسة تعاون سلمية غير مؤدلجة وغير مواجهة، بغرض تخفيف عملية التسلح والعسكرة وتوجيه الدخول نحو التنمية بصورة أساسية. وهذه تحتاج إلى علاقات حسنة مع كافة الدول بما فيها حكومات الولايات المتحدة المختلفة.
لكن مثل هذه السياسة تقابل بالرفض من قبل حكومات وتنظيمات يسارية أخرى، لا ترى نفسها إلا في مواقع المجابهة.
هكذا فإن رئيس كولومبيا عليه أن يواجه حرب العصابات التي يقودها (ثوار ماركسيون) وتجار مخدرات، ويتعاون مع الدول الأخرى ليضع حداً لمثل هذه التجاوزات.
(لقد بات محور أوريبي – لولا – كالديرون يشكل نفوذاً جغرافياً استراتيجياً لأن الأمور بدأت في التغيير في كوبا منذ سلَّم فيدل كاسترو الرئاسة رسمياً لأخيه راؤول. وأصبحت أمريكا اللاتينية مهووسة بهذا التحول، ويبدو أن أوريبي وكالديرون ولولا عازمون على عدم ترك الزمام لشافيز)، (21).
إن محور رؤوساء الجمهوريات هؤلاء يعبر عن صعود تلك العقليات الجديدة في اليسار اللاتيني، الديمقراطية في علاقاتها بالجمهور ودرايتها بقوانين التشكيلة الرأسمالية في لحظة صعودها الواسع الراهن وتناقضاتها المعقدة في تلك القارة، بما يعزز نموها ويبدل العلاقات الإقطاعية والأبوية والعشوائية في توزيع الدخول ويحافظ على معيشة الأغلبية، ولكنه في أول الطريق، فما تلبث قوى اليمين الليبرالي أن تمسك بزمام السلطات في وقت مغاير، لكن هذه المرحلة تتوجه للصراع مع اليسار الطفولي والدكتاتوري المتلفع بالرايات القومية والمعاداة الشكلية للرأسمالية.
لعل شافيز رئيس جمهورية فنزويلا يمثل نمط اليسار القديم الفاشل في فهم العصر والتحولات والمسبب للكثير من المشكلات لبلده ولمنطقته.
هناك إحتفاء به في الصحافة العربية السائدة بسبب إهتمامها باللغة الخطابية الانفعالية والفارغة في محاربة الأمبريالية ولبقاء الأنظمة التقليدية الدكتاتورية في منطقتنا، في حين إنها لغة تسبب في فنزويلا وفي أمريكا الجنوبية المتاعب للشعوب.
فبدلاً من مساعدة القيادة الجديدة في كوبا للتخلص من نهج الاعتماد على الغير والدول الأخرى، بإعتمادها على شعبها وإجراء تغييرات عميقة في النظام تبعدها عن هذا التسول التاريخي، يصر شافيز على بقائها بهذه الصورة الجامدة، وعلى غياب الديمقراطية والتعددية وحرية الصحافة، باعتبارها أحد المراكز المناؤة لأمريكا ولهزيمتها، وهو في سبيل ذلك يهدر أموالاً كثيرة ويصّعب وضع شعبه. لكن صعوباتها ومشكلاتها الاقتصادية كبيرة:
(وفي وقت سابق من هذا العام (2008) وافق وزير خارجية المكسيك على إعادة جدولة الدين الذي بلغ 400 مليون دولار أمريكي الذي تخلفت كوبا عن سداده.)، (22).
يجري الباحث المصري عمرو عبدالرحمن، مقارنة عميقة بالأرقام بين نظامي شافيز والنظام المكسيكي بالصورة التالية:
(النظرة السريعة تشير إلى تدهور مؤشرات النمو الاقتصادى والتنمية البشرية منذ مجيئ شافيز للسلطة في 1999 بشكل متواصل. وهو ما يتضح من مقارنة تلك المؤشرات مع نظيرتها فى المكسيك، التى شهدت واحدة من أدنى معدلات النمو فى القارة خلال الفترة ذاتها. فخلال السنوات السبع الماضية نما الاقتصاد المكسيكى بمعدل إجمالى 17.5% بينما لم يحقق الاقتصاد الفنزويلى أى نمو على الإطلاق. وفى الفترة بين 1997 و2003 نما الناتج المحلى الإجمالى المكسيكى بنسبة 9.5% على مدى الفترة، بينما انكمش الاقتصاد الفنزويلى بمعدل 45%. وفى المدة بين 1998 و2005 فقد البيزو المكسيكى 16% من قيمته بينما هبطت قيمة البوليفار الفنزويلى بنسبة 292%. وبين عامى 1998 و2004 تقلص عدد الأسر المكسيكية التى تعيش فى فقر مدقع بنسبة 49% فى حين ازداد عدد الأسر التى تعيش فى فقر مدقع فى فنزويلا فى ذات الفترة بنسبة 4.5%. أما من حيث معدل التضخم، فقد قدر بـ3.3% فى المكسيك فى عام 2005 فى حين بلغ نظيره فى فنزويلا 16% فى نفس العام. ولم تمنع هذه الأزمة المالية المستحكمة شافيز من التوسع فى عقد صفقات السلاح مع كل من روسيا وأسبانيا.).
يتبلور النهجان في كون النهج اليساري الديمقراطي لا يضحى بالحريات الاقتصادية والثقافية والسياسية من أجل التنمية، بل يمزج بينهما في توليفة صعبة، تجعل الحكومات من هذا النوع معرضة لمناورات أقصى اليمين وأقصى اليسار، ومن أجل تحقيق خططها في التنمية تجعل الجمهور مشاركاً ومتحملاً المسئولية وتجعل خططها وأعمالها مكشوفة للبرلمانات والصحافة، ولكن عبر هذا يجب أن تحقق ما وعدت به الناخبين من تطور معيشي ونمو في مداخيل السكان وتقليص للبطالة.
أما حكومات اليسار القديم فهي تفرض سيطرة مغايرة على البرلمان والصحافة، وتعود جذور ذلك للبيرونية وهي النزعة السياسية القومية الشمولية والمعادية كذلك للاستعمار والمؤيدة للتأميمات على غرار التجارب العربية(القومية)، ولم يتورع بيرون عن قمع الجمهور وخاصة العمال والقيام بمجازر.
وهذه النزعة على الطريقة الكوبية لا تقبل بالمعارضات، وتقود في نهاية المطاف إلى العجز الاقتصادي لهذه الأنظمة.
(أما إيفو موراليس فى بوليفيا فهو قادم من خلفية شعبوية قحة تدافع عن زراعة نبات الكوكا السام والذى يستخدم فى إنتاج الكوكايين تحت دعوى الخصوصية الثقافية لشعب الإيمارا الهندى الأحمر!)، (23).
مثل هذه الأنظمة عرفناها في منطقتنا العربية وقادت وتقود لكوارث جمة، لكن عبر شعارات فضفاضة عن القومية ومحاربة الأمبريالية.
لكنها تقوي التبعية باستنزاف المصادر الاقتصادية على السلاح والبيروقراطيات والمساعدات غير المبررة لأنظمة وحركات أخرى إستبدادية مثلها.
تتعدد سياسات اليسار الديمقراطي الحاكم في أمريكا الجنوبية، وأغلبها لا يتصادم مع مؤسسات النقد والأمم المتحدة والشركات الكبرى ويحاول تطوير الاقتصاد وحياة الناس من خلال أدوات أخرى لا تلغي عمل الحكومات الليبرالية السابقة، على غرار سياسة لولا رئيس البرازيل:
(ومع وصوله للسلطة استطاع من خلال هذه السياسات تحقيق فائض سنوى فى الموازنة العامة بالرغم من تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد البرازيلى. ومن جهة أخرى، استطاع حزب العمال البرازيلى انتهاج سياسات اجتماعية مبدعة مثل التمويل الاجتماعى للعائلات حسب ارتفاع مستوى تعليم أبنائها وهى المبادرات التى كان حجر الزاوية فيها إدماج مؤسسات المجتمع المدنى. المحصلة كانت قفزة نوعية فى مؤشرات التنمية الاجتماعية مثل التعليم والصحة وخلافه)، (24).
تنوع اليسار الحاكم لو تم بشكل رفاقي يكون أمراً مفيداً، لكن ذلك لا يحدث وتصر وجهات النظر الشمولية فيه على إفشال التجارب الأخرى، ومهاجمتها، مما يقوض سياسات التعاون المشتركة بينها، ويجعل توحد أمريكا الجنوبية على أساس سياسات تقدمية ديمقراطية بحاجة لعقود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
(1) توفى المؤلف ولم نعرف من اين استمد المصدر!
(2) انظر الهامش (1) .
(3) انظر الهامش (1) .
(4):( عن مقالة (روزا لكسمبرغ في مواجهة لينين، فؤاد النمري، موقع إيلاف).
(5): (الخبير الروسي الاقتصادي (ستانليسلاف مينشكوف) : فقرة من كتابه تشريح الرأسمالية الروسية).
(6)(المصدر السابق).
(7): (عادل سمارة (السمينار الفكري الذي عُقد في بروكسل حول التجارب الشيوعية سنة 1995).
(8): (السابق).
(9): (السابق).
(10): (السابق )
(11):(فيرنر– سين ، مدير معهد Ifo للبحوث الاقتصادية في ميونخ).
(12): (من كلمة السفير ووسيكه في مؤتمر ” الصعود الصيني” الذي أقامه مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة).
(13):(من مقالة للسيد محمود محمد ياسين، موقع الحوار المتمدن.).
(14):(من (موقع المعرفة، تطورات الاقتصاد الهندي، بقلم عبدالرحمن عبدالعال).
(15):(السابق).
(16):(السابق).
(17) (مسعد عربيد، مستقبل الاشتراكية في كوبا، الحوار المتمدن).
(18):(السابق).
(19):(عمر عبدالرحمن، موقع البوصلة).
(20):( موقع الصحيفة الاقتصادية الإلكترونية).
(21):(السابق).
(22):(السابق).
(23): (موقع البوصلة).
(24) : (السابق).

الفصل الثالث

الرأسماليات الحكومية العربية والإسلامية

الرأسمالية الحكومية المصرية

كانت للتدخلاتِ الحكومية في الاقتصاد جذورٌ موغلة في القدم في مصر، وفي العصرِ الحديثِ ظهرتْ من خلالِ محمد علي، وتتوجتْ في العهد الناصري، الذي شكلَ قطاعاً عاماً كبيراً.

(وكانت أبرز هذه السياسات قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، والاتجاه إلى التصنيع لاستيعابِ مزيدٍ من العمالة وإنشاء “المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي” أواخر العام نفسه، وبدء الاستثمار الحكومي المباشر من خلاله في شركة الحديد والصلب عام 1954، ثم تأميم قناة السويس عام 1956. ومع تزايد تدخل الدولة بدأ الاتجاه للتخطيط عبر إنشاء لجنة التخطيط القومي عام 1957 بدلاً من مجلس الإنتاج القومي.)، (1).
سيطرة الدولة على القطاع الأكبر من الاقتصاد قادتْ إلى تحولاتٍ اقتصادية واجتماعية كبيرة، وحدثَ نموٌ بمعدلاتٍ متفوقة، (وقد أسفرت تلك المرحلة عن تحقيق معدل نمو بلغ 38% خلال الخطة الخمسية)، (2).
إن توسع قطاعات الدولة كما كان لها دورها في تشكيل البنية الاقتصادية التصنيعية الهامة كان له سلبياته على المدى البعيد كأي قطاع رأسمالي حكومي شمولي، لا تصحبهُ رقابة شعبية ومشاركة للعمال في الإدارة والمراقبة، مثلما تغيّبُ المنظمات السياسية الشعبية والبورجوازية.
يشيرُ الباحثُ المصري عادل غنيم في مؤلفه “رأسمالية الدولة التابعة فى مصر” إلى مأزقِ استراتيجيةِ الاستثمارِ الحكومى الموسعِ فى السوق الرأسمالى. ففى هذا المؤَلف يشيرُ غنيم الى اتجاه البورجوازية المصرية الى التوسع فى الاستثمار الحكومى لصالح مشروعها الدولتى والذى لاقى مساندة من الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى نتاج اعتبارات أيديولوجية وسياسية متعددة. ومع تشكلِ بيرواقرطيةٍ متنفذة من رحم هذه المؤسسات تسعى الى الانتقال لصفوف الرأسمالية كان النهب المنظم أو ما يُطلق عليه فى الإعلام سياسات التخسير هو السبيل الوحيد أمام هذه الشريحة للانتقال لصفوف البورجوازية. ويورد غنيم أمثلة شيقة جداً حول وقوف هذه الشرائح بحزم أمام أى محاولة لإصلاح القطاع العام أو حتى ضخ استثمارات جديدة فى منشآته إذ تشكل أى محاولة لإصلاح هذه المنشآت إخلالاً بالشرط الموضوعى لهيمنتها السياسية والأيديولوجية. وفى المقابل لم يكن أمام التحالف الإجتماعى الحاكم فى هذه الحقبة إلا التوسع فى سياسة المنح والاقتراض من الخارج للابقاء على نفس المستوى من الانفاق الإجتماعى فى حين بقي قطاعُ الدولة خرباً ولم تكن استثمارات القطاع الخاص قد نمت الى الحد الكافى الذى يسمح لها بلعب دور محورى فى عملية التنمية. هذا ما أطلق عليه غنيم رأسمالية الدولة التابعة: نظام للهيمنة السياسية والأيديولوجية لبيروقراطية الدولة العسكرية والأمنية القائم على نهب القطاع العام والتوسع فى سياسة المعونات والديون فى ذات الوقت.)، (3).
إن الفئة البورجوازية الصغيرة العسكرية التي استلمت الحكم في الثورة تصاعد نفوذها وثروتها حتى جاء زمنُ الانفتاح لتغدو فئات وسطى كبيرة عمقتْ النموَ الرأسماليَّ الخاص ووسعتهُ إلى حدٍ كبير لكن عن طريق الفساد السياسي.
وهي إذ حافطتْ على القطاع العام في بعضِ الجوانب وخاصة في مؤسساتِ الجيش والأمن والإدارة العامة والقطاعات التصنيعية الكبيرة، فإنها جعلتهُ مصدراً لبقاء السلطة ولضخ الرساميل إليها، عبر مختلف المشروعات الحقيقية أو الزائفة، خاصة في زمن ما بعد عبدالناصر.
يتساءلُ باحثٌ مصري عن دور الأجهزة الحكومية المتدخلة في الاقتصاد بالصورة التالية:
(• بماذا نسمي تآكل 1.2 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة والذهاب لاستثمار مليارات الجنيهات لاستصلاح أراضى صحراوية؟!
• بماذا نسمي تراجع الإنتاج المصري من القطن وقصب السكر وانعكاس ذلك علي صناعتى الغزل والنسيج والسكر وكذلك علي احتياجات المصريين من هذه المنتجات؟!
• بماذا نسمي تصفية أصول إنتاجية مملوكة للدولة وبيعها كمعدات خردة وأرض فضاء؟ كما تجاوز عدد المصانع المتوقفة عن الإنتاج من القطاع الخاص 800 مصنع حيث أغلق 400 مصنع بمدينة العاشر من رمضان، و151 مصنع بمدينة السادس من أكتوبر، و170 مصنعا بمدينة برج العرب. وكشفَ تقريرٌ صادرٌ عن جمعية المستثمرين بمدينة السادس من أكتوبر أن 29% من المصانع بالمدينة، أغلقت أبوابها بسبب التمويل و11% بسبب الارتفاع الذي شهدته أسعار الخامات.
• بماذا نسمي إنفاق مليارات الجنيهات على قري سياحية ومشروعات عقارية مثل مدن الأشباح بينما انتشرت العشوائيات لتضم 17‏ مليون شخص يعيشون في‏1109‏ منطقة عشوائية في‏20‏ محافظة.
• ماذا يعنى تهريب أكثر من 200 مليون دولار إلي خارج مصر بينما نتسول استثمارات نقدم لها كل التسهيلات ولا تأتي؟!
• ماذا يعنى دخول بنوك القطاع العام في شراكة مع البنوك الأجنبية طوال الثمانينات والتسعينات ثم بيع حصتها بأبخس الأسعار ؟!) (4).
كانت الرأسمالية الحكومية إذن هي بوابة إنتاج كبيرة للرأسمالية الخاصة، وفي الجانب الأول يتفق ذلك مع ظهور الرأسماليات الحكومية الشرقية، التي سُميت بأنها التجارب الاشتراكية وفي هذا الزمن أعطتْ الجمهورَ بعضَ الحقوق، وهو أمرٌ ضروري لثبيت سيطرتها، وتوسيع شعبيتها، وبطبيعة الحال فإن زمن توسع الرأسمالية الخاصة وتحول الرأسمالية الحكومية قيادة لها ومُشكِلة لإياها يكـّونُ هذا الخيلط المرعبَ بين رأسمالية حكومية فاسدة ورأسمالية خاصة تابعة لها. ولكن تغدو الرأسمالية الخاصة لأرباب العمل المستقلين دائماً محل تهميش أو ضغوط وخسائر بطبيعة الحال.
والرأسمالية الحكومية بهذا تجرُ مخلفات الإقطاع معها هنا، وهي سيطرة الوعي الديني المحافظ، وتخلف النساء واللامساواة بين المواطنين، وتشكيل بورجوازية جبانة ذات ذهنية محافظة تابعة للسلطة، خاصة في الأقسام العليا المتواشجة مع عمالقة القطاع العام. فيما تواصلُ بعضُ الفئاتِ الوسطى المعارضة الديمقراطية.
على المستوى السياسي فإن حزبَ الحكومة يبقى هو حزبُ الحكومة مهما اختلفتْ اليافطاتُ التي يرفعُها كالاتحاد القومي فالاتحاد الاشتراكي فالحزب الوطني، وهذا يختلفُ عما جرى في الرأسمالية الحكومية الروسية حيث انفصل الحزبُ الشيوعي عن جهاز الدولة، وغادرَ إمتيازاتها لكونه يمتلكُ تاريخاً نضالياً عريقاً وقيادات صلبة، في حين تشكلَّ للمافيا حزبُ السلطة الخاص، الذي وصلَ للحكم عبر الانتخابات في زمنٍ قياسي! وهذا يدلُ على قوة العناصر التقدمية في روسيا حتى في جهاز حكم فاسد، في حين لم يحدث ذلك في مصر. وكان آخر إطلالة لهذه العناصر فيما عرُف بالتنظيم الطليعي السري في الاتحاد الاشتراكي، الذي ذهب العديد من أفراده للسجن وذهب هو مع الريح.
وهذه السلطة الحكومية الرأسمالية – العامة – الخاصة – المتضافرة مع بقايا الإقطاع الكبيرة في النظام المصري والنظام العربي الإسلامي عامة، يجعل اليساريين المصريين يتساءلون عن إمكانية الفعل النضالي تجاه مثل هذه البنية المشوهة من كل جانب، هل يجري تغييرها من خلال الحفاظ على بنية الرأسمالية وتطويرها أم يجري نسفها وإحلال رأسمالية (حرة) مكانها ويتم فيها إلغاء القطاع العام كلية؟
هناك العديد من الاختلافات والرؤى المتعددة بهذا الصدد.
لقد أخذت بعضُ قوى اليسار المصري تستوعب العملية المرَكـَّبة في تشكلِ الرأسماليةِ الحكومية الشرقية، فلافتات الاشتراكية الوطنية المؤَّدلجة تظهرُ باعتبارِها مراحل لتطور رأسمالية الدولة، وتجاه وضع ومصير هذه الرأسمالية تتباين الآراء.
إن هذا المصير يتعلق بمدى تطور الرأسمالية الخاصة الليبرالية المستقلة عن شمولية الدولة، وبمدى تقدم وضع الطبقة العاملة، ويتداخل وضعا العمال والبورجوازية الخاصة المستقلة تعاوناً وصراعاً. كذلك يتداخلُ هذا كله بعملياتِ التغيير لرأسمالية الدولة الشمولية باتجاه رأسمالية الدولة الديمقراطية. فلا بد من الحفاظ على الصناعات الكبرى العائدة للملكية العامة ومراقبتها وتغيير طابعها البيروقراطي. إنها عملية مركبة ولكن ثمة اتجاهات سياسية عديدة تأخذها بشكلٍ جزئي، وبعدمِ فهم السيرورة التاريخية العامة لهذا النمط الرأسمالي الشرقي من الرأسمالية العالمية.
ويظلُ حجمُ الطبقة العاملة ودورها هنا أساسياً، وقد تطور الوعي التقدمي المصري هنا كثيراً في رصد تاريخ هذه الطبقة ومستوياتها وأقسامها وعبر الأرقام، منذ زمن بعيد.
(بلغ إجمالي قوة العمل فى مصر في أول يناير من العام الحالي ما يزيد عن‏20‏ مليونا‏ًً، وبلغ عدد المشتغلين في القطاع الحكومي نحو ‏5 ‏ ملايين، ونسبتهم من إجمالى عدد العاملين بأجر غير معرضة للزيادة فى ضوء سياسة تقليص التعيينات بالحكومة.)، (5).
إن تقلص عدد العاملين بأجر داخل الأجهزة الحكومية وتصاعدها في خارج هذه الأجهزة يشيرُ عموماً إلى تراجع هيمنة الرأسمالية الحكومية وتفكك هيمنتها السياسية الاقتصادية، بشكلٍ محدود، وتصاعد دور الرأسمالية الخاصة، ولكن العمال خارج هذه الأجهزة متنوعي الارتباطات بالرأسمالية الخاصة:
(وفي القطاع الخاص داخل المنشئات‏ يبلغ عدد العاملين المُؤّمن عليهم نحو‏5‏ ملايين وفق الإحصائيات الرسمية، ونسبتهم تتزايد مع تصاعد كل من عمليات الخصخصة والاستثمار الخاص. والحقيقة أن الكثير من العمالة المنظمة فى القطاع الخاص غير مؤّمن عليها، ومن ثم لا يتضح حجمها الحقيقى من الإحصائيات الرسمية.).
(وينقسم العاملون بأجر حسب القطاعات التى يعملون بها إلى 50% يعملون فى التجارة والخدمات، و19% يعملون فى الصناعة، و31% يعملون فى الزراعة‏.)، (6). (السابق).
إن تبعثر الطبقة العاملة وضعف تكوينها الصناعي، ووجود حشود تحتية كبيرة لها متقاربة مع (قاع) البروليتاريا، إضافة لهيمنة النقابات الحكومية وسيطرة الوعي الديني المحافظ عليها، وهي أمورٌ كلها تعكس الجذور الريفية لهذه الطبقة و هيمنة الاقتصاد الخدماتي عليها، وغيبة التكوينات النسائية الكبيرة عنها، وبالتالي هامشيتها السياسية.
إنها في مرحلة النضال الديمقراطي العام وطنياً، فهي نقابياً تسعى لتغيير أوضاعها المهنية داخل المؤسسات الحكومية والخاصة، وهو أمرٌ يتجلى في إضرابات بعض قطاعاتها، إنه أمرٌ نقابي عمالي يتضافر مع حركة أرباب العمل للخروج من هيمنة الرأسمالية الحكومية، لتوسع وحريات الرأسمالية الخاصة.
على المستوى السياسي يتجسدُ ذلك في المعارضة المشتركة لحزب الدولة المسيطر خلال نصف قرن، والذي يعكس تلاوين الرأسمالية الحكومية في عدة عهود، كما أن قوة الأخوان المسلمين تعكس هي الأخرى محافظة وتخلف الرأسمالية الخاصة وجذورها الريفية، وكذلك تنامي شرائح منها عبر الفساد السياسي.
وفي حين تتقدم علاقاتُ الرأسمالية الحديثة داخل الريف المصري، حيث يبين ذلك توسع حضور العمال العاملين بأجر، فإن الرأسمالية الخاصة الصناعية ضعيفة.
إن هذه الظاهرات تعكس سببيات عامة مهمة، مثل إن الفساد السياسي يبعثرُ فوائضَ كثيرة خارج عملية التجديد الموسع للصناعات الوطنية والقوى العاملة، مثله مثل المحافظة الاجتماعية والسياسية الدينية التي تعرقلُ انخراطَ النساء في الصناعة، فيما تتقدمُ الأريافُ و(المدن) الريفية في المدن، وتتضخم الأجهزة الحكومية بالأعداد غير العاملة.
إن قوانين الرأسمالية الحكومية الشرقية الصناعية الشاملة على غرار روسيا والصين لم تـُستكملْ في مصر الناصرية، وقوانين الرأسمالية الخاصة المستقلة على غرار اليابان لم تـُستكمل هي الأخرى في زمن ما بعد عبدالناصر.
ولهذا فإن الحديثَ عن مقاربةِ مصر لنمور آسيا في أقصى تصور لحداثة رأسمالية مصرية، أو بمعنى عملية هدم القطاع العام وبالبدء من رأسمالية مستقلة(حرة تماماً)، برنامجٌ غير ممكنٍ بسببِ السيطرة الطويلة المتجذرة لقطاع الدولة، وفكرياً يتجسدُ ذلك بالواحدية الفكرية الدينية اللاعقلانية، فلا بد من الانتقال لرأسمالية الدولة الديمقراطية، على مراحل، وبتوجيه الفوائض الاقتصادية والقوى العاملة للصناعات الحديثة العامة والخاصة المتطورة بشكل رئيسي، وهذا يتطلب محاربة الفسادين الاقتصادي والسياسي الحكوميين، وبتحالفات ديمقراطية تقدمية وليبرالية واسعة لتنفيذ البرنامج التحديثي السابق الذكر.
إن هدمَ القطاعِ العام أو القفزة نحو الحكم الاشتراكي، شعاران كلاهما يعبران عن عدم فهم قوانين التطور الاقتصادية، فالأمرُ يتطلبُ تقوية القطاع العام ومراقبته وإخضاعه للديمقراطية، مثلما يتطلب الأمر التعاون الواسع مع الرأسمالية الخاصة المتوجهة لتحديث المجتمع وتصنيعه وديمقراطيته.
تتم رؤية التطور في مصر لدى بعض وجهات النظر اليسارية في تضاد لا يقبل هذا الجمع:
هل تجري عملية (تعبئة عمال القطاع العام للإبقاء على منشآتهم خاسرة ويتحملوا هم وأبنائهم للجيل الثالث على الأقل خسارتها مع المطالبة البائسة باستقلالية تنظيمهم النقابى فى مواجهة طبقة تعتمد فى سلطتها على هذا القطاع العام نفسه؟ أم القبول بخصخصة هذا القطاع مع النضال من أجل شفافية هذه العملية وضمان حقوق العاملين واستقلالية التنظيم النقابى والتى ستتحول الى مطالب منطقية ومشروعة فى أى ديمقراطية بورجوازية أظن أننا على أعتاب الولوج اليها قريباً؟)، (7).
إن خصخصة هذا القطاع بشكل كلي صعبة كما أنها مضادة للتطور الاستقلالي الوطني الاقتصادي، وهي تلقي البلد في أحضان الشركات الأجنبية، وهذا لا يمنع من النضال من أجل ديمقراطية هذا القطاع، وداخل النضال الديمقراطي الوطني عامة، لكن وجود مرتكزات اقتصادية عامة إستقلالية والسيطرة على فوضى الاقتصاد الخاص، يجعل القوى الشعبية ذات حضور أكبر في (الديمقرطية البورجوزاية القادمة).

الرأسمالية الحكومية الإيرانية

دون تراث ديمقراطي طويل في البلدان الشرقية لا تستطيع ملكية الدولة إلا أن تتحول إلى رأسمالية حكومية شمولية.

هناك الكثير من الآراء والمناقشات حول الثورة الإيرانية وأسباب تحولها لنظام ديني شمولي بدلاً من أن تكون حتى نظاماً ليبرالياً ديمقراطياً.
لقد أسس الشاه دكتاتورية الحكم وقطاع الدولة الاقتصادي الكبير، الذي تغدو فيه ملكية النفط الحكومية أداة السيطرة الكبيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن دينامية الثورة تعود للجماهير الشعبية التي شاركت فيها، لكن القوى السياسية الليبرالية واليسارية لم تفهم قوانين الأنظمة الحكومية الرأسمالية في الشرق. فصعودُ الدولة ذات القوة الكلية في المجتمع لا يمكن مقارنته بتطور الصراعات الاجتماعية في الغرب.
لم ينفصل النظام الملكي السابق عن المحافظة الدينية، وتجسيد القومية الفارسية، فجاءَ النظامُ الديني ليكمل ذلك التاريخ.
ورغم منطلقات الحزب البلشفي في روسيا، واختلافها عن أفكار حزب الجمهورية الإيرانية كثيراً، لكن كان تتويج النظامين في توليفة واحدة: هي دكتاتورية الدولة وهيمنتها على القطاع الاقتصادي الأكبر، ثم إنتاج بورجوازية (سوداء) من داخل مؤسسات النظام، وإذا تأخر ظهورها في إيران فإنها سوفَ تظهرُ لاحقاً.
(كان الضعف فى حركة العمال جزئياً نتيجة لعوامل موضوعية، فكان هناك أنقسام داخل الطبقة العاملة بين أولئك العاملين فى القطاع الحديث فى المصانع الكبيرة وهؤلاء العاملين فى القطاعات التقليدية فى الورش الصغيرة (والتى معظمها كانت تـُدار من أصحابها أو أعضاء العائلة). وكانت المناطق التى يسكنها العمالُ غالباً يسودها عددياً القطاعات البائسة من البورجوازية الصغيرة، فقد كان يوجد 750 الف تاجر ومن الطبقة الوسطى، وتجار صغار، فى طهران فى 1980 فى مقابل 400 الف عامل فى المؤسسات الصناعية الكبيرة. وكانت أعداد كبيرة جداً من العمال جديدة على الصناعة ولديهم تراث ضئيل من الصراع الصناعى – 80% منهم كانوا من أصول ريفية وكل عام تغرقُ الاحياءُ بحوالى 330 الف من الفلاحين السابقين، وكان ثلثهم فقط متعلماً ولذلك كان قادراً على قراءة الاعلام اليسارى، برغم أن 80% كانوا يمتلكون جهاز تليفزيونات. وأخيراً كان حجم القمع فى ظل الشاه يعنى أن عدد المناضلين الموجودين فى أماكن العمل كان قليلا جداً، (8).
إن التدفق الريفي للمدن هو عامل مهم في نشر الإيديولوجية الدينية المحافظة لكنه ليس هو السبب المحوري، فالبنية الاجتماعية بنية إقطاعية قديمة، والفهم المذهبي المحافظ هو نتيجة طويلة لسيطرة الإقطاع على إنتاج الإسلام، وهزيمة النزعات الديمقراطية الأولى، ولكن ذلك يتبدى بصورة أكبر مع هيمنة الأجنحة الريفية على عملية الإنتاج هذه، وهي الأشد محافظة، ومن هنا فهذا الفهم موجود في الأحزاب اليمينية وكذلك (اليسارية).
فنظراً لعدم وجود فئات متوسطة إيرانية مستقلة على مدى التاريخ السابق، إلا من لحظات ثقافية صوفية شعبية انتقادية، ومن نزعة تحررية لبعض الشخصيات الفكرية والأدبية، فإن الفهم الإقطاعي المحافظ سيطر على الحياة بكل جوانبها وبتاريخها السابق، وتقوم الدولُ ذات الملكية المركزية بإدامة هذا التراث، في لحظات تشكيل جهاز الدولة وملكياته المختلفة، إلى مستوى معين من تطور قوى الإنتاج، ولهذا وجدنا البلشفية تتصدع في زمن، كما تتصدع الماوية في زمن آخر، فلإيران البيروقراطية الدينية لحظة تصدعها القادمة، من داخل جهازها نفسه.
إن المظلة الدينية التقليدية تظلل الجميع، ولهذا ليس وجود قوى عاملة ثورية كافٍ بحد ذاته، ما لم تكن ثمة قوى رأسمالية خاصة واسعة، وما لم تكن الدولة ليس في يدها معظم الثروة، فإذا كانت كذلك تستحيل الديمقراطية!
لقد قام المحافظون على مدى ألف سنة بتشكيل وعي ديني (إسلامي) مقلوب على رأسه، وقد أقاموا ثقافتهم على رفض توزيع الأملاك الزراعية على القرويين، والهيمنة على خيرات الأملاك العامة، ونشر ثقافة السحر واللاعقل والأحكام الفقهية الجزئية العاكسة لذلك المبنى الاجتماعي، ويُكمَلُ هذا بإضعاف الأسرة الصغيرة الفاعلة المنتجة والثقافة العقلانية الديمقراطية وتأييد الأنظمة المستبدة.
وبهذا فإن الحزب الجمهوري الإيراني كان يواصل هذا الاستبداد، بإدعاءات ثورية، أما النسب الطبقية الاجتماعية المعبرة عن نشؤ أجسامٍ للحداثةِ في العهدين الملكي والجمهوري، فهو نشؤ أغلبه إستيرادي، فهذه الأجسام الصغيرة في بحر الريفيين المقتلعين من قراهم، تعتمدُ على صناعة مستوردة وصناعية نفطية (نخبوية) وصناعة إستهلاكية، وهي تنمو الآن نحو صناعات أكثر تطوراً، وهذا سوف ينعكس على مجريات التطور الاجتماعي القادم.
إن قوة الثقافة المحافظة الإقطاعية كانت تتغلغل في كافة المنشآت السياسية والاجتماعية، بقيادة جهاز الدولة، وهو يقوم عبر سيطرة فئات البورجوازية الصغيرة التي استولتْ على السلطة بعد ركوب الموجة الثورية، كما فعل ذلك الضباط الأحرار في كثير من الأنظمة العربية، وهو توسيعُ قطاعات الاقتصاد الحكومي، وفي إيران فإن إعطاء الأجهزة العسكرية قطاعات اقتصادية يؤدي إلى توسيع الخنق السياسي للقطاعات المدنية، وإلى مخاطر الحروب.
لهذا فقد تم نمو الدكتاتورية الحكومية عبر مراحل وأول مرحلة هي إبعاد اليسار، فقد كان الحضور اليساري الواسع يعرقل تحكم البورجوازية الصغيرة في المنشآت العامة الموجودة من العهد الملكي والمؤمّمة أو الجديدة، فهو يقوي الرقابة وحضور العمال المستقل والانتقادي لهذا التحكم في الثروة العامة.
وكانت مغامراتُ بعضِ فصائل اليسار وعدم فهم الفصائل الأخرى لطبيعة نظام الرأسمالية الحكومية الشمولية، يؤججُ تصاعد نفوذ البورجوازية الصغيرة التي تمتطي سلالمَ النظام، والتي تجدُ في الصعود ثروة ومنافع ونفوذاً متصاعداً، وهي تتحول بهذا إلى بورجوازية أكبر، وذات يوم ستجدُ أن سقفَ النظام باتَ ضيقاً عليها.
ومن ثم كان ضرب الاتجاهات الليبرالية (بني صدر وحزب بازركان وغيرهما )محطة أخرى لنمو الرأسمالية الحكومية، وهو أمرٌ يعبرُ ليس عن ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة في إيران فمهما كانت توجهات الدينيين، فهم لا يقدرون على رفض هذه العلاقات لأنها مؤيدة من قبل الدين، وكان نضال التجار عاملاً مهماً في تصاعد النضال السياسي، ولكنهم يرفضون تمدد الرأسمالية الخاصة وتحولها إلى نظام، وما يترتب على ذلك من نشؤ نظام رأسمالي خاص بأثاثه الديمقراطي وحرياته المختلفة.
كذلك فإن النظام الرأسمالي الخاص يكون تعددياً ومنفتحاً فيغدو مغايراً لمشروع الدولة القومية التوسعية أو ذات الجمهور المذهبي المُفترض المنتمي لها، فهي دولة مذهبية فوق قومية كذلك، فليس ضرب الاتجاه الليبرالي الديمقراطي هو لمجرد مماحكات شخصية وتنافسية بين المتحالفين الدينيين – الليبراليين الذين استولوا على السلطة بتعاونٍ مرحلي، بل لاختلاف المشروعين الرأسماليين، مشروع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية ومشروع الرأسمالية الخاصة.
ورغم أن التكتيكات السياسية لعبت دوراً في تغليب الاتجاه الأول على الثاني لكنه وحتى بدون هذه التكتيكات والمناورات فإن القواعد الاقتصادية الاجتماعية الكبرى للمجتمع تعطي الدينيين الشموليين فرصة هائلة لتشكيل دكتاتوريتهم أكبر من حلفائهم في فترة ثم خصومهم في فترة لاحقة.
ليس لينين أو ماو أو الخوميني، هم الذين شكلوا هذه الرأسماليات الحكومية لكنها الظروف الموضوعية التي جعلتهم، كلٌ في بلده وظروفه يتوجه نحو تصعيد دور الدولة الكبرى، حسب المنظار الإيديولوجي لكلٍ منهم، وهو منظارٌ يعكس تلك الظروف الموضوعية والذاتية.
إن الإجراءات ومسارات تشكيل المجتمع كانت توضح تباين طريقي الدينيين والليبراليين، وفيما كان الليبراليون يسعون لإضعافِ الدولة وتقوية المجتمع المدني، كان الآخرون على الضد منهم، ولكن لنر ما لدي الليبراليين من أدوات لتحقيق نظامهم المفترض.
كان تحالفهم مع الدينيين يتوجه لضرب الحريات التي كان يُـفترض أن يكونوا هم المدافعون عنها بوجه الموجة الدينية الشمولية:
(وافقَ كلٌ من قادة الحزب الجمهورى والليبراليون على فكرة الثورة الثقافية من خلال الفعل المباشر للجماهير الذين حرضوا على التظاهر فى ساحات الجامعات. كان ذلك بالنسبة لليبراليين وسيلة للتخلص من المحرضين اليساريين فى النقابات العامة والمصانع والمناطق الريفية، حتى يمكن اعادة الاستقرار الاقتصادى والسياسى للبلاد.)، (9).
وبتصعيد مثل هذه الأدوات وبإدخال الغوغاء لضرب المثقفين والعمال والجرائد اليسارية، وهي أدواتٌ طالما استخدمتها الرأسماليات الحكومية المستبدة خاصة نظام ماو تسي تونج وغيره، قام الليبراليون بعزل أنفسهم عن الجمهور الطليعي.
وكانت جذورهم الاقتصادية التصنيعية ضعيفة، ولهذا كان يُسمون قوى البازار، كما أن رفاهيتهم الكبيرة ساعدت الدينيين على تصويرهم بالقوى الطفيلية.
كما أن قواعد الدينيين الاجتماعية من جهةٍ أخرى كانت واسعة بسبب الاقتصاد التقليدي العريض؛ قطائع زراعية، وعقارات، وحرف، فكان الجمهور مشكل من غياب الاقتصاد الحديث، وعبر هذا الجمهور المتمسك بالعادات الإسلامية في اللباس والعبادات، في هذا المجتمع، كان التراث الديني التقليدي الشعائري هو السائد، ولكن الدينيين حولوه لفعلٍ سياسي مضادٍ للحريات ولهذا الجمهور الكادح نفسه، ومن أجل تركيز السلطة بين أيديهم، فتجاه التقدميين واليساريين ركزوا على الطبيعة (الألحادية) لفكرهم، وقد ساعدهم هؤلاء أنفسهم نظراً لعدم تشكل النظرة التغييرية من داخل التاريخ الإسلامي وعبر الارتكاز على التراث والواقع الموضوعي الراهن، فـُصورتْ غربتهم عن التراث كفعلٍ معادٍ للإسلام، وليس كنقلٍ ثقافي حضاري هام للشعب الإيراني في وقت لم تكن فيه أدواتٌ فكرية نضالية إيرانية مُنتـَّجة محلياً، خاصة وأن الإسلامَ تم السيطرة عليه من قبل المحافظين وتجييرهِ لخدمةِ السلاطين والشاهنشاهات عبر القرون السابقة، ولكن اليساريين من جهة أخرى، لم تتطور نظراتـُهم مع تصاعد الصراع الاجتماعي، وظلت شعاراتـُهم السياسية مفصولة عن فهم القوى الاجتماعية والإرث وكون الدينيين المحافظين يعبرون عن قوى الأستغلال المتصاعدة في حراكها من الإقطاع الحكومي إلى الرأسمالية الحكومية المرتكزة على تخلف القوى الشعبية الريفية خاصة، لأجل استخدامها في مشروع الرسملة المتصاعد بأجورٍ زهيدة، وبلا حقوق كبيرة، وعبر تخلف ثقافي يتيحُ لتلك القوى القيام بمختلف المشروعات السياسية.
إن إستخدام الإرث كان فعلاً سياسياً مباشراً، فعبر تصوير اليساريين بالملحدين أعداء الإسلام، وتصوير الليبراليين كخدم للغرب، كانت تجري عمليات قمع واسعة لتجسيد ما يصوروهُ الدينيون المحافظون بأنه الأسلام:
(احتلت عصابات حزب الله الجامعات، اصابت وقتلت أعضاء الجماعات السياسية التى كانت تعارض الثورة الثقافية، واحرقتْ الكتب والصحف التى أُعتقد أنها ” غير اسلامية “، وأغلقت الحكومة كل الجامعات والكليات لمدة ثلاثة سنوات تم خلالها اعادة كتابة مناهج الجامعات.)، (9).
إن الهيمنة الدكتاتورية تنتقل من القيادة السياسية إلى الاقتصاد وتستثمر الفوائض النفطية خاصة في توسيع القواعد الاقتصادية والمشروعات وأنظمة التسلح وتوسيع عسكرة المجتمع، وقمع الحريات السياسية ثم الفكرية والاجتماعية، تقوية لذلك البناء الاقتصادي البيروقراطي.
وهكذا فإن الليبرالية يُقضى عليها من الجانبين عبر توسيع الملكية العامة لتغدو هي الهيكل الاقتصادي المسيطر، وبإزالة الحريات والتفكير الحر، وبفرض قالب عام مؤدلج تجري عبره الاحتفالات والمفاسد والمسالخ والحروب.
الماضي أقوى، والاقتصاد التقليدي أوسع، والجماهير أغلبها أمي، وحينئذٍ تأتي عملياتُ الغسل العقلية الجماهيرية لتنمية خط اقتصادي، يوسع مشروعات، لكنه يفسدها عبر التحكم البيروقراطي، وتزداد الصناعات الاستهلاكية بسبب ذلك ولعجز الاقتصاد بهذه التسربات الكثيرة والعسكرة عن خلق الصناعات الثقيلة.
وإذا كان الليبراليون متحالفين متعاونين في ضرب اليسار مع الدينيين فقد حاولت فصائل العمال الدفاع عن أنفسهم ولقمة عيشهم فانتشرت موجة من الأضرابات:
(كان اليسار مسيطراً فى أوساط الطلاب برغم الموجة الاولى من القمع الذى تعرض له فى أغسطس 1979، وكانت مجالس شورى المصانع قد انهكت نتيجة لموجة القمع ذاتها، لكن استمر الكثير منها قائما لعام آخر، وبالطبع لم يكن استعداد العمال للصراع قد انتهى – ففى عام 79-1980 كان هناك 360 اضراباً متنوعاً ” الاعتصام بالمصنع أو احتلاله ” و180 اضراباً فى 80-1981 و82 اضراباً فى 81-1982.)، (10).
لكن نظراً لكون الفصائل اليسارية ماشت الموجة الدينية بقوة في البداية، وأيدت صعود الرأسمالية الحكومية ذات القناع الديني، واعترضت على أشياء جزئية، وانساقت مع موجة العداء المضلل للاستعمار الذي يصطنعهُ النظامُ وسيلة تخديرية للجمهور، ولم تفرق بين جوانب التبعية وبين جوانب الحضارة الغربية الديمقراطية، الضرورية لمنع الاستبداد، وهذا يبين الطبيعة العقلية ليسار ديني محافظ غائر تحت الجلد السياسي، فاليسار نفسه يعيش ظروف الدينيين الاجتماعية العقلية، من حيث العلاقة بالدين والنساء والتاريخ، ولهذا فإن حراكه إضرابي جزئي اقتصادي، أو عسكري أرهابي أو جماهيري نقدي عقلاني مفيد لكنه يُقمع وينتهي.
بقعُ اليسار والليبرالية صغيرة في هكذا مجتمع ديني محافظ، يبدو للجمهور فيه أن الدينيين هم الجذر والأصل والتراث، نظراً لطبيعة الثقافة والمهن والتاريخ القومي.
وككل الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية فإن الطبقة المسيطرة من العسكريين والموظفين الكبار المتضافرين مع رجال المال والمعبرين عن مصالح هذه الرأسمالية سوف يتوجهون لليبرالية منسوجة على قياس مصالحهم، وإلى خلقِ مجتمع أقل استبداداً، وتخفيف الطابع الديني الشمولي للنظام دون الخروج التام منه، إذا لم تفجرْ الحروبُ والثوراتُ هذا النسيج.
وهكذا فإن خيار الرأسمالية الحكومية الروسية أو الصينية الشاملة قاد إلى نشر العلاقات الرأسمالية الحديثة بصورة جذرية، مثل خيار الرأسماليات الخاصة في اليابان وإستراليا والهند، ومن منطلق آخر، ومن مستوى اقتصادي مختلف.
لكن خيار الرأسماليات الحكومية الدينية في العالم الإسلامي يستندُ إلى واقع قوى إنتاج متخلفة، ذات جذور قروية وبدوية(فتصير قوى شيعية وسنية متصارعة)، ويتم عرقلة تطور العلاقات الرأسمالية والتحديثية في الريف ولقوى الإنتاج البشرية، خاصة النساء، نظراً لتخلف العلاقات الاجتماعية والثقافة، وهو ما يؤدي إلى رأسماليات حكومية ذات تناقضات هيكلية اقتصادية كبيرة، فتتجمدُ الأريافُ والنساءُ والذهنية العقلية عن التطور، ويُعرقلُ التلاقح بين العلوم والصناعات، وتتضخم الأجهزة الإدارية وتتحكم في الأسواق، وتزداد القيودُ الحكومية في كل مجال، مما يوسعُ الفساد من جهة أخرى، ويؤدي بالكثير من الفوائض نحو الغرب أو للبذخ الخاص أو للعسكرة أو إلى جلب العمالة الأجنبية الرخيصة،(في إيران تتضخم العمالة الأفغانية) وهو تعبير عن العجز عن تطوير القوى المنتجة البشرية المحلية. وكل هذا يُصور باعتباره الطريق الإسلامي للثورة أو التطور السياسي الرشيد للدول الإسلامية!
وهذا الطابع المتخلف للرأسماليات الحكومية في العالم الإسلامي يقودُ إلى استمرار العلاقات الإقطاعية السابقةِ بكلِ مخلفاتها من عجزٍ عن توحيد المواطنين، وطبع نسخ مشوهة لاعقلانية للإسلام، وإلى تقسيم الدول إلى أثنيات متصارعة، وإلى الحروب والتدخلات بين الدول الدينية هذه، التي امتلكت الحقائق الكلية واعتبرت نفسها الخادمة الأمينة لتعاليم السماء النقية، وهذا كله يقود لهدر الموارد والدوران الدائم في طاحونة التخلف.

الرأسماليات الحكومية الخليجية

تعتبر ملكيات الدول الخليجية لمصادر الثروات من القضايا الشديدة الغموض، فهي غير مدروسة، ولا توجد مصادر لكشف تجلياتها، ولهذا فإن البحث فيها أشبه بمتاهة، ولكن لا يمنع ذلك من بعض المناوشات التحليلية، بغرض الوصول لأبعادها مستقبلاً، فهي بحاجة إلى أجيال من المحللين لكشف ثروات هائلة لبلدان ومع ذلك تشكو الآن من العجز.

تعطينا المظاهر الخارجية للتناقضات الاقتصادية والتباينات والمشاركات بين القطاعات العامة والخاصة في الخليج فكرة أولية عن مسارين مختلفين إشكاليين يبدوان بشكل غامض، فهنا يجري حديث عن أزمة اقتصادية تعانيها خاصة القطاعات العامة، وتطلب مساعدات وتعاون القطاعات الخاصة، ويظل ذلك محصوراً في الشأن الاقتصادي دون تبلوره في الشأن السياسي. وهذا يشير إلى مشكلات عميقة في البنى الاقتصادية، رغم أسطورية المداخيل التي حازت عليها القطاعات العامة، التي واجهت تصاعد الدين العام، وتفاقم البطالة الأهلية ثم اختلالات النمو الاقتصادي بين الأقاليم والمناطق! فراحت تطلب المعونة من القطاعات الخاصة أو تشركها في مساعدتها عبر آلية القرارات السياسية والاقتصادية.
فرغم سيطرة القطاعات العامة على الاقتصاد خلال العقود السابقة، فإنها توقفت عن التطور، بل يحدث فيها جمودٌ كبير، وسنلاحظ ذلك على صعيد التوظيفات، أي توظيف المواطنين في الأجهزة الحكومية.
(تظهر البيانات الأخيرة المتاحة أن عدد العاملين في الخليج وصل إلى 14 مليون فرد بحلول نهاية 2007، شكلت العمالة الوطنية 18% منهم. وبلغ عدد العاملين في القطاع العام 13% من إجمالي عدد العاملين، 80% منهم عمالة وطنية. وبينما يقدر معدل البطالة بين العمالة الوطنية بنحو 3،6. ووفقا لتقديراتنا الأولية لعام 2008، فقد تكون مؤشرات سوق العمل في الخليج قد أظهرت المزيد من التحسن مع انخفاض معدل البطالة إلى 3.2%. إلا أن تدهور البيئة الاقتصادية للمنطقة في الوقت الحالي مقارنة مع السنوات السابقة، يتوقع أن يقلص تلك النجاحات جزئياً وأن يطرح تحديات جدية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة والقوانين المرتبطة بتوظيف العمالة الوطنية، ما زال سوق العمل الخليجي يواجه خللا هيكلياً مقارنة مع نظرائه عالمياً. فعلى سبيل المثال، يشكل عدد المواطنين العاملين في القطاع العام في الخليج نحو 58% من إجمالي العمالة الوطنية، (مقارنة مع 42% فقط في القطاع الخاص). ويعتبر هذا المعدل مرتفعاً، كما أنه يتخطى ذلك في بعض الدول، إذ بلغ نحو 90% في قطر في عام 2007، و86% في الإمارات، و84% في الكويت، بينما بلغ 50% في السعودية. وتشير هذه الأرقام إلى أن قدرة القطاع العام الخليجي على استيعاب العمالة الجديدة قد تكون بلغت حدودها القصوى. وقد أعلنت البحرين بوضوح في ديسمبر الماضي الحد من التوظيف في قطاعها العام)، (11).
تتوجه الأرقام والأبحاث نحو جوانب جزئية وتعتبر ارتفاع البطالة أو إنخفاضها هي مشكلات صغيرة، ولا تعتبرها كمؤشرات على خلل بنيوي في البناء الاقتصادي. فحكومات تملك أغلب الثروات الهائلة لكنها تعجز عن التوظيف، وهي غير قادرة على تغيير بنائها هذا.
ونلاحظ هنا بأن الأبويات الاقتصادية وسيطرة الدول على توظيف العمالة الوطنية يتزايد في دول بعينها، فيما يتقلص في دول أخرى، ويتعلق ذلك بحجم الثروة النفطية وعدد السكان، دون أن تلعب المدخرات الهائلة السابقة والتي لا يعرفُ أحدٌ كيفت تسربت وتنامت في جهاتٍ أخرى، أي دون أن يكون لها دور جدي في التغيرات الاقتصادية الراهنة السلبية، حيث تقلص الحكومات الخليجية توظيف المواطنين، ويتوقف ذلك في البحرين تماماً.
فهناك ثلاثة ترليونات ونصف الترليون كودائع خليجية في العالم من القطاعين العام والخاص، ثم تعجز عن الدور الأبوي الذي قامت له خلال عقود التهمت فيها الدخول. هذا شكلٌ أولي لتوقف مكائن الدول عن دورها الراعي السابق. ولكن في المقابل تتنامى دور القطاعات الخاصة التي لم تستحوذ على كلياً تلك الثروات في المواد الأولية التي احتكرتها الحكومات لكنها عاشت في خيرها كذلك!
تتوجه التحليلات الاقتصادية الخليجية إلى القشور:
( تظهر البيانات أن معدل التوظيف في القطاع الخاص نما بواقع 8.0% في المتوسط سنوياً بين عامي 2003 و2007، بينما بلغ متوسط النمو في القطاع العام نحو 2.8%. وبالتالي، فقد ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل التوظيف بخمس نقاط مئوية خلال الفترة نفسها. ويعود هذا الإنجاز الهام إلى البيئة الاقتصادية المؤاتية التي دعمت نمو أنشطة القطاع الخاص. وفي الكويت، تشير احدث البيانات إلى أن معدل توظيف المواطنين في القطاع الخاص نما بواقع 16% في العام الماضي، بينما ارتفع في القطاع العام بنحو 2.9%، ما رفع مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل توظيف الكويتيين بنقطتين مئويتين إلى 18%. وفي السياق نفسه، تراجع عدد الكويتيين العاطلين عن العمل من 19.9 ألف مواطن في 2007، إلى 16.6 ألف مواطن في العام الماضي. وبالتالي، فإن معدل البطالة تراجع من 6.5% إلى 5.2% في الفترة نفسها. (12) .
إن المصدر لا يوضح لنا سببيات هذا التراجع في القطاعات العامة وصعودها في القطاعات الخاصة، لا بالتحدث عن طبيعة الأملاك العامة هذه؛(مصانع، معامل تكرير، وزارات، جيوش، شرطة الخ). فالأملاك العامة تـُجرد بتعبير (القطاعات العامة)، مثلما يتم تجريد القطاعات الخاصة وفروع إنتاجها وتبادلها وتداولها بالقول بأنها قطاعات خاصة، والأمر له علاقة بالبيانات وطرق التوزيع وغياب الشفافية على مدى عقود في القطاعات العامة.
كما أن بؤرة الأملاك العامة كمعامل التكرير والمصانع لا يتم درس علاقاتها بالمؤسسات المدنية الخالصة، وأحجام الفوائض وطرق تراكمها وتوزيعها بين إعادة الإنتاج، وبين صرفها على المشروعات العامة والوزارات.
لكن التقرير يعطينا بأن قدرة القطاعات العامة على الصمود في معركة التوظيف غير ممكنة، وأنها سوف تتراجع، كما أن البحرين قد أعلنت توقيف التوظيف دون أي تحديد وشفافية في هذا المجال. ويعيد ذلك حسب رأي الخبراء العالميين الذين استعان بهم التقرير إلى عدم القدرة على تطوير قوى العمل البشري الوطني في المنطقة. وهو سبب وحيد مقطوع الصلة كما سوف نرى بعمليات الإنتاج والتراكم، فالتربية والتعليم وإنتاجها لقوة العمل لا تتشكل بشكل مجرد، وبدون خطط مترابطة بين الإنتاج، وقوة العمل الوطنية، وإذا كان الإنتاج غير مُسيطر عليه، خاصة السيطرة على فوائضه وطرق توزيعها وعودتها لإعادة الإنتاج الموسع، فإن التآكل على مستوى الإنتاج المادي، وعدم الفائدة لقوة العمل الوطني، تغدوان مظهرين لمشكلتي: غياب التخطيط وتسرب الفوائض.
وهذا يشير إلى آلية العجز الاقتصادي البنيوي حيث التركيز على النفط ثم على صناعاته أما القدرة على تغيير الخريطة الاقتصادية المتناقضة فهو أمر ليس بقدرة الحكومات كما يبدو، والمقصود بتغيير الخريطة الاقتصادية الاعتماد على قوى العمل المحلية والعربية، وإحداث تحولات صناعية تتناسب مع قوى المنطقة السكانية، وتطوير قدرات شبابها لتلك الصناعات التقنية. لكن القطاعين العام والخاص غير قادرين على ذلك، يدفعهما هاجس الحصول على أكبر الأرباح وتصديرها للخارج للمزيد من الأرباح، أما الشؤون الاجتماعية والاقتصادية الأهلية فهي مضغوطة في ظل الميزانيات المحدودة التقشفية خاصة في بعض الدول الخليجية، فيما يشهد الوضع المالي على ترحيل الأموال من القطاعين العام والخاص للخارج عبر أشكال متعددة، وكذلك عبر العمالة الأجنبية.
إذا كنا قد لاحظنا تجمد الرأسماليات الحكومية الخليجية عن توظيف المواطنين، مما يعكس توقف الدور الأبوي الذي كان يتردد بقوة طوال العقود السابقة، فإن الأعباءَ المالية بدءً من هذا التجمد سوف تـُوضعُ على كواهل القطاعات الخاصة وهي سوف تضعُها على الجمهور العامل:
(في الخليج، شكل الطلب المحلي ما نسبته 70% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006. وبالنظر إلى مكونات ذلك الطلب، بلغت حصة الاستهلاك الخاص 45%، أي نحو ضعف حجم الاستهلاك الحكومي. بينما شكل الإنفاق الاستثماري للقطاعات الخاصة والحكومية على حد سواء حصة الـ30% المتبقية من الطلب المحلي، وهذا يدل على مدى أهمية الإنفاق الخاص في تحديد إجمالي النمو الاقتصادي.)، (13).
لكن حين تنفق المؤسسات الخاصة ذلك كله من أين تستخرجه؟ إنه من عمل القوة العاملة الأجنبية والمحلية. وحين تقلصُ الحكوماتُ إنفاقـَها سوف تقلصُ القطاعاتُ الخاصة إنفاقـَها تسريحاً للعمال وتقشفاً وتظاهراً أحياناً بطرد المدراء الأجانب ذوي الرواتب العالية المخيفة، لكن ألم يكن هؤلاء متبحبحين طوال السنوات السابقة يديرون ويقدمون الأرقامَ حسب ما تشتهي تلك الإدارات؟!
والفوائض الحقيقية الكبرى نبعتْ من النفط والغاز والمصانع التي رضعت من حليب تلك المؤسسات الواسع غير المراقب. لكن أين ذهبت أغلبية الفوائض؟
لقد قامت السياسات الاقتصادية بشكل عام في دول الخليج على أحتكار القطاعات العامة للثروة الأساسية، ثم تشغيل أعداد واسعة من المواطنين في أجهزة الدول، وترك هوامش محدودة للقطاعات الخاصة في جوانب الاقتصاد التابع للاقتصاديات الحكومية، ومن ثم جلب أ‘داد هائلة من العمال الأجانب.
وكل هذه الجوانب تبدو متباعدةً عن بعضها البعض لكنها مترابطة، فقد أضعفت الدولُ الثرواتِ البشرية والمادية، وقد أشار البنك الدولي لإشكالية دول الخليج هذه عبر تضخم أجهزة الدول بالموظفين، من جهة وضعف التعليم عن إنتاج عمال في مستوى حاجات الأسواق من جهةٍ أخرى، كما قامت القوى العاملة الأجنبية بتحويلات هائلة، فصار الخليج سوقاً عابرة، أكثر منه سوقاً متجذرة تغني الغرب والشرق وتجفف الثروة من داخله، مما لم يجعل القطاعات الحكومية تتطور صناعياً وتقنياً، ولم يدع القطاعات الخاصة تتولى الأمور.
ومع تلك التحويلات الهائلة من المليارات تجد القطاعات العامة نفسها بحاجة إلى سيولة.
ومع ضخامة الأعداد العاملة في الحكومات تجد أنها يمكن أن تتقلص لغياب الإنتاجية، فتضخمها يأتي بشكل سياسي وليس إقتصادياً.
لا نعرف لمن هذه الترليونات في الخارج(ثلاثة ونصف) وكيف تتوزع وكيف تنمو وما هو عوائدها على الدول والشعوب، ولكن الذي نعرفه هو هذا التضاد الكبير بين ما أنتج وما زال يُنتج من ثروة وضخامة الحاجة المحلية الماسة الخليجية لرؤوس الأموال ولتوزيعها على الإنتاج والبشر.
أما الإصلاح الاقتصادي الذي تطرحه هذه الدول فهو إصلاح محدود ولا ينفذ لجوهر الأمور، بل هو ترقيعٌ وابتعاد عن الإصلاحات الاقتصادية الجذرية المنتظرة.
وتتباين دول الخليج في العلاقات بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة ففيما هناك لم تستفد كثيراً من القطاعات الحكومية، استفادت القطاعات الخاصة في الكويت والإمارات وقطر من القطاعات الحكومية وأزدهرت على ضفافها :
(ان النمو في كل من قطر والكويت والامارات العربية المتحدة ارتبط بنمو قوي في القطاع غير النفطي، حيث ان نصيب الفرد في النفط والغاز أعلى بكثير منه في بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، وقد كانت هذه الاقتصادات حريصة على تبني سياسات اقتصادية تهدف الى تنويع مصادر دخلها، وفي هذه الاثناء كانت السعودية تحاول تشجيع القطاعات غير النفطية عبر مختلف الوسائل، غير انها تواصل تحقيق نسبة نمو متواضعة نسبيا، حيث يتفوق القطاع النفطي على غير النفطي بهامش ضئيل)، (14).
تواجهنا نفس الأسئلة فلماذا استطاعت هذه الدول أن توسع على القطاعات الخاصة والسكان فيم لم تستطع الدول الأخرى القيام بهذه التطويرات للمعيشة وأزدهار القطاعات الخاصة؟
تعود المسألة إلى ظهور قوى اجتماعية داخل القطاعات العامة الرأسمالية وحازت على ثروات كبيرة منها بفضل احتكارها للمناصب طوال سنوات، وهذا يتبدى في مظاهر كثيرة، مثل الرواتب العالية والدخول غير المنظورة، وتملك الأراضي وبيعها خاصة أراضي الشواطئ وأراضي المدن التجارية، والدخول في الأعمال التجارية وتشكيل الشركات بأسماء تكون غالباً واجهات، والحصول على امتيازات من الأعمال الحكومية المختلفة كمعرفة المخططات وبيع الأراضي، وجلب الفيز الحرة وتوزيع أصحابها في كل مكان، وأعطاء الموظفين الأجانب الكبار رواتب عالية وتسكينهم في مساكن وعمارات خاصة تابعة لموظفي الدول، والحصول على دخول نفطية باطنية الخ..
وأما الميزانيات فهي ميزانيات سياسية وليست ميزانيات حسابية دقيقة، فهي تقوم على تنظيف الأرصدة من أي تلوث ظاهري وتقدمها نظيفة خالية إلا من بعض العجوزات المرتبة.
ولهذا فإن النظرة السطحية تشاهد أملاكاً ومدخرات بتلك المبالغ السابقة الذكر دون أن تكون ناتجة من استثمار عادي، فلا تكفي مئات السنين لتكوين تلك المليارات والترليونات؟!
ومع هذا التباين فإن الدول التي سربت تلك الأموال تطالب القطاعات الخاصة وتطالب المواطنين بتحمل أعباء المرحلة، أو تقوم برفع الرسوم على الخدمات وغيرها من الأساليب.
تتوجه المصطلحات الاقتصادية في الخليج إلى تعابير مثل( ضرورة الشراكة بين القطاعين العام والخاص)، وتنعقد مؤتمراتٌ عدة في شتى العواصم الخليجية لمناقشة التعاون هذا؛ وشهدت العاصمة السعودية الرياض، انطلاق فعاليات الملتقى العلمي الأول بعنوان ” الشراكة والمسؤولية الاجتماعية بين القطاعين العام و الخاص.. الواقع والمأمول”، والذي تنظمه وزارة الشؤون الاجتماعية).
ويهدف اللقاء (إلى إتاحة الفرصة للعاملين في الوزارة والأجهزة الحكومية الأخرى ذات العلاقة وكذا القطاع الخاص والباحثين والأكاديميين والمهتمين بهذا المجال لتبادل الخبرات وطرح الآراء للخروج بتوصيات عملية عن كيفية تحقيق الشراكة الحقيقية بين القطاعين العام والخاص لتحمل المسؤولية الاجتماعية ومواجهة التحديات الجديدة التي تعترض المجتمع ودعم عملية تحقيق أهداف التنمية المستدامة).
وهذا يحدث في الإمارات كذلك (تنظم مجموعة أبوظبي للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، المنبثقة من مجموعة الإمارات للمسؤولية وغرفة تجارة وصناعة أبوظبي، مؤتمر أبوظبي للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات بمشاركة مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة ونخبة من كبار الباحثين لمناقشة نفس القضية.
والكويت ليست بمعزل عن الجهود الخليجية في هذا المجال ، إذ يستقطب المؤتمر الثالث للمسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات، اهتمام العديد من المسؤولين في الشركات العالمية العاملة في مجال بحوث واستشارات وتقارير المسؤولية الاجتماعية.
(وسيناقش هؤلاء الخبراء الازمة الاقتصادية والمالية العالمية وأثرها على المسؤولية الاجتماعية للشركات وكيف يمكن للشركات ان تتفاعل مع هذه الازمة وتخرج منها بأقل خسائر ممكنة خاصة وانه يتوقع ان تستمر هذه الازمة الى نهاية 2010 وهو ما يخلق العديد من التحديات أمام الشركات).
لكن القضية ليست هي المسئولية الاجتماعية وهو عنوان عريض مجرد ولكن إشكاليات الرأسمالية الحكومية في كل بلد، وتوقفها عن دورها المطلق السابق، وحاجتها للقطاعات الخاصة دون أن تتخلى عن دوريها القيادين في السياسة والاقتصاد.
فكأن هذه المؤتمرات تقول لم تكن لدينا مسؤولية اجتماعية وعلينا الآن إيجادها!
والإشكالية لا تخفى وهي المتمثلة بإشكاليات القطاعات الحكومية وصعوبة سيطرتها على ظواهر الاقتصاد. أي أن هذه الأبنية الاقتصادية التي شكلت خلال نصف قرن استنفدت أدوارها لكن دون إعتراف من الدوائر المسئولة، التي تريد مواصلة التحكم في الموارد العامة وتريد في نفس الوقت معونة القطاعات الخاصة.
واعتبرت دراسة قامَ بها بنكُ الإمارات الصناعي في أبريل من العام الماضي بأن ظاهرة التضخم في الخليج وارتفاع تكاليف إقامة المشاريع وزيادة أسعار السلع والخدمات لا تقل أهمية عن مشكلة العجز وارتفاع الديون الحكومية التي تميزت بها سنوات التسعينيات، وقد حددت الدراسة ذلك على أساس سعر برميل النفط عند 100 دولار، وهو الأمر الذي حقق بعض الفوائد لكن الأمور تغيرت في السنوات الأخيرة.
ويحصر البنك دراسته الاقتصادية في الظواهر الخليجية الداخلية، حيث تـُفصل التحويلات المالية الهائلة لهذه الدول للخارج، وهي الأموال التي تآكلت في الغرب(3 تريليون دولار ونصف الترليون)، وكأن ليس لها علاقة بدول الخليج ولا بدعم اقتصادياتها . أما من ناحية قوة العمل فإن قوة العمل الأجنبية تمثل هدراً آخر؛ (إن تدفق العمال الاجانب الى دول مجلس التعاون حيث باتوا يشكلون حوالى 40 في المائة من السكان يمثل ظاهرة فريدة في العالم “فليس هناك أي مكان آخر في العالم الامور فيه على هذا النحو”، الخبير الاقتصادي السعودي إحسان بوحليقة، ويضيف (أصدرت السعودية في سنة 2007 حوالي 1،7 مليون تأشيرة عمل).
أما الدخول الحقيقية فكانت هائلة:
(أسفرت الطفرة النفطية الأخيرة (2002 حتى أواسط عام 2008) عن قدر كبير من الإيرادات لدول مجلس التعاون الخليجي الست، البحرين وعمان والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة والسعودية، قدرت بمعدل سنوي يصل الى 327 مليار دولار في الفترة بين 2002 و2006، أي أكثر من ضعف متوسطها، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، (15).
ولكن تتباين الدخول النفطية وتأثيراتها على كل من دول الخليج فالبحرين وعُمان ليست بمثل جيرانها :
(لكن البحرين وعمان تقدمان صورة مختلفة فقد سجل القطاع النفطي فيهما نسب نمو سلبية على مدى فترة هذه الدراسة، وهو ما يوضح ان البلدان ذات الموارد الضعيفة غير قادرة على الاستفادة من ارتفاع اسعار النفط والثروات الطبيعية، وتعاني البلدان من انحدار سريع في الاحتياطيات النفطية، وضآلة طاقة الانتاج، ويشدد الخبراء النفطيون على حاجة البلدين الى الاستثمار في طرق محسنة لاستخراج النفط، وقد كانت نسبة النمو في البحرين وعمان مدفوعة في صورة اساسية بالقطاعات غير النفطية كالخدمات المالية والبناء. لقد استفاد القطاع غير النفطي بشكل كبير من الانفاق العام الهادف ومن الزيادات الحادة في الانفاق الرأسمالي الموجه الى تحديث البنية الاساسية الصناعية، وتقليص القيود في القطاعات الرئيسة.) ،(16).
وتتجلى سياسة ضبابية الموارد وتقسيمها وهجرتها في مسألة الدين العام، فالدول النفطية الخليجية رغم تلك الإيرادات الكبيرة في خلال السنوات السابقة ازداد دينها العام:
(لذلك فان التوسع في الانفاق العام في الفترة بين عامي 2002 و2008 ارتبط بسياسة عامة اكثر صرامة نسبيا لتقليص الدين العام. وبعد عام 2002، نجحت بلدان مجلس التعاون في السيطرة على الدين العام وتقليصه الى متوسط 20.4 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي في عام 2006، مقارنة مع متوسط 69.9 في المائة في الفترة بين 1998 و2002. وسجلت المملكة العربية السعودية أعلى نسبة دين الى الناتج الاجمالي عام 2006 بلغت 28 في المائة، تبعتها البحرين بنسبة 23.3 في المائة، فيما سجلت الكويت ادنى نسبة 8.5 في المائة.)، (17).
مع تدفق تلك المبالغ في فترة العقد السابق فإن الدين العام وصل إلى هذا المستوى؟! كيف؟
علينا أن نرى مظاهر تطور القطاعات الخاصة لكون بعهضا يعيش على حساب تلك الإيرادات الضائعة، لقد غذت القطاعات العامة القطاعات الخاصة خلال فترة التحول السابقة، ثم وصلت القطاعات العامة للأزمة، دون أن نعرف من المسئول عن هذه الأزمة، القطاعات العامة أم الخاصة وكيف وبكم؟ هذه هي الخلاصة الكبيرة للمسألة، لكن الأرقام ضائعة!
ولهذا حين تطرح مقولات التعاون بين القطاعين العام والخاص لا تتوضح الصورة الضبابية.
تريد الأوساط الحكومية الخليجية الاستفادة من القطاعات الخاصة دون إعادة هيكلة للاقتصاديات العامة، وهي هيكلة لو جرت لأدت إلى عواصف اقتصادية واجتماعية بسبب أن التراكمات الربحية أهدر أغلبها من خلال أداوت التملك والإدارة والتوزيع، ولن تتحمل القطاعات الخاصة ما أضاعته تلك الملكيات الحكومية وأما أن تبيع ما تملكه أو بعضه المغذي الذي لا تريد أن تتخلى عنه، أو تتحمل فواتير الإدارة المتزايدة الصعوبة خلال السنوات القادمة.
وبهذا الحل أو ذاك فإن مناقشة القضية تحتاج إلى مواد تحليلية وشفافية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر :
(1) :(الهيئة العامة للاستعلامات المصرية).
(2): (السابق).
(3) (القطاع العام ليس من الاشتراكية في شيء، عمرو عبالرحمن، موقع البوصلة).
(4): ،(إلهامي الميرغني، مستقبل التطور الرأسمالي في مصر، موقع الحوار المتمدن).
(5): (سامح سعيد عبود، موقع البوصلة).
(6): (السابق)
(7): (موقع البوصلة، عمرو عبدالرحمن).
(8): (الموقع: مركز الدراسات الاشتراكية في مصر).
(9):(السابق).
(10): (السابق).
(11) (النفط نعمة ونقمة معاً، 24 مارس، 2009 إبراهيم سيف، جريدة القبس).
(12): (السابق)
(13): (السابق)
(14):(السابق)
(15):(السابق)
(16):(السابق).
(17): (السابق)

خلاصات عـــــــــــــــــــــامة

مسارات الرأسماليات الحكومية الشرقية

     هناك ثلاثة إختيارات اقتصادية جرت في تواريخ الرأسماليات الحكومية الشرقية نبعت من ميزانِ قوىً اجتماعيةٍ ومن بُنى اقتصادية سابقة، ومن  وجهاتِ نظرٍ سياسية مؤثرة على التطور، وهي قد انبثقتْ من هذه الأوضاع الرئيسية:

 1 – ضعف الإقطاع وقوة البورجوازية.

2 – قوة الإقطاع وضعف البورجوازية.

3 – ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية.

تتعلق التجاربُ من الصنف الأول المذكور أعلاه بمسار الشرق، حيث أن التدخلات الغربية في تاريخهِ الانتقالي بين الإقطاع والرأسمالية تحثهُ على التغييرِ والقفزةِ من واقعهِ المتخلفِ السابق نحو التحديث، وكلُ قيادةِ دولةٍ تكونُ لها خططها الاقتصادية، المنبثقة عن تجربتها وظروفها.

ينبثقُ الخيارُ الأولُ وهو ضعفُ الإقطاع وقوة البورجوازية من وجودِ ظروفٍ إستثنائيةٍ قد لا تتكرر في بلدان أخرى، ففي العادة التاريخية للشرق وهو يخرجُ من دياجير الظلمات الزراعية إلى النور الصناعي، أن يكونَ العكس هو الصحيح، أن يكون الإقطاع المسيطر خلال القرون السابقة هو السائد والقوي، وأما البورجوازية فهي ضعيفة تقتصر على المتاجر والصرافين، ولا يدعمها قطاعٌ صناعيٌّ مهم، ولكن في التجربة اليابانية ظهرتْ ظروفٌ مختلفة، بيناها في الحديث عن التجربة الرأسمالية الخاصة اليابانية، جعلتْ من قوة الحكم السياسي طليعة لوعي هذه البورجوازية وتنفيذاً لوجودها المضمر وإتاحة لنموها بكل السبل من خلال تخطيط بعيد المدى يستوعب قوانين التجربة الرأسمالية الغربية الخاصة، رغم أن هذه القيادة تتمثل في حكم الأمبراطور وجماعته، غير أنها تبنت خيار الغرب في البناء الاقتصادي بشكلٍ متكامل.

وتم تكرار تجربة اليابان في جنوب شرق آسيا عبر ما عُرف بتجارب النمور الآسيوية حيث يتاح نمو كبير للرأسماليات الخاصة، وتـُحجم الرأسمالية الحكومية، وهي تكرارٌ للتجربة اليابانية واستفادة من توظيفاتها وتقنياتها، وهذه الاستفادة من الجانبين البنيوي والتقني تعكس عمليات تسارع الرأسماليات الخاصة باعتبارها خط تطوري محوري ومتصاعد في تكوينات الرأسماليات الشرقية.

أما الخيار الثاني وهو (قوة الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو خيارُ الكثير من دول آسيا وأفريقيا، خاصة الدول العربية والإسلامية، فهي بسببِ تخلفها الاقتصادي، وسطوات ماكينات الدول القديمة المتنفذة، وضعف قواها السياسية الطليعية الحكومية  المتبصرة لآفاق المستقبل وتبعية القوى الاقتصادية الخاصة لها، فإنها تراوحُ في مسارها بين الإقطاع والحداثة الرأسمالية، بين الأحجام عن مشروعات الصناعات الكبرى وبين البقاء في مشروعات التجارة والعقارات والتمويل.

ويتمظهر ذلك بقوة في تقزم القطاعات الصناعية وعدم قوننة تطورها بشكل صحيح، وضعف نمو التصنيع في الأرياف، وإبعاد قوى بشرية واسعة عن الصناعة، كالنساء والقوى الهامشية والموظفين الحكوميين، وعدم خلق ثورة ثقافية مواكبة للتصنيع، ومحدودية الحريات.

وهذا يقود لهدر الثروات بشكل مستمر وبأشكال متعددة، فمرة نجد التسربات المالية الكبيرة المستمرة من القطاعات العامة إلى القطاعات الخاصة في العتمة السياسية، أو في تهريب الأموال، أو في تكاليف التسلح ونفقات الحروب، أو في البذخ وغير ذلك.

أما الخيار الثالث وهو الخيار المترتب على(ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو يعتمد على لحظات ثورية فريدة من تاريخ أمم عريقة كالأمة الروسية والأمة الصينية، تقومُ فيها قوى الفئات البورجوازية الصغيرة المتحالفة مع العمال بقيادة معركة التصنيع والتحديث.

ونظراً لهذه القوى الشعبية المتجذرة والمتضررة من الأبنية الاقتصادية القديمة فإنها توسع مدى التغيير وتضرب بشدة العلاقات ما قبل الرأسمالية، وتضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة كذلك بهذا المستوى أو ذاك بين هذه الدول، مما يؤدي إلى جعل الدول هي المالكة الرأسمالية الكبرى، وهو أمرٌ يعيد تشكيل الرأسمالية الخاصة على مستوى زمني معين، وبأشكال من التعثر والتطور حسب تجربة كل بلد وإختيارات قواه السياسية الحاكمة.

 لكن ظروف ضعف الإقطاع وضعف البورجوزاية والمتجهة لتضخيم القطاعات العامة، لا تنفي التكون الرأسمالي. وتضخمُ القطاعات العامة يعودُ للتصدي لقوى الغزو الخارجي ومن أجل نهضة الأمم الشرقية خاصة في البدايات المُبشرة، لكن في نهاية مطاف بناء البنية التحتية يتوقفُ ويتراجع النمو الإيجابي لتصاعد عوامل الفساد الداخلية، وكون مشروع الرأسمالية الحكومية ليس له مالك معين فيضيعُ بين المالكين المتعددين من موظفين كبار وأحزاب وقوى اجتماعية مثل الأوقاف، وليس له علاقة مباشرة مع المنتجين ومع الجمهور المالك الوطني المُفترض، وبالتالي يصبحُ كماءِ السبيل، يتناقصُ ولا يزيد، يتآكل ولا ينمو. يتعطلُ نموه التقني، وتتراجعُ تطوراتهُ التكنولوجية الحفرية الداخلية، خاصة مع تفكك العلاقات بين المؤسسات الاقتصادية والتعليمية، بين العمال والإدارات، بين المؤسسات الاقتصادية والأسواق، وبهذا فإننا نجدُ القطاعاتِ الحكومية الرأسمالية بعد زمنٍ بأنها هي الخاسرة، تدفعُ أكثر مما تقبض، تتسلفُ وتزدادُ ديونـُها، رغم وفرة المواد الخام والمُصنعة المُباعة.

وهذا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي النهائيين يتمظهرُ في تدني الأرباح وتراجع الخدمات، وتصاعد القطاعات الخاصة التي تقومُ على انقاض القطاعات العامة أو على تقزمها، فوزارات الصحة التي أكلتْ الكثيرَ من المالِ العام والأجسادِ وتردتْ خدماتها، تظهرُ إلى جانبها المستشفياتُ والشركاتُ الخاصة الأكثر نجاحاً والأكفأ علاجاً، لكن على ظهور الجمهور الذي يدفعُ باستمرار وبصورةٍ متصاعدةٍ أثمان كافة الفئات البورجوازية التي يتتابعُ ظهورُها في تاريخ الرأسماليتين العامة والخاصة، من جيوبه، مرة كمواطنٍ تابع لحكومات، ومرة كمواطن يشتري خدمات.

وفي الحالتين ينشأ رأسماليون يشكلون طبقة ويجمعون تراكمَ الأرباح مرة باعتبارها رواتب مجزية ورشوات وإكراميات وسرقات، ومرة على أعتبار أنها أرباح خالصة.

أو أن تحدث عمليات الخصخصة حيث تـُباع القطاعات العامة، الخاسرة ليتحملها الجمهور، أو الرابحة ويشتريها الرابحون، وفي كلِ الأحوال يدفعُ الجمهورُ ثمنَ غفلته.

(إصلاحات) الرأسماليات الحكومية الشرقية

بدأت التطورات السياسية في دول الشرق توضح أن الملكيات (العامة) كانت في أغلبها ملكيات حكومية بيروقراطية ولم تكن ملكيات شعبية حقيقية.

ولم يصل وعي الشعوب إلى أن تدخل بقوة لتغيير هذه الملكيات إلا بطرق عفوية.
إن القوى البيروقراطية داخل هذه القطاعات(العامة) هي التي قررت التغيير بناء على عوامل سياسية واقتصادية معقدة. فقد رأت أن مصالحها تتعرض للخطر إذا استمرت هذه الرأسمالية المُدارة من قبلها، مع غياب تفويض الإدارة من قبل الشعوب.
ولهذا كانت(الإصلاحات) هي استمرار لعقليات الهيمنة على الملكيات(العامة) فالدول هي التي تقرر مدى ما تسميه ب(الإصلاحات)، أي ما يُباع من هذه الملكيات وما يبقى تحت الإدارات وبأية طرق تتم عمليات التصفية والإبقاء.
الرأسماليات الحكومية التي تديرها البيروقراطيات تعني أنها ملكيات خاصة لهذه الإدارات التي تحكمت في التصرف بها خلال عقود، وإلى أي حد هي عامة وإلى أي حد هي خاصة، هذا أمر لا يعرف أهل كل بلد تدار فيه مثل هذه العمليات الاقتصادية.
أي أننا أمام طبعة ثانية من الرأسماليات الحكومية الشمولية، التي تقول أن هذه الملكيات هي عامة ولا يمكن بيعها كلها، ولا بد من الاحتفاظ بها كأساس للتنمية(الوطنية). رغم أن هذه الأملاك العامة في حالة خسائر مستمرة.
وللبيروقراطيات طرق تحايل عريقة ولكن أمام تباطؤ تطور هذه الملكيات وخسائرها والأثراء من خلالها لدى هذه البيروقراطيات بحيث غدا هذا الفساد مشكلة وفضيحة داخل أقسام أي طبقة حاكمة.
وهنا تطرح مسألة مهمة هل تغدو الإصلاحات طرق تحايل جديدة على الإصلاحات، أي يظهر شركاء جدد يمدون نفوذهم في الأملاك(العامة)، أم أن العملية جدية في هذا الإصلاح؟
ومن الواضح في البلدان الشرقية عموماً أن الصراع يدور حول فوائض المواد الخام الثمينة، كالبترول والغاز والفوسفات والمناجم وغيرها، وأصرار البيروقراطيات على التحكم في هذه الثروة وتوزيعها بطرق مُلتبسة، وأبعاد الرقابة الدقيقة عنها.
وتترتب على ميوعة توزيع الفوائض وإلتباسها حتى لدى المشرعين نظراً لتحكم الحكومات في تمويه الاتفاقيات الاقتصادية بين الحكومات والشركات المحلية أو العالمية، وكون هذه الاتفاقيات جرت في أزمنة الشمولية وغياب المعلومات لدى الرأي العام، استمرار الاختلالات في البناء الاجتماعي لكل بلد واستمرار الاضطرابات.
ونتيجة لأن إصلاحات الرأسمالية الحكومية الشمولية هي نسخة مستمرة للرأسمالية الحكومية المهيمنة فإن الأحوال تبقى على ما هي عليه أن لم تزدد سؤاً.
أحياناً تغدو الإصلاحات تفكيكاً لدولة كبيرة كالاتحاد السوفيتي، حيث تقوم البيروقراطية الأساسية وهي البيروقراطية الروسية في هذه الحالة بتملك أغلبية الثروة العامة للاتحاد السوفيتي، وهو أمرٌ أدى إلى إنفلاش الاتحاد وتحكم البيروقراطية الروسية بقوة في اقتصاد البلد وزاد هذا من الأثرياء الكبار إلى درجة هائلة!
وفي الصين ظهر أصحاب الملايين فوق عمل شعبي رخيص وهائل.
فكيف يغدو (الإصلاح) زيادة هائلة في الأثراء الفاسد؟
حدث هذا خاصة مع زيادات أسعار النفط، ونرى أن الصراعات بين الكتل الحاكمة، تتفاقم مع هذه الزيادات ومع ظهور وسائل أثراء جديدة. فتظهر قوى سياسة جديدة تقول بأنها تقوم بإصلاحات نظراً للوضع الاقتصادي السيء السابق، في حين أنها تريد وضع اليد على ملكيات الدولة أو أنها تريد توسيع حضورها الاقتصادي.
كذلك فإن أدوات الرقابة على الملكيات(العامة) ضئيلة جداً في هذه الدول ذات الملكيات العامة السائدة، نظراً لغياب البرلمانات والنقابات والصحافة الحرة خلال عقود، وهي إذا ظهرت تكون مقيدة بشكل كبير ومغلولة الأيدي عن الفعل المغير.
فإذا كانت الدول تملك 80% من الشركات الكبرى الإنتاجية المنتجة لفائض القيمة الوطني، وهي بهذا تتحكم في توجيه معظم الدخول، وتشكل الإدارات الحكومية والاقتصادية العامة كيفما تريد، ويغدو أغلب المواطنين وغير المواطنين يشتغلون لديها أو لدى قوى الرأسمال الخاص التي نمت تحت أجنحتها، فإن الديمقراطية والانتخابات والكتل السياسية تغدو من إعدادها للمسرح السياسي.
ولا عجب بهذا أن يستطيع حزب حكومي نبت بين ليلة وضحاها أن يسيطر على الأغلبية البرلمانية. أو أن صيغاً مشابهة تحدث في بلدان أخرى، كلها لا تغيّبُ هذه الحقيقة، بل تلونها حسب أوضاع وتطورات كل بلد.
فإذا استمر الفساد الاقتصادي كيف يمكن أن تجري إصلاحات؟
الخطورة أن تضاف قوى جديدة تشارك في العمليات الاقتصادية الغامضة، فيظهر مستثمرون مفاجئون وشركات وهمية جديدة، وقادة سياسيون كبار يظهرون بين عشية فاسدة وضحاها، وتبرز صحفٌ جديدة ذات إمكانيات هائلة وأصحابها معدمون، وتلعب الأجهزة الحكومية الإعلامية دوراً نشطاً في تصعيد مثل هذه الفقاعات السياسية والثقافية.
وفي خلال هذه الهوجة (الديمقراطية) تكون الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة المتداخلة معها قد توغلت في مناطق استثمار جديدة واقتنصت ثروات خيالية، في حين أنها تماحك على الفلوس الصغيرة الموجهة للعاملين.
هل هي طبعة جديدة من الرأسمالية الحكومية الفاسدة الشرقية في حالة توسع، أي أن العملية هي تحسين صورة معينة وإبقاء الجوهر على ما هو عليه؟
هل تتمكن الأدوات الديمقراطية الشاحبة أن تفعل شيئاً مع صراعاتها ونشؤ أحزاب كثيرة وصراعات هذه الأحزاب مع بعضها البعض؟
بل أن بعض الرأسماليات الحكومية تقوم بتحميل العاملين فاتورة ما أفسدته في الاقتصاد وما يجري من تباطؤ في التطور الاقتصادي ومن ميزانيات هزيلة ومن تآكل للملكيات(العامة) بأشكال متعددة كالقيام بخصخصة للوزارات ذات الأهمية الجماهيرية كالكهرباء والبريد والمواصلات العامة والمياه وترك الموارد العامة الغنية تائهة أو غامضة الوضع.
عملية تغيير الطبعة الثانية من الرأسماليات الحكومية الشرقية صعبة ولا شك، ومسألة نمو الحريات الديمقراطية تحتاج لقوى شعبية ومعرفية وسياسية هائلة متعاونة.
لكن كما رأينا في بعض مسارات التطور فإن الإصلاحات والنضالات المختلفة تقود للمقاربة مع الرأسمالية الغربية الخاصة !

أنماط الرأسماليات الحكومية الشرقية

فيما كان سياسيو الشرق في بدايات القرن العشرين يحاولون القفز على الرأسمالية الغربية الخاصة، عبر نماذج مصطنعة، توجه سياسيو الشرق في أواخر هذا القرن إلى احتذاء نموذج الرأسمالية الغربية، لكن لا تزال الكثير من العقبات والآراء ومستويات التطور الموضوعي المتباين تحول دون ذلك.

وعلى أساس تطورات الرأسمالية الشرقية تنشأ ثلاث موديلات:
موديل الهيمنة الرأسمالية الحكومية المطلقة وهو نموذج قام به الاتحاد السوفيتي. ولم تستطعْ الدولُ الأخرى أن تقومَ بمثلهِ لصعوبتهِ وتطلبه مواردَ هائلة وخطورته على التطور الاقتصادي المستقبلي.
موديل هيمنة الرأسمالية الحكومية مع وجود قطاعات خاصة بهذا الاتساع أو ذلك، لكنها لا تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد، وقد تكون مستقلة وقد تكون قد نشأت من الملكيات العامة بالباطن، وتقابل هذا حكومات دكتاتورية متعددة الأشكال السياسية لكن القبضة على الموارد العامة تكون هي السمة المشتركة.
وأخيراً موديل التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص بقيادة الأول، وهذا يفترضُ وضعاً ديمقراطياً ووطنياً منسجماً، وهو أمرٌ يشكلُ العكس كذلك دون الخروج عن عملية التعاون، أي أن يقوم القطاعُ الخاصُ بقيادة التطور الاقتصادي بدون إلغاء للقطاع العام الصناعي. أي أن هذا النموذج تحكمهُ مقارباتٌ بين القوى الاجتماعية الوطنية المختلفة من أجل تنمية القوى المنتجة المحلية بطرق اقتصادية مختلفة، ويجمعها جامعُ التطور المشترك لقوى الإنتاج. وهذا النموذج تمثله بعض التجارب في دول أمريكا اللاتينية عبر حكومات اليسار.
وفي حالة ثالثة هي حالة الصراع والألغاء فإن الوضع الاقتصادي يتجه للفوضى والاضطراب لغياب إستراتجية اقتصادية وطنية تجمع القوى العمالية والشعبية مع القطاع الخاص في خطة تنموية واحدة مشتركة كحالة مصر مثلاً.
وإذا لم يقمْ أي بلد بتأسيس قواعده الصناعية الكبرى فإن أنماط رأسمالياته الحكومية والخاصة تظل في حالة سيولة اقتصادية وسياسية غير مستقرة على نمط كلبنان على سبيل المثال.
وتمثل رأسماليات الخليج العربي الحكومية حالة مماثلة للموديل الثاني، فالحكوماتُ هي المهيمنة على أغلبية الموارد، وهناك هوامش كبيرة أو صغيرة للقطاع الخاص، مع مشكلات خاصة بالمنطقة، مثل الهدر الكبير للثروة من خلال ظواهر كثيرة: الفساد الحكومي، والعمالة الأجنبية، وتضخم أجهزة الدول، وغياب النساء عن الإنتاج، وضعف التطور العلمي الخ.
تؤدي مقارباتُ الدول الرأسمالية الحكومية للنموذج الغربي الرأسمالي، إلى سلسلة من التطورات والمشكلات الجديدة والصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية الحادة.
فالانتقال من الموديل الأول إلى الموديل الثالث لأن الموديل الثاني هو تحصيل حاصل للأول، يعني تغيير بعض القطاعات العامة بيعاً أو إجراء إدارة رقابية شعبية واسعة على الفوائض الاقتصادية الناتجة منها، وتغيير العلاقة السياسية المهيمنة البيروقراطية على الاقتصاد إلى علاقة اقتصادية تعطي السلع وأدوات الإنتاج مساراتها الخاصة الموضوعية، وهذا يقود إلى تبدل أسس النظام ونسف الكثير من علاقاته.
ويعتمد ذلك على كيفية تغيير القوى السياسية للعلاقات الاقتصادية، هل ينشأ ذلك بخطة وطنية وبعلاقات ديمقراطية بين قوى الشعب أم أن حيتان القطاعات العامة تبقى مسيطرة. وإذا استمرت الحيتان فإن ذلك لا يعني تغييراً إلى الموديل الثالث بل هو بقاء في الموديلين السابقين.
وإذا حدث تغيير حقيقي، وتحول الرأسمال الوطني المجسد في شركات حكومية وأموال حكومية، وغدت كلها بيد الإدارة الشعبية، فهذا أمرٌ يغير البناء التحتي، وتتبدل علاقاتُ الإنتاج، ولا تعودُ الدولة هي المالكُ الكلي، وتصير رمزاً للمالكين الحقيقيين سواء كانوا قطاعاً عاماً أم خاصاً.
إن قوى الإنتاج المادية والبشرية التي تتعرض للاستنزاف من قبل الدول المهيمنة الفوقية والمُخطـِّطة كيفما تشاء للاقتصاد، والذي يقود لأشكال كثيرة من الفساد والهدر، تتعرض للتآكل والضعف على مستويات مختلفة كأن تتضخم في جانب وتضعف في جوانب أخرى مهمة، أو أن تذهب الموارد للخارج، أو لبذخ المسئولين. وهي عادة تجعل القوى العاملة في ضنك معيشي مستمر، وفي حالة ضعف علمي، وتضخم عددي كمي، نظراً لطابع الاقتصاد غير المخطط.
حقق النمط الأول خاصة تحولات كبرى في الإنتاج وحقق الثورة الصناعية في ظروف الشرق، لكن مع استمرار الدكتاتورية السياسية فإن الفوائض الاقتصادية وربما حتى الإنجازات الصناعية قد تتعرض للتدهور، بسبب بقاء عمليات الفساد والبيروقراطية، وبالتالي فإن فوائض كبيرة تذهب للخارج، أي أن الهبوط إلى الموديل الثاني ممكن كذلك للموديل الأول، مثلما يحدث في جمهورية روسيا الاتحادية حيث يحدث نزيفٌ ماليُّ نحو الغرب، وتبقى الصناعات ضعيفة، وتبقى الدولة بائعة مواد خام ثمينة وبضائع عسكرية. وهكذا فإن شبح الدولة الاستبدادية يطارد روسيا دائماً.
أما الموديل الثاني فهو جائزٌ أن يرتفعَ إلى مستوى الموديل الأول، إذا حوّلَّ قسماً كبيراً من الفوائض لإعادةِ إنتاجٍ موسعٍ موجهٍ للتحديث الصناعي والتحديث العلمي ولتغيير الـُبنى الاجتماعية والثقافية المتخلفة.
وتقومُ هذه الأنماط على نمو العلاقات الرأسمالية العالمية كذلك، المتناقضة بين الشرق والغرب، أي بسبب انتشار العلاقات الرأسمالية الواسعة في دولِ الشرق، وكذلك بسببِ تأزم العلاقات الرأسمالية في الغرب.
وهذان المظهران المتضادان يعكسان شبابية الأسواق الشرقية ووجود قوى عمل هائلة ورخيصة في بعض الدول الكبيرة، وحدوث انتقالات للرأسمال الغربي نحو هذه الدول، وشيخوخة الرأسمالية في الغرب من حيث تصاعد الأسعار والأجور والبحث عن الأسواق المتقلصة دائماً وتفجير بعض الحروب، (وهذه العملية تشكل إعادة إنتاج موسعة عالمية في بعض الدول الآسيوية الكبرى فيما تدهور بلداناً أخرى إلى درجة الهلاك)، إن هذه الظواهر تطور الرأسمالية في بعض بلدان الشرق، وتقوى حضور العمال والمؤسسات الديمقراطية الأهلية في حياة الدول الغربية.
كما أن الدول الغربية تستدعي عمالة شرقية رخيصة، مثلما تمتص الفوائد النقدية الكبيرة، القادمة من دول النفط.
وهكذا فإن أزمة العقارات الأمريكية مثلاً تعبر عن تصاعد الاقتصاديات الطفيلية، أي تسارع بعض القطاعات المالية خصوصاً لجني أرباح كبيرة بدون أن يواكب ذلك تطور الإنتاج، فتغدو الأزمات المالية الغربية ليس كما كان في الماضي مقصورة على الغرب بل تصبح عالمية، بسبب تشابك موديلات الشرق الاقتصادية مع الرأسماليات الخاصة الغربية. فتغدو الظواهر الطفيلية والأزمات كونية تعرقل الإنتاج العالمي.

من يملك الرأسمالية الحكومية؟

في إحتدام الصراعات الاقتصادية والسياسية في العالم الثالث الذي يحاول الخروج من الطبيعة الهجينة الاقتصادية لأنظمته تبقى الملكية (العامة) محور تلك الصراعات.

غموض الملكية من غموض التطور السياسي، حيث تواصلُ الدولة دورَها الإقطاعي القديم بالهيمنة على الأرض، ثم الموارد، ثم الثقافة.
إن أعمار الملكيات الحكومية تتراوح مع نشؤ نقيضتها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فهي تغدو حاضنة للجمهور العامل، الذي يجد في الملكية العامة جانباً أفضل من الملكية الخاصة تلك، ومن هنا نشؤ الأبويات الاقتصادية الشرقية التي تتمظهر حيناً بالدولة الوطنية وحيناً بالدولة الاشتراكية، وهو أمر يسرع في بعض الجوانب من اللحاق بالغرب.
تنبثق الملكية العامة من الأدوار العتيقة للدول الشرقية، فنجد أن الأرض هي الملكية الأساسية لانبثاق الرأسمالية الحكومية، لكنها لا تـُؤخذ كبضاعةٍ بشكل كلي، بل كملكية تابعة للحكومة، فهي توزعها أو تصادرها أو تحولها لأملاك (عامة) كيفما تحدثُ السيطرة السياسية.
تساعدها في ذلك الجذور القديمة حيث وجود الملكيات العامة للآبار وللمراعي، وبالتالي الغياب العميق للملكية الخاصة الزراعية، التي ظهرت في بعض الدول الشرقية الكبيرة خلال القرنين الماضيين فقط، كما ظهر ذلك في ما يسمى بإصلاحات محمد علي في مصر.
كانت وجود الملكيات الجماعية للأرض الزراعية في الشرق من أهم أسباب استقرار الزراعة ومحاصيلها، ومن أهم أسباب الجمود الاجتماعي كذلك، فهو شكلٌ يؤبدُ الملكية الإقطاعية حيث لا تقوم الحكومات في المراكز (الوطنية) أو في مركز الخلافة بتغيير نمط الزراعة وتطويره أو تبديل حياة المزارعين، أنها فقط تكتفي ب(الخراج) حتى سمى أحدُ الباحثين هذا النمط الإقطاعي باقتصاد الخراج.
ولهذا حدث في قرون الحداثة العربية الأولى هذا الأقحام للملكية الخاصة في الريف، عبر هيمنة الدول المحلية أو الغربية، وقدمت قوى يسارية عديدة مشروعات تقوم على الاحتفاظ بهذا الشكل التعاوني الإنتاجي في الزراعة، وتطويره لمقتضيات الحداثة.
كان إلحاق الملكية الزراعية بالدولة قد تم بأشكال عديدة إذن، عبر التملك الخاص، أو عبر الاقتصاد الحكومي العام، وهو ما شكل جذور التدهور المستقبلي الكبير للزراعة، خاصة في مواجهة نمور التغلغل المتعددة، وأدى إلى تدهور البيئة الزراعية، وتخفيض أجور العمال للانتقال للمدن، وخلق فوائض سكانية جاهزة للحروب والعمل المنخفض السعر وإستغلال الأرياف والبوادي للهو والصيد.
حولت الدولُ الأرضَ وخاماتها وإنتاجها إلى تابع لها، لأنها كانت الثروة الأساسية في الزمن السابق، لكن مع تغير الثروة وانتقالها للمواد الخام الصناعية، انتقلت سيطرات الدول إليها، وأخذت الأرضُ الزراعية تفقدُ أهميتها المركزية. وهو الأمر الذي ساهم في تدهور مكانة السلع الزراعية وانحدارها، خاصة مع عدم تحديث الأرياف.
هذا قد وضع السيطرة الإقطاعية على التطور الرأسمالي الشرقي المتنامي منذ البداية، فجعل من ملك الأرض سابقاً يملك البترول والحديد والذهب الخ.
تنامت ثرواتُ من يحكم، تبعاً لسيطرته على المواد الخام، ومدى قيمها في السوق العالمية، ومع غياب الديمقراطية فإن الثروات معظمها شكل (الرأسماليات الخاصة)، فإذا كان هناك رقابة شعبية، أو أن الحكم قد انبثق من ثورة، فإن تحجيم الرأسمالية الخاصة داخل الحكومة أمر ممكن، وهو الأمر الذي يوسع الملكية العامة حسب حضور القوى العمالية والاشتراكية داخل النظام، لكن ذلك مؤقت، فقوى الإستغلال أقوى من قوى الشراكة، وغياب الحريات يشجع على الفساد، وما تلبث الملكيات العامة أن تـُنخر ويتحدد ذلك اقتصادياً في الانتقال من زمن الوفرة إلى زمن الاستدانات الحكومية المتعددة ثم يأتي الأفلاسان الاقتصادي والسياسي في نهاية المطاف.
إن الملكيات العامة تغدو مشكلة محورية مع تتابع الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الحديثة، فيظهرُ الخلافُ على الأملاك الحكومية نفسها، حين تتشق الدولة الكبيرة إلى دول، كما حدث في روسيا ودول الرابطة على ممتلكات الاتحاد السوفيتي السابقة، وكما يجري من خلاف على ممتلكات العراق النفطية، وكما يحدث من سلب علني للقطاعات والأملاك العامة في العديد من الدول. وحين تثور القوميات والطوائف في بعض الدول بسبب الموارد العامة وسؤ توزيع فوائضها إيذاناً أما بفك الارتباط بينها أو بتشكيل وحدة قومية أو وطنية على أسس جديدة.
لكن نقيض الملكية الحكومية هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فهذه الملكية المتقزمة خلافاً للملكية العامة تصعدُ وتتوسعُ، فالملكية العامة تتوقفُ عن النمو في لحظةٍ زمنية معينة متعددة الأشكال بين الدول الشرقية، حسب تطوراتها الخاصة، وهذا التوقف هو الذي يصعدُ النقيضُ أي الملكية الخاصة، وكانت الطواقمُ الإدارية وهي تشتغلُ للملكية العامة تفكر في كيفية تنامي أملاكها الخاصة، وعبر الخطط الاقتصادية والإنشاءات الوطنية الباهرة والمفيدة في العديد من الجوانب تزدهرُ الجيوبُ الخاصة، فيتم نقل الفوائض بشكل مستمر من جهة إلى جهة أخرى، حتى تبدو الفوارق متسعة وكبيرة وتزداد بين الضفتين المتباعدتين! كما تتدهور الخدمات الحكومية بشكل دائم وتقام إلى جوانبها الخدمات الخاصة التجارية.
كما يتم هنا الاستفادة من ملكيات الأرض حسب وضع كل دولة، فتـُلحق بالمشروعات الحكومية الخاصة.
لا تتيح تطورات الملكية الخاصة المنبثقة من الملكيات العامة مستويات ديمقراطية كبيرة، فقد اعتمدت الدولُ على الدين كشكل تغيّب بهِ وعي الناس، أو على أي إرث سياسي يستخدم في عمليات تلميع من جهة وإطفاء من جهةٍ أخرى، وهي كلها أفكار تحنيطية للوعي تمنعه من رؤية الواقع، ولهذا فإن الليبرالية تظهر بشكل كسيح، عاجزة عن التحول إلى ميدان السياسة، ونظريات الغرب التقنية الثقافية تتحول إلى سحر آخر.
وليس عجز الليبراليات سوى عجز للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج عن الأنتشار والتعمق في مواد الأرض وخاماتها والتوظيف الحديث لبشرها، ولضعف وعي العمال تجاه الملكيات العامة. ومن هنا فإن الإيديولوجيات المستوردة تبقى بلا قواعد مادية تحملها للناس.

26/12/2009

تم

عبـــــــدالله خلـــــــيفة

‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆                        

𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙

21.10.2014 | 1.3.1948

من مواليد القضيبية – البحرين.

خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1974.

اعتقل من سنة 1975 إلى 1981.

◇ عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعية والثقافية في الصحف البحرينية والخليجية، ونشر في العديد من الدوريات العربية.

عضو اتحاد الكتاب العرب بسوريا.

◇ ساهم في مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، وأول مؤتمر أشترك فيه كان سنة 1975 الذي عقد بالجمهورية الجزائرية وقدم فيه بحثاً عن تطور القصة القصيرة في البحرين، وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، وببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والاستبداد» وذلك باتحاد الكتاب المصريين. والعديد من المؤتمرات الادبية العربية.

◇ منذ سنة 1966 مارس عبــدالله خلــيفة كتابة القصة القصيرة بشكل مكثف وواسع أكثر من بقية الأعمال الأدبية والفكرية التي كان يمازجها مع هذا الإنتاج، حيث ترابطت لديه الكتابة بشتى أنواعها: مقالة، ودراسة، وقصة، ونقد. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي قام بطبع نتاجه القصصي والروائي والفكري في دور النشر العربية المختلفة.

ونتاجه الأدبي والفكري يتنوع على النحو التالي:

القصص القصيرة:

1لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».

2الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل– الأحجار – العرائس – الماء والدخان».

3يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدربأماهأين أنت الخروج – الجد – الجزيرة».

4سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص:السفرسهرة – قبضة تراب – الطوفان  – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».

5دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء – الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».

6جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة –رجب وأمينةعند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد».

7سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش الناروراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».

8الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوسليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى– الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

9أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ– شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – القائدُ مجنونٌ – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف».

10إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – گبگب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار – أنشودة الصقرغليانُ المياه».

11ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة – جزرُ الأقمار السوداء – سيرة شهاب – معصومة وجلنار– سارق الأطفال – شظايا – الترابيون».

12باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الأول: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، 2004.

الأعمال القصصية الكاملة، المجلد الثاني: لحن الشتاء، الرمل والياسمين، يوم قائظ، سهرة، دهشة الساحر، جنون النخيل، سيد الضريح، 2021.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثالث: مريم لا تعرف الحداد، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، الينابيع، 2021.

الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع: محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021.

الأعمال الروائية:

13اللآلئ، 1982.

14القرصان والمدينة، 1982.

15الهيرات، 1983.

16أغنية الماء والنار، 1989.

17مريم لا تعرف الحداد، 1991.

18الضباب، 1994.

19نشيد البحر، 1994.

20الأقلف، 2002.

21ساعة ظهور الأرواح، 2004.

22رأس الحسين، 2006.

23عمر بن الخطاب شهيداً، 2007.

24التماثيل، 2007.

25عثمان بن عفان شهيداً، 2008.

26يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، 2008.

27محمد ثائراً، 2010.

28ذهب مع النفط، 2010.

29عنترة يعود الى الجزيرة، 2011.

30الينابيع, الطبعة الكاملة، 2012.

31عقاب قاتل، 2014.

32اغتصاب كوكب، 2014.

33رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.

34ثمن الروح، 2016.

35ألماس والأبنوس، 2016.

36ابنُ السيد، 2016.

37الأرض تحت الأنقاض، 2017.

38حورية البحر، 2017.

39طريق اللؤلؤ، 2017.

40بورتريه قصاب، 2017.

41مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، 2018.

42شاعرُ الضياء، 2018.

43خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ، 2019.

44هُـدهـُـد سـليمـان، 2019.

الدراسات النقدية والفكرية:

45 – الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي، 2004.

46الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، 2005.

47الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الثالث، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005.

48الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

49نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، 2007.

50– تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية، 2008.

51صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران، 2016.

52الملعون سيرة وحوارات وما كتب عنه، 2016.

53تطور الأنواع الأدبية العربية: دراسة تحليلية للأنواع من الشعر الجاهلي والقرآن حتى الأدب المعاصر، وهي دراسة مكثفة فكرية تكشف علاقة التداخل بين النصوص العربية والصراع الاجتماعي، 2016.

54 – الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي: وهي قراءة جديدة للماركسية، تبحثُ أسلوبَ الإنتاجِ الراهن في الشرق عبر نظرة مختلفة، الكتاب الثاني:لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته، 2016.

55عالم قاسم حداد الشعري، 2019.

56عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله، 2019.

57الكلمة من أجل الإنسان، 2020.

عبــدالله خلــيفة على موقع الحوار المتمدن

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436071

   مليون قارئ. 6,348,633 عدد إجمالي القراءات:

عدد المقالات المنشورة: 1,218.

عبــدالله خلــيفة على ووردبريس:

https://isaalbuflasablog.wordpress.com

https://iakalbuflasa.wordpress.com

عبــدالله خلــيفة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/abdullakhalifaalbuflasa

عبــدالله خلــيفة على You Tube:

https://www.youtube.com/channel/UCdyc68FyFxWEu1nt9I7K46w

عبــدالله خلــيفة على مدونة بينترست:

عبــدالله خلــيفة على مدونة إنستغرام:

https://www.instagram.com/abdulla_khalifa_albuflasa

البريد الالكتروني لـ عيسا خليفة البوفلاسة

isa.albuflasa@gmail.com

isa_albuflasa@yahoo.com