الأرشيف الشهري: جويلية 2021

الثقافة والمثقفون البحرينيون

قوة الثقافة وقوة المال

تتجسد قوة الإسلام الأول، قوة التغيير العربي الإنساني، في تحول الثقافة إلى ثقافة تغيير، وهي لم تتحول إلا بسبب دخولها في عقول الناس.
والثقافة حين تصير قوة تغيير كبرى لا بد أن تلتحم بمصالح الجمهور الواسع، لهذا فإن الدعوة السرية المكية المخصصة لتشكيل الكوادر الأساسية، تصيرُ في المرحلة المدنية قيادة جمهور القبائل الواسع المنخرط في العملية التحولية التاريخية.
لكن الثقافة ظلت في هذه المرحلة القصيرة من عمر الزمن قصيرة، رغم إشعاعها الواسع، فهي لم تلتحم بأداة الملكية العامة، إلا في لمحات من عهد عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، ثم هجم عليها الملأ مرة أخرى كما هجم في السابق على الثروة العامة.
قوة الثقافة خطيرة وأعجازية، لكنها تغدو بلا جدوى حين تغدو ثقافة محضة، نخبوية مفارقة للجماعة، ولا تقيم العلاقات الوطيدة مع الجمهور، وحين تتصدى لمهام التغيير فلا بد أن تجعل العامة أداة التحويل لها، لكي يصير الخاصة في علاقة ديمقراطية مستمرة مع العامة.
لقد استطاع الملأ المكي الذي استعاد السيطرة على مقاليد السلطة أن يفكك سلطة الثقافة، عبر سلطة المال.
إن سلطة المال أقوى في كل العصور، وليست سلطة الثقافة سوى لحظة تاريخية أستثنائية ومبهرة بقوتها وإنجازاتها، لأنها تقوم على المشاركة والتضحية والأخوة الإنسانية، لكنها لا تحكم طويلاً، لكونها تبتعد عن العامة، وتهمل الملكية العامة، وتهمل تجنيد العامة وتحويلها إلى أساس للسلطة.
وسلطة المال لا تكتفي بإغراء الذهب والفضة بل هي تريد التحكم كذلك في الثقافة وتدجينها وتحويلها إلى دجاجة من دجاجاتها التي تبيضُ ذهباً!
ومن هنا حين تمكنت من السيطرة على مقاليد الحكم أخضعت الثقافة بشتى ألوانها لتغلغلها ولسيطرتها، فغدت الثقافة مهتمة بمصالحها الذاتية، فصار الفقيهُ مستأجراً، والشاعر مرتزقاً، والعالم تابعاً، والناثرُ كاتب رسائل سلاطنية، والكيمائي يبحثُ عن تحويل المعادن لذهب الحكم، الذي أضاع كل الثروات على شهواته وخدمه..
تفككت عناصر الثقافة المتوحدة في القرآن، فصارت تعادي بعضها بعضاً، مثلما أن المثقفين يتصارعون فيما بينهم، والشاعر يعادي الناثر، والعالم يتجاهل الشاعر، والفقيه يحتقر ثقافة غير المعّممين، وهكذا استطاعت الطبقة الحاكمة التي ركزت السلطة والثروة بين يديها، أن تفكك عناصر الثقافة التي لم تستطع أن تروضها كلها بين يديها!
ولا تستطيع أن تعود الثقافة لمكانتها العالية دون أن تستعيد وهج المراحل الثورية العظيمة السابقة، بأن تعود للناس، وأن تصبح قوة تغيير كبرى.
وقد حدث ذلك في كل ثورة كبيرة، فالثورة الفرنسية التي أسسها المثقفون سرعان ما التهم خيراتها الصناعيون والماليون، وغدت الكتب التي كانت مشاعية وتنويرية، خاضعة للسوق، ولتحكم دور النشر الكبرى، وانقسمت الثقافة إلى ثقافة سوداء خاصة بالجمهور وتعني بالجنس والأبتذال والجريمة الخ ويقرأها الملايين، وثقافة للنخبة غامضة وصعبة، وذات أشكال غير مرتبطة بمعارك العيش، ومغتربة ..
وكما هي قوانين الثقافة والمال، فالثقافة العربية الجديدة في رحلة تغييرها للحياة، لابد أن تعود لتنصهر في معارك الجمهور لتعريب واقعه وتحديثه، فتتوجه للسيطرة على المال العام، لخلق ثورة صناعية علمية، ففيء المسلمين الأول والذي صادرته الأرستقراطية يعود لها الآن عبر السيطرة على القطاع العام، وتوجيهه نحو تطورها المعيشي والثقافي.

الثقافةُ كرأسِ مال

حين إنفصلَ العملُ الفكري عن العمل اليدوي غدتْ الثقافةُ رأسَ مالٍ.
المثقفون في تعبيرِهم عن العمال والحرفيين يضمرون رأسَ مالٍ من خلال هذا التعبير.
فهم يتولون القيادات في الوظائف والمصانع والشركات والأحزاب، فهم يرتفعون على حساب الشغيلة أو يسرقونهم فيما بعد عبر أنظمة رأسمالية الدولة.
ومن هنا فلا يوجد حزب بروليتاري بقيادة مثقفين.
أو دولة إشتراكية بقيادة مثقفين أو برجوازية صغيرة.
هذه الأوهامُ نتاجُ عدمِ معرفةِ المستقبلِ الاشتراكي للإنسانية وكيف يتحقق. فهي كلها أحزابُ برجوازيةٍ صغيرة وما فوقها وما اليها.
حين يقود المثقفون أي دولة أو حزب فهذا يعني أن طبقةً غير العمال هي التي تسّيرُ الدولةَ أو الحزب.
في المستقبلِ حين سيتحولُ العمالُ إلى مثقفين تكون الإشكاليةُ قد رُدمتْ.
وتعني أن تناقضاتَ الوجودِ الاجتماعي في تجسيداتِها الكبرى مثل التناقض بين العمل اليدوي والعمل الفكري، بين الريف والمدينة، بين الثقافة والإنتاج، بين المالكين والأجراء، قد حُلت.
وتكونُ الإنسانيةُ قد وصلتْ إلى مستوياتٍ من الرقي مختلفة كلياً عما نعيشُ فيه.
الحزب البروليتاري بقيادة المثقفين هو حلم أكثر منه واقعا.
والحزب البرجوازي بقيادة مثقفين موظفين ممكن.
هل يقوم أغنياءٌ بالدفاع عن الفقراء وبشكلٍٍ حقيقي مستمر؟! هذه فكرةٌ مثالية نادرة، (رسولية) نابعة من فكر الأديان المثالي. وفي الحياة تتبخر. ولم تستطع الدعوات الدينية مع قداستها الأولى وتضحياتها أن تستمر في العدالة.
لكن يُقال هنا ألا ترى المثقفين يناضلون ويدخلون السجون؟ وهذا أمرٌ صحيح، لكن حين يضحون، ولا يعتبرون الأفكارَ سلعاً، أي لم يُدخلوا في وعيهم أنهم يعيشون مجتمعات رأسمالية تحسبُ المشاعرَ والأفكارَ بالعملة الرخيصة، ولا يزالون في زمنِ الحلم الاشتراكي. أي حين لا يزالون يؤمنون بفكرةِ الإشتراكية الخيالية الراهنة، ويدافعون عن الطبقات الفقيرة بدون مقابل.
ففي العالم الشرقي النامي ليس ثمة ظروفٌ حقيقية للاشتراكية ولكن بعض الناس يناضلون في شروطها المستقبلية التي لم تُوجدْ بعد ويناضلون من أجل طبقات شعبية يشعرون بفقرها وإستغلالها وضرورة تطورها.
لكن علينا أن نقيسَ ذلك بالفترة التاريخية، كم صمد هذا المثقف أو ذاك، كم بقي ينتجُ الفكرَ بشكل تضحوي، ولم يوظفه في تجارة، أو في دسائس سياسية، حينئذ سنجد بعضاً من ذلك، ولكنها نماذج نادرة لا تصلُحُ للقياس العام.
فنحن لا نستطيع أن ندخلَ اللوحاتَ الفنيةَ العبقرية والتماثيل الخالدة والروايات العظيمة في ميزان التجارة. رغم أن الظروفَ الملموسة العابرة تضعُ هذه (السلعَ) في السوق.
ولو كان ذلك الحلمُ واقعياً وممكن التطبيق على العام، فلماذا هذه الخيانات المستمرة من المثقفين ومن تحولاتهم وإنتهازياتهم، وتلاعباتهم بين الطبقات وإستغلال الثقافة للخداع والصعود ثم تشكيلهم بيروقراطيات إستغلالية في الأنظمة التي سُميت إشتراكية أو قومية أو وطنية؟ وها هم يدافعون عن إمتيازاتهم بالمدافع!
الفكرةُ وصناعاتُها وإنتاجُها هي قوةُ عملٍ، وحين يتشكلُ ذلك في مصنعٍ أو إدارةِ مؤسسة، يَخضعُ ذلك للمقاييس الكمية؛ وأهمها طبيعةُ العملِ وتصنيفاته، ويتحددُ الراتبُ أو الأجرُ حسب ذلك مع قياسِ الزمن وكيفية تجديد قوة العمل الفكرية إجتماعياً، حيث أن تجديدَها يتطلبُ مواصفاتٍ غير تلك التي تجري في تجديد قوة العمل اليدوية.
وشقاء المنتجات الفكرية والإبداعية في عالمنا أنها تتشكلُ في سوقٍ غير رأسمالية متطورة.
أما قوةُ العملِ الفكرية حين تَخضعُ للسياسة فهي تخرجُ عن دائرةِ البضاعة العادية، وتدخلُ دائرةَ السلطة.
الثقافةُ السياسيةُ أو الفلسفيةُ أو الاقتصادية أو القانونية حين تدخلُ العملَ السياسي تخضعُ لطبيعةِ الدولةِ المعنية التي تُعلبُ فيها هذه المنتجات، ويحددُ ذلك وضعُ الدولةِ التاريخي، فهل هي ديمقراطيةٌ أم شموليةٌ، أهي على طريقة رأسماليات الشرق الحكومية أم هي ديمقراطية تبادلية للسلطة؟
في رأسمالياتِ الدولِ الشرقية السلعُ الفكريةُ المُسيَّسة تخضعُ لتوجيهاتِ الحكم، ولكيفيةِ صناعتهِ للسيطرة السياسية الاجتماعية، فمثقفٌ يحركُ الرأيَّ العام ويوجهُ الناسَ من خلال جريدة أولى أو تلفزيون، هو غيرُ كاتبِ زاويةٍ مغمور.
في الرأسمالياتِ الديمقراطية تخضع الثقافة إلى السوق وتداولاته، وللشهرة وللقرب أو البعد من قوى السوق العملاقة المؤثرة. فالمثقف يرتفع وينخفض حسب التداول مثله مثل السيارات والثلاجات.

الثقافة والديمقراطية

خرجت الثقافة الحديثة المضادة للتقليدية من المنظمات السرية البحرينية، وكان لهذا الميلاد جوانب إيجابية وسلبية، فقد ربط هذه الثقافة بقضايا الناس وبالصراع السياسي الدائر، ووهج صوتها، وأعطاها زخماً ديمقراطياً، سواء بالانفتاح على الواقع وتاريخه وفلكلوره وبناه التحتية التعبيرية والفكرية المتوارية ، أو بتجاوز الأشكال التعبيرية التقليدية التي كانت تعبرُ عن مواقف متعالية على الجمهور والواقع، فأوجد أشكالاً تعبيرية جديدة غدت مفتوحة على تطورات لاحقة، حسب مدى متابعة دينامكية الواقع والتحولات الفكرية والإبداعية في العالم..
ولا يمكن أخذ العلاقة الجدلية بين الثقافة والواقع، كعلاقة سنوات أو فترة محددة، بل هي تعلو على هذه الانعكاسية المباشرة، ومن هنا فقد كانت الثقافة الإبداعية وهي تنشأ مخلوقة من أصداء بعيدة للحركة الوطنية المحطمة في منتصف الخمسينيات، وقلة هم من عاشوا بشكل واعٍ حركة الهيئة ومطالبها بالديمقراطية، وحين استوت المنظماتُ السرية الوطنية على عرش الحياة، كان صدى حركة الخمسينيات في الأدب الجديد خافتاً، وكان ثمة زخم ثقافي جديد قادم من الدول العربية ومن المعسكر الاشتراكي، وهو كله يكرس ارتباط الثقافة بالصراع السياسي.
وبين الغموض الشديد والوضوح الشديد، وبين التعرية السياسية الحادة وبين الهموم الفردية الخافتة، بين أن يكون الأدب منشوراً وبين أن يكون لعبة، بين أن يكتسب أدواته الخاصة وبين أن يكون تابعاً للسياسة، خاضت الثقافة الجديدة سنوات طويلة من المعارك والمحاولات والتجارب والاستيرادات الخارجية الفظة والتفكير الداخلي العميق، حتى بدت تفرز بعض الوجوه والملامح والنتاجات..
كان الارتباط بالحياة معبراً عن ذلك الهاجس العميق الشعبي المتواري بالصراع ضد الاستبداد في شتى أشكاله، ولم تكن للديمقراطية ملامح سياسية واجتماعية قوية ومحددة، وكان الارتباط الفكري للمنظمات السرية بالحركات والأنظمة (الاشتراكية) يجعل فهم الديمقراطية عسيراً ومضطرباً، فتغدو الديمقراطية متوارية في ظل توجه للثورةِ بأي شكل، والهجوم على الاستغلال الأجنبي والداخلي بطريقةٍ سياسية ساحقة.
من هنا والحركاتُ السرية تعملُ من أجل ديمقراطية غير واضحة المعالم، كانت تكرسُ دكتاتورية كذلك، وكانت تشيعُ مناخاً من أجل الحريات بأدوات الاستبداد، وكانت وهي تؤسس أبنيتها الهرمية، وتخلقُ قواعدَ للتبعية والانضباط والنضال والبيروقراطية السياسية، وتحجيم الفكر..
إن هذه العملية المركبة من التأثير الإيجابي والسلبي، ومن الاستفادة مما هو نضالي وديمقراطي وتجديدي عربي، وبتسربِ ما هو استبدادي وشعارات مسطحة، وهي أمورٌ تتداخل بقوة، وتنسجُ نفسها في الأفكار الأدبية والنتاجات.
ولهذا حين تظهر مؤسسة أدبية تبدأ تلك الجوانب المتعاكسة في البروز، فيظهر استبدادُ جماعةٍ سياسية بأسرة الأدباء، وهو الكيان الثقافي لتلك المنظمات الوطنية السرية، في حين تقاوم هذا الاستبداد منظمة أخرى، توجه الأمورَ نحو إشاعة مناخ تعددي، كما توجه تلك الجماعة الثقافة إلى الربط المباشر بالسياسة وقضاياها وبشعارات منظمتها فتقوم الأخرى بشيء مضاد.
وفي حين إن النتاجات تأخذ مساراً معقداً إلا أن المؤسسات تغدو مكاناً لصراع المنظمات والدول، ويحدث تشابك بين الجانبين وهما النتاج الشخصي ومسار الحركة الثقافية وعلاقاتها بالمؤسسات الكبرى.
يتوجه الأدب إلى تحليل ونقد ركائز الاستبداد في جوانب الحياة المختلفة، ويعتمد ذلك على مدى تطور رؤيته الديمقراطية العميقة المتوارية، ولهذا فإن ارتباط الأدباء والفنانين بمؤسسات استبدادية وتقليدية يعرضهم للتدهور الإبداعي على المستوى البعيد، وقد يأتي هذا على شكل أفكار تبدو مجردة، وقد يأتي على شكل نزعات فنية، وعلى اربتاط إداري، وهي أشياءٌ تتداخل فيها التجربة السياسية والعمل الفني المستقل، والوظيفة والطموحات الشخصية، والتضحية والحياة والموت !
وهكذا أخذت قوى استبدادية قومية وتقليدية بالتدخل الواسع في الحياة الثقافية نفسها وتوظيفها لخدمة تلك الجهات، وكانت عملية محاصرة الثقافة الوطنية الديمقراطية الهشة التي تكونت فيما بعد أوائل الستينيات من القرن الماضي، ذات مظاهر متعددة. فكان إصدار كتاب واحد يعتبر عملية تضحية، فلا سند ولا قراء كثيرون، ومنطقة إصدار هذه الكتب بعيدة، وبالتالي كان دخول هذه الكتب إلى وعي الناس، محدوداً، وإذا كان ذلك أسهل في الشعر حيث يعوض عن خسائره تلك بإقامة الأمسيات، فإن القصة والرواية، تغدو صعوباتها أكبر وأفدح.
ومع ذلك فإن النوعَ القصصي ثابر على التطور، بسبب أن مواجهاته مع الواقع كانت أكبر ومستمرة ومتصاعدة، سواء من النوع القصصي القصير إلى الرواية.. لكن الصعوبات كانت موضوعية، فحركة أدبية وفنية ذات عمر قصير، في بلد صغير، ومحاصَّرة، وبعيدة عن مراكز الإنتاج والسوق العربية.. كان لا يمكن ألا أن تكون في وضع صعب.
والحركة الفنية تغدو مشكلاتها أكبر هنا فهي مرتبطة بمعارض، مشمولة برعاية رسمية، وبأمكنة فندقية بارزة، فغدت أما جزءً من السياحة، أو من الفلكلور السياسي الاحتفالي، فتم أحتواؤها، وتوجيهها أما لالتقاط فوتغرافي مباشر من الواقع، وأما لغموض شكلاني فعجزت عن التعبير العميق عن الواقع والإنسان.
ومن هنا عجزت المعارضة عن الدخول الهام إلى الحياة التشكيلية، في حين كان المسرح واعداً، وظهر من قلب حركة المعارضة في الخمسينيات عبر الأندية، ودخل في لعبة المغامرة السياسية والفنية في أوائل السبعينيات، بالتصدي النقدي لقضايا الفقر والسلطة والسياسة بأشكال حادة، لكن كانت هذه مراهقة الشباب، فسرعان ما راح يتسربُ إلى موضوعات تقليدية، كقضايا الأسر، والزواج مثل المسرحية التي صورت كيف أن الشاري كان يريد شراء بقرة لا خطبة الأبنة كما ظن الأهل! أو راح المسرح يعلجُ قضايا الغوص، ويجسد الأمثال الشعبية البائتة، ثم ظهر مسرحُ الخريجين فجدد في الحياة المسرحية بموضوعاته وقضاياه، ولكن القبضة الدكتاتورية وصلت إلى عنقه فتوجه إلى عروضٍ غامضة، وانسحب من العلاقة مع الجمهور، ثم انفصم بشكلٍ كبير عبر التجريب، وكان البعضُ يريدُ تحويلَ التجريب إلى طاقةٍ نقدية جديدة فتم ذلك بشكل نادر، لكن كانت المسألة المحورية غائبة وهي علاقة هذا المسرح بالديمقراطية وقضايا الجمهور . .
لكن نستطيع أن نقول مع ذلك إن بعض جوانب الأدب كانت تزدهر في السجون، فكان بعضُ الشعر والقص يمر في مرحلة إعادة نظر للعلاقة المباشرة التسطيحية بين الأدب والواقع، ويجدد على ضوء تجارب الحياة وانجازات الصمود وانهيارات السياسة، لكنه مثل هذا الأدب لم يدرسْ بعد العلاقة العميقة بين الديمقراطية والإبداع ويكرسها بشكل واسع راهن وقادم..
وفي الصفحات الثقافية وبتجمعات المعارضة الأدبية راحت أقلامٌ عدة تقومُ بتحليل مختلف قضايا الأدب والفن، فجرى في الصفحات واللقاءات مناقشة التجارب الضعيفة المنعزلة الأدبية والفنية عن زخم الواقع، وانفجرت حوارات ومجابهات حول عروض مسرحية ومعارض وحول ثقافة تعيش حالة من الاحتضار، لكن هذه المجابهات النقدية والكتابات النقدية لم تستطع شفاء ثقافة مريضة متجهة للموت شيئاً فشيئاً.
وإذا كانت بعض التجارب الفردية قد نجت من طوفان التلوث، نتيجة أصرارها على إنتاج مستقل، لكنها لم تستطع أن تخلق حركة ثقافية كما ظنت في البداية، لأن ارتباطها بدكتاتوريات المنطقة كان عائقاً كبيراً في تشكل هذه الحركة، فهذه الدكتاتوريات خربت الثقافة السياسية والأدبية كذلك.
إن تخريب الدكتاتوريات للثقافة كان يعود في جزءٍ منه إلى النظام العراقي السابق. ولقد تشكلت علاقة الثقافة البحرينية بالنظام العراقي عبر عمليات النشر في البداية ثم اتسعت إلى المشاركة في المؤتمرات الأدبية والمهرجانات التي كان النظامُ السابق يغدقُ عليها بكرم حاتمي.
ونظراً لأن النظام العراقي كان يوظف هذه الفعاليات من أجل التوسع السياسي، ومد نفوذه في منظمات ودول المنطقة فقد وظف العديدُ من المثقفين والأدباء والفنانين من أجل هذا التأييد والتفعيل لدوره.
والارتباط بالنظام العراقي بحدِ ذاته يمثل عملية انهيار للوعي الديمقراطي، ليس فقط بالخضوع لإغراءاته المالية التي كانت حركتان سياسية وثقافية معوزتين بحاجة إليها، بل لكونهما فقدتا ملامح الوعي الديمقراطي ولم تؤسساه في ذاتيهما، فكان التاريخ السابق يخلو من هذا التبلور الديمقراطي على مستوى إنتاجِ وعيٍّ فيه، وعلى مستوى تشكيل رموز مجسدة له. كانت القطيعة مطلوبة مع النظام العراقي، أو العلاقة النقدية على الأقل، وبغياب ذلك فإن الحركة الثقافية توجهت للسقوط في مستنقع كبير.
إن هذا السقوط كان علامة كبيرة على التردي الفكري والأخلاقي، وكانت نتائجه فظيعة على مستوى تقزم الحركة الأدبية وتشتتها، وفقدانها للقيم المضيئة السابقة، وتدهور إنتاج الكثيرين فيها، لأنه بدلاً من تجذير قيم الديمقراطية الموعودة غدا تكريس أسوأ قيم الاستبداد، فكان اهتراؤها متمثلاً في تضخم فرداني، وبتحجر النقد، وبعدم مقاومة الشموليات بمختلف ضروبها.
هذا ما كان مغذياً للجماعات الطائفية فيما بعد والتي كانت تنمو في رحم المجتمع، فقد كان نضوب المضمون الديمقراطي العميق للحركة الثقافية؛ اتصالاً بالناس، وتعميقاً للنقد وتكريساً للعقلانية، قد جمد الحركتان السياسية والثقافية الوطنيتان، وأضعف من دورهما، إضافة إلى الظروف الخارجية القاسية ضدهما، فجاءت الجماعات الطائفية كوريثٍ لمختلفِ الجوانب السلبية.
لكن بدلاً من الارتباط بالنظام العراقي السابق حدث ارتباط بأنظمة استبدادية جديدة لا تقل قهراً وهي أشد تخلفاً، فتم وراثة السلبيات دون الإيجابيات، فازداد تدهور الثقافة، ولم تستطع الحداثة الشكلانية الغربية المستوردة أن تعوض عن مثل هذا الفقر الفكري، لأنها خالية من المضمون النقدي والتحليلي للواقع، وغدت مجرد انتهازية وزئبق ثقافي قابل للتمدد في مختلف الجهات السلبية.
لكن الجماعات الطائفية كان لها ضررها على الثقافة الوطنية الحديثة من جوانب أخرى، فقد تحولت إلى قامع للثقافة العصرية بدلاً من أجهزة الدولة السابقة، التي تبعاً لذلك غيرت من مواقفها تجاه الثقافة فأدركت مضمونها الوطني، بخلاف الجماعات المذهبية التي وجهت الجمهور نحو أنماط تقليدية من الثقافة، ولهذا نجد الوعي الشبابي يعود إلى أنماط أدبية تجاوزها الزمن، وإلى استخدام الموروث المذهبي..
وإضافة إلى عواملٍ أخرى ساهم صعودُ الحركات المذهبية السياسية في تجفيف منابع الثقافة، وتقليص جمهورها الحديث، وضعف الفنون الحديثة.
إن احلال ثقافة مذهبية هو مؤشر للتبعية لأنظمة الاستبداد في المنطقة، ولفشل مشروع الثقافة البحرينية الوطنية في تجذير نفسه داخل واقعه، وهو أمر ينعكس في كافة أشكال الثقافة من أدب وفن إلى تعليم الخ..
هناك جوانب مضادة لثقافة التبعية هذه، تتمثل في صمود التجارب الإبداعية الفردية الكبيرة، وفي تعزز أنواع أدبية معينة، وتنامي دور الكتابة السياسية الوطنية، وظهور عمليات مراجعة للفترة السابقة..
لكن تشكيل ثقافة جديدة ديمقراطية يحتاج إلى استعادة القوى الاجتماعية المحلية دورها، وإعادة إنتاج وعيها المحدود والمرتبط بالشموليات، عبر الإضافة إلى ما تم إنجازه من موروث ديمقراطي وطني سابق، وهو أمر يحتاج إلى دراسات في هذا المجال، وصدور أرشيف واسع للكتابات الجيدة في صحافة البحرين على مدى نصف قرن، وقراءة النتاجات الأدبية والفنية التي تاهت في تلك الصحافة أو في المكتبات.

الثقافة والصراع السياسي

مع تفاقم العملية السياسية المفتوحة على اتجاهات متعددة، فإن الثقافة لا بد أن تدخل في هذه العملية السياسية، من خلال ما تشكلت عليه خلال العقود الماضية، فالاتجاهات المذهبية المحافظة استمرت في نشر ثقافتها التقليدية، دون تطور يذكر، أي أن العملية التحولية السياسية لم تحرك مياهَها التحتية الراكدة باتجاه أسئلة الحداثة والتغيير الوطني.
كذلك فإن الثقافة الشكلانية والذاتية التي تشكلت داخل أجواء المصالح والبيروقراطية، استمرت في حداثتها المقطوعة عن معارك التغيير المحلية، غير قادرة على أن تستوعب مشكلات الناس داخل أبنيتها، فتشكل مساران ديني محافظ، وتجديدي شكلاني ذاتي.
فتجد أن صحيفة محافظة مذهبية تساند بقوة ظاهرة ثقافية شكلانية، ليس لشيء سوى لعوامل ذاتية لا علاقة لها بتحليل تلك الظاهرة الثقافية وكشف جوانبها المختلفة.
أو على العكس حين تظهر ثقافة ديمقراطية داخل التراث الإسلامي، فإن المحافظين والشكلانيين على حد سواء، لا يظهرون أي حماسة لمثل هذه الظاهرة، لأن مثل هذه الظاهرة تشكل تعرية من جانبين، تعري المحافظين وتخليهم عن الثقافة الديمقراطية الإسلامية، وانضمامهم للأجهزة، وتعري الشكلانيين التحديثيين وعدم تجذرهم في ثقافتهم العربية الإسلامية وعدم اتخاذ مواقف نضالية في مجتمعاتهم.
وهم إذ يفرغون الثقافة من أبعادها الموضوعية يريدون تحويلها إلى أداة في مشروعاتهم السياسية المتخلفة، مرة بعدم قراءة ضرورات الحرية في التعبير الثقافي المستقل، ومرة أخرى بتجاهل أهمية الاستقلال الثقافي وضرورة فصل الفكر عن التكيتكات السياسية المحدودة والهزيلة.
كذلك تعبر عن شكلانية مشتركة فمسائل الميزانية والصرف الباذخ على أعمال بهذا الشكل المحدود، وتضييع وقت المؤسسات المنتخبة في صراعات جانبية، كلها لا تسترعي الانتباه، بل تسترعي انتباهها جوانب الشكل الخارجي، فما دام يوجد رقص فهذه حداثة، ومادام يوجد رقص فهذا انحلال. رؤيتان متنضادتان متحدتان في العمق.
وهذه جوانب تعبر عن ارتباط التيارات السياسية بأجهزة حكومية متنفذة، أو بمؤسسات دينية متدخلة تريد فرض هيمنة شمولية على المجتمع وعدم قدرتها على تشكيل صوت ديمقراطي وطني مشترك.
إنها لا تستوعب عملية طرح ثقافة ديمقراطية وطنية إسلامية خارج الطوائف فهي مشدودة إلى ثقافتها التقليدية، وتعتبر أن التطرق ذاك لا بد أن يكون عبر رؤاها الطائفية، وإلا كان مروقاً.
إن التحاق المثقفيين الدينيين أو التحديثيين الشكلانيين بالأجهزة المحافظة، يقود إلى شكلنة الثقافة، أي جعلها أشكال، خارجية، وشعارات برانية، ويتحول المثقفون الدينيون والتحديثيون إلى موظفين، ويشتغلون كلٌ من جهته على عدم تحويل الثقافة إلى موقف نضال وطني مشترك يغير الواقع.
لقد ضعفت الثقافة الوطينة الديمقراطية خلال العقود الماضية ولم تتسلح بتحليل الواقع، وباتخاذ مواقف نقدية عميقة منه، فغدت هشة يسودها الطابع الذاتي، فهي استيرادية غربية أو استيرادية نصوصية تراثية جامدة، وهما وجها العملة التابعة.
إعادة تشكيل الثقافة الوطنية الديمقراطية مسألة طويلة، تتطلب انفضاض المثقفين عن القوى الشمولية المختلفة، ومراعاتهم للصدق والمسئولية والحرية والنقد للواقع، دون أن يأبهوا بالقوى الخارجية وبالمكاسب المادية.

الدكتاتورية في الثقافة

حاولت الثقافة الوطنية أن تتصدى للبناء الاجتماعي المختلف المتكلس بالعديد من الأفكار الديمقراطية، لكنها كانت هي ذاتها نتاج ذلك البناء المتكلس.
إن ظهور الشخصيات المتضخمة المهيمنة هو نتاجُ هياكلٍ اجتماعية وسياسية متخلفة، وليس هو فعل فردي محض فقط، ومن هنا كان نضال الثقافة الوطنية الديمقراطية هو نضالٌ داخل صفوفها، التي تعكسُ الكثير من المؤثرات العامة، وهو أمرٌ تجسد في الكثير من الصراعات الثقافية والأدبية لجعل الجدل مع الواقع يلغي الدوران حول الشخوص، وتكون أهمية النصوص لا بسبب منتجيها بل بقدر ما يقترب المنتجون من نقد الواقع ويشكلون حراكاً تحولياً فيه.
ومن هنا عانت هذه الثقافة من هذه الشخصية الفردانية ومن الهجمات البيروقراطية الإدارية ضدها، وهي الهجمات التي تسببت في عرقلة تطور الفنون العامة كالتشكيل والمسرح والدراما التلفزيونية التي خضعت لتلك الشمولية بسبب من كونها فنوناً جماعية تخضع للرقابة بخلاف القصيدة والقصة والرواية التي لها حراكٌ لا يمكن ضبطه والسيطرة عليه!
ومن هنا كانت بذور الديمقراطية في التجمع الأدبي أكثر وأخصب، وقد تطورت هذه البذور من أجل جعل الثقافة تحترم التنوع داخلها، بعد أن جف ضرع الثقافة انفصالاً عن الواقع واهتماماً بالذوات الفردانية في طيرانها للرحيق المادي والعلو.
لكن ذلك لم يكن نفس مسار الإعلام الرسمي وخاصة الإعلام المتخصص في مراقبة الثقافة، والذي عكف على تحنيط وتجفيف منابع نمو الثقافة الوطنية الديمقراطية حتى كان له ذلك مع تضافر الجهود السياسية العامة، فأنتج ظاهرة (الثقافة) الطائفية بكل فسيفسائها.
ولم تكن محاولات الثقافة الإعلامية الرسمية في تجاوز هذا الواقع المتردي، ورفع بعض الشعارات الليبرالية، وتحريك بعض النتاج الثقافي، إلا محاولات تستندُ على جهود فردية مختلفة ومتضاربة، وعبر أشكال نخبوية، واستعراضية، وبإهدار في ميزانية تتجه للتظاهر أكثر ما تحفل بالعمق والناس.
حتى تصاعدت العناصر الذاتية في هذه البنية الرسمية الثقافية التي لا تصب كثيراً في الواقع المحلي، فهي لا تتوجه إلى تطوير العناصر الوطنية الديمقراطية في هذه الثقافة بل تلجأ للاستعراضات والاهتمام بالنجوم المستوردة، أما أن يُنتَج شيءٌ داخلي مؤثر فهو ليس من اهتامها، خاصة إن العناصر التي تشكلُ هذا الواقعَ لم تأتِ من نتاج مهم في الثقافة المحلية، ولم تكابد عناء النصوص واللغة والأفكار، بل جعلت حلبة الثقافة ميدان استعراض وتضخم فرداني، وبهذا يتحول كل ذلك إلى هدر إن لم يكن إلى مشكلات وصراعات حادة، لأن مثل هذا الوعي لم يكن تتويجاً لتطور ثقافي شخصي أو عام، وهي نفسها النجومية التي عرقلت تطور المؤسسات الثقافية الأهلية، كما أنه لم يكن بهدف تغيير شيء سلبي داخل الواقع.
ولهذا فهو نتاج أعمال شخصية تتشكل بطريقة غير ديمقراطية، وبصورة ذاتية، ولا تقيم حواراً مع الزخم الثقافي المتنوع الذي تكون على مدى العقود السابقة.
وهي أمور تشاركها فيه بعضُ المؤسسات الثقافية والسياسية التي ترى في تحجيم دورها وتقليص شخوصها أسباباً إضافية في الصراع معه والتصدي له.
إن الإدارة الثقافية العامة تحتاج لشخصية قيادية منفتحة وديمقراطية، ترى البذورَ الوطنية العقلانية في النتاج الثقافي وفي المؤسسات الأهلية، وتقوم بالحوار معها، وتساعدها على الظهور وزيادة الإنتاج، ومن مواقع التعاون فيما هو مشترك بين الحكومي والأهلي، تاركة لها مساحات الحرية والاختلاف.
إن غياب الشخصية القيادية الثقافية من هذا الموقع القيادي هو العامل الهام في الصراعات المجانية التي تشهدها الساحة الثقافية، وفي تضييع الوقت والمال على المهرجانات والدعوات المحدودة القيمة، وترك ما أهلي يعيش البوار والأهمال!

المنبتون من الثقافة الوطنية

واجهتْ الثقافة الوطنية الديمقراطية تحدياتٌ كثيرة في سبيلِ تشكيل نفسِها، وزرعِ وجودِهِا في الأرض، لهشاشةِ الجذور الثقافية لها، وعدم ترسخ الأنواع الأدبية والفنية، وقد تنامت بذورُهُا مع تنامي الحركة الوطنية الديمقراطية، أي بقدرِ ما تتخلص الحركات السياسية من جمودها وشموليتها، وبقدر ما يقدر المبدعون على تحليل العلاقات الاجتماعية التقليدية ونقدها وتجاوزها.
وقد تنامت الرؤى الشمولية في هذه الثقافة عوضاً عن ضعفها وزوالها، بسببِ تحكم المؤسساتِ العامة البيروقراطية في مصائر الثقافة، وخلخة تماسك المبدعين وحفرهم في الواقع ونقده، وهو الشرط الضروري في تنامي أي إبداع.
وكل هذه المؤثرات لعبت أدوارها في زعزعة الثقافة الوطنية وتقزمها، وتنامي دوران الكتاب والفنانين والمثقفين حول ذواتِهم ينسجون شرانقَ من وهم، ويكرسون أنفسهم وقد انعزلت عن عمليات تحليل الواقع ونقده، سواء عبر عوداتهم لوعي الطوائف وأندماجهم في مشروعاتها السياسية التفكيكية، ومزايداتهم على هذا الوعي أحياناً، عوضاً أن يتغلغلوا إلى نواته الوطنية ويبرزوها وينقدوا تجلياتها الطائفية ويخلقوا التلاحم بين الجمهور.
أو جعلهم ذواتهم هي البؤرُ الوحيدة في الكون الثقافي، فلم يعدْ ثمة وطنٌ ولا جبهاتٌ ثقافية يمكن أن تكرس شيئاً من الوعي الديمقراطي الحقيقي في الجمهور، فجربوا حتى ضاعوا، وانعزلوا عن القراءة وتطوير أدواتهم، أو راحوا يكررون ذواتهم الجامدة بصور شتى، حتى فقدتْ التجاربُ التي يقومون بها أهميتها ودورها، ولم يعد ثمة فارق بين مبدع كرس نفسه لعقود وبين ناشيء، بل قدرَ الناشىءُ أن يبز المعتق عبر أساليب هزيلة وإدعاءت بخلق فن جماهيري وما هو بجماهيري بل تخديري، يعتمد التسلية الفجة.
وهناك مظاهر شتى لذلك فكلها تعبيرٌ عن خلخلة وعي فئات وجدتْ إن مصالحَها هي كلُ شيء، ورنتْ إلى كراسيها وأرصدتها، وباعتْ تاريخاً، وتخلتْ عن تقنياتٍ وأدوات توصيل وحولتْ المنابر الفنية والأدبية إلى تكريس لشخوص وشلل وليس لمراكمة وعي ديمقراطي ثقافي يعيد بناء الثقافة الوطنية الخربة.
وتتشكلُ معطياتٌ جديدة لتجاوز ذلك عبر الدفاع عن مصالح الفنانين والكتاب ومؤسساتهم ونتاجاتهم، وتغيير هذا المستوى المتدني لظروف إنتاجهم الثقافية والشخصية، بشكلٍ جماعي وليس بأشكالٍ فردية، بحيث يتم تغيير جوانب هامة من الوضع الثقافي كدعم مغاير لهذا الدعم الهزيل الراهن، بحيث يزيل دور مؤسسات الثقافة المتسولة، ويضع قانوناً للتفرغ وليس لشراء بعض المبدعين، ويقيم مسارح ومكتبات وثقافة منوعة كبيرة للطفولة، ويحرر التلفزيون من سطوة الشلل، ويجعل للفنانين والأدباء ضماناً اجتماعياً مواكباً لدورهم الوطني، ولا يجعل من المثقفين منبوذين في أرضهم محتفى بغيرهم من كل الأصقاع!
وأن لا يأتي ذلك عبر التسول كذلك بل عبر استخدام الأدوات النضالية المتوفرة من مجالس منتخبة ونقابات، وإذا حدث أن لم تستجب الدوائر البيروقراطية لهذا وفضلت العمل عبر الشلل وتكريس المثقف المهرج والشاعر الشحاذ، والفنان المتعطل من الموهبة، فلتتواصل اللجان المشتركة للمثقفين، وتحفر في الواقع سواء عبر تعضيدها لنواب ديمقراطيين، أو بتصعيد نتاجها وتغيير طابعه الانعزالي غير المفيد وتتعلم مرة أخرى كيف تتكلم مع الناس.

الفئات الوسطى بين الثقافة والسياسة

بدأت البحرين والكويت وغيرهما من دول الخليج بقيادة الفئات الوسطى التجارية الثقافية بقيادة حركة التغيير والتحرر الوطني في المنطقة، للأسباب المماثلة التي حركت الفئات الوسطى العربية، فلم يؤسس الاستعمار البريطاني أجهزة دولة إقتصادية تمنع التجار من الحراك الواسع، بل ركز على تغييب النشاط السياسي، وعدم وجود أسلحة ومنع الرقيق، ومنع السخرة في الزراعة، وهذه الجوانب ساعدتْ على صعود الفئات التجارية وحراكها الذي بدأ فكرياً عبر الأندية والتجمعات الثقافية وصار سياسياً.
هذه العقود أعطت الفئات الوسطى التجارية أفضل نتاجاتها الفكرية والسياسية، لكن لغياب الجذور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العريقة أصيبت الحركات بالمراهقة، وهو أمرٌ لم يقتصر على مدن الخليج الصغيرة بل تعداها إلى البلدان العربية الكبيرة، فإن هذه الموجة الليبرالية العربية التي تشكلتْ في ظل الاستعمار الغربي لم تدم طويلاً، وما لبثت القوى الوطنية التحررية ذات النزعات الشمولية أن تصاعدت، وفي البحرين كان الأمر شبه كارثي في 1956.
انسحب قادة التجار بعد هزيمة الحركة الوطنية في الخمسينيات، وكان أولئك القادة قد انغمسوا في الحركة القومية ذات النزعة الشمولية، والتي لم تتضافر مع التوجهات الليبرالية إلا في مسالك شخصية، مما جعلها حادة عنيفة، غير قادرةٍ على خلقِ تراكم ديمقراطي لا في الثقافة ولا في السياسة.
كان هؤلاء القادة قد جاءوا من الفئات الدنيا من التجار، ولم يظهروا من البيوتات التجارية القديمة، وكان هذا تعبيراً عن سيادة نزعة المغامرة في التجارة والسياسة، فهذه الجذورُ غيرُ القويةِ في الاقتصاد والتي لم تكون ثرواتٍ كبيرة، وجاء دخولـُها للعمل التجاري سريعاً، لم يتحْ لها الزمنُ أن تتجذرَ في فهمِ الليبرالية والديمقراطية على مختلفِ أصعدها، وركبتْ الحماسَ الشعبي الذي أخذها بدوره إلى ما لا تريده، إلى الفلتان السياسي.
ولهذا فقد سادت البيوت التجارية الغارقة في الهموم الاقتصادية المنفصلة كلياً عن السياسة والثقافة، وهو أمرٌ أدى إلى التصحر الفكري وغياب المواقف الاجتماعية والوطنية.
بطبيعة الحال فإن تسربات الصراع الوطني كانت تتسلل من تحت المجاري الخلفية، عبر بعض الأبناء الذين يدخلوا التيارات السياسية المختلفة.
ومهما كانت طبيعة الحركات السياسية التي تتالت بعد ذلك فقد كانت في ذات المناخ الشمولي سواء في القومية أو اليسار، ولم تظهر إمكانيات وقدرات تراكم تجربة ديمقراطية، وهذا قد عبر إلى أي مدى كان رأس المال ضعيفاً، تابعاً للأجهزة، خائفاً منها، ذائباً فيها، منكمشاً عنها، واعتبر بعضه إن وجود الاستعمار ضرورة حيوية، وذهب بعضهم لمعارضة الانسحاب البريطاني من المنطقة.
لقد ساهمت الأجهزة والاتجاهات الشمولية في تشكيل مناخ التصحر السياسي هذا، وزاد الأمرُ سؤاً عندما لم تقدمْ الدولُ العربية بديلاً ديمقراطياً، وحين اقتربتْ نارُها من الخليج شكلتْ نظامين استدعيا القوى الغربية الحربية تحت يافطات شتى وإدعاءات مختلفة قائمة على الهياجين القومي والديني.
وإذا كانت الثروة النفطية قد استدعت تحشد القوى الغربية ونفوذ أجهزتها، فإنها كذلك أعطت لرأس المال المحلي قفزات في وضع التجارة والصناعة والبنوك، وغدا التصحرُ السياسي للتجار مركباً على غيابِ الأفكارِ الوطنية المتجذرة في الأرض، التي صارتْ مجردَ حصالات، لا يُعرف ما وراء وجودها الحديدي من مشكلاتٍ عميقةٍ ومن تضاريسَ سياسيةٍ معقدةٍ متضاربة، وهذا توافقَ مع النزعةِ الأمريكية السائدة بتحرير الاقتصاديات من هيمنة الدول، من أجل تدفق سيولتها عليها، فتبخرت الوطنيات أكثر من السابق.
تكسير النزعة الوطنية له جذورٌ في تربةِ الجزيرة العربية ودولها المتفتتة، القائمة على تاريخ الترحال والظعن وحب الموارد، ومن هنا يقيم كبار التجار فللاً متجمعة أشبه بالمضارب البدوية السابقة، ولها شيخ القبيلة، وبخلاف القبائل العربية فهذه القبائل منقطعة عن محيطها، معتمدة على قوى العمل الأجنبية، تقوم بطرد اللغة العربية من أجوائها وأجيالها بشكل مستمر، فتغدو جزءً من العولمة الغربية الحديثة، في أشكالها الخارجية المبهرة وغياب مضامينها الثقافية والفكرية العميقة.
ولكن هذه المضارب البدوية التجارية ليس لها حتى مجلس منتخب أو قدرة على الحوارات وفهم التاريخ والمستقبل.
وإذا كانت السياسة هي قمة مواقف الإنسان وحضوره في الحياة، فإن السياسة آخر شيء يُشتغل به في هذه المضارب المرفهة.
إن التاجر العادي الكبير عادة هو كائن غير سياسي. كل وجود يتركز في هذا رأس المال وتناميه، وهو رأس مال منقطع عن جذوره وصلاته الاجتماعية، متوحدٌ في الفواتير ونتائجها، مجردُ كمٍ نقدي يجب أن يتنامى بشكل مستمر، ربحه هو وجوده ووطنه.
ومن هنا فإن التاجر الكبير السياسي نادر، وإذا ظهر فهو مع السائد، رغم إنه يفهم السائد بطريقته الخاصة، وبما ينمي التجارة الخاصة.
لكن كيف تحول فجأة هذا التاجر غير السياسي، غير الوطني، إلى رجل مهتم بالسياسة ومعارض؟
تشكلت الخريطة العامة للرأسمالية المتنامية من جانبِ الرأسمالية الحكومية المسيطرة على الموارد الاقتصادية ومن الرأسمالية الخاصة المسيطرة على السوق التجارية، وإذا كان رأسمالُ الخاص غير سياسي، فإن رأس المال الحكومي سياسي تماماً.
ونظراً لسيطرة رأس المال الحكومي وتشكله بسرعة كبيرة حيث وصل إلى إدارة موحدة في شركة، وتنامت فوائضه مشكلة البيروقراطية وذيولها المختلفة الكبيرة المتنامية في التجارة، فإنه ذو اهتمام كبير بالتطورات السياسية والاجتماعية وعدم وصولها لتناقضات حادة، وينبثق لديه برنامج خاص للإصلاحين السياسي والاقتصادي متضافرين برؤية معينة تنطلق من المفهوم الأبوي وغير الحر للاقتصاد. وبالتالي فإنه يحاول توجيه الرساميل نحو تخفيف تلك التناقضات الاجتماعية ضمن إدارته التي هي ذاتها قضية عليها أسئلة كبيرة.
وحين ظهر منديلُ الأمان وصار بإمكان التاجر الصامت أن يتكلم فإنه انطلق من تاريخه الخاص المنزوي، غير السياسي، المهتم بالأرباح فقط، ووجد الوزارات تفرض التغييرات من مواقعها السياسية غير مراعية لأوضاعه، في حين أنها تتوجه لتخفيف التناقضات الاجتماعية، لكن بحيث يتحمل التاجر تكلفة التخفيف و(الإصلاح)!
وأدى صمت التاجر وإنعزاله إلى أنه لا توجد لديه أدوات تأثير وضغط على هذه الإجراءات، وإذا كان قد ربح من صمتهِ فإنه الآن يخسر من ذلك الصمت الطويل، ولعدم تكوين جماعات الضغط الخاصة به، وما كان مفيداً صار مضراً، فطلع على الناس وهو في حيرة يتخبط هنا وهناك، وتقيم الفئات الدنيا فيه تحركات وإحتجاحات لا يهتم بها أحد، وغير مرتبطة بجمعيات وتيارات ذات شأن في المجتمع، نظراً للانعزال عن التيارات وعدم المساهمة فيها، والتقاط فرص العلو للمكاسب الاقتصادية والسياسية بدون إنتاج عميق، ولعدم تشكيل كوادر مدافعة عن عالم التجارة الخاصة وحرية السوق، وإذا دخل بعض هؤلاء عالم السياسة فهو من الباب الحكومي كمجلس الشورى، أو المقاعد السياسية الأخرى.
وعموماً فإن الضعف السياسي للقطاعات الخاصة التجارية والصناعية والمالية هو ظاهرة عامة في دول الشرق، فهي تخلت بنفسها عن السياسة، وحلت تنظيماتها وغرقت في عالم المال المعزول، بحيث إن أي (ملا) في حارة لديه اتباع أكثر من كل مؤسساتها الاقتصادية، وقادر على التأثير في السوق بالمظاهرات أو باعتماد العنف ليكون زعيماً، ولهذا فإن عودة التاجر للوطن من الباب السياسي، تحتاج للكثير من التحولات وإعادة التفكير وتشكيل المؤسسات الاقتصادية بشكل مؤثر وطنياً.

الطائفيةُ وتدهورُ الثقافةِ


هناك علاقاتٌ خفيةٌ بين تفاقم الطائفية وتدهور الثقافة، فقد صعدت فئاتٌ وسطى صغيرة خاصة من البوادي والأرياف والحارات المكتظة، وكانت تتواكبُ مع أزمات إقتصادية في النمط الخراجي الجديد، حيث الأجهزة تنفصل عن الناس، والفئات الوسطى الكبيرة تبحث عن الأسواق بأي شكل في وسط مزاحمات من العمالقة السياسيين الاقتصاديين.
القوى اليسارية والقومية القديمة تفككتْ علاقاتُها بالثقافات العميقة، وكانت أدواتُ التسطيحِ والأدلجة الموظفة للشموليات غيرَ قادرةٍ على الحفر المعرفي الثقافي، ولهذا فإن مواكبتها للأدب والفن التقدميين إضمحلت. ومن هنا عدم قدرتها على التصدي لفهم ظاهرات إبداعية كبيرة، وحماية المراكز الثقافية التقدمية المتداعية في المجلات والصحف ودور النشر والمواقع الإلكترونية، رغم أن عناصر نادرة في الاتجاهات التحديثية واصلت الإنتاج وسط طوفان من الأمية الثقافية ونتاجات العولمة. ودعك من إمكانية أن تقوم هذه المنابر بالتحول لمحطاتٍ ناقلة للكهرباء الثقافية وسط الجماهير، عبر الاحتفاء بالكتب والآداب والفنون والظاهرات الثقافية عامةً كما كانت تفعل في زمن جذورها النضالية التي كانت ذات ظروف شظف وحصار وقلة إمكانيات!
في تحللِ رأسمالياتِ الدول الشرقية تحللٌ للخرائطِ الوطنية، وجسدَ هذا فشللَ نمطٍ بيروقراطي إستغلالي أدى إلى بروزِ الثقافات العتيقة للمذاهب والملل المختلفة تفكيكاً لأقطار ومجتمعات المسلمين والمواطنين عامة، حيث راحت تجرُّ التفسخات التي جرتْ بعد إنهيار الحضارات العربية الإسلامية المختلفة وليس أن تعي ماهية تلك الثقافات العالمية وقتذاك. أي أدى هذا إلى سيادةِ النصوصية والمواد اللاعقلانية والقشورية الدينية والعودة لأزمنة ما سُمي عربياً بعصور الانحطاط. ولن تجد من كتاب المذهبيين السياسيين من يقوم بالحفر المعرفي ولو كان بسيطاً في ظاهرات الحياة والثقافة والتاريخ، بل يكرر ما هو موجود من نصوص يعرفها الجميعُ عن السور والدين والمواعظ.
وقد حدثَ تصدٍّ من بعضِ كبار المثقفين العرب للتفسخ الطائفي الاجتماعي ومحاولاته تصدر المسرح السياسي الاجتماعي، عبر قراءاتٍ كثيرة موسوعية للآداب والفنون والفلسفات القديمة، لكن أغلبها ضخم الحجم ويُصاغ بأدواتٍ منهجية ولغوية فوق مستوى الجمهور العادي، كما أنه لا يحتفي بهذه الجهود في أجهزة الإعلام لمنع التسطيح في فهم التاريخ العربي.
مثلما أن أنظمة الرأسمالية الحكومية لم تقم بأي ثورة ثقافية لمحو الأمية ولتقدم العلاقات بين النساء والرجال ونشر العقلانية والعديد من المهمات الاجتماعية الثقافية، كما أن هذه القراءات العقلانية لا تُسوق عبر أدواتِ الرأسمالياتِ الحكومية المتحللة الراهنة، ولا تحصل على دعم الرأسماليات الخاصة المتصاعدة التي توجهتْ لمطبوعات الربح وفضائيات البث التجاري الساحق ونشر الثقافة السوداء كثقافةِ العنف والجنس والفن الرخيص. وصارت تفاهات هذه(النجوم) مواداً يومية تُنشر في كل مكان ونموذجاً لإحتذاء الأجيال، وترافق ذلك مع نشر السموم والعداء للثقافة والكتب وحصار المكتبات!
ولهذا فإن أميي الثقافاتِ الدينية هم الذين تولوا البثَ الجماهيري، حيث ظهرت هذه الفئاتُ من شقوقِ فسادِ الرأسماليات الأولى، وإحتضان الرأسماليات الخاصة الأخرى، وهي تدبجُ النصوصَ المتعالية من فوق المنابر الشعبية، وقراءاتُها لحقائق التراث العربي الإسلامي الإنساني معدومة، فهي قراءةُ طوائف تمزيقية لا قراءةَ موحِّدين، قراءاتُ يومية وعظية تحريضية ذاتية في شتى الجهات، وتشيعُ الانقسامات والتسطيحَ الفكري أكثر فأكثر. والغريب أن شباب هذه الجماعات لا علاقة لهم بالثقافة العربية الإسلامية وتجد هذا في عدم معرفة الجذور للإسلام والفرق ومشكلات التطور التاريخي للأمم الإسلامية ولا يعرفون الآداب العربية الإسلامية وغزارة إنتاجها بكل تأكيد.
لهذا فإن العلاقات الكبرى العظيمة التي نشأت بين الإسلام والاتجاهات الفكرية السياسية وبين الآداب والفنون، مقطوعةٌ هنا، منسوفةٌ، في ظل أناسٍ يعيشون على المواد الخام الرثة للانهيارات الاجتماعية السابقة، ومن هنا نجد هذا الانفصال العدائي عن الآداب والفنون، فالطائفياتُ مسطحةٌ، أميةٌ، متحفزة، قصيرةُ النظر، تعيشُ على شذراتِ نصوصٍ نارية، وتصّعدُ القوى السياسية الاجتماعية المتعصبة، وتخربُ العلاقات الإسلامية والإنسانية، لكونها بلا فكر ديمقراطي إنساني رحب، وقد غيبتْ التوحيدَ فأُصيبتْ بالأنيما الوطنية القومية.
التراجعُ واسعٌ عن الإرث الإنساني، والتمحور والانغلاق على الذوات الماضوية، يتبعه عداءٌ للأشكال والأنواع الفنية والأدبية، ولروح الحرية والفرح والتوهج، وتغدو النصوص الإبداعية ملغاةً منبوذة، لأنها تحملُ وهجَ الحياة المتنوعة، وعطاءات الإنسانية التعددية العصرية حيث البشرية معمل روحي خلاق مشترك.

إنهيارُ العقلانيةِ في الثقافةِ البحرينية

كان الهجومُ على الواقعية الاشتراكية ملفتاً للنظر لدى بعض أفراد النخب الثقافية في بدايات الحركة الثقافية البحرينية فقد ظهر ذلك كخوف من تنامي العقلانية ومن خلال أدوات تطوراتها الواقعية المحتملة، وبشكل معاد مبالغ فيه، رغم إن هذه الواقعية الاشتراكية لم تكن سوى كتابات حماسية شبابية.
لكن كانت كراهية التجذر في قراءة الواقع، والارتباط الحميم بثقافة الشعب والأمة، وتحويل العقلانية إلى فعل ثقافي، هي ما يغورُ في الاتجاهات المتذبذبة للفئات الوسطى والصغيرة السائدة في عالم الوعي، وخاصة في عالم الثقافة.
هناك ما يبررُ هذا الخوف جزئياً حين كانت الواقعية الاشتراكية قائمةً على نسخ مشوهة للوعي التقدمي، والتي إعتمدت على الدعاية وتقديم أبطال من ورق.
ولكن مع ذلك كان هذا الوعي الوطني الجنيني الذي يرصد ظاهرات بلده أمراً مهماً، في حين كان التخويفُ يستبطنُ موقفاً إجتماعياً سياسياً معادياً لثقافة الشعب نفسه، رغم اليافطات الكبيرة المرفوعة لهذا.
الابتعادُ عن تحليل الواقع، وعدم متابعة التجارب الحقيقية، ورفدها بالخبرة الثقافية البشرية، سوف يسوقُ الألعابَ الأدبية والفنية التي ازدهرت، وخلخلت ثقافة المواقف المسئولة، ويجعل التجريبية الثقافية في القصة القصيرة والقصيدة، والمسرح، والنقد، تعيش حالات من الاضطرابات وعدم تكوين تجربة ثقافية وطنية عميقة، وهذه تتوافق مع وعي سياسي مضطرب يسوق مواقفَ غيرَ عميقة وغير قارئة لقوانين التطور الاجتماعي.
إن الهشاشة، وإضطرابَ الأجناس الأدبية، والأحكام النقدية، وتهافت الدراسات التاريخية، ستكون وعياً نفعياً ذاتياً مستعداً لعملية الانهيار الفكري السياسي في مرحلةِ الطائفية السياسية.
ففي المرحلة الوطنية منذ الستينيات والسبعينيات حين كان ثمة طبقة عاملة بحرينية واسعة، وفئة وسطى نهضوية، وهو ما تجلى في دستور 1973، كانت الارهاصات الأدبية الواقعية والفنية تشير إلى تبلور إبداعي واقعي نقدي، وتنامت هذه حتى في مرحلةِ زوال البرلمان، في تجارب معينةٍ ولزمن معين.
وكان يمكن أن تكون الروايةُ الواقعية تعبيراً عن هذا التنامي العام، لكن بدلاً منها كان المسرحُ التجريبي الذي لم يخلق ثقافةً إبداعية إلا فقاعات من الفوضى والإدعاءات، فكانت ثقافةُ الانكسار تتصاعد: التقوقعُ في القصيدة، وخفوت تطور القصة القصيرة، وإنكسار النقد وتحوله لمقاولات ثقافية شخصية، وسيادة الفوتغرافية في الفن التشكيلي.
كان إنكسارُ العقلانية الوطنية في شتى أشكالها، يتجسدُّ في تصاعدِ لغة المصالح الخاصة: الطب الخاص، التعليم الخاص وغيرهما كثير، فظهر الإبداعُ الخاص!
هي مرحلةُ التقلص من الروابطِ الفكرية المرتبطة بالطبقات، فتغدو المحاولةُ الروائية تجريبيةً داخلية لا تتغلغلُ في تحليل الواقع، ولا يغدو ل(الروائي) مشروع تحليل للواقع، ثم تزداد(الخصوصية) فتصير إرتباطات بالرأسمالية الحكومية.
إن الفئات الوسطى المفكَّكة تكونُ مصالحَها الخاصة، وتشكلُ لغاتٍ مفارقة، فثمة جملٌ يسارية صاخبة، وعلاقاتٌ مصلحية مع الوزارات، فيما يغلبُ التخثرُ الإبداعي في التيارات الأخرى، حيث لا مواقفَ تحليلية، وتسود تذبذباتٌ في إتجاهات عدة، وفي المجموع تتكسر تلك الموجات النقدية الوطنية التي ظهرت من تحليل الغواصين وعمال الجبل والتاريخ الوطني عامة، ولهذا حين تظهر الطائفيةُ السياسيةُ تكون واقفةً على أرضٍ منهارة فكرياً سياسياً، وتغدو البديلَ الزائف للوطنية، مستخدمةً عبارات يسارية صاعقة، ولاعقلانية دينية، وفاشية غائرة تعادي كل تفتح ثقافي وإختلاف.
ولهذا تكون نتائجها مدمرةً على صعيد الأجناس الإبداعية والتنظيمات الأدبية، وتطور الوعي الثقافي الوطني عامة.
ولم تدشن المرحلة الجديدة دعماً للثقافة الوطنية خاصة في السنوات الأخيرة حيث عانت الإصدارات المحلية من أزمة طباعة، وتوجه الكتاب للإصدارات على نفقاتهم الخاصة، مع صعوبات النشر والتوزيع وقلة الاهتمام بالأعمال الأدبية.
تدهورت الثقافة الوطنية عبر التفكك وندرة النتاجات وصعوبات إصدارها وتوزيعها وغياب الاهتمام بها.

بؤرةُ الوهمِ قديماً وحديثاً

بؤرةُ الوهمِ قديماً

تمثل بؤرة الوهم الإيديولوجية ملتقى الآمال الشعبية والطليعية بتوقع التحولات الإيجابية في المجتمع. وفي حقبة ظهور الإسلام كانت الفترة واعدةً مفصلية للتقدم الوحدة والسعادة للناس أجمعين.
إن الدين حين يكون دولةً سياسية تبدو ممثلة للأمة، وهو أمرٌ تحقق في البداية التأسيسية، لكن عبر إجراءات سياسية كانتخاب الحاكم وجعل المُلكية العامة قائدة لكن هذه الإجراءات لم تُقبل كجوهر للدولة، وهو أمر سوف يكرسه الوعي الديني السائد.
إن صيغةَ الدولة الدينية تغلبت على صيغة الدولة المدنية غير الدينية، وضمت الدولة الدينية كل الموروث في ذات الحقبة ورغم أن الجوهر السياسي لها كان معروفاً وسائداً في وعي الأولين، إلا أن التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية طمست ذلك وصارت الدولة الدينية ذات أسس كثيرة خاصة مسائل الإيمان والكفر والأركان الخمسة وجوانب الفقه المختلفة.
لقد تمت تنحية طابع الدولة السياسي الأولي لصالح دولة دينية تُحسم المواقف فيها قضايا الإيمان. صار ذلك هو السياج الذي يؤطر الدولة والمنتمين لها.
إن دولة الديانة المعمّمة المجردة تغلبت على دولة المواطنة اللادينية. فأي دخول قولي في دولة الديانة للحصول على الجنسية فيها، ولهذا أصبحت قضية الإيمان والكفر حاسمة.
إن ذلك سوف يشكل بؤرةَ الوهم الرئيسية عبر قرون، فعبر الوعي السائد سوف يكون ذلك قياماً لجنة أرضية، فما دام الناس ذوي إيمان فالوعد بالتقدم والسعادة والخير للجميع سوف يتحقق كما بشر سائد الدينِ بذلك.
لكن ذلك لم يتحقق. لقد حدثت منجزاتٌ ضخمة؛ توحيد القبائل وقيام دولة كبيرة، وتبدلت وسائل العيش المحدودة للصحراء العربية، وازدهرت مدنٌ جديدة، وإنفتحت آفاقُ البلدان للقبائل المحصورة في الجزيرة العربية.
لقد صُطدم الوعي السائد لدى المثقفين الدينيين من هذا التناقض، فرغم دخول الناس في الدين جماعات وشعوباً إلا أن الكوارث قد تتالت، فقام حكمٌ عضوضٌ، وتفاقمت الصراعات على الحكم ونشبت حروبٌ ضارية وضُربت مكة والكعبة فيها، وتحولت الفتوحات إلى حروب غنائم أثرتْ السلطات وكبار التجار وملاك العبيد منها، وتدنت مكانة النساء والفقراء وشعوب البلدان المتفوحة إلى آخر هذه الظاهرات التي بدت مروعة.
لكن هذه الظاهرات لم تكن بلا أسباب وبلا مقدمات، فقد إضطربت مُلكية الدولة في عهد الخليفة الراشد الثالث، وتفجرت الصراعاتُ على السلطة فيما عُرف بالفتنة الكبرى، وقفز إليها من جنّد أكبر عددٍ من الجند الجزيلة رواتبهم، وتوارى من ضحى وصعد من نافق وأرتشى.
حدث تناقضٌ هائلٌ بين الآمال والواقع، فوقع الوعي الديني في إضطراب مماثل. وإذا كانت النصوصية وعرض البارز من الممارسة الفقهية هو دور الأئمة الأولين مع رفض ممارسة إستبداد الحكام، فقد كان هؤلاء نادرون وإختصاصيون ومن غير الممكن أن تكون ثقافتهم جماهيرية مؤثرة في نفي التناقض بين الحلم والواقع، ولهذا فقد ظهر نمطٌ من الوعي الديني سياسي ومعارض بشكل أكبر.
إن هذا الوعي السياسي واصل طابع الدولة الدينية، فرغم إنه نشأ في الأقاليم المضطهَّدة وبين العامة والمثقفين إلا أنه عبر عن الدولة الشمولية كذلك.
إنه لم يدرس طبيعة التناقض السياسي الاجتماعي بين الحكم الأولي والتالي، وبدأ يقرأ الوضع السياسي من خلال المقولات الدينية، مقولات الإيمان والكفر، لا مقولات المواطنة.
فالدولة راحت تميز الناسَ من خلال هاتين المقولتين، وغدت المعارضة تقوم بذلك أيضاً، وصارت الدولة والمعارضة تشتركان في رؤية واحدة، ولهذا غدت الفرق دينيةً ذات تفاسير مختلفة.
وإذا تجمعت بؤر التيارات في مسألة (مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم كافر؟) فإن ذلك يعني بدايات نسف الدولة الواحدة. فمرتكب الكبيرة لدى لدى فرق الخوارج وبعض الإماميين هو كافر، وهذا الحكم أستمر حتى ظهور فرقة المعتزلة التي قالت هو(في منزلة بين منزلتين)، وإذا كانت المسألة تعني الحكام وكبار المنتفعين بالثروة العامة ومبددينها، فإن ذلك يعني أما العمل داخل المجتمع لتطوير ظروفه، واما تشكيل نظام آخر يهدم النظام الحالي.
لقد ألتقت الفِرقُ في بؤرة وهم إيديولوجية واحدة مثل مظلة النظام الفكرية السياسية، فعبر مسألة ضميرية يتم ليس نفي حرية المواطن بل زعزعة كيان المجتمع. فإذا توجهت الفرق المتشددة لتشكيل دول أخرى، فإن المعتزلة وقعت في شباك الوعي الديني الاستبدادي، عبر إنتاج ثقافة فرقة دينية جديدة، وفيما المكفرون يهدمون الدولة من الخارج فالمعتزلة تهدمها من الداخل، بدلاً من إنتاج ثقافة المواطنة النقدية.

بؤرةُ الوهمِ حديثاً

إذا كان لكل عصرٍ عربي بؤرة وهمه، وقد تجلت بؤرةُ الوهمِ هذه في العصر الوسيط عبر محاولاتِ إنتاجِ مجتمعٍ مثالي ديني تحكمه خلافةٌ دينيةٌ فردية خيرة، لكن كانت الإمبراطورية العربية الدينية في الواقع الحقيقي تتفتت إلى قطعٍ سياسية محترقة متعادية، فالخلافة الخيرة وهم بعد إنهيار أسسها بظهور أسروية إستغلالية وشمولية سياسية، وكانت مساندة بعض المثقفين لها وهمٌ آخر، فلم يعمل هؤلاء على دولة مدنية غير دينية، الخلافة فيها منتخبة، والمُلكية العامة (فيء المسلمين) تُدار بشكل ديمقراطي، والمواطنة تحكم القانون.
تظهر بؤرة الوهم الرئيسية من فرض موديل مستورد أيديولوجي يتسرب من أفواه المتعلمين لقلوب العاملين، فموديل العصر الوسيط القادم من العصر المؤسس السابق، صار شكلانياً بلا مضنونه الحقيقي بعد أن أختفت أسسه وقواعده المادية والسياسية.
في العصر الحديث بدأت بؤرةُ الوهم من إستيراد النموذج الغربي وتركيبه على دول دينية إستبدادية إقطاعية. فبدلاً من الرجوع للوراء وفهم البنية المتكونة في الزمن الوسيط حدثت قفزة للإمام وجاءت لحظتا الموديل الغربي: لحظة الليبرالية ومحاولة صنع نظام ديمقراطي على الأسس الغربية، لكن لم تلتصق العربة العربية الخربة بالنموذج الذي يحتاج لتغيير أسس الدولة الدينية المحافظة المنفصلة عن الأغلبية الشعبية. النموذج الغربي يحتاج كذلك لجمهورٍ غيرِ دكتاتوري، وهو غيرُ موجود. إذن حل التوجه للنموذج الغربي الذي رحل إلى الشرق بدون ديمقراطيته وبشعاراته (الثورية) التحولية، أي النموذج (الاشتراكي).
أزاحت الاشتراكيةُ الليبراليةَ ولكن لم تختلف بؤرة الوهم هنا، فقد وُضعت الشعارات فوق نفس المبنى القديم، وتقوم التحولات الجديدة (الوطنية، الاشتراكية، القومية) بضرب العناصر الديمقراطية الجنينية في البُنى العربية حيث غدت مجموعةً من الأنظمة المختلفة التطور، وتتحول الدولُ والمجموعاتُ السياسية إلى قوى شمولية مسيطرة على نفس ما يَقبضُ عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون، دول دينية يُسيطرُ فيها على المال العام والنساء والرقيق إذا كان لا زال موجوداً.
عناصر الثقافة الغربية إنتشرت ولكن قُمعت وتمتْ أدلجتُها حسب الأنظمة والقوى السياسية الذكورية المحافظة، وحتى الباحثين دخلوا تحت المظلة السياسية الشمولية، فباحثٌ كبيرٌ مثل (هادي العلوي) قدم إسهامات كبيرة في تحليل الإسلام والتراث يعتبرُ النظامُ الماوي الصيني تجربة إشتراكية للقفز من الإقطاع إلى الرأسمالية، في حين أنه نظام رأسمالية دولة عسكرية تنتشر فيه رأسماليةٌ فاسدة حكومية، ولهذا فإن أدوات الباحثين تنفصمُ مثل عقولهم، كما كان الباحث مهدي عامل التقدمي يستورد أدوات بحث منهجية أوربية متطورة هي البنيوية الماركسية، حيث تُحلل المجتمعات حسب بُناها وصراع طبقاتِها في مراحلها التاريخية، لكن بؤرة الوهم الاشتراكية المصنوعة روسياً تعرقلُ نمو الأدوات المنهجية البنيوية، فالعناصرُ الشموليةُ الشرقية المسيطرة تزيح أدوات التحليل الموضوعية ويمكن للقوى الدينية أن تحقق الحريةَ والاشتراكية بفعل النمو الحتمي للتطور في الشرق وقطع التبعية وكون صراع الطبقات فيه لا يُحل إلا بالاشتراكية. بدلاً من هذا الخيال الاستبدادي المتراجع للوراء كانت الأولوية هي في نقد هذا النموذج الديني السياسي الشمولي والحفر في تأسيس الدولة المدنية غير الدينية والمهمات التي توقفت بدءً من الزمن الأموي.
لهذا فإن بُنى التخلف المحافظة العائدة للعصور الوسطى التي لا تُغير تعودُ لتأكيد نفسها بعد كل مرحلة تقفز عن المهمات الحقيقية. فتظهر الدولُ الدينية الطائفية من تحت الأنقاض التحديثية مطالبة بالعودة أكثر للوراء، لكن الأصوات المعارضة التحديثية صارت أكثر الآن وبدأت جملة من الأوهام تتبدد، وغدت الدولة المدنية غير الدينية وعودة الفيء لأصحابه عبر مُلكيات عامة مراقبة، وبداية الرؤى الموضوعية بأن لكل بلد خصائصه وظروفه السياسية والاجتماعية ويحتاج لقراءة تحدد كيفية الخروج من الدولة الدينية وملحقاتها من أحزاب دينية وصراعاتها، وكيف يكون التطور الاقتصادي الاجتماعي الخاص بهذا البلد أو المنطقة، وأن النموذج المستورد من الضروري أن ينكسر لنماذج نابعة من ظروف البلد المعني وأتفقاعت قواه التحديثية الديمقراطية، هي نفسها ظروف العرب والمسلمين التي لم تُغير في شروطها وظروفها السابقة، أي بناء الدولة المدنية وإدارة الثروة العامة بشكل ديمقراطي، وحماية التراث الديني من الاستغلال السياسي، وهي جملة من الشروط المتضافرة مع بعضها البعض التي تنبع من خصائص التطور العربي الإسلامي الإنساني، ولكنها تحتاج لقوى سياسية متشربة بتراثها وزمنها الحديث وتوجه بؤرتها نحو حل مشكلات الناس.
لقد تغلغل الخرابُ في الشعوب والتيارات السياسية والدول فغدت طائفية، وتحللت من بناها الوطنية وأتجهت للحروب، والقوى التي كانت أساس الوعي الطليعي غدت خربةً منقسمة متشرذمةً وهي المعضلة التي لا تجد حلا سوى في تعرية ثقافة الشمولية الدينية ونتائجها عبر التاريخ وإنتاج النظم والقوى المدنية الوطنية.


عبدالله خليفة – بؤرةُ الوهمِ قديماً (ahewar.org)

عبدالله خليفة – بؤرةُ الوهمِ حديثاً (ahewar.org)

عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

ذاتياتٌ وفتات

نشؤ الفكر الاشتراكي إعتمد على كونه الموضوعي الوحيد، لأنه يكشف أساس الوجود الاجتماعي المتناقض من خلال حياة طبقة لا مصلحة لها في تزييف الواقع وتغييب سببيات الوجود.

وهو شيء عامة صحيح في القرن التاسع عشر حين كان المثقف النقدي الريادي الحر يدرس بعمق الوجود، فالتاريخ بتناقضاته لم يكن يُفهم بشكل موضوعي.

جاء هذا الفكر من أجل أن تزدهر الذاتية العقلانية المتجددة لا أن تتشيأ رأسمالياً وتذوب.

 وكانت الطبقة الرأسمالية ذاتها قد إعتمدت على أن الفردية هي بؤرة المجتمع، الفردية المتفتحة المزدهرة بالحياة والانتاج.

لكن الأفراد صاروا غباراً في الأنظمة، والفلسفات في الغرب المعبرة عن حراك الطبقة الوسطى حاضنة الفردية ركزت على دعم الفردية وحصرها في أناها الأناني أو المنقطع عن الآخرين، منذ أن سخر مؤسس الوجودية كيريغارد من هيغل وعقلانيته الطاوسيية المعلقة في السماء وأساطير المطلق.

 الوجودية وتيارات الحياة ركزت على هذه الفردية المسحوقة حتى توارت هذه الفلسفات وظهرت الفلسفاتُ الوضعيةُ المركزة على الأفكار والدرس خارج الذات المحروقة.

نمو الأنظمة الشمولية الكبرى في القرن العشرين حوّلَ البشر إلى فتاتٍ، إلى كائناتٍ مسحوقة، إلى مجردِ أدواتٍ للمصانع والدوائر وإلى طعامٍ للدول.

الاشتراكية والرأسمالية في القرن العشرين هما مجتمعا الاستعمار الشرقي والغربي.

في (الإشتراكية) الشرقية يتم إبقاء إستعمار الشعوب التي تمت السيطرة عليها كما في مرحلة القيصرية الاستعمارية أو الصينية أو الصربية أو كما سيجري لاحقاً من إنفكاكاتٍ مروعة ، وفي الغرب يتم إستعمار بقية العالم.

رأسماليات الشرق الشمولية في روسيا والصين وإيران وإسرائيل تعني السيطرة على الشعوب والأمم التابعة داخل سيطراتها القديمة.

عالم القرن العشرين هو العالم الذي ساد فيه الاستعمار لكل خلية جغرافية، لم يبق مكانٌ خارجَ السيطرة.

هو العالم الذي تم فيه سحق البشر والهيمنة عليهم في كل مكان.

فلسفات الغرب وراؤه حاولت أن تركز في حقبةٍ كبيرة من كيريغارد حتى سارتر بأن تخلق له مكانة حرة، أن تمنع السيطرات الخارجية الهائلة أن تصل لنفسه وروحه. لكن هذه الحريات كانت صغيرة في ظل آلة الرأسمالية الشاملة التي حسب شهيتها الهائلة للأسواق والرساميل كانت تنتجُ الحروبَ أكثر الظاهرات تدميراً للبشر وفتحاً للأسواق.

الرجلُ الذي وجدَ نفسه خنفساء عند كافكا هو ثنائيةُ الوجود في عالم رأسمالي كابوسي.

العالم الاشتراكي الوطني الذي هو رأسمالية شرقية شمولية سحقَ الشعوبَ بقسوة شديدة كذلك، آلات القوميات العتيقة الإقطاعية الملتهمة للقوميات الأخرى والأديان محت وجود الفرد المستقل.

الاقتصادياتُ المرفوعةُ لمستوى المحارق المقدسةِ إلتهمتْ الملايين بدون أي نأمةٍ ذاتية بارزة، لم تتح لها حتى أن تكون خنفساء كافكاوية.

ثورات التحرر الوطنية كان يمكن أن تشعلَ قناديل للفرديةٍ الخلاقة، لولا أن رأسماليات الدول التي هيمنت على الاقتصاديات واصلت تحويل الإنسان لحشرة، فحروبُ الصراعاتِ الطبقية ضد المختلفين حطمت الكثير من الشُعلِ الذاتية للأفراد فأما أن يزولوا وأما أن يظلوا أصفاراً.

لا تريد الأنظمة الاستغلالية سوى البشر النسخ، البشر الذائبين في السلع، البراغي المستعدة للقتل والتحول لفراشاتٍ صفراء في النصوص الميتة، وبكسرِ آلات الحفر الفكرية، ونشر الأقنعة، والدمى والأساتذة المقطوعي اللسان.

لم تصنع الاشتراكية الوطنية الدينية والدول القومية الكلية ذات الكائنات المحبوسة الملغاة من تواريخها ولغاتها وأحلامها، سوى أن تكون الأشكال الجماعية البوليسية سواءً عبر وعي أو دين كرنفالي إحتفالي يتم فيه إعداد المواطنين للقتل، وللانصهار في رموز الدم، وليكونوا عيوناً تحدقُ في كلِ نأمةِ تغيير من فرد، وتُشهرُ بالمختلفِ الحر، وتعتقلُ الأرحامَ عن الولادات، وتحرق ما يشذ عن النسخ.

القادمون الجدد لمعابد البضائع والرساميل المعبودة يحرقون البخور البشري لترضى بنوك الدم، ويتحول البشرُ لرمال، وذرات في أجهزة، ودخان في الزمن.

القرن العشرون كان زمن توسع وظهور الرأسماليتين الكبريين الغربية والشرقية وحروبهما المتعددة الأشكال، ربما وصل القتلى لمائتي مليون قتيل، هذا كان غباراً بشرياً كلياً، أما إندماجهما وتحولهما لرأسماليةٍ كونية واحدة وفتح آخر قلاع رأسماليات الدول والجماعات الشمولية المغلقة في القرن الواحد والعشرين فأمامه حروب وأسلحة نووية وجرثومية فكم سوف يكون عدد القتلى والبشر مشغولون بالدفاع عن شبكاتها العنكبوتية التي تساقطوا فيها كالذباب؟ (كم وصل عددُ القتلى الآن في سوريا؟).

تظل في الغرب مساحاتٌ كبيرةٌ للفرد لكون ثمة نضالات كبيرة وكثيرة خلال قرون موجهة من أجل الفرد المحدد العياني الملموس، لا الجموع المجردة فقط. لكن في الشرق الأمر مختلف، ثمة تاريخٌ هائل من نفي الأفراد وإزالة الفردية الخصبة وتوسيع الجموع القطعان. وهؤلاء من السهل أن يلغوا ذواتهم ويسحقوا الآخرين.

إنهم مثل بطل المسرحي أبسن (برغونت) الذي يقشرُ بصلةً ولا يصلُ للبِ أبداً، وربما كان الأمر أسوأ في الإنسان المعاصر الذي كلما نزع قشراً إنفجرَّ في وجهه.

المثقفون العاميون

تدهور وعي بعض المثقفين وتحولهم لعاميين لا ينفصل عن ضعف التوجهات التحديثية وإستسلامها لهجوم الدينيين الطائفيين، فسقوط الوعي النقدي العلماني المستقل لا ينفصل عن مظاهر الطائفية العسكرية المتصاعدة وغرق المشرق خاصة في الحروب وفي غياب السياسة القومية والسياسة التقدمية الحازمتين في وجه الخراب.

آراء بعض المثقفين لا تستطيع أن تميزها عن آراء العاميين الغارقين في التخلف والطائفية، فضحالتها واضحة، فالمعسكران الطائفيان السني والشيعي اللذان يقودان المشرق للهلاك سيطرا على المشهد المرعب.

تحللت الثقافةُ من عمقها ووطنيتها، ومن يقاوم الطائفيةَ صار هو نفسه طائفياً، لا يستخدم أدوات التحليل الوطنية الديمقراطية العلمانية، وينأى عن الانزلاق بل يكرسه معلياً جهة أخرى لا تختلف في جوهرها عن الجهة المنقودة.

هذا التدهور كان يُلاحظ منذ سنوات عديدة، فالوعي الديني المحافظ إنتصر على الوعي الوطني وعلى الوعي الديني العقلاني المحدود، فأموال النفط وتشجيع الحركات السياسية الطائفية أغرقت المنطقة وخلقت من الانتهازية حالةً عامة، وتواكبت هذه مع تراجع الجماعات الثقافية والسياسية عن المبدأية والخطوط الوطنية التي كانت قريبة منها.

لهذا فإن الكاتب التحديثي السابق خفتت ملامحه وضاع وجهه في الصراع بين الحداثة والتخلف، بين العلمانية والطائفية، فتخرج الأعمال الفكرية والثقافية في عوالم ضبابية، لا تشتغل على حفريات نقدية إجتماعية وسياسية، ويوضع كاتب مسرحي مهرج لا عمق نقدياً في أعماله ولا تشغله هموم واقعية ووطنية تحولية في مستوى موليير المسرحي الفرنسي الرائد في نقد الشخصيات المريضة إجتماعياً.

حين طفت المصالح الخاصة وأهتم المثقفون بذواتهم ومصالحهم الشخصية وذابت الارتباطات السياسية والفكرية النضالية تساوت القامات الرفيعة والهابطة، ويخرج علينا مثقفون عاشوا في عسل السلطات العربية ليأيدوا الثورات العربية بعد أن أحتموا بأموال المعاش الثرة.

ولهذا فإن الأقزام انتشروا وضيعوا المؤسسات الأدبية والثقافية والسياسية الوطنية بعد أن تم شقها وبيعها مثل بيع القطاعات العامة المفككة.

ولم تجد الأجيالُ الجديدة من تركن إليه وتحتمي بمظلته لكي تدافع عن أوضاعها المادية والثقافية، ولم تعد المطبوعة قيمةً في مضمونها بل في مدى خراب ذمة المؤلف وتخليه عن القيم الوطنية الرفيعة ولهذا لجأت هذه الأجيال الجديدة لمن يُظهرها على المسرح أياً كان وعيه وهدفه، وهذا ليس مبرراً للسقوط ولكنه شرح للتهافت المنتشر.

تدهور وعي بعض المثقفين يحولهم لعاميين، لكنهم عاميون فقدوا الارتباط بالأرض والقيم، عاميون ليس مثل أولئك الذين صنعوا وشاركوا في الثورات العربية الجديدة، بل عاميون منسلخون من قيمها يبحثون عن منافعهم الخاصة، يجعلون الكلمة والكتاب والشريط في خدمة من يدفع.

عاميون تتساقط أوراقهم الفكرية والثقافية والسياسية ويعودون للوراء وليس ثمة سوى البئر الكبيرة، بئر المحافظة والقومية الشوفينية والطائفية العسكرية تستقبلهم ويشتغلون فيها.

كيف يمكن بعد عقود من التجربة أن يتساوى مثقف كبير مع مراهق صغير، وتزول الفوارق والتراكمات والتجارب إذا لم تكن المواقف قد بُليت والشُعل قد إنطفأت والروح المتوهجة قد خبت؟

عبدالله خليفة – المثقفون العاميون (ahewar.org)

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : يحيا في إبداعه الأدبي

فيصل عبدالحسن

كان هدفه جعل الناس يؤمنون بما آمن به

الموت ليس هو فَصْلُ الخِطَابِ في حياة المبدعين، فكم من مبدع عاش لقرون بعد موته الفسيولوجي، ومن هؤلاء الروائي البحريني عبدالله خليفة، الذي وافاه الأجل في 21 أكتوبر 2014. وتصادف ذكراه الثالثة صدور كتاب نقدي عن إبداعه القصصي والروائي بعنوان “عبدالله خليفة .. السرد في زمن الإبداع” بأقلام ثلاثة من النقاد هم: الرشيد بوشعير وفيصل عبدالحسن والباحث صبري مسلم حمادي.

قدم للكتاب الناقد عمر عبدالعزيز، الذي أشار في تقديمه إلى القلق العميق، الذي وضع الكاتب النقاد فيه، حول تجنيس إبداعه. متسائلا هل ما كتب سيرة أم رواية؟

يقول عبدالعزيز ” الاستنتاج المركزي الذي يمكن الوصول إليه من خلال تصفُّح النصوص الإبداعية السردية للراحل عبدالله خليفة، يفتح سؤالاً هاماً حول قلق التجنيس للنصوص السردية، حيث جسَّر المسافة بين المفارقات السردية الناجمة عن خصوصيات الرواية، وأدب السيرة الذاتية والقصة، وصولاً إلى النص المفتوح، وبهذا المعنى اختارالسارد العليم أن يكون شاهداً على تراسل الأنواع الأدبية، توطئة لتراسل أشمل ضمن المنظومة المفاهيمية الكلية النابعة من ثقافة عالمة، وذائقة فنية أفقية“.

قدم للكتاب الناقد عمر عبدالعزيز، الذي أشار في تقديمه إلى القلق العميق، الذي وضع الكاتب النقاد فيه، حول تجنيس إبداعه. متسائلا هل ما كتب سيرة أم رواية؟

الحساسية الجديدة

تناول الناقد بوشعير المنجز الروائي لخليفة من خلال قراءات مختلفة لمنجزه الروائي، منذ رواياته الأولى، كاللآلئ، والقرصان والمدينة، والهيرات، وأغنية الماء والنفط، وامرأة، وحتى ما كتبه في أواخِر حياته، كنشيد البحر، والينابيع، وعقاب قاتل.

ومن خلال قراءاته المتعددة لإبداع الراحل الروائي خرج برأي نقدي قال فيه “إنَّ الرواية عند عبدالله خليفة لم تكن ترفاً أدبيّاً أو جماليّاً دعائيّاً يعلن عن قدرة التربة الخليجية على احتضان وسائل هذا الفن السردي، بقدر ما كانت أداة لا غنى عنها لرصد حركة التاريخ الاجتماعي والفكري، والتعبير عن الهواجس الذاتية، والأزمات الموضوعية، ووعاء لطموحات المبدع المرهف الحساسية، وبحثه الدائب عن القيم الإنسانية، التي تذوب في زحمة التغيرات المحلية والعالمية”.

بينما رأى كاتب هذه السطور أن إبداع خليفة من خلال الحساسية الجديدة في الرواية والقصة العربية، قد شاءت أن تستخدم حياة كاتبها لتكون مادة روائية ممتعة يعيش القارئ فصولها، ويتعرف من خلالها على مفاصل المجتمع وتاريخه وتابوهاته.

ومَن أصدق مِن كاتب يضع على وجهه قناع شخصية روائية، ليعيد تفصيل مجتمعه بكل صدق، وصراحة، وموضوعية من دون خوف، ولا إدانة من قبل المجتمع، الذي يكتب عنه؟ فالكتابة عند خليفة بلسان شخصية خيالية في متن روائي من خيال محض كما يظن البعض، ولكن ما كُتب هو الحقيقة، لما عاشه الكاتب وما رآه وتأثر به.

الحساسية الجديدة في الرواية والقصة العربية، التي شاءت أن تستخدم حياة كاتبها لتكون مادة روائية ممتعة

صحافيون فقراء

ملأ خليفة مجموعتين بهذا النوع من القصص، التي تحكي محكيات من حياة كاتبها، فنجد في مجموعته “سهرة”، التي صدرت عام 1994 و”دهشة الساحر” التي صدرت عام 1997، الكثير من القصص التي تحكي عن معاناة كاتب، وصحافي في بداية طريقه إلى الكتابة والنشر. والكاتب يعيش وسط عائلة بحرينية متوسطة الحال، وعلى عادة هكذا عائلات في الشرق، فإنَّها لا ترى في الأدب وكتابته غير ضياع للوقت والجهد. وأنَّ الابن الموهوب إنْ استمر في هكذا ولع، فهو ضائع لا محالة، وليس أمامه غير طريق الفقر والحاجة، وأنَّه لا طائل سيأتي من وراء حرفة الأدب والكتابة.

تطرق الكتاب إلى هذه الظاهرة التي عانى منها الكاتب الراحل، حيث أن بعض العائلات ترى في نبوغ أولادها في هذا الجانب نقصاً في العقل والمواهب، وكارثة ألمت بها، لأنَّها رُزقت بفرد لا يستطيع أن يقف على رجليه وحده، وسيبقى عالة عليها، وبدلاً من أن يكون عوناً لها في مواجهة الحاجة والفقر، فقد صار مصدر قلق لها، وعاهة دائمة في النسيج العائلي.

الصدام مع المجتمع والعائلة هو ما نلمسه في أغلب قصص المجموعتين لخليفة. ولكن إلى جانب النشاط الفكري والسياسي لأبطال قصصه فإننا نستقرئ من خلالها حياة كاتبها في بواكير شبابه، حين كان ناشطاً سياسياً في سنوات الدراسة الثانوية، وناشطاً فكرياً بعد ذلك في المعهد العالي للمعلمين.

فقصصه: السفر، وسهرة، وقبضة تراب، والطوفان، وغيرها من قصص المجموعتين، كتبها الكاتب من وهج تجربته الشخصية، فهي سرود عن حياة الفقراء من العمال وأصحاب حرفتي الصيد والغوص من الباحثين عن رزقهم في صيد السمك أو اللؤلؤ أو العمل في آبار النفط، كما كتب الراحل عن حياة الصحافيين الفقراء، المتعاونين مع صحف فقيرة لا تكاد تغطي ثمن مطبوعاتها، وتتخذ هيئات تحريرها من الصحافة وسيلة لحسم الصراع السياسي مع خصومها الطبقيين أو من يعادونهم فكرياً وسياسياً.

الرواية عند عبدالله خليفة أداة لرصد حركة التاريخ الاجتماعي والفكري

الروائي ليس واعظا

كتب الناقد صبري مسلم حمادي عن حياة الكاتب عبدالله خليفة وإبداعه الروائي، وربط العلاقة بين مراحل حياة الكاتب، ومراحل تطور كتابته الإبداعية، وتأثيرات عمله السياسي، والفكري على المتن الروائي الذي كتبه، فخليفة من جيل من الكتَّاب وضعوا كل أهدافهم في جعل الناس يؤمنون بما آمنوا به من أفكار فلسفية وسياسية، لكن خليفة لم يقع في هذا المَطَبّ.

وكتب الناقد حمادي في هذا الشأن، فقال “ليس من شأن الروائي الفنان أن يطل بفكره عبر سطور روايته، وبشكل مباشر كي يعظ أو ينصح أو يرسم خارطة طريق للمستقبل، لأنَّه إنْ فعل ذلك، فإنّه يضحي تماماً بالجانب الفني في عمله السردي، الذي قد يتحول إلى جنس كتابي آخر، هو المقال الاجتماعي ذو الهدف الإصلاحي”.

وهو مما لا يخفى على عبدالله خليفة الروائي البحريني ذي الخبرة العريضة في مجال الفن السردي، فقد نأى بفنه عن هذا المَطَبّ الخطير في كل أعماله الروائية والقصصية، ومارس ذلك في عواميده الصحافية، ومقالاته السياسية، ومقابلاته التي لها طابع فكري أو سياسي.

الكتاب النقدي الجديد “عبدالله خليفة.. السرد في زمن الإبداع” جاء بـ450 صفحة من القطع الكبير، وتميز برصانته النقدية وسعة مباحثه، ويمكن عدّه أحد أهم المصادر النقدية عن أدب وفكر عبدالله خليفة، الذي تميز بإبداعه الروائي، وإضافاته المهمة للسرد البحريني والعربي. وقد صدر الكتاب عن دائرة الثقافة بالشارقة ــ 2017.

العناصر الفكرية في الشيوعية العربية

تمهيد

تقوم الأفكار الماركسية اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين . إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي ، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوربية هامة ، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجاً لذروة التطور النقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة .
فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا ، القوميون الروسيون ، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لنمو رأسمالية الدولة الشمولية الروسية ، بالجمع بين هذه الماركسية الأوربية مع استبداد الدولة المركزية ، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه ( الماركسية – اللينينية ) .
هناك جانب علمي في الماركسية الأولى هو اكتشاف القوانين والذي عرف باسم المادية الجدلية ، وكذلك فإن المادية التاريخية كانت علماً وهي تقرأ التجربة الأوربية الغربية ، بضخامة المواد والمعلومات التي استندت إليها كما هو واضح من كتاب رأس المال .
إن هذه المادية التاريخية هي علم بتوصلها إلى اكتشاف قوانين التشكيلات التاريخية ، لكن هذه القوانين لم تكن مطبقة على تاريخ الشرق بخصوصيته ، ومن هنا كان نقل التاريخ الأوربي إلى الدول الشرقية ، بتباين مستواها لم يكن سوى نقل ميكانيكي وسياسي غائي للمادية التاريخية .
إن القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات : المشاعية ، والعبودية، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية ، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوربية خاصةً كبديهية مُلزمة ، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين .
أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه ، وهو يخضع للبحوث المستمرة . ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوربية الغربية ، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد .
أي أن الماركسية كنظرية أوربية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية ، أما اللينينية فأمرُها يختلف ، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية ، بدون أن تــُرفد بتجارب الأمم غير الأوربية ، وبهذا فإن السيادة الأوربية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءً منها ، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوربية ممكناً ، بفضل هذا التفوق .
إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي ، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسيةَ وتفحصها وتنقدها ، في العالم الثالث ، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد ، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية .
إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية ، ومن هنا لعبت ( اللينينية ) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وأدلجة الماركسية على المدى العالمي .
وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوربي ديمقراطي شعبي ، وبين الفكر المعارض الروسي ، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة ، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوربا الغربية لها ، وأمانة روسيا في احتضانها .
فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة ، في حين أن أوربا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية .
وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات ( العلمية ) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف .
كان من أولى الخرافات ( العلمية ) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي [ نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي ] . فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً ، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية ، وبين المسارين تضيع روسيا .
فأوربا الغربية حين انتقلت إلى الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون ، فبدءً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابوية وظهور البروتستانتية ، ثم مجيء عصر النهضة ، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ . .
أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاعو العبودية وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمى عصر نهضة روسي ، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوربا الغربية وروسيا ، وإذا أمكن لأوربا أن تنتجَ الماركسية ضمن نظريات علمية عدة ، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلى إيديولوجيا ، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وأن تخنقها .
فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أية نظرة علمية أخرى أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ . .
بمعنى إن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية ، وهو أمر على سبيل المثال لم يتحقق حتى اليوم في روسيا ، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق ، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل . وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم .
وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية ، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة ، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكي يخرج من حالةِ القطيع التاريخي .
لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة ، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك ، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها ، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ . . ، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية ، الُمجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي .
لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية ، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقة ، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة أُستبدلت بسهولة بمؤسسات جديدة ، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون . إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب ، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية ، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد ، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . .
أي أن البنيةَ المتحولةَ من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً ، فأبقت الكتلَ الجماهيريةَ بدون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع ، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع ( الآسيوي ) للجمهور، ولم يتأورب ، أي لم يتحدث ، ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ ..

اللينينية
ليس بالضرورة أن تكون الآراء عن النفس صحيحة ومطابقة للواقع الموضوعي ، فالواقع كما قال لينين أكثر تعقيداً وتركيباً ، وهذا ما ينطبق على كل قائد كبير ، وعلى كل مسيرة سياسية كبيرة ، فغالباً ما ينخدع الناس بالظاهر والمرئي ، في حين يكون للتاريخ كلمته الفصل .
لكن كيف تحول لينين من قائد للثورة الاشتراكية العظمى التي وعدت بإزالة الطبقات وإذابة الدولة بأن يصير في خاتمة المطاف مؤسساً لنظام انبثقت عنه رأسمالية المافيا البشعة ؟ !
علينا أن نقرأ بشكل موضوعي مسارات التاريخ المركبة والمعقدة التي قِبل لينين بها نظرياً ورفضها عملياً .
لقد انضم لينين مبكراً إلى الحركة الاشتراكية – الديمقراطية ورفض طريقة الشعبيين الفوضويين في العمل السياسي الإرهابي ، وهم الذين اعتبروا الاغتيالات وسيلة أساسية لعملهم السياسي ، وراهنوا على طبقة الفلاحين كطبقة قائدة للتحول السياسي الديمقراطي في روسيا ، حيث أن هذه الطبقة كانت هي الغالبية من السكان المنتجين ، وهم قد انبثقوا منها ، وهي طبقةٌ مفتتة إنتاجياً ، تخضع لأسلوب إنتاجي عتيق ومتخلف ، وتتراكب فوقها ظلماتُ القرون الوسطى من أمية وخرافة وفقر الخ . .
فلم يكن لهذه الطبقة عبر التاريخ من نضال منظم ، إلا عبر الثورات الفجائية ، لكن العمل السياسي في القرن التاسع عشر الأوربي بدأ يخرج إلى تنظيمات جديدة .
وقد أحست معظمُ الإمبراطوريات الشرقية الإقطاعية كالإمبراطورية العثمانية والروسية والصينية بضرورة الإصلاح ، وهي كلمةٌ تعني الحفاظ على أسس النظام القديم وتطعيمه بعناصر جديدة لا تلغي السابق ، ولهذا قامت الإمبراطوريةُ الروسية بمجموعة إصلاحات منذ الستينيات من القرن التاسع لتجاوز ظاهرات العبودية والتخفيف على الفلاحين الأقنان ، وإتاحة الفرص للنبلاء لكي يتحولوا إلى رأسماليين أو نبلاء حديثين كما فعلت ألمانيا ، وكانت التجربة الألمانية رهن التداول في الإمبراطوريتين التركية والروسية ، إلا أن مستوى تطور الرأسمالية في كلا الإمبراطوريتين لم يكن يسمحُ بهذه النقلة التحديثية وهذا يعود للتركيبةِ السكانية الشعبية المتخلفة ، فكان الريفُ بنمطهِ العائلي واعتماده الكلي على الزراعة المتخلفة لا يسمح بمثل هذه القفزة .
وهكذا كانت روسيا أمام مهمات التطور الديمقراطي كأفق راهن مهم ، وقد أكد الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي هذا المسار ، لكن مسألة ( الاشتراكية ) هذه خضعت للتطور السياسي في أوربا الغربية ، باعتبارها قارة القيادة في الصناعة والعلوم والتجربة السياسية .
لقد اعتبرت الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية الغربية مسألة الاشتراكية مسألة تطور تاريخي طويل ، باعتبار أن أسلوبَ الإنتاج الرأسمالي لا يمكن تجاوزه في أوربا بمستوى التطور الاقتصادي الراهن وقتذاك ، وأن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة هي التي سوف توصل ممثلي الطبقات العاملة إلى الحكم من خلال الأدوات البرلمانية ، حيث سيقومون بإصلاحات ديمقراطية ويخضعون لأصوات الناخبين .
لم يكن قادة الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية سوى مثقفين غالباً ، أي لم يكونوا عمالاً ، وكانوا من الفئات الوسطى التي تتأثر باتجاهات الطبقات السفلى والعليا ، ورسوخ رؤاها من أجل تطور الطبقات العاملة ومصالحها التاريخية مسألة تتعلقُ بمستوى هذه القيادات وأفكارها والتزامها بتلك المصالح ومدى ثقافة القوى الشعبية التي تــُصعّد تلك القيادات .
فالقوى العمالية ذاتها تتأثر بمختلف تيارات الفكر والسياسة ، ويمكن أن تتغلغل بينها الانتهازية لمصالح قوى أخرى ، وهذا ممكنٌ بسبب دور الاستعمار في جلب ثروات الأمم المستعمرة ورشوة هذه القوى المختلفة ، كما أظهر لينين في تشريحهِ لهذه الظواهر .
لقد كان لينين يعملُ في خضمِ الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية والأوربية عامة ، وقد استقرت هذه الحركة عموماً على فهم معنى الاشتراكية باعتبارها في العصر الراهن هي إصلاحات مختلفة في ظل النظام الرأسمالي الغربي لمصلحة تطور الطبقات العاملة ، حتى تغدو لها المشاركة السياسية الواسعة في النظام لتقوم بإصلاحات جذرية فيه . لكن الأمر لا يصل إلى الثورة والاستيلاء على الحكم بالقوة والتأميم الشامل وضرب الملكية الخاصة الخ ..
وقد استقرت الحالةُ السياسية في الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية الأوربية ، وبما فيها الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي ، على هذا الفهم العام للتغيير ، والكلمة الشعارية المكونة من الاصطلاحين ( الاشتراكي والديمقراطي ) معاً ، كانت تشير إلى أن الاشتراكية ديمقراطية وهي تـُخلق من خلال أدوات البرلمان والانتخابات ، أي هي سياسة اشتراكية ضمن النظام الرأسمالي السائد .
إن هذا المصطلح المُركب كان يثير البلبلة ، والحوارات النظرية العميقة كذلك ، فالرأسمالية الغربية ذاتها كانت تنتقلُ من مرحلة إلى مرحلة ، وعمليات إفقار الجمهور وفي العالم الثالث خاصة وإثارة الحروب العالمية وهدر الإنتاج ، كانت تجتاح العالم وتستدعي النظر في هذا الشعار ، فظهر جناحان أساسيان ، جناحٌ يميني يؤكدُ على البقاء ضمن الشعار والاكتفاء بالإصلاحات ، وكان حين يصل للحكم يتمادى في خدمة رجال المال أكثر من خدمة الناس .
أما الجناح اليساري فكان لا يستطيع في ذلك الوقت الوصول للحكم ، فيطرح شعاراته ويجندُ الناسَ ويقود المظاهرات الخ . .
كان العالم في العشر سنوات الأولى من القرن العشرين يمر بأزمة عامة ، فالرأسماليات الكبرى لم تتوصل إلى طريقة في اقتسام غنائم الإمبراطورية العثمانية وبقية المستعمرات وتريد ألمانياً توزيعاً جديداً لهذه المستعمرات ، يراعي التطورات الاقتصادية في البلدان الرأسمالية الكبرى ، وهذا ما جعل الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية متأثرة بشكل كبير بصراع الدول .
وعلى درجات هذه الدول الرأسمالية الكبرى ومدى نجاحها الداخلي في استقطاب الطبقات العاملة ونقابييها ، كان يجري استقرار النظام السياسي، ومن هنا كانت إنجلترا في حالة مختلفة عن ألمانيا المضطربة المتحولة تواً إلى الرأسمالية ، في حين كانت روسيا تعاني أزمة كبرى في عملية الانتقال إلى الرأسمالية .
كان لينين يعترف وليس مثل زعماء الحركة الشيوعية فيما بعد ، بالتشكيلات الخمس لتطور البشرية وهي : المشاعية البدائية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، وأخيراً الاشتراكية . ولهذا كان يحلل روسيا كمجتمع إقطاعي في طور الانتقال إلى الرأسمالية، وإن هذا الانتقال يحتاج إلى ثورة اجتماعية ديمقراطية تقوم بتغيير الأساس السياسي والاقتصادي للمجتمع .
لكن هذه الآراء للتحول خضعت لنمو الدكتاتورية السياسية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية . كان لينين يصرُ على وجود حزب ( حديدي ) ، مركزي ، تخضع فيه الأقلية للأكثرية ، والقواعد للقيادات ، ويحطم التكتلات الفكرية السياسية داخله . كان هذا النمط من الحزب الدكتاتوري ليس فقط مقنعاً للنخبة في مواجهة نظام تعسفي ، بل كان كذلك يتحولُ هو نفسه إلى بناءٍ دكتاتوري مماثل لقمعية النظام . لكن الأكثر تأثيراً هو قيام الحزب الدكتاتوري بضم القوى والجماعات الُمجيشة والمنضبطة بشكل عسكري والتي سترفدُ ببشر عاميين مؤدلجين وخاضعين للزعماء .
وفي مثل هذا الحزب ستكون البذرة الأولى للدكتاتورية القادمة ، التي سيظهر منها ستالين ، وسيؤكد ستالين دائماً على رفد الحزب الذي دخل فيه مثقفون لامعون ومفكرون كبار ، بالعامة ( البروليتارية ) أي بأنصاف المتعلمين والمتحمسين لكي يتم القضاء على الفكر النير في الحزب .
وهكذا فإن لينين قام بمواجهة الكتل التي سُميت ( انشقاقية ) و ( انتهازية ) ورفض اطروحات التحول الديمقراطي البعيد المدى ، عبر أحزاب ذات تعددية داخلية وفكر حر ، فحدث الانشقاق في الحركة بين من يسمون ب ( البلاشفة ) و ( المناشفة ) .
مع نمو الدكتاتورية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية أخذ هذا الشعار المزدوج بالانشراخ ، بين الشموليين الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين ، وقد قوت مواقفُ الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية اليمينية وتفريطهم بحقوق العمال والشعوب ، من مواقف الاتجاهات الشمولية ، وقد قوى ذلك من توجه لينين لخرق موضوعة التشكيلات الخمس للبشرية ، فقد كانت أزمة الحرب العالمية الأولى ، وأزمة التحول في روسيا ، ونمو الحزب البلشفي الذي يقوده، تحول الأزمة في روسيا إلى مناخ ثوري مفتوح .
إن خرق لينين لهذه الموضوعة وخروجه عن الماركسية تم تحت غطاء الماركسية ، ولهذه مواد سياسية وفكرية كثيرة ، ملخصها إنه خلط بين مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ، وبين عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ، فلم تكن روسيا مجتمعاً رأسمالياً لكي يجري الانتقال فيه إلى الاشتراكية ، بل كان مجتمعاً إقطاعياً يحتاج إلى تطور رأسمالي كبير ، كأمرٍ موضوعي بغض النظر عن رغبات السياسيين ، ولكن لينين وجد أن الماركسية ( الموضوعية ) أصبحت تعرقل مشروعاته السياسية التحولية السريعة .
وهكذا أخذَ يفسرُ تفسيرات مختلفة النصوص المعروفة ، فبعد خرق موضوعة التشكيلات الخمس ، وطرح إمكانية الانتقال من الإقطاع مباشرة إلى الاشتراكية ، سيّح عبارات لماركس عن كومونة باريس التي تقول بضرورة وجود [دكتاتورية للبروليتياريا ] أي بضرورة تنفيذ قوانين المجتمع بالقوة ضد المتمردين عليه ، ولكن ماركس يقصد هذه الإجراءات [ الاستثنائية ] التي تقومُ في مجتمعٍ رأسمالي متطور عبر مؤسساته الشرعية والتي أصبحت الطبقات العاملة أغلبية فيها ، في حين كان لينين يضعها في خانة القفز من المجتمع الإقطاعي المتخلف إلى الاشتراكية وبدون تطور رأسمالي وبدون مؤسسات شرعية منبثقة من إرادة الملايين !
وثمة فرقٌ كبير بين إجراءات استثنائية مؤقتة تــُتخذ في ظلِ برلمانات منتخبة وبين إقامة دولة ذات مؤسسات استبدادية تتحكمُ في الطبقات المختلفة ، وبطبيعة الحال لن تكون هذه دكتاتورية العمال في دولة ديمقراطية بل دكتاتورية الأجهزة البيروقراطية العسكرية التي ستقع السلطة في قبضتها !
وهذه الفئات البيروقراطية – السياسية – العسكرية هي جنين الطبقات البرجوازية الحكومية التي ستنقض على السلطة السوفيتية بعد أن وصلت هذه السلطة إلى العجز عن أن تكون مع العمال أو مع البرجوازية . ولكن الفرق بينها وبين الطبقات البرجوازية الحاكمة في الغرب بأن الأخيرة شكلت نظامها عبر الديمقراطية ، فأمكن للعاملين أن يتقدموا فكرياً ونقابياً ، في حين رأسمالية الدولة الروسية حولت العاملين إلى جمهور مدمن ومنهار نفسياً ومُدمر اقتصادياً وكاره للسياسة ولرموز الثورة ( الاشتراكية ) ، إن لم نقل أنه تابع للمافيا !
لقد أصبحت البنيةُ الروسيةُ الاستبدادية تجرُ لينين إلى هياكلها ، وقد حدث ذلك عبر بنية الحزب الشمولية ، وبنية الوعي الشمولي ، وبالتالي فإن الأفكار الاشتراكية – الديمقراطية أخذت تــُجّير لتحولات دكتاتورية عبر مؤسسات الدولة الفوقية وعبر نقض قوانين التطور الاقتصادي الموضوعية ومن خلال الإرادة السياسية النخبوية ، التي أعطاها زخمُ الجماهيرِ الشعبية المتحمسة إمكانيةَ التحليق الخيالي بأنها تستطيع أن تقوم بالقفز فوق التشكيلات التاريخية .
ولهذا يمكن رؤية الجماهير الغفيرة التي كانت تشارك في أحداث التحولات في العشرينيات ثم تنسحب تدريجياً حتى صارت في النهاية هي التي تنقض على مؤسسات الدولة السابقة .
علينا هنا أن نرى أن ثمة تغيرات إيجابية كبرى فيما سُمي ب ( ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ) ، ونستطيع أن نسميها ثورة روسيا البرجوازية الحكومية التي جمعت العمال والبرجوازية تحت قبضتها الإدارية . إن تلك التغيرات كانت تحول روسيا فعلاً إلى دولة رأسمالية حديثة ، كالإصلاح الزراعي الواسع ، وهو الإصلاح الذي رفضه البلاشفة حين كانوا في المعارضة ، وتبنوا برنامج حزب الفلاحين الشعبيين ، وهو إصلاح ديمقراطي اجتماعي ، ضخم ، جعل حزب البلاشفة ذا جماهيرية كبيرة ، فالتف الناس حول النظام الاجتماعي الذي قدم لهم الأراضي ، وواجهوا جيوش التدخل الأجنبية والقوى الاجتماعية التي أيدتهم .
وهنا لم يتواجد حزب روسي مؤيد للتحولات الاجتماعية الديمقراطية هذه ، وكذلك بأن يعمل لمواجهة دكتاتورية البلاشفة السياسية كذلك .
كذلك فإن إجراءات التصنيع والكهربة ومشروعات التقدم الاجتماعي والثقافي الواسعة كلها تحسب للنظام ، لكن كلها تمت عبر أدوات العنف والشمولية الإدارية ، فأخذت أجهزةُ الدولة القيصرية تتبدل بشكل بلشفي ، وراحت الأجهزة العسكرية والبوليسية تتسع ، وتقلصت الديمقراطية داخل الحزب البلشفي نفسه ، فحيث كان يقرر الأمور اللجنة المركزية اقتصر الأمر بعد ذلك على المكتب السياسي، ثم على الزعيم الأوحد ، الذي ظهر بشكل لينين ثم ستالين . ثم تعرض ( الماركسيون ) داخل الحزب للقمع والقتل .
لقد تحولت الدولة إلى المالك الأكبر لوسائل الإنتاج ، وهكذا فقد فهم لينين أن تملك الدولة لوسائل الإنتاج هو النظام الاشتراكي ، فعبر المصادرة ينشأ النظام الحكومي للملكية فتظهر الاشتراكية .
لكن الرأسمالية ليست هي الأموال فهي بناء اجتماعي واقتصادي وثقافي عميق ، فنشوء المصانع والتقنية ليس هو مسألة مالية وإدارية ، بل مسألة بناء اجتماعي قائم على التطور الموضوعي الداخلي عبر قوانين موجودة في كتاب ( رأس المال ) . ( 1 ) الذي قرأه لينين ولخصه ولكن لم يفهم مقولات الرأسمال كمقولات تاريخية وليس كمقولات تقنية أو سياسية . وهكذا فمع عدم وجود رأسمالية في روسيا كان ينبغي بناءها من أجل بناء الاشتراكية فيما بعد ! أي ترتب على أفكار لينين أن يقوم هو ببناء الرأسمالية ، فصار من قائد للثورة الاشتراكية إلى قائد لبناء الرأسمالية الحكومية الشمولية .
فبعد الكوارث التي ظهرت في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان عليها أن تدخل حرب التدخل الأجنبية ثم الحرب الأهلية التي راح ضحيتها الملايين . ولكن ليس لتقيم الاشتراكية وتزيل الطبقات وتطفئ مؤسسة الدولة غير الضرورية بل لتتعلم كيف تطور رأس المال وتخرجه من جحوره التي اختبأ فيها ، وتحدث تراكماً رأسمالياً ، فبدأ لينين ما سُمي بالسياسة الاقتصادية الجديدة ( النيب ) منذ 1920 ، لكن هذه العودة للرأسمالية لم تكن عودةً ديمقراطية ، أي أن لينين لم ير أن مشروعه ( الاشتراكي ) فاشل ، وأن عليه أن يعود للرأسمالية الديمقراطية فيسمح للأحزاب ولحرية الصحافة ويشكل دولةً ديمقراطية تقرر فيها الطبقات المختلفة تطوير البلد بالشكل المناسب ، بل واصل استخدام أدوات السلطة السياسية والعسكرية في الحكم ، لكنه أعطى للملكيات الصغيرة والمتوسطة في الزراعة والصناعة والحرف الحق أن تنمو ، بشكل لا تتحول إلى ملكيات كبرى وتتعاون مع قوى سياسية لتغيير النظام ، بل سمح لها بالتطور الاقتصادي الحر المفصول عن التطور السياسي .
راح الحزب البلشفي يعمل لإيجاد الرأسمالية تحت غطاء الاشتراكية الحكومية ، ولا بد للرأسمالية من تراكم أولي ، يسمى التراكم البدائي ، حيث توفر الدولة رؤوس الأموال المنتزعة من الفلاحين من أجل الإنتاج الرأسمالي الموسع ، من هنا عمل خليفة لينين ستالين على تجريد الفلاحين الأغنياء والمتوسطين من مدخراتهم وتشكيل التعاونيات بالقوة ، وسحب فيوض المال للصناعة ، وتمت إجراءات وحشية هائلة هنا ، لا تقل سوءً عن إجراءات التراكم البدائي في أوربا الغربية .
كانت نمو ملكية الدولة الضخمة تتم بالأشكال الإدارية ، فتتحول كافة المؤسسات الحزبية والسياسية والنقابية إلى ذيول للدولة ، وكان الفكر الرأسمالي الحكومي يصير نظرية أسمها ( الماركسية – اللينينية ) حيث يمكن القفز على المرحلة الرأسمالية بمساعدة الدولة الاشتراكية الأم .
ويحدث وهمٌ هنا في الدول الاستبدادية الشرقية بأن بإمكانية الدولة أن تتلاعب في التاريخ وتقفز على المراحل وتحقق المعجزات الاقتصادية ، بسبب أن التخلف يتيح لماكينة الدولة الضخمة أن تقوم بمعدلات تنمية كبيرة ، لكن هذا بشكل مؤقت ، لكن هذا لا يحقق اشتراكية بل رأسمالية حكومية ، ولكي تتحول إلى رأسمالية حرة تحتاج إلى ثورة لوضع حد لهيمنة الهياكل الإدارية – البوليسية . وهنا على الطبقات العاملة مهماتٌ جديدة مركبة باستثمار المرحلة السابقة ونقدها والتعاون مع البرجوازية الصناعية لتغيير مشترك .
والآن لم تكتمل الثورة الديمقراطية في روسيا بعد وتحتاج للتخلص من الجوانب الشمولية من فكر لينين وتبقي إنجازات فكره الديمقراطي والعلمي .
وستلعب هذه ( الماركسية – اللينينية ) دورها في بث الأفكار العلمية وكذلك الأفكار الإيديولوجية ، وعملية الفصل بين هذه العناصر هي مهمة دقيقة وقد ظهر مفكرون عرب كان لديهم هذين العنصرين المتداخلين .

  • عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من المجلد الرابع لكتاب
    الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية

شقة راس رمان التي عاش فيها 21 عاماً وتوفى فيها.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المناضل والأديب والإنسان ــ تقديم المحامي عبدالوهاب أمين