عن «أسرة الأدباء و الكتاب» في المنامة وبالتعاون مع وزارة شؤون الإعلام، صدر للشاعر يوسف حسن عضو أسرة الأدباء و الكتاب ديوان شعر حمل عنوان «زهرة الغسق».
وقد أهدى الشاعر يوسف حسن هذا الديوان إلى فقيد الساحة الإبداعية في البحرين والعالم العربي، الروائي و الكاتب عبدالله علي خليفة البوفلاسة، الذي أغنى بعطائه النوعي المكتبة البحرينية والخليجية والعربية .
ضم الديوان ستة عشر قصيدة كان أبرزها قصيدة «زهرة الغسق» و «صورة قلمية»، «الجميلة في عباءتها»،«نحن من غشى على عينيك»،«رؤيا»، «أبو البحر و المهنده البتر»، «الغريب»، «أغنية على جدران الوطن»، «صباحات الوردة» إلى آخره من القصائد.
يذكر بأن الشاعر يوسف يعد من بين أبرز مؤسسي أسرة الأدباء و الكتاب في البحرين، وقد تخرج في الجامعة العربية ببيروت، قسم اللغة العربية و آدبها سنة 1971.
تشكّلَ الوعي القصصي العربي في العصر الوسيط عبرَ بروزِ مادةِ العجائبية بشكلٍ واسع متضافرة مع مسرح كبير من المشهديات، المتسعة من مدينةٍ صغيرة حتى مدن كبرى عالمية، فغدت مركزاً واسعاً في هذا الوعي الذي تجسّد بأشكالٍ مختلفة في القص والشعر والدين وظل جوهرُهُ العام واحداً. وعموماً فإن الأدبَ القديم البشري يقوم على المدهش والمغامرات كجزءٍ أساسي من العلاقة مع السامعين والقراء والمؤمنين ومن روح الأزمنة القديمة.
وجدنا أن العجائبية هذه تظهرُ في القرآن بشكل واسع، عبر عجائبية المعجزات والأحداث وسير الرسل والقادة السابقين، مثلما هي موجودةٌ في الشعر والنثر الجاهليين، ثم زحفتْ على القصص المشكلة في المدينة العباسية في بغداد والقاهرة وغرناطة. وهي المدنُ التي تنامتْ من الصحراء ومن ثقافتها وانفتحت على ثقافات العالم.
العجائبيةُ تستندُ في الثقافة الإبداعية الإسلامية السائدة أولاً إلى كونِ الوجودِ بلا سببياتٍ وقوانين بل إلى سلطةٍ إلهيةٍ مطلقة عامة، فيما المظاهرُ الأخرى تمضي بأشكالٍ متعددة عادية وخارقة، ليس فيها تواتر وعللٍ عامة.
كما أن الوجود غير موحّدٍ في كائناته ذات الأشكال النوعية المتضادة كلياً حسب هذه الرؤية، حيث الإنس والجن، ككائناتٍ أرضية، فيما هناك الكائنات السماوية المنفصلة عنها. حين نقرأ الأدب اليوناني القديم سنجدهُ غارقاً في الأعاجيب والحوادث المذهلة كذلك وهذه طبيعة الوعي في الأزمنة الغابرة.
ومع غياب وحدة الوجود، وتنوع أشكال الحياة من مادية ونورانية ونارية، فإن التداخلات بينها ممكنة، والصراعات مستمرة، والتداخلات بينها تنتجُ الأعاجيبَ فيها.
وتنمو هذه الرؤية قصصاً حيوانياً عبر (كليلة ودمنة)، حيث تغدو العجائبية مدرسيةً، ومنطقية، وأمثولات والأمثولات لا توجد الدينامية الخارقة، فهي ذاتُ عالمٍ مستقرٍ، موحد، رتيب، في انفصاله الحاد عن البشر، فيقدم مواعظ وحكماً.
تسود الغابة، والزراعة في عالم (كليلة ودمنة)، وهذا ملمح لجذور غائرة، فيما تسود المدينة ألف ليلة وليلة.
في المسيرة إلى كليلة ودمنة كان العرب لا ينتجون إلا الأبنية القصصية الجزئية الوامضة، فالملاحمُ لم تكن من قدراتهم، لأنها قصصٌ كبرى، متشعبة، مترابطة، فيما هم ذوو قدرات قص جزئي، للمسامرة، وتعبرُ المسامراتُ والمجالس عن الترحال والضيافة والسوالف والحزاوي وقول الشعر والطرائف وعقلية التنوع والتجميعات، وهي العمليةُ التي بدأت منذ الخيام وتتوجت في الأندية وكتب الوراقين، وهي التي أخذت عدة قرون حتى حدث الاستقرار الأكبر في العراق والشام ومصر وغيرها.
فهيأت الأمثالُ وحكاياتُها وقصصُ الخرافةِ وتاريخُ العرب وما فيه من تحولات وملاحم، إلى القصص الواسعة ذات المحاور المتضافرة بعض التضافر الواهي الصلات غالباً.
مرحلةُ (ألف ليلة وليلة) والسير الشعبية مرحلة مختلفة، حيث تقومُ على القص المطول الواسع ذي الأبطال المركزيين والشخصيات الثانوية الكثيرة، ويربطها هيكلٌ عامٌ واحد عادة، يتيحُ للعناصر القصصيةِ المفككة بالترابطِ المحدود.
وبعثرةُ العناصرِ الفنية هي مثل بعثرة العناصر الاجتماعية في النظام وعدم قدرتها على تكوين طبقة متوسطة محولة، وهي مثل بعثرة قوى التفكير وعدم وجود منهجيات متماسكة حفرية في المادة.
تختلفُ (ألف ليلة وليلة) عن السير الشعبية، فالسيرُ ذاتُ تكوين عربي إسلامي تعكس سيرورة المجتمعات العربية البدوية، وهي تقوم على أبطال التاريخ العربي كما رأينا في قصة حمزة البهلوان أو (حمزة العربي) ومثل عنترة، وسيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة وغيرها.
بينما تعبر ألف ليلة وليلة عن مجتمع عربي إسلامي عالمي، وقد دُرستْ عربياً من خلال العناصر الفنية، أو من خلال الموضوعات الاجتماعية والتاريخية المبثوثة في الليالي.
أما عمليةُ التضفير بين القراءة الفنية وقراءة الجذور الاجتماعية فمنهجيةٌ نادرة.
تعبرُ بدايةُ حكاياتِ ألف ليلة عن التناقضِ البارز في هذا الكتاب، فالملكُ شهريار وأخوه اللذان يكتشفان خيانات زوجتيهما ويرحلان بحثاً عن خائنات أُخر ورجالٍ مخدوعين مثلهما يريان جنياً وقد حبسَ محظيته حبساً مخيفاً في علبة، ولكنها مع ذلك كانت تخونه ولديها خواتم كثيرة لأولئك العشاق!
تأتي شهرزاد لتمنعَ ذبح شهريار للنساء، وتقصلا عليه قصصاً ممتعةً تمنعهُ من تنفيذ حكم الإعدام فيها.
التناقضُ في هذا الجزء هو قيام شهرزاد بالروي المتتابع المتقطع، لكن الساردَ ليس هو المرأة شهرزاد، بل هو راو ذكر متخفٍ، أو هو مجموعةٌ من الرواة الذكور.
إن الجذرين الهندي أو الفارسي للرَاوية المفترضة شهرزاد وللملك شهريار يتم تنحيته، ليتكلم الراوي الذكرُ العربي المصري، ولهذا فإن ألف ليلة هي ذاتُ عدسةٍ ذكورية إسلامية محافظة في القسم العلوي منها، فيما خباياها غير محافظة مليئة بالحياة والرغبة في المتع والعشق.
وفيما تسلط ألفُ ليلة الرؤيةَ الذكورية على خيانة النساء كأفتتاحيةٍ كاذبة، تبعدُ ضميرَ المرأة عن الروي، وتجعلها في متن الحكايات كائن للمتعة الجنسية في شبابها، ثم تغدو (حيزبوناً) وعجوزاً تنصبّ عليها لعناتُ الراوي، فالمرأة ليست سوى مكان للشهوة فإذا فقدت ذلك تصبحُ من المخلفات! ولكن الليالي كذلك تظهر نساءً مقاومات يرفضن استغلالهن كما تفعل زوجةُ تاجرٍ مع أرباب الدولة (ص91، ج3).
والشكل في النساء هو المذهل والحب يتدفق من الجمال الظاهري وغالباً ما يكون مروَّعاً ساحراً، مؤدياً لسلسلةٍ من الأحداث، وليس ثمة عشق حقيقي.
هذا هو التناقضُ الأول البارز في الحكايات، والجذر الأول الذي يدل على بقايا مجتمع أمومي، ويتمظهر في البطولة الساردة، فيما الوجه الثاني حيث يختفي الراوي الحقيقي وتبرز العلاقاتُ الذكورية المسيطرة. ففيما تنتصرُ شهرزادُ على شهريار في الرابط القصصي العام، تُهزمُ في متنِ الحكايات حيث النساء أدوات للشهوة أو مُبعدات كمخلفات.
هذا التناقضُ يشيرُ إلى عدمِ البنائيةِ الفنية الكلية بل على البنائية العفوية التلقائية التجميعية، التي شكلتْ محوراً هشاً وملأتهُ بمادةٍ هائلة متنوعة متضادة مختلفة.
الأمثولة هنا هي دور القصص في تحضير المَلك المتوحش وأنسنته، عبر القص العجائبي، وسيرورةُ القصص مرتبطة بعجائبيتها وبغاياتها، وبمدى قدرتها على تقديم المدهش، الذي يتدفق وتظهر روابطُهُ السردية المتنامية من دون علاقات قانونية وسببية هيكلية، فيتدفق السردُ في المكان والزمان، في البر والبحر، في المدن وخارجها، يصورُ الجنَ والبشرَ والحيوان وتداخلاتها عبر الحكايات والتحولات والتناسخ بينها
ظهورُ التناسخِ بين الإنسان والحيوان والجن في قصص ألف ليلة وليلة يعبرُ عن المرحلة العباسية وازدهارها، والتأثيراتُ الهنديةُ التي تغلغلتْ في نفس الزمن عبر الفلسفة واسهمتْ في إنتاجِ التصوفِ الإسلامي.
إنها مرحلةُ التناسخ، تتناسخُ الحيواناتُ والبشرُ والجن ويتداخلون في علاقات الحب والصراع والحروب، في حين لا يوجد التناسخ في السير الشعبية، فيكبر الكونُ الفني في ألف ليلة ويغدو عالميا.
تغيبُ النماذجُ المركزية، فشهرزاد هي مجرد رَاوية عابرة، تربطُ بين الحكايات، وتتدفقُ بها، والمعرفة المذهلة بكل هذه الشخوص والحوادث لا تدخل في شخصيتها وروحها، ولا تنمي شخصيتها الناجزة منذ البدء، فالشخصيات والحكايات تبقى مستقلة عن بعضها بعضا بطبيعة البناء.
البطل هو تدفق الحكايات العجائبية، فهي شرطُ بقاء الساردة، وهي متن السلسلة القصصية، وهي جوهرُ القص.
الحكاياتُ لا تستهدفُ غرضاً فغرضها هو حكي المذهل المشوق، الذي يجعل القارئ متابعاً، والذي يجعل شهريار غير قاتل، وفي خضمه تجيء أغراضٌ كثيرة وسياقات فنية مختلفة.
المدهشُ هو في جمالِ المرأة الخارجي المثير المحرك للشهوات والأفعال والصراعات (فيما جمالُ شهرزاد الداخلي غيرُ مرئي).
المدهشُ يتجلى في القدرات الخارقة للحيوانات والبشر وتحولاتها، يتجلى القردُ عن امرأة فاتنة، والكلابُ عن بنات أو عن اخوة.
والمدهش هو في خرق الزمان والمكان والعلاقات الموضوعية، وخرق وحدة الشخصيات ووحدة المملكة المفترضة، وذوبان المدينة لتغدو صحراء أو بحاراً مليئة بالغرائب.
هنا تدفقٌ وتوليد لا ينقطعان للحكايات من رواة مختلفين في كل موضع، يولدون العقدَ ويحلونها ويعقدونها ثانية.
تزيحُ الحكاياتُ الاسطوريةُ المكانَ العربي الإسلامي بداية، لتصنع محله مداراً آخر، حيث يعيش (ملكٌ من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم)، هنا تتفجرُ الفضائحية الجنسية بدايةً، وينهمرُ التناسخُ، والتداخل الحيواني- البشري، فتغدو هذه المنطقة الدنسة بؤرته، والذكر الحاكم الشهواني (يُستبدلُ بشيطانيةٍ نسائية مزعومة)، لتقومَ شهرزاد بفعل إنساني، حيث تقول انها تدافع عن(بنات المسلمين)، وهنا يظهر العالمُ الإسلامي، لكن النساء لا يدخلن الليالي بعد هذه البطولة متأثرات بنفحها المفترض إلا كومضاتٍ نادرة.
الجغرافيا، الوقائع التاريخية، البناء المتداخل المتنامي (يُستبدل بوحداتِ قصٍ متشظية متداخلة بعض التداخل)، لكنها شديدة التبعثر يسودها فنا قانونُ العجائبية، فهي لا تحفرُ في واقع أو تكشف بنية عبر وحدات متنامية متداخلة.
هي قصصُ يحكمُها التجاور، لا التنامي، إنها بُنى متجاورة، لا بُنى متداخلة، ولهذا فهي لا تحللُ واقعاً، بقدر ما تتناثر فيه وتتلمس أشياءَ من تفكيره الذكوري الديني السحري الغالب ومشاعره المتلذذة بالحياة وصوره الطبيعية والاجتماعية المتناثرة.
حين نأخذ الليالي الأُول نجدُ الرواةَ يقصون عن شهوات جنسية حادة للبشر، وتحولات مسوخية للشخوص. الرابط الأساسي لحكايات شهريار- شهرزاد، يفضي لحكاياتٍ متتالية لا يربطها رابطٌ عضوي بما سبق، لكن قانونَ العجائبية يحكمُ السابقَ واللاحق، وحكايات البشر- المسوخ تتعدد: فحين قتل التاجرُ ابنَ الجني بقذفِ نواةٍ بعد أكل الثمرة، ظهر له الجني الأبُ وقرر قتله. إنها عجائبية مزدوجة، وحين ينتظر التاجرُ العقابَ يتصاعد التوترُ القصصي المشوق، حتى يظهر الجني للتاجر ويضعه في مكان البؤرة التي يحتشدُ فيها التنامي القصصي، مثلما هي بقعةٌ مسكونةٌ كذلك، فتتالى القصصُ من الرجال الثلاثة الذين يريدون وقف عقاب الجني للرجل الواقف على شعرة الموت، ويقدم كل واحد فيهم قصة عجيبة ويكشف الستار عن الحيوان الذي معه فيظهر انه إنسان، والجني لم يوقفه شيء ويدع العقاب سوى عبر الحكايات العجيبة التي هي البطل الأكبر، ونجد أصحاب القوى السحرية في أمكنتهم يحولون البشر إلى مسوخ، أو ليعيدوهم إلى الحالة الإنسانية السوية، ولا تتطورُ الأحداثُ تطوراتٍ مذهلةٍ من دون هذه الخوارق، لكنها لا تفضي لشيءٍ عميق كذلك، والبناءُ الاجتماعي الذين عبروه يبقى غرائبيا مليئا بالشر والخير والتقلبات والمغامرات ولا سبيل للسيطرة عليه. النقد الضمني الموجه للأشرار هو أنهم خرقوا العشرة الإنسانية وأنتابهم الحسد، حين حسد الاخوة أخاهم وغدروا به، أو حين خانت الزوجة الأمانة وهي علل بسيطة لا ترقى لجذور مشكلات المجتمع لأن الليالي هدفها تقديم القصص المدهشة المسلية وبعض العروض الكثيرة عن الحياة.
في قصة السندباد البحري مغامرات بحرية كثيرة، عبر جزر آسيا، وتقودُ كل رحلة إلى سلسلة من المغامرات واللقاءات مع حيوانات غريبة وطيور عملاقة وبشر أقرب للسحرة، وبشر من أكلة اللحوم البشرية، وتحدث لقاءاتٌ مع شعوبٍ ذات عادات قديمة رهيبة، كالبشر الذين يدفنون زوجاتهم أو أزواجهم في حالة موت أحدهم.
وفي قصة السندباد يمضي البحارة نحو بيضة عملاقة لرخ هائل، فيقومون بكسرها وانتزاع الجنين منها وأكله، فيأتي زوجا الرخ نحوهم للانتقام:
(فجاءت رفيقته وصارا حائمين على المركب يصرخان علينا بصوت أشد من الرعد فصحتُ أنا على الريس والبحرية وقلت لهم ادفعوا المركب واطلبوا السلامة قبل ما نهلك فأسرع الريس وطلع التجار وحل المركب وسرنا في تلك الجزيرة فلما رآنا الرخ سرنا في البحر غاب عنا ساعة من الزمان وقد سرنا واسرعنا في السير بالمركب نريد الخلاص منهما والخروج من أرضهما وإذا هما قد تبعانا واقبلا علينا وفي رجل كل واحد منهما صخرة عظيمة من الجبل فألقى الصخرة التي كانت معه علينا)،(ج3، الليلة رقم 545).
لم تعد اللغةُ مهمةً في حد ذاتها، فقد غدت أداة تصوير وتجسيد الحدث الخارق، فألقت بكل أردية السجع المعوقة لخطواتها في السير القصصي من دون أن تغدو لغة أدبية مميزة ولكن في خضم التطور الأسلوبي هي مهمة، لكنها لم تجعل بؤرتها سوى الحدث المشوق الغريب المتصاعد باستمرار والداخل مع شتى الكائنات في علاقات صراع وتعاون، للمزيد من ظهور الأحداث، لكنها أحداث ولغة سرد لا تراكم هياكل شخوصية أو دلالية عميقة، أو تحفر في الواقع بل هي أشبه بأضواء ملونة تتفجر في الهواء الفني من دون أن تخلف مادة بنائية متآزرة.
إنه بناءُ تجاور الوحدات القصصية وليس اندماجها ونشوء تحولات نوعية عبر هذا التراكم، وهو بسبب وجود الدوائر، فحكايةُ الرابط الرئيسي شهريار- شهرزاد، تظهرُ من خلالهِ دوائر، والدوائرُ تُخرجُ دوائرَ أخرى وأخرى، وتعودُ الدوائر للدائرة الأولى وتنتجُ دوائر أخرى، وكل منها مغلقٌ على ذاته ومنفصلٌ عن غيره.
المبنى المبعثر هو معبرٌ عن مجتمعِ القرون الوسطى المبعثر الوحدات الاجتماعية ولهُ رابطٌ هو الخليفة، ثم من يليه، ولا يقدر الخليفة على صهرِ الوحدات المبعثرة، حتى يتوجه المجتمعُ للتحلل، وتبقى الليالي شاهداً على أشياء من حياته وتصورات أناسه وعلاقاتهم، وكيف سيطر السحرُ عليهم، تعبيراً عن عدم قدرتهم على صناعة المجتمع بشكل تحديثي عقلاني. تعددتْ الرؤى حول ألف ليلة وليلة، وغدتْ كتاباً مرفوضاً لدى البعض، فيما اعتبرهُ آخرون كتاب تسلية وتقول الباحثة سهير القلماوي إن مُقدمَ الكتاب (نصَّ منذ البداية على أن للكتاب غاية هي أن يزدجر القارئ ويعتبرُ بما حصل لغيره، ويكرر القصاصُ تلك العبارة في قصص كثير لو تأمله القارئ قليلاً ما وجدَ عبرةً حقة، وإن قصص الليالي قصص تسلية ولهو لا قصص جد وسياسة)، من كتابها ألف ليلة وليلة.
فيما يرى الباحث السوري أبوعلي ياسين في كتابه (خير الزاد في حكايات شهر زاد) أن القصصَ أُنشئتْ للسلوان والعبرة معاً ويدلل على أفكارِها في كتابه العميق الواسع والمرصود لرؤية موضوعات الليالي وكيفية التعبير فيه.
وهناك كاتباتٌ عربيات طالبن بوقف نشر هذا الكتاب لما فيه من تجنٍّ على النساء وتحقير لمكانتهن.
وهناك أدباءٌ عالميون كثيرون في الغرب والشرق اعتبروه تحفة من تحف الإنسانية الفنية الخالدة كما هو حال الكاتب الأمريكي اللاتيني بورخيس الذي لديه تحفٌ من المقالات، والقصص كذلك عن ألف ليلة.
الكتابُ يعبرُ عن مرحلةِ ما قبل الرواية الحديثة، وتشكل كذروةٍ لتطور فن القصة عند العرب، بعد عدة قرون من المحاولات والتراكم، فتأثروا ونقلوا من الأمم الأخرى وصاغه كتابٌ مجهولون لم يعرفوا من قبل كيفية تأليف الملحمة الروائية، العصرية، حيث تسود الروايةُ عن الماضي فقط، ففيه وحده العبرة في تصورهم، لكن كتاب الليالي هو كتابٌ معاصر لزمنه، يراوغُ ويقول إنه كتاب عن الماضي ولهذا ينقل حكايات أبطال زمنه، متقطعين، متناثرين، يستلُ حكاياتهم من دون ترتيب، أو بناء متنام، أو يتبع ترتيباً خاصاً، فسيلانُهُ عفو الخاطر، ومن هنا فلا يحللُ عصراً كما يحدث لاحقاً، أو يسعى لغاياتٍ مسبقة، بل تتناثرُ القصصُ وتُجمعُ من مصادر شتى، وتُحشر في ذلك الهيكل العام الذي هو قصة شهرزاد ؟ شهريار.
ومن هنا فالحكاياتُ تذمُ النساءَ في مكان وتمدحهن قليلاً في مكان آخر، وتعرضُ العاملين البسطاء والملوك والأغنياء، هدفها التسلية ولكن في هذه العروض المسلية هناك تصوير، وهناك إراداتٌ سلبية كثيرةٌ خاضعة لما تسميه القضاء والقدر وهو الحراكُ التاريخي غيرُ المعروض والمجسدُ في الليالي الذي يحولُ البشرَ إلى فلين كثير طافحٍ على نهر الحياة الغامض، والنهرُ مُركبٌ من سطح الحياة العادي، ومن أعماق سحيقةٍ مليئة بالجان والعفاريت، وعلى السطح تجري مغامراتٌ لا تتوقف، الكثير من خيوطها موجود في تلك الأعماق. في قصة السمكات الأربع الموجودة في الليالي الأُوَلِ التي يجلبها صيادٌ فقيرٌ ويحصلُ بسببها على رزق من حاكم القصر، وتتعرضُ هذه السمكات للقلي، لكن يجيءُ سحرةٌ يثقبون الجدرانَ أو يقلبون الأرضَ ويحولون السمكات المقليات إلى فحم محترق. ويُذهلُ الملكُ من استمرار هذه الأعجوبة في قصره، ويقوم بالبحث عن السر عبر مطولةٍ حكائيةٍ خلاصتها أن هذه السمكات الأربع هن عبدة الأديان الأربع في المملكة وهي الأديان الإسلامية والمسيحية واليهودية والمجوسية.
إن ثمة ساحرةً قلبتْ حبيبَها إلى حجر وحولت رجلاً أسود إلى عشيق، وخربت المدينةَ بسكانها فتحول أهلها إلى أنواع من الأسماك.
القصة هنا كشفتْ تعددية الأديان وبقاءها، عبر عجائبية قصصية لا تعبرُ عن شيء عميق، فيما كانت العلاقات بين الأديان مختلفة، وتطوراتها تجري في سياقات أخرى، الحكايات أخذت فقط الظاهر العياني رغم أن موضوعها يتسمُ بالغرابة والجدة والتعبير الفني بالمذهل.
إن الوجودَ يجري بلا سببيات مترابطة، والوعي الفلسفي في ذلك الوقت مثل مثله الليالي، يحيل تطورات المجتمعات إلى سببياتٍ ميتافزيقية وغيبية، ويعتبرُ الفلاسفةُ والدينيون المتأثرون بهم أن الأحداث تجري من خلال النجوم والكواكب والأرواح، وهي التي تحرك الحياة وتخمد جذوتها.
ولهذا فإن راوي الليالي ليس من قدرته أن يوسع حضورَ الواقعي والمرئي والإنساني، ولا من قدرته أن يجدَ الأسبابَ لهذا الحراك، والصلات بين الأحداث والظروف، وهو يعيش القدرية والغيبية، ويقتطعُ من ظواهر الحياة أشياء يربطها بخياله ويجعل منها مغامرات مثيرة ويبث أفكاره الشعارية عن القَدر والحياة والنساء.
ومن حالاتِ وذكريات الأسفار وبعضِ خيوط الغرابة يحيلُها لقصص مذهلة عن الجزر والأسماك والطيور والحيوانات المتكلمة، ومن أخبار الخلافة الشهيرة العباسية يصنع حكايات ونوادر، وهي الخلافة القريبة من زمنه المؤثرة عليه لاتزال، ومن مرئياتهِ ونوادر زمنه ينشىءُ طرائف وحكايات، ويأتي رواةٌ آخرون ويضيفون المزيدَ من الحكايات بنفس منهج العجائبية.
وقصدُهُ أن يبهر سامعيه وهو يدعوهم للمتابعة، وتغدو لغاته بين المحكي والفصيح، يعتمدُ على النثر غير الأدبي ويمزجهُ بأبياتٍ قد تكون مناسبة وقد لا تكون، ويصير الأدب الشفاهي مكتوباً، والمكتوب مقروءاً، والمحلي عالمياً.
ولا بد أن تكون الحكاية العجيبة هي محور العمل كله، والمغذية لفعل الشخصيات، وأساس تسليتهم، وحضورهم، ومشاركتهم، وهي ذات وجهين إيجابي وسلبي، فهي كما تنوم الأطفال تنومُ الكبارَ أحياناً، فيشاركون في العالم الخرافي، وآرائه عن النساء والوجود ويبثونها في الحياة ينومون الناس، أو يرفضونه ويشطبونه باعتباره أدباً منحلاً أو متخلفاً، وهناك الباحثون والقراء الأدباء الذين يقرأون الليالي في ضوء زمنها، ومستوى فنه .
◇ ساهم في مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، وأول مؤتمر أشترك فيه كان سنة 1975 الذي عقد بالجمهورية الجزائرية وقدم فيه بحثاً عن تطور القصة القصيرة في البحرين، وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «التضامن الكفاحي بين المسلمين»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، وببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والاستبداد» وذلك باتحاد الكتاب المصريين. والعديد من المؤتمرات الادبية العربية.
◇ منذ سنة 1966 مارس عبــدالله خلــيفة كتابة القصة القصيرة بشكل مكثف وواسع أكثر من بقية الأعمال الأدبية والفكرية التي كان يمازجها مع هذا الإنتاج، حيث ترابطت لديه الكتابة بشتى أنواعها: مقالة، ودراسة، وقصة، ونقد. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي قام بطبع نتاجه القصصي والروائي والفكري في دور النشر العربية المختلفة.
ونتاجه الأدبي والفكري يتنوع على النحو التالي:
✗ القصص القصيرة:
1 – لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».
❖ «القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة – رجب وأمينة –عند التلال– الأم والموت – النفق – ميلاد».
7 – سيد الضريح : «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار – وراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».
8 – الكسيحُ ينهض: «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوس – ليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى – الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».
12 –باب البحر: «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».
✾الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع: محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021.
✾الأعمال النقدية الكاملة، المجلد السادس: ساعة ظهور الأرواح، التماثيل، ذهب مع النفط، عنترة يعودُ الى الجزيرة، عقاب قاتل، اغتصاب كوكب، رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2022.
48 – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.
53 – تطور الأنواع الأدبية العربية: دراسة تحليلية للأنواع من الشعر الجاهلي والقرآن حتى الأدب المعاصر، وهي دراسة مكثفة فكرية تكشف علاقة التداخل بين النصوص العربية والصراع الاجتماعي، 2016.
54 – الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي: وهي قراءة جديدة للماركسية، تبحثُ أسلوبَ الإنتاجِ الراهن في الشرق عبر نظرة مختلفة، الكتاب الثاني:لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته، 2016.
كيف لمناضلين عاشوا فترات شبابهم الأولى مضحين يبذلون سنوات من عمرهم وربما شيئاً يسيراً من مالهم ثم ينقلبون في أواخر أعمارهم وهم على حواف القبور يبخلون بدينار واحد، بخلاف الفنان العالمي فان جوخ الذي يقطعُ أّذنه من أجل حب وأعجاب؟!
في سنوات التتويج الأخيرة للأعمار الفذة ينتظر المؤرخ والباحث من هؤلاء قمة العطاء، وضخامة الانجازات فكيف يلقون بالرماد على زهرات حيواتهم ويطفئون الجمر المتوهج الذي أضاء للناس؟
هي الرومانتيكية الشبابية التي صورت لهم وتغلغلت في أعطافهم بأنهم صاعدون إلى ذرا المجد، وأن الآلام والعقبات هي مجرد لحظات سريعة تمضي ثم يجدون أنفسَهم وقد صاروا عظماء وملوكاً متوجين!
تضعُ الرومانتيكية زجاجَها الملون الأخّاذ على الواقع المعقد المضطرب، وتحيلهُ إلى حقول من الورود، فتبدو السجونَ حدائق ومستنقعات ضوء، ومصائب العيش والأسرة والأصدقاء لحظات من التضحية اليسيرة في سبيل العظمة الإنسانية، ولكن ما تلبث تلك العقبات اليسيرة أن تطول، والمشكلات أن تتفاقم، والضرائب المطلوبة من المال والعمر تزدادُ فداحةً، فيتكشف العظمُ عن ضعف، والروح عن جزع، والنفس عن اضطراب، وتصير كتابة الأوراق تضحيةً كبيرة من الصحة والمال، وفي سبيل من؟ في سبيل، كما ستصرخ الروحُ الرومانتيكية بعد ذلك، في سبيل أناس لا تقرأ وشعوب جاهلة! ويصير ترك الميراث ومال الأسرة وتراكم العمر جريمة كبرى!
كانت الذاتُ غيرُ الشعبية غير الكادحة جاءت بالنضال في نشوة الشباب، ومن رفاهية لم تتصلب في معمعان الحياة، ورأته كقفزة يسيرة فإذا به قارة مروعة من المشكلات!
النظرة الرومانتيكية المُسقطة ترى الواقعَ مبسطاً، فما يلبث الأشرار في فيلم الحياة أن يُهزموا وقوى الاستغلال الوضيعة أن تتساقط تحت أقدام البطل والحرامية أن يستسلموا لقائد الشرطة الفذ!
فان جوخ الفنان كوّن نظرةً خلابة للطبيعة أسقط عليها مشاعره الحزينة، فحقولُ الورود المضيئة الخلابة الممتدة عبر الآفاق تصيرُ قبراً، والطيور والكائنات والسماوات تتحول إلى خريف مروع.
ولهذا يغدو جسده هبة للآخرين وعمره ضربات لونية من أجل العالم.
كل عمره القصير مجرد تضحية، هبةٌ دينية مسيحية، فداءً للعالم البائس الخريفي الميت!
مشاعرهُ الحادة قطعتْ علاقاته بالوجود المتنوع وألغت موضوعيةَ الواقع وتعدده، فصار العالم إما قبراً وإما بعثاً، إما موتاً وإما بقاءً بلا مرض ولا عذاب!
وهو ما حدث للمناضلين والشعراء والقصاصين الطموحين للمجد في شبابهم السياسي والإبداعي لم يروا تلون الواقع وصعوباته الجمة، فتخيلوه طريقاً صاعداً سهلاً.
كان يمكن لسنوات التضحية أن تدوم، وأن تتراكم المنجزات الفكرية والاقتصادية معاً، وأن تتحول المطبوعات الوامضة إلى دور نشر غنية وطنية كبرى، وأن تغدو الإبداعات المبكرة الوامضة إلى أهرامات، وتصير الشللُ جماعات من المناضلين والرفاق والأصدقاء تغير الحياة المنحدرة نحو الظلامية والمشكلات العصية.
لكن الأبطال أسرعوا في الخروج من الحلبات وتوجه كلٌ منهم إلى مساره الفردي الخاص بلا تضحيات وبلا دوخة رأس ولتبقى الآذان في مكانها والنقود هادئة في خزائنها!
تداخلتْ التياراتُ السياسيةُ والاجتماعية لدرجةٍ شديدة في إيران، وقد رفعتْ تسمياتٍ ومصطلحات إيديولوجية لا تعكس حقيقتها الطبقية، وأدى ذلك إلى صعوباتٍ في فهم هذا الصراعِ الاجتماعي السياسي المركب ك: المتشددون والإصلاحيون، المحافظون والثوريون، وخط الإمام، وغير هذا من مصطلحات للطبقة المسيطرة في إيران المتصارعة.
إن إيران وهي تمرُ ككلِ دولِ الشرق في التحولِ والتنمية والاستقلال مضتْ تسيرُ بصعوبةٍ من الإقطاع للرأسمالية، ولعبَ جهازُ الدولةِ دورَ القيادة، وتجسدَ ذلك عبر توسعِ الملكيةِ العامة، التي تظلُّ خاصةً للطبقةِ المسيطرة، فهي أسمياً تعودُ للشعب، ثم قامَ المذهبُ الديني بتجاوزِ الدولةِ ولعبَ دورها، فوقعَ الكائنان المادي السياسي والإيديولوجي في صراعٍٍ حادٍ متشابك، وهو ما كان يتجنبُ الوقوعَ فيه الآياتُ العظمى.
المذهب لدى آيات الله العظمى يغدو محافظاً معبراً عن هيمنةِ الإقطاعِ بشكلٍ واسعٍ، لكن تجري فيه عمليات تغيير موائمة مع العصر ببطءٍ شديد، ويغدو كما قلنا أقرب للواقعية السياسية وللعلمانية، لكن الثورة أبعدتْ الآيات العظمى، ونزلتْ البرجوازيةُ الصغيرةُ تقودُ الحياةَ الإيرانيةَ بشكلٍ عاصف.
إن دخولَ هذه الطبقة للصراعِ الاجتماعي لا يعني القطع المطلق مع وعي الآياتِ العظمى، خاصةً في مجالاتِ الرؤيةِ الاجتماعية لأحوالِ الأسرةِ وقيمِ وتاريخِ المذهب وللمبنى الفكري عامة، لكنها تقتحمُ الميدانَ السياسي وتطرحُ مقولاتٍ إيديولوجيةً جديدة، بعضُها ينبعُ من المذهب وبعضُها لا ينبع.
ومع سيطرة هذه الطبقة على جهاز الدولة، تكون قد جمعتْ بُنيتي الإقطاعِ والرأسماليةِ معاً، لكنها ليستْ رأسماليةً على الطراز الحر الغربي، بل على الطرازِ الشرقي الحكومي الاستبدادي، فهي تقومُ بالسيطرةِ على حراكِ الناس الاجتماعي وأحوالهم الشخصية والعقلية، فتغدو إستبداداً إقطاعياً، وهي في ذات الوقت تبني إقتصاداً رأسمالياً حكومياً وهذا يخلقُ ليبرالية بحدودِها الدنيا؛ شركات عامة وخاصة وعلاقات بضائعية ورأسمالية تتغلغلُ في الحياة المُهيَّمن عليها من قبل الدينِ المحافظ المؤدلجِ لخدمةِ الطبقةِ المسيطرة، فهذا الحراكُ المزودجُ المتناقضُ بين الإقطاع والرأسمالية، يخلقُ مجموعةً كبيرةً من الصراعات داخل الطبقة الحاكمة وداخل النظام.
هنا يحدث صراعٌ كبيرٌ على الفائض الاقتصادي بدرجةٍ أساسية، فنرى موجةَ رفسنجاني بفترتي رئاستهِ تنتجُ الفئات الأولى الكبيرة المستفيدة، وتنحي الفئات البرجوازية الصغيرة التي شاركتْ في إنتاجِ فكرِ الثورة وعملها على الأرض وقدمتْ التضحيات وتصعدُ القوى الأكثر غنى والأشد قوة.
و(خطُ الإمامِ) يعني خط هذه البرجوازية الصغيرة المتذبذبةِ بين الإقطاعِ والرأسمالية، بين القراءةِ الدينية المحافظة وبين الحداثةِ، بين الاستبداد والحرية، بين هيمنةِ القطاع العام الكلي وبين حرية القطاع الخاص، بين القومية المتعصبة وبين الأممية الإسلامية والإنسانية، بين قمع الشعب وإطلاق سراحه، بين النصوصية والعقلانية بين اليمين واليسار، بين هيمنة العسكر وإنتصار الديمقراطية.
إن الصراعَ على الفائضِ الاقتصادي يتجسدُ في الأولوياتِ المحددةِ للقطاع العام. ففي فترةٍ تكونُ الأولويةُ لتنميةِ القطاعِ العام الاقتصادي الكبير والقطاع العسكري، وهي الفترةُ التي صعدَ فيها ما يُسمى بـــ(اليسار)، لكنها الفترة التي صعدت فيها الفئاتُ البرجوازيةُ الكبيرة داخل النظام ويمثلها رفسنجاني، وجاءتْ فترةٌ أخرى يمثلها خاتمي، وهي عودةِ لتيارِ البرجوازية الصغيرة المتشكل من اليساريين والليبراليين الدينيين وهي الجماعات التي نُحيت في فترة رفسنجاني والتي دخلت السنوات الأولى للثورة بشكلٍ حماسي حادٍ وشاركتْ في دعائمِ النظام من شرطةٍ سرية وبناء دعائي ديني مطلق ثم أكتوتْ بما أسستهُ حين تطور وعيها نحو الليبرالية.
هناك تداخلٌ بين هذه الفئاتِ الوسطى والصغيرة من الطبقةِ الحاكمة، فموجةُ النمو الاقتصادي الرأسمالي الحكومي وسعَّت العلاقات التجاريةَ والثقافية بالغرب، وحصل تطورٌ كبيرٌ للعلاقاتِ البضاعية والمالية الرأسمالية، مما يعبرُ عن توجيهِ جزءٍ مهمٍ من الفوائض الاقتصادية نحو البناء السلمي.
وهذا التصاعدُ للعلاقاتِ الرأسماليةِ من جهةٍ أخرى يولدُ مشكلاتٍ كبيرةً للجماهير الشعبية عبر تصاعدِ نفوذ الأغنياء والمؤسسات الاستغلالية المختلفة، مما يجعل هذه الجماهير تبحث عن (الإشتراكيين) واليسار الديني وهذا مايستغلهُ اليمينُ المتطرف!
بين اليمينِ الكبيرِ عند رفسنجاني واليمينِ الصغير عند خاتمي نمتْ العلاقاتُ الرأسماليةُ التحديثية، وراحتْ تضربُ القيدَ الإقطاعي بدون نجاحٍ في إزالتهِ، لكونها قامتْ على أسسهِ الفكرية والسياسية.
إن العلاقات الرأسمالية مربوطةٌ ومحكومةٌ بالهيمنةِ السياسية الإيديولوجية الإقطاعية، فالمضمون الاجتماعي المتصاعد يصطدمُ بالشكلِ المعرقل.
إن الشكلَ المعرقل يتجسد في الدستور، وهيمنة المرشد، وفي الإيديولوجية البرجوازية الصغيرة المتناقضة، وفي البرلمانية المنسوجة على قامةِ الطبقة الحاكمة، وفي شعارِ ولاية الفقيه، والعداء للغربِ الديمقراطي والاشتراكية.
وفي الجوهر يعبرُ ذلك عن سيطرةِ رجالِ دينٍ محافظين خائفين من الحداثةِ يتمسكون بالماضي الإقطاعي حيث الذوبان الكلي للجمهور في هيمنة السلطة، ولكن الحداثةَ تفككُ هذه الهيمنةَ وتحررُ العمالَ والنساءَ والعقولَ من النصوصية الحرفية، دون أن تخرج عن الحضور التاريخي للمذهب بطبيعة الحال لكن قصر النظر الإيديولوجي يتوهم ذلك، فلا يستطيع رجلُ الدين التقليدي أن يتطور فكرياً وفقهياً، بدون أن يتركَ السلطة السياسية فخروجهُ منها يمثل تطوره لكنه لا يعي ذلك ويقاومهُ لأن القضيةَ غدت قضية طبقة لا قضية شرائح إجتماعية، ومن هنا يصارع الليبراليين الذين هم معه في السلطة لأنهم يزحزحونه منها فيطردهم ثم يقمعهم.
لا بد من تحديد الوجوه والدلالات الحقيقية للإصلاحيين ومنافسيهم المحافظين في إيران، من أجل وضوح الرؤية وتجاوز هذا الصراع بين الليبرالية والإقطاع، وهو صراعٌ يعيشه كلُ المسلمين، حسب درجاتِ تطورِ بلدانهم، وتقومُ الرأسمالية الحكومية بتصعيدهِ إلى مستوياتٍ جديدة حسب القوى المتنفذة على أجهزة السلطة.
لقد رأينا موجتي الليبرالية الحاكمة في إيران عبر هاشمي رفسنجاني وخاتمي، والفروق بينهما وهي فروقُ سنواتٍ مهمةٍ في عمرِ الثورة المتصارعة في تركيبها المعقد المتناقض، لقد تم في السنوات الأولى إبعاد قوى الليبرالية الدينية غير الواعية والمتحمسة للدكتاتورية الدينية في البداية، ثم راحتْ تبحثُ وتستقلُ برؤيتِها وتصارع القوى المحافظة في نقاطٍ معينة مهمة، ثم دخلت السلطة ثانية وحاولتْ تجريبَ مصطلحاتِها الحداثيةِ الدينية المأزومة.
ونتعرفُ هنا أولاً على آراء السيد بهزاد نبوي، وهو شخصيةٌ مهمةٌ من شخصياتِ الليبراليين الدينيين، شَغلَ مناصبَ حكوميةً مهمةً وصار رئيسُ البرلمان في فترةٍ سابقة، ونائبُ رئيسِ الحكومة في الثمانينيات والتسعينيات، وكان من نفسِ موجةِ الحدة العاطفية في بداية الثورة وفي موجةِ إعتقال الرهائن الأمريكيين في السفارة ولعبَ دوراً في المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن ثم صارَ خصماً للمحافظين وأُودعَ السجنُ أخيراً في أحداثِ الثورة الخضراء.
اعتمدت آراؤه على الثنائية المتصارعة، أي الثنائية الدينية الليبرالية، غير المكتملتين المتضادتين، يقول:
(والشعار الثاني الذي تبنتهُ الثورةُ هو شعار «الحرية» ويعني، الحرية السياسية والاجتماعية وحرية التعبير والصحافة في إطار الدستور. إننا نؤمنُ بالدستور ونحترم أصوله. فلهذا نعارضُ ولا نقبلُ بوجهة نظر أولئك الذين يضعون الحرية والهرج والمرج في خانة واحدة. إن الحرية التي يطالب خاتمي والاصلاحيون بها هي الحريات المصرح بها في الدستور.)، من مقابلة فكرية لجريدة الشرق الأوسط،(9 يناير 2004).
تعتمدُ نضاليةُ الإصلاحيين داخلَ مؤسساتِ الدولةِ والمجتمع على الوثائق التي سنتها الطبقةُ الحاكمةُ، وهي التي تجعلُ الحريةَ للجماعاتِ الدينيةِ المحافظة عموماً، وتمنعُ بقيةَ القوى السياسية والاجتماعية من الترشح والفوز خاصة في المؤسسة البرلمانية.
وبهذا فإن بهزاد نبوي يعملُ في هذه الدائرة، وبهذا تغدو الحرية طبقيةً ضيقة ومصطلحاتها من مصطلحات الطبقة المسيطرة. يعتمد وعي السيد بهزاد على التعميماتِ الفكرية الغائمة مثل الثورة، والدستور، والثورة الإسلامية، والشعب.
فأي ثورةٍ يتحدثُ عنها؟ أهي ثورةُ الشعب العادية التي سيطرت عليها الطبقةُ الدينيةُ وكرستها لمصالحِها؟ وأي إسلام يتم الحديث عنه؟ أهو إسلامُ الأغلبية الشعبية أم إسلامُ النخبِ الحاكمة الإستغلالية؟ يقول:
(وخلال سنوات الحرب وبسببِ الظروفِ الخاصة التي عاشتها بلادنا، ومعارضة بعض ممن كانوا يعارضون، منذ بداية الثورة تطبيقَ بعضِ الشعاراتِ لم نتمكن من تطبيق شعارات الثورة الاصلية بل حصلت انحرافات هنا وهناك. والحركة الاصلاحية لا تطالب الا بتطبيق شعارات الثورة وعدم خرق الدستور من قبل أصحاب السلطة).
لم يقم الإصلاحيون بتحديد هذه (الثورة). فماذا تريد هذه الثورة وأية قوى تريد إبعادها وأية قوى تريد تكريسها؟ إن لغة التعميميات لا توضح هذا. لقد رأينا هذه (الثورةَ) وهي تبعدُ ممثلي الأغلبية الشعبيةِ العاملةِ وتكرسُ النخبَ الدينية المعبرة عن الإقطاع الريفي بدرجةٍ أساسية، فحتى ممثلي الفئات الوسطى المدنية تم إبعادهم، والإصلاحيون يشعرون إنهم من هذه القوى الوسطى، لكنهم يتحايلون على قوى الإقطاع الممسكة بقوةٍ بمؤسسات النظام السياسية والعسكرية ويريدون تضييعَ الحدود بين الطبقات وتمييع المصطلحات؟!
لقد تعاون الليبراليون الدينيون مع المحافظين الدينيين على تشكيلِ دكتاتوريةٍ عامةٍ أقصتْ أغلبيةَ الشعبِ الثائرِ الذي رفعهم لسدةِ الحكم جاهلاً بطبيعتِهم الطبقية، ثم توهمَّ الليبراليون الدينيون إن السلطةَ غائمةٌ سائحةٌ يمكنهم من الإستيلاءِ عليها بمثلِ هذه اللغةِ المائعةِ إيديويولجياً وسياسياً.
وقد حدد الدستورُ طبيعةَ هذه السلطة الإقطاعية المذهبية القومية وهيمنتها الكلية على المجتمع. فتقومُ مفرداتُ الليبراليين الدينيين تلك بتمويهِ طبيعةِ الدولةِ العضوضة التي هي إستمرار للدول الإسلامية الإقطاعية الطائفية القديمة والحالية مع تطوراتٍ عصريةٍ في الصناعة والأكسسورات الحديثة المختلفة.
ويواصلُ السيد نبوي عرضَ أفكاره:
(إن اهتمام الثورة لم يكن مركزاً على إلتزام أو عدم التزام هذه المواطنة أو تلك بالحجاب الكامل، بل أن هناك اهتمامات أكثر أهميةً مثل صيانة حقوق الشعب وضمان إحترام السلطة للحريات القانونية للشعب.).
يريد السيد نبوي هنا أن يجزىءَ سلطة الدكتاتورية السياسية، فهل تنفصلُ السيطرةُ على النساءِ عن السيطرةِ على بقية الشعب؟ ألا يتخذ الإقطاعيون مسائلَ مثل الحجاب للهيمنةِ الكليةِ السياسية على النساء؟ وكيف يمكن تنفيذ حقوق الشعب بدون تعدديةٍ سياسيةٍ وحريات وفصل للسلطات ويتم التدخل حتى في حرية الإنسان لإختيار ثيابه؟
إن السلطةَ الشموليةَ المحافظةَ هي سلطةٌ كلية، تتجسدُ في هيمنةٍ ذكورية مطلقة، وتحدد حركية النساء وحقوقهن ولباسهن من خلال قراراتها، وهي سلطةٌ شموليةُ تمنعُ الفلاحين من إستعادةِ أراضيهم أو المشاركة بها، وهي سلطةٌ تقررُ توجيه ممتلكات الدولة حسب مشروعات الطبقة الحاكمة في كلِ حقبة سياسية.
وفي الظرفِ الذي يتكلمُ به السيدُ نبوي ويقومُ فيه بانتقاداتٍ خفيفة، ويحاولُ التعبير عن تعدديةٍ موهومة، غير موجودة، ثمة رياحٌ ليبرالية في مؤسساتِ الحكم حيث هيمن خاتمي ولغتهُ في توسيع الحريات الليبرالية المحاصرة داخل النظام، لكن ذلك لم ينجحْ وجاءت عاصفةٌ محافظة.
لهذا إذن إن الحديثَ عن العمومياتِ خاصةً في عمومية الإسلام يرتكبُ خطيئةً أصلية، حيث لا بد من القول إن الإسلام المُجَّسد عبر هذه الممارسة هو إسلامُ المسيطرين على المالِ العام وعلى رؤوسِ النساءِ وعلى أكلِ الفلاح وعلى فمِ العامل المغلق.
يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ إيديولوجية وسياسية حولها.
نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئولَ السياسي الكبيرَ السابق والذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:
(أود أن أقول أولاً بأنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولايةِ الفقيهِ وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرتهُ حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري)، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع والذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم إلتحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الدينيَّ الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبَّرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم إتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر إعتمادِها على نقلِ الموديلات النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان إعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.
ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الإعتراف بها عملياً، أي هي شكلُ الدكتاتورية الإيديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لا بدَ أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من رجال الدين الشيعة نظراً لجرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبتَّ التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.
ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها لمقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ لهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الأكبر عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكلَّ الدولَ العضوضة على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الإنفكاكِ من «سيطرةِ» الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة بأسم الإسلام.
يقول السيد نبوي:
(وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي أن لا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية. إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق.
إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضادٍ مع الدستور بل هو رتبَ موادَهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الوليَّ الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
بدأ خطُ الاعتدالِ الإصلاحي يتكسر بدءً من إبعاد آية الله حسين منتظري، لقد عبر ذلك عن تصاعدِ القوى الحكومية المتنفذة، أي جماعات البيروقراطية الاقتصادية العسكرية التي صارتْ هي المهيمنة على جهاز الدولة والمجتمع.
وفي هذا الإبعاد غدتْ المرجعيةُ السياسيةُ مرة أخرى أقوى من المرجعية الكبرى الفقهية المتخصصة، ووجهتْ الحياةَ العامةَ نحو مغامراتٍ جديدة.
لنقلْ بأن آيات الله العظمى كانت هي الحافظةُ للتطورِ التدريجي للشعبِ الفارسي المنتمي للشيعةِ ولإيران عامةً، إنها تتداخلُ مع الأنظمةِ المحافظة ولا شك، لكن مجالَ المذهب يبقى له إستقلاليته الخاصة المُصّانة والقابلة للتجديد والبحث والاجتهاد.
هي موسوعةُ المذهبِ الحافرةِ عبرَ عقودِ السنين، وتراكم الاحكام والاجتهاد والمعبرة عن شعيراتِ تطورِ الشعبِ بتراثهِ وبتناقضاتهِ ومشكلاتهِ وتخلفهِ وبحثه عن التطور والعدالة.
ولكن الجماعات السياسية المذهبية تمثلُ قفزات وشطحات وإجتهادات، تصيبُ وتخيب، وفي صوابِها مكسبٌ وفي أخطائها مشكلات كبيرة. لكونها لم تغصْ في تراث الشعب الديني مثل المرجعيات ويحركها الصراعُ السياسي اليومي، وتكتيكاتهُ المحدودةُ الرؤيةِ غالباً والخطرة، وإذا كان الفقيهُ يحتاجُ زمناً طويلاً ليُرجحَ حكماً في مسألةٍ بسيطة، فإن السياسيَّ مطالبٌ بالحكم الفوري والخطير المتقلب في قضايا مصيرية، وإذا كان ذلك متصلاً بالدين فهو يغدو مشكلةً محفوفة بالمخاطر. وهذا يعبرُ عن التضاد الكبير بين الفقه والسياسة. ولهذا كان الإمامُ الخميني رافضاً لتكوين الأحزاب السياسية الدينية لفترةٍ طويلة كما يروي الشيخُ رفسنجاني في كتابه (حياتي).
ومن هنا توجهتْ المرجعياتُ الكبرى للاحجامِ عن التدخل بالسياسةِ المباشرة، تاركةً للسياسيين الخوضَ في غمارِها اليومي المتقلب، وهي تتأنى وتدقق وتدرس، ويرتبطُ الحكمُ هنا بمصير الملايين حياةً أو موتاً!
ويرينا المرجعيةُ الكبرى السيدُ السيستاني نموذجاً في ذلك، وهو الذي يستطيع أن يزلزلَ الأرضَ بتوجيهاتٍ سياسية مباشرة.
وبطبيعة الحال فإن أغلبيةَ المرجعيات محافظة، ولكن يتشكلُ فيها بصورةٍ نادرةٍ المجددون كذلك، وعلى مدى التطورات الحاصلة في الحياةِ وفي وعي الناس، تتحددُ تلك الإنجازات الجديدة ومدى نموها داخل بُنى المذهب.
وفي الشأن الإيراني فإن المرجعيات الكبرى لم تَغبْ عن الصراع الخطير، لكنها مستمرة في العمل الذي عكفتْ عليه خلالَ عقود، وهي تمسكُ الجذورَ التحتيةَ العميقةَ للشعب، وما المؤسساتُ السياسيةُ إلا أشكالٌ مؤقتةٌ تعكس صراعات الكتل السياسية والاجتماعية المختلفة العابرة.
إن التطورات الاجتماعيةَ الفوقيةَ لم تغيرْ طابع الحياة المحافظ، لكن نظرية ولاية الفقيه أقحمتْ الدينَ في النظام الحاكم، والسياسة لا تعرفُ سوى هيمنةٍ واحدية، وهذا ورطَّ المذهبَ الرسمي الحاكم كذلك على مستوى الأحكام الاجتماعية وليس السياسية فقط، مما جعلَ قسماً من الجمهور يضجُ بالشكوى، وقد وصلت هجرة المثقفين إلى مليوني ونصف شخص من إيران إلى الغرب.
لقد برزتْ معارضةُ المرجعيات الكبرى في تصاعدِ أحكامِها الفكرية العامة. لقد قالَ بعضُ المحافظين الدينيين؛ (أن لا ولايةَ مطلقةً في غيبةِ الإمام المهدي، وأن شرعيةَ النظام الإسلامي لا تقومُ إلا بظهوره، وأن التسليمَ لنظام الجمهورية الإسلامية بالشرعية الإسلامية انتقاصٌ من الشرع نفسه).
إن النظامَ السياسيَّ عبر هذا الرأي الديني من بعض المرجعيات الكبرى، يتحولُ إلى مجردِ إجتهادٍ غيرِ مقدس، وبالتالي فإن معارضته شرعية وتغييره مفتوح، وقد إستخدمتْ هذه المرحعياتُ مفردات المذهب بدون أن تدخلَ في السياسةِ المباشرة!
هذه الأحكامُ تدخلنُا في التعدديةِ الدينية ، وهي بابٌ للديمقراطية، فلا يجوز أن يفرضَ توجهٌ ما رأيه الديني الكلي، إن الآيات العظام للمذهب تعودُ تدريجياً لمكانتِها الكبرى في الحياة الاجتماعية الشيعية، وفكرة ولاية الفقيه تتآكلُ تدريجياً في الداخل.
ومن هنا فإن الإصلاحيين الإيرانيين الذين سايروا الفكرة وروجوا لها يشعرون بالإحراج الفكري، لكن هذا ليس خاتمة المطاف، فهم لم يفهموا الفكرة كشموليةٍ سياسية، وأرادوا أن يزيلوها عملياً وينقضوها في الممارسة السياسية وهم الذين أيدوها!
يقول السيد بهزاد نبوي في الحوار السابق ذكره:
(ولايةُ الفقيهِ كما جاءتْ في الدستور لا تتعارضُ مع الديمقراطية، وكون الولي الفقيه شخصية غير حزبية لا تنتمي إلى خطٍ سياسي معين، يجعلهُ رمزاً للوحدةِ الوطنية وسيادة الشعب. وكما أن رئيسَ الجمهورية مسؤولٌ أمام الشعب، فإن الولي الفقيه مسؤولٌ أيضاً، إن قراءتنا مختلفةٌ عن قراءةِ أولئكَ الذين يعتبرون الولي الفقيه سلطاناً مستبداً يفعلُ بما يشاء ومن غير الممكن مساءلته).
يتجاهل السيد بهزاد هنا المعاني الحقيقيةَ للدستور الإيراني، الذي يجعل من الولي الفقيه الحاكم الأساسي الذي يشكلُ الطبقةَ الحاكمة بتكويناتِها المختلفةِ المتغيرةِ عبر تنامي الصراع الاجتماعي، فهو الرئيسُ أو الحاكم المطلق كما يجري في العالم الثالث، والذين يختارونه يتم تعيينهم من قبله في الدورة الثانية كما هو الفقيه الولي الراهن، ولنقلْ بأن الشمولية في الطبقة تصاعدت عن السنوات الأولى، مع تنامي غنى وعسكرة الطبقة الحاكمة، حتى لم تقبل بمرجعيات أكثر علماً بل بالمرجعية الأكثر تعبيراً عن أقسام الطبقة الحاكمة المركزية. ومن الممكن أن يتحولَ منصبُ الولي إلى منصبٍ متوارث، لأن الجمهوريات تتحولُ إلى مَلكيات في العالم الإسلامي.
سنرى إن الاستبداد الذي ينفيه السيد نبوي يُطبقُ عليه، هو نفسه، وإن ولايةَ الفقيه ليست فقهاً فقط بل حكومة سياسية صارمة.
ما هي أسباب إنهيار التحالف بين الدينيين الشموليين والليبراليين الدينيين الإيرانيين في إيران؟
لماذا لم تستطع شعارات الليبراليين هؤلاء باعتماد العقلانية وتطوير الحريات أن تتوسع ثم أن تنتصر؟
كان التحالف لا يستند على أسس موضوعية، أولاً من حيث الوعي بالإسلام الذي تشكل لدى الحركة الليبرالية الوطنية في إيران خلال العقود السابقة.
فهم كانوا أنفسهم جزءً من البنية الاقطاعية الفكرية، فلم تستطع المذهبية الاجتماعية السياسية أن تغير ما جرى خلال الألف السنة السابقة من حياة المجتمعات الإسلامية، بالهيمنة المطلقة للرجال على النساء، والهيمنة المطلقة للحكام على المحكومين، وهيمنة الإقطاع الزراعي على الفلاحين، وهيمنة النصوص المحافظة الدينية على إمكانيات العقلانية.
قامت القوى المحافظة السياسية على مدى قرون بتجميدِ حالِ المسلمين، ولم تقمْ القوى الليبراليةُ الصغيرةُ الإيرانية في القرن العشرين بتشكيلِ تيارٍ هامٍ عميق بين الجمهور، من حيث الاصطفاف مع الحداثة وقسماتها الجوهرية وهي العلمانية والديمقراطية والحرية والعقلانية، وتعكزتْ على الوعي الديني المحافظ، وذلك بطبيعةِ الإنتاجِ المادي الإيراني وبسببِ ضعف المُلكيات الخاصة الصناعية، وكانت قسماتُ الفئاتِ الوسطى تجاريةً كاسحة، وكان صوتُ (البازار) هو الداعم لرجالِ الدين المحافظين.
وحين إنتصرت الثورةُ الشعبية تم توسيع المُلكية الحكومية المتعددة الوجوه وهيمنتْ على الاقتصاد الوطني، وعمقتْ في جزءٍ كبير منها الوعي الديني المحافظ في حين كان الوعي الليبرالي التنويريي لدى رفسنجاني وخاتمي مُحاصراً ولا يقوم على أسسٍ علمانية، مثل المُلكية الصناعية التي غدتْ في أيدي البيروقراطية الحكومية وجاء التخصيصُ في بعض الجوانب لصالحِ هذه البيروقراطية وإستيلائها على الثروة العامة.
هكذا لم توجدْ برجوازيةٌ صناعيةٌ حرة، وتم الهيمنة على العمالِ من قبلِ نفس المُلكية العامة والشرطة، ولهذا وجدَ الليبراليون أنفسَهم بلا قواعد ماديةٍ وإجتماعية تستطيع أن تطورَ مفردات الحداثةِ والحرية والعلمانية داخل السلطة الدينية. وبدا عجزُهم الاقتصادي متجسداً في ضعفِ مصطلحاتِهم السياسيةِ المتذبذبة، ومع تضخمِ الطبقةِ المسيطرة وأجنحتِها العسكرية خاصة، حدث هجومٌ معاكسٌ على بذورِ الليبرالية، فنمو الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية يعني إنهيار سلطتها.
ومثَّلتْ معركةُ الانتخاباتِ الرئاسية ذروةً للصراعِ بين الجناحين، والتي تمتْ في ساحةِ ذاتِ الطبقةِ وبمصطلحاتِها وبأدواتِ سلطتِها وتشريعها، وبالتالي فإن الجناحَ الليبراليَّ الديني لا يَقدرُ أصلاً على نقضِ النظام المحافظ الإقطاعي ورأسماليته الحكومية العسكرية الخطرة، فهو مشاركٌ في غنائمِ هذه السلطة، وهو واقعٌ في ثقافتِها، التي لا يمكن أن تتشكلَ بدون نضالٍ صناعي مستقلٍ حر وبنشؤِ طبقةٍ صناعيةٍ حرة وبقطاعٍ عام سلمي مُسيطر عليه من قبل الشعب وبوجودِ عمالٍ أحرار.
وبالتالي فإنه ليس أن مفرداتِ هذه الليبرالية الدينية متناقضةٌ وفاشلةٌ وعاجزةٌ عن تنامي تجذرِها في الواقعِ وإستقلالِها عن ثقافةِ الإقطاع والتعبيرِ عن برجوازيةٍ حرة، وعن شعبٍ حر، بل أن أجسادَ هؤلاء الليبراليين الدينيين ذاتها معرضةٌ للقتل والسجن ومختلف أنواع التصفيات.
فالعديدُ من الليبراليين الدينيين بدأت قوى القمع تستأصلهم، فسيد مصطفى تاج زاده تم تلفيق تهم له كي لا يترشح للانتخابات وهاشم آقاجري أُعتقل على أساسِ الإساءة للدين. ونستطيعُ أن نأخذَ المثقفَ الليبرالي الديني البارز سعيد حجاريان الذي كان من مؤسسي جهاز المخابرات بعد الثورة! وأشتغلَ بنشاطٍ كبير في فاعلياتِها، ثم غيّرَ تفكيرَهُ وأدانَ التجاوزات وعمليات التعذيب وقمع المناضلين التي يقوم بها زملاؤه، فُسددتْ رصاصةٌ إلى رأسه!
وهناك المئاتُ من هؤلاء الدينيين الليبراليين الذين أنهالتْ على رؤوسِهم العصي، وأُجبروا على إعترافاتٍ خسيسة تعودُ بنا لزمن محاكم التفتيش، فأكتشفوا ثقافةَ التلفيق التي وقعوا فيها خلال عقود، وكيف جروا الشعب لطريقٍ مسدود ووضعوا المنطقةَ على حافةِ بركانٍ هتلري.
إن كبارَ ناشطي إيديولوجية الليبرالية الدينية، وأحياناً تُطرح بأسم(اليسار الإسلامي)، كموسوي هم أكثر الناس الذين تعرضوا لفشلِ مشروعِهم السياسي رغم إنهم على رأسِ السلطة وأيدتهم جماهيرٌ غفيرة، بسببِِ أن ليس لديهم مشروع ديمقراطي حقيقي، ولا يزالون يناورون ويتذبذبون بين الإقطاع والليبرالية، بين فهمِ الإسلام بشكلٍ دكتاتوري، وفهم الإسلام بشكلٍ ديمقراطي علماني، بين تبعيتهم للقطاعِ العام الشمولي وبين تقزيمِهم للقطاعِ الخاص المُحَّاصر، بين تأييدِهم تأييدهم لنظامٍ سياسي ديني محافظ شمولي وتلعثمِهم بنظامٍ ديمقراطي علماني حر.
أما القيادي البارز والمثقف الذي تتبعنا كلماته المبهمة وشعاراته المتذبذبة (بهزاد نبوي)، فقد عُذب وحُكم عليه بالسجن لمدةِ خمس سنوات.
وهذا كله بسببِ أن هؤلاء المثقفين دخلوا في جوفِ السلطةِ الدينية الشمولية وأرادوا تغييرَها بذلك الشكل المتذبذب، وخلقوا ثغرةً في صفوفِها، وحاولوا توسيعَ الثغرةِ فحدثَ الهجومُ المعاكسُ ضدهم حين اقتربوا من مفاتيح السلطة الحقيقية!
تخلخلُ الطبقاتِ العاملة في المنطقة واكبهُ نمو الثروة النفطيةِ بتغيير أسعارها ولعبَ ذلك دوراً رئيسياً في التحولات سواءَ كان نمواً إصلاحياً أو اضطرابات سياسية.
لقد قادت منطقةُ الشام ومصر الدولَ العربيةَ في عمليةِ النهضة الليبرالية القومية التي توقفتْ بسبب سيطرة الموديلات العسكرية الشمولية.
وبهذا فقد بدأت منطقةُ العراق والخليج وإيران بقيادةِ المشرق، والتي كانت أقلَ تطوراً اجتماعياً وسياسياً، وذاتَ جذورٍ مذهبية سياسية لم يتم تجاوزها، ومن خلال مستوياتٍ مختلفة فيها.
هذه المنطقةُ لم تستطع عبر تاريخِها السابق أن تصعدَ الوعي القومي – الوطني لكي يكون بديلاً عن الوعي الطائفي السياسي، فظهر ذلك في إيران وأجزاء من العراق بشكلِ المذهبية الشيعية، وفي العراق والجزيرة العربية بشكلِ المذهبية السنية.
ونظراً للضعف الديمقراطي الاجتماعي السياسي الطويل في هذه المنطقة فقد قامت الدكتاتورياتُ بحرق المراحل لقفزاتٍ فوضوية تقود إلى الوراء، وذلك عبر مغامرات البعث العراقي والحزب الجمهوري الإيراني، وقد مثلتْ هاتان التجربتان هزاتٍ عنيفةً وخلخلتْ الأنسجةَ الوطنية الخفيفة التي كانت تُغزلُ خلال عقود.
الوعي القومي الفارسي أو الوعي الوطني القومي العراقي لم يُجابْهَ واقعَهُ بموضوعية، ولعبتْ الشمولياتُ الحكومية، وخاصة المَلكيات المنتفخة بذواتها وبمحدودة الرؤية السياسية الاجتماعية لها بحيث اعتبرت نفسَها الكلَ المنقذ المهيمن وقتذاك، أدوارَها في تسلمِ فئات البرجوازية الصغيرة العسكرية والدينية المغامرة الأمورَ في دولتين هامتين في المنطقة التي صعد دورُها بفضل الثروة النفطية، فالمَلكياتُ في إيران والعراق لم توسع قواعدَها وتتحالف مع البرجوازياتِ الوطنية والقوى العمالية الديمقراطية، وتركت للقوى المغامرة التلاعبَ بمشاعر الشعوب القومية والدينية، وحين قفزتْ هذه إلى السلطات اتضحَ خواؤها الفكري السياسي وغيابُ البرنامج التحديثي الديمقراطي، مما أدى إلى توسع المغامرات الكارثية على الشعوب وإلى الصراع بينها، وإشاعة الكثير من التمزق بين المسلمين، والقضاء على بذور التحديث الوطني في الجماعات السياسية في المنطقة، بحيث كسرت الطائفيةُ صلابةَ التنظيمات القديمةِ التي حوتْ بعضَ البذور العقلانية الوطنية وصعدتْ بتوسع في التنظيمات الطائفيةِ الجديدة التي أعادتْ طريقة القوميين الفوضوية الخمسينية العتيقة من حيث التنظيم الهلامي والفكر الغائب واستخدام العنف.
التنظيماتُ الهلاميةُ التي تضم بفوضويةٍ بعضَ العامة والمهمّشين والصغار تعبيرٌ عن ضرب الوعي السياسي العقلاني واستخدام المؤامرات وتوجيه المجتمعات نحو المزالق والقفزات، ولكن جرى ذلك في بلدان تفجرت الثروة فيها، عبر استغلال المناطق الفقيرة وفقدان التربية السياسية الديمقراطية.
لم تستطع إيران والعراق فهم وإدارةِ الهدف القومي أو الوطني لهما، فالُبنى العائدةُ إلى العصور الوسطى، والمتجسدةُ في كثرةِ الجماعات القومية ذاتِ المظهر الديني، وبغياب ثقافةٍ ديمقرطية نهضوية تشكلها وتحدثها، جعلتهما يتوجهان إلى الحلولِ العسكرية لتجاوز تلك الاختلالات العميقة. ولكن هذه الحلول فجرتْ الكيانين بحراكِ هذه الجماعات الطائفية التي هي مظهرُ الوعي القومي العقلاني الغائب، وفي إيران تم لجمُ هذا الصراعَ بعنفِ الجيش وفي العراق تفجرّ هذا الصراع بغيابِ الجيش.
وقد قام المجتمعان الإيراني والعراقي خاصة مع تقاربهما بنشر الطائفية السياسية وكان لها أثرٌ كبير، وخاصة داخل المجتمعات الأقل منهما تطوراً تاريخياً، وكما تضررت الطبقاتُ العمالية، وخاصة في المجتمعين من مسار التطور نحو الفاشية، حيث فقدت أرواحَها وأعمالها وهاجرت بالملايين خارج البلدين، فقد تم استغلال السكان بظروفٍ مادية أسوأ، وبتحويل المنشآت الاقتصادية إلى معسكراتٍ حربية، وجلب عمال أجانب بأجور أدنى وبغياب مختلف الحقوق، بل تم تجنيد بعضهم في الأعمال الحربية.
كما حولت القوى المتنفذةُ الاستغلالية المذاهبَ إلى أداةِ تفكيكِ لصفوف العمال والناس، ولم تكتفِ بذلك بل واصلت مشروعاتَها العسكرية الخطيرة نحو امتلاك القنابل النووية وجلب القوى الغربية العسكرية للمنطقة.
وأثر ذلك على منطقة الخليج بتعميق الطائفية السياسية وبتر العلاقات بين الأمم الإسلامية، ولم توجد في منطقة الخليج والجزيرة العربية سياسات بعيدة النظر تستوعبُ مدى مخاطر التحولات في الدولتين المجنونتين في مساريهما السياسيين، لتغييرِ أحوال الطبقات العاملة وخلق سياسات اقتصادية عقلانية بعيدة النظر تصعدُ الانتاج الوطني عبر المؤسسات الوطنية والعمال الوطنيين والعرب.
لهذا فإن الجنون الطائفي السياسي تسربَ من هذه الاختلالات فتوجهت الموارد إلى الاستهلاك الواسع الحكومي والبذخي وتناقصت الأجور الفعلية مع التصاعد الجنوني في الأسعار والإيجارات، والتوسع الهائل في المؤسسات الاقتصادية المختلفة غير الانتاجية والمعبرة عن فئاتٍ صغيرة في أغلبها، والتي جلبت عمالاً أجانب بأجور متدنية طردت العمالَ الوطنيين وإمكانيات زيادتهم.
نشأت مؤسسةُ المصنع في العالم العربي الإسلامي بشكل غير تاريخي متدرجٍ ممتد في الشبكة الاجتماعية الثقافية، بل كطفرةٍ داخلية واستيراد، فخضعت للخيارت الذاتية للأفراد والجماعات والدول.
اعتمدت هذه المؤسسةُ على العلاقة الصراعية التعاونية بين الرأسماليين والعمال، وعبرتْ عن انتقالها من التعسف والاستغلال المطلق إلى التعاون والديمقراطية الاقتصادية والسياسية، وعبرت عن تاريخ غرب أوروبي خاص، احتاجَ لعقود طويلة ليتجذر في غرب أوروبا نفسها ثم انتشر بصعوبة في بقية الغرب.
نشأةُ المصنعِ في المشرق العربي الإسلامي نشأةٌ مختلفة، ولم تكن تحولاً استراتيجياً حتى ظهر المصنعُ بشكل مصنع تكرير النفط.
ظهورُ المصنع في المشرق بهذه الصورة كان علاقة صراعية تعاونية مع الغرب، تمثلت به ما ظهر في نشأة المصنع في الغرب والتسلسل التاريخي له من تعسفٍ واستغلال ساحق حتى وصل الى تعاون ديمقراطي.
لكن الجماعات السياسية المشرقية لم تفهم هذا الحضور الثنائي الصراعي، فقد تصورتهُ ملكية أجنبية على أرضها في البداية ثم تصورتْهُ ملكيةً وطنية خالصة لمن يسودُ الدولَ المشرقية المستقلة.
هذه الخلية الانتاجية المهمة التي اسمها مصنع التكرير واكبتها خليتان أخريتان هما الحزب الرأسمالي والحزب العمالي.
لقد أعطى مصنعُ التكرير وهمَ العلو والطيرانِ على الواقع المتخلف، فخلال ومضة من عمر الزمن كان المالكون له قادرين على امتلاك السيارة والقطار والطائرة والتحليق في الفضاء السياسي.
لقد توهموا الحداثةَ والمساواة مع مكتشف النفط ومستخرجه ومصدره ومستغله أبشع استغلال حينذاك وهو الذي يمتلكُ شبكةَ التصنيع والتحديث والمواصلات والعلوم.
إن التحولات المفاجئة التي خلقتها فوائضُ النفط أوهمت الخليةَ الرأسماليةَ المبكرة إنها قادرة على المغامرة السياسية، سواء بتأميم النفط أو بتحرر البلدان من الغرب. تجلى هذا في روسيا ولدى مصدق أو في العراق. وقد تحول الوهمُ لديها إلى كوارث وطنية.
كما تحول ذلك في الخلية العمالية إلى وهم آخر هو إمكانية التخلص من الرأسماليين، وهذا قاد الى صناعة إيديولوجيات الطيران السياسي فوق الخرائط الموضوعية.
المصنعُ الغربي الذي تجاوز الثنائيةَ الصراعية المطلقة بعد عقودٍ طويلة احتاج لشبكات اقتصادية واجتماعية وتعليمية كثيفة لم تتشكل إلا من خلال الصراعات العنيفة بين طبقتي الانتاج، لكن العلاقات التي تطورتْ ديمقراطياً أتاحت تجنب الحروب والخسائر البشرية المنتجة وتلاشي الثروة المادية.
ولكن المصنعَ المشرقي النفطي خاصة اعتمد على التحليق فوق الظروف معتمداً على الوفرة المالية التي يتيحها معملُ التكرير الذي لم يستطع أن ينتج مصانع حقيقيةً مغايرة للنفط ومشتقاته، بل واصل امتداده في مصانع خامات له، معبراً بهذا عن عدم قدرته على خلق ثورة صناعية حقيقية، وجسّدَ توسعاً استهلاكياً ورساميل عقارية ومصرفية وخدماتية متسربة للأمان المالي وتاركةً الوطن العربي في جوع تنموي.
الطبقات التي تملكتْ معامل التكرير أزاحتْ الرأسماليين والعمالَ معاً، وتوجهت الفوائضُ لجوانب تحديثية مظهرية، وراكمت الطبقاتُ الرأسمالية البيروقراطية الفوائضَ لديها ولم تعد لقوى الإنتاج أي للرأسمالية الخاصة والعمال، وأنتجت حشوداً من البرجوازيات الصغيرة التي اعتقدت قدرتها الكلية وازاحت كل القوى وبهذا تتالت المشروعاتُ السياسية القومية والشيوعية والطائفية أخيراً الكاسحة.
لم تعد الفوائضُ لهياكل الإنتاج وتضخمتْ الجوانب الاقتصادية الاجتماعية الثانوية، فثمة ملايين المتاجر للاستهلاك ولا مصنعاً واحداً لصنع سيارة أو طائرة.
بتهميش الطبقتين المنتجين الرأسمالية والعمالية تم تكرار الوعي الطائفي الذي يكرسُ البقاءَ في العصر الإقطاعي بما فيه من تفتيت البلدان والجماعات والأحزاب والطبقات.
ولهذا يشكل الوعي الطائفي السياسي الأخير الراهن محاولة أخرى لإبعاد التحديث الديمقراطي العلماني وفرض شموليات طائفية محافظة، ولهذا يلعب النفطُ أو مؤسسةُ تكريره دور تصعيد هذه الجماعات وإشاعتها ودعم فصائلها من فوائض النفط والغاز، بقصد الحفاظ على الطابع المحافظ للدول العربية الإسلامية وعدم انتقالها للحداثة الحقيقية.
إن مؤسسةَ التكرير النفطي لم تجعل المصنع رائداً واسعاً تحويلياً وبالتالي رفضت حضور الطبقتين المنتجتين وغذت وعيهما بالأوهام، والكرة التاريخية في ملعبهما وبضرورة استعادة دوريهما.
يُفترض أن تكون الطبقات العاملة هي أكثر القوى الاجتماعية ابتعادا عن مزالق التعصب القومي والشمولية الطائفية المحافظة، ولكنها انزلقت كغيرِها من القوى الاجتماعية في نفس المسار الذي عقّدَ وأسَّن وطيَّف التطورَ الوطني الديمقراطي في كل بلد عربي إسلامي.
إنها قوى تعيشُ في ظروف قاسية وفي أعمال بسيطة خاصة عمال القطاع الخاص، حيث كثرة متنوعة من المؤسسات التي تعمل في مستويات مختلفة، وبإرادات كيفية في مسائل الأجور وظروف العمل.
إن تعقد مسارات التطور السياسي الاجتماعي في بلداننا وخاصة دول الخليج والمشرق العربي الإسلامي عامة يتمثل في عدم نضج التطور التاريخي السياسي، وغياب النضج هذا هو الذي أسّس قواعدَ الرجوع المتعثر للماضي.
تكوّن الطبقتين المحوريتين في الديمقراطية الحديثة وهما البرجوازية والعمال جُوبه بعقباتٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة، فزمنُ الاستعمار شهد صعود هاتين الطبقتين بحكمِ جوانب الليبرالية التي أشاعتها الدولُ الغربيةُ للهيمنة على المواد الخام المتوجهة إليها، رغم رثاثة أوضاع الشغيلة في المؤسسات النفطية والاقتصادية الأخرى، والتي كانت تقبلُ أي أجور متدنية وهي النازحة من الأرياف الفقيرة والمهن البحرية والحِرفية المختلفة وبلا تجارب نقابية وسياسية، لكن كانت تتواجد جوانب من الحريات التي ساعدت على تطور الوعي النقابي والسياسي المحدود، فقد كانت الدول الغربية تريد من الدول العربية والإسلامية نسخَ تجربتِها لكن بدون توفير أسسها الموضوعية سوى فتاتٍ منها.
توفير الأسس التحديثية الغربية من صناعات متطورة وقوى اجتماعية منبثقة منها، وحريات مواكبة، هو هدفٌ ظلَّ مثل السراب في حين كان الواقع هو العودة للوراء، والمضي نحو المجتمعاتِ التقليدية الطائفية! والأخطر نحو المجتمعات الدينية المتقاتلة ضد بعضها بعضا كما يجري حالياً!
وهكذا قامت الانقلابات العسكرية والأيديولوجية بتزييفِ الوعي الثوري، وإحلال الماضي الطائفي بديلاً عن المعاصرةِ العلمانية الديمقراطية، فكانت الانقلابات تنحدر نحو الطوائف عبر رفض الحكومات المختلفة المنبثقة منها أو المختلفة معها، للنموذج الديمقراطي العَلماني، فالحكومات عبرت عن قوى ارستقراطية عليا في طوائف غدتْ هي روابطُها وقلاعها في ظل رفضها للنمو الديمقراطي العصري، ووجدت نفسَها بتفاقم امتيازاتها وتراكماتها المالية غير قادرة على الديمقراطية، فكان أن شجعتْ القوى الطائفية للعمل السياسي الواسع، أو أن العسكريين الكبار تحالفوا مع رجال الدين الكبار من أجل حَرف التطور السياسي نحو ضباب اجتماعي يُصعّدُ الصراعَ الحربي بين الأمم والقوميات الدينية المختلفة بدلاً من عقلانية الصراع السلمي الديمقراطي الداخلي.
كان العمال أكبر الضحايا من جملة التطورات العاصفة، فارتفاع قيم وسائل المعيشة المختلفة، ساير الازدهار الزائفَ للعولمة، حيث كل السلع الجديدة معروضة إضافة إلى ثورة وسائل الاتصال والبناء والديكور، لكن المشترين قلةٌ في ظل أن مجالاتِ العمل محدودة، وقابلة للاختراق الواسع من قبل العمال الأجانب الذين هم ضحايا عماليون على مستوى القارات، لكنهم يزاحمون رفاقهم الوطنيين، ويطردونهم خارج السوق، واتسعت الاختراقاتُ للأسواق الوطنية عبر تفجر حروب إقليمية، أو عبر صراعات طائفية حادة.
وهذه المسارات عبرت عن رفض الدول العربية والإسلامية المستقلة السير على النموذج الديمقراطي الحديث، وتوجهها للسوق المعاصرة ببُنى وهياكل إقطاعية سياسية وأيديولوجية. فحمايةُ السوق الوطنية وإنتاج رأسمالية وطنية قوية وبعمالها الوطنيين المتطورين هو صلب التطور السياسي الديمقراطي المعاصر، لأنه لا ديمقراطية وحرية وطنية مع عمال عاطلين ومتخلفين، لكن هذا معدوم عبر هيمنة الرأسماليات الحكومية واهتمامها بأرباحها، فيما القوى الرأسمالية المحلية المُحاصَرة تلجأُ للعمال الأجانب ومستويات متخلفة من القوى من أجل البقاء في الأسواق المشتعلة.
وكل هذا يؤدي لتآكل الأسواق وتوجه الفوائض من أرباح المؤسسات الحكومية والخاصة، أو من العمال الأجانب، إلى الخارج لتنمية رأسماليات أخرى وراء الحدود! فيما تزداد العروضُ في الأسواق الوطنية تأزماً ويتدهور الطلب.
هذه الارتباكات في السوق تصعد الوعي الديني المحافظ، حيث يغيب الفهم العقلاني وإدراك الأسباب ويغدو الغيب تعويذة سحرية لحل كل المشكلات العصية، فالجمهور العمالي يعود لوعيه الطائفي وهو يرى السلعَ والأجور تتبخر من بين يديه العاملتين بقوة، فيلوذ بنصوصه الدينية وعباداته، لكي تنجيه من ظروف مادية تعصره كل يوم، وهي جوانب تساير الطبقات العليا المسيطرة على الفوائض والسياسات غير الديمقراطية والإعلام والمؤسسات الدينية، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، فتتصادم مع بعضها بعضا بدلاً من تكوين منظومات اقتصادية حديثة متعاونة وتقود الصراعاتُ والحروب للمزيد من الانهيارات والطائفية واللاعقلانية السياسية.
تتكرس الوحدة الوطنية ليس في الشوارع بل في المصانع أساساً.
المصانعُ هي الخلية الرئيسية لإنتاج الوحدة الوطنية والعقلانية السياسية.
العلاقات الصراعية بين الرأسماليين والعمال تؤدي تاريخياً لتأطيرها ضمن الوحدة الصراعية، وبدونها تتعرض المجتمعات والتجارب السياسية للتمزق والفشل والعودة مجدداً إليها.
إن أرباب العمل لا تدفعهم إلى المشروع الصناعي نزعاتٌ خيرية بل البحث عن أرباح متصاعدة وسريعة لو أمكن.
إن أوضاعَ السوق والمتاح المفيد من المشروعات هي المحركات السريعة للمخاطرة برأسمالهم، وهذا الوعي المباشر النفعي هو ما يتكرس غالباً وطويلا في الفهم التجاري السائد، وكلما كانت دورةُ رأسِ المال سريعةً ومفيدة وخالية من المخاطر الاجتماعية والسياسية كان ذلك هو الأفضل.
أما تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاهتمام بطبيعة العمال الفكرية والوطنية فهي خارج الوعي النفعي المباشر، ولكن تلك الأوضاع وطبيعة العمال الوطنية هي أمور جوهرية تؤثر في مصائر المصنع والحياة الاقتصادية عامة.
ورب العمل الكائن الاقتصادي النفعي المباشر يتطور ويفهم الأوضاع التاريخية التي تؤدي لازدهارِ بنية اقتصادية معينة وانهيار بنية اقتصادية أخرى.
فالعمال ليسوا كمّاً بشرياً بل هم طبقةٌ شديدة الأهمية والضرورة للمصنع، وبدونها وبدون تطورها وإعادة إنتاجها في الأجيال القادمة، لا آفاق تاريخية له.
تفجرت الأزماتُ الوطنيةُ والتاريخية في البلدان المختلفة حين تفجرت الأزمات في المصانع بدايةً، فعملياتُ التسريحِ الواسعة، أو الاعتماد الكثيف على العمال الأجانب بدون خطط للتطور الوطني، كانت هي المصادر الأساسية للأزمات السياسية الطاحنة عبر العقود.
أرباب العمل في تسريحهم للعمال أو في تفضيلهم للعمال ذوي الأجور الشديدة الانخفاض الأجانب كانوا يلغون الوحدةَ الوطنية في المصنع.
هذه الأوضاع أدت للقلاقل الاجتماعية السياسية الطويلة وغالباً ما يرون الربيع العربي بدون هذه السببيات الجوهرية. فقد اختلت الوحداتُ الوطنية على مستويات المعامل والمناجم والممتلكات الحكومية الاقتصادية أساساً وفاضت على المجتمعات.
المنجمُ يقدم مواد ثمينة للشركة الحكومية ويقدم أجوراً شديدة الانخفاض للعمال وتقوم القوى الوسيطة: المقاولون والإدارات الحكومية والبنوك الحكومية والخاصة، بالاستفادة الكبرى من الفوائض الاقتصادية، بحيث تتحول المنطقة المنجمية أو الصناعية، إلى حزامِ فقرٍ وحين يتكاثر الأبناءُ بدون قدرة على الدخول في المناجم والمصانع والاشتغال في مهن هامشية كما حدث لبوعزيزي، فيؤدي ذلك لقيام قوى غير منتجة خاصة الأحزاب باستغلال الأزمة والصعود للسلطات، ولكن المنجم يُتركُ في فقرهِ ولعدمِ تغيير العلاقات داخله ويُطلب منه الاستمرار في الانتاج داخل نفس الخريطة الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة!
وذلك لأن عمالَ المنجم وأرباب العمل لم يتفاوضوا هم ويشكلوا وحدةً سياسية وطنية ويحددوا دور المصنع أو المنجم في الحياة الاقتصادية السياسية المشتركة وكيفية تطور الشبكة الصناعية العمالية التعليمية في النطاق الوطني بأسره بحيث لا تعتمد على الوسطاء الطفيليين وبحيث تتكاثر المصانعُ من خلال الفوائض النقدية ويتم تطويرها التقني المواكب للعصر.
الوحدة الوطنية هي من خلال هذا الصراع التوحيدي الرأسمالي العمالي فيقوم انقسام الجماعاتِ على أساس موقعها في الانتاج وليس على أساس عقيدتها الدينية، وعلى اختلاف مفاهيمها في كيفية توزيع الفوائض الاقتصادية، وكيفية تطوير القواعد الاقتصادية الوطنية، ومحاربة البطالة والفقر وضعف المدارس الصناعية وعادات البذخ والكسل والإدمان الجماهيرية، فثمة نقاط مشتركة وثمة اختلافات، وهذا يجري عن طريق تيارات سياسية تبلور هذه الاختلافات وتعمل أعمالاً مشتركة أو أعمالاً فردية في ظل الاختلاف الوطني التعاوني تحت قبة البرلمان.
الوعي النفعي المباشر للطبقات يظهر من خلال النزعات العفوية الصراعية المؤثرة على تطور المنتجين، وعبر تركِ قوى سياسية تستغللا هذه الصراعات لمصالحها الذاتية، ولهذا فإن حزبي أرباب العمل والعمال يكونان مهمين في حضورهما التاريخي القائم على إنتاج المعرفة الاقتصادية السياسية الاجتماعية لكلا الجانبين، ولوجودِ المصانع ومستقبلها الاجتماعي والتقني وعلاقاتها بالأسواق وبالمواد الخام المتجددة وعلاقاتها بالعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية وبتطور القوى المنتجة، وعبر الارتفاع عن هذا الوعي النفعي المباشر لكلا الفريقين، هذا يهتم بأرباحه لأقصى درجة وذاك يهتم بأجوره لأقصى درجة.
الطائفيةُ السياسية هي ضربةٌ عميقةٌ قوية للطبقات العاملة حيث تفكك صفوفَ الشعب والعمال وتقضي على توجهاتها الوطنية وتطور الوعي العقلاني.
حتى على مستوى المنشأة العمالية يقوم الطائفيون السياسيون بمنع الاصطفاف العمالي لتحسين الأجور ومجابهة الاستغلال الفاحش ومشكلات الفصل التعسفي وبيع القطاعات العامة وغيرها من المشكلات التي وقفت الطبقات العاملة معها غير قادرة على فعل شيء بعد أن فقدت ورقتها المحورية وهي الوحدة والوطنية، وبالتالي فإن وقوفها ضد استغلال العمال الأجانب الفاحش غير الإنساني تغدو مستحيلة.
النشأةُ الانحرافيةُ جاءتْ من تأييد استيلاء الإقطاع المذهبي المتنوع على دول مهمة في المنطقة، وكانت الدول الرأسمالية الحكومية في روسيا والصين وغيرهما قد وصلت إلى انكشاف طابعها الطبقي الاستغلالي وأنها لا علاقةَ لها بالتعبير عن الطبقات العاملة.
ولهذا فإن الانزلاق لهوةٍ أعمق وهي تأييد الإقطاع الديني الإيراني مثلتْ تتويجاً لكارثة الوعي التحديثي الزائف، الذي عاد إلى التعبير عن فئاتٍ صغيرة برجوازية وأفراد جعلت مصالحها الذاتية فوق مصالح الطبقات العاملة وتاريخ منظماتها السياسية والنقابية.
كان هذا التآكلُ غيرَ ملاحظٍ على النظام السوري في السبعينيات وما بعدها، ولكن انهيار الرأسماليات الحكومية الشمولية في الشرق قد أدى إلى انكشاف هذه المضامين المخفية على الكثيرين حتى غدت ظاهرات خطيرة جسيمة، وقفزت للفاشية المرعبة، ولكن القوى الباقية في هذه التحولات والانهيارات لم تعالج مثل هذه التحولات الكارثية على الشعوب وخاصة جذورها وأسبابها البعيدة.
وبقيت القوى المعبرة سابقاً عن اليسار غير قادرة على إنتاج رؤية لكل تاريخ اليسار في الشرق وانحرافات الأنظمة، وكشف طابعها الطبقي وسيرورتها التاريخية، ووضعت رؤوسَها في رمالِ الشرقِ المتحركة نحو المزيد من الانهيارات.
عدم المعالجات الفكرية السياسية لعقودٍ سابقة تركت الجماهير تجرب وتتراجع لمستويات تفكيرها المذهبية العادية المحافظة، والقوى اليسارية والقومية تواكبُ حراكَ الجماهير المذهبي في كل بلد وتضع نفسها في مواقع متناقضة مع أفكارها ومع بعضها البعض، ثم تجدُ نفسَها خارج التاريخ الحي.
إنها كانت بداياتُ أخطاء أدت لكوارث متتالية، والسكوتُ عن ممارساتِ أنظمة قمعية على المستوى القاري يقود لسكوت على المستوى القومي والوطني.
في عمق هذه المسألة كان تأييدُ حراك الطوائف هو بدايةُ الكارثة، فلم تقاوم أغلبُ العناصر الصغيرة الباقية من التيارات المتحللة اليسارية والقومية هذا الانهيار الفكري السياسي، وكانت اللافتةُ الكارثية التي يرفعونها: (لابد أن تكونَ مع شعبك)، ولكن لم تكن ثمة شعوب، كانت مجموعاتٌ من طوائف تغامرُ بالشعوب، وتزجُ بالناس العاديين تحت مثل هذه الشعارات والأساليب والتنظيمات الخاطئة، وتدفعهم للكثير من المشكلات الجديدة عوضاً أن تحل مشكلات الواقع الحقيقي، وقضايا الشعوب.
لكن المشكلات العميقة لا تتوقف وتزداد ليس على مستوى بلد واحد بل على مستوى بلدان متجاورة ثم على مستوى المنطقة، ثم تتعاضدُ هذه مع مشكلاتِ غياب الديمقراطية في البلدان الكبيرة التي لم تحلْ قضايا الديمقراطية والاعتراف الحقيقي بوجود الطبقات العاملة كطبقاتٍ مستقلة عن الرأسماليات الحكومية الشمولية منتجة الرأسماليات السوداء.
فمن مشكلاتٍ وطنية في بلد صرنا نواجه مشكلات قاريةً تدفعنا أكثر وأكثر لما يشبهُ الحربَ العالمية. خسرت الطبقاتُ الشعبيةُ المختلفة على مدى هذا الانهيار الاجتماعي السياسي قدراتها الفكرية وقوة مناهجها التي كانت دليل عملها، وأداة تحليلها للواقع بشكل موضوعي، فغرقتْ القوى السياسية في العضوية الكمية، ولم يعد ثمة فروق بين أعضائها والجمهور المذهبي العادي، وغدت النفعيةُ هي أساسها فكللا ما يحطمُ الأنظمةَ هو مقبول، حتى لو كانت الاستعانة بتياراتٍ رجعية طائفية ممزقةٍ للعرب والمسلمين والبشر تدفعهم للحروب الضارية. وصار النقيضُ موجوداً كذلك، حيث يقول آخرون إن كل ما يقوي الأنظمة هو مقبول حتى لو سكتنا عن أخطائها الجسيمة ومشكلاتها العميقة وأيدنا طوائفنا!
وهذه الانتهازية المتضادة هي واحدةٌ في جوهرها غير المسئول فهي إغراق بلداننا في التطاحن والانهيار، فليس من المقبول رفع شعارات التحطيم وليس من المقبول رفع شعارات التأييد الكلي، ولكن من الضروري قراءة مسارات التطور ومعالجة المشكلات للطبقات المختلفة وتطوير الأنظمة كلها باتجاه الديمقراطية والعلمانية والعقلانية والوطنية، وليس الوقوف بجانب هذه الطائفة أو تلك أو هذا النظام أو ذاك بل بتعاون كل عناصر التطور الديمقراطي وهزيمتها لقوى الطوائف السياسية التمزيقية وإنقاذ بلداننا من الطائفيات والحروب.
ومن هنا فإن بقاء مثل هذا التفكير خاصة في الجماعات التحديثية المتحللة والنقابية الطائفية هو جرلا البلدان للتمزق المناطقي ونشر الحروب وقد اشتعلت الساحات العربية والإسلامية بمشاعل اللهب أمام أبصارنا بدون داعٍ لاثبات الأدلة.
هزيمة القوى الطائفية السياسية والذيول السياسية للرأسماليات الحكومية الشمولية هي النقطة الأولى الرئيسية كيفما كان شكلها وشعاراتها ومواقعها، وإذا صدأت القوى اليسارية والقومية ونخرها سوس الطائفية فهي تتحملُ نتائجَ مواقفها وخياناتها لمبادئها، ولا يعني أنها خاتمة المطاف في التاريخ الوطني والتاريخ الإنساني.
جاءت مرحلةُ الجمهوريات الدينية كقفزات إلى الوراء في التاريخ الحديث للمسلمين، فالقوى التي قفزتْ لم تصبر على إحداث التراكم الرأسمالي الطويل لتغيير طابع القوى المنتجة والاقتراب من التطور العالمي الحديث.
وهذا ما أدى إلى أن تكون قوى الاستعجال من الأرياف تفرض قفزاتها على المدن السياسية القائدة التي تاهتْ بين التطور والفساد.
الجمهوريات العربية كانت أقرب للتحديث العلماني المبسط الشعاري لكنها فقدت الصفتين الضروريتين المكملتين لرفع الجمهور إلى مستوى تطور العصر وهما الديمقراطية والعقلانية، فواصلت الإبقاء على البُنى التقليدية المتخلفة، وأشكالها الإيديولوجية التفكيكية في فهم الدين والحياة.
لهذا كانت الجمهوريات الدينية قفزات إلى الوراء فهي عوضاً عن أن تكمل مسيرات الأنظمة التحديثية تخلت عن قسماتها المتكاملة الإجبارية لهذا العصر.
تشير مرحلة الجمهوريات الدينية إلى أنساق الفوضى في الاقتصاديات والاعتماد على رأس المال الديني الاحتيالي الذي تكون في بعض الرساميل النفطية غير الديمقراطية وتوسع في المصارف والشركات وهيمن على أموال المدخرين وقادها إلى أحلام الغنى الوهمية وإلى الأعمال الدموية والفوضوية واضطراب الأسواق والدول.
الخداعُ الديني يكمن إيديولوجيا في الادعاء بالانتماء إلى المرحلة الجمهورية المؤسِّسة لفجر الإسلام، في حين إنها تعود إلى مرحلة أسرِ الأشراف التي استولت على الحكم في أعقابِ ذلك والتي هيمنت على العالم الإسلامي المُفتت، ولهذا فالطابع الطائفي السياسي يكمن في كونها أحزاباً طائفية مُفتِّتة، ولا تحمل طابعَ التوحيد.
هنا لم تستطع الفئات البرجوازية الصغيرة والوسطى من تكوين رأسمالٍ صناعي قويٍّ يعيدُ تشكيل المجتمعات، مثلما هي مضطربةٌ بين المذهب السياسي والإسلام التوحيدي العاجزة عن الوصول إليه، فالتفكك بحد ذاته مقولات اقتصادية اجتماعية كنقصِ وسائل المواصلات وربط أجزاء المجتمع وتحويل المهّمشين العاطلين والحرفيين المنهارين ونساء البيوت والمغتربين إلى عمال صناعات كبرى، ولغياب ثقافة التحديث التراكمية لدى المسلمين وبقية قوى العالم المتحضرة.
أي أن المذهبيات السياسية جزء من عالم الإقطاع، عالمِ الجزئياتِ الصغيرة الاجتماعية والسياسية، وتجاوزه يحتاج إلى التوحيد الاقتصادي الكبير والأشكال السياسية التعاونية الواسعة.
الحصول على رأس المال الكبير والقفز إليه يظهر في العودة الغريبة إلى الصناديق المالية الغربية ذات الشروط القاسية والربوية، وهي المُهاجمة خلال عقود بسبب ذلك!
كذلك فإن محاولات نشر النموذج الجمهوري العنفي الفوضوي اللاعقلاني في التاريخ العربي الإسلامي في بلدان الخليج العربي مرةً عبر النموذج الإيراني، ومرة عبر النموذج الإخواني، يتوجه لاستغلال الثغرات الاجتماعية والسياسية في تطور هذه الدول والحصول على رأسِ المال الكبير المُفتَقد.
في حين إنه من الممكن التعاون التوحيدي العربي الإسلامي عبر العلاقات الاقتصادية المفيدة لكل الأطراف، لخلق تعاون واسع يطور القوى المنتجة في البشر والمصانع والعلوم.
لكن هذا يتطلب العودة إلى نقد المذهبيات السياسية كتعبير عن المغامرةِ وإنتاج الفوضى السياسية، أي إعادة النظر في تاريخ المسلمين بشكلٍ موضوعي وليس بأشكال طائفية مؤدلجة لقوى ما قبل رأسمالية، وهذا ما يؤدي إلى الارتفاع عن الأطر الضيقة للطوائف، واحترام التكوين التاريخي لها، وكذلك الارتفاع إلى مستوى تجارب البشر الحديثة في تجاوز الأشكال الضيقة لعالم الطوائف.
إن الصناعات الكبرى تتطلب ذلك ولهذا فإن الجمهوريات الدينية المحافظة تعتمد على مدخرات العمال ونشاطهم الكثيف خلال عقود ثم تسيطر على وعيهم وتقودهم إلى مغامرات بدلاً من أن توحدهم مع بقية العمال العرب والمسلمين وتوحدهم مع بقية التكوينات الاجتماعية في بلدانهم لتكوين تلك الصناعات التي لا تتكون إلا في شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية متطور.
قد يتساءل قارئ يتصفح الجريدة وهو في طريقه إلى عمله مبكراً، لماذا تنهال المقالات والأخبار بشكل مبالغ فيه حين يغيّب الموت كاتباً أو روائياً، أو مفكراً، أو شاعراً، أو غيره من المثقفين؟ ماذا يختلف موت هؤلاء جميعاً عن موت شخص عادي أمضى حياته بين العمل وبيت العائلة؟ هل موت المثقفين يختلف عن موت الناس العاديين، ولماذا يصبح منجز الكتّاب مهماً أكثر بعد موتهم؟
أسئلة لا يمكن الإجابة عنها سريعاً، كما لو أننا نجيب عن أسمائنا، أو أعمارنا، فللموت حكايته التي لن تتوقف، والكتابة سيرتها الغريبة، وللكتّاب هيبتهم العالية، وذلك كله يستدعي الوقوف طويلاً والتأمل بكل هذه المفردات الغامضة والواضحة معاً .
غيب الموت الروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة، تاركاً خلفه سيلاً من الحبر الهادر على مئات الصفحات الخليجية والعربية، ومثيراً من جديد كل تلك التساؤلات التي مرت في بال القارئ المتجه إلى عمله باكراً، فالراحل قامة روائية عالية لها حضورها اللافت في المشهد البحريني والخليجي والعربي، صنعتها عشرات المؤلفات، ومئات المقالات الفكرية والنقدية والسياسية .
لا يختلف موت المثقفين عن موت سائر البشر، إلا أن موتهم يعني توقف مشروع أدبي أو فكري، أو شعري عن النمو، مشروع يمتد تاريخه إلى عشرات السنين، وهو ما يعني توقف مؤلفات كان من شأنها أن تحدث فعلاً جمالياً، أو تنقب عن عطب وتشير إليه، أو تكشف هوية ظلت غامضة، أو غيرها من أغراض الفعل الإبداعي الكتابي .
بموت الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الذي بات يعتبر عرّاب الرواية البحرينية، توقف مشروع هائل من الجرأة، والحفر العميق في الثقافة الخليجية، والتأصيل لمفرداتها، فهو أنتج علاقة مغايرة مع البحر، هذا التكوين الهائل الذي يمثل جزءاً من هوية المواطن الخليجي، وحلقة من تاريخه مع الجغرافيا، وتوقف عند إشكاليات لافتة في الثقافة الخليجية تم تكفيره على إثرها .
فما لا شك فيه أن عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان صوتاً متفرداً في الفضاء الثقافي الخليجي، وكانت له رؤاه وآراؤه المغايرة، إذ يقول في إحدى مقابلاته حول تطور الرواية الخليجية: «إن جيل الكتابة الروائية في الخليج لم يظهر سوى بعد إنجاز الثورات الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين»، من هنا، فإن معظم نتاجاته الروائية متجهة لقضايا اجتماعية تنموية، وقضايا التعسف الحكومي (الوطني) وجسد اختلاف الرؤى في طرق التنمية والتعبير عن معاناة النماذج الشعبية المسحوقة غالباً .
يبقى القول إنه إضافة إلى ما يمتاز به موت الكتاب عن غيرهم، فإنهم لا يموتون تماماً أو كأنهم يموتون حتى منتصف الموت، أو يحيون من جديد، فهم يتركون خلفهم عشرات المؤلفات التي تبقيهم أحياء في ذاكرة القراء، وهذا هو حال عبـــــــدالله خلــــــــيفة الذي ترك للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتاباً بين مجموعة قصصية، ورواية، ودراسة فكرية نقدية، ذلك إضافة إلى مئات المقالات التي نشرت في عشرات الصحف الخليجية والعربية .
ارقصْ على حبال الطبقات والتيارات وارفعْ مصلحتكَ الخاصة لدرجة المقدس.
كنْ مع الحركة إذا رفعتك وقربتك من السلطة والمغانم واهربْ عنها إذا حرقت شعرةً من جلدك.
كنْ ضدها إذا خسرْتَ ولا تقطعْ الخيوطَ تماماً فربما أعطتك شيئاً في مستقبل الأيام.
كنْ مع الاشتراكية إذا كانت كراسي وتذاكرَ ودراسة مجانية وأبناءً يذهبون للنزهة.
لكنك دائماً مع الرأسمالية، هذه الملعونة اللذيذة.
كنْ مع اليسار إذا أغنى أهل اليسار، وكن مع اليمين إذا صعد نجمُ اليمين.
كن مع الالحاد إذا كان مفيداً وساعتهُ دانية وكنْ مع الإيمان إذا كانت قطوفه دانية.
كنْ ماركسياً تقدمياً حيث لا ضررَ ولا ضرار والجمهورُ الكادحُ يعطي تضحياته لها، وكنْ دينياً طائفياً حين ينقلب الجمهورُ ويصبحُ منشئاً لحصالات الخير والتبرعات ويسفكُ دمَهُ من أجل الخيال.
أنت أيها الراقصُ على حبال الطبقات والتيارات، يا لك من ذكي في زمن الغباء السياسي!
قامتك تصلُ للسماء وأنت تمشي وراء جيفارا وكاسترو وهوشي منه وتدقلا طبولَ الثورة في الغابات العربية الصحراوية، تحملُ بندقيةً من خشب وتقاتلُ في الفضاء، ولكن لا مانع من استثمار أبناء هوشي منه في المصانع والسكوت عن الاستغلال الفظ للملايين منهم.
إذا جاء زمانُ الثورة العمالية والاشتراكية فأنت اشتراكي لا تقبلُ بربطةِ عنق برجوازية، وتدينُ الإكراميات وإنشاء المتاجر عند اليساريين المتخاذلين الانتهازيين، ولكنك لا تمانع من المتاجرة بالدولارات في الاشتراكية وبيع البضائع المهربة بالسر في روسيا السوفيتية.
جاء زمانُ الطائفيين ففجأة اكتشفت طائفتك، وبكيت على ماضيك الإلحادي، وكراهيتك للمساجد والمآتم حسب تصنيفك الطائفي، وعرفت مزايا مذهلةً في هؤلاء الطائفيين المقاتلين من أجل الديمقراطية وحقوق الجماهير، أو لكونهم عقلاء يؤسسون رأسمالية بنوك الخير ومساعدة الشعوب وينخرون الحكومات والأنظمةَ بدأبٍ من أجل مستقبلِ رأس المال الطفيلي، وفي الإمكان أن يقفزوا للسلطات فجأة. فأنتَ دائماً مع الخير وتقدم الشعوب والموجة الغالبة.
مع الدولةِ والرواتبِ المجزية والعلاوات والبقشيش ومع المعارضةِ الطائفية تضعُ في صندوقَها الأسود بطاقةً للمستقبل، وربما يحضرُ مقعدٌ عال في قادم الأيام، فالعاقلُ لا يفلتُ فرصةً.
مع الاشتراكية هناك ومع الشيعة هنا، ومع السنة هناك ومع الربيع ومع الخريف حسب الأسعار، ومع الألوهة ومع الإلحاد، ومع المقاومة ومع التراكمات النقدية حسب الطلبات الوطنية والعالمية والشركات المتعددة الأيديولوجية.
التناقضاتُ تملأكَ ولكنها لا تدمرك، كيف تُدمرُ حصالةٌ؟ وكيف يفلسُ بنكٌ أيديولوجي سياسي متحرك؟!
التناقضاتُ تصيبُ المناضلين الخائبين الذين لا يغيرون مبادئَهم حتى في الأعاصير، الذين إذا قلّ أنصارهم بقوا، وإذا كثروا لم يغتروا. يكتفون بضلع من بناية، ويزدهرون في البساطة والشظف والفرح.
أما أنت فعملاقُ عصرك ترتفعُ عن هؤلاء المحنطين، وتزدهرُ أسهمك ومدخراتك، وترهفُ السمع لأي تغير في الذبذبات السياسية والمالية، وتزحف وتزحف حتى تهترئ نفسك ولا يبقى عظيمٌ في روحك، تتحسسلا موجات الهواءِ الصغيرة لتتعرف الاتجاه القادم وتبقى في الاتجاه السائد.
قدمٌ في الرأسمالية وقدم في الاشتراكية، قدم في اليسار وقدم في اليمين، قدم مع الإرهابيين وقدم مع الشرطة العربية حسب مسار الأسهم.
هؤلاء أعداؤك الذين كانوا يريدون قتلك فكيف تظهر بينهم وتزرعْ زرعهم؟! وهذه أوراقكَ كيف توقفت واهترات، وهذا مسرحك كيف هدمته، وهذه أدبياتك كيف توقفت وهذه صحفك كيف أهترأت، وهذه خطاباتك كيف مُحيت، وهذا تيارك كيف دمرته، وهذا شعبك كيف تلاعبْت بمصيره؟