الأرشيف الشهري: أكتوبر 2019

البنية والوعي

اختلف مع العديد من المفكرين حول رؤيتهم لمسار المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة، ولاسيما مع المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في مفهومه عن [أسلوب الإنتاج الكولونيالي]، الذي أراد أن يجعله توصيفاً لمجتمعات العالم الثالث التي منها مجتمعاتنا.

وقد استفاد مهدي عامل من تطورات الفكر الماركسي في فرنسا، وخاصة تطورات البنيوية الوظيفية على يد غولدمان وآلتوسير، اللذين ركزا على مفهوم [البنية]، باعتبار كل مجتمع بنية خاصة لها قوانين تشكلها، غير المنفصلة عن قوانين تطور التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تضم مجموعة من المجتمعات، والبنية ذات مستويات ثلاثة: اقتصادية وأيديولوجية وسياسية، وهي مستويات متداخلة، كل منها له أهميته التكوينية في مسار البنية، وبهذا ينتهي ذلك الفصل التعسفي بين الاقتصادي والفكري والسياسي.

وقد طبق مهدي عامل هذا المفهوم على مجتمعات العالم الثالث، رافضاً إنها مجتمعات إقطاعية أو رأسمالية، أو فقط مجتمعات تابعة، مقترحاً أسلوباً جديداً للإنتاج هو الأسلوب الكولونيالي، فهي مجتمعات تابعة، غير قادرة على إنتاج بورجوازية وطنية قادرة على تشكيل مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.

وبطبيعة الحال هذه المقولة تكمل الوعي اللينيني باستباق قيادة البرجوازية وقيام العمال بتشكيل هذه الثورة.ويواصل مهدي عامل ذلك قائلاً بأنها تابعة للرأسمالية الأقوى، وبالتالي لا يمكن أن تقوم بعملية القطع في بنية التبعية.

وفي رأيي فإن مهدي عامل لم ينطلق من درس تطور المجتمعات العربية الإسلامية، أي ما هي أساليب الإنتاج في دول المشرق الذي صار عربياً، وكيف ظهر الإسلام وفي أي بنية وما هي تطورات هذه البنية.

إذا أخذنا مثالاً بسيطاً على مفهوم البنية، فنقول عن سلطة الاحتلال الإنكليزية في الدول العربية في بدايات القرن العشرين، هل كانت سلطة رأسمالية أم إقطاعية؟

إن قانون البنية هنا يقول بأن البنية الاجتماعية لها قوانينها الداخلية، وهي التي تستقبل المؤثرات الخارجية وتعيد تشكيلها داخلياً، فنحن قد نأخذ أداة غربية متقدمة ولكن شروط وجودها في بنيتنا الوطنية تعيد تشكيلها حسب قوانينها، فالتلفزيون المنتج يغدو عندنا أداة ترفيه، وكذلك فإن قائد الاحتلال البريطاني الذي يسجن من يقوم بتعدد الزوجات في إنكلترا حين تدوس أقدامه أرضاً عربية يقبل بهذا التعدد.

وكذلك فإن كافة المنتجات الثقافية والاقتصادية تخضع لإعادة التشكيل داخل البنية، فيغدو المستعمر البريطاني رئيساً لسلطة إقطاعية.وتغدو عمليات التحديث الرأسمالي المحدودة غالباً في بنية إقطاعية مهيمنة.لكن هذا الإقطاع عرف سيرورة خاصة تمثل تطور المجتمعات العربية الإسلامية، التي تغدو فيها المذهبية شكلاً دينياً محافظاً للصراع الاجتماعي.

ولهذا فإن تكون الفئات المتوسطة في مجتمعاتنا هو تكون تابع أولاً للإقطاع، فتبعيتها للإقطاع هو الذي يجعلها تابعةً للإمبريالية.إن عدم تجذر الخطاب الفكري والسياسي للفئات المتوسطة، يعود لهذه التبعية المركبة.

لو أخذنا المجتمع اللبناني كمثال لقرأناه بوصفه مجتمعاً إقطاعياً مذهبياً نموذجياً.فكافة الشرائح التي تبدو قوى برجوازية هي قوى لإقطاعية مذهبية ودينية مختلفة.الحزب الاشتراكي التقدمي هو يافطة للإقطاع الدرزي والمهيمنين فيه، أي أن الشريحة المتوسطة في الطائفة الدرزية لم تستطع أن تغير الإقطاع المهيمن عليها، أي أن تغدو جزءً من طبقة برجوازية قائدة، وهذا يحتاج لشروط اقتصادية، عبر تعاضدها مع الشرائح الوسطى في الطوائف الأخرى، وفكرية عبر إزاحة الوعي الطائفي المهيمن في الفكر السياسي الدرزي وغير الدرزي، وبقراءة نقدية للوعي الدرزي باعتباره إحباطاً للنضال الثوري عند الفلاحين المسلمين في العصر الوسيط وهيمنة للإقطاعيين على إنتاج هذا الوعي والسيطرة على الفلاحين الذي تقسموا وفقدوا قدرتهم على الكفاح الطبقي العام، وهو أمر يُعاد إنتاجه في المجتمع الإقطاعي اللبناني الحديث، عبر مستوى آخر من تطور البنية وتداخلها مع الهيمنة الأجنبية.

ويمكننا أن نأخذ الوعي الفرنسي الملبنن كنموذج يواصل متابعة المسألة على صعيد الوعي، ونرى كيف إن وعي الثورة الفرنسية المستورد إلى لبنان تحول إلى كهنوت، أي أنه لم تستطع أفكار ديدرو وفولتير وجان جاك روسو أن تطيح بسيطرة الكنيسة والملالي على الوعي. فلماذا صار ميخيائيل نعيمة صوفياً؟ ولماذا ترنحت الثورة الرومانتيكية عند جبران خليل جبران؟ ولماذا صار الحزب الشيوعي اللبناني تابعاً لحركة القوى المذهبية عوضاً أن يقود معركة لتشكيل مجتمع حديث لا طائفي؟ أي كيف غدت الماركسية ديناً وعقيدة ؟ أي لماذا لم تستطع الفئات الوسطى والشعبية فيه أن تغدو علمانية؟ أي لماذا ابتعدت أدوات مهدي عامل من الحفر والهدم للمجتمع الإقطاعي اللبناني الطائفي كتشكيلة حقيقية وليس كمجتمع كولونيالي؟

تكمن الإجابات في الحفر المزدوج الماضوي والحديث، عبر دراسات ملموسة في تكوينات المجتمعات وتطوراتها الخاصة، أي تحولها من كيانات داخل الإمبراطورية الإسلامية إلى كيانات وطنية، وكيف تمت التطورات والصراعات القديمة والحديثة، وكيف ومتى حدثت التغيرات في البُنى الإقطاعية في كل بلد بلد، وفي المستويات الثلاثة السابقة الذكر، وهل وصلت هذه التغيرات إلى الخروج من التشكيلة؟

إننا في لحظة تاريخية فكرية كبيرة هي إعادة لصياغة المفاهيم وانقلابها، وتاريخنا كله موضوع للحوار، لأن كتلته الجامدة صارت تعيق أمة كبيرة عن المشي في الكوكب الأرضي.

البُنى والأزمات

حين تتفتق بنية اجتماعية ضيقة وتتداخل مع تحولات مناطقية كبرى يظهر ذلك في سير الشخصيات والجماعات وتحدث تحولات غير مفهومة.

في زمن الامبراطورية الرومانية وفي مدينة القدس بدأ مخاض لتغيير عالمي. يتمظهر ذلك في عجز النجارين عن مواصلة أعمالهم وتحولهم لعاطلين ومشردين. يمكن رؤية سيرة يوسف النجار هنا كمثال.

كانت أحوال الاستغلال متفاقمة والنزيف يتوجه لروما، وأهل المنطقة بحاجة لمقاومة سياسية تحررية ونظام جديد.

اليهودية هي الدين السائد غير الأممي الضيق، وتنشأ المسيحية في هذه الظروف، النشأة متداخلة مع اليهودية التي اعتبرت التكوين الجديد جزء منها، وحاولت تهويد الجماعة الجديدة الطالعة بغموض.

أصرت على عودتها للطقوس والأشكال القديمة فيما هذه تخرج منها.

النجارة حرفة تتداخل فيها هندسة ورياضيات ولكنها لا تصل لمستوى علم حينئذٍ، ويمكن أن ينفك النجار عن مهنته ويدخل في الوعي الديني السائد.

حاصرت اليهوديةُ المسيحيةَ الوليدة طلبت منها البقاء في طقوسها والأختتان وعدم أكل لحم الخنزير وعدم التداخل مع الشعوب الوثنية، لكن الأزمة السياسية الاجتماعية بحاجة لأيديولوجيا أممية، بطرس الرسول قاوم ذلك وركز جهوده على الانفصال عن اليهودية.

نزعتان سائدتان كانتا تتصارعان، نزعة صوفية ميتافيزيقية توجه فهم المشكلات نحو الغيب، فلا حاجة لتحليل ومعرفة قضايا الناس، ويكفي هذه المشاعر الدينية الفياضة الصاخبة ضد الامبراطورية والتي تتحول لمعارك دموية.

ولهذا فإن عمليات الغيب والتغييب تتكاثر، تشد الجمهور للدخول في مواجهات، وتدخل الجمهور الأممي من غير الملل المعروفة في بوتقتها.

النزعة المعرفية المتأثرة بالفلسفة الإغريقية تحاول القيام بقراءة مختلفة، لكنها نزعة مثقفين نخبويين.

المسيحية الوليدة تتمكن من الانشقاق، ينفتح الدين الجديد على الشعوب، تفك قيود عديدة، ويصبح المسيحيون أعداء يُحاربون.

تتغلب الصوفية والميتافيزيقيا على الفهم العقلاني البسيط، تغدو الشخصيات الطالعة في الخضم المضطرب تعبيراً عن اضطراب مشرقي واسع، فالشعوب فقدت قواها الانتاجية، بعد النزيف المستمر لروما وحملاتها العسكرية التي لا تتوقف، والاضطرابات تؤدي إلى انهيار الامبراطورية الرومانية في قسمها الشرقي وتحولها للمسيحية، والتي تغدو أشكالها الرسمية والكنائسية مختلفة عن الزمن النهضوي التحولي الأول.

يستولي الأمراء والإقطاعيين على السلطة ويقننوا المسيحية في مؤتمرات وعقود تاريخية.

الضباب الإيديولوجي أعقبه تغلغل الطبقات العليا في السيطرة على الطبقات السفلى، وتمت إعادة الاستغلال بأشكال دينية جديدة.

فيا بقيت اليهودية دين منحصر في جماعات مغلقة إنفتحت المسيحية على المشرقيين والعالم وغدت ذات توجهين مشرقي وتوجه شمالي غربي راحا يتصارعان كذلك!

البُنى العربيةُ والثورات

تدهورت عقلياتُ العديد من المراقبين لسطوح الأحداث بسبب تكويناتهم السياسية المضطربة والذائبة في الجمهور العفوي والتي لم تتطور عقلياً بسبب تردي الثقافة والإنقطاع عن التحليلات المعَّمقة والدرس.

فهناك التعميماتُ المسطحةُ التي تُقال عن الثورات دون رؤية تنوع البُنى الاجتماعية العربية وكون كل واحدة منها ذات تطور تاريخي مختلف ومشترك مع المنظومة العربية، وترى الأحداثَ من خلال الوعي البسيط للجمهور العامي(المعلم)، الذي إستطاع أن ينقل العالم العربي نقلة تاريخية رغم أسره، ويُنتظر أن يتطور هذا الوعي البسيط لاحقاً بعد عقود من إحتكار الحكم والتوجيه.

إن أهم قضية محورية مركزية هي تحديد قوانين التطور الاجتماعي في كل بنية عربية وأهم هذه القوانين هو قانون الصراع الطبقي الرئيسي، فأما أن يُطرح هذا بشكلٍ إيديولوجي مُسقط من قبل الوعي السياسي على الواقع، وأما أن يُدرس بشكل حقيقي.

لقد قامت الرأسمالياتُ الحكومية الشمولية بأدلجة هذا الصراع، وجعله سابقاً بين الاشتراكية والرأسمالية، وهذا ما نراه في البنية الاجتماعية السورية حيث يُقال أنها بنية مقاومة أو إشتراكية!

لكن التناقضَ الرئيسي في البُنى الاجتماعية العربية هو التناقضُ بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة. وفي كل بلد يكتسب هذا الصراعُ درجةً من درجات التطور المختلفة في البنية، كذلك يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والسياسية والعلاقات بالخارج، فعلاقات الرأسمالية الحكومية بالغرب وبالرأسمالية الغربية ودرجة إستقلالية الجيش والطابع الاجتماعي للسكان كسيطرة الأشكال القَبلية أو الوعي الديني المحافظ أو على العكس توسع الفئات الوسطى المتعلمة ومدى إزدهار الرأسمالية الحاصة وقوى العمال والنقابات، فكل هذا يساهمُ في تطورِ التناقض بإتجاه الحسم الديمقراطي، أو بقائه في العنف الحكومي!

حين يُقال بأن التناقض الرئيسي ليس هو ذاك بل هو التناقض بين العمال والرأسمالية، نكون قد قفزنا عن مستوى البُنى الاجتماعية ودرجات تطور قواها الإنتاجية المتخلفة عربياً، والتي هي بحاجةٍ لتطوير طويل ونكون قد طرحنا أهدافاً تتجاوزُ مستوى الناس والطابع الموضوعي للاقتصاد.

إن التناقضَ الرئيسي في تونس ومصر كان واضحاً بين رأسمالية حكومية في مواجهة رأسمالية خاصة متسعة، أتخذ فيها الجيشان وضعاً محايداً بين القوى الاجتماعية السياسية المتصارعة.

لكن هذا لا يعني إن القطاعات العمالية والفلاحية والحِرفية لا تدخل في التناقض العام، لكن السؤال من هو القطاع القائد والقادر على خلق قفزة في القوى المنتجة والأحوال الاقتصادية لمختلف الطبقات؟

إن هذا التناقض الرئيسي لا يظهر للناس بل ربما حتى للقوى السياسية، فهي تضعُ تصوراتَها وأحلامَها ورغباتها بدلاً من الواقع الموضوعي، كما أن التصورات الإيديولوجية الحادة تعكس رغبات مغامرة في لي التطور خدمةً لهذه القوى.

ومن هنا فبعض القوى اليسارية تبالغ في دفع التناقض لإزاحة الرأسمالية الخاصة وإعادة الرأسمالية الحكومية بشكلٍ موسع وقاهر، فيما تتوجه قوى أخرى لشراء الأملاك الحكومية أو بيع القطاع العام، لكن الانتخابات والصراع السياسي العقلاني لا بد أن يضع مصالح البنى الاجتماعية وتطورها الموضوعي المدروس قبل أن تتوجه كل قوة سياسية لفرض نفوذها.

إن حيادَ الجيشين التونسي والمصري في عملية الصراع قد ساهم في حل سريع وبخسائر محدودة، كذلك فإن جسمي الطبقة الوسطى في كل من البلدين قد طورَ ذلك، فيما أن اليمن لم تستطع إيجادَ طبقةٍ وسطى شبه واضحة وقطاع خاصٍ قوي، فبقيت البنيةُ الاجتماعيةُ قَبلية تائهةَ الملامح، كما أن إنقسامَ الجيش في اليمن وعدم وجود نخبة ديمقراطية موحَّدة من الضباط الكبار أدى لتحول الجيش بيد فريقين هما العائلة الحاكمة وعائلة الأحمر، وكلُ من جهتهِ يسحبُ الجيشَ لصالحهِ وتحدثُ معاركَ وعمليات إستنزاف حادة. إن غياب الحد الأدنى من الوعي النهضوي الوطني المشترك العقلاني في الطبقة الحاكمة اليمنية جعل البلدَ في مهبِ العواصف الفوضوية العاتية. إن هذا يعبرُ عن ميراثٍ لتاريخ  سابقٍ من النزاعات والحروب الأهلية والقَبلية التي غيبتْ تلك الحدودَ الدنيا من الوعي الوطني المسئول.

وإذا كانت سوريا قد صعّدتْ من القطاع الخاص وأوجدت طبقةً وسطى ذات جذور تاريخية حضارية، فإن سيطرة العسكر الحزبي الشمولي العنيف خلال أربعين سنة قد جعلها فُتاتاً سياسياً، وأدى لتحول القطاع العام فريسةً للحكم، وطُحنت الفئات الفلاحية والعمالية والانتاجية الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ولهذا فقد قام الجيشُ المؤدلجُ حامي اللصوص بذبح الشعب.

وهو الأمر الذي جرى نفسه في ليبيا ولكن من قبل عائلة صغيرة ورئيس مهووس، أمكن لتعاون القوى الشعبية والدولية من كسرهما.

إن تشكيل قوى واسعة لأجل قيادة القطاعات العامة للتطور الاجتماعي المخطط والناهض بقوى الإنتاج البشرية والمادية، وبالتعاون الديمقراطي مع القطاعات الخاصة، وتفجير قوى الثقافة والعلوم ومختلف قدرات السكان، هي المهمات التي ينتظر أن تُفعل خلال الحكومات البرلمانية القادمة العربية.

أشكال الوعي في البنية التقليدية العربية

إذا كانت البُنى العربية التقليدية بُنى إقطاع ديني، لكون الدين هو الشكل الوحيد المناسب لظهور وتجلي صراعات هذا التاريخ البشري الخاص، فإن هذا الإقطاع الديني يصير إقطاعاً مذهبياً، أي يقوم فيه العرب المسلمون بالصراع بينهم وبين أنفسهم كقوى ومستويات اجتماعية عبر المذاهب، وبينهم وبين الأديان الأخرى عبر الدين العام.

ولهذا فإن كافة مستويات البنية التقليدية تغدو مُسيسة، فلا توجد حركات دينية غير سياسية، ولا يغدو الدين الشعبي الجماهيري كذلك غير مسيس.

ومن هنا فإن هناك إقطاعاً دينياً سياسياً يهيمن على البنية التقليدية، وهو يشكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، ومن هنا كذلك فلا توجد مدينة عربية إسلامية حرة، أي ديمقراطية وحداثية، لأنها كلها خاضعة للإقطاع السياسي المتحكم عبر التاريخ، وهنا الفارق بين مدننا وبين المدينة الغربية البرجوازية التي نمت كمدينة حرة،  فهذه الأخيرة قد نشأت في عملية تاريخية لتغيير سلطة الإقطاع الديني والسياسي، أي لتحويل مجمل البنية التقليدية، عبر الفصل بين الدين والدولة، وجعل المدينة حرة من سلطة دينية سياسية مُسبّقة.

والأمر ليس تحرير المجتمع من الدين، ولكن تحرير الدين من الدكتاتورية السياسية. وتحرير السياسة من الدكتاتورية الدينية.

ولهذا فإن علينا أن لا نرى فترات ازدهار المدن العربية الإسلامية بالتجارة وببعض الحرية الفكرية والسياسية باعتبارها انقطاعاً عن الهيمنة الإقطاعية المستبدة، أو تحولاً نوعياً فيها وانتقالاً إلى كونها مدناً حرة، كما يوهمنا الكتاب السطحيون، حين يتحدثون عن فترات النهضة في الدولة العباسية أو في العصر الحديث، بل الأمر لا يعدو أن يكون وفرة مالية لدى الإقطاع السياسي تتيح له تحريك الحياة الثقافية والفكرية باتجاه مصالحه.

  إن الإقطاع السياسي المهيمن على أجهزة الدولة العليا يتيح للإقطاع الديني الهيمنة على المستويات الاجتماعية، خاصة على وضع القبيلة / الأسرة ومورثاتها الذكورية والثـقافة الجماهيرية، وغالباً ما يحدث الصراع بين الإقطاع السياسي الحاكم والإقطاع الاجتماعي، وكلاهما يحكمان مستويات البنية المتعددة، حين تنضب موارد الدولة أو تضيع في قنوات وشرايين الدول الفاسدة.

ولهذا فحين يستولي المأمون على السلطة من أخيه الأمين، أو حين يستولي الضباط الأحرار على الحكم في مصر، فإن البنية الإقطاعية / المذهبية لا تتغير، والمدينة الحرة لا تنشأ، فدور الدولة المركزي وهيمنتها على الأملاك العامة، وسلطتها المكرسة غيباً لا تتبدل.

وحين يقاوم الإقطاعُ الديني المأمونَ بسبب عمليات تحديثه فذلك لأن يصرف المال العام على بطانته، المجلوبة أغلبها من فارس، ولهذا فإن الإقطاع الديني المتحكم في البنية الاجتماعية وأغلبه عرب وجدوا أنفسهم بمنأى عن السلطة السياسية والمال العام، يصارع هذا التحكم ويتخذ من قضية خلق القرآن مظهراً للصراع على غنائم الحكم.وحين يقوم الواثق بانقلابه فإن شيئاً من الاستغلال والفساد لم يتغير، غير أنه قرب رجالات الإقطاع الديني وأجزل لهم العطاء.ولأن بطانة الإقطاع فارسية، إمامية، زيدية، اعتزالية، تزدهر لدى عامة بغداد المذاهب السنية.

ولهذا أيضاً حين يقوم الضباط الأحرار بانقلابهم ويحدثون إصلاحات مهمة فإنهم لا يخلقون مدينة حرة، لأن هيمنتهم على المال العام تتصاعد ويغدو جهاز الدولة تابعاً لفئة صغيرة تتحكم في كيفية توزيع الثروة، ونظراً لدور قيادتها الوطنية المناضلة فإن مشروعات شعبية كثيرة تتحقق، ووصول جانب من المال العام للشعب، لم يكن يعني أن يكون هذا المال تحت إدارته، فقنوات الدولة المهيمنة هي التي تظل تتحكم فيه، وبالتدريج ينتقل إلى جيوبها.

إن البنية الإقطاعية الدينية لم تتغير، وكان توغل الدولة وهيمنتها داخل المستويات الاجتماعية واتجاهها لدمقرطة وتحديث الأسرة، باعثاً لاصطدامها مع الإقطاع الديني المهيمن في هذه المستويات.

إن الشعب لا يستطيع أن يكون حراً مع دولة دكتاتورية، حتى لو فرشت الأرض ذهباً تحت أقدامه.

إن كافة العناصر الفكرية التي تولدت داخل البنية العربية التقليدية أو التي جاءت من خلال التأثيرات الأجنبية عبر اليونان أو الهند أو الفرس في القرون السابقة، أو الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب الرأسمالي أو الشرق ( الاشتراكي )، كلها خضعت لقوانين هذه البنية الإقطاعية، التي نحت عناصر وأبقت عناصر، تبعاً لوظيفيتها الخاصة.

بل وحتى الثورة المحمدية التي كانت سابقة قبل تشكل هذه البنية التقليدية تم إبعاد عناصر منها جوهرية، رغم إن تلك الثورة هي التي تمثـل مشروعية هذه البنية التقليدية حسب وعي هذه البنية نفسها .

 إن قوانين الثورة المحمدية الثلاثة تم تجاهلها، وهي التحالف بين التجار المتوسطين والعاملين، وربط تطور الثورة بتقدم الجمهور المادي والمعيشي والثقافي، ووجود برنامج نهضوي تحولي ل ( لأمة ).

والفارق بين لحظة الثورة المحمدية ووجود مدينة حرة في الجزيرة العربية، وبين زمن البنية التقليدية، هو فارق التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، حيث أن العرب الرعاة الأحرار لم يهيمن عليهم نظام استغلالي سواء عبودياً كان أم إقطاعياً، ولكنهم حين انتقلوا إلى الشمال العربي، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية كبيرة، دخلوا في المنظومة الإقطاعية، متجاوزين العبودية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، لكن ظلت العبودية تتجرر أذيالها الثقيلة.

وحينئذٍ، أي في زمن الإقطاع، فإن كافة الأفكار الُمصنعة محلياً أم المستوردة مناطقياً وعالمياً، خضعت لقوانين البنية وتطورها.

إن كافة التيارات المعارضة والدول لم تستطع إعادة إنتاج الثورة المحمدية في الظروف الجديدة. فالأعمال البطولية للأئمة والمغامرات الفردية ثم الانتفاضات عجزت عن الوصول لمفاتيح تلك الثورة، فالقدريون والمعتزلة لم يفهموا أهمية التحالف بين التجار والعامة، ولم يعرفوا كيف يربطون بين ثورتهم النخبوية وجمهور الفلاحين عبر تغيير طابع ملكية الأرض أو الخراج ، وحتى عندما أخذ العوامُ دوراً كبيراً في أعمال القرامطة والزنج فإنهم كانوا عواماً لصوصاً ولم يطرحوا برنامجاً لإزالة اللصوصية من هيمنة الدولة الإقطاعية.

ونستطيع أن نعرف لماذا انتصر معاوية بن أبي سفيان سياسياً على جيش الدولة الشعبية لأن هذا الجيش لم يربط انتصاراته بتوزيع الغنائم والمكاسب على الجنود والجمهور، في حين كان معسكر معاوية يغدق العطايا عليهم. وكذلك لم يكن لجيش  السلطة الشعبية برنامج تحولي جديد، وبهذا تخلى جيش السلطة الشعبية عن قوانين الثورة المحمدية وبالتالي هُزم.

ولهذا حين كان الخلفاء ( المتنورون ) يطرحون سياسة  ثقافية جديدة نهضوية لم تكن تنجح هذه السياسة، بسبب أنها تقوم على استغلال بشع للجمهور المنتج، فإذا كان هذا الجمهور أمياً، وخرافياً في وعيه، فإنه سيتأثر بالسياط والدجل أكثر منه بالقراطيس ذات الثمن الغالي التي ينسخها النساخ بصعوبة وتنتشر بين نخبة محدودة،  فالتنوير لا بد أن يترابط وتحرر الجمهور من الأمية والفقر الشديد، وكيف يتحرر من ذلك دون تغيير جوهري في شروط الإنتاج ؟

ولهذا فإن تقارب الدينان المسيحية الشرقية والإسلام، وتقارب المذاهب المهيمنة سياسياً، وغربة الفلسفة وضياع المتصوفين، لا يعود للعناصر الثورية والديمقراطية الجنينية فيها، بل لقدرة البنية المحافظة على انتزاع تلك العناصر وإخفائها في ركام من الاغتراب والنصوصية الشكلانية، بدلاً من توظيفها في مرحلة جديدة. أي عدم القدرة على ربطها بنضال الجمهور  وتقدمه.

إن بقاء نموذج الثورة المحمدية ملهماً للعرب والمسلمين يعود لقدرتها على نقلهم من تشكيلة إلى أخرى، واتساع التحالف الاجتماعي المتحقق بين التجار النهضويين والكادحين، وطرح برنامج تحولي لأغلبية القطاعات.

 وفي العصر الحديث قامت الليبرالية المستوردة من الغرب ببعض الجوانب التطورية في هذا الجانب،حيث رأينا تحالف الفئات الوسطى والعاملين، وتم طرح برنامج نهضوي لكن الليبرالية عجزت عن هدم البنية الإقطاعية، ورأت في الإقطاع الديني بأنه هو الإسلام، فعجزت عن رؤية جذوره في الثورة المحمدية، أي عجزت عن رؤية جذورها كليبرالية في المرحلة الثورية الإسلامية التأسيسية.

وهذا يعود لغربتها الغربية، أي بسبب نقلها الميكانيكي لأدوات معرفية وسياسية مستوردة، فهي لا تنقل مناهج بل أشكالاً فوقية غير متجذرة في الأرض، أي تستورد أشكالاً برلمانية وأشكالاً حزبية الخ.. لكن هذه في وجودها غير المنقول ،ليست أشكالاً، هذه بنية متكاملة، فالأمر ليس في نقل قلب سليم إلى جسم مريض، بل في تغيير الجسم كله.

وطبيعة النقل الشكلية لدى الفئات المتوسطة يعود لطبيعتها الاقتصادية / الاجتماعية. أي على كونها فئات تجارية ، زراعية، عقارية وإلى صناعية بدرجة أساسية. وهي من هنا تقوم بتشكيل فلسفة انتقائية، نفعية، وليس فلسفة تحولية جذرية.

إن الوعي الليبرالي وأشكاله الفكرية المتعددة، من فلسفة سياسية وأدب وفن وعلوم، عجزت عن التنوير والتحويل الاجتماعي والثقافي للجمهور العربي، وبقيت الهياكل الإقطاعية الدينية متحكمة فيه، مما أدى إلى أزمة هذا الأشكال الفكرية النهضوية.

أي أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية للثورة الديمقراطية لم تتحقق، مثل حرية الفلاحين والنساء والدين. وبقي الإقطاع الديني مهيمناً على الوعي.

إن الفارق بين الثورة المحمدية والثورة الليبرالية العربية الأولى الحديثة، رغم إن الطابع التجاري كان مشتركاً بين تكوينيهما الاجتماعيين القياديين، هو في قدرة الأولى  في الاستناد  إلى الجذور الفكرية للمنطقة، أي قيامها بإعادة إنتاج للفكر ( الوطني التحرري ) المحلي المناطقي، لكن الليبرالية المعاصرة لم تفعل سوى نقل المنتجات الغربية. أو العودة إلى حمى الإقطاع المذهبي، عبر قيام كل فئات وسطى عربية إسلامية، بالارتكاز إلى إرثها المحلي الضيق. فمرة تلجأ إلى سوق مسيطر عليها غرباً، ومرة تلجأ إلى إقطاع مهيمن عليها و(مقطع ) لسوقها الواسعة الُمفترضة.والشكلان لا يقودان إلى تراكم، تحتاجه إعادة تشكيل الهياكل التقليدية المعرقلة لنمو رأسمالي تحولي جذري.

وهكذا يغدو الإقطاع الديني حين يكون مسيحية شرقية، أو مذهبية إسلامية، مصمماً على تقطيع أوصال الأمة، أي أن شبكات المذاهب تعود إلى عرقلة نمو سوق موحدة وطنياً وعربياً، في حين إنها ترتكز على الإسلام، دون أن تعي إنها ترتكز على الإقطاع. أي أنها بعدُ لا تكتشف جذورها المتصلة بالثورة المحمدية.

حين عجزت أشكال الليبرالية العربية الحديثة الأولى عن حل مهام التحديث والتحرر، برزت رأسماليات الدولة العربية المختلفة، وفي الزمن الأول كانت متجهة إلى اليسار وأدبياته، والآن إلى اليمين وأدبياته.

قامت رأسماليات الدولة في المرحلة الأولى ( ناصريون، قوميون ، بعثيون، جبهويون جزائريون، استقلاليون تونسيون الخ..)، على وعي الهيمنة الحكومية، فجعلوا من ماكينة الدولة في كل قطر وسيلة لتشكيل الرأسمال الصناعي المفقود، معضلة العرب الأولى، وقد قادت هذه إلى سلسلة من نظريات التدخل الحكومي في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والفكرية.

لقد أفرزت في المجال الفكري مجموعات من الأفكار المؤيدة للشمولية، وقادت في النهاية إلى هيمنة الأفراد المطلقين، ومن ثم العودة إلى وعي  الإقطاع السياسي / الديني. إن الوحدات الوطنية لم تتشكل، والتصنيع الشامل لم يتحقق وتحول إلى مديونيات كبيرة، وواصلت الثقافة الجماهيرية رحلة الخرافة والأمية وعادت الأشكال القديمة في الإبداع الخ..

لم تستطع رأسمالية الدولة اليسارية أن تـُنجز ما وعدت به، لأن وعيها رفض مجابهة الإقطاع السياسي / الديني، بل أنها ورثت أشغاله الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، فتملكت الموارد وحددت أهداف النصوص الدينية على هواها السياسي.

إن رفضها لتحويل التصنيع الثقيل إلى قوة أساسية في الاقتصاد الوطني، يعود لارتكازها على فئات وسطى استغلالية، هي الفئات البيروقراطية والعسكرية المتنفذة، التي ترفض التضحيات وإعادة تشكيل الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل جذري، مما قاد مع غياب الرقابة الشعبية إلى تدهور القواعد الصناعية التي شكلتها، وإلى بعث حركات الإقطاع المذهبية المختلفة، التي بنت نموها في هذه الأقطار ( اليسارية ) على العداء للحداثة والتقدم، ومرتكزة على الأخطاء والهزائم التي واكبت هذه الأنظمة في بعض معاركها ونظامها.

ولا يمكن أخذ هذه اللوحة بعين الاعتبار دون رؤية صعود رأسماليات الدولة ( (اليمينية) حيث أتاحت الثروة النفطية ومحاصرة وهزيمة رأسماليات الدولة في العالم الشرقي، صعود هذه الأنماط من رأسماليات الدولة اليمينية المكرسة لتقوية العلاقات ما قبل الرأسمالية أي للإقطاع، وكذلك للرأسمالية الغربية.

وخدمة رأسماليات الدولة هذه لهذين الجانبين المتناقضين، حدثت بسبب ضعف الهياكل الاقتصادية في هذه الدول، الصحراوية والريفية، مما قاد إلى كونها سوقاً للبضائع العسكرية، والاقتصادية الأخرى، ورأس مالاً مالياً لخدمة التصنيع الغربي، وأدت إلى ازدهار أشكال رأسمال غير الصناعي، وبالتالي عودة البذخ الأسطوري للخلفاء والنخب اللاهية والفاسدة سياسياً وذوقياً، مما أدى إلى إنهاك القطاعات العامة الحكومية وتحميل الشعوب فاتورة الحروب والفساد والاستغلال .

وقد قاد هذا إلى هيمنة أشكال وعي قديمة كان يبدو للوعي السطحي بأنها انتهت، وكذلك تم اسيراد أشكال الحداثة الغربية الفارغة من المضامين التحويلية. وقد انتصر عربياً نموذج رأسمالية الدولة اليمينية المكرسة لعودة الإقطاع المذهبي، فظهر أمير  المؤمنين في أفغانستان والكثير من أمراء المؤمنين، ليتحول البرنامج الطائفي إلى حقائق دموية.

إنه كلما تخلى الإقطاع الديني عن قوانين الثورة المحمدية كلما أو غل في التطرف ضد الحداثة وتقدم المسلمين، أي حين يزداد شكلانية وتعصباً. فكلما تنامى تخلفاً في مواقعه الصحراوية والريفية كلما أزداد تقوقعاً وعداءً، وحين يتحد أكثر بقوة الإقطاع السياسي الحاكم الذي حصل على موارد وفيرة، فإنه يزداد ضراوة في الدفاع عن امتيازاته واستغلاله للجمهور. بل أيضاً يتطلع إلى الوصول للحكم.

إن الانقطاع عن تقاليد الثورة المحمدية قادت إلى الأحكام الحرفية والنصوصية الجزئية المبتورة عن سياق العصرين، ولهذا فإن مذاهب اللاقياس التي هيمن الإقطاع فيها بقوة، تغدو مثل مذاهب القياس التي لم تنتصر فيها الثورة النهضوية. ومع تنامي قوة الإقطاع الديني فإنه يزحف على كل ظاهرات الوعي والثقافة ليعيد ربطها لأحكام سيطرته.

مهما حدثت من أعمال نهضوية وتنويرية واقتصاد مخطط واقتصاد دولة فإن بنية الإقطاع لم تتبدل.أي حين يعتمد الآن على رأسمالية دولة جديدة وتنوير آخر فإن الأمر لن يغير من أسس البنية. لا يمكن إلا الخروج  عن طريق تأسيس بنية اجتماعية جديدة  أسسها العلمانية والديمقراطية والحرية الاجتماعية كنظام متكامل.

 وقد تغلغلت بُنى النظام التقليدي في الأحزاب الليبرالية و(الاشتراكية) و(الشيوعية)، فرفض بعض هذه الجماعات التحول إلى النظام الحديث، ربطها بأنظمة الإقطاع المختلفة، وطرحها عملية القفز على الرأسمالية كانت دفاعاً عن وشائجها مع البنية التقليدية الطائفية، ولهذا أخذت مفرداتها الديمقراطية تتهاوى، فتصبح الأنظمة الجمهورية ملكية، والديمقراطية المركزية تصبح مركزية، والقادة السياسيون الوطنيون يصبحون أبوات وقادة طوائف، وتغدو القوالب الفكرية المستوردة غير قادرة إلى التحول إلى مناهج بحث تلتحم بالبنى العربية تحليلاً واكتشافاً .ويترنح الشعر الحديث، ويعود الشعر التقليدي وتغدو الأنواع الأدبية والفنية من أدب قصصي أو مسرحي أو فنون تشكيلية نخبوية منعزلة.

البنية الاجتماعية والتراث

يستمر التراث القديم لأن البنية الاجتماعية التي شكلته مستمرة حتى الآن. فالذين يريدون تغييرالتراث، اي جعل الموروث المتجدد والمعاد إنتاجه متغيراً وذا صياغة جديدة، عليهم تغيير البنية الاجتماعية.

لقد ورثنا سلطة متسلطة منذ أقدم العصور، وهي التي تتدخل في كل

شيء في حياة المواطن، ومع هذا فإنها لا تعطي إلا الذي يتبعها، وينساق وراء مشروعاتها، التي تكون نهضة أحياناً لأنها تمتلك بعض النقود التي تصرفها علي مشروعات البناء، والتي تكون أحياناً دماراً بانسياقها وراء الحروب.

لكن هذه السلطة هي التي تقرر صرف الثروات وتحديد الأخلاق والواجبات الخ.. السلطة هي التي تحدد تشكيل الجماعات الاجتماعية، من تجعله باذحاً ومن تجعله فقيراً. من تجعله فوق السحاب ومن تجعله تحت الثرى.

ومن هنا فهي سلطة أبوية، متحدة بالجهازالسياسي المطلق، ذكورية، تستند علي العضلات، لأنها تقوم علي التمتع بفوائض الطبيعة وانتاجها القريب، وليس على أساس تصنيعها.

ولهذا شكلت السلطات المتعاقبة علي مر التاريخ، وهي تقوم بنسخ ذواتها وتكرار أنماطها الأساسية، وعياً دينياً تقليدياً، هو هو في شتى المذاهب والديانات، يقوم علي جعل السلطة المطلقة ورمزها أو رموزها، متدخلة في كل شيء في حياة المواطن، فهو مراقب حتي في بيته، أو تحت فراشه، خاضع للثواب إذا تقرب منها، خاضع للعقاب إذا تمرد عليها، وهناك ناموس للتقرب وللتمرد.

الدول المهيمنة على الأرزاق، مهيمنة علي المقادير والأقدار، تحدد أحجام الحياة والموت، أي متى تكثر المواليد إذا استغلت بكثرة وأرادت أن تخوض حروباً، ومتى تتخلص من المواليد إذا دخلتها فعلاً، أو إذا تقلص بيت المال.

بيتُ المال له حاكمٌ مطلق، لا يُسال كم فيه وكم صرف منه، وكم بقي منه، فهو يهب من يشاء أملاكاً، أو يأخذها منه، أو يحدد أحجام الفئات المستفيدة والمتضررة، فكل شيء مرهون بإرادته..

الآداب والفنون والعلوم والفلسفات تدور حول هذا المركز المطلق، فالمستويات الفكرية والاجتماعية من البنية الاجتماعية، مُشكلة حسب تلك المعانى والدلالات، فهى ليست صدىً مباشراً ولكنها متشربة بعروقها الداخلية، يضخُ لها نفس الدم، فتموت العلوم والآداب إذا غضب وليُ النعم، وتزدهر إذا تكرم وأعطى، فُتقاس عهود النهضة بابتساماته، وكرمه، وتقاس عهود التخلف بغيابه وانتشار البخلاء والضعاف والقساة من الحكام.

والشعب ليس شعباً بل قطيعاً مربوطاً بحظيرة الحكم، يعيش طوال عصوره منتظراً طلوع المخلص، أي حاكماً عادلاً أبدياً مطلقاً من خياله الصافى، ولكن المُكّدر بنفس الطين التراثي، فهذا المنتظر العادل المخلص هو فرد ذكر أيضاً، لأنه فى الثقافة الاستبدادية الذكورية العريقة لا يمكن أن يكون المخلص امرأة، لأن الإنتاج لا يزال بالعضلات، ولهذا فإن الشعب

المربوط عند حظيرة النظام الاجتماعي التاريخي يحلم بفرد آخر، ينجز الانتقال من عصر الظلم إلى عصر العدالة. دون أن يطرأ على الإنتاج تغيرات ما، لأن البنية التقليدية تقوم على اقتصاد زراعي ورعوي وحرفي أو صناعي حكومي، فلا تقوم بتغيير ثوري في العلاقات الاجتماعية، والأبنية الفكرية.

في البنية الاجتماعية العربية الحالية يستمر الحاكم في السيطرة علي موارد الثروة، فيستمر التراث القديم، فرغم غياب الإبل والخيول وتراجع دور الزراعة، إلا ان ولي النعم لا يزال يتعامل بثروة باطن الأرض مثلما تعامل مع ثروة سطح الأرض، فتغير شكل الثروة وليس الإنتاج الذي يتداولها، تبدلت الفواكه والخضراوات، بالماس والفوسفات والزيت.

ومن هنا فإن أشكال الحياة الفكرية والاجتماعية العتيقة تواصل الحياة، ويستمرالموتى في تحديد طرق الحياة لأجيال الأجهزة الكومبيوترية، مثلما عاش قرناؤهم السابقون والعلماء والشعراء تابعين لبيت المال وتتشكل نظرياتهم وقصائدهم في ظلاله.

البنية الاجتماعية القديمة تستمر فتعيد إنتاج حياتها الأولي بتكييف قليل، ولهذا فان تغيير التراث يبدأ من تغيير البنية التي صنعته علي مدى آلاف السنين، وهذه عملية مغايرة وطويلة.

البنية العربية التقليدية تكونها وسيرورتها

على مدى قرن التنوير العربي الأول المتشكل من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى جهود التنوير الراهنة التي تشكل المحاولة العربية الثانية للخروج من الحياة المتخلفة التقليدية، لم يعرف الباحثون والمناضلون ما هو الوضع الأساسي الذي يريدون إخراج الأمم الإسلامية والشعوب العربية منه.

لقد وُضعت مصطلحات محددة عديدة لتحديد البنى الاجتماعية العربية فى الزمن الأخير للوعي العربي النهضوي، حيث إن زمن النهضة الأول لم يبلور مصطلحاً محدداً للماضي الحاضر الذي يريد تجاوزه، وفي هذا اللاتحديد ضباب نظري واجتماعي، يعكس رؤى طلائع الفئات الوسطى العربية حينذاك وهي تتصور إمكانية التطابق البسيط مع الغرب من جهة ومع التراث من جهة أخرى.

أي أن وعي هذه الطلائع كان يأخذ الأفكار التجديدية والنهضوية كتكوينات فكرية واجتماعية خارج التشكيلات الاقتصادية/ الاجتماعية؛ باعتبارها عناصر مستقلة محايدة يمكن استخراجها من الأنظمة الاجتماعية المعاصرة أو الماضية، وزرعها في التاريخ العربي الراهن وقتذاك. ولهذا كانت التعبيرات المتداولة في هذا الوعي كقولهم: نأخذ من الغرب ومن التراث ما هو مفيد، أو كعملهم لفكرة الأحياء، فكل تيار يركز على إحياء أو الدعوة والدعاية للفصيل أو للتيارات (القريبة) منه.

ولم تختلف ممارسات طلائع الفئات الوسطى في الزمن (القومي) و(الاشتراكى)، لكن مناطق الاستيراد الفكري والاجتماعي اتجهت إلى مناطق وبلدان أخرى، تشكلت فيها رأسماليات الدولة القومية بأشكال متعددة (تجربة الاتحاد السوفيتي والتجارب الفاشية)، ولهذا فإن هذه الممارسات لم تتجه إلى التوصيف الموضوعي للبُنى الاجتماعية العربية.

ولكن فى هذا الزمن بدأت مفردة البناء التقليدي الماضوي تُطرح بصورة أكبر من الفترة التنويرية الأولى، واقترب مثقفو الفئات الوسطى لليبرالية من توصيف ماهية البناء التقليدي الموروث، لكن اسرار هذه التقليدية لم تحل.

لقد طرح الدكتور شاكر مصطفى مسألة البناء (التقليدي) الذي بدا قريباً من نظام اجتماعي وسياسي متداخل، فهو يحيل المنظومة التقليدية إلى عناصر هي الباقية من سيرورة التراث وهذه العناصر الأساسية الباقية تتجسد فى أربعة جوانب:

أ – طرق الإنتاح المادي ب – تكوين نظام السلطة ج – طبيعة العلاقات الاجتماعية د – قيم الفكر التراثية.

لكن هذه العناصر تبقى عناصر وبقايا لتاريخ، كما أنها غير مترابطة فى تكوين، أي لا تمثل بُنى اجماعية يتم تتجاوزها عبر بُنى مختلفة مغايرة، أي أن المسألة ليست مسألة تشكيلة اقتصادية اجتماعية، فيمكن الانتقال منها إلى البناء الحديث دون عملية قطع بنيوي. أي دون الحاجة إلى ثورة. ونجد استخدام مفردة أو مصطلح (تقليدي) بوفرة في قاموس النهضويين والليبراليين العرب والإسلاميين المتأخرين، لكن هذا المصطلح يُوضع فى إطار مجرد, وبدون قراءة لسيرورته التاريخية والاجتماعية.

ولهذا صار الوعي الطليعى لمثقفي الفئات الوسطى العربية هو المجابهة بين الحديث والتقليدي، وهذا في حد ذاته يعبر عن محاولة هذه القوى وتوحدها فى رفض الكابوس المتزايد لسيطرة البُنى التقليدية.

لكن هذا الصراع احتد في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولم تعد البُنى التقليدية مجرد قراءة للماضي أو محاولة لتأبيده، بل غدت كتلاً بشرية ضخمة تهدر في الشوارع ومعارك دموية وانقلابات؛ وهنا أخذت المصطلحات تضطرب، فمصطلح (تقليدي) لم يعد كافياً لتوصيف مثل هذه الحركات السياسية الماضوية، فظهر تصطلح (الأصولية) المنقول من الصحافة الغربية غير الدقيقة، أي باعتبار هذه الحركات السياسية التقليدية تمثل الأصول الإسلامية، وباعتباره مصطلحاً تبخيسياً، في حين إنه يعتبر مدحاً من وجهة نظر التاريخ الديني.

وقام الوعى اليساري للفئات الوسطى العربية بطرح مصطلحات مختلفة، مثل (حركات الإسلام السياسي)؛ وهو اصطلاح يمكن أن يضم حركات الخوارج والقرامطة وإرهابيي الجزائر، والمتصوفة الذين قاتلوا الصليبين دفاعاً عن الأرض العربية، كما أنه يمثل نظرة قاصرة لمستويات البنية المتداخلة التقليدية حيث الحدود ذائبة بين السياسي والاجتماعي والإيديولوجى!

وتم طرح تسميات أخرى كالحركات الإرهابية الدينية وهذا المصطلح يمكن أن يضم السيخ والهندوس والبوذيين المتطرفين كذلك!

إذن كان عجز الوعي العربي بأشكاله المختلفة عن الوصول إلى توصيف للبناء التقليدي العربى، يتمظهر في اضطراب المصطلحات، وهى العملية التي راحت تغلي مع اشتداد الصراعات السياسية حين عبرت البُنى التقليدية بأنها ليست ماضية فحسب بل حاضرا مهاجما ومسلحا بأقوى الأسلحة.

لقد عبرت آراء الأحزاب الاشتراكية والشيوعية العربية وهي تعكس وعي الفئات الوسطى ذات التوجهات اليسارية، عن اقتراب من البنية التقليدية، عبر توصيفها بـ(الإقطاع)، ولكن الإقطاع لديها هو إقطاع اقتصادي يتمظهر في الملكية الزراعية الكبيرة خاصة، ولم تقم بقراءة الإقطاع كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، ويكمن في هذا التحاقها الثقافي والسياسي بـ(رأسمالية الدولة القومية) الروسية أو الصينية اللتين خرقتا مسألة التشكيلات وتطورها الموضوعي، وبالتالي عجزت عن إنتاج وعي تقدمي عربي، أي أنها قامت باستعارة طرق قومية مختلفة عن ظروفها الحاصة. (راجع تحليلاتنا لمواقف هادي العلوي ومهدي عامل وغيرهما في مقالات سابقة).

وبطبيعة الحال فإن الأمر ليس رفض مصطلحاتٍ مجردة، بل هو رفض يتأسس من تكوينات سياسية اجتماعية شمولية تقليدية، لديها يافطات (تقدمية) غير أن البناء الفكري والاجتماعي شيء مختلف.

ولكن أيضاً حين نقول إن البنية العربية السابقة والراهنة بنية إقطاعية فهذا لا يكفى، أي أنه ينبغي علينا أن نرى السيرورة الخاصة لـ(إقطاعنا).

ولهذا عندما نقوم بتوصيف البنى الإقطاعية العربية، لن ننسى بأنها وريثة الأنظمة العبودية المعممة في المشرق (الرافدية، المصرية، الفينيقية الخ)، وهي نقطة عجز الوعي العربي التقدمي عن حلها، فهو لا يرى جذور هذه البُنى الإقطاعية العربية، في الزمن السابق البعيد كذلك، مثلما يجهل سيرورتها في الماضى القريب والحاضر، لأن تكون البُنى متداخلا ومركبا.

وإذا كانت جذور تكون البُنى الإقطاعية يتشكل مع الإسلام في الجزيرة العربية فهذا سيعطي لهذه البنى مستوى اجتماعياً وثقافياً معيناً، وبدون ظروف الجزيرة العربية الصحراوية المنعزلة عن أنظمة العبودية العامة في المشرق حينذاك، ما كان بإمكان هؤلاء الرعاة النمو والتحشد، وما كان بإمكانهم رفد المشرق العجوز بعلاقات إنتاج جديدة.

ولهذا كان نمو الإسلام مرتكزاً على إرث الرعاة، مع تشذيب المناطق المتطرفة منه؛ وإنهاضه، وفي مناخ التكون الاجتماعي التأسيسي ذاك كانت مسألة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية مفتوحة، بين الماضي المشاعي المنهار، وعبودية خاصة، أي عبودية قائمة على استخدام العبيد الخاص، وليس العبودية الفرعونية القائمة على عبودية شعب باسره، لأن ظروف العرب الرحل رفضت ذلك.

وفي الإسلام الأول حدثت عمليات إقطاع، أي توزيع ملكيات أرض على المقاتلين المسلمين بعد انتصاراتهم على الوثنيين، ولكن هذا الإقطاع ليس هو الإقطاع المقصود لاحقاً، فهو إقطاع خاص، وهو أشبه بتبديل ملكيات خاصة.

ومن هنا تشكل التوزيع الإسلامي الأول للثروة، والذي يمكن أن نسميه التوزيع القرآني للثروة المُصادرة، حسب الآية من سورة الأنفال، ورغم ان الدولة الإسلامية الناشئة هي التي تقوم به، إلا أن الدولة ذاتها لا تملك ملكية عامة. كما أن أكبر أجهزة الدولة وهو الجيش قائم على التطوع، والأجرة ليست سوى الغنيمة التي تُؤخذ بعد الانتصار في المعارك، أما بقية أجهزة الدولة: السجون، والشرطة، المراكز الإقليمية للأجهزة فلم تر النور بعد.

لهذا فإن الدولة لم تتكون إلا بشكل جنيني، وأدت عمليات إعادة توزيع الثروات، وارتفاع مكانة الصحابة الفقراء والقبائل المسلمة المعدمة إلى مخاض اجتماعي مفتوح لعدة احتمالات تاريخية.

ومع عمليات الفتوح والانتقال إلى المناطق الزراعية الشمالية وانهيار الأنظمة العبودية الُمعمّمة، وصعود مكانة القبائل الرعوية العربية، أخذت قوى الأشراف الحجازية في الصعود الاجتماعي والسياسي مجدداً بعد سقوطها كملأ مهيمن فى نهاية المرحلة الوثنية.

ونستطيع أن نعتبر حروب الردة الحادة التي شُنت على القبائل المرتدة، وتدفق خيرات البلدان المغزوة، ونمو آلة دولة الخلافة، خاصة قوى الجيش، وتشكل الاستخبارات التي عملت في هذه المرحلة لمراقبة الولاة، وفيما بعد لمراقبة الناس، إن كل هذا قد جعل أفكار المساواة والكفاح الاجتماعي لدى نفر من الصحابة غير قادرة على التجذر في الحياة الاجتماعية التي انقلبت تمام الانقلاب بعد مرحلة الشظف والفقر السابقة.

بل إن هذا النفر لم يكن قادراً على تشكيل آليات سياسية لمجابهة صعود قوى الأشراف المتسلطة، والتي كانت ذات خبرات كبيرة في معرفة الأمم المجاورة وطرق التعامل معها، وقد كانت متمرسة في أساليب الحياة السياسية والعسكرية المسيطرة، في حين كان ذلك النفر من الصحابة يشكل طرقه (الشعبية) في التعامل مع شعوب البلدان المفتوحة.

وقد تشكلت أغلب المميزات السابقة المذكورة فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، ولكن أهم ما تكون مع ذلك الصعود لقوى الأشراف في الحياة السياسية، هو ظهور الملكية العامة لوسائل الإنتاج تحت الإدارة الإسلامية العربية.

ومن المعروف كيف كانت سمات عدالة التوزيع للثروة المصادرة في عهد عمر بين العرب، وهو أمر بدا له غير متناقض مع تقريبه لمن يسمون بدهاة العرب، وأبناء الأشراف المحنكين، حيث كان يرى الاستفادة منهم فى حكم البلدان المفتوحة، ولكن ذلك ترافق وتشكل مع تكون الملكية العامة للدولة فى القطاع الزراعي، الذي وُضع الأساس للاقطاع.

ان هذه السمات المتضادة، بين عدالة توزيع ثروة للعرب وتشكيل دولة مركزية قوية، كانتا تكملان بعضهما في عهده، أي أن التوزيع على العرب فقط، يفترض مصادرتها من الاقوام الاخرى، وبالتالي كان لا بد من وجود دولة قوية، ولكن وجود الدولة القوية لا بد أن يرتد على العرب أنفسهم فيما بعد. في حين كان ذلك النفر من الصحابة يريد إضعاف الدولة لصالح الناس، وهما نهجان غامضان في هذه المرحلة وسيتبلوران لاحقاً.

إن عمر بن الخطاب وقف طويلاً أمام تشكل القطاع العام الإسلامي في الأرض الزراعية، وتحويل الأراضى الصوافي إلى ملكية عامة للمسلمين، فهذا يخالف التوزيع القرآني للثروة كما بينا سابقا. فالتوزيع القرآني يعتمد على نشر الملكيات الخاصة، ولا يُلحق هذه الأملاك بجهاز الدولة، كما سيفعل عمر فى هذه اللحظة التاريخية الفاصلة والخطيرة، وهذا الأمر يتضح في هذا ألماثور الإسلامى: (روى أبوعبيدة القاسم بن سلام بسنده إلى ابراهيم التيمي وابن الماجشون قال: لما أفتتح المسلمون السواد قالوا لعمر(بن الخطاب): أقسمه بيننا فإنا فتحناه عنوة! فأبى وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف ان قسمته أن تفاسدوا بينكم فى المياه.. ولكنني أحبسه لله وللمسلمين. قال أبوعبيدة: أراه أراد أن تكون فيئاً للمسلمين ما تناسلوا يرثه قرن بعد قرن..).

ان هذه المخاطبة الجماهيرية من المقاتلين لعمر بضرورة توزيع الأرض العامة على المقاتلين، كانت تؤكد وجود تغيير جوهري فى طبيعة العلاقات الاقتصادية من قبل الخليفة، الذي أراد أن تكون الأرض الزراعية (الصوافى) ملكاً عاماً، وليس للمقاتلين فحسب، وهذا ما سيسمى لاحقاً بالفيء الإسلامى.

لقد تكون هنا المستوى الاقتصادي العام للاقطاع، أي تمت استعادة طريقة الدول المشرقية القدمة فى وضع الأملاك الزراعية الكبرى فى يد الدولة، التي هى ملكية خاصة للأسر الأرستقراطية، ولكن عمر أخضع التوزيع لحاجات الجمهور العربي. ومن جهة أخرى حين قرّب أفراد النخبة الحجازية التى كانت تدير الدول بكفاءة، خوفاً من عمر وتحسباً للمسقبل،

فقد تم وضع الأساس لتشكل الإقطاع الاقتصادي العام.

اذن ظهرت أملاكٌ كبرى عامة تخضع للدولة الإسلامية وإدارتها، ولنطالع هنا ما هو مضمروليس ظاهرا فحسب، أي أن الإقطاع الاقتصادي العام الموجه لصالح العرب المسلمين عامة، كان يشكل بداية لنقيضه، وهو الإقطاع الموجه لفائدة الأسر الخاصة. من حيث ان توزيع الفائض الاقتصادي الموضوع في يد الدولة وإدارتها، يظل توزيعاً، وليس إنتاجاً، أي أن الأرض الزراعية والعلاقات الإنتاجية فيها، ستبقى كما كانت سابقاً، من حيث وجود دولة متعالية مستغلة تجبي الخراج أو الفائض لمصلحة أسر عليا، وإذا كان التوزيع يجري الأن فى عهد عمر وعلي بن أبي طالب لاحقاً بشكل عادل للعرب، فهو يتعلق فقط بالفائض وتوزيعه وليس في اعادة تشكيل علاقات الإنتاج.

أي أن عمر لو قام بتوزيع الأرض على المقاتلين وتحولت إلى ملكيات خاصة، فسيكون التغيير قد وصل إلى علاقات الإنتاج، وبالتالي ستبقى الدولة إدارة سياسية وليس ادارة اقتصادية كذلك. أي سوف يتكسر طابعها الشمولي.

ان وضع الأساس الاقتصادي للدولة الإقطاعية الشمولية سيزداد درجة أخرى فى عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث، فالمضمون الاقتصادي العميق للدولة المسيطرة والذي بدأ سابقاً، أخذ يكتسب فى عهد هذا الخليفة مضموناً سياسياً كذلك، فإدارة الدولة انتقلت تدريجياً من إدارة عامة تشاورية، إلى إدارة أسرية، فآل مروان هيمنوا على بيت مال المسلمين، وبنى سفيان أصبحت لديهم أقوى الاقاليم الإسلامية المفتوحة.

لكن عامة العرب المسلمين لم تزل لديها بعدُ قوىً عسكرية وسياسية مؤثرة، وهو أمر تجلى فيما سُمى بـ(الفتنة الكبرى). حيث حاول العامةُ إعادة تشكيل الدولة الإسلامية الوليدة لصاحهم، لكن عوائل الأشراف الحجازيين انتفضت بأشكال مختلفة ضد هذه العملية السياسية والاجتماعية الخطيرة.

ولم تستطع الفئة التجارية الوسطى المتحالفة مع الفقراء الثائرين فى هذه المرحلة ان تستوعب البرنامج النبوي الذي تشكل فى المرحلة التأسيسية الأولى للإسلام، وتطوره، خاصة في مسألة التوزيع القرآني للثروة، وكان عدم الاستيعاب هذا والتردد، كفيلاً بتفكك أولاً جبهة الحكم ثم تفجر حروبها التي سهلت للأرستقراطية الأموية هذه المرة، العودة ثانية للسلطة وقد اكتملت دوائرها.

مع سيطرة الأمويين على مقاليد السلطة السياسية أمكنهم أن يضعوا أيديهم على الثروة الاقتصادية العامة، أي أن الإقطاع العام صار إقطاعاً أسرياً خاصاً . ولم يحدث ذلك دون مقاومة ضارية من عامة المسلمين، الذين صار ينضم إليهم الموالي والذميون، أي شعوب الإمم المحكومه من قبل العرب.

وتعتبر انتفاضات الخوارج والإمام الحسين بن علي والتوابين وأهل الكوفة جزءا من عمليات الاحتجاج الواسعة على تغيير طابع التوزيع للثروة واحتكار السلطة، لكن الطابع الإقطاعي للملكية العامة والسلطه قد ترسخ في هذا العصر.

وأدى رسوخ هذا الطابع في الميدان الاقتصادي والسياسي إلى انتقاله إلى الميدان الاجتماعي والثقافي.

فعبر سيطرة الأشراف على الثروة العامة، وهو ما كان يناقض الأحلام الشعبية بالمساواة، والإرث النبوي والراشدي، أخذ الأمويون يرتكزون على الإرث الرعوي الأرستقراطي وتكريسه, فاحيوا المظاهر القبلية المتعصبة بشكل شديد، وروجوا لشعر العداوات القبلية بين الفروع العربية المختلفة، وخاصة بين المضريين واليمانيين الخ..

كان الارتكاز على الإرث الرعوي وإفراغ الدورة الإسلامية التأسيسية من مضمونها النهضوي يجريان معاً، لتشكيل بنية اجتماعية ثقافية اقطاعية، ومن هنا كان استنادهم على النصوصية الدينية الُمفرغّة من تلك المضامين النهضوية التحولية.

ونظراً لتنامي الثروات لدى هذه القوى الأرستقراطية، من جلب هائل للرقيق والجواري وسرقة واسعة للأمم، فقد تم التركيز في الآلة الدينية المسيطرة على الأشكال، والعبادات، والوحدة الظاهرية المجردة للمؤمنين والإعلاء التعصبي للقبائل، وغُيبت أساسيات الثورة. لكن الوعي الديني المعارض استمر في الوجود وإبراز جوانب مضمونية جوهرية في الإسلام، ووضع بعض الأئمه أساسيات للاحتهاد والقياس لتطوير النصوص الدينية، وابعادها عن السيطرة الإيديولوجية المطلقة للأمويين.

أي أن الوعي الديني راح ينقسم في هذه المرحلة بشكل فرق وأسر متتفذة، إلا أن الوعي المعارض هذا قبل بالأساسيات العامة لنظام الإقطاع المتكون، حيث لم تقم الفرق المعارضة وهي القدرية والمعتزلة والزيدية في هذه الحقبة، حين وصلت إلى السلطة أو إلى التأثير الثوري الواسع، بتفكيك ملكية الدولة العامة ووقف العبودية الخاصة المتنامية باتساع هائل ووضع حد لعبودية النساء التي تنامت مع تدفق الثروات على الرجال العرب وأرستقراطيات الموالي.

فعلى الرغم من المعارضة الواسعة والضارية أحياناً إلا أن الفرق غدت جزءا من تكوين الإقطاع.

ولدينا هنا شكلان من المعارضة وهي معارضة أسر الأشراف وأهمها المعارضة الشيعية، وتنويعاتها والتي هي بداهة مع نظام إقطاعي بديل عن الراهن تكون هي على رأسه، وكذلك الخوارج الذين قادتهم نصوصيتهم الحرفية إلى إقطاع آخر، في المناطق الصحراوية التي خضعت لحكمهم.

وهناك المعارضة التى تشكلت من الفئات الوسطى المدنية التي قامت على القبول بالنظام الإقطاعي وسلطته، نظراً لالتحاقها بخدمته أو تشكلت بفيض تدفق ماله، وهذه هي المعارضة التي ستشكل الأنواع الأدبية والفكرية المتعددة، التي ستعيش في الفضاء السياسي والفكري للنظام الإقطاعي، وستمتد من المطابقة التامة مع النظام الاجتماعي إلى طرح أشكال الإصلاح المحدودة داخله. وسواء كان ذلك من المذاهب السنية القياسية الاجتهادية أو من المذاهب غير الاجتهادية، إلى التيارات الصوفية المضادة للعقل، إلى التيارات الفكرية (العقلية) الخ..

إن كل التشكيلات الفكرية والأدبية هي خاضعة للمدينة التي يحكمها الإقطاع السياسي العربي ثم اللاعربي.

إذا كان الإقطاع قد تمكن من المستوى السياسي للنظام الاجتماعي بعد أن سيطر على البناء الاقتصادي، فلا بد أن نعرف كيف سيطر في المستوى الاجتماعى. لقد قامت حركة العرب التاريخية على نشاط القبائل، والجانب المفيد أن هذه القبائل الحرة قد تمكنت من دك أنظمة العبودية العامة المتكلسة القديمة، إلا أن الجانب السلبي أنها نقلت تراثها الرعوي الاجتماعى والثقافى وقامت بجعله مطلقاً. وهذا قد بدأ بالأشكال الاجتماعية الأسرية؛ عبر جعل القبيلة هي أساس التكوين المدني، حيث تقسم الأحياء السكنية حسب أفخاذ القبائل، وتتشكل السلطة المدنية من زعماء الشيوخ القبليين، وهوالأمر الذي قاد إلى هيمنتهم على أجواء المدن الإسلامية المبكرة. ويقوم شيوخ القبائل المدنيين بنقل السلطة الإقطاعية من مستواها السياسي إلى مستواها الاجتماعي، عبر منع أي مظاهر للحرية الاجتماعية، وعبر الولاء للخلفاء، وإلحاق المدن بسلطتهم المطلقة، سواء كانت سياسية أو دينية أو إيديولوجية. هكذا تغدو المدن والأحياء جزءا من النسيج الإقطاعي، إلا أن المدن قابلة للتطور التحديثي النسبي، عبر انتشار التجارة والحرف والثقافة والاجتماع، ولهذا فإن القبيلة كتكوين اسري واسع لا تصمد للزمن، بل هي تتفكك، وتقترب من التحول إلى طبقات، حيث يحدث الفرز الاجتماعي بين الشيوخ المهيمنين على القبيلة والمرتبطين بالسلطة، وبين جمهورها الواسع. ولكن ذوبان القبيلة المطلق لا يتحقق لكون المدينة تعيش دائماً على السلطة الإقطاعية المهيمنة وعلى الرفد الصحراوي والرعوي المستمر عبر الزمن، إلا أن الجانب الأكبر من نفوذ الإقطاع القبلي الاجتماعي، يتحقق عبر الأسرة الأبوية، فهذه الخلية الدنيا من القبيلة تقوم بالاحتفاظ بموروثاتها القرابية والاجتماعية والفكرية، عبر هيمنة الأب الذي يغدو وجهاً للسلطة النكورية المطلقة، وعبر تنحية النساء من النشاط الاجتماعي والسياسي، وعبر إعادة ضخ الوعي الديني المشكل حسب هيمنة السلطة. تغدوالمدينة الإسلامية المشكلة بسيطرة القوة السياسية والعسكرية، تعيد إنتاج ذاتها عبر التاريخ، سواء عبر الرفد المستمر من القوى الرعوية: الأتراك، والأكراد، وعرب الجزيرة، والأمازيغ (البربر) والألبان الخ..، وفي العصر الحديث عبر الجيوش والقوى العسكرية البدوية والقروية، أي أن القوة العسكرية السياسية تتحكم في الإنتهاج العام الزراعي، الذي يغدو في العصر الراهن الملكية العامة للمعادن والبترول والفوسفات الخ..، وهكذا فإن الفرق المعارضة للعصرين الأموي والعباسي تقوم على معارضة الأسر والجماعات المتحكمة في النظام الإقطاعي لا معارضة النظام الإقطاعي نفسه، فهي جزء من نسيج هذا النظام وهي تقوم بإعادة إنتاج له، من مواقعها الجغرافية والسكانية والفقهية المختلفة، فتضخ الحياة المؤقتة في عظامه المتيبسان بشكل متلاحق، فالإسماعيليون والمعتزلة والإثناعشرية والقرامطة الخ..

يعيدون تشكيل الأنظمة الإقطاعية في عملهم ومناطقهم وإرثهم. إن القوى المعارضة تغدورقوى سياسية إقطاعية، لكونها لا تعمل لتغيير النظام الإقطاعي، بل على الوصول للسلطة فيه، وبالتالي تقوم باستثمار آلياته لمصالح لأسر المسيطرة. وحين كان الإقطاع العام مركزياً اي موجهاً من قبل عاصمة ما، المدينة، الكوفة، بغداد، قرطبة، كان الوعي الديني عاماً، ومع دخول الذميين في الإسلام وتحولهم إلى معارضات وطنية و(قومية) مضمرة، راح الوعي الديني الإقطاعي ينمو في اتجاهين، اتجاه مع السلطة العامة المسيطرة، واتجاه مع المعارضات الإقليمية المتعددة.

في الاتجاه الأول العروبى الُمضمر والقبلي وذي الإرث الصحراوي الأكبر، والذي أخذ يرتبط أكثر فأكثر مع الدولة المركزية أولاً ثم الدول الإقليمية، التي قمعت أشكاله القياسية المتحررة والناقدة، وحولته إلى أشكال دينية تابعة لها، وهو ما مثل المذاهب السنية المختلفة، وغدا مضمونه في الحفاظ على النصوصية على درجات دون إنجازات الثورات المتحققة. والاتجاه الثاني الأممي المضمر، والذي تداخل والإرث الديني القديم لشعوب المشرق الزراعي، ومثلته الإماميات المختلفة، والمسيحية العربية. ولكن كافة الاتجاهات لم تتجذر في البادية أو الزراعة، لأنها عكست القوى السياسية المسيطرة في هذه التكوينات الاجتماعية والبشرية، ولهذا ليس ثمة سوى خلافات نصوصية وحفريات قديمة، حيث إن كافة القوى السياسية المذهبية لم تنسلخ من النظام الإقطاعي.

لقد شكل الإقطاع العام المركزي لامذهبية، ولكن الإقطاع اللامركزي والمتفتت، شكل الإقطاع المذهبي الذي نعيشه حتى اليوم.

إن الأمر يعود لأسلوب الأنتاج الذي تحكم في حركة التاريخ العربية حين خرج العرب من صحرائهم ليس لديهم تشكيلة اقتصادية واجتماعية محددة، وكان التاريخ العالمي يتوجه نحو المنظومة الإقطاعية، كما فعل أقران العرب القبليين في جرمانيا والذين غزوا روما العبودية ونقلوا القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية إلى عصر الإقطاع. وتكفل العربُ بنقل القسم الشرقي منها إلى ذات المنظومة.

إن أساليب الإنتاج في العالم الشرقي عامة والوطن العربي خاصة تنمو بشكل خاص، ولم تنفع أساليب المطابقة التي حاول البعض إجراءها مع أوربا في الحصول على نتائج فكرية وسياسيه خصبة.

وهذا لا يتعلق بالتشكيلات الكبرى للبشرية فهي واحدة، ولكن أشكال التطبيق القارية والقومية هي أشكال خاصة، والخصوصية تتعلق بالسمات الأولى المترسخة والتي تتمظهر بعدئذٍ في الأشكال الإنتاجية البشرية المشتركة.

وأهم خصوصية هي تدخل الدولة وتناسجها مع أسلوب الإنتاج؛ سواء كان في العبودية أم الإقطاع. ويبدو إن الرأسمالية العربية لن تكون بعيدة عن ذلك.

إلا أن ملكية الدولة العامة غالباً ما شكلت ضباباً فكرياً للباحثين، ولهذا فإن ملكية الدولة في عهد الخلفاء الراشدين اعتبرها بعض الكتاب [ اشتراكية ] أو كما فعل آخرون تجاه الملكية العامة للقرامطة فاعتبروها (شيوعية!)، وهكذا فإن ملكية الدولة العامة الراهنة في الدول العربية اعتبرها البعض تحولاً إلى الرأسمالية.

ولكن أثبتت الملكية العامة للدول العربية بأنها لا تشكل رأسمالية، بل تعيد إنتاج العلاقات الإقطاعية، ورأسمالية الدولة كما جرت في الاتحاد السوفيتي وكما تجري في الصين حاليا ليست لتحقيق الاشتراكية بل لتجاوز الإقطاع، ولكن لأنها دول شرقية، والدولة المالكة للإنتاج هي إرث تاريخي فيها، فقد التبس المضمون التاريخي التحولي فيها، حتى على المشاركين في التجربة، لكن التغيرات العاصفة فيها بينت المضمون الحقيقي للتحول.

لكن رأسمالية الدولة القومية في الصين وروسيا تمكنتا من إنجازمهام التحول من الإقطاع، وهذا بخلاف العالم العربي. فرأسمالية الدولة الوطنية هنا لديمومة الإقطاع وليس لتجاوزه. وهذا هو الالتباس الفكري التاريخي لدى العرب كما حدث للالتباس الروسي بشان تحولهم إلى الاشتراكية، في حين كانوا يحققون انتقالاً للرأسمالية بشروط هيمنة الدولة البيروقراطية.

إذن نحن في سيرورة الإقطاع المذهبي كما تشكل تاريخياً، أي أن الأقاليم العربية التي تتفتت تحولت إلى دول إقطاعية مذهبية، وإقطاعية مذهبية بمعنى أنها عاجزة عن أن تكون إسلامية عامة، مما يولد الصراعات المذهبية وعنفها. وهي لن تتحول إلى إسلامية عامة إلا بالعلمانية وهذه شروطها الديمقراطية. أي يعني بأن تخرج من أسلوب الإنتاج الإقطاعي، وتفكك العلاقة بين الحكم والثروة، بين المذهب والسيطرة السياسية والاقتصادية.

أما رأسمالية الدولة فتحددها هنا كيفية إدارة الدولة، أي كيف يتوجه الخراج الجديد، لإعادة إنتاج بسيطة وتجديديه محدودة أم للخروج من أسلوب الإنتاج العتيق؟

ولكن الذي يحدث حاليا ان الخراج الجديد يتوجه لإعادة إنتاج النظام الإقطاعي المذهبي، مما يعني المزيد من النمو والصراع بين الحركات الإقطاعية المذهبية المختلفة، وهي التي لها بنية ايديولوجية لها مقاييسها المضادة للعصر والحداثة. فمسألة الاعتدال والتطرف هنا نسبية، فهي تنطلق من معايير ناتجة من القرون الوسطى، من عصر الإقطاع الديني التي لا تعرف مسائل القانون الدولي وحقوق الإنسان الحديثة، ولا الوطن والدولة الحديثة اللادينية، التي هي تابعة لمعايير العصر البرجوازي الحديث. ولهذا فإن الفروق بين الدول والحركات والتصورات الإقطاعية المذهبية هي كمية وليست نوعية.

أي أن الأمر يتطلب التحول إلى تشكيلة جديدة هي تشكيلة العصر الرأسمالي بكافة معاييرها، وهو أمر يتطلب نضالاً سياسياً و فكرياً قوياً تحديثياً شاملاً لفك الارتباط مع النظام الإقطاعي المذهبي وحركاته وتصوراته.

الوعي الديني والبنية الاجتماعية

 لقد نما الإسلام عبر التضاريس الطبيعية والاجتماعية المتداخلة المركبة، وقد رأينا كيف كان الطابع معقداً ومتضاداً عبر تأثير الرعاة والصحراء على المدن ونموها، ولأن هذه المدن تتشكل بقيادة الطبقة المسيطرة، وليست باعتبارها سوقاً، حيث يأتي السوق كمُلحق وليس كقوة قائدة، فقد قام الأشراف بتراثهم الرعوي والمحافظ  بتثبيت هذه الأسس الاجتماعية والفكرية للماضي، مع استلال مضمونه الكفاحي، أو جعله أشكالاً أو عادات مُفرغة من المضمون التقدمي.

فالقبيلة والأسرة الأبوية التي كانت نمطاً اجتماعياً مهيمناً في البداوة تم سحبها إلى فضاء المدينة الاجتماعي، وغدت أفخاذ هذه القبائل تغدو أحياءً، وبالتالي كان هناك قواعد مادية بشرية واقتصادية لإعادة إنتاج الموروث البدوي. ونجد ذلك من الكوفة في عصر عمر بن الخطاب حتى مدينة المحرق البحرينية في القرن العشرين.

إن الإقطاع السياسي الحاكم يتحول على مستوى الحياة الاجتماعية إلى إقطاع أسري أبوي، وكذلك إلى عبودية إذا كان ثمة علاقات رق، أو استخدام للخدم العبيد والجواري.

وبطبيعة الحال، فإن المدينة المقامة بإرادة سلطوية، تقوم بتنمية التجارة والصرافة الخ، وتتحدد العمليات المالية هنا بمدى موارد السلطة وكيفيات الصرف. وهذا من جانب معين يقوم بتفكيك الإقطاع الأسري، عبر تطور وعي هذه الأسر، لكنه لا يقضي على الإقطاع الُمرحّل من العصر البدوي الذكوري القبلي السابق، إلى المدن، ويتوقف الأمر هنا على الموارد التي تدخل السوق والحرف وما إذا كانت تتجه للتوسع الخ..

فالمدينة ليست مدينة برجوازية بل مدينة إقطاعية، تنشأ فيها قطاعات رأسمالية محدودة ومرتبطة بالسلطة أو بحاجات الناس البسيطة. ولهذا لا تستطيع أن تغدو مدينة برجوازية إلا عبر تغيير السلطة.

لكن القبائل أو الأفخاذ وقد غدت مؤسسة حاكمة، تتمركز فيها السلطة والثروة،   تقوم بتأبيد التراث الذي ارتكزت عليه في الحكم، وهنا يمكن أن نرى عدة مراحل لعلمية التثبيت تلك، فالزمن الراشدي الأموي العباسي يثبت الأسر القرشية بإرثها العربي، وهنا كانت عملية استعادة الإرث العربي الإسلامي ذات صياغة عربية بدوية تحديثية، دون أن تتخلى عن الأسس الاجتماعية القبلية والذكورية والأرستقراطية، أي أن المدن أصبحت مضارب جديدة عبر هيمنة شيخ القبيلة الذي صار خليفة، وهذا الجانب الأساسي لن يتم التخلي عنه في أية تطورات متنامية، أي أن الإقطاع السياسي الحاكم، يكرس مستوى اجتماعياً ملائماً لقيادته. وهذا المستوى الاجتماعي من البُنية هو الذي يقوم الدين بتشكيله.الدين الذي سُحبت منه المواقف الأساسية في الثورة التأسيسية: التوجه نحو التحديث، وتحالف التجار والقوى العاملة، وتغيير التاريخ بالارتكاز على تطور حياة الجمهور المعيشية.

ولكن لأن الصراعات السياسية والفكرية تجري في المستوى السياسي فإن المستوى الاجتماعي يتكرس من كل الفرقاء المتصارعين السياسيين.أي أن تعدد الزوجات وعقوبات العنف واستخدام العبيد والحجر على النساء وتبعية الوعي والثقافة للقصور الحاكمة الخ.. إن هذا المستوى الاجتماعي لن يكون محط خلاف بين الفرق الدينية، التي أخذت تتحول إلى مذاهب بدءً من القرن الثاني الهجري.

فالتحول إلى مذاهب لم يكن يصب في إعادة تشكيل هذه المستويات الاجتماعية المتحجرة، لأن المسيطرين على إنتاج المذاهب انفصلوا عن العاملين، وغدت لهم مصلحة مشتركة في الإبقاء على تخلف وتبعية المنتجين. ومن هنا نرى تضادهم مع مضمون الثورة الإسلامية التأسيسية، ولهذا يركزون على الشكل لدرجة التعصب والعنف.

ولهذا فإن خلافات المذهبيين تغدو شكليةً أكثر فأكثر، مثل كيفية الوضؤ، أو الوقوف في الصلاة، وإذا كان المستوى الإيديولوجي يبدو متضاداً، عبر الاستناد على النص المستقل عن الأئمة أو الموروث عنهم، فإن هذا المستوى الفكري يتحول هو الآخر إلى أشكال مُفرغّة من بحث القضايا الجوهرية للتحول مثل الملكية العامة والخراج والاستغلال الخ..

وهكذا فإن الإقطاع السياسي وقد أسس الدولة المركزية، أو الذي انفصل عنها، فإنه يقوم لا بتكريس حكمه السياسي فحسب، بل بتكريس المستوى الاجتماعي، التقليدي، الذي تهدف ديمومته إلى إعادة إنتاج الطاعة لدى الجمهور المستلب الإرادة.

ويلعب الوعي دور الوساطة بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي، فالمثقفون الذين ينتجون الوعي والمرتبطون بالأشراف وخدمتهم، يصوغون المبادئ الدينية ويحيلونها إلى أشكال، أي يقومون بنزع وظيفتها التحويلية الأولى، ومواقفها الموجهة ضد الملكية الاستغلالية، ويركزونها على العبادات والمعاملات والعقيدة، ومن ثم تزداد بُعداً حتى عن هذا المستوى، أي تتحول إلى محض عبادات وتستوعب أكثر فأكثر المراحل السابقة للدين كالسحر والخرافة القديمة. [راجع هنا حديث أبن الماجشون عن قرار عمر بن الخطاب بجعل ملكية الأراضي الخراجية المفتوحة ملكاً لعامة المسلمين.]

وبطبيعة الحال فإن صياغات المثقفين لمستويات الوعي الدينية في كل مرحلة تختلف، لكونها مرتبطة بمدى قوة الدولة وطابعها وكيفية توزيعها لثمار العمل، ولكن إذا حللنا هذه الصياغات بدءً من نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث فنجد ما قلناه سابقاً من بروز التمذهب  الذي كرس البنية الإقطاعية بمستوييها السياسي والاجتماعي. وكان دور المثقفين المذهبيين المتعددين هو تكريس هذا الاختلاف عبر الأشكال الدينية التي تناسب بدلات القوى المسيطرة المتعددة الألوان..

ولهذا سيختلفون حول كيفية الصلوات وعدد الكواكب والنجوم والأرواح التي تهيمن على الفضاء الروحي، ولكن سيتفقون على استغلال العبيد والنساء.

وتغدو الاختلافات بين المجموعات الإقطاعية السياسية والدينية منصبة على الأشكال، وهي تحولها إلى أدوات للحكم أو لمعارضة الحكم ولكن ليس لتغيير أوضاع الجمهور.

إن هذا يستنزف البشر والنص الديني معاً، فالمدينة الإقطاعية الدينية وهي تدمر الريف والبادية بشكل مستمر، باستغلالهما وتفتيتهما، تقوم بتدمير نفسها أيضاً، بتوجه السلطات البذخية فيها، فلا تنهض الصناعة، ولا تلتحم بالعلوم، وتغدو قوة المدينة الاقتصادية مركزة على التجارة والإنشاء اللذين يصبان في البذخ، مما يجعل المدينة على مرور الوقت تنهار من الداخل وتفقد سيطرتها على الخارج.

فالتضخم المتواصل في عدد سكانها، والذي يكون من التوالد غير الطبيعي في العائلات الأرستقراطية، والذي يتكون بسبب الشهوات والفراغ، أو بسبب النزوح المستمر من الريف والبادية، أو بسبب تكوين فرق الارتزاق العسكري، أو بسبب التضخم السكاني المستمر في القرية والصحراء والذي يتشكل لأسباب إنتاجية ولمواجهة قسوة الطبيعة وتخلف الإنتاج وهيمنة الرجال كذلك.

إن النص الديني الموجه عبر هيمنة مثقفي الأشراف وخدمهم الفكريين، يضمرُ على مستوى المضمون، لفقدان الركائز الاجتماعية التي تغذيه بالحياة، فبدلاً من التحالف بين التجار المكيين والعبيد والفقراء، كما كان الإسلام في ثورته الأولى ، يتبدل إلى خضوع التجار للأرستقراطيات اللاهية، وبالتالي يغدو الهجوم على الملأ المكي القديم هجوماً شخصياً أو إيمانياً محضاً مقطوع الجذور بدلالاته الاجتماعية، أو أن التحالف الكفاحي بين التجار والعبيد والفقراء كما كان سابقاً والذين غدوا جميعاً صحابة ثورية، يصير الآن في العصر العباسي الأول وما يليه، تبعية تجار للقصور، أو استغلال نهم للفقراء.

وفي حين كان الإسلام الأول يعتمد على تغيير التاريخ من خلال مصلحة الجمهور ومشاركته، بغض النظر عن المستوى الذي تجلى فيه ذلك الاستخدام والتغيير، فإن المذاهب والفرق الدينية تقوم على تجميد التاريخ واستغلال الجمهور لمصالح شخصية ومن أجل الوثوب إلى الحكم الذي يعيد إنتاج التخلف.

إن هذا يؤدي إلى غربة النص عن مضمونه، أي عن الظاهرات التحويلية الشعبية التي تشكل في مجراها، فيزداد النص تركيزاً على أشكاله الخارجية، ويعادي أكثر فأكثر عمليات التحويل الحديث و(العدالة).

ومن هنا كانت مسيرة فرق المعارضة الدينية المتوجهة لقراءة النص كنص غيبي، تتدهور بشكل مستمر، فالقدرية تضمحل، والمعتزلة تُضرب فتتحول إلى شخوص تابعة للسلطة المستغلة، والزيدية تغدو نائية وموجهة لحكم  الأشراف في المناطق البعيدة كاليمن والمغرب وشمال إيران، والإماميات تتحول إلى معارضة ساكنة متوارية، عبر بدايات الإثنا عشرية، أو معارضة متنامية تصل للسلطة في القرن الثالث الهجري عبر الإسماعيلية، ولكن هذه القيادة والانتصارات فيما بعد تكون من خلال قيادة الأشراف وليس التجار، وكذلك يتم استغلال الفقراء ولا يقوم التحالف الثوري معهم، وتصير العمليات برمتها وثوباً للسلطة من أجل هذه العائلات وترفها.

وهذا ما يجعل النص الديني مستمراً في غربته عن مضمونه، فيتفكك، أي يتحول إلى مذاهب.أي إلى تفسيرات تائهة في أشكاله وحروفه المقطوعة الصلة بجذوره.

التحول إلى مذاهب تعني إن ثمة حقائق متعارضة في الدين، أي أن هناك حقيقة دينية، وهناك محاولة قوية أو محاولات للقضاء على هذه الحقيقة الدينية، التي تعنى لدى المثقفين أو الجمهور العدالة والسعادة في الدارين.

إن أساس الانقسام في الوعي الديني ناتج عن انقسام اجتماعي في صفوف المؤمنين، فهناك أقسام غدت مُلتحقة أو تابعة للسلطة، وهناك أقسام تجد نفسها مستغلة بشكل أساسي وبالتالي تصطف في المعارضة.إن القسم الأول ينطبق على الرعاة الذين شكلوا وهيمنوا على المدن وصاروا جنوداً وإدارات ثم عامة موالية أو ثائرة على السلطة، ثم رُفدوا بالعوام العسكر الترك والأكراد الخ، فغدوا هم التربة الاجتماعية للمذاهب السنية. والتكوين الرعوي الواسع وقوة المدن والسلطات المنبثقة عنها، هي ما جعلت لهذه المذاهب السيادة الكبيرة على المنطقة المشرقية من العالم الإسلامي، في حين كانت له السيادة المطلقة في الإقليم الغربي، نظراً لتجذر الطابع الرعوي فيه.

 إن القسم الزراعي الذي واجه هؤلاء الرعاة وادغم معهم أو صارعهم، تحمل عبء الاستغلال الأكبر، ونظراً لذلك أخذ هذا القسم بالمذاهب المعارضة، في مخاض معقد (قومي) واجتماعي وثقافي فداخله قوس من المذاهب الإمامية والمسيحية. وتداخل المذاهب الإمامية بالمذاهب المسيحية والإرث القديم أنتج العديد من الظواهر المشتركة.

وبطبيعة الحال يغدو القانون الاجتماعي هو هو، سواء على المستوى المركزي حين انتقل العرب إلى الإمبراطورية، أو في أزمنة التفكك، ففضاء مكة والجزيرة العربية الاجتماعي الذي لم يشكله الحكم الاستبدادي، هو غير المشرق الزراعي الشمالي المشكل على أساس العبودية العامة منذ فجر التاريخ.

إن كل قسم في الوعي الديني يقول إن الحقيقة الدينية معه، ولكن كما رأينا فإن النص الديني يُفرغ باستمرار من محتواه، وتنتقل هذه العملية التفريغية إلى المذاهب، فتغدو الاختلافات ليس من أجل الوصول إلى المضمون الثوري المُضيّع، بل إلى الاختلاف حول الأشكال المتباينة.

وبطبيعة الحال تمتلك الأديان آلية لمواجهة عدم تحقق الوعود الاجتماعية الدنيوية بالإحالة على الغيب، أو بروز عقبات شيطانية الخ..

وتزداد هذه العملية تعقيداً وشكلانية مع ازدياد الاختلافات، وتزداد عملياً الغربات الدينية المختلفة، وهذا ما يفتح مجالاً للمعرفة الحدسية، بعد أن فشلت أدوات النصوص الحرفية في اكتشاف مضمون العقيدة التحويلي.

وهنا تبدأ مرحلة مفارقة لمرحلة الاعتماد على النصوصية، التي أنتجت عقلاً دينياً تابعاً لها، بأشكال مختلفة، عبر كل المذاهب السابقة، أي تبدأ المرحلة الصوفية والفلسفية في الوعي الديني.وتقوم الصوفية على إنكار سياق النص، علىإنه ظاهر، وبالتالي فإن الحقيقة لا تكمن في الظاهر، بل في الباطن، ولكن هذا الباطن لا تجسده الصوفية نضالاً اجتماعياً، وتحالفاً أساسياً بين التجار والفقراء، بين الطبقة الوسطى والمنتجين، تجاوزاً للبنية الإقطاعية، بل تقيم دكتاتورية غيبية للقطب على المريدين، وتصبح هذه الدكتاتورية شديدة التنوع والتشظي بفعل الشطحات والمجاهدات الداخلية الغامضة للأقطاب، ويذكرنا هذا بتشظيات الخوارج، وإن كان بصورة مضادة.

أما المذاهب الفلسفية الدينية فأكثر تعقيداً، وقد أتاح القسم [العقلاني] منها إمكانية قراءة الطبيعة والمجتمع قراءة موضوعية بأدوات الزمن، لكن غيبيته في القسم الميتافيزيقي، تتشارك مع المذاهب الدينية الأخرى وخاصة الإمامية منها.ولكن لأن الفلسفة الدينية غدت مقطوعة التحليل بالسياق الاجتماعي التاريخي، وارتبطت بالتبعية لشرائح من طبقات الأشراف المختلفة، فقد أصابها ما أصاب الحركات المعارضة التي تجمدت عند هذا الأفق نفسه، كالقرامطة والإسماعيلية والدروز والزيدية الخ..

وبطبيعة الحال، كان كل هذا يشتغل في فضاء نظام إقطاعي زراعي حرفي بسيط، كانت إمكانيات التجاوز التقني والصناعي والعلمي، معدومة فيه.

إن اعتماد قسم من النص الديني على امتداده النصوصي، باعتبار إن هذا الامتداد النصوصي يقوده إلى النص المنبع القادم من النور الغيبي، يغدو بالنسبة إليه شرط الحقيقة الدينية، بغض النظر عن ملاءمتها للعصر أو تناقضها مع العقل أو أهميتها للتطور.

إن النص في هذه الحالة يغدو رجوعياً باستمرار، ولكن ليس إلى جوهر العملية الثورية الإسلامية الأولى، وهنا تحدث غربتان على مستوى الماضي وعلى مستوى الحاضر.

فهو يغدو غريباً تجاه الماضي، فلا يفهم سببيات الثورة الإسلامية وشروطها، أي عمليات تفاعلها الاجتماعية والسياسية والعسكرية مع الجمهور، ليس لشيء سوى لموقفه المحافظ وتبعيته لقوى القهر والاستغلال في زمنه، ولهذا يقوم بإعادة النص المفرغ من دلالاته الثورية إلى زمنه، لكي يمنع اكتشاف هذا المضمون.

تتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، فتزداد عمليات التدمير الذاتي والشكلانية النصوصية والشطحات والخرافات، أو النصوصية الحرفية الميتة الخ..

إن شروط التغيير وهي تحويل نظام الملكية العامة التابعة لأسر الأشراف، وتحرير الفلاحين والمرأة والعبيد، كانت هي أساس وجود هذه الأنظمة والتيارات، وبالتالي كانت إمكانية تشكل ثورة ديمقراطية معدومة، وكان وجود طبقة برجوازية حرة صناعية مستحيلاً، فراح العالم الإقطاعي الديني يعيد إنتاج نفسه على نحو تفتتي ومأساوي بشكل مستمر، حتى جاء الأتراك والصفويون وأقاموا نظامي الإقطاع المذهبيين الشاملين بنفس الأسس القديمة حتى العصر الحديث.

علامات في الوعي الحديث

للعقل العربي الحديث قصةُ تكونٍ، ونسميه عقلاً، بهذا التجريد، لأنه أراد أن يكون بهذه الصفة، وصفة العقل تعني بأنه يستخدم السببية في قراءة الظواهر، فالعقل هنا منهج في فحص الأشياء واكتشاف قوانينها.

وهذا الاستيرادُ من الغرب لكلمة العقل، وطرق استخدامها، هو جزء من مناهج الفئات الوسطى العربية وهي تستعير من قاموس قريناتها الغربية، أدوات لمماثلة تجربتها وتحقيق سياق نهضوي مشابه.

وقد عبر ديكارت في بدء العصر الحديث عن منهجية العقل هذه قائلاً :

[أنا أفكر إذن أنا موجود].

وإذا قمنا بقراءة لهذه الأنا، فهي ليست أنا فردية محضة، بل أنا المثقف الفرنسي في بدء الحداثة، وهو يحاول أن يجد سياقاً مبرراً لتطور الوعي خارج الدين، فالوعي البرجوازي هنا يتشكل بين عالم العصر الوسيط الغارب، والعصر الحديث الذي لم يتشكل كلياً بعدُ. ونحن سنأخذ وعي ديكارت في هذا الفصل كوعي اجتماعي عام مؤجلين رؤية تفاصيل هذا الوعي عبر تداخله لاحقاً مع تطور الوعي العربي وهو يخرج من مرحلته الأدبية إلى مرحلته الفلسفية، حيث ذاك تكون المقارنات داخلية معبرة عن أبنية فلسفية عبر العصور ولكن هنا لا نزال في الأفق العربي الثقافي الأدبي عموماً. فهنا ديكارت مجرد أداة معرفية هي الشك.

وعيُ ديكارت يقول أنا أفكر معرفياً خارج الدين، إذن أنا كفكر حديث موجود، ولكن تفكيري يخرج من [الأنا]، من هذه الطبقة الحديثة الفردية، التي لم تعلن بعد العلمانية الكلية، ولا تزال بعدُ بين الدين والحداثة، بين وعي العصور الوسطى العقلي، ووعي الحداثة العقلي الجديد، .

إنه عقلٌ حديث لا يرفض كلياً العقل الديني القديم، ومن هنا يكون دليل ظهور تفكيره وجود الله، ولهذا يقول لو لم يكن الله موجوداً لم أستطع أن أفكر، فلأنني أفكر فمعنى هذا إن الله موجود.

إن عقل الحداثة البرجوازي وهو يسوق فرديته، لا ينسلخ هنا من البنية الاجتماعية الإقطاعية التي لا تزال مهيمنة، في النظام الملكي وفي سلطة الكنيسة الكبيرة، ولكون عقل الحداثة البرجوازي الفرنسي هذا لم يصبح بعد عملاقاً، كما سيجري الحال في القرون التالية بعد القرن السابع عشر هذا، بعد تراكم مشروعاته، فإنه يستمد شرعيته من الماضي، فأنا ديكارت هي تعبير عن الفئات الوسطى التي لم تصبح بعد طبقةً قائدةً لمشروع الحداثة، أي أن شرائح هذه الطبقة لم تزل بعدُ مبعثرةً، في تكوينات تجارية، وعقارية، وصناعية، ولم تصبح الثورة الصناعية والعلمية قوة لإنتاج الرأسمال الصناعي العملاق.

ولهذا فإن صيغة [أنا أفكر..] تعبر عن العقل النظري، عن عدم تلاقح العقل بالمعمل، عن ضعف التحام الفئات البرجوازية الفرنسية، ومثقفيها، بالإنتاج الصناعي.

أنا أفكر وليس أنا أعمل، أو أصنع، فأنا موجود، أي أنني جنين الطبقة البرجوازية أتشكل عبر هذا الوعي العقلي، معطياً الكنيسة والملكية حصتيهما من المصداقية العقلية، فلهما مشروعية العقل الديني السياسي القديم، ولكنني أنا جنين الطبقة القادمة، لي مشروعية وعيي، واعترف لهما بأساس الوجود الاجتماعي الإيديولوجي.

يعبر العقلُ البرجوازي الفرنسي في ميلادهِ الديكارتي، عن مستواه التقني المحدود، حيث لا تتناسجُ هنا أدواتُ العقل والمعمل، وبينهما هوةٌ سببها مستوى تطور الصناعة الفرنسي المحدود قياساً بجارتها القائدة إنجلترا وزميلتها التابعة هولندا، حيث بدأ المشروع الصناعي الواسع، حيث انتجت إنجلترا [فرنسيس بيكون] لا ديكارت.

بين منهجي الفيلسوفين مستوى التطور الصناعي العلمي المتداخل، فعندما يقول ديكارت أنا أفكر، يقصد تفكيره المستقل في المكتب، ورؤيته الفردية، الباحثة عن الأسباب في ظواهر طبيعية واجتماعية مدروسة بشكل نظري عقلي، معزول عن شبكة الطبيعة والمجتمع.

يواصل ديكارت منهجية العقل الباحث السابق في القرون السابقة، ولكنه يفصله عن العقل الديني، وهو لا يفصله ليربطه ب [التجريب] بل بالتحليل والبحث النظري، فتعبر جملة أنا أفكر، أي أنا فكرٌ عقليٌ مستقل عن الدين الذي له منهج مختلف في قراءة الطبيعة، فمنهجي، يقول ديكارت، منهجٌ عقلي مستقل، يبحث في الظواهر بموضوعية، وبلا سببيات مُسبقة، وهو يكتشفها داخلها عبر البحث والتأمل، الذي هو المصداقية الأساسية في العقل.

لكن العقل العربي ( البرجوازي ) لم يبدأ ديكارتياً، بل كانت جملته :

[أنا أستورد.. إذن أنا موجود!].

لم يكن نصيب فرنسيس بيكون المفكر البريطاني وهو يؤسس منهجية علمية في الحضارة الغربية، كنصيب ديكارت، في عمليات الاستيراد العقلي العربي، فقد حظي الأخير باهتمام كبير في هذا الوعي وهو يحاول أن يردد صرخة ديكارت :

[أنا أفكر إذن أنا موجود!].

لا يعود ذلك إن العقلَ المصري الحديث، وهو بؤرةُ العقل العربي في وقت تشكله، لم يعرف بيكون، أو أن العلاقات الثقافية الفرنسية – المصرية وهي العلاقة التي تشكل بها الوعيُ الحديث المصري وهو يرى العالم كانت كبيرة، بل أن الأمور تعود إلى جوانب أكثر تعقيداً.

لقد كانت اللغة الإنكليزية أكثر حضوراً في الترجمة والبحث، وكانت الهيمنة البريطانية قوية على العقل المصري والعربي عموماً.

 ونقصد بالعقل هنا، طريقة تفكير الشرائح الوسطى العربية التي استعارت لفظة العقل، لتجعلها بديلاً عن لفظة الوعي، ولتجعلها بهذا لغة تجريدية، تــُصادرُ بها عملياتَ البحثِ الملموسة والموضوعية في البُـنـى الاجتماعية.

لكن مع هذه السيطرة البريطانية السياسية، فإن الوعي البرجوازي المصري وهو يتشكلُ في مخاضهِ الفكري، كان يتوجه إلى النموذج الفرنسي لا النموذج البريطاني في تشييد منهجية البحث. ومن هنا قال عميد الأدب العربي، طه حسين يقول : أنا أفكر إذن أنا موجود، وأعلن تبنيه لمنهجية الشك.

لكننا قبل أن نقرأ طه حسين في مقولته الديكارتية الإيجادية، علينا أن نعرف لماذا رفضوا فرنسيس بيكون؟

إن فرنسيس بيكون هو أبن الحداثة البريطانية، ومنذ سنة 1600 بدأ ظهور منهج فكري جديد في تاريخ العالم وهو [المنهج التجريبي].

[وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية، أعني مذاهب فرانسيس بيكن، وجون لوك، وديفد هيوم]، ( 30 ).  

ويقوم هذا المذهب التجريبي على اعتبار الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، فجان لوك يعتبر ذهن الإنسان صفحة بيضاء حين يُولد. ولكن بيكون لم يقصر المعرفة على التجارب بل اعتبر العقلَ أداةَ تحليلٍ وجمع تالية للتجربة، وبهذا وضع الوعي الحديث على أساس متين.

لقد عد بيكون الفلسفات السابقة بأنها أشبه ببيوت العناكب، فهي تصنعُ بيوتها من داخل نسيجها، في حين إن الفلسفةَ العلمية الحديثة هي مثل النحل، تصنع بيوتها من خلال رحيق الطبيعة وعبر التجربة.

إن فلاسفةَ التجريب الإنكليز هم ظواهر إنسانية عقلية هي حصيلة للتطور الصناعي والعلمي البريطاني، وقد بدأت عملياتُ التصنيع في بريطانيا مبكراً، ولم تظهر هنا صرخة ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود، بل صرخة مختلفة، هي أنا أصنع فأنا موجود.

وبدلاً من مثقفي فرنسا العقليين الذين يفكرون من خلال مكاتبهم، ويتابعون الفلسفات العقلية القديمة، كفلسفة أرسطو، التي كانت نادرة التجريب، وقائمة على التأمل، فإن المفكرين البريطانيين اندفعوا للمعامل يحّكمونها في دراسة المواد.

إذن فإن فرنسيس بيكون وجان لوك بدأا في تشريح أفكار البشر الفلسفية العقلية النظرية، فبدأت منظومات التأمل الميتافيزيقية والسحرية في الانهيار.

ولا بد هنا من أخذ دور العالم الإيطالي الكبير جاليلو جاليلي الذي سدد الضربات الهامة للمنظومة الفلكية العتيقة التي جعلت الأرض محور الكون، وحددت السماء عبر منظور خرافي، لكن بلد جاليلو ( إيطاليا ) لم تستمر في عملية الثورة العلمية، حيث أخذت بؤرة الثورة تنتقل إلى غرب أوربا.

إن انتقال الوعي العلمي التجريبي إلى بريطانيا التي كانت المعمل الأول للثورة الصناعية هو الذي فجر عصر الحداثة. ولهذا كان فرنسيس بيكون مؤسس المنهج التجريبي، وهو المنهج التي أثبتت القرون التالية إنه الأهم في إنتاج ( عقل ) حديث.

لقد وضعت المدرسةُ البريطانية ما يسمى بالعقل الحديث لدراسة المادة عبر المعامل، وحينئذٍ لم يكن المجتمع قد أُدخل في هذه الدراسة، فتركزت العملية العلمية على فحص المواد الطبيعية.

وبدلاً من فلسفة العصور الوسطى الدينية التي ربطت قوانين المادة من خارجها، بدأ الوعي الحديث باكتشاف قوانين المادة من داخلها. وهنا أخذت فروعُ العلوم الطبيعية : الكيمياء والفيزياء والرياضيات، في التحول إلى قيادة للوعي المعاصر. لقد اتسعت الاكتشافاتُ والاختراعات في هذه الفترة، وخاصة اكتشاف إسحاق نيوتن لقانون الجاذبية، الذي تداخلت فيه الفيزياء والقوانين الرياضية، فبدأ الاحتلال البشري العلمي للسماء، أي للمجموعة الشمسية، أي في المساحات الكبرى التي يمكن تطبيق قوانين حركية ميكانيكية واسعة عليها، وكان في هذا الاحتلال إعادة لجعل قوانين الطبيعة داخلها.

لقد سدد نيوتن ضربات حاسمة إلى منظومات العصر الوسيط الفلكية، وللآراء أرسطو عن هيمنة فلك ما تحت القمر، وأرواح الكواكب وهيمنة النجوم الخ..

لقد أعطى القرنان السابع عشر والثامن عشر مادة علمية ضخمة في كشف المادة والمكان، الأمر الذي أدى إلى تطور هائل للصناعة المترافقة مع الكشوف الجغرافية واتساع العالم الغربي جغرافياً واجتماعياً، ولكن في القرن التاسع عشر بدأ الفكر التاريخي بالنمو والتبلور عبر دارون وماركس والعديد من العلماء الآخرين، فلم تعد المادة الطبيعية فقط هي المدروسة بل المادة الاجتماعية، التي بدأ تطبيق قوانين مختلفة على دراستها.

وإذا كان المنهجان العقلي والتجريبي هما السائدان في الوعي البرجوازي، الذي رفض القراءة التاريخية والاجتماعية لتطور الوعي والتاريخ، فإن هذا كان يعبر عن تحييد العلوم وابعادها عن الصراع الاجتماعي الدائر في المجتمع الغربي، وبين المجتمعات الغربية والعالم المستعمر.

إن ديكارت وبيكون يظلان يمثلان الخطين الأولين للمنهج العقلي والتجريبي والميكانيكي في هذا الوعي، ولكنهما سيمتزجان في توليفات تالية، وسنجد تداخلاتهما في مناهج مختلفة، كمنهج ماركس الذي جمع بينهما وعبر قراءة التطور التاريخي للمادة المدروسة، فالبضاعة لديه تتحول إلى الجرثومة الأولية لتضادات الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، والذي يقومُ بدراسة قوانين ظهورها ونموها، مستعيناً بالإحصاءات الدقيقة عن هذا التطور الاقتصادي التاريخي المركب وذلك في كتابه [رأس المال]. وهنا نجد إنجازات العلوم التجريبية البريطانية المتمثلة في الاقتصاد السياسي البريطاني، الذي يقوم بفحص وتشريح الاشتراكية الخيالية الفرنسية بالأخص، ويدمرها عبر التحليل الموضوعي للحياة الاقتصادية. هذا لا يعني إن ماركس لم تكن لديه استنتاجات سياسية مُسبّقة فرضها على البحث العلمي كذلك إضافة لتباين مراحل تطور فكره : مرحلة الشباب، فمرحلة أقصى اليسار، ثم مرحلة النضج الأخيرة.

لكن العلومَ، حسب رؤى البرجوازيات الأوربية، أخذت تدخلُ في أزمةٍ عميقة. فالمناهجُ الاستقرائية تركز على المادة المفصولة عن شبكتها الطبيعية، وتعجز القوانين الميكانيكية عن قراءة الحركة الدقيقة للجزئيات، وأخذت الاحتمالية الكلية واللادرية، وخاصة شكوكية الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم، عن الاعتراف بقانونية وموضوعية قراءة المادة، في تشكيل أزمة ثقة بالعلوم.

إن فلسفة أنا أفكر إذن أنا موجود، دخلت فى ازمة اجتماعية

وتاريخية، فالبرجوازية الأوروبية غدت تصارع الطبقات العاملة في

بلدانها، التي تحفزت لتسلم السلطة، والحروب بين هذه

البرجوازيات دمرت «العقل» وخاصة في المذبحة الإنسانية الكبرى: الحرب العالمية الأولى.

إذن حين قال طه حسين : أنا أشك إذن أنا موجود، كانت صيغةً أقل قوة من صيغة ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود!

وطه حسين لم يعلنها صراحة بأنه موجود كأنا طبقية برجوازية تؤسس عصر النهضة العربي الحديث، وشكوكيته هنا القادمة من عصر ديكارت والمتأثرة بخطاه، سارت إذن في المنهج العقلي، المتصف بضعف التجريب، والمعتمد على التحليل العقلي الصرف، بما يسود فيه من فضاء فكري مهيمن، ومتوجهاً إلى الأدب وهو ليس ميداناً حاسماً في المواجهة مع التراث المحافظ، حيث توجه ديكارت إلى الفلسفة، وهي الميدانُ الحاسم في الصراع الفكري، ولهذا فإن طه حسين كان ذا عدة أدبية بدرجة أولى، لكن التأثيرات الفلسفية المضمرة كانت موجودة في هذا الأدب عبر تسرب الاتجاه الميكانيكي والوضعي والجدلي الواقعي لكن ليس فيها منهج حاسم.

أنا أشك إذن أنا موجود، اعتبرها طه حسين طريقة لإعادة إنتاج عقل عربي حديث، يقومُ في البدايةِ باستعمال الشك وتوسيعه في كافة ظاهرات البحث والدرس، وقد اعتقد إن استخدام هذا المنهج وتطبيقه على ظاهرات الثقافة كفيل بتوسيع استخدامه في كافة القراءات للمجتمع العربي المتخلف.

لكن زمان ديكارت كان قد انقضى عليه أكثر من قرنين، انطلقت فيه مناهج أخرى، وفي العقل البرجوازي نفسه، كان المنهج التجريبي قد انتزع مكان الصدارة.كذلك كان المنهج الدارويني الاجتماعي والمنهج المادي التاريخي والجدلي الماركسي، قد اثبتا حضورهما في الوعي الحديث.

إن عودة طه حسين إلى ديكارت، يؤكدهُ المسارُ العربي التقليدي الراكد، الذي لم تهزهُ الثورةُ الصناعية، وحين بدأت مصرُ الدخول فيه، عبرته من خلال الصناعات الاستهلاكية : السكر، والنسيج الخ.

ولم يكن لطه حسين علاقة بالمناهج التجريبية أو بالمادية التاريخية، وقد صارع بقوة المناهج الأزهرية المتخلفة في درس التراث، وكان هذا الصراع الفكري المنهجي هو الذي يؤسس نظرته إلى العالم، فهذه [التجربة] الشخصية كانت المعمل لإنتاج وعيه.

كان [الشيخ] التقليدي ماثل في وعيه، وهو الذي يراه كعائق أمام تحديث العلوم، لكنه أخذ الشيخ الديني كطرائق في البحث، وكأساليب في درس التراث، وليس كبُنية اجتماعية عتيقة، أي كجزء من منظومة سياسية تقليدية هيمنت على المسلمين، ولهذا فقد شهر سيفه أي قلمه في وجه هذا الشيخ المفصول عن النسيج الاجتماعي، وعن منظومةِ الإقطاع الغارزة حرابها في الجسد الاجتماعي، وحين كان يكتبُ عن أبي العلاء المعري، فقد اتخذ صنوه من العصر العربي القديم، ليس للاشتراك في العاهة الجسدية والتغلب عليها فقط، بل لمستوى الوعي المتقارب بين الرجلين، المعري في عصره العربي الإقطاعي المتفتت، وطه حسين في عصره العربي الإقطاعي المتفتت والمتُكون مجدداً.

وإذا كانت الشكوكية والسخرية والنقد المرير اليائس قد ظللت فيلسوف معرة النعمان، فإن الشكوكية البناءة المتفائلة ستكون النسيج الروحي لعميد الأدب، وهو يحاول أن يُخرج الأمة من الظلام إلى النور، مثلما هو يشكل خطاه على الأرض الدامسة، جامعاً بين فرنسا الحرة وإعادة تشكيل مصر الحرة.

وقد بينت معركة كتاب [في الشعر الجاهلي] طابع منهجية أنا أفكر المصرية التي أنتجها طه حسين. فالشك قاده إلى التشكيك المعقول بصحة الشعر العربي الجاهلي، لكن هذا الشك لم تسنده قراءات اجتماعية واقتصادية في بنية العرب الجاهلية قبل الإسلام، فقد أخذ الظواهر التعبيرية وإشكالياتها الحقيقية في معزل عن اللوحة الاجتماعية التاريخية المتكاملة. فأصدر حكمه بعدم حقيقية هذا الشعر الجاهلي. وقد عبر المنهج الشكوكي هنا عن قراءة عقلية فنية وفكرية غير غائصة في الجذور الاجتماعية للشعر والنثر الجاهليين، فجاءت أحكامهُ غير دقيقة علمياً. فكان للمنهج العقلي الشكوكي هنا نتائج مضادة للجوانب التي يبتغيها من نشر المنهج العقلي الباحث. لكن أسئلة طه حسين المهمة والكبيرة أدت إلى بداية البحوث في تاريخ العرب، والتي سينجزها باحثون آخرون. في حين ظل هو على عناده من مسألة الشعر الجاهلي المنحول، فأضاع فرصة في قراءة جذور التكون الإسلامي.

وفي وقت صدور الدراسة اتخذت القوى السياسية المصرية المتصارعة الكتاب القنبلة – والذي لم يهتم الرأي العام فيه إلا بجمل صغيرة تشكك في بعض النبوات، والتي حُذفت في الطبعات التالية للكتاب – اتخذت من الكتاب أداة لتسوية حساباتها السياسية.

فخطة القصر الملكي والاستعمار بتقوية الجماعات المذهبية واضعاف حزب الوفد، اصطادت الكتاب وحرضت الجماعات المتعصبة فما كان من حزب الوفد إلا أن هاجم المؤلف (الموتور)، وبهذا دخل حزب البورجوازية المصرية في سلسلة الدفاع عن النظام الإقطاعي الديني، بدلاً من أن يقود معركة العلمانية والديمقراطية بعمق.

بينت معركةُ كتاب (الشعر الجاهلي) المعسكرات الاجتماعية والسياسية والتي ستدخل معركة التحديث العربية بتردداتها وإنجازاتها وهزائمها، وهو هيكلٌ عامٌ اجتماعي واقتصادي لم يتغير نوعياً خلال القرن العشرين بل وربما أزداد ميلاً صوب المحافظين، بسب اكتشاف الثروة النفطية في المناطق الأقل تطوراً من العالم العربي.

ولكن يهمنا هنا استلال الخيط الفكري العقلي التحديثي وهو يتكون في المواد الاجتماعية البسيطة.

فطه حسين بتقديمه هذه اللوحة التشكيكية في التراث العربي الجاهلي، انطلق من أسئلة موضوعية بدون قراءة مادية تاريخية للعصر المدروس، بل من جانب رؤية مُسبّقة في اعتماد منهج الشك، ورفض المادة الوفيرة التي تؤكد صحة نسبة كبيرة من هذا الشعر إلى عصره. لكن الأهم في كل ذلك هو اعتماد الدراسة على جوانب فكرية مفصولة عن سياقها التاريخي في الماضي والحاضر، وبالتالي عدم تلاقح مذهب الشك مع أدوات البحث التاريخي الموضوعية، واكتشاف سياق التطور العربي، وأهمية الإسلام كثورة تجديدية في حينها، وأهمية رؤية دور مكة التجاري البرجوازي كمدينة تحاول أن تشكل عالماً نهضوياً، تم إدخاله بعد هذا مع تكون الإقطاع وتطوراته في عمليات الفتوح وبسبب آثارها الاقتصادية. أي أن الأدب الجاهلي كان يعكس جذور دور طبقة برجوازية (حرة) كانت تعيد تشكيل مجتمع أبوي، يدخل تواً العصر الطبقي.

أي أن الفئات البرجوازية المصرية التي دخلت العصر الحديث كمثيلتها القرشية المكية، دخلته وهي تابعة للبرجوازية البريطانية، ومتداخلة مع الإقطاع السياسي الملكي الحاكم والديني، فلم تستطع أن تطلق صرخة ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود!

بل كانت كلمة طه حسين أنا أشك، فأنا حائر، تائهٌ بين الطرق الاجتماعية.

إن الفئات الوسطى المصرية كانت كلمتها في الواقع : أنا استورد واصدر، وليس أنا أصنع فأنا موجود، فكانت معامل التجريب نادرة، وكان الفكر العقلي الذي تنتجه طالعاً تواً من الأزهر، فلم يستطع أن يقرأ حاجاتها الموضوعية، وأن يقود معركتها التحديثية.

 لنلقي نظرةً تشخيصيةً حول فكرته عن العقل.

إن اقتراب طه حسين من الفكر الفلسفي نجده في الصفحات الأولى من كتابه : ( مستقبل الثقافة في مصر ) الذي يقدمُ فيه خطةً عامة لتغييرِ نظام التعليم في مصر، والجمعُ بين هذا الفكرِ النظري العام وقضيةِ التعليم تحديداً، هو قمةُ عمل النهضويين (العلمانيين)، الذين اقتصروا على البثِ الثقافي وليس العمل السياسي والاجتماعي المباشر، حيث صعّد طه حسين تدريجياً التنويرَ الأدبي ليغدو نضالاً سياسياً تبلور عند التعليم، وذلك بسبب تصور التنويريين المثالي عموماً بكونِ الثقافةِ هي أداةُ تغيير التخلف، لكن هذه الثقافة مصاغةٌ داخل آليات بنية الإقطاع المذهبي وليس لاجتثاث هذه البــُنية مما يؤدي بهذه الثقافة نفسها أن تكرس تلك البنية لا أن تهدمها كما كانوا يتصورون.

ولهذا فإن منطلقات عميدِ الأدب طه حسين شبهِ الفلسفية في مقدمة هذا الكتاب تتطابقُ وخطته لتغيير التعليم في مصر التي أعلنها في هذا الكتاب سنة 1938 ثم طبق أساسياتها حين صار وزيراً للتعليم في حكومة الوفد بعد ذلك.

وفي هذه المنطلقات فإن مسألة ( العقل ) تغدو بؤرةً مركزيةً في عمليةِ إنتاجِ المفاهيم وتطبيقها، ولهذا يقول :

( فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ وبعبارة موجزةٍ جلية أيهما أيسر على العقل المصري : أن يفهمَ الرجلَ الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجلَ الفرنسي أو الإنجليزي؟)، (31).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انظر كل ذلك عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة ، 2015.

صراع الطوائف والطبقات في لبنان

فصل من كتاب صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران

أقيم البناءُ السياسيُّ اللبناني الحديث على طوابقٍ قديمة من الطوائفِ الكثيرة ذات الارتباطات المختلفة، فهناك أكثر من عشرين طائفة، فهو مجتمعٌ من فسيفساءٍ سكانية لم يَعرفْ الدولة المركزية، ولعبت فيه بعضُ الطوائف دوراً مركزياً في فترات معينة دون أن تستطيع إقامة دولة محورية وطنية، حين قامت هذه الطوائفُ بدورٍ مركزي في الحياة السياسية المناطقية، أو حين هيأتها ظروفٌ عالمية مستجدة للتحرك بما يغاير من الخريطة السائدة حولها، وتلعبُ هنا الكثافة السكانية دوراً مهماً، فبدونها يستحيلُ تشكيلَ قوى عسكرية – سياسية في هذه الفسيفساء السكانية.

فجرجرتْ الطوائفُ الممزقة المتصارعة ذاتَها إلى العصر الحديث بدون تغيير جوهري في بناها المختلفة.

كان للطوائف جذور قديمة، ولكن تاريخها الحديث وتوظيفها في عصر تنامي الرأسمالية الغربية بدأ مع تضعضع الأمبراطورية العثمانية، وبين سنتي 1840 – 1860 نشأت الثورة الفلاحية ضد الإقطاع، ثورة طانيوس شاهين، وتم توظيف التحركات الشعبية لهندسة نظام الطوائف وتفجير الصراع الطائفي بينها، فجرى العملُ لصنع منطقتين سياسيتين، الأولى يسيطرُ عليها الدروز، والثانية يسيطرُ عليها المسيحيون.

ومن أواخر القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين تشكل نظامُ المتصرفية، الذي نصَّ على قيامِ كلِ دولةٍ أوربية بحماية جماعتها الطائفية، (فرعت) فرنسا الطائفة المارونية، وانجلترا الدروز، وروسيا الأرذوكس ورعت المسلمين سنة وشيعة الدولة العلية أو العليلة الدولة العثمانية.

مع الاستعمار الفرنسي نشأ لبنانُ الكبير، الذي بدأ ينسلخُ عن سوريا الطبيعية والسياسية، وقد ثبت الفرنسيون نظامَ الطوائف وكرسوه، وصنعوا رئيساً للجمهورية من المسيحيين.

وقد قامت القوى الوطنية اللبنانية في صراعها ضد الاستعمار على أزواجية فكرية تتضمن وحدة سياسية تقوم على التقاسم الطائفي، فتمَّ توزيعُ المناصب بعد الاستقلال، بعد سنة 1943، على أساسين ديني ومذهبي، لكن بأن يكون ذلك مؤقتاً، وليس دائماً، وأن يتشكلَّ لبنانُ الوطني، لكن فكرة رياض الصلح هذه تم دفنها مع تنامي حضور الطوائف. وقد نصت المادة 95 من الدستور على أن الطائفية مؤقتة.

وكان هناك صراعٌ كبيرٌ منذ بداية تشكل لبنان بين ولائين، ولاءٌ لفرنسا أساسه الموارنة، وولاءٌ لسوريا أساسه المسلمون، وبين هذا وذاك، تشكل حلٌ وسط هو لبنان الراهن المتذبذب بين سوريا – البعث، وبين الغرب – فرنسا والليبرالية.

أقر اتفاقُ الطائفِ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وبين موظفي الفئة الأولى، رغم أن اتفاق الطائف طرحَ انتخابَ النواب دون قيد طائفي مع استحداث مجلس شيوح للطوائف، فكرس اتفاقُ الطائفِ التقاسمَ الطائفيَّ بدلاً من إلغائه.

(من مواد الحزب الشيوعي اللبناني، دائرة التثقيف، تاريخ الطائفية في لبنان).

ويُقدر عدد المسلمين ككل في لبنان بــ(59،7%) من أجمالي عدد السكان، والسنة تقدر نسبتهم ب(27%) من السكان، في حين تقدر نسبة الشيعة بــ(41%)، والدروز(7%)، أما الطوائف المسيحية فتشكلُ ما نسبته (39%)، أكبرها طائفة الموارنة (16%) من السكان، وتعبر الأثرى في المجتمع اللبناني، وهناك طوائف مسيحية أخرى أصغر حجماً، كالكاثوليك اليونانيين، والرومانيين(1%) والأرثوذكس (5%) واليعاقبة والنسطوريين.

من أهم أحزاب المسيحيين حزب (الكتائب) الذي تأسس سنة 1936 بقيادة بيير الجميل، تأثراً في زيارة له لأسبانيا بكتائب فرانكو الدكتاتور الأسباني.

شكل حزبا الكتائب والحزب الشيوعي اللبناني أساس الوطنية اللبنانية النهضوية، من موقفين متضادين شكلاً متوحدين في الجوهر.

فكانت الدكتاتورية الهتلرية أوالستالينية أساس وعيهما، وهو ما ينطبقُ على أحزاب وقوى يمينية ويسارية عديدة في الوطن العربي، ولكن للبنان ظروفه الخاصة، فهو أكثر حيوية وحرية، وهو أسرع توجهاً للمغامرة وأخطارها كذلك، مرة لأنه لا يمتلك دولة استبدادية مركزية، ومرة لأن إحدى الطوائف تحول نفسها إلى ذلك.

كانت (الكتائبُ) بتوجهها إلى نماذج الفاشية تريد حلاً سريعاً لمسائل التشتت الوطني، وقفزاً على جذور التخلف والإقطاع، وباستخدام العنف الشعبي الموظف لقوى اليمين، وكان العدد السكاني يسمح لها بالقيام بهذه المغامرة، وعبر تعضيد فرنسا، التي ما لبثت هي نفسها أن واجهت كارثة الهتلرية.

إن العصبوية السكانية اتاحت للكتائب ذلك؛ فثمة تكتل ماروني، وتراث من التمردات المسلحة، وغياب التراكم الديمقراطي الثقافي العميق.

وحتى بعد هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية لم تتحول (الكتائب) إلى تنظيم ديمقراطي، وهذا بسبب جديد كذلك وهو نشؤ المعارضة القومية المتشددة، ونمو الحزب الشيوعي الذي أوغل في دكتاتورية مختلفة، يسارية هذه المرة.

وتقوم عملياتُ التحول السياسي هنا على استيراد فكري مقولب من مخازن الدكتاتوريات العالمية، الصاعدة بقوة، والمؤثرة على الكيانات السياسية الطفولية الناشئة وقتذاك.

إن طرح خطابين دكتاتوريين حادين متنافسين، ومن طبقتين متضادتين لكنهما تمثلان قطبي الحداثة، هو بسبب عملية الاستيراد الفوقية تلك، ولعدم النشؤ الطبيعي للطبقتين الحداثيتين المتصارعتين؛ البرجوازية والعمال، فيغدو خطاباهما السياسيان خطابي مراهقة.

كانت المطابقة مع فرنسا هو هدف المسيحية السياسية ولكن هذه المطابقة مبنية على الديانة، وعلى إرث ثقافي في اللغة والآداب، أما في استيعاب الحداثة الفرنسية وتطوراتها فلم يتشكل ذلك، خاصة في بُنى الأحزاب، فظهرت الكتائبُ ومتوالداتها السياسية كجماعاتٍ أبوية أشبه بالمافيا، نظراً لأن البناء الاقتصادي لم يقم على انتشار المصانع كما في فرنسا، فغدت البنية الفرنسية اللبنانية محض استيراد شكلاني.

كما أن القوى العاملة اللبنانية من جهة أخرى، هي عمال زراعيون وحرفيون وعمال مصانع صغيرة ووزارات، ذوو علاقات قوية بالوسط التقليدي وبالأمية.

وبهذا كانت الشعارات السياسية المستوردة وفرض القوالب تنمو أكثر من عمليات التحليل والتأصل العلمي الوطني، وتقود إلى مواجهة محورية كما حدث في العراق بين البعث والشيوعي، في مسلسل متشابه لتصادم قوى الحداثة بدلاً من صراعها الطبقي وتعاونها الوطني، مع اختلافات التجربة وتراكمها في كل من البلدين.

 يصور مندوبُ الحزبِ الشيوعي اللبناني تاريخَ الصراع الاجتماعي بصورةٍ مختزلةٍ في ندوةِ توحيد اليسار اللبناني السيد أيمن ضاهر، فيقول؛ (ساهم الاحتلالُ الفرنسي باختلال بنية المجتمع اللبناني وهو الذي ساهم بتكوين البرجوازية المارونية، حيث تكدست الأموال في هذه الطائفة دون سواها مما ساهم في تشويه الصراع، مروراً بالحرب اللبنانية التي بدأت بصراع طبقي ما لبث أن تحول إلى صراع طائفي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث تقوم القيادات السياسية بتشويه الصراع وأخذ شكله الطبقي بهدف تحويله إلى صراع طائفي من خلال التهويل بقدوم حرب طائفية جديدة)،(المؤتمر المذكور وقد عُقد في 19 يونيو 2007).

تعطينا هذه الفقرة اختزالاً زائفاً أيديولوجياً لتاريخ الصراع الاجتماعي في لبنان، حيث يجري تصوير طائفة واحدة هي الطائفة المسيحية بأنها هي الطائفة الغنية الوحيدة، وأنها شكل البرجوازية، وهو تصورٌ عامٌ مجرد يلغي التاريخَ الاجتماعي الملموس ويدخل تصوراته السياسية المسبقة في أحشاء السرد التاريخي.

وإذا كانت الطوائفُ الدينية والمذهبية الإسلامية قد تكونتْ في بعض مناطق سوريا وجبل لبنان كتكويناتٍ مقموعةٍ هاربة أو محتمية بالتضاريس من عسفِ الدول التي سُميت إسلامية، وهي دولُ طوائفٍ يهيمنُ عليها الإقطاع، فإن التكوينات الحديثة لها تراوحت بين البقاء في النظام التقليدي والنزوح نحو الحداثة، والتجارة، والغرب.

وقد لعبت الطائفةُ المارونية دور القيادة لعملية التحديث هذه، وخاصة الفئات الوسطى منها، وفي ظل التبعية لفرنسا، وقد ساعدها في ذلك بدايةً أفولُ دور الدولة العثمانية التقليدية الشائخة، وصعودُ العلاقات التجارية والفكرية الحديثة التي روج لها الغرب، لتفكيك الدولة العثمانية وإيجاد وكلاء تجاريين وثقافيين له.

ومن هنا وجدنا إن بدايةَ النهضةِ العربية تتشكلُ في سوريا ولبنان عبر هذه الفئات، ومعروف جيداً دور بعض العائلات المثقفة في تأسيس مختلف صنوف الأدب والفن العربيين الحديثين، ثم بعد قامت بنقل ثمار هذه الثروة المعرفية لمصر، نظراً لاستمرار القمع في الشام، وبدء الانفتاح المصري القيادي لعملية تغيير المنطقة.

ولكن ظهور الفئات الوسطى لم يقتصر على الطائفة المارونية بل سارعت طوائف أخرى لاحتضان بذور هذه الحداثة، كالطائفة الدرزية والسنية والشيعية، وافرزتْ قوىً برجوازية لم تخرج من كيانات الطوائف، ويمكن اعتبار الحركة الوطنية اللبنانية هي نتاجُ التفاعل بين هذه القوى الوسطى – التقليدية، وقضايا لبنان المحورية.

إنها برجوازياتٌ طالعةٌ من كياناتٍ مذهبية محافظة، وتحملُ دمغات نشأتِها في إبقائها على تكويناتها السياسية الطائفية، مثلما هي تقومُ على ملكية الأرض الزراعية والحرف والتجارة والمعامل الصغيرة.

وتتشكلُ تناقضاتٌ حادةٌ في هذا التكوين اللبناني، فكلُ طائفةٍ تغدو دولةً، وكلُ دولةٍ تحتاجُ إلى جهازٍ سياسي مسيطر بشكل أبدي، ولا يظهر التغيير من تراكم العناصر التجارية والديمقراطية داخل كيان الطائفة، بل من خلال انشقاقها، عبر ظهور دولة طائفية مختلفة أو مضادة، يؤسسها زعيمٌ تحديثي – تقليدي آخر.

إن التطورات تجري في لبنان بشكلٍ تفتتي وانقسامي، مما يضعفُ ويخربُ هذه التطورات ويعيدُها لسابق عهدها.

إن الفئات الوسطى الصغيرة الذابلة في كل طائفة لا تقيمُ تحالفاً، بسبب أنها لا تصل في عملها السياسي إلى سمات الحداثة وهي العلمانية والوطنية والديمقراطية، مثلما أنها تعجزُ على الانتقال إلى الصناعة الكبيرة وانتشار العمل بالأجرة وحرية النساء الواسعة.

وإذا كانت تستطيع بشطارتها أن تقفز على بعض الحواجز الاقتصادية، وتتفن في طرق التجارة، وتهاجر إلى اقصى بلدان الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقفز حدود الطوائف القريبة.

وإذا كانت بعض الدول العربية تجاوزت هذه الفسيفساء الطائفية نظراً لوجود دولة مركزية موحدة، أتاحت تشكل سوق وطنية واحدة، إلا أنها تظل طائفيةً لغياب نفس السمات السابقة الذكر، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تعبرُ عن عجز قوى إنتاج الصناعة الصغيرة أو الاستخراجية والتحويلية في عموم البلدان العربية عن نقل البلدان إلى بنى جديدة.

لكن في لبنان تتضاعفُ الخسائرُ المفردةُ المحسوبة في كل دولة عربية، ففي لبنان عدةُ دولٍ مضمرةٍ فيه، يقومُ شيوخُها وإقطاعيوها وبشواتها، كلٌ في مركزه الصغير بتمثيل دور صاحب العظمة والفخامة.

والزعيمُ من جهةٍ يحافظُ على ألقاب الباشا الموروثة طائفياً، وهي ألقابٌ تتحولُ مع تبدل دور الطائفة وتحالفاتها، الوطنية والمناطقية والعالمية، كما لا ينسى دورَ التاجر البارع في التقاط أي ثمرة مالية تتيحها التجارةُ والسياسة والدين.

ولكن ليس دائماً تؤدي الشطارة إلى أرباح، فكثيراً ما كانت التحالفات مدمرة وضارة، فتحالفات الباشوات اللبنانيين تـُؤسَّسُ سياسياً وليس على التراكم العقلاني العلماني الوطني، يقومُ بها الباشواتُ في حكمِهم المطلق على الملأ، فيختار الساسةُ الموارنة التحالفَ مع الغرب الاستعماري ضد تيار القومية العربية الكاسح حينئذٍ، وإذا كان ذلك فيه شطارة التاجر اللبناني المرهف الحس للرأسمالية الغربية ودورها التاريخي وأرباحها الجزيلة، إلا أنه وقوف ضد سوقه القومية وما يُنتظر لهذه السوق من تطورات عظيمة.

وإذا كان ذلك قد حدث حين أثبتت الصحراءُ العربية النفطية كرمَها الباذخ، وأخذ بعضُ هؤلاء الساسة يتنسمون نسائم نجد العليلة، فيغيرون من ولاءاتهم بلمح البصر، إلا أن ذلك يظل في عقل الباشا، وليس في عقل البرجوازي الحديث.

 وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللنباني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت على كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن أمثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر. فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى إنهيار بذور الحداثة.

تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجيهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.

لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدي هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ..

إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ لفهمٍ حقيقيٍّ عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج بهذه التجربة العالمية ويجري تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.

وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الإيديولوجية لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.

لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.

وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الأمبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.

ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجري تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة!

كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسسَّ بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين! ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر إنفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الدينيُّ الشرقيُّ المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.

وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.

لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحةً منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.

ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري _ الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد على أهمية التصدي للأمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.

بل أن هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النوايا.

وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية..

إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجياً إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:

(إننا نستطيع أن نؤكد إن نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيداً نضالياً، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، بأن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطنا مصير القوى المنحرفة قومياً مصيرها بمصير المد الأمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).

هل تصنع العبارات الحماسية شيئاً إيجابياً؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ودون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد كافة الفرقاء لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.

 ليست المصالحات اللبنانية تقوم على أرض صلبة، بل هي مصالحات تكتيكية، نتيجة لتغير ظروف خارجية، خاصة لتوجه سوريا للمفاوضات مع إسرائيل بشكل سري، مما جعل القوى المتصلبة تدرك بأن لا شيء ثابت وقوي في الدول العربية الشمولية.

تغدو المصالحات توافقات تكتيكية ولا تدخل إلى عظم الهيكل النخر للنظام الطائفي، فلم تصل حتى وثيقة الطائف إلا إلى محاصصات طائفية، وواصلت القوى السياسية العيش والعمل في نظام القرن التاسع عشر دون تغيير جوهري.

فالقوى التقليدية تظل هي السقف المسيطر ولا أحد قادر على تشكيل ثوابت الحداثة في النظام، لتستمر صراعات القوى المذهبية التقليدية، بشكل ثم تتصارع بشكل آخر، دون إحداث تراكم ديمقراطي وطني.

بعض قوى اليسار اتخذت مطالب العمال والكادحين لتأييد جهة طائفية ضد أخرى، وليس لتغيير حياة هؤلاء باتجاه وطني شامل.

إن المحاصصة الطائفية وتوزيع الكراسي والوزارات ثم توزيعها بشكل آخر ثم إجراء مواجهات دامية وغير هذا من ألعاب السياسة، تجعل فريقي السلطة والمعارضة، أو فريقي السلطة الآن، يواصلان تمزيق لبنان، وإعداده لمذبحة أخرى.

هل يمكن لبعض الفرقاء اللبنانيين كتحالف تيارات المستقبل والكتائب واليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي التقدمي أن يؤسسوا تياراً ديمقراطياً لبنانياً توحيدياً؟

ليس ذلك ممكناً وهم قد اعتمدوا على نفس الأسس الطائفية في بناء تنظيماتهم السياسية، باستثناء اليسار الديمقراطي، ولم يفصلوا بين السياسة والدين، ولم يشكلوا فريقاً فكرياً واحداً يعتمد عناصر الوطنية والعلمانية والخطوات الوطنية المتفق عليها لتغيير حياة أغلبية الشعب، فذلك لوحدث يتطلب إعادة قراءة تاريخ لبنان، وطرح فهم مغاير للأديان عن الرؤية التقليدية الإقطاعية السائدة، وتشكيل علاقة تعاون معينة واستراتيجية بين الفئات المتوسطة والعمال.

وليس ذلك بسبب إن إيران دولة دينية شمولية تريد فرض نموذج الدولة الدينية هذه فقط، بل لأن كل دول المنطقة غير قادرة على تصعيد مثل هذه الدولة الوطنية العلمانية، فتغدو الصراعات ثم الحروب هي المعجلة لمثل هذا الحل، وهي كوارث بامتياز.

وتغدو هذه أشد وأقسى في لبنان بسبب التاريخ والتكوينات الطائفية الكثيرة التي تم استعراضها سابقاً، وبسبب كون الفلاحين والعمال لا يحصلون على حياة تليق بهم.

وإذا رأينا الكتل السكانية المذهبية فسنجد إن كتل الفقراء الواسعة الكثيفة هي التي تدعم السياسات المذهبية المعارضة، وسنجد إن الطوائف التي تحوزُ على نسبة كبيرة من الثروة الوطنية هي التي تدعم الطائفية المحافظة، والتبعية.

ولكن مختلف الطبقات والقوى السياسية لا تعترف بأن الصراع على الثروة والحكم هو سبب المشكلات لا الأديان والمذاهب.

وبسبب هذا الصراع على الثروة المتشابك مع الحكم تـُقام علاقات غير وطنية وتحالفات فوق رؤوس المواطنين وتعدهم لمشروعات رهيبة. ويخف الصراع ويشتد بسبب هذا التداخل، وفي بلد بمثل هذه الفسيفساء يغدو عسكرياً عنيفاً في قممه الحمقاء.

أخذت قوى عديدة تريد فض الاشتباك بين المذاهب والسلطة، بين الثروة والحكم.

يقول أحد الكتاب (ثمة خياران: إما أن تغرق المنطقة في سلسلة حروب طائفية تفضي في النهاية لاستهلاك طاقة الطائفة ذاتها، وهذا ما تفعله الصراعات العنيفة دائماً أقصد استهلاك الطاقة الكامنة في عواملها، أو ينتصر الوعيُّ والعقلانية، وتنتفض شعوب المنطقة لتمسك يدها بمصيرها، وتختصر مساراً طويلاً من الألم والدم والخراب)، (معقل زهور عدي، الصراع الاجتماعي والانقسام الطائفي).

نرجو أن لا تنتفض الشعوب بل أن تراكم الثقافة الديمقراطية الحديثة وتتشبع بها أحزابها المناضلة، وتغير من القوانين العتيقة والتشكيلات السياسية المذهبية واحتكار السلطة والثروة، لأن الانتفاضات عادة دامية حادة، ولا تتصف بعقلانية سياسية ولكنها غير مستبعدة.

وقد توصل أغلبية المجتمعين في ندوة توحيد اليسار اللبناني إلى أفكار مهمة مثل هذه:

(وجدوا أن اليسار يفتقد إلى تنظيم قادر على بلورة شكل الصراع، من خلال تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وأن جزءً من اليسار اتخذ قراره بدعم دولة المؤسسات بحجة أن النظام اللبناني ليس رأسمالياً، وأن اليسار لم يعرف كيفية التعاطي مع تشوه الصراع وإصلاح هذا التشوه، ورأوا أن دور اليسار يكمن في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بمواجهة الأقطاب التي تعطي هذا الصراع طابعاً طائفياً، وفي رفض الصراعات الفئوية والطائفية، بالإضافة إلى إعادة صياغة شكل الوعي والعمل على تحقيق مكاسب أكبر للطبقة العاملة)، (ملتقى اليسار اللبناني، 2007).

إن تكوين مصالح وثقافة لليسار الموحد لا تنفصل كذلك عن توسيع بذور العناصر الديمقراطية والعلمانية والوطنية في كل الاتجاهات الأخرى، ففي النهاية سوف تظل القوى الوسطى هي المسيطرة على السلطة، لكن باتجاه تلك الثوابت التحديثية.

والنظام اللبناني ليس رأسمالياً حديثاً على المقاس الغربي، ككل الأنظمة العربية، فهو نظامٌ انتقاليٌّ بين الإقطاع والرأسمالية، ودرجات الانتقال تحددها تطوراتُ القوى المنتجة والوعي والتشكيلات السياسية، ونمو السياسة التحديثية يتشكل باستبصار هذه العوامل الموضوعية والذاتية المتداخلة وتوظيفها لمصلحة الأغلبية من السكان بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم.

جذور الصراع الطائفي اللبناني

فصل من كتاب صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران

جغرافية لبنان الجبلية العالية وتشكل مدنه وراء هذه الجبال الحارسة الصادة لطغيان ملوك الشرق وأباطرته الباذخين الناهبين السرمديين، هي التي أعطتْ مدنَهُ وأريافه إمكانيات أن تكون لها رؤوسٌ عالية، وأرادةٌ نضالية، حين جمعت هذه المدن بين الأسوار وروح النضال وعقلية البحث والتجارة.

ولكن الحرية غير مكتملة لأن المدن على مرمى حجر من طغاة الشرق، كما أن هؤلاء قادرين على التسلل بين الجبال وحرق المدن أو الإستيلاء عليها.

ولهذا كان لبنان وما يقاربه من سوريا هو أرضُ المنفيين، والمهاجرين المعذبين، والتجار المغامرين، ولم تفلح ثورتهُ الفكريةُ الديمقراطية داخله وإنتقلتْ لبلاد الأغريق حيث الإتساع الكبير والحماية الجغرافية المنيعة.

فاضتْ عليه الدياناتُ والأمبراطورياتُ المسيحية والإسلامية، وجاءه المعذبون والمناضلون الذين فشلوا في نضالاتهم، والموظفون الحاكمون مندوبو الدول، فتكونت فيه فسيفساءٌ دينيةٌ مذهبية إجتماعية، من موظفي الخلفاء الراشدين إلى حكام الخلافات الإستغلالية التالية. من قادة يرسلهم عمر بن الخطاب إلى القبيلة العربية المهزومة بعد حرب صفين، وزُرعت فيه كلماتُ المنفي المناضل أبوذر الغفاري وقوى الحلم الإسلامي بالعدل وأصطفت إلى جانب المعذبين المسيحيين الهاربين من الاضطهاد.

لم تعد المدن التجارية الموانئ المزدهرة هي فقط ما ينتجه العربُ المسيحيون والمسلمون بل الأرياف المزدهرة والمحمية بالأحراش وغابات الأرز التي صارت عنواناً للحماية وشموخاً وإختباءً.

زرعتْ فيه الدولُ الاستغلالية الأحقادَ الدينية والشكوك، فكلما جاءت قوةٌ مهيمنة قتلتْ أصحابَ العقائد الأخرى، ونفختْ في عقيدتها بالأجهزة وموظفي الخراج مصاصي الدماء.

في القرون الحديثة غدت هذه الفسيفساء الدينية الطائفية ساحات للشطرنج السياسي، فالإقطاع الزراعي ومادته الخام المستغلة الفلاحون، هو الرقعةُ الكبرى التي تجري فوقها خيولُ المصالح، وكل إمبراطورية تتقدم بمجموعة من البيادق الاجتماعية السياسية، الأمبراطورية العثمانية ختام القيح الإقطاعي أخذت تواجه تمرد الفلاحين المُحرَّضين من قبل الغزو الغربي الإستعماري، وشكلَّ هذا التغلغل الغربي أدواته من خلال الثقافة الدينية السياسية فحافظ على الإقطاع الديني السياسي كواجهةٍ زائفة للحضارة الأوربية المسيطرة، وجعل الدين الإسلامي بمذاهبه أكسسورات مكملة للسيطرة العليا المارونية.

السنة في نموهم المدني، والشيعة بكدحهم الفلاحي، يقدمون البضائعَ للتاجر الماروني، كوكيل للاستعمار الفرنسي، لكن المسلمين من خلال توالدهم الكثيف، وحراك منطقتهم التي يسيطرون عليها، وصراعهم المتشنج مع اليهودية، راحوا يغيرون الثالوث اللبناني أو يسقطونه فوق رؤوسهم.

هذا الظرف المنوع المتصارع مكن الاستعمار الفرنسي من تشكيل دولة طائفية يرأسها الموارنة، وتتدرج في سلمها الاجتماعي السياسي المتصارع الملتبس بين الطوائف الإسلامية والطوائف الأخرى.

أعطى العصرُ الحديثُ إمكانيات كبيرة للبنان كي يتحرر وينفصل بذاته عن إستبدادية الشرق الملاصق له، ففرنسا مؤسسة الحداثة الغربية النضالية هي راعيته، وغذت فيه الثقافة الحديثة  عبر المؤسسات التجارية التصديرية الاستيرادية، وكان الموارنة – برجوازية لبنان – هم الوكلاء، ومنذ القرن التاسع عشر تدفقت سيول هذه الثقافة التنويرية الأدبية، لكن بقيت في طابعها الثقافي العام غير قادرة على خلق ثقافة وطنية توحيدية.

فإنتاجُ الثقافةِ من خلال الطائفةِ بشكلٍ إستيرادي يجلبُ مفاهيمَ المصدر، وحتى هنا حين قام الموارنة بجلب الثقافة الفرنسية التحديثية حجّموها في مفاهيم نهضويةٍ مجردةٍ غيرِ قادرةٍ على النقد النضالي للطائفية وإنتاج ثقافة ديمقراطية علمانية، فقادَ هذا الطوائفَ الأخرى لجلبِ ثقافات طائفية من مصادر أخرى.

فواجه لبنان ثقافةً تابعةً للحداثة الشكلية الغربية، وهيمنة دينية إقطاعية شرقية كبرى متعددة الأشكال. سياسياً تجسد ذلك في ظهور حزب(الكتائب) بشكل فاشي، مستوحياً نموذجه من أسبانيا فرانكو، وليس من ثقافة هدم الباستيل الفرنسي، مما أكد جذور الإقطاع الماروني العسكري أكثر من إنفتاح الحداثة الديمقراطي، ووضح عدم قدرة البرجوازية الطائفية على خلقِ ثقافةٍ وطنية ديمقراطية، وهذا قادَ المسلمين إلى بعثِ النماذج الدكتاتورية السياسية لطوائفِهم المختلفة، وهم يقبعون كذلك في الإرث الاجتماعي التقليدي.

 وذلك يتشكلُ عسكرياً بطابع المليشيا التابعة للحزب الشمولي.

إن  كل طائفة حسب هذا التطور تصعدُ دكتاتوريتَها الخاصة، حسب تدفق الثراء داخل قياداتها، وعلاقتها بطرف عالمي مهيمن، وعلاقتها بطرفٍ عربي إسلامي ناهض أو موسع لسيطرته. فيغدو لبنان صدى للخارج، وداخلهُ يمورُ بحركةٍ غير منتجة مؤسسة.

أحجام الطوائف مهمة وتحالفاتها مهمة كذلك، وأيضاً دور القيادات الارستقراطية والإقطاعية وشبه البرجوازية المهيمنة وإتجاهاتها في الحقول الوطنية والمناطقية والعالمية .

  ففيما كانت الهيمنةُ الغربيةُ تواجه إنحساراً مؤقتاً خلال نهوض الشرق التحرري صعدتْ القوى القومية العربية في سوريا ومصر والعراق وغيرها من  الدول العربية، صانعةً نموذجَ رأسماليةِ الدولةِ الوطنية الاستبدادية، وهو شكلٌ يؤكدُ ضعفَ السوق الحر والقوى الوسطى وهيمنة قوى وسطية هامشية خاصة الضباط الكبار، فتمددتْ على لبنان وتصارعت فيه وأصطدمت بنموذجه الليبرالي المتغرب.

تواجه هذا الصراع بين النموذج الليبرالي الغربي التابع، ونموذج الشرق العربي التحرري الشمولي، ولم يكن لبنان قادراً على الانحياز لكلا الشكلين من التطور، فتلك دولٌ عربيةٌ كبيرةٌ موحدةٌ قادرةٌ على إنتاجِ الدولةِ المركزية، فيما لبنان ليس بمستوى ذلك، كما أنه غيرُ قادرٍ على إنتاجِ نموذجِ الغرب الديمقراطي التحديثي العلماني من جهة أخرى، فأكتوى صراعاً وناراً بين الجهتين.

كان لا بد للمسلمين من الانحياز ضد النموذج الغربي التحديثي الديمقراطي التابع، في أثناء صعود نماذج الدول الوطنية الشمولية، فأدى عددهم الكبير ونشاطهم من تحجيم المحور الآخر لكن دون القدرة على هزيمته، ودون القدرة على إنتاج نموذج وطني ديمقراطي توحيدي من جهةٍ أخرى، فبقيت الطوائفُ في إختلافها وصراعاتها، وبقيت قواعدُها وقممها المفتتة غير الملتحمة طبقياً.

تغدو التحالفات والمفارقات نتاجاً لحراك طائفي داخلي، فالقيادة المارونية الغنية ذات الشعار الغربي وجدت نفسها في صعود الغرب ونزوله، فيما صعد المسلمون مع نمو الدول العربية والإسلامية، عبر حراك طوائفهم وظروفها وصراعاتها كذلك والتي سوف تصل لاحقاً إلى مستويات كارثية.

كان صراعُ المسلمين ضد المسيحية المارونية صراعاً طائفياً، وليس صراعاً تحديثياً ديمقراطياً، فكانت له نتائجه السلبية الاجتماعية والسياسية.

فالقيادات والقوى التي إشتغلت على هذا الصراع من الجانب الديني الإسلامي كانت محافظة تقليدية، وهي تشيرُ كذلك إلى التفتتِ المناطقي وحراك قوى الإقطاع المختلفة وإستخدام الجمهور العامي الفاقد لدورهِ النضالي، أي كان ذلك كله تعبيراً عن صراعات القرون الوسطى البالية.

الدولةُ المصريةُ أخلتْ المكانَ للدولة السورية، ذات الحضور التقليدي في خاصرةِ التطور اللبناني، كانت في بداياتها الوطنية الخمسينية التعددية تشكل علاقة تداخل مفيدة ونضالية مع اللبنانيي، مع تصاعد جهاز الدولة المركزي وهيمنته راحت تصعدُ رأسماليةَ دولة شمولية عسكرية، وتهزم تحالف(الجبهة الوطنية اللبنانية) الذي حاول هزيمة المارونية.

لم تكن جبهةً وطنية لأنها لم تستطع دمج المسيحيين في نضالها الموهوم، وعدمُ إنتاج نضالٍ وطني ديمقراطي متغلغلٍ في كافة شرائح الشعب اللبناني، تعبيرٌ عن غياب النضال الوطني الديمقراطي، وتجميع تحالفات شموليات سياسية عدة.

ومثلما كان المسيحيون إقتصر نضال المسلمين التحديثي على شرائح فوقية، وكانوا وكلاء منتوجات إقتصادية أو وكلاء منتوجات سياسية إستبدادية أو مهيمنين على العاملين.

هزيمة المسيحيين أو هزيمة المسلمين قبل الحرب الأهلية أو بعدها لا تُغني الثقافة، ولا تُحدث نقلةً إجتماعيةً تطورية، نظراً لبقاء الفسيفساء الطائفية، لكنها تغير أحجام السكان وحراكهم، عبر الصراعات والحروب المرضية وليس عبر حراك تنموي صحي.

في هذه الأثناء كانت سوريا الدولة الشمولية تنتقل لنظام عسكري إستخبارتي تدخلي، ثم تفرض سطوتها في الجنوب عبر مؤيديها المذهبيين السياسيين.

إن الطائفة الشيعية الأكثر عدداً والأوسع فقراً  والأكثر تعرضاً للهجمات الإسرائيلية، تنتقل من مناطق التخلف البعيدة وتحتشد في جنوب العاصمة اللبنانية وتتمركز الطوائف الأخرى في خنادقها بقوة.

وكان حراك الريفيين نحو المدن العربية يسبب فوضى وعودة إجتماعية للوراء عموماً، وهذا ترافق مع العدوان الإسرائيلي المستمر، ومع ظروف العامة الفقيرة المأزومة والباحثة عن تغيير إجتماعي.

في هذه الأثناء كان المشروع العربي القومي ينهار، بسبب عجز الرأسماليات الحكومية الشمولية عن محاربة الاستغلال والفقر والبطالة، وكانت هي منتجةٌ لها بإسم محاربتها. لهذا تصاعدت النزعاتُ الطائفيةُ بشكل واسع وجامح. وغدت أكثر وضوحاً وفجاجة. وظهرتْ رأسماليةٌ حكومية جديدة في المشرق العربي الإسلامي في إيران التي راحت تتمدد فوق نسيج طائفي واسع منتهجة نهجاً عسكرياً.

الفئات السنية والمسيحية لاصقت الحياة التجارية والانفتاح حيث لم يعد ثمة رأسمالية دولة، بل غربٌ يكرسُ سيادة الرأسمالية.

التفسخ الداخلي لرأسمالية الدولة السورية والعجز عن تحرير الأرض المحتلة وتقديم التطور والديمقراطية والشبع للشعب تلاقت مع ذات المشكلات لرأسمالية الدولة الإيرانية. فوجدت الاثنتان نفسيهما في موقف سياسي عريض واحد.

كان السيد موسى الصدر يعمل في الطائفة الشيعية من أجل أن يكون للطائفة حضور سياسي إجتماعي بارز وبشكل منفتح متعاون مع بقية الطوائف وخلقَ علاقات جيدة مع رجال دين مسيحيين فكان نقطة تحول في حياة لبنان، فأُزيح من خلال مؤامرة كبيرة لعدة دول كما يبدو وإختفى في ليبيا، وتصاعد تنظيمان مذهبيان هما حركة أمل وحزب الله بعد ذلك، وعملا على منع تطور النضال الوطني الديمقراطي في لبنان والجنوب خاصة، وتصفية القوى المعارضة للحكم السوري، أي كان دورهما مثل المليشيا الطائفية المختلفة السابقة أي عبر إستخدام العاملين الفقراء المُفرَّغين من عقولهم ومن أرضهم.

توزعت القوى السياسية الطائفية اللبنانية على محوري العالم العربي الإسلامي المتصارعين اللذين يمثلان شموليات متعددة متقاربة، ليس فيها ديمقراطية عميقة، فهنا مركزية شديدة وهيمنة للرأسمالية الحكومية العسكرية وهناك مركزية أقل وحرية أوسع للقطاعات الخاصة وبعض الحريات اليسيرة.

وجمعت القوى السياسية اللبنانية ولاءات لهذه الأنظمة المتصارعة المتقاربة، لكونها تمدها بالمساعدات المختلفة، كما أن بعض هذه القوى السياسية اللبنانية غدا إمتداداً سياسياً وإيديولوجياً وعسكرياً لها، مما نقل أزمات وقضايا تلك الأنظمة إلى الداخل اللبناني.

لا يمكن إنقاذ لبنان سوى بإمتداد التحولات الديمقراطية العربية الجديدة إلى الأنظمة الشديدة المركزية المؤثرة على لبنان والمعرقلة لتطوره الوطني الديمقراطي، وحدوث فيض ديمقراطي شبابي واسع النطاق، يتغلغل في الحشود اللبنانية العادية ويدفعها لإزاحة التنظيمات الطائفية من التصدر في الساحة ويهزم إيديولوجياتها المستوردة.

في ذكرى رحيله الخامسة.. «عبـــــــدالله خلــــــــيفة» ماكث بيننا بإرث عصي على الغياب

رغم الغياب يدأب «عبـــــــدالله خلــــــــيفة» على الحضور بإرثه الذي يشرع دائمًا في البوح عن إبداع غير متناه، شكله عبر عقود فكرا وأدبا وثقافة، حتى صار للرواية في البحرين عرابا، ومثقفا وكاتبا بارزا خلق نتاجات بعلامة فارقة في المشهد الأدبي والثقافي البحريني والخليجي، تنوعت بين القصة القصيرة والرواية والنقد والفلسفة والبحث والتحليل السياسي والتاريخي. والتماسا لأصداء ذكرى رحيله الخامسة لدى المثقفين، تواصل «الثقافي» مع عدد منهم.

الناقد الدكتور فهد حسين يقول إن خلود المنجز الإبداعي والثقافي للراحل عبدالله خليفة يتطلب قراءته من زوايا متعددة «بعيدًا عن المناسبات الاحتفائية وإن كان يستحق ذلك كثيرًا غير أن الاحتفاء بين الحين والآخر لدى الكتاب والمبدعين قد يضر بهم وإنتاجهم وبالذين تتلمذوا على أعمالهم».

وبشأن الخطوات الواجب اتخاذها في سبيل تخليد ذلك المنجز، يفيد: «علينا أن نجمع منجزه المتعدد بين القصة والرواية والمقالة والدراسة الفكرية والنقدية، ونجعل هذه المحاور المتعددة ضمن مشروع تعمل على إنجازه المؤسسة الثقافية الرسمية أو أسرة الأدباء منفردين أم مجتمعين، أو تفكر أخبار الخليج نفسها التي عمل فيها زمنًا طويلا والهدف من هذا بيان دور الراحل في الحراك الادبي والثقافي المحلي والخارجي».

ويضيف موضحا: «ومن جهة ثانية الوقوف على هذا الكم الكبير من النتاج الروائي وكذلك القصصي ومعرفة إن كان قد أضاف جديدًا في الكتابة السردية أم هو تكرار أم تباين بين عمل وآخر ولكنه يدخل في سياق التجربة الكتابية بوصفها مشروعًا أدبيًا كان يعمل عليه».

ويرى فهد أن الوقت قد حان لتفكيك كتابات خليفة النقدية لبعض الاعمال الأدبية في ظل التحولات التحليلية والتأويلية للنصوص الإبداعية «وهنا ننظر لكتاباته ودراستها، كذلك كتاباته الفكرية. ولا يحدث هذا إلا من خلال إقامة ملتقى يكلف بعض النقاد البحرينيين والعرب للكتابة النقدية والتحليلية لأعماله المتنوعة».

وعن دور الراحل الأدبي والثقافي يقول: «في كل الحالات لا ننكر أن للراحل عبدالله خليفة دورًا بارزًا في إبراز الرواية البحرينية ونشرها عربيًا، بل كان له عدة أدوار تجاه عدد من الكتاب واحتضانهم عبر الصحافة الثقافية ونشر بعض نتاجهم الإبداعي والنقدي، وأنا أحد الذين حصلوا على رعايته الأدبية، فقد كان دائم التشجيع لي نشرًا لما أكتب، والكتابة عني أيضا».

ويؤكد فهد أن على المعنيين بنتاج الراحل أن يعلنوا جائزة تحمل اسمه «فإنه لا يكفي أن نذكره بعد مرور خمس سنوات على رحيله، أو نقيم ندوة هنا أو هناك، أو نكتب عنه في الصحافة».

سيال هادر

الناقدة الدكتورة إنتصار البناء ترى أن الذكرى الخامسة لوفاة الأديب البحريني الكبير عبدالله خليفة حلَت ثقيلة، معتبرة أن الفراغ الذي خلفه غيابه لم يجد ما يملؤه «فبصمة خليفة كانت مميزة، وقلمه لا يشابه حبره قلم أحد سواه. عبدالله خليفة أحد أهم أركان الرواية والقصة القصيرة في البحرين. انطلق من سمات جيل الإيديولوجيا لكن الفكر في أعماله لم يسبق الفن ولم يتغلب عليه. لقد تمازجا بما يشبه السيمفونية التي تبعث المشاعر وتهيجها في وجدان المستمع دون أن تنطق ببيان».

وتشير البناء إلى أن الأعمال السردية لـ«خليفة» انحازت للمجتمع، كونه أحد ممثلي الإتجاه الاجتماعي والواقعية الإشتراكية في البحرين والخليج. موضحة أن «شخوص رواياته كانت مزيجا من كل أطياف المجتمع الغني والفقير والعامل والمرأة والبيض والسود والعرقيات المتعددة. 

وتضيف: «طرح أسئلة الحرية في أعماله. وبحث عن العدالة الاجتماعية. وانتصر للمهمشين وللمرأة. وهؤلاء كانوا أبطال رواياته وقصصه القصيرة، أفكاره كانت عنيدة وجريئة. وبرغم ذلك استطاع أن يتحدى كل عيون الرقابة ومقصاتها وأن يتجاوزها بسلام».

وتستشهد البناء بنماذج من النتاجات الروائية للراحل، بالقول: «في روايته «ذهب مع النفط» صدم القارئ بعنوان الرواية ثم ضيعه في تلاشي بطل الرواية الذي عانى كل صنوف العطب بعد خروجه من السجن. وفي «رواية الينابيع» اختزل قراءة على ضفاف التاريخ للبحرين وهي تغادر ماضيها وتلج إلى عالم النفط والاستعمار والتحرر.

وتتابع: «في رواية «اغتصاب كوكب» ضاع الوطن المنتهك بين مفترسيه ذات اليمين وذات الشمال. وفي رواياته التاريخية ناقش الروايات بالسرد والتفكيك ووجهة النظر الأخرى».

وتلفت إلى أن «خليفة» لم يكن يعني إلا كتابة ما يفكر ويحس به، واصفة إياه ببحر غزير الأمواج، وروح متهوجة بالعطاء، وسيال هادر يكتب في مختلف صنوف الفنون الأدبية من مقال وقصة قصيرة ونقد ودراسات فلسفية.

وتعبر البناء عن مدى الإمتنان تجاه الراحل، بالقول: «نحن الذين نشأنا على كتاباته ورواياته وأعماله القصصية نشعر بالإمتنان نحوه لأنه كان جزءا من نشأتنا وتكويننا. تقاسم معنا الأفكار وتجادل مع دواخلنا، وقادنا أحيانا، وعارضناه كثيرا. لكنه بقي اسما مرسوما في ذاكرتنا للبحرين التي أحببنا ونحب ونكتب من أجل أن تكون كما نحلم».

تجارب مؤثرة

من جهتها، تعتبر الكاتبة الدكتورة أنيسة فخرو أن تجربة عمل الراحل عبدالله خليفة في سلك التربية لمدة خمسة أعوام أثرت في الحس النقدي في كتاباته، مشيرة إلى أن «تجربة الاعتقال التي خاضها لسنوات ست من 1975 إلى 1981، كانت لها أثر كبير وواضح في شخصيته وكتاباته، بل إني أرى بأن دخوله المعترك السياسي كان له التأثير الواضح في وقوفه ضد الظلم مع الفقراء والمظلومين طوال تجربته الحياتية الثرية، وبروز حدة الصراع الاجتماعي والطبقي وحجم المعاناة والمكابدة في كتاباته الأدبية والصحفية حيث بدأ الكتابة الصحفية منذ سنة 1981 في مختلف القضايا الاجتماعية والثـقافية في الصحف البحرينية والخليجية».

وترى فخرو أن نتاج الراحل الأهم هو أعماله الروائية التي جعلته علامة أدبية فريدة لها حيز لامع بين كبار الكتاب العرب، مستدلة على أبرزها بالقول: «أهم تلك الأعمال الروائية التي جعلت الأديب والروائي والناقد البحريني عبدالله خليفة في مصاف الأدباء العرب الكبار، هي اللآلئ (1981)، والقرصان والمدينة (1982)، الهيرات (1983)، وأغنية الماء والنار (1989)، ومريم لا تعرف الحداد (1991)، ونشيد البحر (1994)، وساعة ظهور الأرواح (2004)، ورأس الحسين (2006)».

وتضيف إزاء نتاجات الراحل الأخرى «أصدر عبدالله خليفة سلسلة أدبية وتحمل عنوانا موحدا: عمر بن الخطاب شهيدا (2007)، وعثمان بن عفان شهيدا، وعلي بن أبي طالب شهيدا (2008). وتوجها بكتابه عن النبي بعنوان محمد ثائرًا عام 2010. وربما أجمل ما كتبه هو رسائل جمال عبدالناصر السرية الذي صدر عام 2015 بعد وفاته عام 2014 عن عمر يناهز السادسة والستين بعد أن ترك إرثا أدبيا عزيزا نفخر به. 

زاد ثقافي للأجيال

ويلفت الباحث والروائي إبراهيم راشد الدوسري إلى أن إرث الراحل عبدالله خليفة في الإبداع الأدبي والفكري سيظل زادا ثقافيا تنهل منه الاجيال الشابة المثقفة وذات الاهتمامات الأدبية في الحاضر والمستقبل. مشيرًا إلى أن رؤى الأديب عبدالله الإبداعية والفكرية ليس لها حدود.

وبشأن نتاج الراحل الإبداعي يقول الدوسري «جسد عبدالله خليفة من خلال أعماله الإبداعية القصصية والروائية معاناة وصراع الانسان العربي في مواجهة الاستلاب والتهميش وكان واقعيا حيث رصد لحظات الإنكسارات والطموح والصمود وحتى الجنون وكان يتميز اسلوبه بالعمق والتصوير الفني الجميل».

ويتابع موضحا «أما نتاجه الفكري والفلسفي فكان يمتاز بالعمق والتحليل والوصول إلى النتائج بعد عرض المعلومات التي تغني الموضوع الذي يبحث فيه وهذا دليل على ثقافته الواسعة رحمه الله واسكنه فسيح جناته».

مثقف موسوعي

بدوره يصف الشاعر فواز الشروقي الراحل «خليفة» بالمثقف الموسوعي الذي انعكست ثقافته العالية على رواياته. مبينا أنه لم يكن مجرد روائي «بل كان صاحب مشروع ثقافي. فجميع رواياته كانت تعبّر عن هذا المشروع، على اختلاف أحداثها وزمانها ومكانها وشخصياتها».

ويستذكر الشروقي لقاءه الأول مع الراحل عبدالله خليفة، بالقول: «كان أول لقاء لي مع الروائي عبدالله خليفة حين زارنا في جامعة البحرين برفقة الدكتور إبراهيم غلوم، وكنت طالبًا حينها، ودار بيننا نقاش مفتوح حول رواياته. وفي العام 2010م كنت في زيارة للبنان، وأوصاني أن آتي له بنسخ من روايتين له صادرتين حديثًا في ذلك الوقت، هما «ذهب مع النفط» و«محمد ثائرًا». وقد منحني عبدالله خليفة شرف أن أكون أول بحريني يقرأ هاتين الروايتين بعد صدورهما».

إرث باق

ويؤكد الشاعر والأديب الإماراتي الدكتور طلال الجنيبي أن «الرموز لا تغيب، وإنما تترك لنا من إرث الحضارة والجمال ما يخلد بقاءها وهكذا عبدالله خليفة عراب الرواية البحرينية والخليجية، هو باق رغم الرحيل، ومستمر رغم الإنقطاع، وماكث رغم الغياب، وهكذا دأب الكبار دائما وأبدا رحم الله الكبير القدير عبدالله خليفة».

السبت ١٩ أكتوبر ٢٠١٩

اليهودُ من التراث إلى الواقع

ظهر اليهودُ والعربُ وبعضُ الأقوام الأخرى في منطقة المشرق كقبائل نازحة بدوية باحثةٍ عن المناطق النهرية الخصبة، لكن ذلك لم يحدثْ في أول النزوح بل بعد مئات السنين.

في حراكِ اليهودِ المتوجهِ نحو البلدان الخصبةِ كانوا في البدءِ قبائل بلا هوية محددة، بل كانوا يشكلون هويتهم، عبر الاحتكاك بالحضارات والأقوام الراسخة في المنطقة، ولهذا كان عبورُهُم المستمرُ الذي أعطاهم فيما بعد اسم العبرانيين، مثلما أعطى العربَ تعبيرهم، يَتسمُ بالبحثِ عن المنافع والخصبِ لكنهم كانوا بداةً غلاظاً.

رؤوساءُ العشائر الكبار اتخذوا لهم أسماء تاريخية وهم: إبرام، وإسحاق ويعقوب.

عبّرَ حراكُ العشائرِ اليهوديةِ عن البحث عن المناطق الفارغةِ من السكان والشعوب الكبيرة مثلهم مثل شعوب كثيرة مترحلة وَجدت في منطقة الأنهار هذه قبلة إقتصادية، ولكنهم دائماً كانوا يجدون الأمكنةَ مليئةً، وأقل الأماكن من الشعوب الكبيرة كانت الصحارى فكانت شمالُ الجزيرة العربية هي الامتدادُ التاريخي لهم. وهي تمضي من جنوب العراق حتى سيناء والصحراء المصرية الشرقية. بل وحتى هذا المكان الكبير الوسع الشظف كان فيه العرب أقرانهم والمتداخلين المتصارعين معهم، والذين انحدورا للجنوب، وهناك العماليق كذلك، أما مناطق الخصب في العراق وفلسطين وسوريا ومصر فكان الدخول فيها عسيراً، وقد تم إقتحامها والصراع مع الكنعانيين في حران وأريحا لكن السيادة والعيش الرغد لم يأتيا.

القلة العددية لمؤسسي العبرانيين فيما بعد، والبداوة، والترحال، وهجمات الأقوام الأخرى، جعلتهم على هامش الحضارات التي قاربوها.

والجثومُ على الحدودِ المصريةِ من قبل هذه القبائل كانت البدايةُ الفعليةُ للتاريخِ اليهودي كما سيُعرفُ لاحقاً. لهذا كان التاريخُ السابقُ المليءُ بشذراتِ القصص هو مجردُ بدايةٍ غامضة، وإفتتاحية شبه مجهولة، وكان تاريخاً غائب الملامح رغم أن التأصيلَ اللاحقَ سوف يضخمه.

لهذا كان ظهورُ النبي موسى واقعياً في المسار التاريخي الحقيقي هنا، فهذه الأقوامُ من الرعاةِ والخدم وأصحاب المهن الدنيا الجاثمة على هامش الدولة المصرية، من الصعب أن يظهرَ فيها مثقفٌ بارزٌ بمستوى موسى، ولهذا كان موسى مصرياً بكلِ شخصه، كما يدلُ عليه اسمهُ وثقافته، أما التهويدُ الطفوليُّ له فقد جاءَ لاحقاً. فهو في اللغةِ المصريةِ القديمة بمعنى(وليد).

وثمة فترةٌ مهمةٌ بين ظهورهِ التاريخي وبين ظهوره الواقعي، حيث كان قد تزوج صفوره (صفية) ابنة الكاهن في أرض الميدانيين وهي في المنطقة القريبة من التجمع السكاني الكبير للعبريين، وانجب منها ولدين وكَبُرا وتداخلت حياتهما بالحدث التاريخي، مما يُعطي مساحة زمنية للتداخل العميق مع هذه الحشود المهمشة.

وهذا السردُ الذاتي تداخلَ مع التحولاتِ التاريخية على الجانبين المصري والعبري. حيث أن الحضارةَ المصريةَ كانت في حالةِ مخاضٍ متنقلة من الوثنيةِ التعددية الكثيفة إلى التوحيد، وكانت تلك هي لحظة إخناتون التوحيدية الفاشلة، وتوجه موسى للتوحيد ومفارقته أرض مصر وحمل هذه الأقوام لرسالة التوحيد. انهما جانبان وحدا الذاتي والموضوعي، لكن حشود المرويات وألغاز التاريخ والنظريات، كلها تشوشُ هذه اللحظة المركبة المعقدة.

لكن توحيد موسى ورسالته وتحميلها لشعب وثني من قبائل صغيرة فقيرة في خضم إمبراطوريات المشرق، يظل لغزاً كبيراً. لكن الجانبين المتضادين، موسى والعبريين، ظلا يتصارعان، فأن نقل الثقافة المصرية التوحيدية البازغة لقبائل بربرية كانت عملية غير ممكنة عملياً، لكنها غدت مهمة قرون، وقد بدت المرويات الموسوية الموجهة لتثقيف وتديين هذه القبائل غير محبوكة على الجسد القبلي المفتت البدائي الذي ظلتْ الأرضُ الموعودةُ التي تفيضُ لبناً وعسلاً هي الوجهة التي تشده دون سواها.

إن التاريخَ اليهودي يبدأ هنا بإستخدام اسم الإله (يهوه)، إن النبي موسى هو الذي صاغهُ على جسم هذه القبائل ورَكّبَ موادَهُ الشعائرية والعبادية وأنتج بعضَ مواده الفكرية الدينية، لكي تصهرَ الكيان المفَّتتَ في كلٍ موّحد، وجاء اسمُ الإلهِ مفارقاً لإرث القبائل، ولكن الاسم القديم التجسيدي الطالع من ثقافةِ الخصوبة الزراعية الوثنية لم يعد ملائماً، فجاء اسمُ الإلهِ الجديدِ المُجرد، غيرِ المرتبطِ بالموروثِ الزراعي الخصوبي وعاداته، ويحملُ طابعَ القوة والتحدي ويجلجلُ بتراثِ منطقة البراكين لشمال الجزيرة العربية، مما يُعطي شجاعةً لهذه القبائل المُداسة على الشارع العام للأمم، ويدفعها للأرض الموعودة. ومن المؤكد إن إعادة تكوين ديانة أمر يحتاج لوقت طويل. كما أن الأرض الموعودة مليئة بالسكان المدافعين عنها، ولهذا قيل أن ثمة تيهاً قد حدث لأربعين سنة، وهو ليس تهياً بل هو تكون للدين الجديد العام دون إنفصال كلي عن القديم، كما أن ذلك كان عجزاً عن الدخول إلى فلسطين وتراكماً للمواليد وإستعداداً صعباً للغزو!

أدت ظروفُ النشأةِ اليهودية وصغرِ حجمِ السكان وسيطرة رجال دين غرباء على العبرانيين، إلى حكمٍ سياسي مفكك، فاللاويون وهم رجالُ الدين المجلوبين من مصر شكلوا طبقةً مسيطرة شبه أجنبية، إستغلتْ السكانَ العاملين حتى إنتفضوا عليها وإستبدلوها بعصرِ الملوك الذي لم يكن أفضل.

مثّل طابعُ الدينِ اليهودي أولَ حكم ديني عميق الاستبداد، يمركزُ قوة سكانية صغيرة محدودة المعرفة والجذور في المنطقة في مواجهة شعوب واسعة وثنية، فكان لا بد أن يتوقع بقوة، وفي زمن إنكسار الدولة عبر الغزو العراقي، أتيح لرجال الدين الجدد في بابل أن يعيدوا صياغةَ اليهودية بحيث تتجذر في تراثِ المنطقة الخصوبية بدون أوثانها، فكانت إعادةُ نظرٍ شاملة مؤدلجة مسيسة إستلهمت التراث المناطقي الواسع الضارب في الجذور عبر مسحة تهويدية قُدمت فيما بعد للعالم المسيحي.

لكن بعد هذا كان زمنُ الشتات، الذي ترسختْ فيه القوقعةُ الدينيةُ لدرجة العصاب اليومي، وكل هذا العصاب يجري من أجل العودة لفلسطين الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، أرض الأجداد والتاريخ (العظيم) الذي زُخرف وبُولغ في عظمته وبطولاته.

التقوقعُ خلقَ رغبةً عارمة في تشكيل وطن قومي ديني، مفارق للبشرية، أتاحته القدرة اليهودية في تكوين رأس المال، لكن حين ظهر الوطن ظهر كقوقعة محصنة معادية للمحيط، وبقاؤه كـ(جيتو) كان لا بد أن يهيمن عليه رجالُ الدين المتعصبين المنتجين لهذا المجتمع عبر عدة آلاف سنة، فكان لا يمكن أن يكون علمانياً، وأن يغدو ديمقراطياً يقبل بتنوع المواطنين الديني.

ونظراً لنشأته العسكرية فإنه إعادَ إنتاجَ نفس موديل الزمن القديم، حيث الهيمنة العسكرية – الدينية المتداخلة، وهذا هو ذات التركيب للمجتمعات المتعصبة والفاشية، حيث العرق أو المذهب هو المحدِّدُ لتكوين الدولة الإلهية أو الطائفة المنصورة.

لكن الإنشاء من قبل الرأسمال الكبير المتكون في ذروة الغرب كرّسَ من الخارج شكلاً حداثياً متطوراً، وهو بناءٌ إقتصادي متطورٌ لكن عبر شكلٍ سياسي إيديولوجي يعودُ لقرون غابرة ويفرضُ نفسَهُ بهذا التسلط التراثي المرعب، فالمضمونُ لم يغير الشكل والشكلُ يخربُ المضمون. وكأن الرأسمالَ الأمريكي عادَ لبيتِ أيل ويغتسلُ تحت مطر إلهِ البراكين.

الطابعُ العسكري الديني المحافظ العنيفُ المكرّسُ في الماضي والحاضر، وسببُ خرابِ الحكم القديم هو نفسه يزعزعُ إسرائيل المعاصرة، حيث قاد ويقود لتكاليف رهيبةٍ على كل جبهات النزاع فلم يؤدِ التطور الاقتصادي لرفاهية السكان المنتظرة، ولم تغدُ أرضُ الحلم التي تفيضُ عسلاً ولبناً، بل هي أرضُ الحروب والخصومات المستمرة، وإرتفاع تكاليف المعيشة بحيث أن ثمن شقة في يافا يصل إلى مائة وخمسين ألفاً من الدولارت.

التقوقع الداخلي الذي لم تهزمه الحداثة والديمقراطية، ما زال مصراً على الأنا المطلقة المتحدثة مع الإلهِ وحيدةً دون الأغيار، لكن الصراعات الاجتماعية ومطالب الأغلبية العاملة تكسرُ جزءً من هذا الإنكفاء التاريخي، وها هي تثور مثل العرب سكان العالم الثالث، تطالبُ بأقل بكثير من تلك الأرض الحلم، تطالب بالإسكان وتخفيض الأسعار.

ويتضح النهجُ اليميني المتطرف أكثر في عدم القبول بالعيش المشترك مع الفلسطينيين في دولةٍ علمانية واحدة أو في بلدين منفصلين، وتحميل الفلسطينيين تكاليف الأزمة الاجتماعية الناشئة من سلسلة طويلة من الحروب بتوسيع المستعمرات وحصار غزة.

ولم يستطع التكون الحداثي أن يفرض تحولاً في هذه الثقافة الدينية الرجعية المتكلسة بل هي التي تخترقُ التيارات الحداثية الظاهرية وتحيلها لأشكال أخرى من المقاربة الدينية.

فكلما كانت التربية المحافظة مسيطرة منذ الطفولة في أشكال حادة عصابية فإنها تحيلُ المواطنَ الحداثي إلى كائنٍ يعودُ يومياً لعصور الهامشية على حدود مصر ويمضي (التيه) في سيناء ويعيشُ الكراهيةَ الدائمة للأمم الأجنبية. ولهذا فإن اليسار الحكومي يشترك مع اليمين الديني المتطرف في حكومة واحدة تغتصبُ الأرضَ وتحيل الاقتصاد إلى إقتصاد عسكري يقع عبئهُ على السكان الذين لا يجدون قوة سياسية كبيرة ترفض إقتصاد الحرب ودولة الدين العسكرية.

 

اليهودية كدكتاتورية شرقية

لم تتشكل تجربة حضارية ديمقراطية كبرى راسخة عميقة متوارثة لدى قبائل اليهود المشتتة عبر خرائط الأرض. ثمة قدراتٌ فذةٌ تراكمتْ في مجال العلاقات التجارية والنقدية، فنجد القبائل اليهودية وهي تخرجُ من أحضانِ التجمعاتِ القرابية المتماسكة المنغلقة لا تندمجُ بالمجتمعاتِ الحضارية شبهِ الرأسمالية وشبهِ الديمقراطية في المدن والدول التي تنزحُ إليها.

وسواءً كان ذلك بنزوحِ القبائل من فلسطين إلى مصر أو إلى بابل، فإن التجمعَ التحديثي شبه الرأسمالي أو المُـقاربِ للحداثةِ في ذلك الزمن، يبقى منعزلاً عن الإندماج. إن القبليةَ الدموية السلالية تبقى مهيمنةً على العلاقاتِ الماليةِ البضائعية، وتعيدُ فوائضَها إلى أحضانِ الجماعة القبلية – الدينية المتماسكة.

هناك جوانبٌ عقيدية تتأس من البذور الأسرية والقبلية، برفضِ الإندماجِ مع (الأغيار). فهناك اليهودُ وهناك الأغيار. ولا مجالَ للخلطِ والأختلاط والتداخل والنمو المشترك. ومن هنا تغدو العقيدة مشبعة بالتفاصيل الخاصة المميزة؛ في رسم الوجود، في ذكر السلالة والأنبياء والحكايات الحقيقية والخيالية والمحرمات والطقوس، لكي تبقى القبيلة – الشعب، في وصاية الكهنة.

لعل بعض الاختراقات المحدودة أو الواسعة تمت لهذه العرقية الزرقاء، المتعالية فوق الشعوب، ولا يعقل أطلاقاً أن يحتفظ أي عرقٍ بنقائهِ الأبدي.

ونلاحظُ هذه العقيدةَ بعدمِ الإندماجِ مع الأغيارِ حتى في الرمزياتِ القصصيةِ المقدسة للأديان، فالقائدُ اليهودي يتاجر ويجمعُ ثروةً ويصلُ لمنصبٍ كبيرٍ في الدولة، لكنه لا يختلطُ بالخاصةِ أو العامة الأهلية في البلد الذي إرتفعَ فيه من الحضيض لذروة عالية، والعلاقة الأسرية تقومُ على إستدعاءِ أهله، وجلبهم للبلد الغريب، ويرفضُ العلاقةَ الجنسيةَ الانصهاريةَ مع هؤلاء الذين إحتضنوه!

إن تجميعَ المال بصورةٍ مقترة متراكمة، والعيش في القواقعِ الاجتماعية أو الزرائبِ السياسية، والتمدد المستمر نحو عروقِ الذهب والفضة، نحو الأمكنة التي تتفجر فيها الثروات هي خصائص البقاء والصعود الاجتماعيين.

وكذلك الحفاظ على القرائبية لكونها تحتفظُ بتراكمِ رأس المال، والأختلاطُ مع الأغيارِ يزيلُ ليس الدم النقي بل عروق الذهب التي تشتهي أن تصيرَ جبالاً!

في التبعثر الشرقي لليهود يُلاحظ هذا السكن القريب من الأسواق، والتواجد في المدن، لكن أبداً لا يحدث ذوبان، ولا تقومُ المدنُ بإعادةِ تفكيكِ القبيلة، ولا تتحول إلى فئات وسطى ضمن طبقة برجوازية حداثية، تقومُ بتغييرِ بلدٍ ما.

إن الفئات اليهودية المالية تنسحبُ من عملياتِ التوحدِ الديمقراطي سواءً كانت الوطنية التحررية أو الرأسمالية الديمقراطية الصاهرة لكلِ دينٍ وطائفةٍ في كل إجتماعي موحد.

وهناك عناصرٌ ديمقراطيةٌ وإنسانيةٌ يهوديةٌ عديدةٌ وهامةٌ وملفتة للنظر بتاريخِها النضالي أو العلمي أو الثقافي، لكنها تبقى مجردَ عناصرَ فرديةٍ غيرِ قادرةٍ على تحويلِ مجموع القبيلة – الدينية – المالية، فلا هي منتجةٌ لوعيٍّ يهودي ديمقراطي إنساني كلي، ولا هي قادرة على الصمود بفرديتِها المميزةِ داخل عالم القبيلة المالية المتقوقعة. فتُهزمُ أو تتبنى ديناً آخر أو فكرةً مغايرة، أو تعيشُ منعزلة.

بطبيعة الحال لعبَ الموقعُ الذي إنبثقَ منه اليهودُ وهو فلسطين في خلقِ ذاكرةِ التجمعِ الخيالية الأسطورية والواقعية عبر تاريخ الشتات، كرمزيةٍ للبقاء الموحد.

لقد كان الترحالُ الأوليُّ في التاريخِ المبكرِ للقبائل الشديدة المحافظة بحثاً عن موقعٍ خصبٍ بعيد عن سنابك الإمبراطوريات الداهسة لها، وكان حلمُ النهرِ الخصب والأرض الخضراء هو الجنة الأرضية التي تريدها.

لكنها في ذلك الموقع، في أرضِ فلسطين نفسها، الجنة الموعودة، حلم الأجداد والآباء، رأتْ الكوارثَ الساحقة لها!

مرة أخرى حافظتْ على مصارعةِ الأغيار، ورفضِ الإندماج بالشعوب، ورفض تقاليدها وميراثها، وفي العمقِ كان هناك توظيفٌ لذلك التراث وإستلالهِ من نسيجهِ المغاير، والتزواج الخفي والإختلاط غير المكتوب في سيرة القبيلة – الشعب الذهبية النقية.

هذا التاريخُ الإنفصالي الصراعي مع الشعوب ربما تضَخمَّ وتوسع كثيراً في مملكةِ الخزر، الواقعة قرب بحر قزوين، هذه التجربة اليهودية التي حاولتْ الإندماجَ في شعوب الشرق وتنامت في التاريخ بشكلٍ كبيرٍ ومتحضر، لكن الخلايا السرطانية كانت موجودة كذلك.

في هذه التجربةِ التاريخيةِ الكبيرة نجدُ إن القياداتِ اليهوديةَ لم تستطعْ أن تستثمرَ هذا الموقعَ ومواردَهُ الكبيرةَ والشعوبَ الخام التي كانت تقدم قوى عملٍ ضخمة، بسببِ عدم قدرتها على خلقِ نسيجٍ توحيدي عقائدي أو ثقافي منفتح، وفي حين حقق المسلمون ذلك بإنفتاحهم على الشعوب الوثنية ودمجها في حضارتهم، تهاوتْ تجربةُ مملكةِ الخزر، يقول باحثٌ عربي ملخصاً هذه التجربة الفريدة:

(ومن المؤكد أن الخزر لم يكونوا عِرقاً واحداً أو ينتمون إلى قبيلة معينة، ولكنهم تجمع سياسي وعسكري من الشعوب والقبائل، وكانت اليهودية التي تجمع دينياً بين قادتهم ونخبهم الحاكمة والمؤثرة، فكان اليهود الخزر ينتمون إلى أعراق وشعوب وقبائل متعددة، فقد كانوا هم أيضاً تجمعاً نخبوياً يشملُ قيادات ونخب الخزر أنفسهم)،(تاريخ يهود الخزر، عرض إبراهيم غرابية).

إن النخبَ اليهوديةَ لم تكن قادرةً على صهرِ الشعوب التي تحكمها، لغيابِ الفكرة المنفتحة الإنسانية، غير العَرقِية، وتقوم الشعوب الأخرى بصهرها فيها.

وهنا يظهرُ العصابُ الأسطوري، تتفجرُ صور فلسطين، الجنةُ الأرضية الصاهرة لما هو مشتت، وتظهرُ مشروعاتُ العودةِ التي تبقي القبيلة الذهبية الغيبية موحَّدةً تحكمُ نفسَها وتطردُ الأغيارَ من بينها!

لم يستطع اليهودُ بعد إنهيارِ مملكة الخزر أن يشكلوا دولةً أخرى، وقاد إنهيارُ المملكةِ إلى شمِّ روائحِ النقودِ الزكيةِ المنبعثة من خرافِ أوربا المُعَّدةِ للذبحِ الرأسمالي، فكانت الدولةُ العثمانية وغزوها وكان الإستيلاءُ الذي قامت به على أجزاءٍ من شرقِ أوربا، والقبائلُ اليهودية تسيحُ مع حملاتِ العثمانيين المحتاجين دوماً للصرافةِ اليهودية، وكان التغلغلُ والدخولُ في شرايينِ القارةِ – المستقبل، حيث ستصيرُ اليهوديةُ ديناً مالياً لكلِ الشعوب.

هذه القارةُ كان من مصيرِها أن تجعلَ من الرأسماليةِ ديانةً مقدسة، وأن تحولَ اليهودي إلى المواطنِ الأوحدِ النموذجي، وقد صبرَ اليهود في إستغلالِ عروقِ القارةِ الإقطاعية الأوربية المريضةِ مثل إستغلالهم إمبراطورية الرجل المريض العثمانية المفلسة تدريجياً، فكان الذهبُ ينتقلُ من الشرقِ للغرب، فتغلغلوا في عروقِ أوربا وأمتص رأسُ المال الربوي اليهودي عروقَ الناس والفلاحين المعدمين وحولها إلى مانيفاكتورات ومشاغلَ ومصانعَ وبنوك!

إن الدور التأسيسي للرأسمال الربوي اليهودي في تاريخ أوربا التحديثي كان مهماً بغضِ النظرِ عن الأساطير والوقائعِ الدموية الحقيقية، وسواءً كان ذلك في تاجر البندقية أم في كتاب كفاحي لهتلر، ولكن التجارَ اليهود وهم يشاركون في نهضة أوربا الرأسمالية الحديثة، رفضوا أن يندمجوا فيها، فما زالتْ القبيلةُ الربويةُ الموحَّدةُ ترفضُ أن تذوبَ في الأغيار، وما زالتْ الفوائضُ تعلي من شأنِ القبيلة، الذي صار(غيتو) الآن وهو الحي اليهودي المنعزل عن المدينة القروسطية الأوربية الرأسمالية المتحولة للحداثة والتي تقودُ العالمَ!

وإذا تفككت الأحياء الدينية والقبلية الأخرى فإن الغيتو لم يتفكك، وإذا تفكك إحتفظ سكانه بتقاربهم الديني. إن رؤوساء القبائل والعائلات يخلون المكان أكثر وأكثر للكهنة والسياسيين المؤدلجين للعقيدة.

وقد رفض بإصرار هذا الحي أن يذوبَ في الكل الأوربي الديمقراطي، لقد أعطتهُ الرأسماليةُ الغربيةُ كلَ إمكانيات أن يتفتحَ إستغلالياً وأن تزدهرَ ينابيعُ الفضةِ والذهب من حوله، رغم قيام الرأسمالية المسيحية بإدراكِ الفضائلِ اليهودية الإستغلالية فيما بعد، وأعترافها مؤخراً بأنها قامتْ على هذا الربا اليهودي العريق! لكنه من جانبه رفضَ أن يلغيَّ ذاتَهُ، أن يلغيَّ القبيلةَ – الماليةَ- الرأسمالية الكونيةَ الآن!

هذا التوحدُ تشكلَّ رمزياً تقديسياً منذ العصر الوسيط نفسه، بين المسيحية واليهودية. المسيحيةُ التي حاولتْ أن تجاملَ اليهودية وأن تقولَ أنها جزءٌ من العهدِ القديم(التوراة)، وأنها إمتدادٌ لتاريخِ اليهودِ النضالي المقدس، لم يعترفْ بها اليهود. ويَصعبُ لفئةٍ مجهولةٍ أن تصعدَ إلى مسرحِ الديانةِ المبجلِ بدون أن تكون لها سمعة مشرفة معروفة متجذرة. فالتصقتْ المسيحيةُ باليهودية، وتشكلَّ الكتابُ المقدسُ من جزأين، يهودي ومسيحي، التوارة والأنجيل، السِفر القديم والسِفر الجديد، وكأن القَدرَ المالي قد جمعَ الديانتين في رحلةٍ إستغلالية مشتركةٍ لشعوبِ الأرض، والمسيحيون إذ يشدون أنفسَهم للروابطِ القديمة، وللأساطير التي تم تشكيلها في المشرق العربي، فهم مرابون جددٌ يتحولون لرأسماليين يستغلون العمال والفقراء في أوربا وأمريكا ثم في العالم بأسره، وتشكلتْ مع اليهودية المالية روابطُ المصانع والبنوك، وهي الأساسُ الحديثُ لوحدةِ الكتاب المقدس بجزأيه القديم والجديد.

وفي حين كانت المسيحية تنتقل للعلمانية والدول الموحّدة وتذوبُ الأعراقَ والمذاهبَ في كلٍ موحدٍ وتبعدُ الأديانَ عن أن تكون سياسةً حكوميةً مهيمنةً وتغدو أهلية مهمة كذلك، فتحتفظ بوحدة الطبقة الحاكمة، ولا تبعد الأديانَ عن دورها الإيديولوجي لتخدير عامة الشعب حسب بفهمها، وسواءً كان ذلك على مستوى كل بلد أو على مستوى قارات الغرب الثلاث، لكن كانت اليهوديةُ السياسيةُ متشبثةً بذاتِها العليا ثم تظهرُ بأسم الصهيونية، رافضةً هذا الذوبان.

في التوحدِ الغيبي على مستوى النصوص الدينية ثمة إبقاء للجمهور العامل المسيحي أو اليهودي في ظلماتِ الماضي الجميلة، إبقاءً لما لا تستطيع الرأسماليةُ الحديثةُ أن تحققهُ من أحلامٍ عظيمةٍ في العيش السعيد، فتقدمُ له أساطيرَ عن بناءِ الكون وعن الآباء المؤسسين والأنبياء العظام الذين صنعوا هذه الحضارة المشتركة اليهودية – المسيحية، وتخلق ثقافة مشتركة، ذات ترميز لأهمية القوى العليا الإستغلالية ودورها الوحيد في التاريخ، والتي تغدو مؤسساتها موضع هيمنة وسؤدد وبخور عابق بروائح القداسة، والمرتبطة بالقوى الماروائية الأبدية.

وفيما تدورُ في الواقعِ الأرضي معاركٌ ماليةٌ نجسة، فإن اليهوديةَ لم تعترفْ بكلِ هذه الثقافةِ الأوربيةِ المسيحية، وبمحاولاتِ إلتصاق الأخيرة الملوث بها، خائفةً بشكلٍ متزايدٍ من إبتلاعِها من قبل الديمقراطية المسيحية، وتذويب اليهود في بخور المواطنة المجرد. وفيما كان المسيحيون يقولون إن اليهودَ قتلة المسيح كانوا في ذات الوقت يتمسحون بأذيالهم.

أخذت اليهوديةُ السياسيةُ تستغلُ كلَ أخطاء الديمقراطية الأوربية، خاصة المذابح التي كانت تجري هنا وهناك ضد اليهود. فتطورُ الرأسماليةِ الأوربية في الدول الإقطاعية – خاصة في شرق أوربا – كان يجري على عظامِ المرابين وكنوزِهم المخبأة، مثلما كان خلفاءُ الدولةِ العباسية يجددون الميزانيات المنهوبة من قبلهم، عبر المداهمات لليهود والتجار عموماً.

إن عدمَ إندماجِ اليهوديةِ في المسيحية السياسية المنتصرة لا يعني عدم تأثرها بالحداثة، فثمة مسحةٌ حداثيةٌ جرتْ لها، والكثيرُ من اليهود كانوا عمالاً ودخلوا الأحزاب الاشتراكية والنقابات، وشاركَ الرأسماليون اليهود في صنعِ الحضارة الغربية الرأسمالية في مرحلتها البنكية التوسعية، لكن قوى كبيرة ظلت في الجيتو، ظلت في عالمِ الطقوسِ الدينية وفي التماسكِ الاجتماعي اليهودي الصلد كسورٍ كبيرٍ لمنعِ هجمات القوى الأخرى.

وكانت هجماتُ القوى الأخرى مستمرةً بشراسةٍ ضد اليهود، لأتخاذِهم مبرراً لتفاقم الإستغلال، ولزيادةِ مشكلاتِ الاقتصاد والفقر، فكان البوليسُ القيصري الروسي يقومُ بمذابح لهم، وحولَّ هتلر ذلك العملَ البوليسي الدموي إلى فلسفةٍ مروعة له!

تنصلتْ اليهوديةُ الغربية – الأوربية – الأمريكية من ثمنِ الحداثة الذي لا بد من دفعه داخل صفوفها. فلا هي تستسيغُ بطبيعةِ الحال الأفكارَ الإشتراكية المتصاعدة بحكمِ إهتمامها الكبير بتنامي النقود، وترفضُ بقوةٍ كذلك سحبَ قواعدها العمالية والاجتماعية من وحدانية الشعب الديني المقدس.

وإذا كانت الرأسمالياتُ الغربيةُ مقبولةً بعض الشيء إلا أنها تقوم بتذويب اليهود في هذه العلمانية الاجتماعية المتصاعدة التي تطفئُ الأديانَ والمذاهبَ المتحجرةَ إجتماعياً تدريجياً في ثقافةٍ بشريةٍ ديمقراطيةٍ موضوعية موحدة.

كما أن المجازرَ الرهيبةَ التي حدثتْ في العصر الحديث الأوربي لليهود، خاصةً حمامات الدم في ألمانيا، أعطتها مبرراً لذلك البقاء الموحَّد، وفلسطينُ الأسطورةِ تظهرُ بقوةٍ في زمنِ المجازر وسياساتِ الفشلِ والعجز عن التوحد السياسي في كيان، وهي المتوحدة مع العهدِ القديم الرافض للتاريخ الحديث.

كما أن الصهيونيةَ كحركةٍ سياسية اعتمدت بقوةٍ سياسةَ رفضِ الأغيارِ الدينيةِ العتيقة الأسطورية، كإنقطاعٍ كلي عن البشرية، وعن تدفقِ الديمقراطيةِ الحضارية الكونية التي أخذتْ توحدُ العالم.

وبهذا فإن الهجرةَ إلى فلسطين باتتْ هي الخيارُ من مجملِ التناقضات التي يحياها اليهودُ كقوى منغلقةٍ، عجزتْ في عصرِ الديمقراطيةِ عن الديمقراطية، وحلقتْ بطائرةِ القبيلة الذهبية في أرضِ ما قبل الرأسمالية التحديثية، ما قبل العلمانية، وحطتْ على أجسادِ الفلسطينيين التي إحترقتْ وتفتتْ وتشردتْ من هذا الهبوطِ الأسطوري التحديثي الدموي.

إن روؤساءَ العشائر تراجعوا في خضمِ تحولاتِ اليهود، وتصاعدَ بشكلٍ واسعٍ جداً دورُ رجالِ الدين والسياسيين(الوطنيين)، ثم ظهر على الأرض المقدسة، أرض السلام، الدور الأبرز للجنرالات المهيمنين سفاكي الدماء.

إن العقيدةَ الوطنيةَ الإسرائيلية يكمنُ في قلبِها هذا الإنغلاقُ الجنسي، ذلك الغيتو الذي حَملَ من أزقةِ أوربا إلى المشرق العربي، (الاشتراكيةَ) و(الرأسماليةَ) اللتين هما يهوديتان، فهنا لهما معنيان مغايران، فهنا هما ترضعان كلتاهما من حليب رفض الأغيار والعنصرية، بشكلين متفاوتين كماً.

في التأسيس الأولي الذي أُقيم على إستلهامِ ثقافةِ العدو الهتلري، ظهرتْ المستعمراتُ لتُصَّعد قوةَ العمل عند اليهودي الربوي، فتحولتْ أرضُ المعيادِ لنهضةِ الرأسمالية، والشركات الخاصة.

وصعدتْ إسرائيلُ بقوةٍ خلال عقود ضد حركات التحرر العربية و(الإشتراكية) العالمية لتغدو عملاقاً رأسمالياً صغيراً خارج الغرب، ولتؤدي دور المرابي المناطقي اليهودي البخيل الدموي التابع للرأسمال المسيحي الذي صار أمبرياليةً، وهي تقفُ على علاقاتٍ دكتاتوريةٍ متأرحجةٍ بين رفضِ الأغيارِ وطردِهم وسحقِهم وعزلهم ثم نفيهم، وبين علاقات تعاون بشرية مترددة متقلبة.

إن الشعب – القبيلة المالية التي أوجدتْ لها مكاناً مشتركاً تخافُ باستمرار من التمزقِ، من الذوبانِ في الأغيار، ويصبحُ الفلسطينيون حتى بوجودهم الجسماني المتكاثر مشكلةً كبيرة. إن تجربةَ مملكةِ الخزر تم تجاوزها عبر هذا المشروع، لكن ما زال الأغيارُ يحيطون بالمملكة، ويتغلغلون فيها.

لم تتغلغلْ العلاقاتُ الديمقراطيةُ الإنسانية في الوجودِ الاجتماعي اليهودي العميق ويمثل تحالفُ الحاخامات والجنرالات والشركات البُنى الإستغلالية التي تراكمتْ رساميلُها الماديةُ والثقافية وعلاقاتُها الدولية هيمنةً على العمال اليهود والشعب الفلسطيني، وخوفاً من تفكك هذه السيطرة وتفكك اليهودية الجوهرية المنغلقة في قوقعتها الأبدية.

يقول إسرائيل شاحاك العالمُ الإسرائيلي المناضلُ الديمقراطي في كتابهِ التاريخ اليهودي:(في سنة 1985، اعتمد الكنيست بأغلبية ساحقة، قانوناً دستورياً، يعذرُ المشاركةَ في الانتخابات البرلمانية على كلِ حزبٍ يعارضُ صراحةً في برنامجهِ مبدأ “يهودية الدولة”، أو يقترحُ تعديله بطرقٍ ديمقراطية. فإسرائيل لليهود؛ ولهم فقط، حيثما وجدوا).

مضت قرونٌ طويلة وهذه القبائل مُنغلقة ومضطَّهدة ومكروهة وهي تعتمدُ الإستغلالَ الأقصى في حياتها الاجتماعية، تحملُ في عروقها بذور الرأسمالية بدون إنفتاحها وعلمانيتها، تجثمُ دائماً على ضفاف الحضارات، وتزدهر في الأمبريالية بدون أن تتخلى عن قوقعتها، وتريد في أقصى يمينها أن تطرد بقايا الفلسطنيين من أرضهم فهم يلوثون نقاءَ الدم اليهودي، لكنها في الواقع تؤجل المعركة الاجتماعية بينها وبين العمال اليهود أنفسهم، بينها وبين الوعي الديمقراطي العلماني الإنساني، حيث يُسحب تداول الأديان من السياسة، وحيث البشر متساوون أمام القانون العالمي.

أعطت مجموعاتٌ من المنظمات الفلسطينية والعربية لمشروع الغيتو اليهودي بعضَ دفقِ الحياة والمساعدة وهي تقول أنها تناضل ضده،  لكن عبر توحيد (العنصرية) اليهودية، فلم يفرقوا بين مكوناتها الاجتماعية ويشتغلوا على أنسنتها، وجعلوها تلتحم، لكونهم هم أيضاً غير ديمقراطيين وعنصريين كذلك، لكن تبقى العنصريةُ اليهودية متفوقةً بسببِ التقنيات والرأسمال الكبير المتجذر في الأرض الذي شكلَّ شعباً صغيراً متقدماً، ومن أسرٍ صغيرةٍ غيرِ باذخةٍ، ومن قدراتٍ علمية وصناعية كبيرة.

الدين والحداثة

كانت التحديات المختلفة التي تحيط بالإمبراطورية العثمانية قد دفعت الخلافة إلى اختيار الاتجاه الإصلاحي بين التيارات الدينية السائدة ، فقد كان هناك الاتجاه الصوفي والاتجاه الوهابي.

لقد كانت الاتجاهات الصوفية هي السائدة طوال حقبة الانحطاط، وهي تماثل الاتجاهات العبادية الشكلية التي كانت تجاورها، حيث عبرتا معاً عن الركود الاجتماعي وإعطاء تميز ديني ما للمسلمين.

كانت هذه الاتجاهات الصوفية في كل مكان مجسدة في [الطـُرق] المختلفة تقوم بالمقاومة الوطنية والثورات في وجه الغزاة. وفي عاصمة الخلافة العثمانية كانت هذه الطرق تحظى بمكانة هامة.

فقد عمل السلطان عبدالحميد على تشجيع اتجاه الوحدة السياسية بين الولايات العثمانية، حيث غدت المركزية هي الأداة السياسية المطلوبة لتجميع أجزاء الإمبراطورية المفتتة والمُهدّدة من قبل الدول الغربية الصاعدة على المسرح العالمي.

[وعلى هذا اعتمدت الدعوة (إلى الوحدة الإسلامية) اللغة العربية واستعانت، لتحقيق فكرتها، برعايا من أصل عربي. فكان أحمد فارس الشدياق أول من أُستخدموا لهذه الغاية، وذلك في عهد عبدالعزيز. ثم جمع عبدالحميد عدداً من نظراء الشدياق، وعدداً من المشايخ العرب، معظمهم من اتباع الطرق الصوفية ، تنافسوا في تمجيد دعوته].

إن الطابع الصوفي الطرائقي بأشكاله المعرفية والاجتماعية يعبر عن التفتت السياسي، وعن الجمع بين الأشكال العبادية وأنواع الخرافة والعمليات السحرية، وهو ما كان متطابقاً مع الوعي الجماهيري السائد لما قبل النهضة.

ومن هنا كانت حنبلية العصر السابق والتي تنامت عبر ابن تيمية تهجر المدنَ الخاضعة للسلطة العثمانية وللطرق الصوفية متجهة نحو الصحارى العربية، وقد وجدت في الوهابية شكلاً مناطقياً أخذت تنمو من خلاله، لرفض هذه الطرقَ الصوفية المهيمنة وطرق العبادات الإسلامية المتوحدة بعبادة القبور والأولياء، ومن أجل أهداف شيوخ القبائل والدينيين التي تطابقت أهدافهم السياسية التوحيدية التوسعية في الجزيرة العربية وطموح رجال الدين هؤلاء الذين يسعون لهيمنة خطابهم التوحيدي القسري الحنبلي.

وكانت فارس تقدم نموذجاً إسلامياً مغايراً، حيث تمكنت الإثنا عشرية من تشكيل وحدة قومية فارسية عبر هذا المذهب التعددي الإلهي غير المركزي وبتحويل الطرائق الصوفية الشيعية إلى تيار جماهيري وطني محرر لإيران من هيمنة المغول والأتراك.

وفي توظيف السلطنة العثمانية للصوفية فقد كانت تتوجه للسائد وهو أمر كان يضاد توجهاتها السياسية الجديدة المستهدفة للتحديث والمركزية السياسية. ومن هنا فقد كانت بحاجة إلى شكل ديني مختلف يجمعُ بين المذاهب السنية التي تم تحنيطها عبر الإقطاع المركزي السابق، وبين أشكالٍ من التحديث تقوي الهيكل السياسي العثماني المسيطر.

وكان الصدام غير المباشر والمباشر الذي أخذ يتصاعدُ بين العالم الإسلامي وأوربا قد ولدَّ المشاعرَ والأفكار بالتصدي لهذا التفاوت الحضاري الكبير بين المسلمين والأوربيين، فظهر أكثر من داعيةٍ للتغيير الداخلي في الدول الإسلامية ، وقد تعددت الرؤى.

كان من أبرز هؤلاء الدعاة جمال الدين الأفغاني وهو الذي تبلورت فيه هذه اللحظة التجديدية المقاومة فهو قد عبر عن:

[(فكرة الوحدة الإسلامية)الثورية هذه . وذلك الخليط من الشعور الديني والوطني والراديكالية الأوربية].

لقد كان الإقطاع الديني المهيمن خلال القرون السابقة، قد استند إلى شبكاته المذهبية في كل بلدٍ ومنطقة، فكان الإقطاع المذهبي المتحالف مع شتى السلطات السياسية في هذه البلدان والمناطق، يرتكزُ على تلك القشور من العبادات المنسلخة من صيرورة الإسلام كحركةِ تغييرٍ نهضوية سابقة، فقام رجال الدين بالتحالف مع الحكام والسلاطين والشيوخ في بقع العالم الإسلامي بتجميد التطور.

ولهذا كان صعود جمال الدين الأفغاني ثم محمد عبده معه، يتشكلُ من خارج هذه الشبكات السياسية – المذهبية، ومن هنا حين كانت مذهبية جمال الدين الأفغاني متواريةً ومغيّبة ، فإذا قيل إنه كان شيعياً فإنه لم يظهر بذلك ، وراح يطرح [الإسلام العام]، أي هذا الإسلام اللامذهبي. فغدا ذا أصل شيعي وفكر سني.

هنا تعبيرٌ غامضٌ وحالةٌ فردية استثنائية للصعود فوق شبكات المذاهب السياسية، وتكوين رؤية إصلاحية نهضوية خارجها وترتكز على عمومياتها ، لأن بؤرة هذا الخطاب هو[التوحيد].

كما تقوم على رؤية فردية تخترق الموضوعي على صعيد تكون المذاهب، وعلى صعيد الفعل السياسي، ولهذا تتسم أفعالها بالمغامرة على الصعيدين . ومن هنا لن يكون لها نبتٌ محدد في أي بنية إقطاعية – مذهبية . في حين أن التلامذة سيبدؤون من الشعارات العامة فقط، لتتكشف الإشكالية التاريخية لها.

إن العودة إلى فترة الإسلام الأولى تعتمدُ على الخطاب العام ، وهذا الدمج بين عمومية الإسلام والإصلاح السياسي والاجتماعي هو ما كان تريدهُ الإمبراطورية العثمانية والباب العالي، ولم يكن جمال الدين كفردٍ مفتقدٍ لأي جماعة دينية وسياسية قادراً على العمل المناطقي الطويل، نظراً لاصطدامه الدائم مع السلطات الشمولية المتخلفة.

وبهذا فإن الاثنين جمال الدين والباب العالي وجدا إن ثمة مصلحة من تعاونهما، جمال الدين يقوم باستثمار حاجة الإمبراطورية للإصلاح عبر خلق أشكال تحديثية مختلفة، تحدُ من هيمنة الخلافة الشمولية وتتيحُ للمسلمين في شتى بقاعهم ظروفاً جديدة تطور من حياتهم وتقاوم الغزاة .

والباب العالي وجد في جمال الدين أداةً لاستقطاب رجال الدين والمصلحين والمثقفين إلى قيادته وتوظيفها لمزيدٍ من الهيمنة على الأقطار شبه المفككة .

ولهذا فإن الجانبين كانا لا يتفقان إلا وقتاً قليلاً، فالباب العالي يخضعُ بشكلٍ دائم للغزو الغربي المتصاعد ولشروطه ولتغلغل تجاره وشركاته ، في حين كان جمال الدين يدعو لمقاومة ذلك ، ولنشر المجالس المنتخبة والمدارس والمصانع والعلوم.

كان جمال الدين يعتمد على الوسائل النخبوية والأعمال الفردية والمغامرة وحتى الوسائل الإرهابية لتخويف وردع الحكام ، ثم أخذ يتوجه إلى الأشكال التثقيفية السياسية المباشرة عبر الصحافة .

كانت شعاراته الرئيسية هي :

 مواجهة [خطر التدخل الأوربي والحاجة إلى الوحدة الوطنية لمقاومته، والسعي إلى وحدة أوسع للشعوب الإسلامية، والمطالبة بدستور يحدُ من سلطة الحاكم].

والفكرة الرئيسية التي سيطرت على وعيه هي فكرة فهم الإسلام بشكل صحيح من قبل المسلمين، وتأتي في أولوياتها بعث خلافة العصور الأولى الموحدة، ولكن إذا لم تتحقق مثل هذه الوحدة السياسية فعبر التطور الإسلامي النهضوي لكل بلد ، والحاكم في هذا البلد لا بد أن يعترف بسيادة الشريعة، وأنه لا بد من الثورة على كل حاكم يحيد عن هذه الشريعة ، ولا يتصور الأفغاني وجود تناقض بين العقل البشري والشريعة الإسلامية، وتكمن شعلة الإسلام لديه في النبوة والفلاسفة:

[فهو يقر بأنه من الممكن قيام دولة فاضلة على أساس العقل البشري كما يمكن قيامها على أساس الشريعة الإلهية. وقد أعرب عن هذا، بتعابير تذكر بالفلاسفة، في تلك المحاضرة التي أدت إلى مغادرته اسطنبول. إذ قال إن الجسم الاجتماعي لا يحيا بدون روح ، وأن روح هذا الجسم هي الملكة النبوية أو الملكة الفلسفية . . أما الأولى فهي هبة من الله . . بينما الثانية تنال بالتفكير والدرس].

إن هذه الفكرة المستوحاة من الفارابي وابن سينا، تومئ إلى منظومة التفكير الدينية النهضوية القديمة لدى الفلاسفة العرب والمسلمين، والتي جعلت فكر النبوة فكراً تصويرياً وفكر الفلاسفة فكراً مفاهيمياً، وكلاهما معبران عن الرسالة الإسلامية العامة الإلهية، ولهذا فإن جمال الدين يشكلُ عقليةً اجتهادية عامة مسيسة للوقائع العصرية الجديدة، دون أن يصل إلى الوعي الديمقراطي الحديث بفصل الدين عن السياسة، أي أن مفاهيمه هي تصعيد للإقطاع السياسي الديني السابق في خطوطه العريضة، وهذا ما سيؤدي أن تكون نتائج الحركة الكبرى خاضعةً لإعادة تشكيل هذا الإقطاع القديم بصورةٍ يستفيدُ بها من التحديث الأوربي، دون أن يماثله في جوهريته.

بعضُ نقاط رؤيته تظهرُ في هذا المقطع :

[أن ما وحد الأمةُ في الماضي إنما هو مؤسسةُ الخلافة السياسية وجماعة  العلماء المحافظين على العقيدة الصحيحة . لكن الخلافةَ انفصلتْ عن العلماء في عهد العباسيين ، ثم زالت عملياً من الوجود فيما بعد، وقام مقامها دولٌ مستقلة، وبقي العلماءُ عنصر الوحدة الوحيد، وغدوا روح الأمة وقلب الشعب المحمدي. ولكنهم ، مع مرور الزمن، انقسموا هم أيضاً على أنفسهم حول المعتقدات وانحرفوا جميعاً، ما عدا القليل منهم، عن الحقيقة إلى الضلال ).

إن هذه الأفكار التعميمية عن [أمة واحدة] ، تحيل المسلمين بأممهم المتعددة المتصارعة، وشعوبهم المختلفة ، إلى كيان تجريدي عام واحد، وقد مثلته سابقاً عملية التوحيد القسرية الراشدية – الأموية – العباسية من خلال المركز الشمولي في العواصم المسيطرة، وبهذا يتطابق وعي الأفغاني مع الوعي السني الشكلي ، ويعيد وعيه إلى الوعي السائد لدى بعض الفقهاء في العصر الأموي أو العباسي، وبهذا فهو كفردٍ من الفئات الوسطى التي ظهرت في بداية العصر الحديث يعيدُ وعيه إلى هيكل النظام الإقطاعي المركزي السابق، فيحقق تبعية فئة وسطى لذلك الإقطاع الذي يغدو هدفاً للحاضر، ومن هنا فهو حين يردد فكرةً من أفكار فلاسفة المسلمين السابقين، الذين ماثلوا الفلسفة بالنبوة فهو يفكر من داخل ذلك المناخ، وبالتالي فهو غير قادر أن يتماثل مع نهضة البرجوازية الغربية المعاصرة التي أزاحت الإقطاع، رغم إنه يطالب بالاستفادة من إنجازاتها.

 أي أنه يعيد إنتاج مواقف الفئات الوسطى التحديثية التابعة للإقطاع في العصر السابق، والتي لم تستطع أن تقود الجماهير المسلمة في عمليات تحول جذرية. وهو إذ يصطدم بالأفكار الأوربية العلمانية الفاصلة بين الدين والسياسة، لا يستطيع أن يتفهمها، ليس بسبب غياب تجديده الفكري بل لأن هذا التجديد الفكري خاضعٍ لعصر سابق.

إن هذا الإصلاح يمثل تطوراً للمنظومة الإقطاعية المركزية النهضوية السابقة التي ضعفت ثم انهارت، والتي تكونُ عودةُ العالم الإسلامي إليها إنجازاً ، ولكنها عودة مستحيلة ، ليس فقط لزوالها، بل لأن العالم دخل تشكيلةٍ جديدة هي الرأسمالية الحديثة .

في المناقشة مع رينان تتضحُ جوانبٌ أخرى من وعيه، فرينان يعتقدُ بأن الفكر العربي السابق [من عمل مفكرين غير مسلمين عانوا ثورة نفسية داخلية على دينهم. وإذ قاومهم اللاهوتيون والحكامُ معاً، لم يتمكنوا من التأثير في المؤسسات الإسلامية. وقد بقيت هذه المقاومةُ محدودةً طالما كانت السلطة في أيدي العرب والفرس، لكنها انتصرت انتصاراً تاماً عندما تسلم البرابرة، أي الأتراك في الشرق والبربر في الغرب ، قيادة الأمة].

يتضمن رأي رينان تعميمات خاطئة عديدة عبر تحويل الفلاسفة العرب إلى كيان واحد متجوهر، ثم في رؤيتهم كغير مسلمين وهو زعم يتطابق مع تكفير المحافظين المتطرفين المسلمين. ولكن إسلام الفلاسفة كان مختلفاً عن ما هو سائد. كان تحديثياً. وهو أمر لا يعتقد رينان إنه ممكن [للعقل الشرقي].

يعتبر عبد الرحمن الكواكبي من مشاهير المثقفين العرب في القرن التاسع عشر المناضلين من أجل الديمقراطية والحرية، وقد ولد سنة 1854 بمدينة حلب، وعمل في الصحافة والمحاماة والتجارة، وتعرض للاضطهاد والسجن مراراً وصودرت أمواله وممتلكاته ، فهاجر من سوريا وطاف بالبلدان العربية، وألف كتابيه الشهيرين : [ طبائع الاستبداد وأم القرى]، وكتباً أخرى ضاعت.

وقد قُتل بدس السم له سنة 1902، بمصر في القاهرة، وهو لا زال في عز عطائه. وقد أثرت آرائه في التطور الفكري والسياسي للأمة العربية، التي اعتبرته أحد رموز التنوير والنهضة باختلاف تياراتها، لما قام به من جمع بين جذور الأمة والدفاع عن قضايا الحرية والإسلام والتحديث.

وقد توصل الكواكبي في ذروة تفكيره، وهو يجاهد لإعادة تكوين وعي العرب، بأن الاستبداد السياسي هو سبب الانحطاط التاريخي للمسلمين، لهذا نراه يقول بأن [أصل الداء هو الاستبداد السياسي]، وذلك في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد، وهو يقصد بالطبائع ما نفهمه الآن بالظاهرات والأسباب العامة للحالة المُشخصة، أو لقوانينها كذروة للغوص في تحليلها . يقول:

 وأنا لا اقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل وتشخيص مصارع الاستعباد. 

إن بحثه عن هذه [الطبائع] وقد اكتوى بنارها، جعلته يشتغل على درسها في المصادر العربية القديمة والحديثة والغربية المعاصرة، بحيث يتمكن من الغوص إلى مختلف تجليات هذه الظاهرة، وطبائعها أي ظاهراتها المختلفة، وتشير كلمة [طبائع] إلى التعبير العربي القديم بكون الأشياء ذات خصائص ثابتة شبه طبيعية.

ويقوم خطاب الكواكبي على جانبين متداخلين ومتضادين، الأول يعتمد على فحص وتحليل الظاهرة، عبر الغوص في مختلف تجلياتها، سواء في المجال السياسي أو الديني أو العلمي أو الأخلاقي أو المالي أو التربوي، أم في العودة إلى جذورها في التاريخ الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو البوذي الخ، بل أحياناً العودة إلى التاريخ المشرقي القديم، لدى الفراعنة والرافديين، وأيضاً تحليلها من خلال التاريخ المعاصر لدى العرب والغربيين، بحيث نجد الكواكبي يتنقل في فصل واحد، أو حتى في فقرة واحدة بين أزمنة شتى، ومراحل تاريخية متباينة، وهذا الانتقال يستهدف مناقشة الظاهرة سالفة الذكر، وتتبع أصولها ومظاهرها لدى الأمم.

والجانب الثاني من خطابه هو جانب غير تحليلي ، جانب وعظي وخطابي، يندد فيه ويدعو ويتحسر، وهو جانب يعبر عن انقطاع التحليل واستبداله بالخطب، وهو يعبر عن طريقه منبرية تلاقي فيها المحامي بالواعظ، مثلما يقول في فصل الاستبداد والدين من كتابه :

 (ولكن واأسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره  الخ.)، وهذا الجانب لا يقوم بتطوير قضايا التحليل المطروحة، بل هو يقفز إلى النتائج، ويعبر عن موقف المؤلف بشكل تقريري .

وبالتأكيد فأن أبرز جانب عقلي هو في القسم الأول، الذي بهر الناس على مدى القرن العشرين لما فيه من جرأة ونفاذ بصيرة.

ومنذ البدء يدخل الكواكبي إلى موضوعه معرفاً الاستبداد السياسي بقوله: [إن الاستبداد هو صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين]، وهذه الحكومات على نوعين أما حكومة مطلقة بشكل ظاهر، وأما حكومة مقيدة [بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة الحكومات التي تسمى نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية]. 

إن الكواكبي هنا يدمج بين شتى أنواع الحكومات الدكتاتورية، سواء كانت الشرقية المستبدة بشكل كلي وكامل، أو الغربية التي تنفذ من الشكل الديمقراطي بآلية دكتاتورية عميقة.

ويستطيع الكواكبي أن يغوص في المظاهر الاستبدادية لحكومات عصره الشرقية والغربية برؤية شجاعة ، فهو يكتب إنه ليس بالضرورة أن تكون الحكومة الدستورية حكومة ديمقراطية، فالحكومة التي تعمل بالدستور ولكنها تقوم بالتفريق بين الجوانب الثلاثة الأساسية لعملية الديمقراطية المتكاملة وهي [قوة التشريع] و  [قوة التنفيذ] و [قوة المراقبة]، فما لم تكن هذه القوى، أو السلطات ، منفصلة فإن الدستور لا معنى له.

ويقول في عبارة دقيقة حاسمة [أن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة ، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى).  

ولديه أن صمام الأمان في الحياة الديمقراطية هو وجود قوة اجتماعية واسعة تفرض [المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه] وهو يضرب مثلاً من قوة الصحابة والناس في أيام الخلفاء الراشدين وقدرتهم القوية على تبليغ صوتهم، وسماع الخلفاء لهذا الصوت بل دعوتهم لاستمراره وتأثيره . .

وبهذا الصدد يعتبر إن التجنيد الإجباري وجهالة الأمة هما من الظواهر الكبيرة المكرسة للاستبداد، ولا شك إن وضعه هذين السببين في مقدمة المظاهر المكرسة للاستبداد، يعود إلى رؤيته لدورهما في تجهيل وعسكرة الجمهور البسيط، خاصة الريفي والمدني الفقير الذي يستخدم لضرب الأقسام المدنية المتحررة، لأنه يمضي بعد ذلك في تحليل هذه الأقسام الشعبية وخطورة جهلها وعسكرتها على الديمقراطية. فهو يقول [وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء]. إن الكواكبي يقوم بتتبع مظاهر لا تبدو بينها خيوط ارتباط دقيقة في الظاهر، لكن سنرى العلائق بينها، فبعد قليل يعود إلى بحثه مؤكداً النموذج الإنكليزي في النظام السياسي، حيث الشعب لا يكف عن مراقبة ملوكه، وإن الوزارة المنتخبة هي التي تدير كل النظام السياسي بما فيها الملك وحاشيته وعلاقاته.

وفجأة من هذا النظام السياسي المتقدم يعود إلى الحكومات البدوية، فيقرر إن المجتمعات البدوية قلما عرفت الاستبداد [وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب فإنهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة]، وهذا التعميم في الواقع بين ملوك تبع، والقبائل البدوية، فيه جانب محدود من الموضوعية، فالقبائل الرعوية لم تتجذر فيها السلطات الدكتاتورية، ولكنها أيضاً تحمل بذور الدكتاتورية عبر الخضوع المطلق لشيخ القبيلة، وعبر [وحدة الدم] فيها ، التي تشكلها الحياة القاسية للصحراء وهيمنة الشيوخ. وعبر هذه الدكتاتورية أمكن لهؤلاء أن يشيدوا الإمارات والدول الاستبدادية المنبثقة من التطور القبلي.

وهذا المثال يعطينا كيف أن وعي الكواكبي يستقي بعض المظاهر الحقيقية لكنه يقوم بحالات من التعميم ، وبتغييب الدراسة التاريخية للظاهرة الجزئية المدروسة. والمثال السابق يدعوه لدراسة تطور الإنسان عبر التاريخ، فانتقل من تحليل البدو إلى تحليل تاريخ الإنسانية ، وكيفية الاجتماع ، فهو يعتبر إن الجماعات والشعوب المتلاصقة هي التي تعيش حياة الاستبداد كالأمم الشرقية، أما الشعوب المتفرقة في السكن كالبدو والإنكليز والأمريكيين فإنهم يعيشون حياة أقرب للحرية. إن الكواكبي هنا يعطي سبباً جغرافياً مطلقاً مفصولاً عن التطور الاجتماعي المركب، لكن الأمم الرعوية أقرب للحرية بسبب عدم تجذر السلطة الاستبدادية داخلها، أي عبر غياب مؤسسات القمع الراسخة، وحضور الجمهور المسلح وعدم رسوخ الطبقات، فالأمر يعود لبنية اجتماعية معينة، وليس لمسألة التفرق والبعثرة السكانية ، فالإنكليز والأمريكيين لا يعيشون هذه البعثرة بل التركز السكاني كالهنود والعرب ولكن مسألة الحرية تعود للتطور الاجتماعي والسياسي، حيث تمكن الناس في هذين البلدين من إخضاع الحكام للمؤسسات الدستورية   

وهكذا فإن الكواكبي عبر تحليل ظاهرات معينة، تغيب عنه قراءة التشابك بين الاجتماعي والسياسي .

إن الطابع الخطابي لدى الكواكبي يتضح في هذه العبارة البليغة النارية:

[المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم أخوتهم الراشدون . إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت] .   .

في مثل هذا الخطاب الحماسي الموجه لإيقاظ الشعب واستثارته، تتشكل المفاهيم من كلمات مجردة بلا خلفية اجتماعية وتاريخية، كتعابير: المستبد، والحق، والحرية، والعوام، والعلماء، فكل هذه الكلمات تتشكل في غياب الفضاء التاريخي، فالحق هنا مقصود به ولا شك حقوق الناس الديمقراطية التي أوضحها الكواكبي في أماكن أخرى، ولكن الكلمة تتجرد من دلالتها، مثلما تتجرد كلمة العوام، فهم نائمون بشكل مطلق وليس لأسباب موضوعية في ظرف تاريخي معين ، كذلك فالعلماء هم أصحاب الإيقاظ المطلق.

هنا يعبر الكواكبي عن العرب في بداية القرن حيث يستفز العامة للثورة، كما يستفز العلماء، علماء الدين، لكن لا يقوم بالتحليل لهذه التعبيرات العامة، ولكننا ندرك إن مسائل الوعي والثقافة والناس والمثقفون والأوضاع الموضوعية لا تترابط وتتداخل في فهمه، فليس ثمة شروط وقوانين موضوعية للتطور الاجتماعي، فالأمور خاضعة لديه لإرادة ذاتية يقوم بها العلماء ، وإلى جسم عامي مرتبط بهذه الإرادة، وليس لجسم شعبي مرتبط بظروف معقدة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي.

ولهذا فإن هذه التعميمات تتحول إلى رؤية كونية عامة مجردة مضطربة فيقول: [إن الله جلت نعمه خلق الإنسان حراً قائده العقل ، ففكر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل]، فهو هنا لا يضع مسافة موضوعية بين الله والإنسان، عبر التاريخ الذي تشكل فيه الناسُ، فتأتي كلماتُ: الإنسان، الحر، العقل، العبد ، الجهل، بلا ركائزها في التاريخ الملموس، أي يغيب التاريخُ الحقيقي في المواضع المختلفة من تطور الحضارات وكيفية نشؤ الدولة وانتقال الإنسان من المجتمع المشاعي إلى مجتمع العبودية المعممة في المشرق العربي، فمثل هذه السيرورة تغيب عن الكواكبي، ولهذا ينهال على رأس هذا الإنسان المجرد بأقذع الهجوم: [فكفر وأبى شكره وخلط في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره]، [فكفر الإنسان نعمة الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه فوكله ربه إلى نفسه وابتلاه بظلم نفسه وجنسه وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً] .

هذا الخطاب جزء من خطبة العالم الديني، الذي يمثله الكواكبي هنا، وهو  يقوم بالتعميمات المجردة اللاتاريخية، ويسكب الخط الديني الغيبي: فهنا الله وجنته ودينه الصحيح، وهناك الشيطان والنار والدين الباطل، وثمة الإنسان المجرد الكافر الذي يتوجه للمعصية، ولكننا لا نعرف لماذا يتوجه هذا الإنسان العام اللاتاريخي إلى الشر؟ ما هي ظروفه؟ وكيف تسهل قيادته من قبل الشيطان؟

في هذا الخطاب يعود الكواكبي للغيبية، ويبتعد عن دوره كمحلل تاريخي، لكنه يعود لهذا الدور بعد أن ينهي فصل الاستبداد السياسي، منتقلاً إلى الاستبداد الديني، اللذين يعتبرهما صنوين، ووجهين لعملة واحدة: [هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب].

يقوم الكواكبي بالحكم المُعمّم على الإنجيل والتوراة فيقول إن الحكم السابق حقيقي على [مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المُضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما]، لكنه لا يقوم بعرض وجهة نظره هذه، وكيف استطاع أن يفصل الأقسام التاريخية عن الأقسام التعليمية والأخلاقية؟ وهل الرسائل، ولعله يقصد رسائل بولس الرسول، تنفصل عن الأناجيل الأربعة، لأنه لا يوجد إنجيل واحد؟! إن الكواكبي لا يدخل معمعمة البحث هنا، وينتقل إلى الظواهر الاجتماعية البسيطة والمنتشرة عبر العصور، وهي استخدام رجال الدين للأديان من أجل المصلحة، ويقول إن أساس وضعهم يعتمد على ما في الأديان من تهديد بالعقوبات الكبرى أو بالثواب العظيم، وإن الأمر يعود لسيطرة رجال الدين على هذا الطريق بين الإنسان وربه، فهم يقيمون الحصالات المالية و يأخذون المكوس على أرواح البشر الحرة: [ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذلل والصغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران]،) .

لكن هذه العملية في رأيه ناتجة من المماثلة في وعي العوام بين الخالق والحاكم: [وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلاً بين ( الفعال المطلق) والحاكم بأمره]. وهذا ما يؤدي في رأيه إلى انتحال بعض الحكام القدماء صفات الألوهية.

في رؤية العلاقة بين الأديان والاستبداد يعطي الكواكبي للعوامل الشخصية الدور الكبير في صياغة الاستبداد، فرجال الدين والحكام، كلٌ على حدة، أو مجتمعين، يقومون بالدور الاستبدادي كلٌ في مجال اختصاصه، وهم يشكلون عالماً استبدادياً مشتركاً، وهم يفرقون الشعوب إلى شيع وطوائف [فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ]، أو مثل قيام [السلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية]، إن هذه الظواهر التي يقدمها الكواكبي تركز على الشخوص ولا تقوم بالتحليل الذي يربط بين هذه النماذج الشمولية والأفكار، فلماذا  استطاعت هذه النماذج دوماً من احتكار صياغة معاني الأديان واستغلتها للسيطرة، وما هو التداخل بين الفكري والسياسي والاجتماعي هنا؟ أي كيف حدثت هذه الديمومة ولماذا؟ ولماذا لم تظهر شخصيات تركز على معاني الأديان الإيجابية وتستمر في الدعوة إليها؟

لقد استطاع الكواكبي بعد هذه الفقرات أن يكشف معانيَّ دقيقةً، لا تزال حتى وقتنا الراهن غير معروفة لكثير من المثقفين، هي تلك الرؤية الدقيقة لتطور المذاهب الدينية في أوربا، حيث يتمكن من تمييز التحرر في البروتستنتية والتقليد في الكاثوليكية، فهو يفسر تحرر القسم الأول على ما يستقيه من الرواية التي يستشهد بها، بأنه راجع إلى أن التحرير الديني ساهم في تطور تلك الشعوب السياسي ، في حين إن الحرية السياسية في الدول الكاثوليكية لم تؤدِ إلى التحرر الديني، ورغم إن هذه ملاحظة دقيقة منه، إلا أن الكواكبي عبر منهجه المثالي (فلسفياً) يقوم بفصل تطور الوعي في شكليه الديني والسياسي عن التطور الاجتماعي ، فهو هنا لا يقرأ تطور الرأسمالية الأوربية ودرجاتها، حيث سارعت الأقطار الأكثر والأسبق في النمو الرأسمالي في إنتاج البروتستنتية، في حين كانت الأقطار الجنوبية الأقل تطوراً قد أنتجت المذاهب المتشددة، أي أن نمو الحريات الاقتصادية قام بتفكيك شبكة الإقطاع في المستويات المختلفة للبنية الاجتماعية، بدءً من حرب الفلاحين مروراً بنشؤ عمليات الإصلاح الديني حتى الثورة الصناعية الخ . .

ولكن كان طرح الكواكبي هنا يتصف بطابع متقدم، وسنجد في مقاطع تالية، أفكاراً مدهشة متقدمة أخرى حتى على وقتنا الراهن. ولكنا  وجدنا هنا مشكلة وعي الكواكبي المحورية حيث التحليل النقدي للاستبداد الديني والسياسي تنقصه عمليات تشريح اقتصادية واجتماعية وفكرية متضافرة، وفي الفقرات الكبيرة التالية المتعلقة بتفسير نشؤ ظواهر الألوهية في بلاد الإغريق يرجعها الكواكبي إلى عمليات الخداع التي قام بها حكماء بلاد الإغريق، كوسيلة للإصلاح الديني الذي هو البوابة للإصلاح السياسي كما يرى. وهو تفسير لا علاقة له بالتاريخ، وإذا كان هو هنا يواصل عدم معرفة التاريخ الموضوعي وأهمها نشؤ المدن الحرة والصناعة والطبقات الوسطى القوية التي أنتجت الديمقراطية الأثينية، إلا أن استنتاجه بشأن أسبقية الإصلاح الديني هو غير دقيق، لكون الإصلاح السياسي والديني كانا متداخلين، بل أن المحافظة الدينية ظلت قوية في بلاد اليونان رغم التقدم السياسي ، ثم لعبت دوراً كبيراً في الارتداد عن النهضة.

بطبيعة الحال كان دخول الكواكبي لتحليل الظواهر التاريخية في بلاد اليونان هو بحد ذاته إنجازاً، كما يشير إلى محاولاته الموسوعية لتفسير الظواهر الإنسانية، رغم نقص المواد المعرفية والمنهجية في زمنه.

ويأتي تحليله للإسلام معبراً عن هذا الترابط في وعيه بين الإسلام والديمقراطية والحداثة بل والاشتراكية، وإلى استبصاره المدهش لكون الإسلام ثورة اجتماعية وضعت العرب والمسلمين على طريق التطور والتحديث، وهو يقول إنها وضعت [أصول حكومتها: الشورى الأرستوقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد ]،).

إن شورى الأشراف التي أقيم عليها الحكم الإسلامي لم تنفصل عن رغبات ومصالح الرعاة العرب، أي الجمهور الأوسع. ونستشف هذا الفهم من تعبيره الاجتماعي الدقيق هنا: [الأرستقراطية] فالفئات الوسطى القرشية التي تسلمت زمام الدولة الوليدة، ظلت أشرافية، واعتمدت شورى أهل الحل والعقد، وليس النظام الديمقراطي الانتخابي ، أي لم تعتمد التصويت الواسع للجمهور، ولهذا فإن تقييم الكواكبي للحدث الإسلامي رغم نواته الموضوعية، يظل مضطرباً، ولهذا فإن جمعه للديمقراطية والاشتراكية هنا يشير إلى رؤيته لعملية الديمقراطية الاجتماعية العميقة: توزيع الأراضي على الجنود العرب، وتأميم أراضي الفتوح لصالح الناس، ووجود السلطة في متناول نقد وتصحيح الجمهور، وعدم وجود هياكل بيروقراطية ومؤسسة أمن وقمع الخ . .

لعل هذه الرؤية الاجتماعية التي عبر عنها الكواكبي بشكل مشوش، هي التي فصلت رؤيته الدينية عن الشمولية، وجعلتها رؤية دينية ديمقراطية، خاصة مع التحامها بالوعي الحديث. .

إن الكواكبي بتقييمه للإسلام كثورة اجتماعية لعب أشرافُ مكة دوراً طليعياً فيها، لا يقوم بمتابعة التحليل لمسار هذه الثورة، فهو يجد بعدئذٍ إن تلك الفترة المضيئة قد زالت لأسباب ليست عبر قراءة تحليلية لتطورها، فهو يعيدها إلى: [.. هذا الإهمال للمراقبة ، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود.]. .

فهو يعيد ظهور الاستبداد إلى مجال ضعف المراقبة الجماهيرية للحكام، وغياب جماعة الأمر بالمعروف، والحقيقة إن المسلمين لم يقصروا في هذا المجال، ونحن نجد مختلف الجماعات السياسية والفكرية طوال العهد الأموي تناضل وتتصدى بالسيف والكلمة للحكام الجائرين، وامتد ذلك إلى العصر العباسي، كما حدث في انتفاضة النفس الزكية والمعتزلة ضد جور بني العباس الخ . . ونستغرب من الكواكبي كيف لم يقم بدراسة هذه الظاهرات الواضحة في التاريخ الإسلامي، ثم كيف يقفز إلى جانب جديد اعتبره هو المسئول عن انهيار الحكم الإسلامي العادل، إلا وهو [والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد ، ألا وهو الاستعباد] .).

فما هو شكل هذا الانحراف، أي كيف تمكنت مظاهر دينية أخرى غير إسلامية من التغلغل في الإسلام، وما هي الأسباب؟

لا بد أن نرى الشق الأول من السؤال، ويبدأه بأن المسلمين اقتبسوا من المسيحيين مقام البابوية وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم وقلدوا الكهنوت في مراتبهم والوثنيين في الرقص وتطبيب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وشاكلوا الكنائس في مراسمها وجاءوا من المجوسية باستطلاع الغيب وتعظيم الكواكب الخ. . .

تغيب هنا عن منهجية الكواكبي مثلما غابت في السابق، القراءة المتابعة لتغير المراحل التاريخية، فهو لا يقوم بدراسة الإسلام التأسيسي وظروفه وتطوره، واعتماده على رعاة الجزيرة لتغيير المنطقة، وتأثير ذلك في توحيديته وبساطته، ثم ظهور مرحلة جديدة بانتقال العرب إلى البلدان المفتوحة، وتأثير ثقافاتها ومقاومتها وصراعها على تطور الإسلام، وبالتالي تغلغل تقاليد جديدة تعكس التداخل والصراع بين مستويين من الوعي والتطور، وهو ينتبه إلى دور الاستبداد في تبديل هذه الثقافة المشتركة وتوظيفها لخدمة سيطرتها، لكنه لا يرى كذلك إن هذه الثقافة لعبت دوراً في مقاومة السلطة الشاملة وتفكيكها . .

هذا الجانب التركيبي المعقد لا تستطيع أدوات الكواكبي فرزه وإعادة تحليله، فهو ينطلق من رؤية تبسيطية للدين وللإسلام، وهذه العمليات المركبة من التطور الاجتماعي الروحي تصعب على أدواته أن تدرسها. 

لكنه ينجح في تحليل ظاهرة عصره التي خبرها بمرِ تجاربه، وهي التي تعبر عن مضمون رؤيته، ألا وهي ظاهرة النبالة، أي الإقطاع، ففي فصل الاستبداد والمجد ، يقوم بكشف أصحاب الأمجاد هؤلاء الذين يتجه المستبد للإكثار [منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على أضرار نفسها تحت أسم منفعتها]، [والخلاصة إن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة.. ]، [ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز).] .

ثم يقوم الكواكبي بتعريةٍ واسعة لقيم المجد الزائف متغلغلاً في ظاهراته بلغة نارية ساخرة كاشفاً سمات التنبلة الاجتماعية حيث يرث ابن العائلة [الترف المصغر للعقول] و[الوقار المضحك للباطل السائد] ولا [يستخدم الثروة في غير الملاذ الدنيئة البهيمية ويرتبط [باقران السوء المتملقين المنافقين ] …

هذه المظاهر الاجتماعية للإقطاع يتبعها الكواكبي بتحليل اجتماعي سياسي مترابط ودقيق  [فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة الأشراف]  فقدرة الأسر الإقطاعية العربية على تأسيس الحكم يعتمد على قدراتهم العشائرية العسكرية، وهو أمر سبق لأبن خلدون تشخيصه باتساع، لكن الكواكبي يتتبع مختلف المظاهر المترتبة على فكرة الأصالة الأرستقراطية ، فتظهر النبالةُ العربية بشكلها القبلي المترفع، وبحياتها الاجتماعية الخاوية، ويظهرُ الاستبدادُ العربي مرتكزاً عليها، ثم على رؤساء العشائر الأخرى وعلى الإدارة الفاسدة، بحيث يستطيع المستبد أن يستمر في حكمه المتفرد . .

بطبيعة الحال لا يقوم الكواكبي بربط هذه الجوانب الدقيقة من تحليله الاجتماعي المعاصر بالقوى الاجتماعية المختلفة، وبالمسار التاريخي للأمة العربية، فتحليلاته تحليلات موضعية جزئية لا تتسع في تعميمات وتكتشف قوانين، ولهذا يغلب على ملاحظاته التجزؤ والتفتت وغياب الترابطات المختلفة ، فهو هنا  يكشف جذور الاستبداد الإقطاعي في المنطقة، لكن لا يربطه بما  فحصه سابقاً عن المذاهب الأوربية، أو عن التاريخ العربي، فتتحول ملاحظاته الدقيقة إلى وعي جزئي بالتطور العام . .

 المستبد هنا يتحول إلى فرد وليس إلى بناء سياسي واقتصادي وثقافي تاريخي، ولهذا تغيب الهياكل الاقتصادية والاجتماعية العامة التي أسست الاستبداد وأعطت الأفراد والفئات إمكانيات توظيفها للتفرد بالحكم. 

 استطاع الكواكبي أن يجمع بين نقد الماضي والحاضر الإقطاعي الديني العربي الإسلامي ونقد الرأسمالية الغربية الحديثة، وأن يقترب من جذور التطور في كلا المنظومتين، لكن هذا الدرس لم يرتبط برؤية التشكيلات التاريخية ومسارها، وبالتالي أن يحلل واقع العرب الراهن بينها ومسار تطورهم، ومن هنا فتظل ملاحظاته الهامة في طور القراءة الاجتماعية لم تتطور إلى أفق فلسفي. 

الدين بين المطلق والنسبي

أفــــــــــــق

في مجراه التاريخي الطويل يتوحدُ الدينُ بين المطلق والنسبي، يتضافرُ ما هو أبدي فيه بالمتحول والعابر.

المطلقُ أهم وأكبر وباقٍ دائماً، فالإنسانُ الضعيفُ الهامشي في الكون، ذو الجذور الحيوانية والذي يتكونُ جسمهُ من موادِ الكون المتغيرة، يتوحدُ بالأبدي، يتمسكُ بخشبِ السفينة المبحرة في رحلةِ الوجود الصعبة، يتوحدُ بها ويكونُ جزءً من خلودِها، ويكونُ في عالم المطلق، عالم الأبدية، حتى لا يزول.

وتغدو هذه الصعوبة المخيفة لدى الكادحين بدرجة أساسية، هم صناعُ العالم المادي الاجتماعي، ومع هذا هم المغيَّبون، المنفيون فيه، والذين لا يتمتعون في داخله الجهنمي.

تظهرُ العوالمُ الدينية الكبرى حين يتغرب الكادحون. هم صناعُ العالم المادي، خالقو الطين والمدن وأبراج بابل، وفي البدءِ تظهرُ أديانُ الوثنية، حين يقوم رؤوساء القبائل بالتحكم في ثمارها، ويسيطرون على منتجاتها، ويقيمون الممالك والأمبراطوريات.

الوثن، والروح المقدسة، والإله القبلي، كلها قوى تجري داخل القبيلة، لتوحدها وتعالج الأفراد من الأمراض  وتتبصر مستقبلها. هي ضمانتها في السلامة والصحة والبقاء والأنتصار على الأعداء، وحماية أفرادها في عالم الموت.

كلُ هذه الكائنات الطيفية تحركُ القبائلَ والشعوب لتتقدم ولتتاجر ولتبني مجد الأسياد، لصنع عوالم الرفاه لهم، وتعجز عن تشكيل الرفاه للعاملين، بل تقودهم للحروب، تجعلُ وجودَهم الأرضي أسىً وضياعاً وعذاباً، ولهم بعض الملذات الصغيرة العابرة، وإعادة إنتاجِ العذاب والإستغلال في ذريتهم.

ينفصل عالم الأرواح والألوهة الروحية والوثنية الفكرية لتغدو رموز القبائل والشعوب، ومستقر تاريخها وثقافتها، وتغدو هي السلطات السياسية والفكرية المسيطرة على العاملين الذين يتخصصون في المهن اليدوية.

ولكلِ أمة تاريخها في هذا السياق، والتفاصيلُ مهمة في سياقِ بعض القرون، لكنها تفقد أهميتها مع التوحدِ العام للشعوب، عالمُ السماءِ الغيبي يتقارب، يتجوهرُ في المطلقات الكبرى، يغدو آلهة كبرى متحكمة في المصير البشري، أو أرواحاً أو مجردات، وعالم الأرض والبشر يتقارب، لكنه لا يتحد ويذوب في بعضه، فالمصالحُ على الأرض تتضاربُ باستمرار مولدة حركات في الغيب وتعدديات في المذاهب والتفسيرات لها ونزاعات لا تتوقف.

الإنسان الباقي رافع أعمدة الأشياء فوق كاهله المتعب، تفرُ منه كائنات الأرض: الذهب والفضة والآلهة، وتكون بيد الأقوياء، فيصير كل شيء غريباً عنه، يستعبده تارة، ويقدم له الذبائح والصلوات والطقوس تارة، ويدافع عنه تارة، ويكون علمه في عالم الصراع من أجله، وحاميه في الملمات والأمراض، يجد فيه الأنتماء الذي فقده من أشياء المجتمع؛ النقود والقيود والسلطات.

هو كونُ الأنتماءِ الذي صنعهُ لنفسه، كهفهُ النيرُ الذي يلوذ به في  الملمات والكوارث، هو روابطهُ الاجتماعية التي يشعرُ فيها بأخوةِ البشر من حوله، وفي رعبِ المدن الاستعمارية والاغترابية والشيئية التي تسحقهُ وتحيله إلى برغي في آلاتها، وفقاعة في سمائها، وحشيشة في دخانها، يزدادُ اقترابهُ من الرموز، وكلما تبخرَّ الوطنُ الفعلي تعملقَّ الوطنُ الوهمي.

على ضخامةِ الرموز التي تقذفها في وجهه؛ أبطالُ الصورِ السينمائية وزعماءُ العالم الكبار المتنفذون الذين بيدهم الحياة والموت، المتلاعبون بمصيرهِ ورزقه، يجدُ في رموزَ الأديان كهفـَهُ الباقي على الزمن، في عالمِ التغيرِ المتبخر: الحكومات التي تقومُ وتسقط في فضائح مدوية، ساحبة ثمار العمل إلى المجهول، يجد حكومته الحبيبية التي لا تتبدل، يجدُ رموزَهُ تعطيه العزاء. الأرضُ لا تصنع رموزاً منتجة للخير أبداً وعلى نحو دائم، فيبقى الماضي والأساطير والذكريات العظيمة للرموز في قتالهم من أجل الخير المستمر، وتتحول حيناً لسيول من الدماء، وتتحول حيناً آخر لبنوك إستنزافية أخرى، وأحياناً لحكمة نضالية.

لا يمكن لأي شعب أن يكون بلا دين ذي قوى غيبية مهيمنة، لكون الإنسان هو نسبي، وكلما كبرت قوتهُ الأرضية وصار إنساناً، صغرت أحجام غيبياته.

كلما فرح وأزدهرت حياته بالغني الفني والاقتصادي قل اهتمامه بالأرواح والشياطين، والعكس صحيح، تتوحد عوالم الأديان مع توحد عالم الأرض الواسع، تزول الاختلافات الصغيرة والقصص الغائصة في تقاليد محلية تفقد خصوصياتها يوماً بعد يوم، وتتفجر الاختلافات مع الصراعات بين الأمم، فتزداد أحياناً أخرى تمسكاً بالخصوصية والتفرد، وتعلي ميراثها علواً رهيباً.

رحلة الإنسان لا تتوقف، السحرية تظل ملاصقة له، العلوم تظل جانبية في مسيرته، إنسان الأغلبية البشرية، إنسان العالم الثالث خاصة، والعوالم الثالثة في المجتمعات المتقدمة، الجنان الآخروية الدينية والشيوعية، على أسس خيالية أو على أسس (علمية)، تظلُ لصيقة به، فدائماً لديه الدائم الباقي الأخضر أبداً، السعيد المطلق، وهو منهوك بالعوز والبطالة والغربة والصراعات والنسبية، غربة الإنتاج المادي تصنع إنتماءَ الإنتاج الروحي، ذا الحلول والحلولية والأبدية، يزداد على الزمن تغييره لواقعه، تغدو مواريثه رحلات كهوف ولوحات صيد للمعاني، وهو يعلو صاعداً لاحتلال الفضاء الواسع.

الدين والمطلق

أفـــــــــــــــق

تـُثار في حياة الأمم الإسلامية مسائل (المطلق) بقوة شديدة في تحولاتها التاريخية الراهنة، وهي تحاولُ أن تجمعَ بين تقاليدها العريقة وأسباب الحداثة الضرورية، أي أن تكون لها جذور كي لا تذوب في الآخرين، وأن تكون باقية بتطورٍ مستمرٍ حتى لا تزول بتخلفها كذلك!

جانبان معقدان يشدانها في إتجاهين متناقضين، وفي خضم ذلك تـُطرح مسائلٌ شديدة الصعوبة والحرارة معاً.

ويتمثلان إجتماعياً بقوى تصر على الماضي وحيثياته ورفض التحول وركوب قطار التغيير، وأخرى تسحب الناس والأشياء نحو التغيير الضروري والسريع والمخيف؟

وفي هذا المجرد هناك الكثير من تجسيداته، فماذا نقول في ما هو موجودٌ في الكتبِ الدينية المقدسة من حديثٍ وتجسيدات للأرواح والشياطين وقوى الغيب المتحكمة في الوجود العياني، أي في حياة الناس الظاهرة والخفية؟

ماذا نقول في بعض أحكام دينية أخذت تتناقض بشكلٍ صريح مع تطورات الحياة الحديثة وما يُنتج من تقدم أصبح كاسحاً مطيحاً بالكثير من ثوابت الأمم؟

الرأي السهل لقوى التحديث السريعة والحادة هو أن نطيحَ بمجردات وغيبيات الأديان، فهذه كلها لا تحتاج سوى أن نقولَ بأنها خرافاتٌ وتخلف وعادات إجتماعية بالية.

إزالة البيت القديمة بجرافة وبناء بيت جديد. والأحكام والأفكار التي ظهرت في عصور قديمة وأخذت تناقض المساواة والعدالة الاجتماعية وعلوم الفيزياء والكيمياء تـُلقى من الحياة وتـُباد من عالم الثقافة!

ماذا نفعل في أفكار موجودة في الكتب المقدسة أخذت تـُعتبر أساطير مناقضة لأبجديات العلوم؟ كيف نعلمُ برموز دينية كآدم وحواء ونظريات التطور والأحياء ذات الأدلة الوثيقة والحيثيات الكثيرة تنكرها أو تقدمُ قصصاً مناقضة كلياً عنها؟!

بل ماذا نقولُ في سير الأنبياء والكتب المنزلة بما فيها من عجائبية ونسبية؟!

قوى التحديث الحادة والسريعة تقدم لنا ذلك الحل السهل، كما تقدم لنا قوى المحافظة الحلَ السهلَ الآخر وهو الإيمان بكل ما جاء به القدماء والسير على منوالهم وحذو أعمالهم!

المسألة صعبة وخطيرة ولا شك، وحلها ليس آنياً، وردم الهوة بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس كلامياً، بل هو فعل صناعي، لا يتأتى بسهولة لمن ليس في يده أدواتها ولا وسائل إنتاجها، هو فعلُ أجيالٍ كثيرة ومواقف مترابطة بين أناس كثيرين يعيشون في عصور مختلفة ومناطق متباعدة وتحكمهم مناهج متعددة.

إن ردمَ الهوة بين الثقافة الدينية والثقافة العصرية فعلٌ نضالي جماعي قبل أن يكون إنشاءات فكرية مجردة.

لكن لا بد من هذه الإنشاءات الفكرية التي تقود لذلك الفعل النضالي وتشاركهُ البناء.

الثقافة التقدمية السريعة الحادة ترفضُ الحفرَ المطولَ في أعمدة الأديان، مثل الإله والروح والنبي.

إن هذه المجردات والملموسات والعلاقات بينها، ضرورية عبر آلاف السنين. لم يقل بوذا إنه إله لكن الناسَ التي جاءتْ بعدهُ صيرتهُ إلهاً وهو إنسانٌ بسيط وعرّف نفسه بذلك ؟!

ولو أن العكس قد حدث وقال أنبياء المشرق عن أنفسهم إنهم حكماء لصيروهم فيما بعد أنبياء وآلهة!

وقد أدعى الملوكُ القدماء بأنهم آلهة دون أن يحتاجوا إلى ذلك وقد تملكوا الكثير من القوة والسلطان والخيرات؟

الألوهية والارتباط بها كانتا ضروريتين لآلاف السنين، فلماذا؟

في البداية كانت المادة الأولية الطينية التي تشكلتْ بها هذه العمارات الشامخة في التاريخ، وهي (الروح)!

ومادة الروح اللغوية تستند على راح ويروح وما هو مطلق في الحركة، وما هو خفي فيها كذلك!

الروحُ سادتْ في أفكارِ ما قبل الأديان لآلافِ السنين الأخرى أيضاً، فأنظرْ لبساطة الإنسان، وقد عبدَ المصريون القدماء (الخنفساء) هذا الكائنَ المتواضعَ عقوداً، على ضخامة ما بنوه من عمارة وما شيدوه من حضارة ؟!

فأحترمْ حتى جهالات الإنسان لأن فيها تاريخاً من العلم  والمقاومة والبحث!

بينت الروحُ ضعف الإنسان ونسبيته، جعلته يرى كم هو زائلٌ وهشٌ في الوجود، فطالعَ دمَهُ وأمراضَه والماضين الكثيرين الذين رحلوا دون أن يتركوا أثراً في الوجود على كثرة أعدادهم وضخامة أخبارهم، ورأى كم تضربُ كينونتـَهُ الصغيرة هذه الدولُ العملاقة وتسحقهُ كنملة وكم تفقرهُ وتستغله ولا تعطيه سوى كسرة من خبز وهو العابر المحتقر! فأصيبَ بالرعب من الكون، ومن وجودهِ البسيط المتقزم، فتمسك بالروح التي لا تروح، تمسك بكيانات تجعلهُ مطلقاً سعيداً باقياً، وليس عابراً محتقــَّراً.

أين يذهب أطفاله الذين ماتوا دون أن يسعدوا؟ أين فرحه في هذا الكون وهو شقي بائسٌ في هذه الأنظمة؟ هشاشة الوجود الإنساني في أنظمة البؤس هذه أعطت الثوابت البشرية في الأحلام الدينية.

الدينُ والثقافةُ

بدأتْ العلاقاتُ بين الإسلامِ التوحيدي والدولةِ العربية المركزية البدوية في التفكك.

كان مضمونُ الإسلام التوحيدي الشعبي العالمي وجدَ قبولاً لدى الأمم الأخرى عبرَ سهولةِ إعتناقه وبتكوينه أممية للشعوب الشرقية المستندة على الملكية العامة المدارة شعبياً والتي تعيشُ في المناطق الصحراوية الكبرى، لكن هذه التوحيدية المرتكزةَ على دورِ المال العام  أُخترقتْ من قبل أُسر الأشرافِ الحاكمة وكبار التجار والتي قربتْ الثروةَ العامة من مصالحها وإداراتها.

كان هذا التحولُ الشمولي لا بد أن يؤدي إلى إنقلابٍ في الحياةِ الثقافية والفكرية والعلاقاتِ الاجتماعية والروابط بين الشعوب مستنداً على نواقصٍ إجتماعيةٍ وفكرية وسياسية في البناءِ السابق والذي لم يستطعْ من جعلِ القوى التجارية والشعبية ذات خلافةٍ ديمقراطية.

بدأ ذلك في عزلِ النصوص الدينية والفقهية عن المنطق والفلسفة والتاريخ الاجتماعي التي كانت تنمو عبر الترجمة والتطور الفكري العربي، فقد رُئي أن العلومَ(الدخيلة) كما يتصورونها تُفسدُ الدينَ، وأنه لا بد أن تكونَ المعرفةُ دينيةً محلية خالصة، وأن تكون مصادرَها موثّقةً في الروي، لتغدو هذه المرويات هي كلُ الثقافة العربية الخالصة اللافظة لما عداها.

كان هذا قطعاً لعلاقةِ أدبياتِ الإسلام بالتكون الإنساني، وإنها عصارةٌ لعناصر ديمقراطية نضاليةٍ تكونتْ في بيئاتٍ أُخر عبر نضال الشعوب في المنطقة والعالم، والمرتكزة على السلطةِ المحددة في تلك العناصر الفكرية الاجتماعية، والمعبرة عن مضمون شعبي توحيدي.

لهذا خرجَ اليمينُ الاستغلالي الجديد مُركزاً على الشكل، وعلى الممنوعات في النصوص الدينية، كرفض الفنون التجسيمية والرقص وهي الظاهراتُ الطقوسيةُ السابقة المرتبطة بعبادةِ الأوثان لا لكونها فنون بحدِ ذاتها والمرتبطة بالأشكال التعبيرية.

والتنحيةُ كانت سهلةً تجاه العرب القادمين من البداوة، حيث لا أرثَ فنياً تعبيرياً تجسيدياً عميقاً لديهم، وهم يعتمدون على فنونِ الكلامِ المختلفة، التي لا يمكن منعها. فيما شعوبُ البلدان المفتوحة يرتكز الكثير من تراثها على الفنون التجسيدية المختلفة. وهي ظاهراتٌ إستمرت وأغتنتْ لديهم عبر تطور الآداب والفنون المتشابكة مع تراثِها الديني والتاريخي ثم تشابكتْ مع المذاهب الإسلاميةِ التي إنشقتْ عن المركز وصعّدتْ هذه الفنونَ والأساطيرَ في تراثِها المذهبي الإسلامي، ولهذا فإن الانعزالَ عن الفنون تكرّسَ في المذهبيةِ الإسلامية النصوصية خاصةً المتطرفة منها.

وهذا ما حدثَ في الوعي الفكري بأشكالٍ تناسبُ أدواته وتحولاته، فالمنطقُ والفلسفة وعلم التاريخ وغيرها من العلوم الجديدة واصلت الحضورَ والتأثير، ولم تستطع التوجهاتُ الفِرقية الفكرية غير المرتبطة بالجمهور وكفاحه أن تواصل زرعَ الأشكالَ والأدوات الفكرية المستفادة من التراث الأغريقي بشكلٍ نقدي متطور، فقد عاشتْ على مساعدات الخلفاء والأمراء، فراحت تُنحي العناصرَ الديمقراطية المرتبطة بالكفاح الشعبي.

وهذا يتماثلُ مع رجالِ الفقهِ التاليين للمؤسسين الموجهين المذاهبَ نحو خدمةِ السلطاتِ المختلفة، فعُزلَ الفقهُ عن الناس، وتوجه للجوانب الصغيرة والعبادية والمعملاتية المعزولة عن المشكلات الاجتماعية والسياسية العميقة.

فتجمعتْ في تلك الثقافة الرسمية ونُقلت بعد ذلك إلى العصر الحديث، عناصرُ رفض الفنون والآداب الحياتية والأدوات الفلسفية الحرة.

لقد كانت تمثلُ جانباً صغيراً من الثقافة في عصر النهضتين العربيتين العباسية والحديثة، لكنها توسعت بعد ذلك بخلاف تطور العصر الحديث خاصة، بسبب أن الهياكلَ الاجتماعية والسياسية العربية التي ظهرت فيها لم تتغير، وأن التغييرات قاربت بعض الجوانب والسطوح في أغلب الأحيان. فالثوراتُ العربيةُ كانت فوقيةً مظهرية عسكرية ولم تكن تحولات عميقة في علاقات النساء بالرجال، وعلاقات الحرية بين الحكام والمحكومين، في حين تربض الأريافُ في العصور القديمة.

ولهذا فإنه حتى الفنون والآداب والفلسفة المصنوعة أو المجلوبة من الخارج تسايرُ الموروثَ من الأبنية العتيقة، وما يَخترقُ الموروثَ ويحوله يُنحى، ويُضافُ العصري الرديء على القديم الرديء، إلا ما يقاوم.

 من هنا يبدو الارتدادُ طبيعياً، والعودةُ للوراء الكارثية جزءٌ من أبنيةٍ لم تُعالجْ ديمقراطياً، وهي في تراجعِها تهدمُ علاقاتٍ داخل الشعوب العربية والإسلامية وعناصرَ من العقلانية التي ضُحي من أجلها طويلاً، بسبب أن الأممَ العربية والإسلامية يَطرح عليها التاريخُ لأول مرة بعد قرون أن تصنعَ نفسَها بنفسها، وهي غدتْ حرةً، لكنها مستعبدة لعلاقاتٍ وأبنية وسلطات وعناصر ثقافية عتيقة فيها، ولم تكتمل أدواتُها بعد لتغييرها. وأدواتُها هي الشعوب وتوحدها وتنامي إراداتها الديمقراطية وعقلانيتها.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الدينُ والثقافةُ