الأرشيف الشهري: جانفي 2019

محمي: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أفق ـــ مقالات 2005

هذا المحتوى محمي بكلمة مرور. لإظهار المحتوى يتعين عليك كتابة كلمة المرور في الأدنى:

الرمزيةُ وأهميتُها

abdulla khalifa

وُجد فهمُ الرموز في عالمٍ اسطوري غيبي مثالي سياسي عبرَ آلاف السنين، وهل كان الإنسان قادراً على أن يتجاوز ثنائية صورتي الإله أو الشيطان المركزيتين؟

لم يكن بإمكانه أن يضع هذه الرموز في تطورات البُنى الاجتماعية، وصراع الجماعات على المال العام والخاص والامتيازات التي يتكرس فيها أناسٌ دون آخرين، وتُدمج هذه الامتيازات بالمناصب والقبائل والعوائل والجماعات السياسية، ويتحول بعضها لكائناتٍ معبودة، تجمد الوعي البشري رافضةً دخوله منطقة النقد والتحليل والتشريح.

وإذ وجدت الأغلبياتُ في الشعوب تكريس هذا في نُصب وتحويلها لمراكز عبادة لبقاء التصورات الخيرة في إعتقاداتها، ظهرت أقلياتٌ تدعو لتحطيم هذه النُصب، غير مدركة لكون هذه الرموز معبرة عن تحولات تاريخية هامة للشعوب، ولكن وعي الشعوب التقليدي لا يستوعب نقدها وتحليلها وتمييز الخيط التقدمي الصاعد عبر التاريخ وتراكم الممارسات الاجتماعية الفكرية الجديدة والمضيئة، وليس الحل هو في تدمير الأشياء والأعمال المقدسة والفنية للشعوب مهما بدت مختلفة ونائية عن تفكيرنا بل في قراءة حياة هذه الشعوب الاقتصادية وإصلاحها.

عبرَ صراعُ الرموزِ ونقدها أو مدحها في منطقة العالم الثالث المتأخر- حيث أن بعض الدول الاشتراكية قد تجاوز هذه المرحلة الصنمية- عن صعوبة العمليات الديمقراطية والتحويلية الجارية في هذه البلدان.

ثنائية الذم البغيض أو المدح الذاتي العالي، يعبران عن العقلية القديمة وثنائية الإله أو الشيطان، وهي عقليةٌ واحدة في ميدالية الوعي الاسطوري، الذي يحول الكراسي لحكم أبدي، مطلق خارج صراع التاريخ والجماعات.

وقد تجاوزت ثقافةُ الغرب ذلك لكون عالم الكراسي نسبي، مرحلي، يهدف لتطوير البنية الاقتصادية السياسية التي توضع محلَ تشريحٍ ونقد من أطراف عدة، كلٌ يسحبُ لجهةِ مصالحهِ المشروعة، في مسرحٍ تتسلطُ عليه الأضواءُ الساطعة، ويقبلُ فيه المتنافسون نتائجَ الأصوات والضغوط ودعايات الجرائد الحزبية التي غالباً ما تلجأُ للعروض الموضوعية في تكوين قياداتها، فتظهر مراكزُ طبخ في كافة الطبقاتِ المتصارعة لتكوين القيادات ودراسة نقاط قوتها وضعفها، ومدى تعبيرها عن الجديد في مصالحها وجماعتها، وتجاوز القديم الذي تكلس، ولكن حتى تلك القيادات التي تكلست تدافع عن وجودها أمام التشريحات النقدية وتتساقط إذا عبرت تلك التحليلات العميقة عن جوانب جديدة هامة وكشفت أخطاء خطيرة ومستوى سياسياً معرقلاً لتطور النظام والجماعة.

وهذه الممارسة السياسية العالية نتاج تطور فكري سياسي لعدة قرون سابقة، لا نستطيع أن نقفز نحوها بأقدام الأطفال السياسيين، الذين تمتلئُ أفواههم بعبارات الذم الساحقة لأفراد محددين يخالفونهم الرأي، أو المدح الرخيص للحصول على مناصب متوفرة وسد منافذها أمام الكفاءات.

إن عقلية الإله أو الشيطان، الأبيض أو الأسود، لا تتشكل في تجسيدات الحياة الاجتماعية السياسية التي يمتزج فيها الخيرُ والشر، الانجازُ والسلب، التطور والجمود، الرقي والرجوع للوراء. إن كلَ جانب إجتماعي سياسي يحمل جوانبه المفيدة، ولكن هذه الجوانب لا تتصارع جدلياً، فتتفجر منها شراراتُ النور لا شرارات النار!

وتبسيطاتُ الوعي القديم ما تزال رازحةً على أفواه الوعي الجديد، مثلما أن الدول الفتية في العالم الثالث تختلط فيها تشكيلات المجتمعات العتيقة من عشائر وأقاليم متضخمة الهيمنة، ومناطق مقزّمة الوجود، وكلٌ من هذه المناطق المتناقضة المصالح ترمي الأخريات بصور الأباليس، وتضعُ مسيراتها الطائفية والدينية والسياسية في براويز الضياء والأبدية.

وكما أن الديمقراطية بكر وهشة في هذه الدول لا يتطور الوعي فيها بسهولة لتحليل الواقع وتناقضاته، فهي متمترسة في أوضاعها، تعيش على أصوات تمجدها أو تلعن خصومها، فهي غير قادرة على نخل عالمها وتغييره من الشوائب وتزييت العجلات السياسية لمزيد من التطورات الوطنية الجامعة لأبناء الشعب الواحد المتضارب المصالح موضوعياً ومؤقتاً في فترة ومتلاق في فترة أخرى حسب قدراته على الفهم والنشاط السياسي وإدراك التناقضات وحلها.

ولهذا فإن الصرخات والتهجمات على الرموز المختلفة هي أعمال بائسة لا تؤدي لتطورات بقدر ما تعقد العمليات الفكرية والسياسية، وتهيج الجمهور من هنا وهناك.

ولا توجد أفضل من القراءات الموضوعية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع الابتعاد عن الشخصنة والمثالب الموجهة للشعوب والقبائل والمذاهب والشخصيات القيادية، ومثل هذه القراءات الحكيمة تعزز بذور الوعي الجديد، وتهدئ الأعصاب السياسية، لكونها تتجه للمشكلات الموضوعية وتشير للحكام والمحكومين إلى جوانب النقص فتخلق تقارباً على خريط البلدان المشتتة، التي تزيدها الصراعات الذاتية تمزقاً وتباعداً، وتنتج قيادات جديدة في مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية السياسية ترى ما لم يره الآخرون السابقون وتضيف لانجازاتهم إنجازات جديدة، ولهذا يتطور العمل السياسي المتصارع نحو حلول جديدة للواقع الذي ظهر متكلساً لا يقبل التغيير.

في السياسة إمكانيات كبيرة للالتقاءات والتعديلات والتشريحات واللقاءات والاجتماعات للخصوم ولظهور صراعات أكثر تطوراً وذات قابلية أكثر للعلاج، أما العمل بعقليات اسطورية لا تستطيع دمج العلوم العصرية بالعلاج السياسي فهو مثل الطب القديم الخرافي الذي يعالج الأمراض باللعنات والهجوم على الأرواح الشريرة!

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الرمزيةُ وأهميتُها

http://www.akhbar-alkhaleej.com/13026/article/57692.html

تركيب حضاري

abdulla khalifa

ظهر الإسلام في ظروف شديدة التخلف عند العرب والأمم المجاورة لهم، وبهذا فإن شكل الوعي المكرس فيه يقوم على شكل مثالي ديني، تلعب فيه الأفكار الغيبية دوراً محورياً مهيمناً على الوجود، وتلك بسبب غياب العلوم بمختلف أقسامها عند أهالي المنطقة البدوية خاصةٍ، وهي تعبير عن الإنجازات الحضارية المؤسساتية لأهل المنطقة لكنها مشكلة دينياً.

 ومع تطور المسلمين واحتكاكهم بالحضارات التي سبقتهم والمنتجة للفلسفة فإنهم اتجهوا للاستفادة من هذه المنتجات الفكرية المتطورة القديمة، بصفتهم أكثر شعوب الأرض وقتذاك تقدماً .

 وهكذا راح المسلمون يستثمرون هذه المنتجات في تطورهم الحضاري المستقل، ومن هنا كيفوها مع الموروث الإسلامي الأولي، ومع الموروث الإسلامي الجديد الحضاري الذي تكون حين شكلوا تلك الحضارة، منقطعين عن المستوى السابق.

 والذين قاموا بهذه العملية ليسوا المسلمين ككل، ولكن تلك الفئات المثقفة التي يعود تكوينها للفئات الوسطى عموماً، وقد أبقت على المنظور المثالي للفتر السابقة، مطورة إياه في منظور مثالي موضوعي.

 بين المنظورين المثاليين الديني الأولي، والديني الفلسفي، ثمة نقاط تشابه ونقاط افتراق، في كون الأول يمثل الفئات الوسطى المكية المثقفة، وهي تقود عملية التحول في ظروف شديدة التخلف، وبأدوات النضال الجماهيرية.

 واعتمدت تصوراتها على الرؤية المثالية الدينية في أبسط أشكالها، حيث الجمع بين الواقع والميراث التصويري الفكري القديم، المستفيد من الدينين السماويين السابقين، اللذين هما كذلك مستفيدان من الإرث الفكري للعصر القديم.

وفى الجزيرة العربية أتيح للفئة الوسطى التحرك بحرية تاريخية نسبية، لعدم وجود الملكية الشاملة، فغدت المثالية دينية — أسطورية — تصويرية مغيرة للواقع المتخلف.

 في حين واجهت المثالية في عصر الحضارة الإسلامية التالية إمكانيات فكرية وعلمية كبيرة، فتخلص أغلبها من الشكل الأسطوري التصويري، متوجهاً إلى المقولات والتركيب النظري الواسع واعتماد المنطق الأرسطي وطرح استقلال الطبيعة والمجتمع من التدخلات الغيبية المباشرة الحادة.

 لكنه اعتمد المثالية كذلك عبر جعل هذه المقولات تخلق العالم ، وتشكل الوجود، مع اعترافها بموضوعية هذا العالم ووجود قوانين لتطوره. لكن هذه القوانين تتمثل في الجانب الطبيعي بدرجة أساسية.

 وهكذا فإن الوعي الديني والوعي الفلسفي تماثلا في إعطاء القوى الماورائية إمكانيات تحويل الحياة، مرة عبر النص الديني، ومرة عبر النص الفلسفي؛ ومرة باعتماد الجمهور الشعبي للتحويل وعبر الدخول الجريء في الحياة، ومرة عبر العلوم والانسحاب إلى الزهد، فهنا حدث تغير في طبيعة الفئة الوسطى القائدة، فالأولى كانت غير تابعة للقصور، والثانية كانت تابعة.

 والأولى إذ غيرت العالم فإنها أسست مدنية مسيطراً عليها ثقافياً من قبل مستوى متخلف سابق، في حين أن الثانية كانت أكثر تقدماً ثقافياً لكنها عاجزة سياسياً وتاريخياً!

 وهذه التحولات المتضادة أزيلت بإيجابياتها في المرحلتين، المرحلة الإسلامية التأسيسية ، وفي المرحلة الحضارية المدنية، فلم يبق من الثورة التأسيسية والارتباط بين التقدم والجمهور الشعبي، ووجود برنامج نهضوي مطبق على الأرض، ولا كذلك ضخامة الإنتاج الفكري والفلسفي والتداخل مع إنجازات العصور السابقة واستيعابه ثروة الأمم!

 وجاء العصر الحديث متردداً متناقضاً، غير قادر على فهم العصرين السابقين وعصره هو.

أطروحةٌ، فنفيٌ، فنفي النفي، أي عصور ثلاثة متضادة، راحت تتشكل على مدى الألفى سنة من عمر العرب والمسلمين، كل عصر يقوم بنفي العصر السابق، ليس بشكل كلي؛ ولكن بشكل أساسى، والعصرُ الحديث لم يفهم أنه تركيبٌ ، وأنه جمعٌ بين العصرين السابقين ونفي لهما معاً .

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تركيب حضاري

 

الأيديولوجيات العربية والعلم

هناك بعض أوجه التشابه بين التجربة الماركسية — اللينينية والتجارب العربية الفكرية والاجتماعية القومية والدينية، فهناك جوانب عميقة متقاربة، فالمنهجية الماركسية التقليدية لم تتشكل كحفرٍ علمي في العلوم عربياً وإسلامياً ، فهي جاءت كمقولاتٍ ناجزةٍ، فليس ثمة هنا أبحاث واسعة في العلوم، ولا تشكيل لطبقة فكرية موضوعية على سطح الوعي، وبالتالي فإن تطبيقها على ميدان التاريخ والبنى الاجتماعية كان يجري بالطريقة ذاتها، أي كعمليةِ نقلٍ من المصادر، بالسياق السياسي ـ الإيديولوجي ذاته، فكان على العرب القفز من الإقطاع إلى الاشتراكية.

 إن السياق السياسي هذا سيطر على المنهج وأخضعه لغاياته بدلاً من أن يكون بحثاً في الواقع والتشكيلات في مسارها العربي، وقد تم نقل المخطط التاريخي الخماسي القائل بوجود خمسة تشكيلات هي المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، والاشتراكية، ثم تم خرقه بالقول بضرورة القفز على التشكيلة الرأسمالية.

 فهنا تغدو مقولاتُ المادية التاريخية غيرَ قادرةٍ على النفاذِ إلى البُنى الاجتماعية العربية، حيث تدعو للقفز من الإقطاع إلى ( الاشتراكية ) وفي هذا القفز إنكار للمادية التاريخية، فهنا أيضاً لا توجد أمة عربية ذات سيرورة تاريخية خاصة، بل موديلات جاهزة، أي أن المادية الجدلية لم تتحول إلى مادية تاريخية، لأن كلا الماديتين لم تتشكل في مادةٍ بحثية عربية.

 هنا يقومُ الوعي بإسقاط ذاته على الواقع الموضوعي، فيتم خرق القوانين الموضوعية باسم ذات القوانين، فموضوعيةُ التشكيلات التي تُلقى تتحدد أساساً بعملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، فهاتان البنيتان بحاجة إلى درسٍ عميق، وحين تضيع قوانين كلا التشكيلتين لا يتشكل وعيٌ موضوعي.

 إن (الأنا) تسقطُ معايير النفعية والفائدة المباشرة هنا ويقودُ هذا إلى عدمِ رؤية القوانين الموضوعية للمادة، سواء كانت طبيعية عبر العجز عن قراءة العلوم الطبيعية معرفياً، أو اجتماعية بالعجز عن اكتشاف قوانين تطور المادة الاجتماعية بسبب الإسقاط السياسي، فتتآكل الفلسفةُ المادية على جانبيها الجدلي والتاريخي، ومن هنا لا تغدو لها حفرياتٌ مميزة في الحياة الاجتماعية.

 إن الإسقاط السياسي يقودُ إلى عدمِ قراءة سيرورة التشكيلات الحقيقية ويكون لهذا نتائجه بعدمِ رؤيةِ خيطِ التطور الموضوعي، مما يفتحُ الطريقَ للعودة إلى المثاليات.

 إن تحولَ النظرية الموضوعية إلى أفكارٍ تستهدفُ منفعةَ الذات الجماعية، وليس إلى وعي جماعي يكتشف القوانين الاجتماعيةَ ويسيطر عليها، تقود إلى تآكل النظرية وتحولها إلى مجموعات من الشعارات والأفكار النفعية المتقلبة، وهو أمر يفتحُ البابَ لمجموعةٍ من المناهج المتناقضة المضطربة، من المادية الميكانيكية والجدلية مع اشكالٍ من المثالية الذاتية في خليطٍ يتجهُ في خاتمة المطاف إلى عدم الصمود ونفي تناقضاته الداخلية إلى مركب جديد.

 فتسيطر فكرة نقل الموديل ولكن هذا الموديل غير صالح للسكة التاريخية التي يفترض أن يمشي عليها، إن المادية الميكانيكية هنا تتفكك وتتحطم، ففكرة إزالة الدين كما جرت في الاتحاد السوفيتي أو الصين التي تنُقل ميكانيكاً هنا تتحول إلى رفض كلي للدين، أو تتحول إلى استغلاله سياسياً، أي دون دراسته وفهمه واتخاذ مواقف دقيقة من عمق هذه الدراسات.

 وتقود عمليةُ القفز على التشكيلة إلى القفز على مفرداتها الموضوعية كالدين والملكية الخاصة والرأسمالية ، أي تقود إلى عدم تنمية تطوير العناصر الديمقراطية الجنينية وتحويلها إلى انعطاف سياسي في البنية.

 إن كفة التيارات السياسية العربية ستقوم بإعادة إنتاج هذه الطريقة سواء أكانت قومية أم بعثية أم دينية أم وطنية إقليمية شمولية أم قوى مذهبية سياسية.

إن إسقاط أهمية الرموز الدينية التي خلقت البنى الاجتماعية الإسلامية، يقود إلى عدم القدرة على تفكيك علاقة الإقطاع بالدين والتحكم في السلطتين السياسية والدينية، وبالتالي يقود إلى عدم القدرة على تكوين جبهات سياسية عريضة للتحول الديمقراطي.

 فهذه الرموز نتاج تطور طويل للبنى، بحيث تغلغلت في مستوياتها السياسية الفكرية — الاجتماعية والاقتصادية، فهي تقوم بإعادة إنتاجها، ومن هنا يتطلب التغيير إعادة بنائها.

 تتكونُ في التجربة (الشيوعية العربية) كما هي في التجربة القومية – البعثية والمذهبيات السياسية المختلفة، (الذات) المتجوهرة حول الطبقة القائدة التاريخية أو(الأمة) العربية أو(الأمة) الإسلامية أو الطائفة، وإذا كانت الذاتُ الشيوعية مرتبطةٍ بالواقع وعمليات تحليله الطبقة والتاريخية فإن المفهوم الذاتي الجوهري لا يتغير نوعياً، فهذه الذاتُ ستخرقُ قانونَ تحليل الواقع الموضوعي وستطرح برنامجها القادم من الذات العالمية المتجوهرة، ذات الطبقة العاملة العالمية، كما ستتمظهرُ فى كيان رأسمالية الدولة الشمولية في الاتحاد السوفيتي أو الصين الخ.. أي كما تتصور الطبقة العمالية، أقسامٌ من الفئات الوسطى تُسقطُ أفكارَها ومصالحها على حركة هذه الطبقة، أي تقوم بأدلجتها.

 وسيدورُ العالمُ حول هذه الذات، ولهذا فإن درسَ التاريخ يغدو إسقاطاً منها عليه، فهى لا تقرأهُ بموضوعيةٍ بل تُسقطُ عليه برنامَجَها السياسي، فتغدو هي مركزه؛ بدلاً من أن تقرأهٌ مستقلاً عنها.

 ومن هنا سيغدو تغيير الواقع المعاصر كذلك مرتبطاً بهذه الذات، فسترى تطبيق برنامجها هو الحقيقة الاجتماعية الموضوعية، أي كل ما يجعل الطبقة العاملة تسود، وهذا ما يكرسُ نموذجَ رأسمالية الدولة الشمولية كما في مصر والعراق والجزائر وسوريا واليمن (الجنوبية) الخ.. وبدلاً من برنامج الحياة الموضوعية وهو برنامج هدم النظام الإقطاعي الديني، وتشكيلِ نضالٍ طويل متدرج لتغييره، بتصعيد مختلف العناصر الديمقراطية والتحديثية، سيجري القفز على ذلك، وسيجري تقوية أجهزة الدول المركزية، وثقافة الشمولية المختلفة، وبقاء النظام التقليدي في خاتمة المطاف.

 إن الذاتَ هنا غير قادرةٍ على إنتاجِ مقولاتٍ فلسفيةٍ بسببِ هذه المثالية الذاتية، المثالية المتقوقعةُ حول (الأنا)، ولهذا لا تستطيع أن تحل معضلات فهم التشكيلات التاريخية رغم اقترابها من درس الواقع الموضوعي بشكل كبير، لكن هذه الدرس يهدمهُ تصور ذاتي عن الوجود، وهو تصور (طبقي) يعود لفئات وسطى شمولية.

 وكل التصورات البحثية والقومية والمذهبية السياسية صادرة عن مفهوم طبقي، ولكن هذه التصورات سترفض مفهوم الأنا الطبقي، وتحل محله مفهوم الأنا القومي أو الديني أو المذهبي، ومن الناحية التاريخية الكبرى، أي عبر المصير المتوقع في مسار التشكيلة، سيكون الأمر متقارباً، أي لن يكون ثمة فروق كلية بل فروق جزئية.

 فالأنا القومية هنا كذلك تقومُ بإسقاط ذاتها على الوجود كما رأينا في آراء المفكرين القوميين، فالأنا العربيةُ تقفزُ خارجَ الزمان والمكان، ولهذا تغدو مقولاتها شعرية لا فلسفية، خطابية لا مفاهيمية موضوعية، ولهذا فإن الفئات الوسطى المنتجة لهذه الدعوات، ستتقاربُ مع الفئات الوسطى المنتجة للشيوعية العربية عبر تصعيد دور الدولة كجهازٍ تقني لحل معضلات القفزة الحضارية، نحو الحداثة، وإذا كانت الأنا القومية ستعملُ للحفاظ على جوهر الأمة وبقائها الميتافيزيقي، الخارج عن التاريخ، فإن الذاتَ الشيوعية العربية سترى تصعيدَ دور الدولة وتضخيم الطبقة العاملة مؤشرات نحو تحقيق الذات بشكل آخر.

 إن الذاتين الشيوعية والقومية تتصادمان أو تترافقان عبر تصعيد دور الدولة المركزية وهو أمر يقودُ إلى تصعيد دور المنظومات التقليدية السياسية القديمة، أي تصعيد الدولتين السنية أو الشيعية الرابضتين تحت القشرة السياسية الهشة للحداثة، وهنا يجري القيام بطلاءٍ تحديثي، مترافق كذلك مع إنجازات اقتصادية واجتماعية تدفع ملايين من السكان للالتحاق بالتجربة، والتظاهر معها، ولكن نظام رأسمالية الدولة شكل انتقالي بين التشكيلات، وهو في الدول الشرقية المتخلفة، يغدو شكلاً انتقالياً بين تجديد نظام الإقطاع وتشكيل رأسمالية بأدوات بيروقراطية.

 وهذا الأمر يتعلق بتجربة كل دولة وتقاليدها السياسية والاجتماعية، فالعراق توجه عبر البعث نحو استعادة نظام الإقطاع المذهبي بصورة قمعية شديدة، في حين اقتربت تجارب أخرى من الرأسمالية المُكونَّةً بشكلٍ إداري شمولي كمصر دون أن تخرج من نظام الإقطاع المذهبي بعد.

إن الفارق يتحدد بمدى ظهور فئات وسطى صناعية حرة، تبدأ في الحفر لتشكيل نظام رأسمالي حديث. أي بمدى القدرة على إنتاج وعي وطني ديمقراطي يتجاوز الشموليات بأنواعها: الشيوعية، القومية التعصبية، المذهبية والدينية التقليدية الخ.

وبهذا فإن المذهبَ السائد وسيطرة الارستقراطية والذكور والشمولية السياسية والفكرية كلها يُعاد إنتاجها، وسيغدو المذهب الديني السياسي المهيمن الشكل الإيديولوجي للخروج من الأزمة الفكرية الناتجة عن فشل الطريق (الاشتراكي) المزعوم.

أي أن القوى المسيطرةَ على الجهاز السياسي والاقتصادي والعسكري الشمولي تواصل تاريخ الاستغلال السابق، لكنها في الدول العربية والإسلامية لم تستطع الخروج من التشكيلة الإقطاعية، فظلت أسئلةُ الحداثة حارقةٍ في جسمها السياسى والاجتماعى.

إن هذه أيضاً عدم قراءة موضوعية وتطبيقية لـ(القوانين)، فقوانين المادية الجدلية بقراءة الطبيعة تخرق على مستوى قراءة تطور المجتمع، فتنفك العلاقة بين جدل الطبيعة وجدل التاريخ، ويغدو المجتمع مرهوناً بمخطط ذاتي لدى القيادات، فتحل الإرادةُ الفرديةُ نفسها محل القوانين الموضوعية للصراع الاجتماعي، وتهيمنُ الأرادةُ الفوقية على الأحزاب؛ وتهيمنُ على الدول، وعلى الملكية العامة المُصادرة، فتتشكل فئاتٌ بيروقراطية استقلالية، تهدرُ الثروةَ العامة.

وبدلاً من تصعيد فئات وسطى وعاملة حديثة ديمقراطية، يقوم الهيكلُ البيروقراطي بنخر الحداثة الاجتماعية الضعيفة، وبدلاً من تصعيد فردية وتحررية اجتماعية وعقلانية، يتم القفز إلى هياكل إيديولوجية عامة فارغة، مثل (ضرورة هدم الطبقات) أو (هدم الأديان)، لكن في المحتوى الاجتماعي العميق تبقى الذكورية المتسيدة والقبلية والبيروقراطية المتحكمة في الثروة والأطر الإقطاعية المذهبية.

ويصل نظام رأسمالية الدولة الشمولية الشرقي إلى أزمته، فتتفكك المنظومة، وتوابعها داخل المعسكر (الاشتراكى) أو خارجه. مثلما تحدث أزمة الأنظمة الأخرى العربية المحافظة ذات الجوهر (الستاليني)؛ ملكية عامة بيروقراطية مسيطر؛ وهي فاسدة.

وقد لعبت التحولاتُ الاقتصادية النفطية دورها في تصعيد قوى  الإقطاع المذهبية بشكل أكبر من السابق، وبدلاً من تصعيد دور الرأسمالية (الحرة) انتشرت القوى التقليدية والشمولية القديمة. فهذه التحولات جرت في البلدان الصحراوية والريفية متدنية التطور، فساهمت في تأخير المدن العربية السائرة سابقاً في طريق التطور الحديث. وهكذا فإن أنظمة الإقطاع المذهبية حصلت على دفعة قوية.

هذا أدى إلى صدمة لمركزية الذات الشيوعية والقومية، فالتصور السائد بحدوث القفزة، انقلب إلى حدوث الارتداد، وهو أمر قاد إلى تآكل الوعي والتنظيمات وأعطى دفعة للصعود المحافظ كذلك.

فإذا كان مثل هذا الوعي لم يستطع أن يصلَ إلى فهمِ أساسيات التاريخ، ووضع إرادته الذاتية بديلاً عنها، فإن الطوابقِ التحتية في ذاته مليئه بأشكال الغيبيات والمثالية، ولهذا فإنه حتى مفاهيم المثالية الموضوعية التي لم تتشكل هياكلها لم تستطع الحضور النقدي الاجتماعي، ولهذا فإن شتى أشكال المثاليات الذاتية تتفاقم وتتصاعد في مرحلة الانهيار  والاضطراب.

فمع مرحلة انهيار أسلوب ملكية الدولة المركزية الشمولية، على الصعيد العربي بسقوط الأنظمة الوطنية ذات الملكية العامة السائدة، أو بأزمات الأنظمة العربية المحافظة، تصاعدت موجةُ المذاهب النصوصية، كتعبير عن غياب بحث وتجسيد القانون نظرياً واجتماعياً.

فتصاعدُ الغيبيات المتطرفة كانتشار خرافات القبور وتحضير الأرواح الخ.. كان إعلاناً عن هجمة المناطق الرعوية والريفية، وبلدان الجزيرة العربية الصحراوية على المدن، النهضوية المتآكلة، وظهور زمن الثروة اللاقانوني، المستند إلى الصدف المحضة، وهكذا فزمن النهضة الأول المستند إلى اكتشاف وتجسيد القانون والصناعة الشخصية، تم القفز عليه عبر الانقلابات العسكرية ثم المناطقية المحافظة، وبهذا فإن الحكام المطلقين ظلوا في السلطة الأرضية كما ظلت صور الإله المطلقة الخارقة للقانون، أي أن الثروات وتوزيعها ظلت لدى أهل السلطة المتحولين والناتجين من تبدلات سياسية خارج الوعي والإرادة البشرية، وبهذا فإن النصوصيات الدينية المعادية للعقل صعدت بقوة، بدلاً من تراكم الفكر الموضوعي والعلوم.

إن الأفكار الدينية النصوصية المحافظة تقوم على صور الإله المتدخلة في كل شيء، تعبيراً عن ضعف الإرادة البشرية الشعبية تجاه التسلط الديني والحكومي، فتتوارى سببيات الثروة والأمراض والحروب وتدهور المدن الخ. . ويغدو كل شيء بـ(بإذن الله+ وأنشاء الله) وليس بإرادة العصابات الحاكمة في الحكم والدين.

 وهذا يوسع انتشار اللاعقلانيات والغيبيات المتطرفة والصوفيات، وينهض الموتى للتحكم في الأحياء، وتسيطر الأرواحُ على الأجساد المفرغة من العقول. ويدير اللصوص  المسرحين السياسي والاجتماعي.

التطور الفلسفي العربي الحديث المبكر

إذا أخذنا سلسلةَ التطورات التي حدثت خلال القرنين الأخيرين، فسنجد ثلاثة فترات كبرى :

الأولى : تمثلت في استيعاب المنجزات الغربية .

الثانية : في تشكيل تجارب لرأسمالية دولة شمولية، توهمت إمكانية تجاوز العصر الرأسمالي.

الثالثة : عودة متدهورة للفترة الليبرالية الأولى مع عودة كذلك للإقطاعين السياسي والديني الشموليين.

كان النهضويون الأوائل في القرنين الــ 19 والــ 20 يتصورون أن التماثل مع الغرب هو كفيل بخلق النهضة، وحين تزعزع هذا الوهم راح الدينيون يتصورون وهماً آخر هو استرجاع الفترة الأولى من العصر الإسلامى.

أي أن دراسة العصرين العربيين السابقين ورؤية تضادهما والخروج بتركيب منهما، وفي ظل ثقافة الحداثة المسيطرة، كان يمكن أن يكشف للعقول قوانين التطور الاجتماعي، وبالتالي يؤدي إلى التحكم فيها.

إن عصرنا العربي الإسلامي الراهن هو عصر التركيب، للعصرين العربيين السابقين، تداخل معهما ونفي لهما معاً. إنه عصر نفي النفي. وهو لهذا عصر التمثل العميق للحداثة العربية على مر الزمن والصعود بها إلى لحظة نوعية جديدة مقاربة لمستوياتها العالمية.

فأخذ إنجازات الثورة المحمدية، والجوانب الإيجابية من نضال الفئات الوسطى التحديثية في العصر النهضوي الأموي – العباسي السابق، وتشكيل نضال نهضوي للفئات الوسطى المتحالفة مع العاملين بشروط الحداثة المعاصرة.

وهكذا فإن إنجازات التحالف الشعبي الديمقراطي الإسلامي النهضوي الجريء في اقتحامه العالم، يضاف إلى تراكمية الثقافة الفكرية الموسوعية والانفتاح وعقلنة الفقه وعصرنته، وقد تم كل ذلك بوعي ديني مثالي مسيطر على أجهزة الحكم، تعبيراً عن القوى العليا مرة في تحالفها مع العاملين ومرة في انقطاعها عن التحالف مع العاملين.

وبهذا فإن طيفاً اجتماعياً واسعاً لابد أن يتشكل ليعيد إنتاج الحضارة العربية المستقلة الحديثة، وهذا التحالف الذي في جوهره تحالف الفئات الوسطى والعاملين، له مضمون اجتماعي هو إعادة تغيير طابع الدولة، في ملكيتها الاقتصادية الشاملة، وفي مذهبيتها السائدة المتحكمة، وفي تحرير كافة هذه الجموع من الدولة الإقطاعية – المذهبية، وفي خلق طبقات وسطى وطبقات عاملة حرة، تتداول السلطة حسب برامجها المقبولة للجمهور.

وعملية إجراء الإصلاحات في جسم الدولة – المجتمع الاقتصادي والديني والاجتماعي والسياسي، يعتمدُ على سلسلة من الإصلاحات في ظاهرات الوعي المختلفة.

إن جسم الدولة – المجتمع الذي يعيش النظام الإقطاعي المذهبي، يعيش المفردات الدينية الشمولية، كخلفية متحكمة فيه عبر القرون.

وإذا كانت صورة الإله الواحد المتدخلة في كل شيء التي زرعتها الأنظمة الاستغلالية فتلك صناعة الحاكم الواحد الذي يهيمن على السلطة – المجتمع زاعماً أنه شبه إله!

وقد قامت الفلسفات في العصر الوسيط الإسلامي بخلق وسائط غيبية متعددة في المشرق الإسلامي، ثم في المغرب أخذت نتخلصُ من هذه الوسائط بحيث غدت فلسفة ابن باجة — ابن رشد تشق الطريق نحو مثالية موضوعية.

لقد استغرقت العملية بين التكوين الديني الصوري القصصي الميثولوجي الحكمي، وبين تكون الفلسفة المثالية بمعمارها التعددي المفاهيمي عدة قرون، ثم إلى أن تكون مثالية موضوعية جنينية في الأندلس على بضعة قرون أخرى. وهذه المثالية الموضوعية الجنينية ترحلت إلى أوروبا لتبدأ رحلة جديدة في بُنى اجتماعية مختلفة مشكلة الرشدية المقاتلة المرفوضة من قبل الكنيسة ولكن التي وضعت الأساس لهدم هذه الكنيسة الشمولي.

فكأن الانتصار العربي الإسلامي في أوروبا!

وحين وصلت الفلسفةُ من أوروبا إلى العالم الإسلامي محملةٍ بكل هذا الزخم التحولي المتضافر الداخلي، فإنها لم تُفهم من قبل الجيل الأدبي، جيل التنوير الأول؛ فقد كان تاريخ أوروبا الوسيط والنهضوي والمعاصر معروضاً أمامه، بشكلٍ غامض، بحيثيات سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، فكانت الوقائع الاجتماعية المباشرة كمظاهر التقدم في مختلف جوانب الحياة هي الطافحة على سطح الوعي النخبوي، وهذا ما كان يمثل له صدمة على صعيد أنه كان عبر موروثه يعتبرُ نفسَه محورَ العالم والبقعةَ الأكثرَ حضارةٍ فيها، ودينه يمثل أرقى تكون فكري عرفه الإنسان.

ومن هنا كان وعيه ينقلُ وقائعَ الحياة والثقافة بعناصرها المشتتة متقبلاً المظاهر الحديثة الأكثر وظيفيةٍ ونفعيةٍ والتي تغدو عبر التجارة مستخدمةٍ في حياته، محتفظاً ببنائه التقليدي المحافظ، حيث يعبرُ هذا الاحتفاظ عن جانبي الاستخدام الوظيفي وبقاء أسس النظام التقليدي التي تسيطر عليه القوى العليا، ومهما كانت التغيرات السياسية التبدلية في هذه القمة فإنها لم تغير هذا البناء، إن لم تحافظ عليه بقوة أشد.

من هنا كان الوعي التنويري أدبياً ثقافياً تقنياً عاماً، لا يستطيع أن يطرح المنظور الفلسفي، وأن يشكل نظرات عامة إلى الوجود، حيث ان وجوده الاجتماعي هو ذاته مقلق وغير مفهوم.

فكان عليه أن يعي أساسيات وجوده الوطني أولاً، أي أن يقوم بخلقِ لحمةٍ في بنائه السياسي التابع والمتخلف، وهو أمرٌ يجعل البنى العربية والإسلامية المفتتة تقومُ ولهذا فإن الاحتكاك بأوروبا كان يتيحُ استخدام بعض الأسس السياسية الاجتماعية الأوروبية في العمل لتشكيل هذه البنى، وكل بنية عربية وإسلامية لها ظروفها وسيرورتها الخاصة، والمتداخلة مع السيرورات الأخرى كذلك.

إذن كان الوعى وهو يشكلُ البنية التقليدية – المحدثة، يمر بمرحلة التأثر الأوروبى – والعودة إلى الماضي، عبر استخدام مفهوم النهضة، وهو الذي كان يتيح استعارة الأشكال الأوروبية وتركيبها فوق الجسد القديم، مع الزعم بأنه يتحدث، فهو يغرف من الماضي المجيد، وكذلك يستفيد من الخبرة الأوروبية، التي كانت (وليدة التأثير العربي).

ولكن لم يكن يدرس هذا التداخل العربي – الغربي في سيرورته التاريخية المعقدة والمتوارية، أي أن يدرس رحلة المثالية الموضوعية وتبدلاتها العميقة في أوروبا، من الرشدية المُلاحقة إلى الديكارتية المنفصلة كثيراً عن تقاليد الفلسفة الدينية للعصر الوسيط.

إن ثمة عدة قرون أخرى بين الرشدية الملاحقة وبين الديكارتية، وهذه السيرورة لن تُدرس عبر هذا الوعي الأدبي – الفني وهو يقابل أمثاله في الإنتاجين الأوروبي والعربي القديم، لكن هذا الدرس المتعدد الأشكال سوف يضع مادة ثقافية كبيرة للمرحلة التالية وهي مرحلة الوعي الفلسفي.

وهناك عناصرٌ فلسفية مشتتة في داخل هذه المرحلة، فكان التأكيد على الخلق الإلهي للعالم، يتداخل مع الإيمان بالضرورات الموضوعية للوجود، وهو أمر يشير إلى هذه الثنائية بين الجذور المتواصلة الحضور، أي بين النظام المحافظ بألوهيته المطلقة، وبحكامه المطلقين، وببنائه الاجتماعي الذكوري – الأرستقراطي وثقافته السحرية – الدينية، وبين ضرورات التحديث التقنية.

فكان التقنيون فوق الجسد المحافظ يستوردون المنجزات البنائية والتقنية والأدبية والديكورية الخ.. إن فكرة الخلق الإلهي والسببية المحدودة، تتماثل وعملية التداخل العربي – الغربي في مرحلة الاستعمار والتجارة وإنتاج المواد الخام، فهما تتيحان الحفاظ على النظام التقليدي بأسسه الدينية، وأيضاً تطوير بعض الجوانب في الحياة الأكثر إلحاحاً كتغيير الحرف ونمط المدن والإدارة ونظم التعليم الخ.. لكن عمليات التغيير تتجه إلى جوانب أكثر عمقاً بطبيعة تطور الحياة، وسواء بسبب من اهتراء القديم، أم من هجوم الجديد، وهذا يمكن ملاحظته في تعمق الأشكال الأدبية كالقصة والرواية والمسرح، وتوجهها نحو عمليات تحليل الواقع بصورٍ متزايدة، وكذلك عمليات اتساع العلوم ونمو تخصصاتها، والتبدل المستمر بين حجم الزراعة وحجم الصناعة، واستعادة المدن العربيةِ دورها النهضوي، وبدء إلحاق الريف والبادية بتحولاتها.

ومن هنا فالسببية سوف تتزايد عملياتها في الوعي، وتصبح الظواهرُ المشتتة في الوعى التنويري الأولي أكثر ترابطاً؛ فلم تعد العملية استلال عنصر وحيد من التراث، أو من الغرب، بل أخذت عمليات النظرة التركيبية بين الثقافة والوجود الاجتماعي والتاريخي، تتشكل في العقل النهضوي الجديد، وأصبح العالم العربي الإسلامي بتطوراته الكبرى مرئياً في هذا العقل، ولكن في ظاهراته الفكرية الروحية المستقلة عن البنى الاجتماعية التي يتشكل فيها.

يمكن هنا أن تتشكل لمحاتٌ من العرض الاجتماعي، لكن الوعي يظل مستقلاً، وبه سبيياته الداخلية المترابطة الأعمق، والمنفصلة عن البنى الاجتماعية.

هنا علينا أن ندرس الصراع بين المثالية الموضوعية الدينية والمادية الجدلية، كتعبير عن طفولية الوعي الفلسفي في الجانبين. من جانب عجز المثالية الموضوعية عن النمو وكشف الواقع، وقفزة المادية الجدلية للريادة الكشفية، وإخفاقها في ذلك، عبر حدوث فجوة كبيرة بين المادية الجدلية والمادية التاريخية.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التطور الفلسفي العربي الحديث المبكر

الفنون في الأديان

20070828bizreligion_dm_500

أضطر العرب المسلمون في نقلتهم الحضارية بين الجزيرة البدوية الصعبة ذات التاريخ المرير وإحتلالهم للشمال الزراعي الغني أن يختزلوا الكثير من المظاهر الحضرية ويشكلوا سمات حضرية خاصة بهم دون أن تكون هذه السمات متناسقة تمام التناسق.

من الجوانب البارزة في هذا الموقف الرسمي من الفنون، والموقف الرسمي هو الموقف المسجل في الوثائق الدينية المعتمدة للأنظمة السياسية التي تتالت بعد هذا.

كانت الشعوب القديمة الوثنية بطبيعة دياناتها تقدس الفنون، فهي مدار حياتها، فالإنتاج كالبذر والحصاد والصيد وبالتالي الأعراس والولادات والختان كلها تجري من خلال فنون الشعر والغناء والرسم والنحت، ولكن هذه الفنون تجري بتقديس الآلهة لهذه الشعوب، فهي جزءٌ من حياتها وإحتفالاتها.

وقد وجد العربُ المسلمون أنفسَهم مع قدومِهم لمسرح التاريخ في المنطقة بشكلٍ متأخر، أنهم يحاربون الوثنيات بقوة، وهي التي تمثل تعدديات الدول وتنوعها وسلطات المدن والقبائل والشعوب المتختلفة. ولم يكن مستواهم الثقافي في ذلك الوقت يتيح التمييز الدقيق والفصل بين ما هو وثني وما هو فني إنساني.

فلم يفصلوا بين محاربتهم للوثنية ومحاربتهم للفنون، التي كانت هي مندمجة فيها، بحكم التطور الطويل السابق، فظلت الأحكامُ الفقهية في الأجيال التالية دون معرفة العلل فيها، ثم تغيرت الظروفُ الوثنية المرتبطة بتلك الفنون، لكن الأحكامَ الفقيهة بقيتْ على حالها!

كان الساحرُ قديماً هو الفنان النحات والشاعر والراقص والصياد، ثم تخصصت صفاته في فنانين متنوعين، فالشاعر المغني أنفصل عن الساحر، ثم أن الشاعر كذلك أنفصل عن المغني وعن رجل الدين، لكنه انفصال غير تام وحاسم، فالثلاثة في علاقة متداخلة، كأشكال متقاربة من الثقافة، نظراً لأن الموسيقى والقداسة تجمعها.

فهذه هي كلها في عرف القدماء نتاج السماء أو وادي عبقر أو الروح أو الألهام، فرجل الدين يصنع الشعر ويغنيه ويؤثر من خلاله على الجمهور.

ومن هنا بقيت في الكنيسة المسيحية علاقة رجل الدين بالغناء، فهو إن لم يتحول إلى مغنٍ تماماً فهو ينشد، أو يقرأ بموسيقية ما، ويضعُ آلة موسيقية في الكنيسة، ويدعو المؤمنين للترتيل معه، أو الإنشاد أو الغناء.

المسيحيون كسكان مناطق زراعية متحضرة قديمة، لم ينشئوا دولة بسرعة العرب المسلمين، ولهذا احتفظوا بتقاليد فيها وثنية وتعددية إلهية وتراث موسيقي قديم، وأنتقلت تدريجياً إلى أوربا وبعد قرون ومع البعث النهضوي والترجمات الإغريقية تحولت إلى نهضة جديدة عالمية.

أما العرب فعلى العكس أرادوا أزالة المظاهر الوثنية بقوةٍ وسرعةٍ حتى لا تتفكك دولتهم الطرية، فعارضوا أي تذكير بالماضي حتى لو كان فنياً وإحتفالياً فرحاً، وكان يمكن لهذه الاحتفاليات والمظاهر الوثنية أن ترتبط كذلك بمعارضاتِ الشعوبِ ومؤامرات الإمبراطوريات الكبيرة المهزومة في ساحات القتال.

وفيما بعد حين زالت تلك المظاهر التاريخية السلبية المؤقتة، لم يكن بإمكان الفقه الحكومي المتصلب أن يقرأ ذلك على ضوء التحولات، وبقي في الموقف الرسمي وخاصة في الاتجاهات السنية، وكلما زاد في بدويته وشكلانيته قل تعليله للتاريخ الاجتماعي الديني.

لكن الشعوب الإسلامية لم تكن تعبأ بالموقف الرسمي الديني، فقد كانت شعوباً أدبية وفنية بحكم تقاليدها الطويلة وتجاربها الإنسانية، فانتشرت الفنون والآداب على نحو هائل فيها، فكانت أكثر الشعوب إنتاجاً وقتذاك في التراث الإنساني.

وقد حافظت كذلك على الوحدانية، لكن العلاقة بين رجل الدين والفنون ظلت متضادة، فحافظ رجلُ الدينِ المسلم على طبيعةِ الراهب المتشددة فيما يتعلق بالفنون في زمن الفتوح الإسلامية، أي ذلك الراهب المجافي للغناء والفنون عامة، خاصة الحركية منها والمرتبطة بالرقص فهذه أشد اقتراباً من الماضي الملغوم، الماضي المرتبط بالفنون المذمومة، والشهوات، وفقدان الوعي، من أجل أن لا ينزلق إليها المؤمن ولا يهوى في الوثنية، رغم أنها جميعاً غدت لا علاقة لها بذلك الماضي البعيد، وأن المسلمين انتصروا منذ زمن بعيد وأن تلك الروح الحربية لم تعد ابنة زمانها. لكن روح الأحكام العرفية مستمرة خاصة مع حكم المناطق العربية المحررة من هيمنة الدول السابقة، والتي كانت تزدهر بالفنون الوثنية لكن بعد إستقرار الفتح العربي تلاشت، وبحثت الفنونُ العربية الإسلامية عن الجمع بين التوحيد والفرح والرقص والتشكيل والمسرح والموسيقى.

لكن موقف الرجل الدين التقليدي أستمر وظلت معاداته للفنون قائمة حتى بعد زوال أسبابها. فهو يعارض كافة أنواع الفنون حتى لو كانت التجريدية منها وغير المرتبطة بالحراك الجسمي المبتذل، والمصعدة للنفس والروح في حالات إنسانية راقية. فيبدو له إن الفنون تخفي ورآها أوثاناً.

وهذا يعود لاستمرار الأحكام التقليدية الفقهية طوال قرون سيطرات الأسر الخاصة.

لكن ذلك يغدو مستحيلاً خاصة في العصر الحديث فالموسيقى تملأ الحياة والسياسة والعالم، والموسيقى لا بد أن تدخل في كل مكان، ومن هنا تنازل رجل الدين التقليدي للموسيقى الحربية أن تدخل عالمه، فهي تماثل روحه القتالية المستمرة، فاستعان بها للأناشيد والجنائز.

ولا شك أن قضية إدخال الموسيقى في الفرح والاحتفال ستظل هاجساً، وقضية خطيرة، بسبب انتشار الثقافة الغربية وأعتماد الموسيقى والفنون كمناخ إحتفالي اجتماعي جذاب، لكن هذه الثقافة تختلط فيها الجوانب العظيمة والجوانب المبتذلة، كما تغدو وسيلة إجتماعية لنشر المخدرات والجريمة في بعض الملتقيات. ومن هنا ضرورة الفصل بين هذه الأنواع وعدم التعميم.

الخيال والواقع في الأديان

تعتمدُ الأديانُ على الخيالِ غالباً، لأنها تشكلت منذ أكثر من أربعين ألف سنة على فكرتي الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة، فهذا السديمُ من الصورِ والمعاني يشتبكُ غالباً بالواقعِ ومشكلاتهِ من حروبٍ وأمراضٍ وصيدٍ وزواج الخ.

بداياتُ الأديان هي بداياتُ الانتقالِ للحضارة، وهي لا تعدو أن تكون 1% من التاريخ البشري، وقبلها ملايينٌ من التاريخِ المجهول للإنسان، حسب ما يقول فراس السواح.

ولهذا فإن فرزَ الجمادِ من الروح كانت ثورةً فكرية كبرى! حيث انفصل عن الإنسان عن الحجر والنهر والغابة ولكن ليس بشكل كلي، فإلى مدى طويل ستظل الأشياءُ ذات قوى روحية أو أرواحية، وسيظلُ الإنسانُ هذا الكائنَ الهشَ المعلقَ في خشبةِ الوجودِ السائرة في الأنهار.

وتتوجه الإراداتُ البشرية لطلب المساعدة من هذه الأرواح، مرة بالخير ومرة بالشر، وتصيرُ الآلهةُ نمطين مثلهما، آلهة تحكمُ بالخير وللخير، وأخرى للشر وبالشر.

وهذه المعاني العامة سنجدُها لدى البوذيين أو الهنود الحمر. وكلما تطورتْ الحضارةُ تخضعُ الأفكارَ الدينيةَ للتقاليد والمواصفات الإجتماعية وللمؤسسات السياسية.

ونظراً لكونِ الأفكار الدينيةِ متصلةً بعالمِ الأرواح فهي تبقى غامضةً، متعددةَ الرؤى، مختلفةَ التفاسير، ويتيحُ لها ذلك النموَّ التاريخيَّ، العقلاني مرة، وغير العقلاني مرة أخرى. وأن تقع في قبضاتٍ مختلفة، وإرادات متناقضة، وتصيرُ مرة للبناء ومرة للهدم.

ليس في عالم الأرواح تجريب وبرهان، ويقول صانعو الأديان إنهم يسمعون أصواتاً، وأن نداءات تأتيهم، وإن رسائلَ بُعثتْ لهم، وآخرون يقولون إنهم شاهدوا أحلاماً، وكل هذا يجري في السديم الغامض، في عالم الأرواح، حتى تبدأ الكتابة الملموسة للدين من خلال الكلمات، والقوانين، سواءً كانت في ورقٍ أو حجر، ويتحولُ الغموضُ الخارجيُّ الفوقي السماوي أو الأرضي، إلى جماعةٍ أو إلى نصوصٍ أو عبادات أو أوامر ونواهٍ إجتماعية.

عالمُ الأرواح الذي يتم التراسلُ معهُ أرضياً وبشرياً والمتسم بالغموضِ واللاتحدد من المتسحيل أن يعطي رسالةً واحدةً، وكما أن الأرضَ ذاتَ خرائطٍ وأصواتٍ مختلفة، فكذلك فإن الرسائلَ تتباين، وتتعددُ الأديان.

يعزلُ عالمَ الأرواح مع تصاعد المؤسسات الدينية والسياسية، إن عالم الأرواح الغامض لا بد من السيطرة عليه إجتماعياً، وأن يكون الدين مؤسسةً ثم مؤسسات، حسب تنازع القوى والمؤمنين أو تآلفهم، إن الأرواحَ الخيرةَ هي التي تتجسدُ في المؤسسة الدينية، لأن الدينَ في غاياتهِ الأولى كان بهدف خير، فقد كانت الرسائل الدينية تظهر لدى قادة روحيين مضحين، يشقون طرقاً لتطور البشر. فالرسالةُ في حدِ ذاتها تضحية، وبطولة، ولكنها تصيرُ مؤسسةً، وتنحازُ لهذا الطرف الاجتماعي أو ذاك، فينقسم الدينُ ويصير مذاهب وحركات سياسية وإختلافات.

الركائز الأولى للدين من ألوهية وإنقسام للأرض والسماء والدنيا والآخرة وغيرها من ركائز تصورية كبرى، هي ركائزٌ عرفتها البشريةُ كلها، حتى دون أن تتشكلَ علاقاتٌ مباشرةٌ بين بعضِها البعض، وهي تقومُ على أساسِ التضاداتِ الكبرى في الحياةِ البشريةِ غيرِ الممكنِ ردمها أو إزالتها. التناقضُ بين الحياة والموت، وهو أكثر التناقضاتِ رهبةً وبقاءً للجنس البشري والحيواني عامة. التناقضُ بين الوجودِ والعدمِ هو من أكثرِ المناطقِ خصوبةً لإنتاجِ الوعي الديني، والأفكار عامة، وهو الذي بدأَ تحريكَ الوعي باتجاه أن يكون الكائنُ النسبي مطلقاً، والعابرُ أبدياً.

وكذلك هناك التناقضُ بين الأرضِ والسماءِ، وهو شكلٌ آخر للتناقضِ بين الإنسانِ والوجود، ثم التناقضُ بين الحاكم والمحكوم وهو التناقضُ المولدُ للحركةِ الاجتماعية، ويتداخلُ مع التناقضين السابقين في توليدِ التصوراتِ وفي نسجِها بين الخالد والعابر، بين الفقير والغني، بين اللاموجود والموجود.

تنقشع ضبابيةُ الأرواح لدى المؤسسات، التي تحيلُ الدينَ لنصوصية قانونية وراءها العقوبات والسجون، والتقاليد، والحلال والحرام، وعلى مدى وجود العناصر العقلانية القارئة للآلام البشرية وحاجات العاملين أو عدم وجودها، تتحدد تطورات الأديان، بين ازدياد للعقلانية أو هجوم للجنون، فالحياة الاجتماعية تولد سلاسلَ من التطورات الدينية واللادينية، من الفرق المتبصرة أو ( من الهلوسات)، ومن التخصصات الدينية المدققة العاكفة على التطور التدريجي، ومن النصوصية الجامدة المريضة، ومن هجوم الفرق السياسية على الدين وإختطافه من حياته العبادية العادية، إلى حماية الدين بإبعاده عن التجارة والحروب السياسية.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفنون في الأديان