الأرشيف الشهري: ديسمبر 2014

أدب السجون: إجابة على أسئلة جريدة الوطن

أدب السجون
إجابة على أسئلة جريدة الوطن

• كيف تحصلون على أدوات الكتابة . .
• كانت عملية الحصول على أدوات الكتابة في غاية الصعوبة خاصة فيما يتعلق بالأقلام، فالأقلام نادرة وشحيحة جداً، في حين أن الأوراق أكثر سهولة، فهي تظهر من علب صابون(التايد) لكن المسحوق الإيراني في ذلك الوقت(درايا) ، منذ اواسط السبعينيات حتى بداية الثمانينيات ، كان الأكثر كرماً في تحول أغلفته إلى الورق، فحين تنقع هذه الأغلفة بالماء ثم تجففها تتحول أجزائها الداخلية المتعددة إلى دفتر كامل من الممكن أن تكتب عليه قصة قصيرة كاملة!
لكن مسألة الأقلام كانت عويصة وظلت تعرقل عملنا الكتابي، ومن الممكن التغلب عليها بمساعدة شرطي أو سجين، وقد قمتُ في سجن (جدا) بتعليم بعض السجناء القراءة والكتابة، فكان أجري هو الحصول على بعض هذه الأقلام التي تتحول إلى كنزٍ ثمين، فأنت تخبئها في علب معجون الحلاقة أو علب الصابون الناعم، وقد يتحول قلم الرصاص إلى طول أصبع، فتضعه في غصن شجرة، وحينئذٍ بإمكانك أن تكتب به!
لكن مشكلة الأقلام ظلت على مدى أعوام السجن مرهقة للجماعة وكأنها قضية وطنية كبيرة، حتى قمنا بحل بعض إشكالياتها في سجن (سافرة) حيث كنا نبدل أقلام الناشف التي تعطينا إياها إدارة سجن سافرة الممتلئة حتى نهاياتها بأقلام ناشف أخرى، تكاد أن تكون فارغة من الحبر، فيأتي العريفُ الأردنيُ صارخاً (أين الكلمات) ويلفظها بطريقة لهجته التي تـُضخم الكاف، فهو لا يقصد الكلمات بل القلمات!
ولم تنفرج أزمة القلمات حتى خرجنا واستعملنا الآلات الطابعة ثم الكمبيوتر لكن ظل قلم الرصاص هو الأثير، وصارت عقدة فكلما رأيتُ قلم رصاص سرقته، حتى راحت تتجمع لدي بشكل هائل دون أن أكتب بها!
• هل هناك بعض الممنوعات . . .
• الحياة في السجن كلها ممنوعات ، فلا أحدٌ يسمح لك بالكتابة ، التي هي نشاط غير قانوني ، لأنهم عزلوك لكي يمنعوك من الكتابة والتأثير الفكري والسياسي ، فلا بد وقتذاك أن تتحايل على هذه القيود ، فتكتب وراء الجدران وبعيداً عن عيون الحراس، وتخبئ ما تكتبه تحت الفراش ، أو بين اللعب ، أو في أمكنة أكثر غورا ، وأن تجعل الأوراق أقل حجماً بشكل مستمر ، وأن تخبئها بين ثيابك في لحظات المداهمة وأن تحتفظ بنسخ ، وأن تستغل الرسائل الموجهة للأهل لكي تنسخ هذه الأعمال وترسلها للخارج تحت عيون الرقيب نفسه
• ما انواع الكتابة . .
• كنتُ دائماً ولا أزال القصة القصيرة ، والرواية ، والمقالات ، والبحوث، منذ أن كنتُ طالباً في المرحلة الثانوية وفي معهد المعلمين ، وفي السجن واصلتُ نفسَ الأنواع الأدبية والفكرية ، لكن أصبح لظروف السجن تأثيرها من حيث صعوبة الكتابة ، وصعوبة كتابة البحوث خاصة ، ولكن انفتح مجال القصة القصيرة أكثر ، لأن نفس السجن نفـَسٌ سريع ، متوتر ، وهو كذلك مطول ، لأنه يتيح لك (التنقيح) عشرات المرات ، فليس أمامك جريدة تسرع بإعطائها قصصك ، وأمامك كذلك وقت طويل منذ أن تشرب الشاي الأحمر الكريه حتى تأكل وجبة المساء التي تأتي في العصر ، ولهذا فإن خيال الكتابة يتطور ، وتدخل معهد التشكيل المعمق للنص !
• هل يمكن للسجين أن يكتب عما يدور في الخارج .. .
• الكتابة حرة في السجن أكثر من خارجه ، لأنك تستطيع أن تكتبَ ما تشاء فأنت محبوس أصلاً وغير معرض للعقوبة رغم أنني عوقبت عن الكتابة داخل السجن. ولكن عموماً أنت في الكتابة عموماً تلغي الجدران ، والحواجز وتكتب بحرية ، لأنك تكتب من أجل أن تغير ، لكن حياة السجن الداخلية تعطيك مادة خصبة ، فأنت تقابل مجرمين عتاة ، فهذا قتل ولداً وذاك سرق خزنة وهرب بها ، وثالث اغتصب وقتل من أغتصبه ، وتجد هؤلاء يعيشون بهدوء ويأكلون ويمتمعون بالحياة ، وكأنهم قتلوا عصافير أو قططاً ، وكذلك تجد أن المعتقلين السياسيين بشخوصهم ونماذجهم الكثيرة يعطونك مادة للكتابة ويجعلونك تحلل الواقع بدرجة أكثر عمقاً مما كنت ترى سابقاً.
• ماذا أضافت تجربة السجن إلى تجربتكم ….
• تجربة السجن مريرة ، انقطاع عن الأهل والناس ، وعن الحرية ، وعن النشاط ، وعن الأكل اللذيذ ، وعن النساء ، فهي أما أن تصلبك أكثر أو تحطمك ، وقد استفدت من كل تجربة مريرة ، وبدلاً من أن أضيع وقتي ، كنتُ أتعلم أي شيء ممكن ، أقرأ أي كتاب موجود ، أي ورقة عن الأدوية أو السحر أو العلوم أو الدين ، استمع للقصص والدروس والتجارب ، أتعلم من أصدقائي وأعلم ، أكتب بشكل مستمر ، تجارب كثيرة كتبتها ، وضاع الكثيرمنها ، لكنها صقلت قدراتي في هذا المجال .
• عندما تكتبون هل كان لأحبابكم . . . .
• بطبيعة الحال فأنت جزءٌ من أهلك ، وكانت أمي قد ماتت في الشهور الأولى من سجني ، وكتبت قصصاً عديدة عنها ، وكذلك أهلي ، وحيِّ ، حيث استلهمت حكايات منطقتنا (القضيبية والحورة ورأس رمان ) وظهرت في روايات عدة : أغنية الماء والنار ، والضباب ، والينابيع الخ.. وتأخذ العلاقات الأسرية مكانة والعلاقة العاطفية مكانة ، فالمرأة لها من وجودك في السجن نصيب ، وكانت لي علاقة عاطفية بامرأة ، ويحدث مزيح مركب بين كل ذلك ، فالكتابة ليست تسجيلاً بل إعادة تركيب لعناصر كثيرة .
• هل للعلاقة الجنسية . . .
• ليس هناك أخطر من الجنس بعد السياسة ، فالحنين للمرأة يأخذ من وقتك الكثير ، وتتشوه بدون العلاقة الصحية بالمرأة ، وتصبح حياتك الجنسية غير سليمة حتى يكتب لك الله الفرج من الظلم والكبت والوحدة الشقية ومعاركة الفراش في الليل ، حتى تصيبك هلوسة جنسية ، وتزداد أحلامك البيضاء ، ولعلها رحمة حتى تفرغ شحناتك حينما يستمر السجن سنوات كثيرة !

كيفَ كتبتُ؟

1 – الوقت المناسب
كنتُ أكتب منذ كنتُ طالباً ثم مدرساً، في أواخر الستينيات من القرن العشرين، وحينئذ لم تكن للكتابة وقت وطقوس، لأن الوقت الأصلي للكتابة كما تكرس لدي لم يكن موجوداً، فأن تكونَ مدرساً فإن الصباح يتم إختطافه منك، وتلعب ضجة الطلبة دورها في القضاء على أي مناخ إبداعي.
لكنني مع هذا كنت أكتب قصصاً قصيرة وبعض المقالات في الليل، في أجواء مشتتة.
كانت سنوات السبعينيات تجري بهذا المناخ، وقد دخلت الأعتقال السياسي منذ 1975 أغسطس، وخرجت في بداية الثمانينيات، وبالتأكيد فإن طقوسَ الكتابةِ في السجن صعبة، لكنها كرستْ كتابةً صباحية، حيث الفراغ الطويل والمزاج المفتوح، لكن الأمرَ يعتمدُ على وجودِ القراطيس من ورقِ السجائر ومن قلمٍ رصاص قصير صعب المنال، ولم يوجد الشاي وكان هذا عاملاً مُحبِطاً للكتابة.
كتبتُ في هذا المناخ مجموعةً قصصية واحدة(الرمل والياسمين)، وعدة روايات قصيرة: اللآلئ، الهيرات، القرصان والمدينة، والعديد من المقالات والتعليقات على ما يُكتب في السجن والعالم الخارجي، إضافة لمشروعات روائية وقصصية كثيرة ذهبتْ في ظروف حملات التفتتيش وعدم القبول من المؤلف نفسه!
لا بد لك في هذه الأحوال من قدرةٍ على الاحتفاظ بما تكتب، ولهذا فإن أمكنةً سريةً لا بد أن تكون موجودةً جاهزةً بعد إنجاز المسودة كقعرِ حقيبةٍ، أو داخل معاجين الحلاقة!
بعد الخروج من السجن لم يكن ثمة عمل، وعدتُ لبيتِ أبي القديم، ولم يكن ثمة مكان هادئ، وتغير الجو كثيراً، لكن تحولت غرفتي القديمة إلى ساحة قتال لإخراج المسودات الغائرة في المعاجين، لتبدأ عمليات التنقيح والتبييض.
أخذ الصباحُ مكانتَهُ مجدداً، وتوفر الشاي والورق والأقلام لكن لم يتوفر الهدوء، فلا بد من البحث عن عمل، وتغير البيت، وتغير الحي، لكنني تمكنتُ من نشرِ ما كتبتهُ في مرحلة السجن بمساعدة أصدقاء سواءً في التنظيم السياسي أم من قبل إتحاد الكتاب العرب بدمشق.
وقد تعودت أن أحول ساعات الصباح الأولى إلى ساعات كتابة للأدب أو الفكر عامة، وبشكل مستمر ومنضبط على مر السنوات، ولكن هذا يتوقف على الفكرة الموجودة والمزاج، وبضرورة الوحدة والعزلة في المكان الذي يوفر الهدوء والتركيز، ولكنني لا أكتب كثيراً كل يوم، فربما فصلاً أو صفحة، أو حتى فقرة صغيرة، لكن الكم المتابي يتراكم على مدى الأيام، وهذا يجعل الذات في جدل يومي مع المادة ومعالجتها.
2
كما قلت لك سابقاً بأن ثمة علاقة مفروضة على المكان، أحياناً تكون لديك زنزانة في سجون متعددة، بعضها شرح وبعضها مقبض جداً، لكن المكان الذي تواجد عبر الأختيار هو جو الغرفة المغلقة، أو الصالة حين تكون في شقة زواج، ونفس الصباح حيث تذهب الزوجة للعمل، وتبقى وحدك، لكن مع تواجد الآخرين والضجيج تتسحيل الكتابة، إلا في حالة السجن حين يصمت رفاق الزنزانة نهاراً وينشغلون بأعمالهم من تشكيل حرف أو كتابة أو قراءة، لكنك لا تنتج بنفس مستوى العزلة الحرة.
3
علمتني الظروف أن أكتب بكل شيء، بأي مادة تنهمر على الورق الأبيض أو على الشاشة، كان الجون يتملكني وأنا أبحث عن قلم لدى المسجونين بأحكام الذين تعلمهم العربية فيهدونك قلماً طويلاً أشبه بمعجزة. ثم كتبت كثيراً بالأقلام المتعددة بعد ذلك، وكنت قبل السجن قد أشتريتُ آلةَ طباعة كتبت عليها، فأشتريتُ أخرى بعد أن تم إلقاء تلك الآلة في البحر خوفاً!
الآلة الكاتبة الجديدة أخذت معي سنوات، تنقلت بها من الشقة الصغيرة حتى غرفة فوق السطوح على بناية، وقد تحملت عدة مجلدات من الروايات وعدة مجلات من الأبحاث فتصدعت، فكانت نهايتها هناك، أصبحت رثة، ضعيفة الطبع، وهنا بدأت العلاقة مع الكمبيوتر، كانت هذه الآلة تحفة وثراءاً وحفظاً جباراً، لكن البدايات كانت مروعة!
أخطاء في الحفظ فضاعت فصول وقصص، وأخذت سنوات عدة وأنا أـعلم وأتغلغل في السيطرة على هذه الآلة، وعشت مع عدة أجهزة ثابتة أصيبت بالأجهاد وتغلغلت فيها الفيروسات بسبب جمعي للكثير من المعلومات من مختلف المواقع، فأنا كاتب عمود يومي في جريدة أخبار الخليج وعبر عدة سنوات لا بد لي من الإطلاع المستمر ونقل المعلومات والدخول في مختلف المواقع، حتى أصبح المحمول رفيق الدرب!
4
لا أعترف بالإلهام الكتابي أو بأشياء مميزة للكتابة، لكن الآن أصبح المحمول أفضل صفحة بيضاء أخطُ عليها، وأصبحتْ العودةُ للقلم الناشف والحبر أو حتى قلم الرصاص الصديق الوفي لسنواتِ غيرَ ممكنةٍ بسبب هذه الآلة الجميلة الفذة!

0-1-1

إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في ساعة ظهور الأرواح

عبدالله خليفة إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في  ساعة ظهور الأرواح

تتأسس رواية «ساعة ظهور الأرواح» للروائي البحريني «عبـــــــدالله خلــــــــيفة» على إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في سياق نصي يشير إلى تجذر ذاكرة الروائي ووعيه في تراثه الشعبي سعياً إلى تصنيع عالم فني يحاكي العالم الواقعي ويتوازى معه وترتبط أحداثه بمجموعة من الشخوص الذين يواجهون قوى غيبية خارقة ويستثمر الراوي قصة الكنز وهو رمز أسطوري يمثل قصة سحرية غامضة تدور حولها الحكايات ولهاث شرائح اجتماعية مقهورة من أجل الحصول عليه بتسخير الجان واستخدام وسائل السحرة مما يضفي على الحكاية الشعبية أجواءً رمزية وخرافية طقوسية ترقى بها إلى مستوى الأسطورة
ويتخلل سرد هذه الحكايات أهازيج وأغان شعبية تشبه الطقوس الدرامية المشيرة إلى ارتباط أهل القرية الأزلي بالخرافة

والراوي يقوم بإعادة صياغة هذه العوالم الأسطورية وفق قيم إيديولوجية تهدف إلى هزهزة بعض المعايير الثقافية والاجتماعية المتكلسة بغية طرح رؤية معرفية جديدة تدعو إلى إعادة النظر فيما ترسخ في العقل العربي من بعض المعتقدات المتوارثة

وتشكيل الأسطورة الشعبية في الرواية يحل محل الآلية التي كان الإنسان البدائي يدرك بها عالمه الخاص ويتوازى ذلك مع آلية إدراك أهل العدّامة لواقعهم فحينما يكون الهدف النهائي للإنسان البدائي هو البحث عن المعرفة يتمثل الهدف الأساس لأهل العدّامة في البحث عن الكنز بوسائل بدائية تتمثل في ممارسة الطقوس السحرية
ويتم تفعيل البرنامج السردي لتشكيل الأسطورة الشعبية في الرواية على تقنية مؤسسة من نظامين الأول نظام ما قبل الكلام
والثاني نظام ما بعد الكلام
أما الأول وهو نظام ما قبل الكلام فيتوزع على ثلاثة محاور : التفكير والتذكر والأحلام
ففي محور التفكير تسيطر بنية الرموز على حركة التفكيروتغلفها فالرواية زاخرة بالكثير من الرموز والتيمات الأسطورية إذ يضفي الراوي على حادث ميلاد الطفل صفة سحرية مشيراً إلى أسطورة الميلاد في الأساطير اليونانية القديمة فيرمز الطفل للخصوبة والميلاد وترمز شخصية مريم ترمز لدورة الحياة المستمرة والمتراوحة بين التجدد والانقضاء كما يرمز الشيخ درويش للمخلص الذي تتطلع إليه أنا ليخلصها من مخاوفها وإحباطاتها بينما شخصية بو سمرة ترمز للصراع بين الوجود والعدم ويتمثل الرمز الأسطوري في الكنز كواحد من أعباء وأحلام الذات الإنسانية في العدامة كما يرمز بحث الشخوص عنه إلى المعرفة الأبدية التي يتطلع إليها الإنسان والممثلة في محور الخلود السرمدي والذي لن يتحقق وجوده أبداً ومن ثم يظل رمزاً خالداً
وفي محور التذكروالرؤيا الاستبطانية :
نجد الحدث يرتكز في نموه وتطوره الدرامي على آلية التذكر فتتداعى الذكريات على وعي الشخوص والنصوص التذكرية لا تكتفي فقط بالتعبير عن الحدث الواقعي أو الحدث الأسطوري على حدة بل تمزج بين هذا وذاك في بؤرة تذكرية واحدة مما يعمق بنية الأسطورة بهذا الطابع الدرامي المتقيد بحدود الحكاية الشعبية

وفي محور الصيرورة الحلمية
يعيد السياق النصي توصيف الحدث عبر صيغ حلمية تكشف عن حراكية الحدث الأسطوري مما يفرز إنطباعاً بديمومة الحلم وانسيابه في سلسلة متتالية ومن ثم فإن ارتباط الحلم بهذه الديمومة المتصلة يجعله تمثيلاً لما هو حقيقي وابدي

أما النظام الثاني الذي يتأسس عليه البرنامج السردي فهو نظام ما بعد الكلام
ويضم ستة محاور
ففي محور الطقوس الأسطورية
نجد الراوي يؤسس للنظام الأسطوري في الرواية متكئاً على استغلال عناصر الموروث الشعبي لحكاية ( الكنز ) كما يفيد الراوي من تقنية ( الرؤيا ) التشوفية التي يدّعي بعض السحرة أنهم يتنبئون بها للمستقبل ويوظف مجموعة الحكايات الخرافية المرتبطة بالكنز الذي يتشكل تشكلاً غرائبياً
وتتوالى عمليات تراكب الحكايات الواقعية مع الأسطورية مما يسهم في تنامي تشوفات الشخوص وحلمهم بكنز الأجداد المدفون تحت الأرض ويشي سعي الشخوص في الحكايات المتراكبة إلى حلم الحياة الأبدي الذي لا يكف فيه الإنسان عن تطلعه لكنز غيبي يمثل تطلع الإنسان إليه للحصول عليه دورة مكررة في الحياة ويرتبط هذا الحلم بطقوس فلكلورية تغمر الإنسان في خضم طقوس سحرية تجذبه نحو عالم سفلي غامض وأثير فتتوازى غواية البحث عن ( الكنز ) مع غواية البحث عن ( الحقيقة )

وفي محور الخلاص وازدواجية الفجوة بين الواقع والأسطورة
نجد الحلم الضائع الذي يمثل تلك الفجوة المتنامية بين معطيات الواقع الحقيقي ومعطيات الواقع الحلمي هو البنية الدينامية الفاعلة والتي تسكن روح النص وتشي بنفسها في الأسطورة المعبرة عن المفارقة الكامنة بين جوهر الذات وبين طبيعة النسق الاجتماعي القائم وهذه المفارقة هي المولدة لبنية الفجوة التي تطرح الاسئلة لتحريرها من ركمات الخراب
كذلك تشير الرواية إلى أن العطالة التي تعانيها أنا الجماعة في المجتمعات العربية هي المحك الأبرز في تشكيل الخرافة وهزيمة الذات الانسانية ومن ثم فالراوي ينتقد أنا الجماعة بقيمها البالية التي رسخت السلوك الخرافي المولد لهزيمة الذات الإنسانية
وفي النهاية تتجاوز الرواية المستوى الأسطوري البدائي بعد أن قامت الأسطورة بأداء وظيفتها التي أهلتها للنهاية الصادمة مع الفكر الأسطوري البعيد عن واقعية الحياة فيصبح العقل أقدر من الأسطورة على خلق منظور جديد للواقع
وبذلك تكون الذات العربية قد تحررت من لعنة الخنوع التي بقيت تلاحقها منبعثة من زمن الخرافة وحتى زمن الآلة التي كان لها السطوة في تحويل الذات من ذات مستلبة من قبل قوة ميتافيزيقية إلى ذات ما زالت مستلبة ولكنه الاستلاب الحضاري الذي طوق مجتمع العدامة إبان تطوره وانتقاله إلى زمن الآلة التي عمقت مفهوم الغربة بين الانسان وذاته وبينه وبين الآخر ولكنها بشرت في الوقت نفسه بواقع يسيطر عليه العبث والتشتت في مقابل الحلم بالميلاد الجديد

وفي محور التشكيل الميثولوجي للشخصية نجد شخوص العدامة تعيش الشيء وضده مؤكده انقضاء كل الأشياء وأن الحلم الخالد مجرد خدعة كبيرة وتبدو الشخوص كما لوكانت تحيا حياة بدائية بامتلاكها القدرة على الاتصال بقوة غيبية تمدها بأسباب السيطرة على الواقع المعاين وتمنح الشخصيات بعض الأمتيازات الممثلة في القدرات العجيبة والتحكم في الآخرين ومن هذه الشخصيات شخصية الشيخ درويش الذي سعى إلى إقناع الناس بوجود الجن في حياته ومن ثم ارتبطت الشخصية في أذهان الناس بأنها ذات بعد أسطوري ويتحول إلى ساحر يوهم الناس بأن العالم الذي يعيشون فيه مملوء بالكائنات الغيبية التي بإمكانه وحده أن يتصل بها زاعماً أن بقدرته التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريد
فتتجسم الشخوص من خلال حضور كائنات غيبية وقوى خارقة ممثلة في المردة والعفاريت والأرواح كما تحضر أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة

أما في محورالمصاحبات الصوتية والبصرية
نعني به الجزء القولي المصاحب للطقوس التي تصف الأسطورة بصورة تمثيلية تتولد عنها أصوات تسمع وكائنات تتحرك في الفضاء النصي للرواية فقد شغل العالم السفلي بوصفه مصدراً تأتي منه الشياطين والأرواح الشريرة مساحة واسعة من وعي الشخوص وذاكرتهم في العدامة ففي النظرة الأسطورية للعالم اعتقد الإنسان أن الأرواح وعالم الجن تحل في كل مكان في الأشجار والحجارة والرياح والنجوم وتتحول إلى كائنات متحركة قادرة على الفعل وفي الوقت ذاته يقوم الساحر عن طريق أداء تمثيلي باسترضاء هذه القوى بممارسة طقوس معينة وإنشاد ترانيم وتعاويذ وإشعال البخور المصاحب للطلاسم الغامضة كل ذلك يجعل الحدث مترافقاً مع مصاحبات صوتية وبصرية
وتتحول هذه المصاحبات الصوتية والبصرية إلى لغة أسطورية تلعب دور الكورس في المسرح الإغريقي وتوحي بأجواء ملحمية

أما في حراكية الزمن المثيولوجي ودائريته
فيبرز الزمن الدائري المرتبط بالدورة الطبيعية التي يمر بها الإنسان من خلال وجوده العضوي فيما يضمر في طياته العودة الأبدية للشئ نفسه
كما يمتزج الزمن الأسطوري ويتشابك زمن الحكاية الأساس مع زمن بعض الشخصيات الأخرى عبر حكايات عاطفية قصيرة وما يفتأ جميع الشخوص أن يجمعهم زمن واحد هو زمن البحث عن الكنز مما يهيئ لبروز حكاية أسطورية وتناميها من خلال امتزاج الحكايتين وتراكبهما
فتتسم الرواية بثراء الفضاء المنفتح على تضاريس المكان بمناخاته الشعبية المتوترة والمترقبة للعثور على الكنز جامعا بين الفضاء التراثي المرتبط بالأساطير الشعبية وبين فضاء الأمكنة الحديثة مما يجعل العدّامة تتأبى – كمكان- عن طوابعها الواقعية الاعتيادية لترقى إلى مرتبة أسطورية تتغيا لها مكاناً في الوعي والذاكرة

وفي محور الحضور الطقسي للغة المجازية :
برزت التشكيلات اللغوية أقرب إلى طبيعة الشعر تواؤماً مع مستويات التشكيل المثيولوجي
حيث يتمتع الشعر بلغة أسطورية وتشترك الأسطورة مع الشعر في لغته القريبة من المجاز
بفطريتها التي تثير دهشة المتلقي نتيجة تعبيرها عن المكامن الغامضة والمعبرة عن دهشة العالم كما يوظف اللغة المجازية الفارزة لأجواء معبأة برائحة الحكايات والطقوس الشعبية

وأخيراً فنص ساعة ظهور الأرواح معبر عن الإمكانات الثرة التي يزخر بها التراث في الجزيرة العربية

د. أسماء أبو بكر
ملخص ألقي في ملتقى قراءة النص في جدة والموسوم بــ ” الرواية في الجزيرة ” بتاريخ (27-29 -3 1430)

كتبت أعمالي الأولي داخل السجن السياسي

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏14-8-2019

‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة واحد من المبدعين المميزين في مملكة البحرين‏,‏ فهو يكتب القصة والرواية‏,‏ إضافة إلي الدراسات النقدية الأدبية والمقال الصحفي‏,‏له العديد من الأعمال المميزة التي يسهم بها في إثراء الحركة الأدبية بالبحرين وإنضاجها حتي تتحول البحرين إلي منتج أدبي حقيقي ومميز في المنطقة العربية سواء هي أم منطقة الخليج بشكل عام‏…..‏وعبـــــــدالله خلــــــــيفة واحد من مثقفي البحرين المناضلين من أجل وضع أسس الديمقراطية وإعلان دستور وطني هناك‏,‏ وذاق مرارة السجن السياسي عقب إلغاء المجلس الوطني البحريني في منتصف سبعينيات القرن الماضي‏.‏

من أهم أعماله القصصية مجموعة دهشة الساحر وسيد الضريح ويوم قائظ أما رواياته فقد أصدر ما يقارب العشر روايات منها اللآلئ والقرصان والمدينة وأغنية الماء والنار والضباب وأخيرا رواية الينابيع في جزءين والجزء الثالث تحت الطبع الآن‏,‏ أما دراساته النقدية فقد شملت الإنتاج الأدبي الصادر من جميع أنحاء الوطن العربي‏,‏ إضافة إلي أدب الطفل‏.‏

وفي واحدة من زياراته المتعددة إلي دبي جلست إليه في محاولة للاقتراب منه والتحدث معه حول أعماله وإسهاماته الأدبية ورؤيته النقدية لإبداع الخليج‏,‏ سألته في البداية عن سبب ندرة الأسماء الخليجية المنتشرة عربيا في مجال القصة والرواية مما يؤدي بطبيعة الحال إلي قلة الأعمال الخليجية فقال‏:‏

 الحقيقة أن الرواية في الجزيرة العربية والخليج عمرها قصير نسبيا ولا يتعدي الثلاثة عقود وهذه فترة غير كافية كي تنضج وتنتشر‏,‏ فمثلا خلال القرن العشرين لم تنتج الجزيرة العربية والخليج أكثر من خمسين رواية والسعودية مثلا وهي بلد ضخم وكبير جدا لم تنتج منذ منتصف القرن الماضي سوي روايتين علي الأكثر‏,‏ لكن بعد منتصف القرن العشرين ومع الثورة والتطور الاجتماعي والثقافي بدأت الأجيال الجديدة تنتقل من القصة القصيرة إلي الرواية لأنه حتي في البدايات الأولي معظم الأعمال الأدبية كانت متجهة نحو القصة القصيرة لأن الرواية تحتاج إلي تراكم القصة القصيرة ذاتها فنيا وإلي اكتشاف الواقع بشكل عميق وإلي التطور الشكلي ونموه وهذا لا يجري إلا من خلال الاحتكاك العميق بالرواية العربية والعالمية وهذا ما جعله يتطلب فترة زمنية طويلة‏.‏

‏⇦‏ طبعا أنت لا تحسب عبدالرحمن منيف ضمن ما ذكرت؟

عبدالرحمن منيف انتقل من الجزيرة العربية ليعيش في المناطق الشمالية بسوريا والعراق (ولد وعاش في الشام والعراق)* وهذه أماكن ذات ثروة ثقافية عميقة وقديمة ولاحظي أنه حتي في تطور الإسلام والثقافة العربية القديمة ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية لكنه لم يتجزر فيها أو يكون مؤسساته الثقافية والحضارية وإنما انتقل إلي الشمال في العراق وسوريا والمشرق في مصر وهذه المناطق هي التي كونت الثروة المعرفية والثقافية بينما عادت الجزيرة إلي حياتها الصحراوية‏,‏ هذه الحياة وقلة المدن وتباعدها وعدم وجود تطور اقتصادي عميق في تلك السنوات ما كان ليؤدي إلي تطور ثقافي كبير جدا في العصر الحديث‏,‏ بدأ هذا التطور نتيجة للنمو الاقتصادي الجديد بسبب ظهور النفط‏,‏ عبدالرحمن منيف تواجد في المناطق العربية الأخري واستطاع أن يتغلغل في بيئتها الثقافية والفنية وأن يكون جزءا منها‏,‏ والملاحظ علي كتابة منيف عن التكوينات الخليجية الجزيرية علي أنها نظرة من الخارج مثل مدن الملح التي يكتبها كموجود في سوريا أو العراق ويكتب معتمدا علي مذكرات الإنجليز وغيرها إضافة إلي ذكرياته هو نفسه في المنطقة والتي لم تمتد طويلا‏,‏ وهناك أمر مهم أيضا أحب أن أشير إليه أنه لو كان يعيش في الداخل ما استطاع أن يكتب رواية بهذا الشكل لأنها موجهة بشكل أساسي للأسرة الحاكمة‏.‏

‏⇦ هل تريد أن تقول إن منطقة الخليج تربة غير صالحة للشكل الروائي الإبداعي؟

 لا ولكن نظرا لأنها لم تكن متجزرة في التربة الثقافية ليس لها تاريخ كبير مثل البلاد العربية الأخري وإن كان النفط والنمو الاقتصادي أدي إلي تسارع نموها وإن كان ذلك قد أدي إلي ظهور سلبيات مثل سهولة تسمية أي نثر رواية وطباعتها لتوفر المال‏,‏ كذلك استغل الكثيرون قدراتهم المادية للترويج لأسمائهم في الوطن العربي في حين لم يتمكن آخرون ممن لا يمتلكون المال‏,‏ لتبقي المواهب الحقيقية مدفونة في الداخل لتحفر بهدوء‏,‏ وخاصة أن المنطقة لم تكن كلها معرضة للثراء‏,‏ فهناك أجزاء شديدة الفقر وهناك العديد من الكتاب الحقيقيين زج بهم في السجون مثلما حدث لدينا في البحرين حيث لدينا تجربة مريرة في الحياة السياسية وأغلب النتاج الشعري والقصصي البحريني مكتوب داخل السجون فكيف يروج نفسه كي ينتشر‏.‏

‏⇦‏ وهل كتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏أدبه في السجون أيضا ؟

بالطبع كتبت جزءا منه وليس كله في السجن‏,‏ فلدي شهادة روائية كتبتها داخل السجن حيث مررنا في البحرين بصراعات سياسية حادة منذ السبعينات وكان لدينا مجلس وطني ونقابات ومحاولة جادة للإصلاح السياسي لكن الحكومة قامت بحل المجلس الوطني عام ‏1975‏ واعتقل علي إثر ذلك الكثير من الكتاب والمناضلين وكنت أنا واحدا منهم حيث ظللت بالسجن حتي الثمانينيات‏,‏ لكن ما أحب أن أؤكد عليه أن وجودي في السجن لم يكن شرطا لخروج إبداعي بشكل جيد‏,‏ فالمكان ليس له علاقة بجودة وشكل الإبداع وإنما المهم أن يكتب الأدب بلغة فنية تراعي المعمار الروائي أو القصصي وكون الرواية كتبت في السجون لا يعطيها ذلك أي أهمية فنية أو مكانة روحية غير التي تتوافر للعمل المكتوب خارج السجون‏,‏ لكن الكتاب في السجون تصادفهم عقبات كثيرة تجعل من قدرتهم علي إنجاز عمل أدبي داخل السجن انتصارا كبيرا علي واقع مأساوي‏.‏

‏ ما الأعمال التي كتبتها داخل السجن؟

 كتبت ثلاثة أعمال في هذه الفترة الأول اسمه اللالئ ومجموعة قصصية ثم رواية باسم القرصان والمدينة‏,‏ وتشكل هذه الأعمال بداياتي الأدبية حيث كتبتها في السبعينات وحتي تخرج من السجن وتعبر الجدران حفظتها داخل أنابيب معجون الحلاقة ليأخذها صديق ويطبعها بعد ذلك‏.‏

‏ هناك ملاحظة مأخوذة علي الإبداع القصصي الخليجي وهي أنه لا يخرج عن إطار التراث والغوص وصيد اللؤلؤ‏…‏ ألا توجد مواضيع أخري؟

 الرواية لابد أن تغترف من الواقع‏,‏ فمثلما قام نجيب محفوظ بتحليل الحارة المصرية‏,‏ يقوم كتاب الخليج بتحليل مجتمعهم وأرضهم والمهن التي امتهنوا بها مثل الغوص والصيد‏,‏ وكما تعذب فلاحو مصر في الأرض وعانوا من سيطرة الإقطاعيين‏,‏ تعذب الخليجيون في البحر من سيطرة الربابنة والنواخذة‏,‏ فكان مثلا الربان يربط الصياد الذي يعترض عليه في الصاري وإذا مرض صياد لا يصرف له أجر وإذا مات تشردت بعده عائلته وهكذا‏,‏ لقد كانت تلك المرحلة من المراحل القاسية علي الناس التي خلقت قصص كفاح وبطولات وأنا أعتقد أن هذه المرحلة كانت أفضل من الوقت الحالي حيث يتولي الخليجيون الإدارات وينتفخون ويتعالون علي العاملين من الجنسيات الأخري‏,‏ إذن التجزر في شخوص المنطقة والتعرف عليهم وتحويلهم إلي روايات وأيضا استغلالها للترميز علي الوضع الراهن أمر مطلوب‏,‏ المهم أن لا يقوم الكاتب بالبكاء الرومانسي علي الماضي والنظر له علي أنه النقاء والصفاء والخالي من السلبيات‏,‏ يجب النظر للماضي ودراسته بذكاء وبشكل موضوعي ونري إلي ماذا أدي ثم تحليل الواقع المعاصر بجميع جوانبه‏.‏

‏⇦‏ نعود إليك‏..‏ هل بدات بالقصة القصيرة أم بالرواية؟

بالقصة القصيرة ففي المناطق التي لا يوجد بها تراث قصصي غني معاصر متجذر تكون البداية دوما مع القصة‏,‏ فنحن عندما بدانا في الستينيات والسبعينيات كتابة القصة‏,‏ كانت هناك بلدان في المنطقة العربية تكتب هذا اللون الأدبي منذ قرن مضي وعندها منجز إبداعي وثقافي راق يمكن لأي أديب جديد أن يستند إليه أما في الخليج فليس لدينا هذا التراكم المنجز لمدة قرن لذا بدأنا بكتابة القصة القصيرة لأنه لم تكن هناك روايات منجزة في المنطقة‏,‏ بالطبع كانت هناك محاولات لكتابة الرواية لكنها خرجت مفككة ذات بنية ضعيفة وظهرت في شكل تربوي إصلاحي متعال علي المجتمع‏,‏ لكن نحن بدأنا في الستينيات والسبعينات بالحفر الموضوعي في الحياة واكتشاف النماذج علي حقيقتها وتحويل القصص القصيرة بشكل تدريجي إلي رواية‏,‏ عموما الكتابة الأدبية كلها واحدة ولكنها أجناس مختلفة وليس معني هذا أن تحول كاتب القصة القصيرة للرواية أمر طبيعي فمن الممكن أن لا يكتب الأديب سوي لون واحد طوال حياته ويمكن أن يعزف علي اللونين‏.‏

⇦‏ أنت تكتب في النقد الإبداعي أيضا فهل يؤثر الجانب النقدي داخلك علي الإبداعي؟

 عندما أكتب إبداعا أدبيا لا أنظر إلي أي مقاييس إبداعية مسبقة أو أي نظريات أفصل عليها قصة ولكن أنا لدي نظرة شخصية للأدب بشكل عام‏,‏ نظرة تنطلق من المدرسة الواقعية وتطوراتها ومدارسها كلها‏,‏ في البداية اخترتها بشكل انعكاسي مباشر ومع تطور التجربة أخذت الواقعية بشكل أعمق أنمو من خلالها‏.‏

⇦‏ وما نظرتك المستقبلية للكتابة الإبداعية في الخليج‏..‏ هل ستشهد تطورا لتشكل تيارا خاصا في الخريطة الإبداعية العربية؟

 ما يحدث أن الشباب في الخليج لديهم سيولة نقدية تشجعهم علي التسرع بالنشر دون أن يكون إنتاجا إبداعيا حقيقيا ودون الرجوع إلي النقاد والمراجعين‏,‏ ففي السعودية هناك إنتاج أدبي هائل لكنه للأسف غير مميز‏,‏ فهم لا يتجزرون في قراءة مجتمعهم ولا يقرأون تراثهم بشكل عميق ولا يطلعون علي الإرث الأدبي والروائي العالمي والعربي‏,‏ وبالتالي لا يتشربون النوع الأدبي روحيا وفنيا وتتحول العملية الإبداعية لمجرد صفقات تجارية حتي يتم الترويج لهم في الخارج ولينتشروا في البلدان العربية الأخري‏,‏ لذا أحذر من هذا وأنصح بالتعب علي الإبداع والعمل الجاد لامتلاك الأدوات الإبداعية قبل التفكير في النشر والانتشار‏..‏ عموما الرواية لدينا تنمو وإن كان بشكل حذر علي أيدي روادها مثل إسماعيل فهد إسماعيل في الكويت وهناك كتاب سعوديون لديهم تجارب مهمة وإن كانت الإشكالات الفكرية في هذا البلد تمنعهم من التطور الفكري مما يؤدي إلي أن يظلوا يعيدون إنتاج أنفسهم‏

أجرت الحديث في دبي ــ أمنية طلعت
27/11/2004
الأهرام العربي
27/11/2004

  المحرر

عبدالله خليفة وحوار عن أدب السجون

8

• كيف تحصلون على أدوات الكتابة . .
• كانت عملية الحصول على أدوات الكتابة في غاية الصعوبة خاصة فيما يتعلق بالأقلام، فالأقلام نادرة وشحيحة جداً، في حين أن الأوراق أكثر سهولة، فهي تظهر من علب صابون(التايد) لكن المسحوق الإيراني في ذلك الوقت(درايا) ، منذ اواسط السبعينيات حتى بداية الثمانينيات ، كان الأكثر كرماً في تحول أغلفته إلى الورق، فحين تنقع هذه الأغلفة بالماء ثم تجففها تتحول أجزائها الداخلية المتعددة إلى دفتر كامل من الممكن أن تكتب عليه قصة قصيرة كاملة!
لكن مسألة الأقلام كانت عويصة وظلت تعرقل عملنا الكتابي، ومن الممكن التغلب عليها بمساعدة شرطي أو سجين، وقد قمتُ في سجن (جدا) بتعليم بعض السجناء القراءة والكتابة، فكان أجري هو الحصول على بعض هذه الأقلام التي تتحول إلى كنزٍ ثمين، فأنت تخبئها في علب معجون الحلاقة أو علب الصابون الناعم، وقد يتحول قلم الرصاص إلى طول أصبع، فتضعه في غصن شجرة، وحينئذٍ بإمكانك أن تكتب به!
لكن مشكلة الأقلام ظلت على مدى أعوام السجن مرهقة للجماعة وكأنها قضية وطنية كبيرة، حتى قمنا بحل بعض إشكالياتها في سجن (سافرة) حيث كنا نبدل أقلام الناشف التي تعطينا إياها إدارة سجن سافرة الممتلئة حتى نهاياتها بأقلام ناشف أخرى، تكاد أن تكون فارغة من الحبر، فيأتي العريفُ الأردنيُ صارخاً (أين الكلمات) ويلفظها بطريقة لهجته التي تـُضخم الكاف، فهو لا يقصد الكلمات بل القلمات!
ولم تنفرج أزمة القلمات حتى خرجنا واستعملنا الآلات الطابعة ثم الكمبيوتر لكن ظل قلم الرصاص هو الأثير، وصارت عقدة فكلما رأيتُ قلم رصاص سرقته، حتى راحت تتجمع لدي بشكل هائل دون أن أكتب بها!
• هل هناك بعض الممنوعات . . .
الحياة في السجن كلها ممنوعات ، فلا أحدٌ يسمح لك بالكتابة ، التي هي نشاط غير قانوني ، لأنهم عزلوك لكي يمنعوك من الكتابة والتأثير الفكري والسياسي ، فلا بد وقتذاك أن تتحايل على هذه القيود ، فتكتب وراء الجدران وبعيداً عن عيون الحراس، وتخبئ ما تكتبه تحت الفراش ، أو بين اللعب ، أو في أمكنة أكثر غورا ، وأن تجعل الأوراق أقل حجماً بشكل مستمر ، وأن تخبئها بين ثيابك في لحظات المداهمة وأن تحتفظ بنسخ ، وأن تستغل الرسائل الموجهة للأهل لكي تنسخ هذه الأعمال وترسلها للخارج تحت عيون الرقيب نفسه
• ما انواع الكتابة . .
• كنتُ دائماً ولا أزال القصة القصيرة ، والرواية ، والمقالات ، والبحوث، منذ أن كنتُ طالباً في المرحلة الثانوية وفي معهد المعلمين ، وفي السجن واصلتُ نفسَ الأنواع الأدبية والفكرية ، لكن أصبح لظروف السجن تأثيرها من حيث صعوبة الكتابة ، وصعوبة كتابة البحوث خاصة ، ولكن انفتح مجال القصة القصيرة أكثر ، لأن نفس السجن نفـَسٌ سريع ، متوتر ، وهو كذلك مطول ، لأنه يتيح لك (التنقيح) عشرات المرات ، فليس أمامك جريدة تسرع بإعطائها قصصك ، وأمامك كذلك وقت طويل منذ أن تشرب الشاي الأحمر الكريه حتى تأكل وجبة المساء التي تأتي في العصر ، ولهذا فإن خيال الكتابة يتطور ، وتدخل معهد التشكيل المعمق للنص !
• هل يمكن للسجين أن يكتب عما يدور في الخارج .. .
• الكتابة حرة في السجن أكثر من خارجه ، لأنك تستطيع أن تكتبَ ما تشاء فأنت محبوس أصلاً وغير معرض للعقوبة رغم أنني عوقبت عن الكتابة داخل السجن. ولكن عموماً أنت في الكتابة عموماً تلغي الجدران ، والحواجز وتكتب بحرية ، لأنك تكتب من أجل أن تغير ، لكن حياة السجن الداخلية تعطيك مادة خصبة ، فأنت تقابل مجرمين عتاة ، فهذا قتل ولداً وذاك سرق خزنة وهرب بها ، وثالث اغتصب وقتل من أغتصبه ، وتجد هؤلاء يعيشون بهدوء ويأكلون ويمتمعون بالحياة ، وكأنهم قتلوا عصافير أو قططاً ، وكذلك تجد أن المعتقلين السياسيين بشخوصهم ونماذجهم الكثيرة يعطونك مادة للكتابة ويجعلونك تحلل الواقع بدرجة أكثر عمقاً مما كنت ترى سابقاً.
• ماذا أضافت تجربة السجن إلى تجربتكم ….
• تجربة السجن مريرة ، انقطاع عن الأهل والناس ، وعن الحرية ، وعن النشاط ، وعن الأكل اللذيذ ، وعن النساء ، فهي أما أن تصلبك أكثر أو تحطمك ، وقد استفدت من كل تجربة مريرة ، وبدلاً من أن أضيع وقتي ، كنتُ أتعلم أي شيء ممكن ، أقرأ أي كتاب موجود ، أي ورقة عن الأدوية أو السحر أو العلوم أو الدين ، استمع للقصص والدروس والتجارب ، أتعلم من أصدقائي وأعلم ، أكتب بشكل مستمر ، تجارب كثيرة كتبتها ، وضاع الكثيرمنها ، لكنها صقلت قدراتي في هذا المجال .
• عندما تكتبون هل كان لأحبابكم . . . .
• بطبيعة الحال فأنت جزءٌ من أهلك ، وكانت أمي قد ماتت في الشهور الأولى من سجني ، وكتبت قصصاً عديدة عنها ، وكذلك أهلي ، وحيِّ ، حيث استلهمت حكايات منطقتنا (القضيبية والحورة ورأس رمان ) وظهرت في روايات عدة : أغنية الماء والنار ، والضباب ، والينابيع الخ.. وتأخذ العلاقات الأسرية مكانة والعلاقة العاطفية مكانة ، فالمرأة لها من وجودك في السجن نصيب ، وكانت لي علاقة عاطفية بامرأة ، ويحدث مزيح مركب بين كل ذلك ، فالكتابة ليست تسجيلاً بل إعادة تركيب لعناصر كثيرة .
• هل للعلاقة الجنسية . . .
• ليس هناك أخطر من الجنس بعد السياسة ، فالحنين للمرأة يأخذ من وقتك الكثير ، وتتشوه بدون العلاقة الصحية بالمرأة ، وتصبح حياتك الجنسية غير سليمة حتى يكتب لك الله الفرج من الظلم والكبت والوحدة الشقية ومعاركة الفراش في الليل ، حتى تصيبك هلوسة جنسية ، وتزداد أحلامك البيضاء ، ولعلها رحمة حتى تفرغ شحناتك حينما يستمر السجن سنوات كثيرة !

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ما بين الماء والنار

                                       الماء والنار وما بينهما ..

    من معاناة الفقراء اليومية، من احلامهم المستحيلة وخوفهم المستديم، من قهرهم وانسحاقهم يقدم لنا الروائي البحريني عبدالله خليفة اغنية الماء والنار ويعرض علينا موضوعته ببساطة تناسب بساطة شخصياته، وهي بساطة الروائي المحترف الذي يذكرنا دوماً بما نسيناه او ما تناسيناه في خضم الركض وراء سراب الحياة، يذكرنا باولئك الناس الذين ما يزالون يشكلون النسبة الاكبر على هذا الكوكب، تلك النسبة التي تعيش بصدام لا ينتهي وهي تقف على حافة مسننة من هامش ضيق من الحياة، تأتي الى الدنيا وتشقى ثم تمضي منها دون ان تحقق ما تصبو اليه .. انها فوضى الحياة التي تأخذ منهم ولا تعطيهم ما يستحقون، ويأخذ آخرون اكثر بكثير دون ان يعطوا شيئاً .. هذه هي المعادلة المختلة التي تقوم عليها حياتنا والتي لم تستقم ابداً منذ بدء الخليقة .. ومنها انبثقت رواية اغنية الماء والنار الصراع الدائم بين الاغنياء والفقراء.
تنطلق الرواية من حي فقير جداً يعيش سكانه في اكواخ وبيوت وعشش من التنك والصفيح، تمتلك ارضه سيدة تسكن بعيداً عن الاكواخ في بيت حجري، سيدة لها سطوة وجاه تصل الى المتنفذين من سلك الشرطة، وبيتها هو الوحيد الذي تصله الكهرباء في ذلك المكان، بينما الحي بأكمله يعيش في ظلام دامس في الليل، ويقال عن هذه المرأة بأنها اميرة الاميرات ولها حرس وخادمات.
يتغلغل عبدالله خليفة في مفاصل هذا الحي ليكشف لنا نمط العلاقات السائدة والمعاناة التي يعيشها الناس والتي تكاد تكون زادهم اليومي.
الشخصية الرئيسية في العمل منحها الروائي لشاب يعمل في السقاية يدعى راشد .. فهو المسؤول عن ايصال المياه الى البيوت .. حياة هذا الشاب اكثر من بسيطة، يعيش في كوخ هو كل ما يملكه . هو شخصية مرحة معظم الوقت، يحكي الحكايات لاطفال الحي ويشاكس النساء احياناً .. في الليل حيث يأوي سنعرف ان لراشد وجهاً آخر، فهو يحلم بالزواج من زهرة احدى بنات الحي، يتمنى ان يعيش معها في بيت حجري وينجب الكثير من الاولاد، وزهرة هذه لا تشبه الاخريات اللواتي يداوينه اذا جرحت قدماه، ويضحكن له اذا قص عليهن طرفة، ويسألن عنه اذا تأخر .. انها تغلق الباب دونه، وتحتقره وتشيح عنه اذا مر بالقرب منها، بينما تضحك لصديقه جابر وتقف معه طويلاً عند الباب .. وسنعرف انهما – زهرة وجابر – على علاقة سرية ستكشفها الايام.
لكن احلام راشد لا تقف عند زهرة .. فلطالما ود ان يرى اميرة الاميرات، وتحقق له ذلك ذات صباح حين رأى سيارتها تنتظر قرب بوابة قصرها، ومنذ تلك اللحظة كره الحياة التي وجد نفسه عليها، كره حياة الفقر والعمل المضني في حمل الماء، وكره الكوخ البائس الذي يحتوي جسده المتعب في الليل .. لكنه كان يهرب من هذا الواقع الى الاحلام، وكان من شأن الذين كان يقص عليهم القصص، وعن النساء اللواتي لا يجد فيهن ما يأخذه الى مغامرة كتلك التي تحققها له اميرة الاميرات في احلامه والتي تاخذه الى بيت تلك السيدة فيرى نفسه وقد اضاء مصابيح بيتها واطل من نوافذها العالية على الاكواخ البائسة .. بل اخذته احلامه اكثر من ذلك فوجد نفسه على فراشها الوثير المضمخ بماء الورد .. لقد خرجت احلامه عن نطاق احلام الفقراء، وصار عليه ان يسعى الى ذلك البيت الحجري بأية طريقة.
كان اهل الحي يسمونه ملك الماء ذلك ان مهنته لا تبور طالما بقيت الاكواخ غير مشمولة بمد انابيب الماء الصافي .. ومع ذلك فان هذه المهنة لا توفر له اكثر من قوت يومه .. يأكل القليل ويهرب الى احدى الخمارات لعله ينسى بؤس يومه.
وعبر رحلة راشد على ارض الواقع وفي طيات الاحلام يلقي عبدالله خليفة الضوء شيئاً فشيئاً على شخصياته، زاد رحلته في هذه الرواية التي صدرت ضمن اربع روايات عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004. فهناك جابر صديق راشد، وهو شاب يعيل اسرة كبيرة متكونة من ام واب واخوة مما يعيق علاقته بزهرة ويحجم عن الزواج منها بسبب ضيق ذات اليد .. وسنقف على اكثر من محطة في حياة هذين العاشقين بالتوازي والتقاطع ايضاً مع احلام راشد ومعاناته.
ذات ليلة كان القمر فيها يمر بحالة خسوف، خرج الناس حاملين الاواني للطرق عليها لعل الحوتة التي ابتلعت القمر ترأف به وتخرجه من فمها المرعب، وكان راشد يمشي في تلك الليلة على غير هدى حين سمع همساً ولمح ظلال امرأة ورجل ظن للوهلة الاولى انهما زهرة وجابر .. وقد حالت ضجة الناس وطغت على المشهد حتى صرخ بهم ليخبرهم ان ما يحدث للقمر ما هو الا بسبب هذا الفعل الشائن.. واسرع والناس من ورائه باحثاً عنهما .. الا انه لم يجد شيئاً وانما ابتلعته احدى الحفر في ظلام الليل، ولم يسمع الا الضحك منه وعليه، واصيب بجروح ورضوض .. ولكن ما آلمه اكثر هو تأنيب الضمير لأنه لم يكن متأكداً مما رآه، فهل يا ترى كان اشكالاً بصرياً تساوق مع افكاره المريضة؟ مهما يكن فقد شعر بالالم لعجزه ولتفاهة حياته وخلوها من الدفء والحب.
* * * ثمة انتقالات انسيابية بين البيت الحجري وما يجري فيه، وحياة الفقراء في الاكواخ والصرائف .. في ذلك البيت تقرر السيدة طرد سائقها العجوز، وكانت المصادفة قد وضعت راشد امامها حين جلب لها الماء، فاقترحت عليه ان يعمل لديها وسوف يتدرب على السياقة .. ها هو الحلم يحلق به عالياً، لطالما تمنى رؤيتها والآن يصبح قريباً منها.
وخلال ايام قليلة قاد السيارة، والمرآة الحلم تجلس في المقعد الخلفي، انه يثرثر معها فتصده بسرعة، ليس هذا مهماً، انه يطمع بامتلاكها وففي اسرارها التي جعلتها غامضة ومهابة الى هذا الحد.
لقد تغير كل شيء فيه، صار نظيفاً وصارت الفتيات قرب يديه، يفتحن له الابواب ويبدين اعجابهن به، بل حتى زهرة اصبحت تنظر اليه بفضول واعجاب .. لكنه لم يصل بعد الى ما يصبو اليه، صارت احلامه تسبقه ويعجز عن اللحاق بها، فهو لم يستطع في الواقع ان يعرف السيدة او يقترب من زوايا البيت واسراره، في وقت فقد فيه الاصدقاء وجلسات الشاطىء وحكايات الاطفال .. وعلى طرف آخر يمضي صديقه جابر في علاقته السرية بزهرة .. لقاءات مسروقة بعيداً عن الانظار .. هي تحبه ولكنه مكبّل بأسرته، وحين تخبره ان رجلاً غنياً تقدم لخطبتها تداهمه فرحة خفية ليزاح العبء عنه .. وقد حدث الامر فعلاً ذات يوم عندما تعالت الزغاريد في بيت زهرة، لكن ما ان آلت الامور الى ذلك حتى شعر بالندم واكتشف ان علاقته بها ليست عابرة وانه يحبها فعلاً.
كل يمضي الى حلمه بطريقة مغايرة، وقد تأتي الاحلام باكثر مما يتمنى المرء وها هي السيدة تطلب من راشد دخول غرفة نومها .. اعطته دفتراً كان بحوزة السائق السابق وامرته ان يجمع لها ايجارات البيوت .. لقد ارتفعت منزلته وخيّل اليه بأنه اصبح قاب قوسين من الشمس .. ولكنه حين راح يدور على الابواب واجهه الكثر بضيق الحال وقلة المورد .. ماذا يفعل؟ انه لم يعد ذلك الشاب البائس الذي يحمل الصفائح وينقل الماء مثيراً ضحك الاطفال، انه الآن بوجه رجولي صلب وينام على سرير فخم ولا بد لشخصيته ان تتغير .. وتغير فعلاً، صار يعامل الناس بفظاظة، ولا يترك الابواب الا بعد استحصال الايجارات، فالمهم لديه هو رضا السيدة التي قلبت حياته رأساً على عقب، والوصول الى حلمه الى اقصى المديات .. وها هي تناديه للصعود الى الطابق العلوي الذي لم يكن مسموحاً له ان يتخطى عتباته، ليس مهماً ماذا تريد منه، قد تستخدمه جمراً للمباخر او فحماً للمواقد .. صعد السلم بهواجس كثيرة لا تستقر على شيء، وحين وصل احس بأن الاضواء التي تحيط المكان قد انطفأت فهوى الى الارض لا يدري بالتأكيد هل رأى السيدة في حضن رجل ام تراءى ذلك، كل ما يدريه ان السيدة صرفته حين احست بتعبه .. ومضى الى البيت مستغرقاً في نوم عميق لم يصح منه الا بعد ايام كانت فيها السيدة قد تزوجت من رجل ثري يدعى خليفة، وفي هذا الوقت بالذات كان صديقه جابر ينتظر في مكان ما زهرة التي شكلت له في آخر مرة رآها فيها ما تعانيه من زوجها التاجر .. كان ذلك اللقاء قد وضع حداً لعلاقتهما اذ لم تعد زهرة تلك المرأة التي احبها .. لقد تخلت عن براءتها ودون خجل تعرت امامه فبدت امرأة مبتذلة على نحو مريع ..
.. وانهارت ايضاً بعد ايام علاقة الزواج بين السيدة وزوجها خليفة، فاستغلت غيابه في رحلة صيد لتبعث بخادمتها الى راشد وتخبره بأنها تحبه وتريده فوراً.
لقد اصبحت المرأة المضيئة بين يديه، وسيأخذه الفرح الى حدود لا نهاية لها.
ولكنه افاق من حلمه وهو بين يديه، تطلب منه ان يحرق الاكواخ ليجبر الناس على الرحيل، وتستثمر الارض بطريقة افضل، وهنا يقع راشد في صراع مرير مع نفسه اذ كيف يتحول الى رجل شرير ويحرق بيوت الناس؟ واخيراً تغلب عنصر الشر وقاده الى صفيحة غاز وعلبة كبريت لتذهب الاكواخ الى النار ويذهب الفقراء الى مكان آخر، وتذهب ذكريات طفولته الى هباء منثور، الحياة الجديدة بانتظاره والمرأة الاميرة طوع اصابعه.
لقد برع الكاتب في لحظات الصراع التي عاشها راشد بين اقدام واحجام وهواجس واحلام ثم البحث عن مكان مناسب لاشعال الشرارة الاولى واستحالة الليل الى نهار وصرخات وعويل، كل يريد النجاة بنفسه من هذا الجحيم الذي اتى على الاكواخ والصرائف .. وهرب راشد باحثاً عن مكان يختبىء فيه فسقط في حفرة عميقة يتناهبه الخوف والحلم في وقت واحد .. الخوف من ان يفتضح امره .. والحلم بامتلاك السيدة التي سلمها كل شيء حتى جثث اهله وتحول من شاب طيب يحمل صفائح الماء ويغني ويحكي الحكايات للاطفال الى رجل شرير هارب لا يقوى على الخروج من الحفرة العميقة التي يسقط فيها .. لقد تذكر الآن وهو على هذه الحالة بأنه مر بثلاثة رجال عائدين من سهرتهم، كان احدهم صديقه جابر وقد رأوه وهو يحمل الصفيحة .. لا بد انهم الآن يبحثون عنه بعد ان تحول الحي كله الى رماد وبقايا اثاث متفحم وروائح غريبة ونساء مفجوعات ..
الشرطة التي وصلت اخيراً لم تفعل شيئاً حتى بعد ان اتهم راشد والسيدة بافتعال الحريق .. ولم يجد الفقراء من يساعدهم فساعدوا انفسهم .. بعد ايام قليلة جلبوا الواح الخشب والصفائح والتنك والسعف لتبدأ من جديد حركة بنيان الاكواخ .. لكن ضابط الشرطة المتواطىء مع السيدة جاءهم بأمر ازالة الاكواخ بقوة القانون .. ولأن الفقراء ليس لديهم ما يخسرونه فقد هاجوا ولعنوا وهجموا على الضابط ولم يستطع الا بصعوبة الخروج من تلك الزوبعة لتأتي بعد ذلك سيارات عسكرية وينهمر الرصاص من كل حدب وصوب على الغاضبين .. لكن ماذا يفعل الغضب والحجارة امام الآلات التي راحت تدك الاكواخ دكاً؟ تلك هي اغنية الماء والنار الاغنية الحزينة والنار التي لم يطفئها الماء .. وكأن عبدالله خليفة اذ وصل بنا الى هذه النهاية اراد ان يقول ان الفقير فقير والغني غني، واذا ما اختلت الامور فانها ابداً لن تكون في صالح الفقراء، برغم انه قادنا الى اعتقاد آخر وسحبنا الى احلام لن تتحقق على ارض الواقع.
عبدالله خليفة رواية اغنية الماء والنار
بقلم : هدية حسين
* كاتبة عراقية مقيمة في عمان

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏: تجـربـة السجـن أفهمتنـي البـشـــر

بورتريه قصاب

    عبـــــــدالله  خلــــــــيفة كاتب بحريني كبير مارس الأشكال الإبداعية والصحفية كافة‏,‏ وذاق تجربة السجن‏,‏ التي لم تمنعه من الكتابة‏,‏ وهو في سبيل إنجاز مشروع للرواية التاريخية‏,‏ يختلف كثيرا عما كتب في هذا الاتجاه‏,‏ وكانت روايته عمر بن الخطاب شهيدا علامة في هذا الطريق‏.‏أنجز خليفة حوالي سبع مجموعات قصصية منها دهشة الساحر وجنون النخيل وخمس عشرة رواية منها رأس الحسين وعمر بن الخطاب شهيدا وعثمان بن عفان شهيدا ونشيد البحر إضافة إلي دراساته النقدية مثل نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلي الرواية الفلسفية‏.‏
إلي نص الحوار مع عبـــــــدالله  خلــــــــيفة ‏.‏
‏*‏ تمارس كتابة أكثر من نوع أدبي‏..‏ ألا يأتي هذا علي حساب القيمة؟
العملية تاريخية بسبب عملي بالصحافة‏,‏ فكنت أقوم بعرض الكتب وتحليلها سواء كانت قصة أم رواية أم في النقد والفكر علي مدي ثلاثين عاما وأكثر‏,‏ ما أدي إلي تشربي بكل هذه الأنواع الإبداعية خصوصا أنها متداخلة‏,‏ لكني بدأت الكتابة بالقصة القصيرة منذ نهاية السبعينيات وواصلت الكتابة فيها‏,‏ وفي النصف الثاني من السبعينيات وأوائل الثمانينيات حاولت أن أتجذر في الرواية‏,‏ وجاءت فترة التسعينيات لأتعمق في الواقع العربي الإسلامي بحيث أفهم تطور التاريخ وأكتب الرواية التاريخية التي هي جزء من الرواية المعاصرة‏.‏
‏* ماذا فعلت بك تجربة السجن‏..‏ كإنسان ومبدع؟
◈ تجربة السجن خصبة بالنسبة لي رغم أنها عنيفة ومؤلمة من حيث الاقتراب العميق من الإنسان‏,‏ بحيث تعيش مع بشر بشكل يومي وتتعرف علي خبايا أنفسهم‏,‏ ومن هنا أعطتني هذه الفترة فكرة كبيرة لفهم البشر‏,‏ كما جعلتني أقرأ كثيرا من المجلدات في شتي أنواع المعارف‏,‏ وأصبحت تجربتي أميل إلي السرد الواقعي المباشر‏.‏

* هل أصبحت الرواية ديوان العرب؟
◈ كان الشعر هو الفن الأول عند العرب قديما‏,‏ لأن معظمه كان مدحا للملوك والقوي السائدة‏,‏ حيث يرتزق الشعراء منه‏,‏ في العصر الحديث أصبحت الرواية تستولي علي المشهد الثقافي وبقي الشعر‏,‏ لكنه لم يستطع أن يعبر إلي نقد الحياة أو يغوص في جوانبها‏,‏ بعد أن أزاحته الرواية للمرتبة الثانية‏.‏
‏*‏ وكيف تكون الحركة الأدبية والنقدية في البحرين؟
◈ الحركة الأدبية والنقدية في البحرين متطورة ووثابة باستمرار وهناك عشرات الكتب التي تصدر كل عدة أشهر في مختلف جوانب الأدب والنقد خلال الثلاثين سنة السابقة‏,‏ وحدث تطور كبير في البنية الإبداعية‏,‏ بحيث إنها استطاعت أن تجمع بين تجربتها المحلية وإنجازات الأدب العربي في الأقطار الأخري‏,‏ وظهرت رموز استطاعت أن تصل إلي مستوي العديد من الدول العربية سواء علي مستوي الشعر أم الدراسة الفكرية والنقدية‏,‏ ولكن هناك إشكاليات حدثت في العقود الأخيرة بسبب عمليات القهر السياسي والإغراء المادي‏.‏
‏*‏ وماذا عن تجربتك مع رواية عمر بن الخطاب شهيدا؟
◈ هذه الرواية جاءت ضمن سلسلة عن الشخصيات الإسلامية الكبيرة بعد تلك القراءات التي توجهت إلي فحص التراث العربي‏,‏فرواية‏’‏ عمر بن الخطاب شهيدا‏’‏ هي تجربة أولي في الرواية التاريخية وهي صعبة‏,‏ واعتمدت فيها علي المصادر التاريخية دون الخروج عن تفاصيلها وكتبتها بأسلوب أدبي‏,‏ لأن الرواية تبجل شخصية عمر بن الخطاب وتظهره بطلا تاريخيا‏.‏
‏*‏ وهل توجد حدود أو خطوط حمراء للمبدع يجب عليه ألا يتخطاها؟
◈ الأدب العربي خاض مسألة الكتابة عن رموز الإسلام‏,‏ فكتب توفيق الحكيم عن‏’‏ محمد‏’‏ صلي الله عليه وسلم‏,‏ وهناك كتاب آخرون وكذلك أفلام تناولت الصحابة وظهر بعضهم فيها مثل‏’‏ بلال‏’,‏ والقضية هل المقصود الإساءة إلي هذه الرموز أم تقديمها في شكل جيد؟
‏*‏ هل هناك قيود علي النشر والإبداع في البحرين؟
◈ القيود الموجودة في كل بلد هي عدم التطرق للرموز‏,‏ وأجهزة الإعلام والصحافة تتجنب التوجه إلي تحليل عميق للسلطة والنظام عموما‏,‏ فتجدين أن صحافتنا سطحية بشكل عام وتفتقد العمق فيلجأ بعض الشباب إلي المواقع الإلكترونية ويقومون بكتابة المقالات الجادة التي تقوم الحكومة بإغلاقها‏,‏ ولا توجد لدينا صحافة خاصة بل صحافة قريبة من الحكومة أو معبرة عن رسالتها‏.‏
‏*‏ نشأت في المملكة العربية السعودية‏..‏ فما تأثير ذلك عليك كمبدع؟
◈ أنتقل بين البحرين والسعودية‏,‏ وعشت طفولتي في مدينة‏’‏ الخبر‏’‏ ولي أقارب بها وهي ذات بيوت صغيرة وراءها رمال لا أول لها ولا آخر‏,‏ وتقوم الرمال من فترة إلي أخري بالهجوم علي هذه البيوت حتي تكاد تطمسها‏,‏ فأخذت هذه المشاهد تجذبني للبحث في هذه الصحراء وأدبها‏,‏ ففي العديد من القصص القصيرة أو معظم الروايات أهتم بالصحراء كمشهد مكاني وهناك قصة قصيرة لي عن رجلين أحدهما باحث عن الآثار والآخر صعلوك يقوم باختطاف التمثال الذي عثر عليه الأثاري ومشهد الصحراء يحيط بهما‏.‏
‏*‏ بماذا أثرت الكتابة في الصحافة عليك كمبدع؟
◈ الصحافة كانت طريق العيش الوحيد‏,‏ حيث كنت أعمل مدرسا ثم طردت من التدريس بسبب الخلاف علي المناهج‏,‏ فلجأت إلي الصحافة وكانت الكتابات الصحفية أشبه ببلع‏’‏ الجوارب‏’‏ فقد كنت أعمل في التحقيقات‏,‏ وهي تقتل الكاتب ولكنها طريقة للعيش كنت أحاول إجراء التحقيقات التي تتناول حياة الناس الفقراء والكادحين‏,‏ وأقترب منهم لمعرفة تفاصيل مشاكلهم ومحاولة فهم نفسيتهم ومعاناتهم‏ …).

أجرت الحوار جيهان محمود
الاهرام العربي 14/6/2008

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏: تجـربـة السجـن أفهمتنـي البـشـــر

عبدالله خليفة الأعمال الكاملة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة روائياً

     تعتبر الرواية في البحرين حديثة العهد في الساحة الأدبية بالقياس إلى بقية الأشكال الأدبية الأخرى المتواجدة معها على نفس الساحة . إذ أن الكم الروائي الذي صدر حتى الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليد ، مما يطي انطباعاً على قلة عدد المبدعين الذذي دخلوا هذا المجال . ويعود هذا التأخر في ممارسة الإبداع الروائي عند أدباء البحرين إلى تأخر المجتمع البحريني في الانفتاح على مظاهر الحياة العصرية وعلى الأشكال الثقافية الحديثة . وقد نشط الإبداع الروائي في مطلع الثمانينيات في هذه المنطقة من العالم العربي . إذ لم تكن الساحة الأدبية في البحرين قبل هذا الوقت إلا مسرحاً لقصائد الشعر والقصة القصيرة والمقال النثري ، ولم تكن الوراية بزخمها المتشابك ونسيجها السردي المعروف ، وخصوصياتها في سبر أغوار العالم والحياة إلا مطمحاً غالياً للمبدعين في البحرين.
وكانت أول رواية بمعناها الفني تصدر في البحرين هي رواية (الجذوة) لمحمد عبدالملك عام 1981 ، تتابعت على أثرها روايات (اللآلئ) عام 1982، و(القرصان والمدينة)عام 1982، و(الهيرات) عام 1983 لعبدالله خليفة . كما صدرت رواية أمين صالح (أغنية أ . ص الأولى ) عام 1982 ورواية (الحصار) لفوزية رشيد.
ويمثل إنتاج عبدالله خليفة القسم الأكبر في عدد الروايات التي صدرت في مسيرة الأدب البحريني . إذ تمثل رواياته الثلاث نصف عدد الروايات الصادرة تقريباً والتي تمثل البواكير الأولى لمحور الرواية في الأدب البحريني الحديث.
وعالم عبدالله خليفة الإبداعي سواء ما ظهر في قصصه القصيرة أو في رواياته هو عالم البيئة الاجتماعية البحرينية بخوصياتها ومتغيراتها وتحوراتها . وبكل ما يكتنفُ جوانبها من هموم ترتبط بالبحر والسواحل وحياة الصيد والغوص لاستخراج اللؤلؤ وتجارته . وكذا بكل ما طرأ على بينتها الأساسية من متغيرات ملحة خاصة بعد ظهور النفط في أرضها ودخول عالم التقنية والمال وغزو العمالة الآسيوية وما صاحبها من تطورات على البنية الأساسية للبيئة البحرينية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
والتعبير عن الواقع هو الهم الأول للشكل الروائي سواءً كان لواقع بيئياً ينبعُ من صلب البيئة وما يطرأ عليها من تغير نتيجة للانجازات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي تحدث في بينها للمجتمع كما حدث في بيئة البحرين بصفة خاصة والخليجية بصفةٍ عامة . كما أن الواقع النفسي الذي تضطلع به الرواية في الأعمال التي تتميز بهذا اللون من الكتابة ، والذي تحشدُ له من الشخصيات التي تفرز من همومها وطموحاتها واقعاً نفسياً يمثلُ هو الآخر واقعاً اجتماعياً له خصوصيته.
وقد كانت البدايات الأولى للرواية في البحرين متأثرة تأثراً كبيراً بهذا الواقع خاصة إن المؤثرات التي تمورُ بها الساحة الأدبية في العالم الغربي والعالم العربي كانت تجد لها صدى في هذه البدايات ، وكان المضمون العام لهذه الروايات ينسحب في إسقاطاته على الواقع الاجتماعي الذي تعيشه المنطقة.
ولعل فكرة الربط بين الشكل والمضمون في الأعمال الروائية البحرينية من ناحية أ،ها تتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في هذا المجتمع والمشكلات الناجمة عنه جعل رواد الرواية في البحرين يحتفون بالأشكال الواقعية التي تعبر عن مدلول البيئة وما يصاحب ذلك من تعبير عن النقد الاجتماعي والتمرد ضد مظاهر التسلط و(الفقر) والقمع، وهي سمة احتفى بها رواد الرواية في العالم كله حينما بدأت الأشكال الروائية تأخذ طريقها إلى الظهور ، وكان التعبير عن الواقع هو الهم الأول لدى معظم من كتبوا الرواية في بداياتها الأولى في كل مرة . وكلنا نذكر أعمال ديستويفسكي وجوجول وتولستوي في روسيا ، وبلزاك وستاندال وفلوبير وزولا في فرنسا وديكنز وتوماس هاردي وسمرست موم في انجلترا . فقد كانت كتاباتهم الروائية جميعها تنبع من بيئتهم الخاصة وتعبر عن هموم ومآسي مجتمعاتهم ، وتجسد المشكلات الذاتية ، والهم النفسي ، وتأزمات العصر ، والواقع على المستوى العام والخاص على السواء.
كما أن الرواية العربية هي الأخرى عندما بدأت طريقها في دروب الساحة الأدبية ، كان الاتكاء على الموضوعات المستمدة من البيئة هو أهم موضوعاتها ، نجد ذلك في رواية (زينب) للدكتور هيكل ، وأعمال نجيب محفوظ ، وحنا مينا ، ومحمود المسعدي ، ومحمود أحمد السيد ، والطيب صالح وغيرهم.
ولعل الروائي البحريني عبدالله خليفة وهو أهم روائيي البحرين حتى الآن ، وأحد الذين استمدوا أعمالهم من الواقع الاجتماعي لبيئته ، وأحد الذين عبروا بأعمالهم القصصية والروائية عن هموم المجتمع البحريني بكل خصوصياته . لعله يعتبر رائد الرواية البحرينة بجانب انه يتسمد خصوصيته في هذا المجال من احتفائه بصفة خاصة بعالم البحر والغوص وما يحيط ويتصلُ به من اعمال لها عبقها وتراثها وموروثها الاجتماعي الخاص . وفي حديث له عن تجربته القصصية والروائية قال : (لقد بدأت محاولات الكتابة القصصية منذ عام 1969 ، وقد نشرتُ عشرات القصص والمقالات الأدبية منذ تلك السنة ، ومنذ البداية كانت تسكنني هموم وطني وآماله ، وقد عبرتُ عنها حسب تجربتي الأدبية والفكرية ، حيث كنتُ اتوجه إلى الفكرة والحدث بوضوح وبلامواربة ، وقد حاولت استعياب فن القصة وبعد فترة رحتُ اتأمل التجربة بشكل أكثر عمقاً واستيعاباً ، كما أن حصلتُ على تجارب كثيرة ومختلفة حياتية ، استطعتُ من خلالها الاقتراب من الواقع بشكل أكثر حمييمة . ولهذا صارت القصص حسب رأيي أكثر اتساعاً وإحاطة بالحياة ، كما أن هذا الاتساع والإحاطة مهدا لعملية الكتابة الروائية ، فمنذ أن يحدد الكاتب شخصياته ، ويقومُ بتعميقها ، ويشكل فصولاً في قصته القصيرة ، حتى يبدأ في طريق الرواية . وقد كتبتُ قبل روايتي الأولى (اللآلىء) ثلاث روايات قصيرة لم أقم بنشرها ، كنتُ اتجه فيها إلى الغرابة واستحداث أجواء عجيبة ولكني مع الاهتمام بموضوعات شعبية أخذتُ اقترب من الرواية ، وبدأت ملامح الأشخاص في الظهور ، كما أخذ واقعهم الذي يعشون فيه بالتبلور شيئاً فشيئاً . قد دفعني هذا إلى محاولة السيطرة على الصراع الروائي ، ووحدته وعملية تطويره ).

(اللآلى) ومظاهر القهر الاجتماعي

تشكل رواية (اللآلئ) نغمة خاصة في اعمال عبدالله خليفة ، فهي الرواية الأوللى له ، وهي تعبرُ عن مجتمع البحر وصيد اللؤلؤ ، وما يكتنف هذا العالم من مخاطر الغوص ، والعلاقات التي تربط بين العاملين بالبحر ، وممارسات أصحاب السفن ، وجشعهم ، وتسلطهم ، ومظاهر القهر الاجتماعيي ، والتحكم الذي يفرضه (النواخذا) صاحب سفينة صيد اللؤلؤ على الرجال الذين يعملون على سفينته سواء كان ذلك في أعمال الصيد أم في تسيير دفة السفينة .
ومن خلال الحدث الذي يتنامى ويتصاعد في الرواية من موت صائد اللؤلؤ (مطر) بعد إصرار النوخذا على معاودة نزوله الماء مرة أخرى ، ومحاولة الرجال المستميتة إقناع النوخذا بالاكتفاء بهذا الصيد الثمين ، مروراً بهذه الأم التي تدفعُ صغيرَها ليعمل في الغوص بدلاً من أبيه المكبل بديون النوخذا ، وكان البحر انتزع صياداً ماهراً للؤلؤ بعد رحلة حياتية شاقة ، فدفع له البر المتمثل في هذه الأم بالبدل (الصغير) ليجدد دم هذا العالم المتميز ، عالم الغوص العجيب المثير . ويصور الروائي عبدالله خليفة إصرار الأم على عمل إبنها في عالم الغوص ، غير مبالية بنظرات الرجال النهمة ، وبالمصير المجهول الذي ينتظر إبنها :
(( فزعَ الصغير ، قام وعاد إلى مكانه . جاءت أمهُ وهي تجره وراءها . دخلت عليه في المجلس بين الرجال . ماذا تريد هذه المرأة ؟ ، تطلعوا إليها وإلى الصغير الذي اختفى وراء عباءتها . إن وجهها لم يزلْ جميلاً . وهذه عيناها وراء البرقع تنبئ بذلك . لم تزل تملك بعضَ الموارد حتى وزوجها مشلول)).
وتبدأ رحلة الصيد والغوص وسط العواصف والأنواء والأمواج ، ويصور الكاتب معاناة الرجال وصراعهم ضد الطبيعة الثائرة . وكذا هذا الصراع للنوخذا وحرصه على لآلئه التي استخرجها من البحر . إنه لا يخاف الطبيعة بقدر ما يخاف ثورة البحارة عليه ، إنه لا يخاف هذه الأمواج التي تعلو كالجبال ، كما يخاف رجاله الذين يستغلهم أبشع استغلال ، ويعرض حياتهم للخطر والموت في سبيل لآلئه المزعومة :
((بحثَ عن حزامه ، ها هو ذا ، سكب السائل البلوري على قطعة مخنل ، تشعُ هذه اللآلئ كالنجوم . أدخلها في جيب منه . أحكم إغلاقه جيداً . بحث عن خنجرهِ فوجدهُ تحت وسادته . لأستعدَ جيداً . هؤلاء البحارة مستريحون في فقرهم ونومهم وموتهم . وأنا عليَّ أن أواجههم في يقظتهم وغضبهم )).
وفي خضم هذه العواصف يفقد النوخذا الطفل الذي دفعته أمه إلى البحر ليتعلم فنونَ الغوص بدلاً من أبيه . لقد ارتطمتْ السفينة بصخرةٍ كبيرة . ولكنها الحقيقة اصطدمتْ بالواقع الأليم ، وبدأ الرجالُ رحلة المعاناة مع الطبيعة والصحراء والماء واللآلئ والموت :
((أين الرجال ؟ إنهم قطعٌ خشبية تطفو في محيطٍ صاخبٍ ضار فهل تستطيع إمساك جذوره ؟ أين الرجال وهم ينهارون في قبضة العملا ويتفتتون كرملٍ يابس ؟ تقدم إذا بغيت الهلاك . أين الرجال وهم يبحثون عن جحور يختبئون فيها ؟ الدفة قطعة خشب كعصا معلم أعمى . الرجالُ والدفة والظلام والظلام واللآلئ والموت بانفجار الرأس والمراقبة طوال النهار ، والركض حيث تولد اللؤلؤة ، والسياط على ظهور الرجال ، والدم الذي يتسربُ واهناً . . نقطة نقطة . وأكوام المحار . أين الرجال وأحلام الآلات والدخان والحدائق . تعال الآن ليخرس هذا الفم إلى الأبد ، تعالْ لتزرع عظامك فوق هذه الصخرة الشيطانية)).
وتتحطم السفينة ولكن النوخذا يحتفظ بحزام اللآلئ وينتظر على الشاطئ المهجور بينما أخذ الرجالُ في التنقيب عن الماء والطعام والأسماك الصغيرة في البحر . فالماء يأت من نبع في البحر . وهذه إحدى خصائص البحرين الفريدة . وأحصى النوخذا خسائر الرحلة في الرجال فجاءت ثلاثة ومن بينهم الصبي . وقبعوا على رمال الشاطئ المهجور ينتظرون النجدة ويحتمون من البرد .
وتجوسُ كلمات الكاتب لتغترف من باطن الشخصيات حكاياتهم وأوشاقهم للأهل والزوجات.
ثم يعارك الرجالُ الصحراءََ برمالها وشمسها عملاً على الوصول إلى ميناء ينقذهم من الهلاك جوعاً في هذا الشاطئ المقفر بقيادة الربان أو النوخذا الجديد من زملائهم الذي يعمل اللآلئ والنقود(؟)

كتب: شوقي بدر يوسف

ناقد ادبي من مصر

عبـــــــدالله  خلــــــــيفة  روائياً

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏في رواية «عمر بن الخطاب شهيداً»

الشخص النموذج وتحولات الشخصية في رواية عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏
(عمر بن الخطاب شهيداً)

توطئة وتمهيد
ربما علينا البدء من إشكالية مثارة في حقل السرديات ، والنقد الروائي ، إذ أن هذه الإشكالية تمس بشكل جوهري رواية عبدالله خليفة ( عمر بن الخطاب شهيدا ) وهي تتلخص في مدى القدرة على تجاوز ما تصفه هذه الورقة بالشخص النموذج ، أو الشخصية المرجعيّة كما هي في حقل النقد السردي ، وإعادة تمثلها وتخليقها روائيا وإبداعيا .
أين هي المشكلة ؟؟؟ فجأة سيكتشف الناقد لا السارد أن الشخصية المرجعية هي نموذج معدّ سلفا وقالب جاهز ، مرسومة له الحدود ، والفواصل والرسوم ، ما بدوره سيخلق نوعا من الحد الذي لا يمكن تجاوزه ، أي أن يكون النص رهن مرجعيتها لا العكس .
حينها فأنت أمام شخص نموذجي لا أمام شخصية ، أي أن الشخصية لا يمكن تخليقها روائيا إذ هي فوق النص وهي التي ستحكم إيقاعه وحركته ضمن المسار السردي العام .
سيكون القاريء غالبا أمام هذا النموذج ، حينما تكون الشخصية دينية مقدسة ، نبيٌ كان ، أم إمامٌ أو ولي من أولياء الرب الصالحين .
فارق التجاوز بين الشخص النموذج والشخصية الروائية سيبقى شاسعا ما بدوره سيوقع المؤلف في كمين لا يمكنه التملص منه . إلا بكسر النموذج ذاته وتذويبه وتحويله من شخصه إلى شخصيته المخلّقة إبداعيا ، وهو ما يتطلب ربما شيئا من كسر ( تابو ) مجتمعي وعقيدي قد يورد صاحبه المهالك .
ليس هذا الاستنتاج مدعاة لوقف تسريد التاريخ أو استعادة إنتاجه روائيا ، بقدر ما هو توصيف لمشكل إبداعي يدور مع أنموذج البطل الديني أو المقدّس حيثما دار .
في الشخصية المرجعية أنت أمام تسلّط من نوع خاص ، تمارس فيه الشخصية سلطتها على النص والمؤلف معا بقدر ٍلا يسمح له بالتجاوز ، إذ تغدو هي معيار الرؤية ، أو جهة النظر، أو بما يصطلح عليه نقديّا بالتبئير ، فتحتضن رؤية المؤلف / الكاتب ، وتوجّهه وتهيمن عليه ، بما تحمله من مناقب ومآثر جمّة وتواضع ٍ عال ٍ ، وتسامح ، وبما تقترب فيه من مثاليّة عالية وإنسانية مرهفة .
فيلتبس عليك الأمر والحالة هذه ؟؟ هل ما تقرؤه رؤية الكاتب أم رؤية الشخصيّة ذاتها ؟؟؟
التبادر للإجابة على سؤال على هذا المنوال ، يحيل النظر إلى مدارس النقد السردي الحديث التي جعلته من الأسئلة المحورية في نقد النصوص السردية ، إذ أضحى السؤال من هي الشخصية التي توجه الكاتب ، وبالتالي توجه المنظور السردي عامة ، عوضا عن السؤال التقليدي الذي كان يبحث عمن هو السّارد ( الراوي ) ؟؟؟ هنا أنت أمام نموذجين ، نموذج يرى ويُعاين ويشخّص ويتنبّأ، في مقابل نموذج يحكي ويقول ويروي .عبدالله خليفة رواية عمر بن الخطاب شهيدا
لعبة خليفة ولعبة النص :
لكي لا نغرق كثيرا في التنظير ، فإن مسك أطراف اللعبة النصية في رواية خليفة عمر بن الخطاب شهيدا ، من الأهمية بمكان ، إذ سرعان ما ستكتشف كيف أن الشخصية المرجعية ( شخصية الخليفة عمر ) أملت على الكاتب شروطها ، فما عاد بمقدوره إلا أن يتعاطف معها وينحاز إليها ، وهو بالطبع أمر مشروع لرؤيته ككاتب ، إلا أن سلبيته الفنية لا الواقعية أو التاريخية ، انعكست في تحريكه لباقي الشخوص ، الذين سيأتي الحديث عليهم تباعا . فكان من السهل تحطيم ( النموذج الشخصي ) للشخوص الموازية والفاعلة في النص ، وجعلها ضمن رغباتها الإنسانية العامة ، التي تنتاب أي إنسان في موقف عابر ، أو ضمن نسق العلاقات الاجتماعية السائدة . فكان يسهل عليك أن ترى تورط تلك الشخوص في الإعلان عن رغباتها الخاصة ، كالرغبة في التملك والاستحواذ ، أو الأثرة والأنانية وحب الذات ، أو الحسد ، أو التآمر لإزاحة الآخرين من الطريق في سبيل البقاء ، أو عشق المرأة وفتنتها ولو على حساب النظام الأخلاقي السائد ، كل ذلك يدفعك للتساؤل عما هو السبب الذي دفع بالكاتب إلى أن يخلي العنان لتلك الشخوص الموازية من أن تفصح عن رغباتها الكامنة ، فيما آثر أن يقيدها في الشخصية المرجعية النموذجية ، شخصية عمر بن الخطاب ؟؟؟
مسارات الشخصية وانكساراتها :
تحركت الرواية أربع مسارات رئيسية ، ظلت تحكم إيقاع الأحداث ، وتحريك الشخوص ، ويمكن إجمال هذه المسارات الأربع في الآتي :
المسار الأول هو مسار الشخصية المرجعية ذاتها وهي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب .
المسار الثاني هو شخصية خالد بن الوليد التي احتلت جزءا كبيرا من مساحة النص ، وكانت إحدى الفواعل السردية التي نظمت أحداث الرواية
المسار الثالث هو مسار الفرس ويمثلهم يزدجرد ملك الفرس ، ورستم قائد الجيوش والهرمزان نائب رستم .
المسار الرابع وهو بمثابة الطابور الخامس ، وخط له الكاتب مسارا مقلقا وغامضا نوعا ما وهو يضم لفيفا من الأمويين والقرشيين ويمثلهم أبو سفيان بن حرب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، والمغيرة بن شعبة والي الكوفة في عهد عمر ، ثم انضم إليهم في تحالف خفي لاحقا الهرمزان نفسه ، وأبو لؤلؤة المجوسي ، والخادم جفينة .

استعارة من منجزات النقد الفرنسي المحدث وتحديدا من مدرسة ( جيرار جينيت ) فإن رواية عمر بن الخطاب شهيدا تقع في في نطاق ما وصفه بالمحكي ذي التبئير المتنوع ، أو الراوي المصاحب ، وخلاصته أن السرد يبدأ على لسان شخصية أولى ثم ينتقل بعدها لشخصية أخرى قبل أن يعود من جديد ليركز على الشخصية الأولى .
لم يمكن الراوي تلك المسارات الأربع لشخصياته من أن تتنامى تدرجيا عبر مسارتها حتى تصل إلى مرحلة الكشف الكامل ، إما على يد الراوي نفسه أو على يد القاريء . إذ أنه سلم مفاتيح شخصياته للقاريء منذ أول بروز الشخصية على سطح الحدث .
مما قد يخل بعنصر المفاجأة والمباغتة ، أو يحد من قدرة القاريء على التنبؤ والوقوف عند أمثلة يسيرة من الرواية تصلح لأن تكون شاهدا :
” … دُفن الخليفة ، الحاكم الصديق الحبيب ، وبقيتَ أنتَ تــُمسك الجمر .هذه بلادٌ مثخنةٌ بالجراح ، فقيرةٌ ، معوزةٌ ، تتدثرُ بالشمس المحرقة ، وترقدُ على التراب ، تقلبْ ! فلن تجدَ عيناك طريقاً نحو النوم ، وهي ترقدُ على جمرٍ ، وتسخنُ الرمضاءُ جفونها . .
أي فخٍ هائل هذا الذي يطبقُ على ضلوعك الآن … تقلبْ وأنت تفكرُ في كيف تحول هذه الحشودَ إلى حرابٍ ، قد تتغلغلُ في لحمِ بشرٍ مساكين ، أو توزع الثمرَ على الجياع ” .
النص كما هو واضح ، يفتح الشخصية من أول الباب على مناقبية عالية ، ويرفع سقفها إلى درجة لا تمكنك من النزول إلى ما هو أدنى ، كما أنه يكشف عن ( جهة النظر ) التي اختارها الكاتب لشخصيته منذ البداية ، فالقلق ، والتقلب ، وعدم النوم ، والرقود على الجمر ، والاحساس بثخن الجروح ، وتوزيع الثمر على الجياع ، كلها تخط مسار الشخصية المرجعية باتجاه محدد تكون فيه الشخصية ذائبة في المجموع ، مستشعرة لآلام الآخرين ما لعله يمنع من الزج بها في صراع أو مزاحمة لغيرها من الشخصيات ما سوف يحدث إنقلابا في مسارها وفي صفاتها .
في مقابل ذلك فإن الشخصية المحورية ، شخصية خالد بن الوليد ، ستظهر منذ أول ولادة لها في منولوج داخلي على لسان الخليفة عمر نفسه ، فكشفت خارطة خالد الشخصية منذ البداية ، على لسان عمر ذاته ، وبما أن الكاتب كما أوضحت الورقة قد اختار الرؤية المصاحبة ، فالنص سيكشف عن رؤيتين متناغمتين ، الأولى هي رؤية الكاتب نفسه لخالد ، والثانية هي رؤية الخليفة عمر بن الخطاب لخالد . النص الشاهد هو الآتي : ” هيا كفْ يا عمر عن هذا الحسدِ لابن عمك ، أصعدْ عن هذه المشاحنات . . لا والله ! لم أحسدهُ أبداً على عملٍ نبيل يقومُ به ، بل لهذه الخيلاء التي فيه ، وهذا الغياب للأخلاق المثلى ولهذا الحب للصغائر والعلو الشخصي . . يا ليته ألغى هذه التفاهات من نفسه الكبيرة ! . . ”
… رؤية الشخصية المرجعية ، ورؤية الكاتب تتوازيان في النظر لشخصية خالد بن الوليد وتمعن في تشخيصه على أنه قد استبدت به الأنا ، فهو كما جاء في الرواية ” فهو ذكي وماهر ولكنه أناني . . لا يملك مسحةً من أخلاق رفيعة ، والجمهورُ لا يرى ما هو واضح جليّ ، كل انتصار يرفعه أكثر فأكثر فوق الرؤوس والقيم !
كشف الكاتب عن رؤيته لخالد منذ البداية مثلما صنع بشخصية الخليفة عمر ، مما سيعيطك مسارا لشخصية خالد ، ستبقى تدور في هذه الدائرة حتى لحظة الانتكاس أو الانكسار والتي بدأت تاريخيا في قرار الخليفة عمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة بن الجراح عام 17 للهجرة .
المسار المقلق والغامض والغريب ، والذي ربما كان أحد اسباب التحفظ على النص هو مسار الأمويين والذي مثله في الرواية كل من مروان بن الحكم ، وأبوسفيان بن حرب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، فغالبا ما تظهر تلكم الشخصيات مجتمعة وتتجنب الإنفراد ، وهي لا تتكلم إلا بروح واحدة وبصوت واحد ، وهي تفكر بعقل جمعي بدا واضحا أن الكاتب يبرره تبريرا طبقيا ، فانتماء الأمويين القبلي وعلو مكانتهم الاجتماعية على غيرهم كونهم من السادة والأشراف جعلتهم ينظرون إلى التغيرات التي طالتها يد الخليفة عمربن الخطاب وسحب الامتيازات من بعضهم ومحاسبة الولاة الشديدة على أعمالهم وجهها منظور الكاتب باتجاه مصلحة البقاء لللأقوى شوكة وعدة .
هنا يتدخل المؤلف ليوجه مسار شخصياته ، وينشيء علاقاتها ببعضها البعض ، ويوغل قليلا في اجتهاد سردي خاص ليقيم علاقة سرية تجمع بين الفرس وبين الأمويين لا سيما مع الهرمزان في وقت لاحق ، واجتماعات بليل ، ما لعله بحاجة إلى سند تاريخي واضح يعضّد هذا الفهم أو هذا التركيب ، الذي اختاره المؤلف .
بقي أن مسار الرواية في تخليق الشخصيات سرديا ، وتركيبها كان أكثر إبداعا وتفردا في مسار ( الفرس ) وبالأخص في شخصيتين اثنتين هما ( رستم ) قائد الفرس العسكري ، و ( الهرمزان ) .
كانت الشخصيتين بالفعل مركبتين غاية التركيب ، تحب وتبغض في نفس الآن . تحمل الشيء وضده . تارة تراها إنسان وتارة شيطان . وبقيت مخلصتين لعرقهما وحضارتها الفارسية حتى آخر رمق . وبقي الإحساس بمرارة الإنكسار والهزيمة ، وشرخ الذات بعد انهيار المدائن وفرار كسرى عاملا محفزا على استعادة المعوض النفسي والرجوع لملك فارس الذي صارت حلي قادته ألعوبة في يد صبيان العرب .
كان هذا المسار الفارسي أقرب منه إلى الطابع الملحمي لمن يقرأ النص . واعتمد الراوي فيه على لغة وصفية عالية شديدة التشخيص ، والتخييل فتقرأ وكأنك ترى ، وتخال وكأنن تعاين ولنختم بهذا النص الذي يصور فيه الكاتب ملحمة القادسية وقت احتدام الجيشين :
” … نظر الهرمزان بارتياحٍ إلى عبور حشد فرسانه نهرَ دجلة وهي تتقدم وراء كتلةٍ هائلة من الجنود المشاة والأفيال الضخمة ، فكأن درعاً هائلاً من اللحم يحميه .
الرجالُ والخيول يتأرجحون فوق الجسور ولكن الغابة البشرية تتمدد فوق الماء وتتنفس هواءً وكلاماً وحمحمةً ، وسحابة الحديد اللامعة المصقولة تتوغلُ في اللحمِ والثياب والهواء والأعناق ، والأفيالُ جبالٌ تمشي فوق الجثث والصراخ وتدوسُ الخيلَ وتمشي بين كتلِ الأجساد ، تقذفُ بها في أعماقِ النهر ، وتكوّنُ ثغرةً هائلةً في جسد الجيش العربي المذعور ، وتنزلُ السيوفُ كالصواعقِ الناريةِ على العظام ، تكسرُها فيسمعُ لها دويٌ عظيم ، وتنفرجُ صفوفُ المقاتلين العرب ويتراجعون للوراء (… )
والكتلُ المتراصةُ والسيوف تتضارب منذ الصباح حتى هذه الظهيرة الكالحة ، وأسنان الحديد تتوغلُ في الرؤوس والأعناق ، والأجساد تتطوح هنا وهناك ، ولم تزل الصفوف في مواقعها ، وكلما سقط جسدٌ ظهر جسدٌ آخر مكانه ، وكلما نفقتْ خيلٌ جاءت أختها ، وبحرُ العرب البشري لا يتوقف عن التدفق ، أمواجهُ من الرمال والرؤوس والكوابيس ، أجسادُ المقاتلين الرهيفة النحيفة تهرب من حدود السيوف ، تراوغ بمهارة ، وتندفع بقوة ، وكلُ الحشود التي تتدفقُ عليها لا تخيفها ولا تزحزحها عن مواقعها ، وقد بدأت الشمسُ تميلُ للغروب ، والجوع أكل الرجال ، وهدهم التعب ، والعدو لا يتوقف عن التدفق ، كأن الرمالَ من ورائهم ، وثمة صيحاتٌ من ورائهم ، وثللهم القليلة تنبع ثللاً أخرى منها ، كأن التلال انحازت لهم ، وهم يصرخون تأبى أن تفارق مواقعها ، والأنصالُ تغوصُ في الأجساد ، وبحرُ البشر متلاطم ، يذبح بعضه البعض ، والأفيالُ تتحسسُ طرقَها الملأى بالعظام ، وصائحٌ يصيحُ من الفرس :
– هل نتوقف للراحة والنوم ؟ !
شكرا لإصغائكم

🌴 أعدها : زكريا رضي
ورقة نقدية مقدمة ضمن برنامج ( خير جليس ) لأسرة الأدباء والكتاب بالبحرين (يونية – 2007 )

قضايا الرواية التاريخية

أُقيمت في مقر أسرة الأدباء والكتاب ندوة حول روايتي(رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب شهيداً)، وقد تحدث فيها كلٌ من الأخوين الشاعر والناقد كريم رضي والباحث زكريا رضي.

والواقع أن يظهر ناقدان نشطان في الكتابة الأدبية لجنس الرواية خاصة، هو أمرٌ عادي ولكن للأخوين وخاصة كريم مساهمات عديدة في الكتابة، وهو شاعر وصحفي ونقابي كذلك، فجمع الحب والتعب من أطرافهما. وقد تعجبتُ من زكريا رضي الشاب الصغير السن، الكبير العقل، فرأيتُ فيه مشروع ناقد جيد، يمتلكُ حس الموضوعية والغوص في المادة الفنية وبجذورها التاريخية الصعبة، فقلتُ إن البحرين ولادة!

في كتابة كريم هواجسٌ معقدة مركبة، لم يفكك كلَ خيوطها بعد، فالروايتان (رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب) تجمعان الكلَ الإسلامي المتضاد، الشيعة والسنة، في عالميهما المتباينين، فهذا شيءٌ وذاك شيءٌ آخر، في تاريخ الانفصال والشكوك، لا في تاريخ النضال المشترك.

فحين نجمعُ بينهما كأننا نمثل سيرورة جديدة، ولكن الحذر يتزايدُ حين يكون الكاتبُ من أفقٍ يتراءى في الوعي السائد السطحي، أن يكون مختلفاً، وأن يكون في الخارج، فكيف يكونُ في الداخل المتعدد والمتباين؟!

ولهذا بدت كلمات كريم رضي في قراءته لرواية(رأس الحسين) محملة بأعباء السابق، وبمنظورات تكبسُ على قلمه، لكنه لا يبوحُ بها، فتتراءى في هذه الحيرة التي تجسدتْ في الأكثار من المقدمات، فتكلم عن الرواية التاريخية عند جورجي زيدان، وهي رواية لا تـُعد أساساً من الرواية التاريخية المتماسكة، بسبب أنها رواية تعليمية فهم جورجي زيدان  أن ينشر معلومات عن التاريخ عبر قصة حب مخترعة، والبناءُ كله مهلهل.

ثم حين يأتي كريم للرواية نفسها، وهي بيت القصيد، فإنه يدخل كذلك في هذا التردد، فهو يقول بأن الرواية كــُثر فيها الشعر، فأعاق الشعرُ السردَ الروائي.

ولكن هناك فرق بين أن يُكتبَ السردَ بلغةٍ ذات بيان تصويري خاص، وبين الشعر، فالبيان التصويري من هدفهِ عدم تحول الرواية الاجتماعية السياسية إلى منشورات ولغة خطابية تقتل الفن، وبالتالي فلا بد أن يكونَ لسرد الرواية طبيعية خاصة، تضعها في ميدان الجمال لا في ميدان الصحافة!

وهو بعد ذلك يشير إلى جوانب إيجابية هي تعددية الشخوص والمحاور، وهذا في الواقع كان القسم الذي يمثل صميم النقد، لا في عرضه الإيجابي، بل في روحهِ التحليلية، بمعنى أن التركيز على هذا الجانب ومتابعة كشفه وتبيان مدى نموذجية ومعقولية الشخوص وعلاقاتها وتماسك أو تفكك الحبكة ومستوياتها هي الأمور التي تجعل من الكتابة نقداً روائياً.

ولكن الشاعر كريم تدفعه عوامل الاحتفاء والاهتمام بهذا الكتاب، ولا يريد كذلك أن ينساق في المجاملات، فيعرض ما يراه ويتلمسه، ويكفيه ذلك دوراً جميلاً فهو ليس روائياً أو ناقداً متخصصاً في الرواية، لكنه لا يريد كذلك أن يسكت عن القمع الثقافي.

ولكن أخاه زكريا رضي كان أقرب للناقد المتخصص في الرواية، وقد قرأ لا كتاب الرواية بل الديسكات، فعانى في ذلك، ولكن لأنه دخل للرواية من باب النقد الروائي، فقد ركز على الشخوص ومن هو البؤرة فيها، الذي كان هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكشف العلاقات بين بؤرة الرواية، وبين السارد المؤلف، وبين الشخصيات الرئيسية الأخرى كالشخوص الفارسية مثل الملك يزدجرد والقائد رستم والهرمزان، وخالد بن الوليد الخ.. وقد بين لغة السرد والعلاقات بين الشخوص، ومدى مرجعية هذه الشخوص التاريخية والإشكاليات المترتبة على تصويرها، كتصوير خالد بن الوليد، واعتبار أن النص انساق لمرجعية عمر بن الخطاب وتماهى معه.

وهكذا فإن زكريا توجه لصلب مسائل الرواية، معتبراً أن تبعية السارد لمرجعية الشخصية الرئيسية(عمر) لا يؤدي إلى جديد، ومن جهة أخرى احتفى الراصد بتصوير الرواية لمناخات الحرب في الجبهة الفارسية عبر سرد مقاطع من معركة القادسية.

  إن ندوة أسرة الأدباء والكتاب التي تحدث فيها الكاتبان كريم رضي وزكريا رضي عن روايتي (رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب شهيداً)، هي من الندوات النادرة التي توجهت للرواية التاريخية في البلد.

وربما سيطر التاريخ أكثر من غيره على الرواية في البحرين، فأغلب الروايات تتحدث عن التاريخ البحريني الحديث، وبضع روايات تجسد وتصور التاريخ العربي القديم.

في حين توجهت روايات قليلة إلى الزمن الراهن، ربما تجنباً للأحراج، وهذا يعكس سيطرة الماضي على الحياة، مما يستدعي تحليله، أو يغدو التاريخ عباءة لنقد الحاضر من خلال الماضي!

لكن الرواية التاريخية رواية ذات مقاييس خاصة صعبة، فالرواية المعاصرة، وهي النمط الثاني من الرواية، أكثر سهولة، ثم تأتي الرواية العلمية وهي النمط الثالث والأخير.

وتغدو الرواية التاريخية صعبة لأنها لا تفترضُ فقط السيطرة على أدوات الفن من شخوص وحبكة وزمان ومكان روائيين، بل تفترضُ كذلك درسَ التاريخ، ومعرفة الوسط والملابس والمأكولات والنباتات فيه، إضافة لدراسة الزمن الخاص وظروفه وشخوصه، فتعرف متى أكل الناس الأرز في المنطقة، وكيف كانت تصوراتهم عن الإله والحكم الخ…

وتزداد الصعوبة حين تعرض الشخصيات المبجلة في التاريخ الخاص بكل دين ومذهب، ولكن الأهم من هذا العرض التنزيهي أن تــُكتب الرواية بموضوعية، لكن الموضوعية صعبة في ميدان التاريخ والعلوم الإنسانية عموماً، فما يُقيم بإيجابية في دين يقيم بسلبية في دين آخر!

وإضافة لهذه الشروط القاسية فيُفترض في الرواية عموماً أن تكون ممتعة، وأن تجعل القارئ، أي قارئ، يتمسك بدفتي الكتاب لا أن ينام منذ الصحفات الأولى.

ومن هنا فإن الدخول في بؤر التاريخ الإسلامي، كان نادراً من الناحية الروائية، إلا من أعمال نادرة لم تحدث تراكماً في مثل هذا الحقل، لأن الرؤى المذهبية السياسية كانت مسيطرة، ولا تزال، وهي لا ترى ما يجمع المسلمين، في تلك العملية التاريخية التأسيسية، التي كانت بشكل ثورة، فغدت الثورة في زمن عمر هي الدولة الشعبية القوية، وغدت أيام عثمان بن عفان في مرحة اهتزاز وتغلغل من قبل الارستقراطية التي أُزيحت عن الحكم، ثم غدت الثورة في زمن علي بن أبي طالب في مرحلة دفاع عن نفسها والتصدي للهجوم عليها من قبل العامة الفوضويين والارستقراطية الأنانية معاً.

وهذا الفهم حين يُصَّور روائياً فلا بد أن يكون موضوعياً وأميناً للفترة، وأن يعدم تزييف الحقائق، وهذه كلها أمورٌ تخترق التصورات الذاتية والمؤدلجة للتاريخ، ويغدو الوصول إلى هذا المستوى وتجسيده روائياً من الجوانب الأكثرصعوبة، فكأنك تضع التاريخ المختلف عليه كثيراً في بلورة صافية.

لا بد هنا من العودة للمراجع التاريخية ومصادر درس الرواية التاريخية معاً، فرواية التاريخ ليست تابعة له بل تنقله إلى مرحلة كشفية وتتغلغل إلى جذوره في عرض فني مشوق، وهذا ما جسده والتر سكوت البريطاني في أعماله، وتولستوي في ملاحمه

ولهذا فإن قراءة الدارسين البحرينيين للرواية التاريخية خاصة لا بد أن تقف على أرض نظرية صلبة في فهم الرواية وفهم التاريخ الإسلامي معاً.

🌴 كتب: عبدالله خليفة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏.. في أربعينية الرفيق الراحل

    شهدت البحرين منذ مطلع القرن العشرين حراكاً شعبياً امتاز بالمد الثوري أحياناً، والجزر تارةً أخرى، ففي خمسينيات القرن الماضي كان مداً ثورياً طال معظم البلدان العربية، والبحرين واحدة من تلك البلدان. وما يدلّل على ذلك حركة هيئة الاتحاد الوطني بين العام 54 و1956.
وفي فترات المد الثوري والحراك الاجتماعي والسياسي المتصاعد، تتجذّر الجماهير أو قطاع كبير منها، فيخلق ذلك المد الثوري أرضية خصبة لأفكار اليسار الثوري، وكان بالفعل ما حدث آنذاك حيث نشأت جبهة التحرير الوطني البحرانية إلى جانب حركة القوميين العرب، فكان النشاط الثوري المتقد ليس حصراً على البناء التنظيمي فقط، بل وبتوعية الجماهير بمطالبها الشرعية والتنديد بالسياسة الاستعمارية البريطانية عبر الإضرابات العمالية والمظاهرات الطلابية والجماهيرية.
تلك الأجواء السياسية، بالإضافة إلى الفقر المدقع بين الأحياء السكنية، دفع الكثير من الجماهير المتعطشة للحرية والكرامة والعيش الرغيد، إلى الإحساس بالصراع الطبقي، وتشكّل الحس الوطني، وهذا ما ينطبق على حياة الرفيق المناضل والكاتب المبدع عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الذي تربّى في بيوت العمال، ونشأ في أوساطهم بفريق العمال «اللينات» المبنية من سعف النخيل بمنطقة القضيبية.
وفي أجواء مدرسية ذات حراك ثوري، كان تلميذاً ذكياً وشغوفاً بقراءة مختلف الكتب والروايات السياسية، ما أهّله بمدرسة المنامة الثانوية لقيادة المظاهرات الطلابية، وبالخصوص في العام 1965، أثناء انتفاضة مارس المجيدة. هذا النشاط الثوري العفوي قاده للالتصاق بمجموعة من رفاق الجبهة، وبالتالي سجّل انتماؤه للجبهة العام 1966، فكان رفيقاً نشيطاً وحريصاً على القراءة والاطلاع باستمرار، فكان يتابع كتابة القصة والرواية وسرد الحياة النضالية في مؤلفاته الأدبية بأسماء مستعارة، حفاظاً على التنظيم وإبعاد الأعين عنه.
فإن كان ثمة مناضلون يتنافسون في البذل والعطاء، كل حسب قدراته وإمكانياته وطاقاته، فإن بعضهم يواصل المشوار ،في حين يتوقف البعض الآخر، وآخرون يكونون في وضع متذبذب، خصوصاً عندما تمر بهم الأزمات السياسية وطغيان حب الذات. أما الرفيق عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏فإنه سما على ذلك، فقد كان مناضلاً بارزاً ووفياً للطبقة العاملة والمستخدمين وللمبادئ الأممية.
وعلى الرغم من أن الرفيق عبدالله خليفة عاصر فترتي المد والجزر الثوري للحركة الوطنية البحرانية، إلا أنه ظل وفياً ومخلصاً لمبادئه ونهجه العلمي المستند على التحليل الماركسي اللينيني، وهذا ما نشهده في أعماله الأدبية وتحليلاته السياسية، وكما قيل عنه بأنه يتسم يثلاث سمات أساسية: الأولى أنه يمتاز بإلمامه بالتاريخ والثقافة العربية والإسلامية، ويتميّز في كتاباته بالدقة العلمية والنهج اليساري في تحليله لمختلف الظواهر الاجتماعية؛ أما الثانية فهي الانتماء الوطني، وهي صفة جميلة يتحلى بها اليسار الوطني، فكان مخلصاً لوطنه وأهله وفكره المستند للتحليل العلمي والموضوعي؛ أما السمة الأخيرة التي يمتاز بهاعبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏فهي الشجاعة في الكتابة والتعبير عن الرأي، كما تجلى في رواياته الأخيرة عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب ومحمّد ثائراً غير طامع في المال والجاه … إلخ
وأخيراً لم يتوقف قلم عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏البوفلاسة، وهذا اللقب لا يعترف به في كتاباته بسبب أن هذا اللقب يأخذ شهرة القبيلة وهو لم يكن يحب أن يكون من القبائل، فكان مصاحباً لنشاطه الأدبي ليس فقط في أخبار الخليج، بل أيضاً كان عضواً بارزاً في أسرة الأدباء والكتاب البحرينية. وقد شهد لنشاطه الأدبي العديد من الكتاب من مختلف الصحف المحلية والعربية وخصوصاً صحيفتي «الوسط» و» أخبار الخليج» البحرينيتين.
رحلت يا عبدالله وتركت للأجيال القادمة إرثاً أدبياً ثرياً ونادراً في هذا الزمن الرديء والمرتد، حيث التراجع في مسار الحركة اليسارية في البحرين وفي الوطن العربي منذ التسعينيات من القرن الماضي، إذ أضحت الساحة السياسية مرتعاً للأنظمة العربية الرجعية المستبدة، ولأفكار الإسلام السياسي الظلامية الرامية إلى طمس معالم الحرية والديمقراطية والتقدم والسلام.
حسن جاسم رضي
باحث بحريني
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4468 – الإثنين 01 ديسمبر 2014م الموافق 08 صفر 1436هـ