في نقد الوعي …
كتب قاسم حداد سلسلة من المقالات بعنوان «وقت للكتابة» انتقد فيها من أسماهم بــ«الكرنفاليين»، وقد نشرت هذه السلسلة في عدة صحف خليجية.
وقد تناولت موضوعاته قضايا كثيرة، كان غالبها الأعم استشهادات وقراءات من كتب دون تحليل يذكر لواقعنا الثقافي.
وهو في مجمل مقالاته لا يقترب من القضايا الحقيقية والفعلية التي يدور حولها الصراع الفكري في الحياة الأدبية البحرينية.
وسوف نحاول هنا أن نقتضب ما أمكن في مناقشة هذه المقالات، مركزين على بعض من الأمثلة المطروحة، متجهين بعد هذا الى المنظور الفكري الذي يحكم هذه «التحليلات».
ان رصدنا للتناقضات الفكرية سيدفعنا الى كشف الخيط الخفي الذي يكمن وراء هذه التناقضات.
أصل الصراع
لا نجد في ارائه وملاحظاته حول الصراع الأدبي في البحرين مفاتيح حقيقية لفهم وتحديد هذا الصراع وتاريخه.
في مقالة «كرنفال الكلام» يطرح ما يلي:
«وكان المطلوب من القارئ أن يصدق بأن هذا هو النقد الأدبي الذي تفتقر إليه الحركة الثقافية طوال الوقت، وان هذه الحركة بحاجة الى مفوضين جدد لردع أي انحراف عن المسار (الواقعي) المقدس حتى لو أدي ذلك الى تصفية الخصوم. هكذا نرى بأن كل من لا يروق لهؤلاء المفوضين في مجال الفن والأدب محكوم بالسقوط ومدان بالانحراف، واصبحت كل تجربة أدبية أو فنية مرشحة للمحاربة، ما لم تكن ممتثلة لقناعاتهم».
ويضيف في مكان آخر:
«لكن المعضلة التي يعاني منها أصحاب الكرنفال أنهم يؤمنون ــ لاهوتيا ــ بأن (نظاراتهم) هي الوحيدة الصالحة لرؤية وتقييم الأعمال الأدبية والفنية، لذلك فأنهم يأتون الى الموضوع وهم مجهزون بكامل عدتهم العسكرية».
من هذه العبارات نكتشف ما يلى:
1ــ أن أصحاب الاتجاه الواقعي لا يريدون سوى اتجاههم في الحياة الثقافية متجهين الى تدمير كافة الاتجاهات الأخرى.
2 ــ انهم يأتون إلى الأدب والثقافة بأدوات سياسية محضة، فهم مفوضون ومأمورون، لتكريس الأدب الواقعي وتحطيم ما عداه.
3 ــ أنهم معادون للحرية الأدبية وتعدد الرؤى، يتجهون لتصدير الأوامر من فوق إلى الكتاب لتحريكهم باتجاه محدد فقط ومن خرج عن هذا الاتجاه فالويل له!
ولكن ما لم نفهمه من هذه العبارات هو ما يلى:
■ أنه لا يوضح طبيعة الاتجاهات التي يحاربونها، فما هي صفة تلك الاتجاهات المحاربة؟
■ يتجنب الحديث عن قضايا محددة ومواقف ملموسة لهذه المحاربة . . فكيف عارضوا ودمروا (كل) الاتجاهات وأين؟
إننا في كل ما قاله لم نلمس انهم حاربوا الجميع وطمسوا كل الاتجاهات والتيارات، أي لم نقرأ ذلك الهجوم الساحق المدمر على كل المدارس. فلم نقرأ هجومهم على الرومانسية في القصة والشعر مثلا. لم نر رفضهم التام للواقعية النقدية الخ . .
اننا هنا بحاجة الى قضايا محددة، نريد أن نرى التدمير الشامل وكيف تم؟!
واستكمالا لوجهة نظره، ووصولا الى «جذور» القضية يقول:
«نحن نشعر حقا أن جدانوف لم يمت ومن يتأمل كتابات (واقعيينا) سوف يكتشف ذلك، وربما قد يؤمن ــ بلا جدال ــ بالتناسخ، لكن سوء حظ جدانوف جعله يتقمص ادمغة لا تحسن الدفاع عن التعاليم ولا تجيد الهجوم (العلمي) أيضا».
من موضوع: السياسة تذهب والفن يبقى.
لقد وصل هنا الى نقطة تنظيرية واستطاع أن يربط بين (الواقعيين) في البحرين وجدانوف الروسي الذي ظهرت آراؤه في الثلاثينيات في الاتحاد السوفيتي أيام ستالين!
لكنه للأسف لم يتوغل أيضا في هذه النقطة:
■ فأين هي الصلة بين ما طرحه الواقعيون في البحرين وبين ما طرحه جدانوف؟ إننا بحاجة مرة أخرى إلى الامثلة الملموسة التي توضح رابط الأفكار المشتركة. فلا بد من حيثيات وبراهين تثبت أن تحليلات هؤلاء الواقعيين ومنهجهم هو منهج جدانوف نفسه.
■ يقول «من يتأمل كتابات واقعيينا سوف يكتشف ذلك» واذا كان الأمر بهذه البساطة فلم لا يتم كشفه عبر تحليلك أنت؟ لم تدعو القارئ للاكتشاف وتعجز انت؟
■ ويقول «ومن سوء حظ جدانوف جعله يتقمص ادمغة لا تحسن الدفاع عن التعاليم» ونسأل: كيف تم هذا التقمص السيء؟ أين هي الصلات الفكرية والفنية لهذه العملية التقمصية؟ إن القضية ليست ثرثرة وسخرية بل هي تحليل مدعم بالبراهين، فأين هي البراهين؟!
كان على الكاتب في نقده للأفكار التي اعتبرها خاطئة وجامدة، عند جدانوف والواقعيين في البحرين، أن يأتي بنماذج تبين الخطأ والجمود عند كلا الطرفين، أما دعوة القارئ ليكتشف بنفسه في خاتمة المطاف فهي عجز فاضح من الكاتب الذي تصدى للكشف والمقارنة وتتبع جذور الأخطاء!
من كل هذه الاسئلة نصل الى ما يلى: لم يستطع الكاتب أن يدلل على افكاره، فهو في البداية صور الصراع الادبي البحريني بأنه بين الواقعيين وكل الحركة الأدبية واتجاهاتها الفنية، ولكن في خلال سيره لم يبرهن عبر النصوص والوقائع محاربة الواقعيين لكل الاتجاهات وللابداع الفني، ثم اتخذ لنفسه نفقا جديدا هو الهجوم على (جدانوف) ولكنه أيضا لم يعمق هذه القضية بربطه ومقارنته لظاهرة جدانوف وظاهرة الواقعية في البحرين، ثم ترك المسألة كلها لذكاء القارئ وحده!!
ماذا يكشف هذا المنطق؟
في البدء لم يأت لهذا الصراع الأدبي باعتباره صراعا أدبيا وفكريا له جذوره في التربة المحلية والعربية، فخصومه لا علاقة لهم بالأدب والحركة الثقافية، مجرد جسم غريب (مندس) في الواقع الأدبي، وهم جسم سياسي دخل الأدب بدون أية شرعية. ثم وجد لهؤلاء اصلا في جدانوف دون أدلة وهكذا تم ببساطة توضيح الصراع (الأدبي) وحسمه.
جماعة تشتغل لرجل أجنبي ميت. هذا هو الصراع الأدبي في البحرين!
لقد علق ظاهرة الصراع الأدبي في الهواء، وقام بنتقاء أجزاء صغيرة هامشية، ثم راح يحاربها من خلال بعض الجمل القصيرة ومن خلال استشهادات كثيرة من خارج الصراع ذاته.
انهم ليسوا أدباء، أنهم جامدون يريدون فرض نموذج ميت من الواقعية، وهم قلة قليلة لا يعتد بها.
هذا هو المانشيت الأساسي. ولكن إذا كانت المسألة كلها غبار وفقاعات من الهواء فاذن لم كل هذا التصدي والانفعال والكتابة الطويلة؟
إذا كانت القضية بلا جذور في عمق الواقع فلم كل هذه الضجة؟
إن الواقعية في البحرين لا تحارب كل التيارات الأدبية، لأنه في الكتابة الحديثة في بلدنا لا توجد أساسا الا مدرستان أو اتجاهان أدبيان فحسب!
ان الواقعية ــ وهي نزعة في طور التشكل محليا ــ لم تنشغل بإلغاء كل المدارس، لأن هذا (الكل) غير موجود أصلا.
بدأت الحركة الأدبية البحرينية منذ منتصف الستينيات ونمت بذور للمدرستين عبر هذه الفترة القصيرة نسبيا. لقد ظهرت نزعة واقعية في كتابات عديدة وظهرت نزعة شكلية. وقد كان تطور الأدب في البحرين هو نتاج الصراع بين هاتين النزعتان في أدب بعض الكتاب، وأدب الكتاب الواحد أحيانا، ولكن المسار كان يتجه لفرزهما وتحديد كتابهما.
في الفترة الأولى للأدب البحريني الوليد وحيث كان المد الاجتماعي الوطني قويا في الستينيات وبعض سنوات السبعينيات، تبوأت (الواقعية) مكان الصدارة والأهمية، حيث كانت أشكال الوعي في حالة مد وبحث وكشف لمشكلات وقضايا الواقع. وقد لعب الأدب البحريني حينئذ دورا هاما في عملية النقد والتعبئة الفكرية للتغيير.
ولهذا انفصل أدباء قليلون جدا عن التيار العام (الواقعي) في مجملة وعارضوا الحركة الأدبية، متهمينها بالتسيس وباعتبارها خادمة لقوى غير أدبية، وبأنها تحول الأدب الى اداة غير فنية، ورفعوا شعار (معركة بلا راية).
وقد لعب العديد من الأدباء الحاليين دورا في التصدي لتلك الشرذمة، وكان المنطلق هو شعار (المعركة لها راية) وشعارها (الكلمة من أجل الإنسان) الذي تحول شعار رسمي لأسرة الأدباء والكتاب تضعه في الندوات والأمسيات الشعرية وأمام الجمهور!
وفي الفترة الثانية للحركة الأدبية برز التيار الشكلى بقوة أكبر. لقد كانت جذور هذا التيار موجودة منذ البداية، حيث تم التأثر بأفكار أدونيس وروج لها في حياتنا الثقافية.
لكن في البداية لم يستطع هذا التيار الصمود لاندفاع الحركة الأدبية باتجاه كشف الواقع، بل إن بعض الأدباء الشكليين أنفسهم ساهموا في أوقات خاصة من حيواتهم في خلق كتابات واقعية أيضا!
إن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبيرة التي تمت في السبعينيات ساهمت في تعزيز الاتجاه الشكلى، فقد ظهرت فئات طفيلية عديدة في المجتمع، وشحب اتجاه تغيير الحياة ودفعها باتجاه التقدم وانتشرت موجة اليأس والارتداد والضياع والخوف. مما جعل الاتجاه الشكلى يهيمن على الحياة الثقافية.
الاتجاه الشكلى هو ابن هذه المرحلة البار، اتجاه يندفع فيه الكاتب الفردي ذو النزعة الانعزالية إلى عملية تثوير (اللغة). وتغدو الكتابة لعبة لغوية وتدميرا للصور والبناء. انه وقت تشحب فيه عملية تملك الواقع فنيا واستيعابه ونقده. ويندر فيه ظهور الكتاب المتصدين لفهم الحياة ونقدها بكل شجاعة.
إذن الاتجاهان نميا داخل الحركة الأدبية، وداخل البناء الاجتماعي، ومن خلال تجربة خاصة لكل منهما، ومن خلال تأثرات معينة بالفكر الأدبي العربي والعالمي. فالمنطلق الجوهري الأساسي هو منطلق داخلي اجتماعي ثقافي أولا.
التأثرات بالخارج هي عوامل ثانوية مساعدة تساهم في تسريع وبلورة الاتجاهات الداخلية ولكن لا تصنعها. فسبب الظاهرة كامن في البنية الاجتماعية المحددة وتأتي التأثيرات لتغذى بذورا كامنة فيها.
وبطبيعة الحال فإن درجة التجذر مختلفة بين النزعتين، فإذا كانت النزعة الشكلية في البحرين هي نتاج علاقة
بأدونيس ومجلة (مواقف) دون أن يكون للشكليين قاعدة فكرية عميقة يستطيعون عن طريقها هضم ونقد هذا التأثير الضار، ودون أن يدركوا الابعاد السيئة الخطيرة لهذا التأثر، فإن النزعة الواقعية كانت وليدة شرعية للموجة الاجتماعية وافكارها. لقد كانت نقلة نوعية في مسار الحياة الفكرية والأدبية في البحرين.
أن محـمد عبدالملك ككاتب ذي نزعة واقعية مثلا لم يتطور كمبدع من خلال تنظيرات خارجية، أو بسبب ايعاز جدانوفي، بل لقد نمت الطريقة الواقعية من خلال النماذج البشرية التي صورها والتي تأثر بها. لقد تطور من خلال تفاعله مع الحياة المحيطة به ومحاولاته لفهمها ونقدها. استفاد من تشيخوف وموباسان الفرنسي ولكنه وجد طريقه الخاص. اننا نستطيع اعتبار نزعته الواقعية لونا خاصا من الواقعية ذي نكهة بحرينية ــ عربية.
وكان لأمين صالح في بداياته الأولى نزعة لتحليل الحياة كقصته (الحاجز) ولكن مع بداية طرح مفاهيم أدونيس عن تفجير اللغة وتثوير الصورة وصفع القارئ ابتعد عن هذه النزعة ودخل في (السريالية). ولقد عكس هذا أيضا نزعة خاصة في حياتنا الفكرية . حيث أن المثقف البرجوازي الصغير المنعزل عن عملية تحويل الواقع، والمتأثر بالأدب الغربي البرجوازي، هو ظاهرة جديدة نشأت لدينا.
ولكن التأثرات الشخصية تلعب دورها في زرع النزعة. فقد تأثر أمين صالح بأدونيس وخاصة بعد أن قام الأخير ــ كما قيل حينذاك ــ بترجمة قصة أمين صالح (هنا الوردة . . هنا نرقص) الى اللغة الفرنسية. والقصة تصف البطل عندما يخرج من بطن أمه مع نظارته ومخاط الولادة!
وهذا يوضح طبيعة التأثر، فالشكلية قامت على أساس القراءة الخارجية وتداول أدبيات بعينها. لكن الواقعية نمت على رصد الواقع المحلي وكشفه.
1ــ قصص أمين صالح ومناخه ليس محليا، أنه واقع متغرب نتاج القراءة والمطالعة السينمائية والتلفزيونية، لا نستطيع أن نكشف فيه خصائص واقعه . . ويستطيع القارئ أن يراجع تحليلنا لمجموعة (الفرشات) و(هنا الوردة . . هنا نرقص).
2 ــ ولهذا فنحن عندما ننقد أمين صالح لا نطلب منه أن يتبنى رؤيتنا، بل نطالبه فقط بتدمير هذه السحابة الغربية وأن يتجه لتحليل واقعه بما يريد من رؤى.
فهل تعتبر دعوة الكتاب للابتعاد عن هذه الأجواء الغرائبية السريالية ذات النكهة الغربية دعوة للدخول فقط الى مدرسة الواقعية الاشتراكية الجدانوفية أم هى دعوة لتأصيل الأدب في تربتنا الوطنية؟
كل هذا يوضح أن قضية الصراع الأدبي ليست مسألة مزاجية فرضها (الواقعيون) لتدمير كافة الاتجاهات الأدبية، بل هي نتاج هذا الصراع الذي تشكل عبر سنوات الحركة الأدبية كلها بين النزعة الواقعية والنزعة الشكلية.
إن ظهور الكاتب المرتبط بقضايا شعبه، والكاتب المنعزل المشغول بالتفجيرات اللغوية، هو أمر ظهر في مجرى الحياة الثقافية.
إذن التهمة التي أراد قاسم حداد الصاقها بالتيار الواقعي كانت هي تهمته الحقيقية. أن تزعمه للنزعة الشكلية وعلاقته بأدونيس ومحاولاته لترويج افكاره في حياتنا الأدبية منذ بداية السبعينيات هي العملية التي تسببت في الصراع وديمومته.
لقد قام الشكليون بمحاربة محـمد عبدالملك كقصاص واقعي، وعلي خليفة كشاعر واقعي وشنوا على الأخير حملة فكرية. ونقدية كبيرة بدأها يعقوب المحرقي في دراسته عن شعر علي خليفة. ثم وجهوا نيرانهم إلى جميع من حاول أن يستوعب قضايا بلده وقاموا بإبعاد كتاب شباب عديدين عن طريقهم وخربوا نموهم الطبيعي .
لقد بدأ الشكليون الهجوم على كل ما هو نظيف في حياتنا الأدبية منذ البداية، ولم يتم تعرية هذه النزعة إلا في المدة الأخيرة حينما اتضح للعديد من الكتاب والقراء الدمار المشين الذي سببته لأدبنا الوليد.
الكتابة والحرية
يفرد قاسم حداد لمسألة الكتابة «الحرة» فصلا خاصا، وكعادته ينطلق في برية العموميات والمطلقات الغامضة دون تحليل للقضية المثارة.
يقول:
عندما نقول: الكتابة الجديدة فأننا نعني تلك الكتابة التي تكون سيدة الواقع وليست عبدة له. والواقع هنا يتجلى في كافة الأشكال والمنظومات التي تحيط بالإنسان، إن كانت مادية أو معنوية.
فالكتابة الجديدة حين تكون سيدة الواقع فأنها تتمتع بحريتها في أن تتناقض مع كل السلطات ، عندما تريد أن تستحوذ على تلك الطاقة الغامضة التي يتميز بها الكاتب الابداع ، وتوظفه في خدمة مشاريعها.
في هذا النص يتجلى ما يلي:
1 ــ الكتابة الجديدة هي «سيدة» الواقع.
2 ــ الكتابة الجديدة حرة في تناقضاتها مع جميع السلطات.
ولنوضح للقارئ هذه الدهاليز من التعميمات علينا أن نلقي بضعة اسئلة حول الفقرة:
■ ما نوع هذه الكتابة «الجديدة» وهل هي فعلا جديدة؟
■ هل هناك كتابة حرة وكتابة عبدة من الناحية الإبداعية؟!
■ ما هي هذه الحرية المناقضة لجميع السلطات على إطلاقها؟
■ ما هو التعريف المستخدم هنا للسلطة؟
بطبيعة الحال الكاتب لا يجيب على ربع هذه الأسئلة، فهو يتجنب الوضوح والتحديد ما أمكنه ذلك، ومع هذا سنحاول ان نناقش هذه التعميمات ونكشف خباياها.
كتابة حرة وكتابة عبدة!
الحديث عن وجود كتابة حرة وكتابة عبدة في حياتنا الثقافية البحرينية هو خرافة تضليلية تستهدف إبعاد المناقشة عن جوهرها الحقيقي. فالإبداع إذا كان ابداعا حقا هو مسألة ذاتية حرة مستقلة تماما، وإلا ما كان ابداعا.
ان تبدع هو ان تخلق وتشكل عالما من ابتكار الذات المبدعة التي تستجيب لقضايا الحياة وتقدم تصوراتها الفنية المبتكرة.
فقدرة الكتابة ومدى جدتها تتحدد ليس بمقولة «السيادة» بل في تملك الواقع واكتشافه وتحليله ونقده وتجاوزه.
واهمية الكتابة هي في هذه القدرة على استبصار الحياة، اما العبودية أو السيادة فهي الفاظ فارغة لا تعني شيئاً.
ونستطيع أن نفهم أيضا ايحاءات كلمتي «السيادة» و«العبودية». فأن تكون الكتابة سيدة، في هذا المفهوم هو ان تشطح ما شاء لها الشطح، ان تكون هذيانا، أو هلوسة، أو لهوا غامضا، اما ان تكون عبدة فذلك يعني، حسب هذا المفهوم ذاته، أن ترصد الواقع وتكتشفه وتعريه.
ان يبتعد المبدع عن الحياة وقضاياها، وينطلق في فوضى من الصور هذه هي السيادة. اما ان يقوم بالعكس فهي عبودية وتخلف وتقليدية! من جديد نرى التناقض الذي لا حل له في المنهج الميتافيزيقي. فان تكون حرا يعني أن لا تلتزم بأية مسؤولية اجتماعية. والابداع الخاص امر لا يرتبط بالفهم العميق الموضوعي للحياة في نظرهم.
ان ابداع الذات الحرة لا يتناقض أبدا مع الالتزام وتبني موقفا تغييرا للحياة بل على العكس يتطلبه! ان الفنية والخلق المبتكر لا يتعارضان مع المسئولية الوطنية.
إن العديد من الفنانين الملتزمين بقضايا شعوبهم كانوا احرارا ومبتكرين، بل إن ذلك الانتماء الحقيقي هو اشعل جذوة الابتكار والحرية لديهم!
الكتابة الحـــرة
يتصور الابداع «الحر» بأنه الذي يتناقض مع جميع السلطات، أما الإبداع «العبد» فهو الذي يتوافق.
ولكن ماذا يعني بالسلطات؟
انه يقصد جميع التيارات والقوى الاجتماعية سواء كانت المسيطرة أو المعارضة، كما أوضح مرارا في مقالاته «كرهين المحبسين».
الإبداع الحر هو الذي يمتلك الحرية في التناقض مع الناس والدولة، الوطن والاستعمار، اليسار واليمين.
انه الابداع الذي يقف فوق الجميع، انه «سيد» الواقع، الذي لا ينتمي لأحد، ويحتفظ لنفسه بملكوت معارضة الكل.
انه الابداع الذي يتوافق مع هذه أو تلك من القوى، الإبداع الذي «يرتبط» بالوطن أو الاستعمار، باليسار أو اليمين، الخ . . الإبداع «العبد» إذن هو الابداع المنحاز، المنتمي، الموظف، حتى لو كان مع الفقراء، حتى لو كان مع الدولة الوطنية.
■ اذن نصل هنا الى معرفة وجه من وجوه «الإبداع الحر» فهو الابداع غير المرتبط بالقوى الاجتماعية ومعاركها وقضاياها. ولكن هل هناك ابداع غير مرتبط بالقوى الاجتماعية؟
لا يوجد إبداع خارج الانتماء الاجتماعي فتلك ضرورة حتمية وان تجاهلها المبدع أو اخفاها.
قاسم إذن ـ في تصوره الايدلوجي التعتيمي لانتماء الابداع ــ يوهم الآخرين بأن هناك إبداعا خارج الانتماء الاجتماعي ـ السياسي. وينفخ هذا الوهم بكلمة «سيد الواقع»!
اذن ومرة اخرى يعود شعار «معركة بلا راية» في الأدب البحريني الحديث. حيث يتحول الابداع الى ابداع غامض بدون هوية ولا راية ولا انتماء.
ونحن هنا بغض النظر عن التاريخ والنوايا نود ان نتابع النص لكشف دلالاته، فلا نريد ان نعلق هنا فلنتابع.
مواصفات الإبداع «الحر»
ليس للإبداع «الحر» مواصفات كثيرة للأسف، فهو لانه حر يبخل بالوضوح، ولانه ضد التيارات والألوان لا يكشف لونه الخاص.
فهو ابداع مطلق، ليست له رائحة ولا لون ولا مذاق وليست له هوية.
الشيء الوحيد الذي أوضحه لنا هو ما يلي:
«وحرية الكتابة الجديدة تتصل بطبيعتها الرؤيوية تجاه فعل الحياة وفعل الإبداع، في آن. إنها لا ترى الحقيقة الجوهرية في مظاهر الواقع، بهدف اكتشاف العناصر المكونة لأسرار الحياة ولحركتها الداخلية، حيث هناك تبدأ الحياة الحقيقية لهذا الواقع ومن هناك فقط ينبغي أن يتفجر ابداع الحياة».
من هذا النص نصل إلى تحديد لاتجاه تلك الكتابة «الحرة» فهي التي:
■ لا ترى الحقيقة الجوهرية في مظاهر الواقع.
■ وفي الوصول للعناصر المكونة لأسرار الحياة يبدأ الابداع.
ومرة اخرى تصطدم باللغز. الكاتب لا يريد ان يوضح طبيعة افكاره فهو يلف ويدور دون ان يتضح أي شيء عميق.
ومع هذا لابد لنا من تحليل النص.
كالعادة هناك تناقض لا يقبل الحل بين مظاهر الواقع وجوهر الواقع. وهو لا يعطينا امثلة لهذا التناقض المزعوم.
فهو لا يحدد ما هو الواقع؟ وما هي مظاهره؟ وما هو جوهره؟
وكيف تستطيع الكتابة «الحرة» «الجديدة» أن تتجاوز المظاهر لتصل فقط إلى الجوهر؟
الــواقع
نستطيع بدون اللفلفة الطويلة ان نقول ان الواقع هو المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب، دون أن ننسى بطبيعة الحال تاريخ هذا المجتمع والعصر المحيط وتأثيراته، والطبيعة الذي يعيشها ويغيرها هذا المجتمع.
والكتابة «الجديدة» حقا هي التي تتوجه الى جوهر الواقع لكن مع المرور الحتمي ببعض مظاهرة الهامة.
وفي الادب بالذات تغدو التفاصيل وبعض المظاهر المهمة جسرا لا يمكن تعويضه للوصول الى عمق الظاهرة.
أن الازقة وصور الأرصفة ومشاهد اللقاءات العاطفية والمناقشات الفكرية والأحلام والصدامات الشخصية والزوجية وغيرها حين تؤخذ منفصلة عن الصراعات الاجتماعية الاساسية تكون فعلا تفاصيل ومظاهر لا اهمية لها، ولكن حين تتحول الى جسور لكشف اعماق الظاهرات تغدو تفاصيل ومظاهر لا بديل عنها.
وهل يستطيع أي كاتب أن يكشف الظواهر الروحية والاخلاقية والفلسفية دون ان يضع البشر في محيطهم الاجتماعي الخاص.
فراسكولينكوف بطل «الجريمة والعقاب» الفردي الفوضوي الذي يريد ان يلغي القانون الأخلاقي، لم نستطع أن نراه في أزمته الروحية تلك دون ان نطالع الغرفة البائسة التي يعيش فيها والظروف الرهيبة التي يحياها الفقراء أمثال اسرة مارميلادوف، ودون أن نرى بالمقابل المرابية العجوز البخيلة.
لقد تشكل المعنى العميق للرواية عبر هذه الجوانب الملموسة البسيطة، عبر هذه المظاهر المختلفة للحياة التي نمر بها كل يوم. ان المعمار العملاق للرواية ودلالاتها الفكرية والفلسفية الكثيرة تشكل من هذه العلاقات والوجوه والشوارع والازقة البائسة وقاعات المحاكم ومناطق النفي.
تشكل كل هذه الاشياء «صورا» بدونها يستحيل التوغل الى النفسية والجوانب المجردة الأخرى. فبدون الملموس لا يظهر المعنوي، وبدون المظاهر ينعدم الجوهر!
وهنا نستطيع ان نصل الى نتيجة لابد منها فـ قاسم يريد ان نلغي المظاهر والمشكلات الاجتماعية والقضايا الأخلاقية والسياسية والأمور الاقتصادية لكي نصل هكذا بقدرة قادر الى جوهر الواقع كلُب وجوهر خالد نقي مصفى.
ولكن دلالة هذه الكلمة حقيقة هي قيادتنا الى فوضى من الصور والهذيان والابنية الغامضة باعتبارها هي الجوهر.
ثمة إصرار على الابتعاد عن «الحياة» ومشكلاتها، للدخول في متاهة من الأشياء غير المفهومة أو الميتة.
تتحول الفوضى أو العزلة الشاحبة الى «الابداع الحر» أما تحليل الواقع وتصويره عبر مظاهرة للتغلغل الى أعماقه فهو «الابداع العبد»!
الحــــرية
لقد رأينا عملية الوصول الى جوهر الواقع تقودنا الى اكتشاف التناقضات الاجتماعية باعتبارها المحرك والدينامو للحركة الاجتماعية ومظاهرها المختلفة.
والأدب في هو عملية وعي خاص تتجه لاكتشاف هذه التناقضات وتجسيدها، لأنه عبر تجاوز التناقضات تتسع سيطرة الإنسان على واقعه وعلى ذاته!
إن الكاتب الذي يعيش في جنوب افريقيا حيث يضطهد عشرون مليونا من السود ستتشكل حريته الإبداعية عبر اكتشاف هذا الواقع المرير من خلال العديد من ظواهره خاصة العاطفية والاجتماعية والفكرية . .
ولا شك أنه ككاتب حقيقي لن يقف إلا مع العشرين مليونا ومن اجل حريتهم وتطورهم الشامل.
ولن تتناقض موهبته وحريته الإبداعية وتطويره لفنه وتوصيله مع الحرية الاجتماعية المطلوبة لشعبه، بل على العكس ان موهبته وحريته الإبداعية لن تتألقا إلا في هذه المعركة.
ولكن حين ينعزل ويعتبر عملية العزل العنصري والمدن المحرمة على السود والمناجم الرهيبة والبنوك الجبارة المملوكة للبيض والسجون المخصصة للسود، تعتبرها كلها مجرد «مظاهر» لا تشكل «جوهر» الواقع، فانه بكل تأكيد ليس فنانا حرا.
فابتعاده عن الحقيقة بتبريرات واهية، وهروبه من المعركة بمجموعة من الألغاز، والحديث الطنان عن «الجوهر» و«السيادة» لا تعني سوى تكريس القيود والزنازين والسياط التي هي مظاهر لا تستحق النقد!
لقد صار تعريف الحرية شائعا وهو انها «فهم الضرورة والسيطرة عليها».
والضرورة هي أيضا قوانين التطور الاجتماعي التي تعبر عن الأحداث والحركة ويغدو الانسان «عبدا» حين لا يفهمها، ويتحول الى حر متى فهمها وسيطر عليها.
هناك ضرورات في كل شيء: في الواقع الاجتماعي بكل مظاهرة. وفي الطبيعة بكل جبروتها وتحولاتها.
أن الضرورة في مجتمع جنوب أفريقيا هي تحرر المضطهدين من الاستغلال الرأسمالي الاستعماري «الابيض».
وتكمن حرية الكاتب الحقيقة في فهم هذه الضرورة الاجتماعية وتجسيدها. ولن تكون كتابته بالضرورة عن «موضوع» سياسي، بل هي ربما عن علاقة عشق بين فتاة بيضاء و شاب أسود. وربما كانت عن رحلة صيد لقرويين زنوج. ولعلها كذلك عن حياة اسرة في منعزل عنصري خاص.
عبر كل هذه الظاهرات المتباينة سيصطدم البشر بواقع المجتمع الجوهري، أي بسيطرة اقلية مستغلة تنهب وتعزل البشر عن الحب والفرح والحياة.
المسألة ليست نية مسبقة من الكاتب ولكنها «ضرورة» كامنة في أعماق المجتمع تصل إليها الكتابة الجديدة الحـر الشجاعة دون أن تخاف سيطرة الأقلية ومنعها لانتشار مثل هذه الحقائق.
وإذا كان للحياة الاجتماعية ضروراتها فللفن والابداع ضروراته أيضا أي له قوانينه الخاصة المستقلة نسبيا عن قوانين الحياة الاجتماعية الاخرى.
فالإبداع لن يعبر بالتقارير والمعادلات والجداول عن الحياة، بل بواسطة الصور والنماذج والموتيفات والحكايات الخ . . والضرورة الفنية الرئيسية في عالم الأدب هي التعبير بالصور، وهنا يكمن الفارق النوعي المميز للأدب.
الصور بظهورها ونموها وتآزرها تشكل لوحات يندمج فيها الكاتب بالواقع ويعبر عنه ويحوله.
ولكننا رأينا ان قاسم ضد المظاهر أي ضد ان تتشكل صور تعبر عن الجوهر. ولهذا تكمن حريته الشخصية في تحطيم وتدمير «الضرورة». فهو لا يبغي أن يستسلم لقانون الفن الأساسي باعتباره تعبير بالصور، فهو يريد شيئا آخر، لم يستطع ان يعبر عنه أو يشكله.
ولكن مثل هذه الحرية غير موجودة، كما أن التجديد غير ممكن بهدم الصورة أو الغاء الظواهر. إن التجديد والتطوير يكمنان داخل عملية استخدام الصور. ومن خلال توظيف هذه الصور لتجسيد حقيقة الحياة تكمن حريته وحرية الآخرين.
الاتصـــال والانفصـــال!
كما ان هناك ضرورة أخرى تتحدد في ضرورة «الاتصال»، الادب ليس نتاجا للفرد بل هو نتاج من قبل الفرد للآخرين. وهذه الضرورة لا يمكن تبديلها أو تفجيرها!
وحين تكتب أدبا بلا صور، مشوشا، فوضويا، لأنه يتجه الى الجوهر المطلق كما تزعم، ولا يعبر بالجزئيات واللقطات في سبيل الوصول الى تجسيد الرؤية، فأنك تلغي الضرورة وهي ضرورة اتصال الكلمة بالمتلقي.
يزعم قاسم انه يريد قارئا جديدا، ولكن اين هو القارئ الذي يمكن أن يفهم كتابة بلا صور ولا مظاهر ومشوشة؟ المسألة ليست في القارئ القديم أو الجديد، بل في تشكيل أدب يخلو من وسائل الاتصال.
انهم يريدون قارئا ليس جديدا بل قارئا يقبل فوضى الشكلية. وعندما يرفض القارئ هذه الفوضى وهذا العجز عن تشكيل لوحة من الصور المعبرة عن قضية، سيقولون إنه قارئ تقليدي عاجز. تماما كما يقولون حينما يرفض الكاتب الجديد السريالية أو الموجات الغربية الشكلية!
وربما يظهر مثل هذا القارئ الذي يستلذ بهذه الموجات، ولكنه حتما لن يكون هو القارئ المنتشر. وفي هذه الحالة سيتجه القارئ العادي، الى الادب الأسود أي أدب الجريمة والرعب والجنس وأدب الضحالة والتقليدية.
أما القارئ الجديد حقا فهو المتفهم للأدب الجديد، ذي التوجه الدائم لاكتشاف قضاياه، والمكرس لاستيعاب الحياة، وفي هذه العلاقة الجديدة يتشكل وعي مستمر لإعادة صياغة الواقع.
وبطبيعة الحال لن تكون العلاقة بين الأدب الجديد والقارئ الجديد سهلة، ميسورة، فستكون هناك العديد من المشكلات، ولكن عبر التأثير المتبادل ستنمو العلاقة متجاوزة نقاط الضعف عند كلا الطرفين.
ولا شك أن هذا القارئ قليل ولكنه هو المستقبل.
أما قارئ الشكلية، الذي لا يفهم ما يقرأ، فهو قارئ الماضي، قارئ النخبة.
ونجد في تصور قاسم محاولة لخلق قارئ النخبة على النمط الغربي، الذي يستسيغ السريالية وبقية المدارس المأزومة المفلسة. لكن ستبقى اغلبية القراء في دائرة الأدب الأسود الضحل والمدمر.
وهذا التصور ليس غريبا على الاطلاق حيث نجد بعض أدباء الشكلية لدينا يروجون لافلام الرعب وغيرها!
لماذا؟
لكون أدب النخبة الشكلي والأدب الاسود هما وجه العملة في الثقافة الرأسمالية الغربية.
العبودية الحقيقية
إذن تم تدمير الضرورات الثلاث:
■ ضرورة كشف الواقع.
■ ضرورة بناء الصور.
■ ضرورة الوصول إلى القارئ.
وتشكل هذه الضرورات مجتمعة صلب الأدب الحقيقي، هي أضلاعه وقوانينه الرئيسية العامة، ولو انتفى جزء لوقع خلل كبير. والأدب الجديد، في غمرة تطوره يحاول تحقيق هذه الضرورات والسيطرة عليها، فعن طريقها تكمن حريته الحقيقية.
ولكن لدي قاسم تحقق العكس:
■ لا اهمية لكشف الواقع وتملكه.
■ لا اهمية للبناء بالصور بل تدمير البناء.
■ تنتفي امكانية الوصول للقارئ وتحقيق علاقة دائمة.
النتيجة الثالثة كامنة في السببين الأولين فحين تبتعد عن تحليل الواقع، ثم تدخل في لعبة شكلية لأنك لا تمتلك قضية، فمن المستحيل أن تحافظ على القارئ.
ويشكل هذا الرفض الأساسي الحقيقي لازمة الأدب الفوضوي الشكلي المنعزل. وأيضا لازمة فقدانه للحرية. فالأديب عندما يفقد الحرية الإبداعية الحقيقية يقود نفسه بشكل موضوعي الى العبودية، وسواء عرف ذلك أم لم يعرفه!
الواقع والواقعية
في مقالته ــ قاسم حداد ــ «الطريق انتهت . . فلنبدأ السفر» سلسلة من المغالطات التي تحتاج الى كشف وتحليل لأنها تتصل بالمرتكزات الأساسية للحوار الأدبي. فهي تتصل بمسألتي الواقع والواقعية، ورغم أن معظمها قراءات واستشهادات الا أنها تتصل برأيه حول مسألة الواقع وتصويره.
يقول بأن الواقعيين في البحرين يصرون دائما على أن الواقعية هى الطريقة الوحيدة للنظر الفني إلى الحياة.
ولكن من قال ان الطريقة الواقعية هى الطريقة الوحيدة وأين حدث ذلك؟
نقطة في الشكل
لنأخذ النص. يذكر:
ومن الطبيعي أن يظل هذا «الواقع» بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة تسهم في اكتشافه علميا(؟) تماما مثلما هو بحاجة الى طرائق فنية مختلفة تحسن التعامل مع ظاهراته وتبدع أشكالا لسبر غوره . . لهذا سيبدو الزعم «بأن الواقعية بحكم ثراء طرقها الإبداعية قادرة على تجسيد القضايا الجوهرية للمجتمع من جميع أوجه الأدب والفن، سواء بتغلغلها في تاريخه واستفادتها من ثرائه، أو بتحليلها واكتشافها الواقع الرهن ومشكلاته وتطوراته الكثيرة المعقدة» (عبدالله خليفة) هو ادعاء تعوزه المعرفة وتبسيط يعبر عن رؤية قاصرة للأدب والواقع معا.
نفهم من هذا العرض ما يلى:
■ هذا الواقع بحاجة الى وجهات نظر عديدة مختلفة تسهم في اكتشافه «علميا!».
■ كذلك هو بحاجة الى طرائق فنية تسبر غوره.
■ ولكن عبدالله خليفة يقول بأن الواقعية قادرة على تجسيد القضايا الجوهرية في تحليل الماضي والحاضر وفي جميع أوجه الأدب والفن.
■ ان هذا الادعاء تعوزه المعرفة ويعبر عن رؤية قاصرة.
هنا نجد المصادرة والقراءة المغلوطة للنص. فالاستشهاد والذي جره من عنقه لا يعبر عما يريده قاسم حداد ولا علاقة له بالموضوع! فرأيي يقول بأن الواقعية قادرة على تجسيد القضايا الجوهرية ولم يقل أن الواقعية هي الطريقة الوحيدة في النظر الى العالم!
وهكذا أخذ كلمة «أوجه الأدب والفن» بمعنى المدارس والتيارات لا بمعنى أنواع الأدب والفن كالرواية والشعر والمسرح!
نقطة شكلية أخرى
لم يستطع قاسم أن يحول افكارنا الى بنية يقوم بتحليلها وكشف تناقضاتها، وكل ما يفعله هو السخرية ببعض العبارات واطلاق التعميمات العامة وأحيانا يختلق عبارات وأفكارا من عنده يقوم بمهاجمتها كيفما اتفق.
فهو يقول في نفس الموضوع:
«إلا أن واقعيينا لا يزالون يزعمون بأن الواقعية هي محاكاة الواقع الملموس والعمل على تغييره».
فأين ومتى ظهر الزعم بأن الواقعية هي محاكاة الواقع الملموس؟ هنا لا يطرح استشهادا أو اسما، فيفترض خصما من خياله الخاص ويندفع لمحاربته!
ما هو الواقع؟
بعد الكثير من الكلام الشخصي الذي لا علاقة بالقضايا والصراع الأدبي والذي اسف فيه الكاتب كثيرا، يأتي في هذا الموضوع الى نقطة مركزية هامة، هي الصراع بين الواقعية والشكلية، دون أن يقول ذلك بشكل صريح بل بطريقة ملتوية.
وعلينا أن نتتبع طرحه للمسألة وندع الزبد جانبا.
يقول:
لم يعد ممكنا للكاتب المعاصر أن يحاكي الواقع والا يصوره كبناء ملتحم وواضح. ذلك لأن الواقع لا يمثل كيانا ثابتا ذا بنية متماسكة ومترابطة وسمات خاصة ومميزة. وانما هو مفهوم في غاية التعقيد والتشابك، تتعدد أبعاده واتجاهاته وتضاريسه ــ المرئية وغير المرئية ــ وفق التصورات والرؤى المتعددة والمتناقضة . .
في هذا النص نصل الى الأفكار التالية:
■ يستحيل محاكاة الواقع وتصويره كبناء ملتحم.
■ الواقع بدون كيان ثابت ومترابط وبدون سمات مميزة .
■ الواقع مفهوم يتشكل حسب التصور.
أي أن الفكرة الرئيسية هنا هي استحالة تصوير الواقع والقبض على ملامحه لأنه بدون سمات وملامح مميزة، ويستطيع كل منا أن يشكل الواقع حسب تصوره!
ولهذا فإننا نصل عند قاسم الى حد الغاء الواقع كظاهرة موضوعية يمكن دراستها واكتشافها. فالواقع لديه غائم ضبابي يستحيل فهمه كبناء ملتحم. لأنه اذا كان بدون بنية وتماسك وسمات خاصة مميزة فلا يمكن معرفته وتحليله علميا وفنيا، لأنه سوف يكون بعدد التصورات والمفاهيم الخاصة عند كل منا!
لكن العلم هو دراسة الظاهرات لاكتشاف قوانينها.
والأدب اكتشاف لبنية وبشر يعيشون فيها ويخلقونها.
إن وجود القوانين في الظواهر هو دليل على ثباتها النسبي.
ان تكرار سقوط الاجسام فوق الأرض جعل البشر يكتشفون وجود قانون الجاذبية. إن ظاهرة الجاذبية ثابتة ومتكررة في الأجسام ولكنها تتغير حسب الامكنة والسرعة والى حد معين، لكنها موضوعيا، موجودة. ويأتي العلم لاكتشاف هذه الظاهرة واكتشاف سبب تكرارها. وتتجوهر اكتشافاته في «القانون» . . وتتعمق هذه الاكتشافات وتتعدل حسب درجة تطور المعرفة البشرية واتقانها.
ذلك فإن أي مجتمع له ثبات وبنية محددة تتغير ولكن من خلال قوانين تصل اليها المعرفة.
أن الثبات النسبي لأية بنية اجتماعية هو أمر أساسي لأنه بدون هذا الثبات النسبي تتحول المسألة الى فوضى مطلقة.
لنتصور المجتمعات العربية في عهد السيطرة العثمانية الم تكن هذه المجتمعات اقطاعية ودام ذلك عدة قرون؟!
صحيح أنه كانت تجري تغيرات يومية ولكن داخل البنية الأساسية وعبر التراكم فيها. ان سيطرة الإقطاعيين على الفلاحين وأهل الحرف واستغلال عملهم هو قانون وجود هذا المجتمع. يتغير الإقطاعيون والفلاحون ويموتون وتتبدل مواسم الزراعة والمنتجات وتتطور بعض المدن وتنشأ الحروب لكن البنية الأساسية تظل ثابتة . .
لكن حين يأتي الاستعمار الحديث ويبدأ تقسيم العالم العربي وربطه بالاقتصاد الرأسمالي الخ . . تنشأ بنى اجتماعية مختلفة عن العصر السابق.
ويبقى أشكال الوعي المختلفة من علم وأدب وقانون الخ . . في حضن هذه البنية متأثرة بأساسها الاقتصادي الاجتماعي وحين يتبدل هذا الأساس، وترتبط البنى بالتبعية للغرب يحدث تحول في أشكال الوعي المتعددة.
هل نستطيع أن نعزل أدب عصر الانحطاط عن تلك البنية الاقطاعية الراكدة؟ وهل نستطيع أن نرى تشكل الآداب العربية الوطنية والقومية التحررية المختلفة دون دراسة عالم التبعية الجديدة؟
لو طبقنا رؤية قاسم ما استطعنا أن نقول أن عهد الدولة العثمانية كان عهدا اقطاعيا، لأنه لا توجد بنية متماسكة وواضحة وسمات خاصة للاشياء، ويستطيع أي منا أن يسميها بالمفهوم الذي يريده.
هنا نجد أن المنهج الميتافيزيقي «أي غير الجدلي» الذي يطالع قاسم به العالم هو الذي يمنعه من الرؤية الموضوعية. فهو لا يتصور أن البنية الاجتماعية، أو الواقع، تظل ذات سمات مميزة ومتغيرة أيضا. إن هذا الفهم لا يمكنه تصور الثبات النسبي والتغير في وحدة جدلية!
ونقول مثلا آخر: أن المجتمع الاقطاعي في أوربا أثناء العصر الوسيط ذو بنية مميزة وثابتة نسبيا. وقد حدثت تراكمات جديدة داخل هذه البنية كنمو التجارة والحرف وتحول الأخيرة الى صناعة، وبالتالي ظهور طبقات جديدة حملت في وجودها نفيا للعالم الإقطاعي القديم.
وبعد عدة قرون من التراكم الطويل حدثت الثورات البرجوازية. لقد وصلت البنية الاقطاعية حينئذ الى درجة الانهيار الكيفي. وبعدها تشكلت بنية جديدة هي الرأسمالية.
وكانت الفنون والآداب تعيش ذات المخاض الاجتماعي الطويل، فتغيرت الأنواع الفنية تبعا للتطورات الجديدة.
ولهذا كله فإن الواقع الأوربي في العصر الوسيط ليس هو مفهوم أو تصور شخصي عند هذا الانسان أو ذاك، بل هو وجود موضوعي خارجي يستطيع المرء أن يفهمه ويدرسه ويكتشف قوانين تحوله. وهكذا يستطيع دارسون من مختلف انحاء العالم ودون أن يعرفوا بعضهم البعض بالتوصل الى نفس الاستنتاجات العلمية حول نفس «الواقع»!
والمسألة تقترب من ذلك في الأدب. فالأدب يواجه الواقع ويكتشف البنية الاجتماعية في ثباتها النسبي وتحولاتها الكيفية.
ولكن الأدب لا يكتشف الواقع، كما يكتشفه العلم، أو التاريخ، بل يكتشفه بنوعيته الخاصة وأدواته المتفردة.
في الرواية مثلا تم اكتشاف الواقع الأوربي في بنيته وتحولاته عبر أدوات الرواية المعتمدة على الحكاية والنماذج والموتيفات الفنية والصراعات، ومن خلال ذلك تم اكتشاف البنية سواء الاقطاعية الزائلة أو الرأسمالية المعاصرة.
أن الرواية ليست تركيزا على سرد تاريخ المجتمع، ولا على بنيته الاقتصادية والسياسية بل هي تصوير للناس ومشاعرهم وافكارهم في واقعهم وصراعاتهم المختلفة.
إن عظمة الأدب تكمن في قدرته هنا على التقاط عمق الحياة عبر النماذج التي يجسدها. فـ دون كيشوت هو البطولة الفروسية القديمة المنهارة في عالم برجوازي صاعد، وهو حلم البشر الدائم بالنبل والعظمة.
هنا استطاع سرفانتس أن يدين بنيتين اجتماعيتين تاريخيتين، هما الحقبة الاقطاعية والرأسمالية. لقد أدرك الجميل في احدها والمدمر في الاخرى. لقد أدرك «الثابت» في العصر الرأسمالي الجديد هو المصلحة الشخصية الانانية وفقدان المثل الأعلى البطولي.
لقد رأى السمات الأخلاقية والنفسية لحقبتين ولم يقل أنه واقع غائم لا يمتلك صفة خاصة ولا سمة ثابتة وبالتالى لا أستطيع أن اكتشفه لقد جسد اكتشافاته في شخصيات عاشت حتى اليوم!
إلغاء العالم
لا يكتفي قاسم حداد بإلغاء الواقع ولكنه يريد إلغاء العالم أيضا، المجتمع والطبيعة معا، مستعينا ببعض الآراء المثالية الفارغة الشائعة في الفكر البرجوازي الغربي المعاصر.
يقول:
لقد برهنت النظريات العلمية الحديثة على استحالة الوصول الى الحقيقة المطلقة. وأن العالم الذي نراه ليس هو العالم الحقيقي، وإنما هو «عالم اصطلاحي عبارة عن تركيبات من الرموز الرياضية والاستعارات النظرية» وهذا يرجع إلى محدودية حواس الفرد التي هي «بدائية ومضللة ومحدودة».
في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية والتي نحن بحاجة ماسة الى آثارها في مجتمعنا المتخلف المتعطش للعلم، يقترح علينا شاعر «ثوري» ما يلى!
■ استحالة الوصول الى الحقيقة المطلقة.
■ العالم الذي نراه ليس هو العالم الحقيقي!
■ انه مجرد عالم اصطلاحي رمزي!
■ أن الحواس مضللة.
ومن المؤكد ــ بادئ ذي بدء ــ أنه يستحيل الوصول الى الحقيقة المطلقة لأن الواقع لا نهائي والحركة لا نهائية، ولكن ذلك لا يعني، أيضا، عدم وجود الحقيقة الموضوعية المطلقة.
أن الظاهرات ذات قوانين وهي موجودة وخارجة عن إرادتنا ووعينا، ولكننا بالعلم نقترب منها دائما بحجم أدواتنا المعرفية. إن معرفتنا نسبية، هذا صحيح، ولكنها دوما تتطور وتتحسن وتتقدم وتتوغل باتجاه الحقيقة المطلقة.
لدينا نواة صلبة من الحقائق التي ما تزال تتدعم مع تطور أدواتنا وتحسنها. ان استحالة التطابق مع الحقيقة المطلقة لا تعني عدم حقيقة معارفنا العلمية وعدم صحة نموها باتجاه تلك الحقيقة المطلقة.
هنا يبرز الفهم الميتافيزيقي، فهناك تناقض لا حل له في هذا الفهم بين المعرفة النسبية والمعرفة المطلقة، فلاننا لا نستطيع أن نصل دفعة واحدة الى الحقيقة المطلقة فهذا يعنى فشل الحقيقة النسبية!
لقد توصلت الأبحاث الى حقيقة المجتمع العثماني. لقد أدركنا أنه مجتمع اقطاعي ولا نعتقد أنه سوف يأتي انسان بحقيقة جديدة هي أنه مجتمع اشتراكي علمي!
ولكن هل انتهينا من فهم المجتمع الإقطاعي العثماني؟ هل أدركنا كل شيء فيه؟ لا بطبيعة الحال، هناك العديد من الجوانب التي تريد تحليلا والتى ستدعم «حقيقتنا» الموضوعية النامية حوله.
هكذا نحن لا نفصل الحقيقة النسبية عن المطلقة، ولا نشكك في دور العلم وجدواه، ولا نحيل العصر الانحطاطي الاقطاعي الى «مجموعة من الرموز والاستعارات النظرية» بل نراه كواقع موضوعي تم فهم جانب رئيسي منه وتتقدم معرفتنا عنه.
ودون الحقيقة وموضوعيتها والعلم ودوره تسقط فاعليتنا ومحاولاتنا للتصدي للتخلف والقهر!
وينطلق ذلك على الأدب أيضا. فعلى ضوء تلك الرؤية يقول قاسم انكم لا تستطيعون اعتبار الدولة العثمانية ذات بنية اقطاعية، لأن الواقع هو بلا بنية متماسكة وواضحة. ويترتب على الأدب الذي يعيش ضمن هذه البنية أن لا يتجه لكشفها لأنها غير موجودة!
وتستطيع أن تقيس ذلك على واقعك المعاصر!
أي أن على الأدب في خاتمة المطاف أن يتخلى عن مهمة الكشف والتحليل للحياة.
تخريب الجديد
يتردد قاسم حداد بين حكمين ورأيين حول «الحقيقة»
في الأول يقول:
«لان الواقع لا يمثل كيانا ثابتا ذا بنية متماسكة، وانما هو مفهوم في غاية التعقيد والتشابك، تتعدد ابعاده واتجاهاته وتضاربه ــ المرئية وغير المرئية ــ وفق التصورات والرؤى المتعددة المتناقضة».
الواقع هنا مفهوم ذاتي، وليس وجودا وكيانا موضوعيا، أنه تصور وليس مجتمعا، وبهذا تنتفى إمكانية فهمه بشكل علمي موضوعي، ويستطيع كل منا ان يشكل مفهومه عن الواقع حسب كافة الرؤى المتناقضة. لقد تم إزالة الحقيقة الموضوعية هنا.
ومن الطبيعي أن يظل هذا «الواقع» بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة تسهم في اكتشافه علميا. أي انه حتى «العلم» يصبح وجهة نظر ذاتية، ويمكن لاية وجهات نظر متناقضة ان تكون علمية.
وبهذا يمكننا ان نقول ان الصراع الاجتماعي موجود، ويمكننا ايضا ان نقول وعلى نفس الحالة أنه غير موجود. ويعتبر كلا القولين «علميا»!
هكذا يتم ازالة العلم باسم العلم .
في الثاني يقول:
«وكلما أوغلنا في اعماقه ــ أي الواقع ــ كلما اكتشفنا اعماقا اكثر غورا وما المنجزات الفنية في التقنية والأسلوب والرؤية سوى محاولة ــ قابلة للنجاح والاخفاق ــ للامساك بهذا الواقع وفهمه وتحليل جوهره».
أي أن للواقع هنا «جوهرا» يمكن الوصول اليه وتحليله وليس مفهوما يتمطط ويتشكل كل حسب التصورات الخاصة أي أن للواقع وحركته قوانينه المستقلة، عن مزاجنا ورغباتنا، وتصوراتنا الذاتية، وحين نكتشف تلك القوانين يكون هذا هو العلم.
هنا نجد رأيين متناقضين، الاول: عدم قدرتنا على اكتشاف الواقع لأنه ذاتي. الثاني: يمكننا ذلك لأنه ذو جوهر.
ولكن الرأي الثاني لا يستمر طويلا فسرعان ما يصل الى تعدد «العلم» فبعد تلك العبارات يأتي ليقول «ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة تسهم في اكتشافه علميا» فإننا هنا نعود من جديد إلى «العلم الذاتي». لأنه من المستحيل أن تكون هناك أكثر من نظرة علمية للعالم وتكون كلها صحيحة وعلمية.
وبطبيعة الحال نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن أهمية الحوار وتباين وجهات النظر والاستفادة من بعضها البعض، ولكننا بصدد مناقشة مفهوم «العلم» الذي حوله قاسم الى «وهم» وتلاعب لغوي.
ومع ازالة مفهوم العلم والرؤية الموضوعية للعالم ازيل الأساس المعرفي للواقعية، حيث لم يعد أمامها شيء حقيقي تكتشفه. وهنا يفتح الباب للنزعة الشكلية.
واقعية أم شكلية؟
ثم يقول في نفس الموضوع السابق اننا ــ أي أصحاب التيار الواقعي في البحرين ــ من محبذي الواقعية النقدية للقرن التاسع عشر وما قبله أيضا وعلى وجه الخصوص، رغم تأييدنا كذلك للواقعية الاشتراكية.
أي أننا هنا اصبحنا مشجعين لأكثر من تيار أدبي وفكري وليس كما قال في البداية بأننا دعاة تيار واحد نريد فرضة على كل المدارس والتيارات!
ويدعونا هذا الكلام الى متابعة الواقعية في مسارها الاوربي واضطرابها بالنزعات الشكلية.
وحين نتكلم عن الواقعية النقدية نتكلم عن أوربا في القرن التاسع عشر، عن مرحلة تاريخية محددة، ظهرت فيها الدول الاوربية الحديثة وتعززت الأنظمة الرأسمالية في اوربا وامريكا بوجه خاص.
إن الواقع هنا هو حقبة الرأسمالية فيما قبل المرحلة الامبريالية، وهذه المرحلة ذات خصائص مختلفة نسبيا وعلى كافة مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأدبية.
لقد استطاع قسم هام من الادب حينئذ ان يكتشف هذه الحقبة، وبالأخص في مؤلفات ستاندال وبلزاك وديكنز وغيرهم، لقد كشف مثلا العديد من جوانب الازمة الاجتماعية والروحية للنظام الرأسمالي الذي توطد ان القدرة على تحليل الحياة وكشف النماذج وتصويرها كانت كبيرة لدى هذا الأدب.
وقد واصلت المدرسة الروسية في نفس القرن عبر تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف وغيرهم مهمة التحليل العميق للحياة.
إن العديد من جوانب الأدب الأوربي في هذه الفترة مثلت مواقف المثقفين الديمقراطيين والانسانيين والنقديين تجاه المجتمع أنهم مثقفون منتبهون للحياة، قلقون على مصيرها، غير منعزلين عن القضايا الكبرى للمجتمع.
ولا تزال روائعهم هامة جدا، بل من قمم الأدب الإنساني عبر العصور، ونجد لديهم العديد من الإنجازات الفنية التي يزعم الشكليون انها من صنعهم كاستخدام المنولوج وتداخل الحلم باليقظة وتوظيف الرموز والاسترجاع ولكن هذه الإنجازات لم تأت كعمل مسبق مفروض بل جاءت بشكل طبيعي عبر رؤيتهم للحياة وتجسيدهم للنماذج وتعبيرهم عن التوتر الدرامي الرهيب لعصرهم.
وقد افتتحت الواقعية النقدية التجديد الحقيقي فالتطوير في الشكل لا يأتي كلعبة أو موضة بل ينبثق عبر تملك الواقع واكتشافه.
عموما اتسم أدب القرن التاسع عشر الواقعي بعدم وصول التناقضات في المجتمعات الاوربية الى مرحلة الازمة الشاملة. ولكن الطبقات البرجوازية الحاكمة التى كانت ثورية فيما سبق راحت تتراجع في هذه الفترة عن أية نزعة ثورية وعلمية وبدأت تتخلى عن العلم كمنهج لاكتشاف الحياة.
وجرت تغيرات كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث قامت هذه الطبقات الحاكمة باستعمار العالم، وانهالت ثروات كبيرة على بلدانها مما جعلها قادرة على افساد قسم هام من المثقفين وحتى الشغيلة انفسهم.
وقد أدت الحقبة الجديدة الى تحولات هامة على صعيد الوعي بمختلف اشكاله: ابتعدت الفلسفة السائدة عن الروح العلمية وأكدت النزعات الغيبية والرجعية. اتجه علم النفس إلى تأكيد السيطرة المطلقة للاوعي على الذات مؤكدا سيطرة الغرائز على السلوك البشري. ابتعدت أقسام هامة من الرواية عن كشف الواقع واهتمت بالذات المفصولة عن الحياة الاجتماعية وغرقت في المنولوج غير المستخدم كأداة لتحليل الذات الاجتماعية والعالم. راح الرسم يبتعد عن تصوير الحياة والناس واتجه الى الخطوط المجردة والمكعبات. ترك جانب من المسرح استيعاب الصراع والحياة واندفع إلى الهذيان واللامعقول الخ . .
وبطبيعة الحال كانت هناك أيضا مواصلة للاتجاهات الواقعية والإنسانية لأدب القرن التاسع عشر، وأيضا مواصلة أكثر جذرية وعمقا في النظرة الفكرية.
إن العديد من كتاب القرن العشرين واصلوا عملية استيعاب وتملك الواقع الى درجة كشف تناقضاته الجذرية، وكان هذا نتاجا لتطور الصراع الاجتماعي والفكري في ذات البلدان، وظهور الاشتراكية كبديل للرأسمالية وتصاعد حركة التحرر في الدول المتخلفة التابعة.
ورغم أن مدرسة (اللامعقول) مدرسة ذات أساليب جديدة قائمة على الهذيان وتداخل الوعي باللاوعي إلا أن هذه الحداثة و«الانجازات» ما لبثت أن انهارت وتكشفت عن خواء بالغ.
نستطيع هنا أن نقارن بين جديد «بريخت» وجديد «يونسكو» فجديد الأول كان مواصلة للأبداع الفني الإنساني مع تطويره في نواح هامة وارتكازه على رؤية عميقة للإنسان والحياة.
ولكن يونسكو قدم الهلوسة باعتبارها شيئا جديدا، لقد حطم الحكاية والصراع والتطور الدرامي ووحدة الشخصية ووحدة البناء الدرامي، وكان ذلك ليس تطويرا بقدر ما هو هروب عن اتخاذ موقف حقيقي من قضايا الحياة.
هل استطاعت وسائله المبتكرة الجديدة كــ «تحطيم» الزمان والمكان والشخصية والصراع والحكاية، ان تضيف وان تكون نقلة؟ على العكس فقد جسدت أزمة الوعي البرجوازي، وعدم قدرته على مواجهة الواقع وتحليله!
ويحاول قاسم بالتركيز والدفاع المزعوم عن الوسائل الجديدة الفنية أن يصور نفسه بمظهر المدافع عن الجديد الخلاق الكاشف للواقع، ولكن هذا وهم لأنه لا يدافع عن الجديد الخلاق الكاشف للواقع، بل هو يؤيد أدوات يونسكو الهادفة الى التعتيم واخفاء الحقائق!
فقد اختار جديد يونسكو لا جديد بريخت! يركز على تحطيم الصور والنماذج والحكاية والزمان والمكان لا أن يستغل تداخلها وعلاقاتها المتشابكة في المزيد من كشف الحياة.
لقد اختار الجوانب التي تلغي امكانية توظيف الأدب، وانحاز الى الجانب الشكلي.
مثـــــال
يقول:
وهكذا وجدنا مظاهر فنية مثل تداخل الأزمنة، هدم المكان، تحطيم الحبكة والسرد، الاشكال المفككة، والتشظي، انصهار الواقع والحلم، تلاحم الحاضر بالذاكرة، تعدد الأصوات، الاستخدام المغاير للون، والضوء والخط . . كل هذه المظاهر تسهم في استجواب الواقع وتعبر في نفس الوقت عن غموضه وعدم تماسكه وترابطه المنطقي.
ثمة جوانب فنية هنا لها قيمتها كتداخل الأزمنة وتعدد الأصوات ولكن عبارات مثل «هدم المكان»، «التشظي»، «انصهار الواقع والحلم» تحتاج الى تحليل لكشف أبعادها.
ان تهدم المكان فذلك امر مستحيل لان المكان والزمان هما شرطان موضوعيان لتجلي المادة وحركتها ولظهور الوعي وتحولاته.
ليس هناك حدث أو شخص يقف خارج المكان أو الزمان وأي حدث هو امر موجود داخل زمان ومكان، وعندما تتداخل الأحداث في وحي الشخصية الفنية فإن الأمكنة والازمنة تتداخل في هذا الوعي ذاته، ولكنها خارجة موجودة موضوعيا . . وهذا ليس تحطيما للمكان بل هو تشابك وتعدد للأمكنة في وعي الشخصية في حالة تذكرها واسترجاعها.
اما التشظي وهو تحويل اللوحة الى شظايا لا رابط لها، ولا بناء مفهوم يوحدها، فهو تبرير للفوضى الفاشلة فنيا وفكريا. ان العديد من الشباب يلجأ الى الهلوسة وبعثرة الأشياء مصورين ذلك فنا جديدا بينما هو عجز عن الخلق.
و«انصهار الواقع بالحلم» يتم فيه تدمير الواقع ليدخل الهذيان غير العقلاني.
إن لقطات الحلم استخدمت بكثرة في الأدب الواقعي وعلينا ان نتذكر «الجريمة والعقاب» ومخاوف راسكولينكوف التي تحولت الى هلوسات واحلام مرعبة ان الواقع هنا لم ينصهر، لم يذب، بل احتفظ بكيانه، باعتباره لحظة خاصة في لا وعي الشخصية كاشفا عن اعماقها ومسهما في تطور الأحداث وفهم الإنسان وصراعاته.
إن القصد من تعبير انصهار، ليس كما نظنه بان تستفيد الكتابة من مادة اللاوعي والاحلام باعتبارها جوانب هامة في الذات الإنسانية، بل هو ان تتحول الكتابة من التماسك وتشكيل لوحة الى الهذيان والفوضى، بحيث تتحطم الصور ولا يستطيع القارئ ان يمسك شيئا من هذا الأدب.
كذلك فان «تحطيم» الحبكة ينساق في هذا المسار الفوضوي. نحن طبعا لسنا مع القصة التي تتخذ شكلا واحدا يبدأ من الماضي الى الحاضر، بخطوات تصاعدية معروفة، دون أن يكون ثمة رجوع للماضي أو تداخل، نحن لسنا مع هذا، ولكن تحطيم الحبكة كيف يكون؟
إن اية قصة لابد لها من منطلق داخلي، من حبكة، حتى لو بدأت من النهاية، وتداخل فيها الماضي والحاضر والمستقبل!
الحبكة هي منطق التطور والتصاعد الداخلي الذي يجعل القصة بهذا المسار دون غيره امرا في غاية الاهمية.
إذن لا يمكن تحطيم منطق القصة، وبنائها الخاص.
انه يقصد هنا ان لا يكون للقصة أي نسق خاص، ان تكون فوضى، وهذا ما يجعلها قصة «متطورة»!
ويريد ايضا «تحطيم السرد» لقد وصل التحطيم والتدمير الى السرد، والذي لا يمكن للقصة والرواية أن تتشكلا بدونه. أن السرد هو غير التقرير والوعظ، أنه وصف الحدث والشخصية وتطور مسار القصة.
إن التنوع والتعدد في السرد ما مفهوم، كأن يكونا بضمائر مختلفة فتارة بضمير المخاطب وتارة بضمير الغائب أو المتكلم، أو ان يتداخل مع الحوار والاسترجاع والوصف لكن إلغاء السرد دفعة واحدة فدليل على عدم المعرفة والتخبط!
إذن كل هذه المظاهر «الجديدة» لم تستخدم في «استجواب العالم» بقدر ما عطلت فهمه واستجوابه! إن التركيز على تحطيم الأدوات الضرورية في كشف العالم فإنها كإعطاء المقاتل سلاحا فاسدا وارساله الى المعركة!
إن هذه الدعوة تتجه لإلغاء الضرورات التي ذكرناها سابقا وهي ضرورات: كشف الواقع، البناء بالصور ــ الاتصال بالقارئ.
فالتركيز على الهذيان والتشظي لم يشكل بناء صوريا كاشفا للواقع لأنه يستحيل عن طريق الفوضى امساك أي شيء حياتي ومتابعة تطوره وكشف دلالاته، ولهذا يستحيل هنا إقامة صلة مع القارئ الذي لن يفهم هذه الفوضى والبعثرة الهذيانية وإلغاء السرد والمكان!
ان للعديد من الوسائل الجديدة دورها الخلاق ولكن ضمن الهدف الحقيقي وليست كموضة جاهزة بل كجزء من عملية أشمل هي تملك واستيعاب الواقع جماليا.
في الوعي «الشكلي» يتم فصل بعض جوانب الشكل عن المضمون، عن العملية الشاملة للإبداع الادبي، عن الكل، وترفع هذه الجوانب عن سياقها الحي ووظيفتها، وتتحول الى وثن يعبد.
يعد تركيبه منهج قاسم مرة أخرى: ففي رؤيته تتم عمليات الفصل الميتافيزيقي «غير الجدلي» بين جوانب الظواهر، فإذا لاحظنا سابقا الفصل بين مظهر وجوهر الواقع، بين الضرورة والحرية، بين الكتابة والقارئ، بين الحقيقة النسبية والحقيقة المطلقة، فإننا نلاحظ هنا الفصل بين الشكل والمضمون، بين الوسيلة والهدف، بين الحداثة والتوظيف، بين الصورة والمعنى الخ . .
إنها سلسلة طويلة من الاضداد لم تتمكن الشكلية من استيعابها وحلها، لان الشكلية ذات نظرة ميتافيزيقية غير جدلية، وغير تاريخية، وغير كلية.
تلخيص لما سبق
وقع قاسم حداد فريسة تناقضات فكرية عديدة لم يستطع حلها نتيجة للمنهج المستخدم. في البدء شكك في الحقيقة الموضوعية وإمكانية معرفة الواقع الذي تحول الى مجرد رموز واصطلاحات، وفقد المجتمع لديه بنيته وملامحه وتحول الى كيان هلامي غامض من الصعب كشفه وتجسيده، وكان لابد أن يظهر أدب بلا كيان ولا سمة مميزة وان يكون هلاميا غامضا تبعا للواقع الذي يعيش ضمنه.
إن العديد من الوسائل الفنية المستخدمة تكشف هذا التوجه ووجدناها محاولة لاشاعة الهذيان والفوضى في الجسم الأدبي.
قلب الشهادات
بعد ان اضاع قاسم حداد الواقع، وانكر موضوعية العالم، وموضوعية العلم. وغدت الحقيقة مسألة ذاتية محضة، فإنه أيضا أضاع الواقعية.
وارتباط فهم الواقع بتحديد الواقعية أمر عميق، يغدو فهم الواقع فهما موضوعيا أمرا متعذرا تصبح الواقعية مسألة ذاتية ومزاجا شخصيا مغلقا، وليست اتجاها ذا سمات محددة.
وهذا يعني أيضا أن تغدو الواقعية هي كل الفن والأدب ويختفي الأدب الواقعي. فان تصبح الواقعية هي كل المدارس فهذا يؤدي الى الغائها. لهذا فهو يرفض أن تكون الواقعية ذروة للتطور الإبداعي، لأن ذلك يجعلها ذات سمات خاصة، ويجعل الواقع الذي تكتشفه ذا سمات خاصة كذلك.
ولنوضح هذه الأفكار للقارئ:
حين يقول . .
لان الواقع لا يمثل كيانا ثابتا ذا بنية متماسكة ومترابطة وسمات خاصة ومتميزة، وإنما هو مفهوم في غاية التعقيد والتشابك، تتعدد ابعاده واتجاهاته وتضاريسه ــ المرئية وغير المرئية ــ وفق التصورات والرؤى المتعددة والمتناقضة.
فهذا يعني ظهور واقعيات متناقضة تماما. فيمكنك أن تتصور كتابة واقعية تقف في مواجهة الشر والاستغلال وكتابة واقعية تقف مع الشر الاستغلال.
ويمكنك أيضا أن تحدد الكتابة الواقعية بأنها تلك القادرة على تملك الواقع واكتشافه وأيضا أنها تلك التي تتشرنق حول الذات وتهويماتها الميتافيزيقية.
كذلك فإننا سوف نسحب الواقعية من العصر الحديث إلى أيام الوثنية البدائية، وسوف تغدو كافة النزعات واقعية، فهي كلها تعبير عن رؤى متناقضة.
إذن هنا تضيع الواقعية باعتبارها مدرسة ذات خصائص رئيسية جوهرية، وتسحل ملامحها عن طريق سحبها على كل العصور والمدارس، لكونها غدت نزعة ذاتية محضة قابلة لأي تشكل.
في مواجهة هذا التذويب لابد من التأكيد على أن الواقع، أي واقع، هو بنية محددة، لها قوانين للتطور، والآداب الواقعية تلك القادرة على تحليل وكشف تلك البنية.
والبنية ليست هي فقط الأساس الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يحددها بل أيضا جوانبها السياسية والفكرية والأخلاقية ذات الأهمية الكبيرة.
وإذا كان العلم هو لغة الكم والإحصاءات من أجل الاكتشاف، فإن الأدب هو اللغة المصورة للاكتشاف. فهو يمتلك أدوات مختلفة كليا عن العلم، تعتمد على أنواعه المختلفة وطرق تعبيرها وتطورها، وهو أيضا عملية تحليل واكتشاف للحياة عبر نماذجها ومزاجها وروحها وقضاياها الخ . .
لو اننا حولنا عملية اكتشاف البنية الى مسألة ذاتية تنتفي منها الموضوعية، فإن هذا يعني عدم ادراك الواقع، وعدم وجود الواقعية أصلا.
ونحن نجد نتائج أفكار قاسم تتابع واحدة بعد أخرى، فالواقع أمر ذاتي، والعلم نسبي محض، والعالم هو عبارة عن «عالم اصطلاحي وعبارة عن تركيبات من الرموز والاستعارات النظرية». لهذا لن تستطيعوا ان تحصلوا على اية واقعية وأي فهم موضوعي للحياة.
ونأتي هنا إلى نتيجة تتعلق بالمنحى المنهجي. ففي رؤية الكاتب تقف الموضوعية على طرف نقيض مع الذاتية. المنهج الميتافيزيقي غير قادر على رؤية هاتين السمتين كعملية إبداعية واحدة. وعلى العكس فإن الواقعية رغم انها بحث موضوعي فإنها لا تنفي الذاتية. فالعديد من الواقعيين اكتشفوا مجتمعاتهم وصوروها واحتفظوا مع هذا بتميزهم الخاص وتوجهاتهم. الموضوعية لا تنفي الخصوصية الذاتية بل على العكس تفترضها.
وإذن فقد حاول قاسم عبر طمس العلم والعالم والموضوعية أن يهيل التراب فوق الواقعية، ثم اتجه لتضييع حتى اسم الواقعية ذاته. فكيف كان ذلك؟
مشكلة الاسماء
يقول قاسم:
«لم يتعرض مفهوم أدبي في العصر الحديث للمتغيرات وتعدد التفسيرات والاجتهادات مثلما حدث مع الواقعية (أكثر الأبجديات غموضا) على حد تعبير هربرت ريدر الأمر الذي نجم عنه ظهور تسميات ومصطلحات متباينة ترتبط بالواقعية، مما اضطر الناقد خلدون الشمعة أن يثبت في كتابه (المنهج والمصطلح) قائمة استخرجها داميان غرانت من سجلات الواقعية تضم الواقعيات التالية . . .» ثم يعدد خمسة وعشرين نوعا كالواقعية الانتقادية والواقعية المستمرة والواقعية الشكلية الخ . . وهذا بخلاف الواقعيات الكثيرة الأخرى التي يجري تداولها في الأدبيات السائدة على حد تعبيره. ولكننا بعد هذا التعداد الطويل لم نر تحليلا لها؟ فهل بعد كل هذه التسميات ضاعت الواقعية؟ وهل يعني وضع أية صفة للواقعية ان الامر صحيح؟
ان هذا الامر يجده الإنسان في كل المصطلحات فعلى سبيل المثال هناك عشرات التسميات والصفات للاشتراكية فهل يعني صحة التسمية للجميع؟ هل تصبح الاشتراكية الوطنية لـهتلر اشتراكية فقط لانه قال اشتراكية؟!.
إن الواقعية فعلا هي واقعيات وأساليب مختلفة ولكن كيف تتوحد في العام وتتباين في الخاص؟ ما الذي يحدد انها واقعية وليست سريالية؟ لماذا تتناقض الواقعية والسريالية تناقضا جذريا؟ لماذا تعادي الشكلية الواقعية عداء غير قابل للحل؟!.
إذا كانت الواقعية مقبولة للجميع فلم يعاديها الشكليون ويحاولون تدميرها عن طريق ادعائها أو هدم نواتها الاساسية؟
لقد ظهرت الواقعية كما قلنا في العصر الحديث منذ عصر النهضة في أوربا وتطورت عبر تجارب متعددة فتباينت اساليبها ومراحلها.
إنها وليدة الرؤية الحديثة العلمية القادرة على فهم الإنسان باعتباره فاعلية اجتماعية متجاوزة بهذا الرومانسية مثلا.
يقول بوريس سوتشكوف ــ الذي وضعه قاسم ضمن مراجعه التي استفاد منها ليقدم رؤيته عن الواقعية:
«وقد عجز الفن الرومانسي، من جهته، عن ابراز التناقض الحقيقي للرأسمالية (الحرة) التي في حالة التكون. لقد كانت السمات الجديدة التي كانت تتغلغل في الحياة وترى الطبيعة اللاإنسانية للمجتمع البرجوازي، كانت تفرض أن يعمد الى تحليلها واستيعابها». المصائر التاريخية للواقعية، ص 92 ـ 9، بوريس سوتشكوف، دار الحقيقة ـ بيروت .
وإذا كان بعض الرومانسيين قد ساهموا في كشف التناقضات الاجتماعية حينئذ وبالأخص الرومانسيين الثوريين الا انهم لم يستطيعوا ان يحلوا المهمة الملقاة على عاتق الفن حينئذ وهي «تحليل» الواقع.
يضيف المؤلف السابق:
«ان اتجاها قويا نحو البحث ورغبة في المعرفة بالغة الحماسة كانا يميزان الى ابعد الحدود، كبار الواقعيين في القرن التاسع عشر، الذين بدرسهم للحياة وتصويرهم إياها، وبإبرازهم التناقضات الموضوعية للرأسمالية كانوا يحتلون، دون نزاع، مركزا انتقاديا . . المرجع السابق ص 94 .
إذن فالواقعية نتاج تطور المعرفة والحياة والفن، ولدت في عصر محدد عندما استطاع الإنسان أن يستوعب الواقع اجتماعيا ونقديا. حين أمكن تعريفه مشكلات الإنسان وأدرك أساسها الاجتماعي.
ولكن مستوى النقد والتحليل يختلفان بين الواقعيين، فإذا كان العديد من واقعيي القرن التاسع عشر لم يكتشفوا القوى الاجتماعية القادرة على تجاوز تناقضات العالم الرأسمالي فإن آخرين وصلوا الى هذه النقطة.
إن الواقعية عموما هي تلك النظرة التي لا تفصل مشكلات الإنسان الروحية والنفسية عن أساسها الاجتماعي، تلك النظرة التي ترى الإنسان في ممارسته التحويلية لذاته وواقعه داخل الزمان والمكان.
وتتعدد مستويات التحليل والكشف كما تتعدد الأساليب الفنية المستخدمة، ان واقعية اليوم هي غير واقعية الامس، انها اكثر عمقا وكثافة واستخداما للأساليب الجديدة التي تثري عملية التحليل.
وهكذا فاننا لسنا امام واقعيات بعدد رمل البحر بل أمام نظرة فكرية جديدة توغلت في عالم الأدب وصارت سماتها المتطورة.
أن قاسم في سبيل تضييع معالم الواقعية مستعد حتى بالاستشهاد بالمدافعين المعروفين عن الواقعية لضرب الواقعية. فبعد تعداده للخمسة والعشرين اسما للواقعية، وبعد أن ضاعت «الطاسة» يقول:
«ولعل جورج لوكاش ــ أحد أهم منظري الأدب الواقعي ــ يعتبر نموذجا للطاقة الفكرية التي تمردت (في لحظتها التاريخية) على سلطة الهيمنة الواقعية الحديدية، وحين أطلق جملته الشهيرة «الطرق انتهت، فلنبدأ السفر» فاتحا أمام جيله آفاقا من الجمال والحرية، وداعيا الى إعادة النظر في الموقف إزاء إنجازات أدبية هامة اتهمت من قبل بسلبيتها تجاه حركة المجتمع، مثل أعمال كافكا وبروست وجويس التي كانت «تعتبر عن سيرورة اجتماعية، وكانت تحتاج بالتالي الى دراسة أكثر عمقا وتدقيقا» استفان شويتر.
في هذا النص نحن امام افكار هي:
1 ــ ان جورج لوكاش تمرد على سلطة الهيمنة الواقعية الحديدية (؟).
2 ــ فتح أمام جيله آفاقا من الجمال والحرية (؟!).
3 ــ طالب بتغيير الموقف إزاء كافكا وبروست وجويس.
ولكن هذا النص لا يجيب على:
1 ــ هل يقصد لوكاش في تعبيره (ان وجد) الجمود في الواقعية وتيبس بعض اشكالها اثناء فترة عبادة الفرد أم يقصد تدمير أسس الواقعية كما يود قاسم؟!
2 ــ هل آفاق الحرية هي إلغاء الواقعية ولماذا؟
3 ــ ألم تظهر للوكاش نفسه كتابات عميقة عن كتاب تيار الوعي كبروست وجويس وهي كتابات صارت الآن مشهورة؟!.
والواقع أن التناقض كبير بين ما نظر اليه لوكاش وما يريده قاسم. فإذا كان الاخير من المحتقرين لواقعية القرن التاسع عشر كما في قوله عنا «إلا أنك تستطيع اكتشاف اتجاهات نحو الواقعية النقدية التي تنتمي الى أدب القرن التاسع عشر وما قبله» فان جورج لوكاش هو من المعجبين أشد الاعجاب بهذه الواقعية، وفي سلسلة متعددة من كتبه أكد الأهمية الجبارة لواقعية القرن التاسع عشر بالذات. نستطيع أن نقرأ (دراسات في الواقعية الأوروبية) والفصول المخصصة لستندال وبلزاك وتولستوى أو (معنى الواقعية المعاصرة) أو (الرواية التاريخية) التي يخصص فيها فصولا لدراسة والتر سكوت، لنرى العملية غير الامينة التي الصقها قاسم بلوكاش. ولن نذهب بعيدا فسوف ننتقي كتابا مهما من كتبه هو (غوته وعصره: جورج لوكاش، دار الطليعة ـ بيروت) لنرى كيف يرى لوكاش واقعية القرن التاسع عشر البغيضة في الوعي الزائف.
يقول لوكاش في مقدمة كتابه:
«وكما أن التهيئة الفكرية للثورة البرجوازية في انجلترا وفرنسا (من هوبز إلى هلفيشيوس) أوجدت الفلسفة المادية، فإن الأخيرة بدورها، وضعت الأسس للتفكير الديالكتيكي الحديث، وبمؤازرة ذلك، أقيم جسر ــ في إنتاج غوته الشعري على وجه التحديد ــ بين الواقعية العظيمة للقرن الثامن عشر وواقعية القرن التاسع عشر . . وبذلك خطا الفكر والفن الانسانيان خطوة هائلة إلى الامام». ص 16 .
أي أنه في رأي لوكاش تغدو الواقعية بتطوراتها الخصبة في القرنين السابقين خطوة هائلة ليس في مسار الفن وحده بل في مسار الثقافة الانسانية عموما. كذلك يصف لوكاش واقعيي القرن 19 بأنهم الواقعيون العظام. ص 16 .
ولا يبخل لوكاش أيضا بالهجوم على الشكلية التي افسدت أدب القرن العشرين فيقول: «ولا نستطيع هنا أن نستشهد الا ببعض هذه الملاحظات الكبيرة الأهمية، وهي تكفي مع ذلك لإيضاح ان بحث غوته وشيلر عن الكمال الشكلي يقف على النقيض تماما من التجارب الشكلية التي هيمنت مؤقتا على الأدب في عصرنا، والتي لايزال العديد منها، حتى يومنا هذا يحيا حياة شبحية في أذهان الكثيرين» ص 82 .
اذن على عكس ما حاول قاسم أن يصور لوكاش فقد ظهر الاخير كمدافع ومنظر للأدب الواقعي وشخصية عرفت بعدائها المتواصل للشكلية والتجارب الزائفة في الأدب، مع دعوته الدائمة للتجديد، ولكن السؤال هنا لم حاول قاسم ان يقلب القضية ويشوه الرجل؟
هل لان لوكاش انتقد بعض التطبيقات الرديئة في الأدب (الواقعي الاشتراكي) والتي تبين طابعها السطحي والفوتوغرافي؟ ان رفضه للتطبيقات الرديئة والجمود والسطحية يعني بكل تأكيد حفاظه على السمات الجوهرية للواقعية والتي قضى عمره لتحليلها.
ولا يعني هذا ان جورج لوكاش لا يخطئ، فنحن فقط إزاء موقف يجعل الرجل المدافع عن الواقعية ينقلب الى معاد لها استنادا فقط الى جملة مبهمة لا الى تاريخه الأدبي والفكري. هنا يأتي المنهج السابق ذكره لانتزاع جملة ما وتعليقها في الفراغ وتغيير الحقائق انطلاقا من روح عدائية لا تتعامل بموضوعية مع المواد التي تتحدث عنها.

