

رحل الكاتب القصصي الكبير يحيى حقي عن عمر بلغ 87 عاماً، كتب فيه العديد من أعمدة القصة العربية، مثل «قنديل أم هاشم» و«صح النوم» و«عنتر وجولييت» «أم العواجز» إضافة إلى عشرات الدراسات النقدية والفكرية واللوحات.
ونحن سوف نقوم هنا باستعراض جانب من مجموعته القصصية «عنتر وجولييت» وملمح خاص منها، هو كيفية بنائه للقصة القصيرة، و أين تصل رؤيته وأبعادها.
إن أهمية يحيى حقي الأدبية الكبيرة تكمن في صياغته قصة قصيرة بالغة الروعة والجمال، فيها كثافة تعبيرية ودلالية عميقة، وتكاد أن تكون كل قصة قصيرة هامة كتبها أن تكون رواية مكثفة.
ستجد فيها عناية فائقة باللغة، بسلاسة الجملة، وكأن اللغة مجرى مندفع بهدوء وفخامة، وثمة جهد جبار لترويض هذه الأداة اللغوية، وجعلها تبدو عادية، غير مفتعلة، ومع هذا فهي أخاذة جميلة ويحاول يحيى حقي، في أحيان كثيرة، أن يطوع اللغة العامية، أن يبحث عن مفرداتها الجميلة، القريبة من الفصحى، ليدخلها في سرده. تماماً مثلما يفعل في بنائه القصصي، معطياً أوردته الداخلية العميقة، للناس لأبناء الحارات، فترى صورهم وحيواتهم ومعاناتهم داخل نسيجه اللغوي – المضمونى، فهي قصة عميقة التشكيل، في ذروة جدالية، وهي أيضاً بسيطة التركيب، تمشي حية على الأرض، مفعمة بعطور الأمكنة وظلال الأشياء.
ثم هي أيضاً مزيج غريب وفريد من التراجيديا والكوميديا، تتداخل فيها المأساة الحادة والضحكة المجلجلة، دون أن تتحول إلى ميلودراما مفتعلة، تدهش سخرياتها اللاذعة داخل أقبية الحزن.
فيحيى حقي هو «ابن البلد» الذي مهما نهل من علوم أوروبا وفنونها المختلفة، جزء من الحارة الشعبية، لا يحطم قناديلها القديمة المقدسة، بل هو يضيئها بزيت الحداثة، تعال معي إلى أهم ملامح قصص «عنتر وجولييت»(١) لنأخذ الخط الداخلي المتنامي بينها.
قصة (السلم اللولبي) ص 35 -37، تدور حول شخصيتين، الأولى هي (السلم اللولبي) نفسه والثانية هي (فرغلي صبي المكوجي) وإدغام المؤلف لهاتين الشخصيتين الجامدة والحية، في توليفة قصصية حديثة واحدة، يعبر عن هذه الجدلية العميقة بين الإنسان والمكان، الذات والعالم.
وهو حين يبدأ وصف شخصيته الأولى، السلالم، نحس بهذه الأحجار الجامدة، وهي تتحول إلى مخلوقات حية، ولكنها شرسة، تفترس هؤلاء البسطاء الصاعدين إلى العمارة من زواياها الخلفية. إن المؤلف يسوق عشرات التشبيهات لوصف هذه السلالم التي تذكر الراوي بـ(تفنن محاكم التفتيش الإسبانية في ابتداع أمكر وسائل التعذيب الوحشي وأخسها) وحين يتابع خطى الخدم والباعة وتجار الروبابيكيا وصبيان البقال والمكوجي (أنهم احفاد العمال بناة الأهرام).
هكذا تتحول السلالم إلى لوحة طبقية ساخرة، مؤلمة. فسلالم مقدمة العمارة الأنيقة، النظيفة، هي من نصيب سكان العمارة وأصحابهم، أما سراديب محاكم التفتيش فهي من نصيب أولئك العمال.
وتناغم الوصف ودخوله إلى تفاصيل المكان، ليس مقدمة تقريرية بل هو متابعة لبطله الثاني (فرغلي صبى المكوجى) الذي يركض دوماً، طوال النهار. على هذه السلالم الخلفية، التفتيشية.
والكاتب يتوغل في أعماق الصبي فرغلي، عبر هذا الوصف الدقيق الفكه لحركاته وملابسه وهيئته فأغلب مقاسات ملابسه كبيرة عليه، إنها مأخوذة من الزبائن الذين تخلوا عنها. وهو أيضاً عميد أسرة ريفية يرسل إليها معظم أجره.
هكذا نرى أسلوب يحيى حقي وهو يتوغل إلى البناء والشخصية، متابعاً تفاصيل دقيقة مذهلة في تكوينها الخارجي — الداخلي. وهو سوف يدهشنا بقراءته لجغرافية المكان والذات الإنسانية وعلاقاتها الصراعية والتآلفية.
بعدئذ يدخل المؤلف إلى الحدث. بعد هذه الفرشة السريعة للمكان والبطل. فقد غافل (فرغلي) البواب ذات يوم وأراد أن يكسر عالم السلالم الطبقي التقسيمي الحديدي، وتوجه من السلالم العادية وليس الخلفية، وحين فتح باب الشقة اندفع إليه (ركس) كلب السيدة وعضه. كان هذا عقابه على اختراقه الناموس! إن هذا الحدث الصغير سوف يفجر كل جزئيات الموقف القصصي. فسوف نرى فرغلي قبل حدوثه، وهو يلاحظ (ركس) من باب المطبخ، كما أن للسيدة صاحبة الشقة خلفية خاصة، فلديها صديقة صاحبة كلب مماثل عض صبياً آخر، فعانت من شكوى أهله للبوليس.
لهذا حاولت السيدة عبر سياسة ماكرة، أن تهدئ فرغلي وتلغي ثورته وحقه، فأعطته «نصف ريال» وشكولاته، وكانت حنونة أيضاً بفعلها العفوي، حتى ظن أنها من الممكن أن تعطيه نصف ريال آخر. خاصة بعد أن أصيب بحمى، وجثم في الغرفة الجماعية، وهناك، في مرضه، أشتاق إلى دكان الكواء، وتذكر حتى الملابس التي يحملها وتعطيه إنطباعات غريبة عن البشر.
لقد رفضت السيدة أن تعطيه نصف ريال، لتعوض أجره الناقص، فصرخ في نهاية القصة (أيه يا خويا الناس دول.. ما يحنوش على الواحد إلا إذا الكلب عضه).
هكذا يغوص يحيى حقي في حياتنا، عبر نموذجين متداخلين، لنشاهد لحمنا الداخلي، التركيبة الاجتماعية المتناقضة اللاإنسانية، بشفافية ساخرة حزينة.
إن القصة تقام فوق سلسلة من التضادات الاجتماعية المختلفة، فأهم تضاد هو بين فرغلي والسيدة وكلبها. فحين يعيش فرغلي من عمله ويصرف على عائلته، ويعيش أسوأ من كلب، فإن (ركس) يعيش حياة باذخة. ولكن هذا التناقض لا يتحول إلى صراع فردي، بل هو يتعمم ويتنمذج في تركيبة واسعة.
إن التضاد بين فرغلي / السيدة، يكشف عن التضاد الأوسع بين الناس، الشعب، والطبقة الوسطى. فثمة من يلقون ملابسهم المستعملة، ومن يلبسونها، من يحضرون من العزب والقرى ومن يستخدمونهم في المدينة.
إنها تضادات متعددة، الصبي / السيدة، الناس/ الأغنياء، السلالم الخلفية / السلم اللولبي، القرى / المدينة، العاملون / المستغلون، إلخ..
إن هذا الصراع مراقب دائماً من قبل الكاتب، وهو يصدر المشاهد الامامية والبارزة منه.
فالقصة القصيرة لا تتيح مثل الرواية، التوغل في هذه التضادات. ويحيى حقي عموماً يقف على ضفة هذه التضادات، ولهذا فإن بنيته القصصية دائماً قصيرة، في حين أن نجيب محفوظ، يتوغل بعيداً في تجليات هذه التضادات. ولذا كان روائياً.
وإذا كانت القصة تقوم فوق تضادات متصارعة، تكشف عن بنية غير إنسانية عامة، فإن الأسلوب القصصي يقوم على الجمع بين التضادات الأسلوبية ويدمجها في بنية فنية راقية.
فنجد التضاد واضحاً بين الفصحى، العامية، البساطة / العمق. الروح/ الشعبية/ الرؤية الحداثية إلخ..
إن اللغة أحياناً تتغلغل بين فصحى جميلة شعري،. و عامية حاراتية بسيطة، لكن الكاتب بضفر بين الجانبين للغة، فتجد أن نمو السرد البليغ، على تضاد حاد مع الحوار العامي، الذي يتحول إلى لغة جميلة. إنه هنا قنديل أم هاشم الذي ينتزع الموروث والحياتي ليوظفه في بنائية جمالية عربية صاعدة. إنه التحديث اللغوي وإعادة خلق اللغة من عنصريها المتضادين، المتحدين أداء ووظيفة وسيرورة تاريخية.
وهكذا أيضاً تتحول بساطة العرض والحدث ومرافقة الراوي الظاهرة للشخصيات العامية، إلى دخول في أعماق التجربة، ورؤية ذلك التضارب العميق بين الشعب العامل والبرجوازية وتجاوزه في إنسانية شفافة وإيماءات وليس عبر التغلغل التصويري الموسع كما فعل نجيب محفوظ.
وفي قصة (سوسو) ص 38 – 50، نجد تقنية عالية، ونذهل لقدرة القصة القصيرة هنا، أن تحمل كل هذه الترميزات. وأن تتحول كذلك إلى قصة ممتعة رائعة.
هنا نجد ذلك النمط الأخر من القص. حين تتوجه القصة لا للتعرية الاجتماعية. بل للوصول إلى تحليل للنماذج الروحية – النفسية – أي أن القصة، هنا ترتفع عن القاعدة الاجتماعية التحتية، لتتوغل إلى صميم الظاهرات الروحية، التي هي موضوع الأدب الإنساني العملاق.
يكثف الكاتب اللحظة القصصية هنا، مكاناً وزماناً، فهي ليست سوى مكالمة من صديق محسن، الذي هو راوي القصة، يدعوه لحضور حفلة عيد ميلاد ابنه الصغير (سوسو) ذي الأربع سنوات، المريض بالداء المغولي. وبين الذهاب للحفلة، وسقوط الابن المحتفى به من فوق الشرفة، يكمن زمن القصة وحدثها وأمكنتها المتعددة الكثيرة.
إن الراوي محسن يعيش في هذه اللحظة، حواراً داخلياً مطولاً، يعري فيه حياته كلها، دون أن يظهر هذا العرى الكامل له.
إن أعجوبة القصة تكمن في هذا العرض / التعرية.
إن ذلك يحدث عبر تصادم النموذجين الرئيسيين في القصة: محسن الراوي، الموسوس. العاجز، ابن المرفهين، الذي ولد من أب شيخ وأم تقضي معظم أيامها في المستشفى، وبسيوني ابن الريف الفقير، الضحوك الانبساطي، الذي يقبل على الحياة بقوة وحب. يتزوج ابنة عمه (زينب) الهيكل العظمي، فيحوله إلى حياة مدهشة.
إن الراوي، وهو في سبيل إعداد هدية لـ«سوسو» يكشف هذا التضاد العميق الواسع، بينه وبين بسيوني.
1 — صور هذا التضاد، تبدأ منذ أيام الدراسة حتى زواج بسيوني، وتتوغل في شتى ظاهرات حياتهما الشخصية. نجد الراوي شكاكاً، يبحث عن أغلى الأدوية في الصيدليات، يصاب بالذعر من أي ممارسة جنسية، يعجز عن القيام بأي علاقة مع امرأة، في حين كان بسيوني يجلجل ضاحكاً من هذه الممارسات ومن مغازلاته الكثيرة، وتتهافت عليه النساء الغنيات، لكنه لا يقبل سوى زينب ابنة عمه، لعل هذا هو سبب مصيبة طفله المغولي. ولكن رغم هذه المصيبة فإن الطفل يتحول إلى مركز لفرح الأسرة واغتباطها، مما يجعل الراوي مذهولاً.
نموذجان متضادان، الأول مخنوق بداخله المريض، لم تستطع طاقات طبقته أن تطلق قدراته، والثاني منطلق، لم تستطع محدودية طبقته، أن تكبح انطلاقات ذاته الحيوية.
وحين يسمي بسيوني ولده المغولي (محسن) تيمناً باسم صديقه. كان هذا ترميزا واضحاً للعلاقة بينهما.. وحين يتردد محسن في شراء هدية عيد الميلاد. بين الدراجة و(الطاحونة الضخمة التي تضاء بالكهرباء وتدور أذرعتها على لحن راقص ينبعث من داخلها) فإنه يختار الطاحونة الفارغة ذات الدوران الداخلي. أو يختار ذاته الطاحنة، لا الدراجة العملية التي يمكن أن تساعد المغولي على الحركة. أو تساعده هو على المشي الاجتماعي الحقيقي.
وحين ينقذف الطفل من الطابق الرابع. في حركة مباغته من الأب الذي لا يعرف أن ابنه في صدر محسن. يكون الراوي قد حكم على ذاته بالدمار.
هكذا تقوم تقنية القصة القصيرة هنا، على موضوعية الراوي في التعبير عن حياة الآخرين، ليعري حياته، عبر بنية دقيقة من الترابط النموذجي. التناقضي والمسيطر. عليه في حبكة، مشوقة، ساخرة. حزينة. مع بث مجموعة من الرموز. لتعميق البنية مثل (سوسو) الطفل والراوي معا. و(الدراجة)، (الطاحونة)، (الشرفة والسقوط).
2 – (سوسو) يمثل المعادل الموضوعي لازمة الراوي.. وهو يناقش وينفي نفسه حين يعرض الطفل. انظر كيف يراه. (ماذا يدور داخل هذه الجمجمة، أي يد مجهولة تكتم عوائها؟ هذا الجسم المتحرك يمثل عندي خنق جبار لقوة جبارة) الخ..
!ن يحيى حقي يدخل هنا الطبقات السفلى من الوعي. معرياً نموذجه. بلا تقرير أو منولوج غامض. حاسماً بين كثافة لغة تشيخوف، ومشرط، دستويفسكي، بين موضوعية القص و«حياديته» الباردة والتوغل العميق المعري، إن القصة تصف البطل من خلال اللابطل، الصحة من خلال المرض. النضال من خلال العجز. جدلية رائعة ورهافة في اللغة والتعبير.
في قصة «عنتر وجولييت» التي سميت المجموعة باسمها، نشاهد أوسع تقنية لإبراز التناقض الاجتماعي، وأوسع عرض لذلك التضاد، الذي رأيناه سابقاً، في قصة (السلم اللولبي) اي تضاد صبي المكوجي فرغلي والسيدة، الشعب والطبقة الوسطى، الفقراء والأغنياء، وعبر ذات الموضوع.
القصة أشبه بالقصيدة، ليس في طريقة رصف الجمل فحسب، بل في هذه الشفافية الشعرية للغة، وبهاء الصورة، وكثرة التضادات المدهشة، وبراعة الاستعارات، وجمال الوصف الدقيق. لنأخذ فقط هذه الجملة التي تبدأ بها القصة:
(هو مسكن فقير، أمامه نصف سطح، تشقه – كأوتار العود – حبال الغسيل).
فمنذ البدء، نجد هذا الاقتحام السريع للمكان، عبر كثافة الصورة، في ثلاث جمل متساوية، ثم تتحول الجملة الثالثة إلى صورة شعرية، كصور (الشعر اليومي)، الذي بدأت القصيدة العربية الجديدة تكشفه.
هكذا تمضي جمل السرد، وصف للمكان والشخصيات، وسرد لحركتها وانفعالاتها وأقوالها، من خلال عين الراوي /الكاتب، بذات الكثافة الصورية الشعرية.
الحكاية من عائلة تسكن هذا البيت، وتشكل النقيض الأول. إن هذه العائلة المعوزة تعيش عالماً صعباً، لكنه حر، فليس ثمة حجاب أمام السماء أو الروح. الأطفال كبار والكبار أطفال. و«الحواديت» ليست عن الجن، بل من الحياة ذاتها. أبواب الشقة مفتوحة للأهل والجيران كوكب الام تثرثر مع الجارة الإيطالية والزميلة الغنية، يجلسون على الأرض ويثرثرون، النوافذ مفتوحة ورتاج الباب مخلوع فماذا سيجد اللص في مسكن كهذا؟ ثم هناك عنتر!! إنه كلب الأسرة. لقد صار لفقراء يحيى حقي لأول مرة كلب، لكنه على شاكلتهم حر، شفاف، إنساني، لا يطيع أحداً يحب الخلوة وعزة النفس، يكره اللعب معه.
هنا نجد «الشعب» الأسرة الفقيرة الإنسانية، المفتوحة للهواء والكلام (حيث لا سيد ولا مسود، ص 115) تعيش ضنكاً، ولكنه ضنك عام (لا يتغلغل في الراوي فيكشف تجلياته المعقدة) لكن هذا الضنك لا يتحول إلى جنة، على طريقة «ما أحلاها عيشة الفلاح» ويشكل الكلب «عنتر» المعادل الموضوعي لهذه الحياة، لهذا القطب التناقضي، فهو مشرد، فقير، حر، إنساني، شجاع..
وفي مقابل هذه الحجرة المليئة بالأولاد. فوق سطح العمارة. هناك فيلا (إجلال هانم) النقيض الاجتماعي الواضح لتلك الغرفة وعالمها الحر. فهنا نجد إجلال هانم، وهي تسيطر سيطرة مطلقة دكتاتورية، حادة وعنيفة على الفيلا. صرخات حادة على الخدم، ذوي الأسماء المختارة المناسبة للصراخ المنغم. وحيث الزوج المستعبد، وفقدان الأولاد.
لقد طور المؤلف سمات السيدة. صاحبة الكلب، التي رأيناها سابقاً. لكنها تتحول من سيدة شقة !لى سيدة فيلا. وتطورت علاقاتها السلطوية والاجتماعية فارتفعت من ذلك التنميط العام جدا إلى نموذج أكثر حيوية وعمقاً.
ولهذه الأسرة ترميزها المختلف، أو معادلها الموضوعي المغاير، وهو هنا كلبة اسمها «جولييت». فإذا كان «عنتر» هو وجه الفقراء، العبيد. الشجعان، فإنه هنا في «جولييت» الأغنياء. الأجانب. التسلط، العقم.
ولكن الكلبة جولييت ليست متل سيدتها، صحيح أن جولييت ذات شعر حرير وذهب، وعيونها وفمها تمسح بمنديل، وإذا مرضت يزورها طبيب. تعالج بالحقن الغالية، وتؤتى لنا الهدايا. تعرف كثيراً من الألعاب. الا أنها أيضا تعيش عذاب سيطرة السيدة، وتتوقع الكوارث دائماً وتصاب بالكآبة نظراً لهذه الرعود المفاجئة من السيدة.
إن تصادم الأسرتين: الفقيرة والغنية. لا يأتي عبر طريق مباشر. بل من خلال علاقة غير مباشرة، أي حين يقع الرمزان، الكلب والكلبة، في سيارة البوليس المرعبة.
إن هذه اللقطة الحديثة التصادمية الغريبة، تعيد ترتيب كل جزئيات القصة. ففجأة نجد أنفسنا أمام صراع اجتماعي. فجولييت التي تقع عدة ساعات في الحبس. تقام الدنيا على اختفائها. وتشتعل أسلاك التليفون بين الفيلا والمسؤولين والضباط، بينما يجثم عنتر في مكانه معتقلا، دون أن تتمكن السيدة كوكب، من جمع ثمن الغرامة وتركض في الشوارع هائجة دامعة.
يحيى حقي يوسع هنا دائرة الصراع بين القطبين المختلفين عبر بؤرة جانبية، إنسانية ورومانتيكية، وهو يصور تنامي الصراع واتساع شبكته وتباين عوالمه الروحية.
إن هذه القصة القصيرة تحول أن تقوم بما تؤديه الرواية، لكن لماذا تتوقف مثل هذه القصة القصيرة الساخرة، الناقدة، المحبة للشعب، عن التحول إلى روايات تتغلغل في تحليل تناقضات المجتمع؟ ولماذا لم يتوسع كشف صراع الشعب الطبقة الوسطى، وهو أساس تناقضات الحضارة الحديثة، ويتجلى بمستوياته المختلفة، العميقة؟
هل يعود ذلك إلى الوقوف المستمر للكاتب على شاطئ السؤال، عبر الاكتفاء بتلميحات وظلال (قام بتوسيعها في صح النوم) بدلاً من المشرط الحاد الذي أمسكه نجيب محفوظ، حيث أتسعت أدواته في عرضه، وتعدد بؤر الكشف وآليات الإبداع التي حصل عليها نظراً لهذا الموقف؟(2).
يخيل إلي أن استمرار يحيى حقي في القصة القصيرة، والإكثار من اللقطات الجزئية، والنقد الجانبي، ثم تحول القصص إلى «لوحات» كل ذلك كان يشير إلى أهمية العبور إلى بحر تحليل التناقضات ومستوياتها المختلفة، وامتداداتها التاريخية والترميزية.
لكن هذا لا يقلل أبداً من عظمة يحيى حقي القصصية ومواقفه، الذي يقول عنه المفكر محمود أمين العالم (.. فيحيى حقي هو ابن ثورة 1919، وهو امتدادها الفكري والأدبي والفني المتجاوز لها في الوقت نفسه، ألم ينتقد هذه الثورة لأنها لم تتحول إلى ثورة اجتماعية) (3).
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
(1) عنتر وجولييت. الهيئة المصرية العامة للكتاب. طبعة 1986، – مصر.
(2) راجع موقفه السياسي — الإبداعي عن الحقبة الناصرية في كتاب (المثقف العربي والسلطة) – تأليف سماح إدريس – وهو بحث في روايات التجربة الناصرية. دار الآداب 1992، بيروت.
(3) مجلة ابداع — العدد الأول يناير 1993، – مقالة (يحيى حقي… ناقداً).
(4) فجر القصة المصرية مع ست دراسات أخرى عن نفس المرحلة – يحيى حقي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1987، – مصر.
