أرشيف الأوسمة: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : صراع الطوائف والطبقات في فلسطين

صراع الطوائف والطبقات في فلسطين

صراع الطوائف والطبقات في فلسطين

الإقطاع الفلسطيني تابع التابعين

صراع الطوائف والطبقات في «إسرائيل»

صراع الطوائف والطبقات في فلسطين

مثل أي نظام عربي يعتبر الديمقراطية مناورة سياسية غير مرتبطة بوجود نظام علماني راسخ، قامت السلطة الفلسطينية بإجراء إنتخابات تشريعية جاءت على رأسها حركة حماس في مفاجأة كبيرة للجميع.
هذه المفاجأة تعكس تناقضات الوضع الفلسطيني، فقد قامت حركة فتح بقيادة النضال الوطني وتقدمت به إلى آفاق كبيرة، وكأي حركة سياسية وطنية في الشرق كانت حركة شمولية، ذات شعارات فضفاضة، غير راسخة في مسائل الحداثة المحورية؛ وهي العلمانية والديمقراطية والعقلانية، لكنها لم تخلُ من ملامحٍ منها، تبدو على شكل شعارات، وكان أهمها مشروع تشكيل دولة فلسطينية على أي تراب فلسطيني مُحرَّر وتكون دولة علمانية وديمقراطية مفتوحة لكل السكان فيها.
كان هذا الخيار ذاته صعباً في ظل منظمات فلسطينية متطرفة قومياً، تنادي بدولةٍ من النهر إلى البحر، وتستخدمُ الكفاحَ المسلحَ فقط، وهو أمرٌ يعكسُ مستوى الوعي السياسي الفقير في هذه المنظمات، وعدم معرفتها بالواقع الذي تريد تغييره، سواءً من حيث عدم معرفة القوة الإسرائيلية أو واقع البلدان المحيطة بها أو آفاق نضال شعب فلسطين في الداخل.
وأهم نقطة في هذا عدم درسها لتناقضات الدولة العبرية وكون هذه التناقضات هي قاعدة التحرك المنتظر، لكنها كانت ذات نظرة متجوهرة، غير تاريخية، وغير طبقية، فهناك فلسطين وهناك إسرائيل، هنا أبيض وهناك أسود، ويجب أن يسود الأبيض ويُسحقُ الأسود، وهي نظرة دينية شرقية جامدة ضاربة في القدم، لا ترى في الدول والحضارات تكوينات تاريخية مرحلية متناقضة، يكمن العمل السياسي الثوري في كشف تلك التناقضات وحركيتها وتوظيفها لصالح الأغلبية الشعبية.
لكن كانت حركة فتح أكثر هذه المنظمات مقاربة للظروف الموضوعية، عبر طرحها شعار الدولة العلمانية الديمقراطية، مما كان يفتحُ الأفقَ لجذب أقسامٍ من الإسرائيليين للعمل المشترك، وكان هذا يضربُ جوهرَ الصهيونية بشكلٍ عميق، وقد زواجتْ فتح بين العمل العسكري والنضال السلمي، وانفتحت على كل الجمهور الفلسطيني والدول العربية، وهذا كله أكسبها حضوراً قيادياً رائداً.
لكن من جهة أخرى ظهرت القيادة الفردية وشكلت بيروقراطية داخلية، وهيمنت على فتح، وعلى منظمة التحرير، وعلى الدخول النقدية فيها، معطية أدواراً ثانوية للقوى السياسية الأخرى.
كذلك لم تكن بعيدة عن المغامرات العسكرية، حيث كان الواقع الفلسطيني والكيان الإسرائيلي يبدوان لها في حالة سكونية، ومادة فعلٍ سلبية، وأنها هي صانعة التغيير، وهي ثقافة موجودة بقوة لدى الفلسطينيين في الداخل كما في الخارج.
وكان الحراكُ الطويل لهذه القوة النضالية في الخارج عاملاً جاذباً للكثير من القوى السكانية المشردة بفعل المجازر الإسرائيلية والغزو الفاشي، وهي الطبعة الأولى من الصهيونية، مما أدخل في فتح وغيرها من المنظمات جمهوراً بلا خبرة سياسية وقابلاً للنضال ولكل المغامرات المجنونة كذلك.
وكما ظهر الخط الوطني المعتدل في فتح ظهر الخط الوطني المتطرف في (الجبهة الشعبية) وغيرها من المنظمات القومية، ووجدت بعضُ الدول العربية في هذا الانقسام فرصة لاستثماره وتقرير حركة الشعب الفلسطيني من خارجه، ووجدت دولٌ أخرى صيغة مغايرة عبر ترسيخ منظمة فتح كقائدة للشعب الفلسطيني، وجعل رئيسها رئيساً للدولة التي تعيش حالة مخاض الولادة العسير.
ولكن كل هذا الحراك السياسي الخارجي البطولي والمغامر والنازف آلاف الشهداء، والمؤجج لصراعات المنطقة ومشاكلها، لم يثمر عن تحريرِ بوصةٍ واحدة من التراب الفلسطيني!
وكان الحوار الفلسطيني – الإسرائيلي البداية الحقيقية لفتح الطريق للتحولات، وهو أمرٌ كان يبدو كخيانةٍ عظمى، وكارثة قومية لدى المتجوهرين وأصحاب الرؤى الساكنة الدينية، فظهرت في وجهِ هذا الحوار منظماتٌ متخصصة في الأغتيال كأيلول الأسود وغيرها، وشاركتها المخابراتُ الإسرائيلية في قطعِ رؤوسِ الوطنيين والمثقفين البارزين الذين كان بعضهم يقود الحوارات وبعضهم يقود العمليات العسكرية.
لقد أدى الجدبُ السياسي في النضال الخارجي، وتشتت الجيش الفلسطيني في المنافي البعيدة بعد إحتلال لبنان، إلى أن يبرز العاملُ الوطني الداخلي في كل من فلسطين وإسرائيل، ليغير هذه الصفحة التي استمرت عقوداً.
لقد بدأ وعي وطني علماني ديمقراطي يتغلغلُ في صفوف جماهير هاتين الدولتين، حيث بدأ الشعبُ الفلسطيني في الضفة وغزة يدرك كونه شعبَ دولةٍ مغيبة، وأن الشعوب الأخرى لا تستطيع تحريره، وعبر الحجر الذي يملكه كلُ ولد فلسطيني بدأت عملية التغيير الشعبية، وكان الجمهور الإسرائيلي قد تعب من الحروب ومن سيطرة قوى العسكر والمال المغامرة بمصيره وظروفه خدمة لمشروعات دينية متطرفة أو لمؤامرات غربية فاشلة.
لقد بدأ تاريخٌ آخر، وقامتْ الطليعة الفلسطينية الخارجية بدورها في التحريك السياسي، لكن الآن بدأت الأرض هي التي تتكلم.
وغالبية الفلسطينيين هم من المسلمين فيما يمثل المسحيون ما يقارب 10%، والمذهب السائد هو المذهب السني، حيث تداخلت المذاهب السنية في نسيج واحد خاصة في الدول خارج الجزيرة العربية خاصة.
ولهذا فإن الصراعات المذهبية لم تتواجد داخل الحركات السياسية الفلسطينية، لكن هذه الحركات تأثرت ببلدان النزوح المختلفة، فأكتسب بعضها طابع اليسار المتطرف، خاصة التي تواجدت في سوريا ولبنان، فيما نشأت حركة فتح في الكويت متأثرة بجوها السياسي الديمقراطي العلماني السني في ذلك الوقت، وراحت تمتد في الأردن والأرض المحتلة.
ولكن تجربة الشعب الفلسطيني في بلدان النزوح اتسمت بالاضطراب الشديد، بسبب القمع والتضييق العربي الحكومي، وتعدد بلدان النزوح وتبعية أقسام من الفصائل لبعض الحكومات العربية التي إستغلت ظروف الهجرة والفقر في خلق قوى سياسية تابعة لها داخل النسيج السياسي الفلسطيني ثم قامت هذه القوى بالانقسامات والصدامات والتبعية البوليسية لتلك المراكز ففجر ذلك العديد من المواجهات.
وعموماً كان الاضطراب في تجربة فلسطيني النزوح أكثر بكثير من الداخل، وخاصة في قطاع غزة المتضخم بالسكان والذي تغلغلت فيه حركة حماس خلال عقود طويلة.
والتقت تأثيرات الاضطراب السياسي في الخارج وعدم المعرفة الدقيقة بأحوال الشعب الفلسطيني من قبل القيادات العائدة من المنفى بالمحافظة الشديدة في غزة وأنتج ذلك إنقساماً على صعيد الأرض المحررة المستعادة!
مثلما أن القوى الحاكمة في إسرائيل تمكنت من بعد تطوراتها العسكرية والاقتصادية الكبيرة من التحكم في الأرض الفلسطينية وتحديد إتفاقيات السلام وربطت قسماً كبيراً من العمالة العربية بها، ووضعت المتشددين الفلسطينيين في زاوية ضيقة، توجهاً لرسم خريطة سياسية متطابقة مع مصالحها وأفق تطورها.
وبهذا فإن القوى الشعبية الفقيرة الفلسطينية هي أكثر القوى معاناة في المنطقة، عبر الأجور المتدنية الحضيضية، وبغياب الموارد في الضفة والقطاع، وسوء الحياة المعيشية وترديها في مخيمات النزوح في لبنان وسوريا والأردن.
وهذه المناطق والمخيمات قادرة على توليد سياسات متطرفة تستغلها الحكومات المختلفة من أجل تفجير الصراعات السياسية مثلما يحدث في لبنان.
أو أن يغدو الفلطسينيين الفقراء كبش الفداء في الصراعات السياسية العربية كما حدث في العراق على مدى حروبه المختلفة، وفي الأيام الأخيرة كانوا ضحايا السلام مثلما تم لجؤهم على الحدود العراقية.
لم تكن سياسة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات على رغم العديد من إنجازاتها حكيمة في العلاقة مع بعض الدول العربية الشمولية التي أضرت بالقضية، بخلاف الرئيس الحالي أبو مازن الذي وجه السياسة نحو الاعتدال وإقامة علاقا جيدة مع كل الدول العربية.
عكس التوجه الفلسطيني لخلق مؤسسات منتخبة رغبة الإدارة الأمريكية في زمن الرئيس بوش تحقيق مسحة ديمقراطية لأصدقاء الحكومة الأمريكية في المنطقة العربية، وإذا كان هذا هدف أصيل كذلك للشعب الفلسطيني إلا أن التطورات الداخلية الفلسطينية الإيجابية هذه جاءت بتسريع لم يـُنضّج له على مستوى البُنى الاجتماعية والسياسية، التي هي مثل غيرها في الدول العربية بُنى تقليدية ماضوية لا علاقة لها بالديمقراطية الحديثة.
وإذا كانت فتح ذاتها قد إستغلتْ هذه البنى في سيطرتها السياسية، ووضعت رجلاً أخرى في الحداثة كذلك، فإن عملية التسارع في السيطرة على الضفة والقطاع بعد الإنسحاب الإسرائيلي، تنفيذاً لإتفاقيات أوسلو، لم تتشكل عبر جبهة حداثية فلسطينية علمانية ديمقراطية بقيادتها.
عبرت هذه الإتفاقية عن مستويين؛ مستوى الحوار الفلسطيني – الإسرائيلي، ومستوى القوة الفلسطينية المحدودة على الأرض.
ولثاني مرة يحدث إنسحابٌ إسرائيلي من أرض عربية كبيرة (بعد مصر)، ويخلف إنفراجاتٌ سياسية وتقدماً اجتماعياً مهماً، مما أكد أهمية سياسة السلام في خلق التحولات بعد كل تلك الكوارث للحروب السابقة.
ومن جهة أخرى فإن الانسحابات المحدودة التي لا تحل مخلفات الأحتلال الإسرائيلي بالكامل، تعني بقاء سيطرة القوى العسكرية – الدينية المتنفذة في إسرائيل، واستمرار المواجهة مع أطراف عربية أخرى، وهو أمرٌ يؤدي إلى عدم حل القضية الفلسطينية ذاتها.
إن التسويات المنفردة رغم تمثلها للتقدم الهام إلا أنها تحوي بذور الصراعات والحروب أيضاً، فالصراع العربي – الإسرائيلي يحتاج إلى تسوية تاريخية عميقة شاملة، على مستوى تعاون الأديان السماوية، وعلى مستوى تصالح الشعوب، وعلى مستوى إزالة الإحتلال.
وبهذا فإن توجه فتح لحكم الضفة والقطاع وجعل أجهزتها تهيمن عليهما، بعد عقودٍ من الأحتلال الذي خلف الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فجعلها هذا التسرع المتعدد الوجوه تتعرض لانتقادات كبيرة من الجمهور الفلسطيني، الذي بعد أن فارق نشوة التحرير أرجعته صرخات البطون والبيوت والحشود الفقيرة إلى الأرض الحادة.
وكان التسريعُ (الديمقراطي) يعتمدُ على تلك المنظمة الفتحاوية الجماهيرية العريضة، غير الراسخة في بناها العلمانية الديمقراطية، والتي قبلتْ وجود الأحزاب الدينية، وبجعل تنظيم سياسي آخر يمثل الإسلام وحده، وبهذا فقد نزعتْ صفة الإسلام عنها وعن بقية الأحزاب العلمانية.
ولم يكن فضاء نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين مثل أزمنة الستينيات فقد غاصتْ المجتمعاتُ العربية في أزمة فشل التحديث الرأسمالي المحافظ بعجز تلك الأنظمة عن مقاربة الحداثة، وصعد محور دول العراق وإيران والجزيرة العربية، النفطي المحافظ الأكثر من السابق، وراجت الشعاراتُ المذهبية السياسية كشكلٍ لتدفق سكان القرى والبوادي على المدن العربية، طارحة فضاءً غيبياً لحل الأزمات السياسية والمعيشية.
وقد استثمرت منظمة حماس التكوين الإسرائيلي الأولي لها كمنظمة يكمنُ دورُها في شقِ صفوف الفلسطينيين، وخاصة شق منظمة التحرير، وكذلك بقائها الطويل المهادن على الأرض خلال عقود، وذلك الغياب للوعي الديمقراطي والعلماني وسط الجمهور الفقير الحاشد الذي امتلأت به أزقة غزة خاصة، وبهذا فقد كانت الانتخابات التي قلبت الأوضاع السياسية وشقت الفلسطينيين على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأرض، هي جزء من المتغيرات الفلسطينية التي جرت في الجمهور، وجزء من متغيرات المنطقة.
لقد جمدت فتح منظمة التحرير التي كانت مؤسسة مهمة لصقل الفكر الفلسطيني الديمقراطي العلماني المفترض والإسلامي العميق كذلك، وتحولت إلى تنظيم فضفاض، راح كوادرهُ يستولون على موارد مهمة، وبطبيعة الحال لم تكن قادرة على أن تكون معبرة عن برجوازية فلسطينية قوية، لضعف الصناعة ولعوامل الشتات، وحروبها، التي كانت كلها ضرباً للرأسمال الفلسطيني وللعمال.
وكان قادة حماس قد سيجوا الفقراء حولهم بشعاراتِ الغيبِ (الإلهية)، المؤدلجة لمصلحة بعض قوى الأرض الفاسدة، واستثمروا خطاب العنف الفلسطيني الإلغائي الطويل، (دولة من النهر إلى البحر) والذي تكرس بقوة في انفعالات الشعب العاطفية الحادة، وعلى بحار الدم الفلسطينية، فانتصروا انتخابياً وعمقوا أزمة الشعب الفلسطيني أكثر فأكثر.
وبهذا كانت الضربة لدكتاتورية فتح، وتبياناً لخطورة الخطاب العنفي الفلسطيني العاطفي، ولعدم التحضير المطول لإنشاء دولة علمانية، ولعدم تكريس سياسة السلام، ولعدم قراءة الإسلام بعمق.
وقد سارعت فتح في الحفاظ على سلطتها الحزبية، فأصدر المجلسُ التشريعي المنتهية صلاحياته والذي تسيطر عليه فتح عدة قرارات كبيرة محورية، وهي صدور مرسوم رئاسي بتعيين رئيس الموظفين كتابع لديوان الرئاسة، ومنع الحكومة المقبلة من تعيين أو فصل الموظفين، وتعيين أمين عام للمجلس التشريعي الجديد من فتح، وإنشاء محكمة دستورية يعينُ الرئيسُ الفلسطيني قضاتها، ونقل مسئولية الأجهزة الأمنية للرئيس مباشرة وليس لوزير الداخلية كما يُفترض، ونقل الإذاعة والتلفزيون إلى إدارة الرئيس كذلك، وبهذا قامت فتح بإفراغ سلطة حماس من نفوذها الأمني والإعلامي، رغم إنها حكومة منتخبة.
ولم تتقبل حماس هذا التحجيم ولم تقبل بدور العمل لتغيير أوضاع الشعب الفلسطيني الحادة، وابتعادها عن سلطات الرئيس التي غدت رسمية قانونية، فتوجهت للصراع مع مؤسسات الرئاسة ومن ثم الأنقلاب على السلطة العليا، وعدم القبول بقرارات الرئيس، ثم فصل قطاع غزة عن الضفة.
كان عدم توجه حماس للتركيز على أوضاع الشعب المعيشية التي كان ينبغي أن تكون بؤرة نشاطها الحكومي المفترض والتي أُنتخبت على أساسها، يعبر عن رؤية متضخمة لذاتها، ولكونها تتجاوز أطروحات فتح والقوى الوطنية الأخرى، فهي تحمل هوية (إلهية) قادرة على هزيمة إسرائيل عسكرياً، بعد أن عجز عن ذلك فارس الفرسان، وتمخضت تلك الهوية الميتافيزيقية عن إنصراف عن الأمور المحورية الاقتصادية للسكان، وجرهم إلى معارك غير متكافئة مع الجيش الإسرائيلي، وتخريب وضعهم المعيشي السيء. ومن هنا فهي تخاف من أية إنتخابات جديدة بعد أن تم كشفها على صعيد الممارسة السياسية الضعيفة على الأرض.
ومن الواضح بأن ذلك كله جرى وليس في حماس إهتمام جدي بعملية السلام المحورية في حياة الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد جاءت على أجنحة رؤية تصادمية هي إستمرار للماضي العنفي، وحاولت أن تجعل من الضفة وغزة الخارجتين بصعوبة من الأحتلال منطقتي حرب وبداية لتحرير فلسطين.
وقد توافق هذا مع سياسة المحور الإيراني – السوري، ومع صقور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والحركات الدينية اليهودية المعادية للسلام، وهي قوى تشترك من خلال مواقعها المختلفة في تأجيج التدخلات في الدول والنزاعات وتوتيرها خدمة لأهدافِ كلٍ منها الخاصة.
وبهذا أصبح لفلسطين جسمان جغرافيان منفصلان، عوضاً عن ضم الجسم الثالث السليب.
وبدلاً من رئيس واحد صار لها رئيسان.
وصارت لها دولتان وعلمان، العلم الفلسطيني الرسمي والعلم الأخضر. وصار لها نشيدان الخ..!
وإنشغلت الضفة بطلب المساعدات وتغيير أوضاع الناس الاقتصادية وأنشغلت غزة بإطلاق الصواريخ، ومقاومة الحصار، وضاع برنامج التحرير والسلام إن لم يكن قد ضاع وجود الشعب.
لا بد من القول كلمة هنا حول استثمار حماس للإسلام، وهو بخلاف الاستثمار الفتحاوي الانتهازي النفعي السابق الذكر، فهو إستثمار رجعي متضخم، فقد حاولَ قادة حماس أن يضعوا أنفسهم مقاربة لمنزلة النبوة في صراعها مع اليهود، فكأنهم في نفس النزال ونفس المكانة! وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يواجه مجموعة ليست بضخامة اليهود الحاليين، ولا بعدتهم ولا بعلاقاتهم الجبارة مع قوى الهيمنة في العالم، وكان بقربه مئات الآلاف من العرب إستطاع أن يحركها ويوظفها، فكان صراعه معهم صراع اقتدار وانتصار ولغاية (تأسيسية) للأمة، وبعد ذلك جاء التعامل المغاير معهم ومع غيرهم بحسب إنسانية وديمقراطية الحركات والدول الإسلامية، أما صراع حماس الراهن مع إسرائيل فهو صراع إنتحار وكوارث على الشعب الفلطسيني!
فلا يجب توظيف آيات القرآن توظيفاً خاطئاً شرعاُ وسياسة، وإجراء عمليات المماثلة بين تاريخين مختلفين، في وضعين مغايرين، فتكون إساءة مزودجة لتاريخ الإسلام ولرموزه وللوعي والمسئولية في السياسة المعاصرة.
كانت الأوضاع الاقتصادية متردية في الضفة والقطاع منذ بداية القرن العشرين فيما تكشفه الأرقام، فيصف تقرير للأمم المتحدة الأوضاع بالصورة التالية:
(ذكرت بعثة منظمة العمل الدولية في تقريرها أن عمليات إغلاق الحدود الإسرائيلية ونقاط التفتيش بين الأراضي المحتلة وإسرائيل والبلدان المجاورة أثرت تأثيراً مأساوياً على اقتصاد المنطقة. فهبطت الأجور الحقيقية للعمال الفلسطينيين في إسرائيل بنسبة 46% تقريباً في 2001 مقارنة بالعام السابق، في حين تدنت إيرادات السلطة الفلسطينية بنسبة تزيد عن 70%.
وذكر التقرير أن تصعيد العنف والاحتلال العسكري للأراضي تسببا في أضرار مادية كبيرة بالبنية التحتية والأراضي الزراعية. وتقدر الأرقام الأولية تكلفة إعادة بناء المباني العامة والخاصة والبنية الأساسية في الضفة الغربية وحدها بنحو 432 مليون دولار أمريكي.
وأضاف التقرير أن النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي بالمناطق الفلسطينية هبط بنسبة 12% في عام 2001 كما هبط الدخل القومي الإجمالي الحقيقي – وهو مجموع الناتج المحلي الإجمالي وعامل الدخل المكتسب في الخارج (أجور العمال الفلسطينيين المكتسب في إسرائيل) بنسبة 18.7%.
ولاحظ التقرير أن أكثر من 90% من السكان الفلسطينيين يعتمدون على شكل من أشكال الدخل الناتج عن عمل في الأراضي المحتلة. وأضاف أن ” أي هبوط في الاستخدام في الدخـل الناتج عن العمل يترجم فوراً إلى هبوط في الاستهلاك والرفاهة”. وتشير التقديرات الأوليـة للمكتب إلى أن “البطالة يمكن أن تصل إلى قرابة 43% في الأراضي المحتلة خلال الربع الأول من عام 2002. وقد ازدادت النسبة المئوية للسكان الذين يعيشون في فقر (اقل من 2.1 دولار أمريكي يومياً) من 21% عام 1999 إلى 33% عام 2000 وإلى 46% عام 2001. وذكر التقرير أن الرقم يمكن أن يصل إلى 62% عام 2002. ووفقاً لما ورد في التقرير، فإن إسرائيل لم تنج من الانتفاضة. فقد عانى النشاط الاقتصادي في إسرائيل من انكماش حاد خلال عام 2001 بهبوط الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5% خلال عام 2001بعد زيادة بلغت 6.4% عام 2000.
وقد تضرر الاقتصاد الإسرائيلي بشدة نتيجة ثلاث صدمات اقتصادية: تباطؤ الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من العام 2000؛ وتدهور الوضع الأمني لنشوب انتفاضة 2000؛ وعواقب أحداث 11سبتمبر.
واستطرد التقرير قائلاً “وكانت الصناعات عالية التكنولوجيا هي الأشد تضرراً من جراء تدني النشاط في الاقتصاد الأمريكي، يليها هبوط بنسبة 50% في عدد السائحين في 2001 نتيجة أحداث 11سبتمبر، وتدهور الوضع الأمني الداخلي. وتعرض النشاط في قطاع البناء لفوضى حادة نتيجة الانسحاب المفاجئ لنحو 000 55 عامل فلسطيني، فضلاً عن هبوط الطلب المحلي والاستثمار العام. وامتدت هذه الصدمات التراكمية إلى الاقتصاد برمته.
وارتفعت البطالـة بشكل متواصل خلال عام 2001، من 8.1% في الربع الأول إلى 10.5% في الربع الأخير – أي ما يساوي 000 267 شخص. وأضاف التقرير أنه “تم استدعاء نحو 000 30 من قوات الاحتياط للخدمة العسكرية في الربع الأول من عام 2002، الأمر الذي قد يحدث أثاراً ضارة على أنشطة. واختتم تقرير المكتب قائلاً “يدفع السكان الفلسطينيون والإسرائيليون ثمناً باهظاً للاحتلال والعنف. ويشهد الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الأراضي المحتلة تدهوراً يومياً مع ارتفاع مستويات الفقر والبطالة التي أصبحت عملياً أزمة إنسانية سائدة).
لقد غدت البنية الاقتصادية الفلسطينية معتمدة على البنية الاقتصادية الإسرائيلية، وليس ثمة إمكانية للتفكيك بينهما، وأي علاقات توتر تنعكس على المعيشة بين الشعبين، كما يجري ذلك أيضاً على المستويين المصري والأردني بدرجتين أقل.
ولهذا فإن غالبية الشعبين تتطلع إلى علاقات جديدة بينهما، وبهذا فإن الأوساط المتطرفة في كلا الجانبين خفتت لكنها لا تزال قوية كذلك، فالقوى اليمينية المتطرفة الإسرائيلية ترفض أي إنسحابات وتقوم بتوسيع المستعمرات، وتعزز الجدار الفاصل، وتريد حدوداً تختلف عن حدود 1967، في حين تقوي حماس والجماعات الدينية المتطرفة في غزة التوتر وترفض الحلول السلمية لهذه الأزمة الرهيبة الطويلة التي إستنزفت الشعب الفلسطيني بدرجة خاصة لأسباب غدت واضحة.
ومن المؤكد بإن الحل النهائي للأزمة لن ينهي العلاقات بين الجانبين بسبب اعتماد العمالة الفلسطينية الكبير على الاقتصاد الإسرئيلي، وبسبب تدني أجور هذه العمالة وتفاقم الهجرة اليهودية من إسرائيل المضطربة نحو الغرب.
وفي دراسة أمريكية إستطلاعية عبرت شريحة من المواطنين العرب والإسرائيليين في داخل إسرائيل عن تأييدها للتعايش المشترك بين الجانبين:
(أظهرت نتائج استطلاع الرأي أن أغلبية مهمة من المواطنين اليهود والعرب يؤيدون التعايش، إذ عبرت الغالبية العظمى من المواطنين اليهود (73 %) والمواطنين العرب (94 %) عن رغبتهم في أن تكون إسرائيل مجتمعاً يقوم على الاحترام المتبادل بين المواطنين العرب واليهود وعلى تكافؤ فرص.)، (عن شبكة العلمانيين العرب).
إن نمو الفلسطينيين داخل إسرائيل يتزايد وهم يشكلون 20% من السكان، ويزاد حضور اللغة العربية وتدريسها في الجامعات الإسرائيلية.
ومن المؤكد إن نمو علاقات سلمية سوف يزيد الحضور السياسي للجمهور المدني وخاصة القوى العاملة المتضرر الأكبر من الصراع، وبالتالي فإن هذا سوف يزيد من حضور الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في الجانبين.

 

الإقطاع الفلسطيني تابع التابعين

كانت سرقةُ فلسطين من قبل رأسِ المال اليهودي قد تركزتْ بشكلٍ خاص على الفلاحين الفلسطينيين، فالأرضُ كانت هي قلبُ الصراع، فأُنتزعتْ بأغلبيتها عبر حربي 48 و67.
(في الدولة العربية، كان الملاكون العرب يمتلكون 77.69% من إجمالي مساحتها، بينما لم يكن يملك الملاكون اليهود إلا 0.84%).
ثم تغيرت النسبة كلياً، وسُرقت كذلك المساكن وحيوانات الزراعة والمعدات والمواد الإنتاجية المختلفة، ولكن بقيت أراض زراعية فلسطينية عديدة منتشرة في الضقفة وقطاع غزة وفلسطين 48، وصمدت جماعات عديدة من الفلاحين. ولكن حتى الضفة الغربية المحتلة سُرقت منها أراض تبلغ 52% من مساحتها العامة.
فالفلسطينيون غير قادرين على تشكيل إقطاع بالمعنى الحرفي الزراعي مثل بقية البلدان العربية، وفقدان البلد والأرض يمنع تشكل دولة، والدولة هي الشكلُ الأساسي للإقطاعِ السياسي في التاريخ العربي الإسلامي.
كان الفلاحون والمنتجون الصغار والبسطاء هم القاعدة الأساسية للاجئين، فحملوا وعيهم الديني إلى الأقطار التي سكنوا فيها، فتداخلوا بسكان الأقطار العربية المتعددة، الذين شاركوهم همومهم، وغدت القضية الفلسطينة قضية عربية، وراحت الشعوب العربية تساهم وتتبرع، والحكومات تستغلُ الهمَ الفلسطيني لأغراضٍ شتى.
هذا التداخلُ العربي الفلسطيني سيكونُ له تطورهُ حسب الصراعات والتطورات داخل كلٍ من هذه الأقطار، وداخل الكتل الفلسطينية المختلفة كذلك، فسوف ينجرفُ العربُ لتأييد القضية الفلسطينية ثم يتراجعون عن ذلك، بسبب أن تنامي الدكتاتوريات النازفة للموارد في الدول العربية وفي الجموع الفلسطينية يخربُ النضالَ المشترك على كلا الجانبين.
إن زمنَ المساعدات الكويتية التي تتشكلُ في فضاءٍ حر نسبي هي غير المساعدات في العراق وسوريا حيث تتشكل عبر نظامين دكتاتوريين، فميلادُ فتحٍ في الكويت، غير إلحاقها بزمني العراق وسوريا. فيتشكلُ هناك في البرلمانية الكويتية شيءٌ من الفضاء العلماني الديمقراطي، في حين يتدهور هذا الفضاء مع بعثي العراق وسوريا. هنا تغوصُ فتح في الإقطاع السياسي ونفعيته وإنتهازيته. وهذا غير زمن الفوضوية السياسية في لبنان، هناك زمنيةٌ إجتماعيةٌ لتحولِ فتحٍ من الوطنيةِ التضحوية للإقطاع السياسي.
لقد تشكلتْ الخليةُ الأولى الأساسيةُ للدولةِ الفلسطينية عبرَ منظمة التحرير، وكان المناخ العام مناخ تضحية وفداء من قبل الجمهور الفقير الواسع في المخيمات، وسيطرت منظمة فتح على هذه الخلية الأولى، وعبر تكتيكاتها العسكرية المختلفة المتفاوتة بين المغامرات الرهيبة والتضحيات الكبيرة، تغلغلتْ في حياة الشعب وأنضم إليها الكثيرون، وغدت هي مشروع الدولة.
الأجواء التضحوية الثورية، والعمليات الفدائية، والبطولات، وثقافة النضال العارمة التي أشاعتها، كل هذه جعلت الجمهور يتصور أنها خارج قوانين الصراع الاجتماعي، ولا علاقة لها بسببيات الدول العربية السياسية، وأنها قادرة على أن تقفز على سيادات الأنظمة الإقطاعية والرأسماليات الحكومية العربية الفاسدة بتجرية ثورية (نقية)، لكن هذا الوعي الرومانتيكي بدأ ينهارُ مع تراكمِ الموادِ الواقعية السوداء، فالجماهير الشعبية المضحية بقيت مثل الجماهير العربية الأخرى مادة نزيف إقتصادي، والأسوأ للمغامرات العسكرية المجنونة، وتحولت أراض (محررة) في البلدان العربية إلى أراضٍ محروقة ومناطق للحروب الأهلية.
الهيمنة الفردية المطلقة من قبل ياسر عرفات ومجموعته على فتح تحولتْ إلى هيمنةٍ مطلقةٍ على منظمة التحرير، اليسارُ واليمينُ في المنظمة، لم يخرجا عن الخيوطِ الماليةِ التي تحركُ العرائسَ السياسية، وضجيجهما الهائلُ لم يشكلْ تيارات تنويرية وديمقراطية وليبرالية فلسطينية مؤثرة متصاعدة التأثير، ومثلَ قاعدة الأنظمة العربية الإقطاعية والرأسمالية الحكومية العربية: من يملك الخزانةَ يصيغ التاريخَ السياسيَّ ويُشكلُ الدُمى على المسرح الفقير من العقل.
بل لقد ساعد اليسارُ الطفولي الفلسطيني في تقوية اليمين الإقطاعي، المستولي على الخزانة، بمغامراتهِ وصخبهِ وعنفه، حتى بدا العقل عند فتح، التي جمعتْ بين الدهاءِ والفساد.
لكن المال الذي يأتي للخزانة الفلسطينية لم يكن فقط من الضرائب على الشعب الفلسطيني الفقير المنهك، وحتى هذه لم تأت إلا بقرارات عربية سيادية، بل كذلك من فوائض النفط العربية، التي تدفعها حكوماتٌ عربيةٌ عديدة، كل منها لها سياسة، وتوجهتْ لفردٍ أو لمجموعةٍ لم تكن تمتلك وسائل المحاسبة السياسية والمالية الدقيقة، ولم تكن ثمة حكومة، ولم يكن ثمة برلمان منتخب، وبهذا فإن السيولةَ الماليةَ سالتْ في بعض الجيوب.
لقد نشأتْ بذرةُ الدولةِ الفلسطينيةِ من هيمنةٍ فردية، وفي أجواء بخور الفلاحين الديني المُنتزَّعين من الأرض، والذين شلت إراداتهم النضالية المطلبية وتناثروا في الملاجئ، وحملوا سذاجاتهم وغضبهم معهم وعبدوا الجملةَ الثورية باعتبارها المنقذ مثل الإله، وبحثوا عن البطلِ الفرد الطائر وراءَ الإسراء والفتوح القدسية، فجاءهم البطلُ وهو يركبُ حصانَ الفسادِ البترولي العربي ودكتاتورياتِ المشرقِ والمغرب العربيين، الباحثين عن زكاةٍ حلالٍ من خلالِ الدمِ الفلسطيني لكلِ السرقاتِ التي يقومون بها، ولكلِ الإنقلابات التي يدوسون بها على الشعوب.
حين كان الفلسطينيون يقومون بعملِهم السياسي الفوضوي ويفتقدون الديمقراطية والوعي العلماني التحديثي كانوا يخسرون على الجانبين العربي والإسرائيلي، فالعربُ ينسحبون من تأييدهم نظراً لتأييدِهم دكتاتوريات الأنظمة التي تبطشُ بهم ليل نهار وكانوا يعتقدون أنهم سيكونون شركاء معهم في نضالهم المشترك!
ونظراً لعجزِهم عن الاعتمادِ على شعبهم الفلسطيني بشكلٍ مستقل فهو الوحيد الذي كان يمكن أن ينقذَهم من الارتماءِ في أحضانِ الأنظمة الفاسدة ولكن هذا كان يتطلبُ ثوريةً صبورة حكيمة وليست إستعراضية بلهوانية، وهذا كله أدى إلى نمو جراثيم البرجوازية الطفيلية داخل القيادات الطليعية المفترضة، وكانت فوضوية وإنتهازية الجماعات المنظمة والمراهقة السياسية هنا خسارة على الجانبين، فهي التي أدتْ من جهةٍ أخرى لتماسك إسرائيل وتبعية العمال اليهود للبرجوازية الاستغلالية السارقة للأراضي والثروات الفلسطينية، وخسارة الأشقاء العرب العمال في المعركة المصيرية العظيمة المشتركة!
ياسر عرفات مثّل نموذج هذا العمل الغريب بالقضيةِ والدينِ والعلمانيةِ فلا أحد يستطيع القبضَ على موقعهِ الفكري، ولم يصمد في مشروعه الأولي عن دولة فلسطينية علمانية ديمقراطية تجمع العرب واليهود حيث لم يؤسسْ أيةَ خطوات صغيرة لها على الأرض ولم يكن قادراً لا فكرياً ولا سياسياً على الثبات في هذا المشروع وتطويره، ومثلَّ مأساةً مروعةً للنضالِ في العالم الثالث، ولم يُعرفْ دوره تماماً فهل هو القائد البطل أو المستثمر في الدم والنقود، هل هو الذي ينجو من المذابح الفلسطينية أم هو الذي يغتني من خلالها؟
والأهم هو هذا التلاعب بنقود الناس الفلسطينيين والعرب معاً، وهل كانت حربُ العصاباتِ تحتاجُ لتأسيسِ أهراماتِ النقود ولأن تكون بميزانيات شركات عابرة للقارات؟
(نشرت صحيفة الرأي العام الكويتية في تاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2004 تقريراً حول شبكة استثمارات عرفات العالمية، وذُكر في التقرير أن قيمة إستثمارات عرفات في جميع أنحاء العالم نحو 799 مليون دولار موزعة على شركات اتصالات وبرمجة وغيرها من الشركات العالمية والإقليمية والمحلية من أمثال سترايك هولدينغنز، وشركة الاتصالات المحلية في الجزائر، وشركة سمبلكستي للبرمجة)، (تقرير حول الفساد في منظمة التحرير، إعداد وائل سعيد).
إن الخطوات السياسية منذ بدء نضال الفلسطينيين والتي لم تستند على رؤية طبقية وطنية ديمقراطية وأممية، والتي كان محورها المفترض جذب العمال الإسرائيليين لنضال ديمقراطي مشترك ضد الصهيونية والحرب والإستغلال، قد جعلتهم معلقين في فضاء الشرق الأوسط السياسي، الإقطاعي العربي الديني، فغدت المشروعات السياسية تنزلقُ على سطحٍ إجتماعي أملس، فمن حرب العصابات وضرائبها الجسيمة حتى الدويلة التي لن تكون سوى – عبر هذا الوعي السائد- سوى قطائع مفتتة تابعة للبرجوازية الإسرائيلية المسيطرة.
الرؤية الوطنية القومية الدينية اليمينية التي بدأت في وقت مبكر كانت لديها شعب واعد لنضالٍ عميق تقدمي، لكنها لم تكرسْ هذه العناصرَ الديمقراطيةَ والعلمانية الجنينية، وصعّدت الفئات الإنتهازية، التي سدتْ مسامَ الثورة المستمرة في عروقِ العاملين العرب واليهود، وركبتْ على الجسور الخربة للدكتاتوريات العربية، حتى وجدتْ نفسَها شبهَ محطمةٍ في حرب لبنان، فقبلتْ بأي حلٍ ينقذها من عالم الحطام السياسي الذي صنعته.
فتح وحماس وليدتان لوعي مذهبي إقطاعي يميني واحد، كلتاهما نتاجُ حركةِ الأخوان المسلمين في مصر التي هي وليدةُ حركةِ الأخوان في السعودية، أي هي الحركةُ المعاديةُ للحداثةِ والديمقراطيةِ والعلمانية طريق الأمة العربية للنهضة والتحرر والوحدة.
في إنبثاقهما المقارب من مصر وغزة، وولادتهما من أصلٍ مريضٍ واحدٍ، تباينَ تطورُهما التالي، فرحلتْ (فتحٌ) للكويت، وتشربت ظرفاً جديداً، فيما غاصتْ (حماسٌ) في غزة بسبب الظروف التاريخية لتفككِ الشعبِ ولتفككِ الأجزاءِ الأخيرةِ المحتلة.
توجهتْ فتح للتجارة السياسية بالوطن، فيما توجهت حماس للتجارة بالإسلام، وكما أن فتح لها جذور دينية، فحماس لها جذور وطنية، لكن المادة الخام الفكرية هي نفسها، لا يُحفر فيها ولا تتشكلُ أبنيةٌ فكرية عميقة فيها، فتفصلُ الوطنَ والإسلامَ عن الإمتلاكِ الكلي لهما من قبلِ تنظيمات سياسية، فيحدثُ الإمتلاكُ الكلي بالضرورة عبر الدكتاتورية، وهي لا تأتي إلا بالحصولِ على الأموالِ بطرقٍ فاسدة، فتتكون النخبُ الانتهازيةُ المأجورة للقيادات.
كان حراكُ فتح أوسعُ حينذاك وقد دغدغتها الفترةُ القوميةُ الحماسية وخفوت الإقطاع الديني المحافظ، وكانت حركاتُ الأخوان ضد ذلك المد القومي التحرري ومتشبثة بالإقطاع الواعد بالنفط وبالقوى الأجنبية الاستعمارية، لكن كلا الفصيلين كانا تابعين لنفسِ الجذور، والفئاتُ الوسطى الصغيرةُ تتحركُ بتوسعٍ حسبَ مناخ النقود الأكثر، فكان حراكُ فتح الذي رصدناه وكوّنَ فئةً مهيمنةً على المال العام الفلسطيني، قد كسب الأغلبية الشعبية الفلسطينية.
وكما رأينا كيف مثَّلَ القبولَ بالدويلة الصغيرة الواعدة في الضفة وغزة، هزيمةً عميقة لخيارِ العلمانية والديمقراطية والحرية، فكانتْ عمليةُ قفزةٍ في الهواءِ مثلما فعلتْ القيادةُ اليمينيةُ الجنوبيةُ بقبول الوحدة مع الشمال، أي هو الهروبُ إلى الإمامِ بسببِ عدمِ تنفيذِ مهامِ النضالِ الديمقراطي العلماني، فكان نتاجاً لسياسةٍ فشلتْ في إستثمارِ القوى العمالية والشعبية والرأسمالية النهضوية المعادية للصهيونية في كلٍ من فلسطين وإسرائيل، وتشكيل السير الحثيث الصبور للقوى الديمقراطية المتجذرة في الأرض الفلسطينية الكلية، والناقدة للتخلف الديني الاجتماعي.
لكن هذه الثروة الشعبية لم يُحافظ عليها ولم تُطورْ بل طُورتْ الثروةُ الماديةُ لدى النخبة الحاكمة، وبهذا إنضمت لقوى الإقطاعِ العربي وللرأسمالياتِ الحكوميةِ الفاسدة التي تقوم فوقها فما أحدٌ يبلع مالاً من هذه القوى حتى يغلق فمه النقدي، وما أعتبرتهُ إنتصاراً تحولَ لهزيمةٍ صاعقة وصفعة سياسية مدوية لتلك الشعبية ولقوى منظمة التحرير، التي كشفت نفسها كذيل سياسي لفساد فتح.
ظهر الشعبُ المُنتخبُ إنه مؤثر لرمزية الإسلام المضادة للإستغلال والفساد حسب مستوى وعيه دون إدراك تنويري علماني لم تواصل فتح في تشكيله، ففشلت قياداته على مستويي الدفاع عن الثروة المادية والدفاع عن الثروة الروحية.
مرة بعدم النضال من أجل تنويره وتطوير فهمه للوطن والإسلام، وهذا لا يحدث بدون نضال ديمقراطي إجتماعي، وبنقد للعادات الاجتماعية المتخلفة في الزواج والإرث والتراث والعادات والتفكير، أي يتطلب منظمات مناضلة واعية بين الشعب، وليس صاحبة خطابات على المسارح العربية الضاجة بالميكروفونات الصاخبة.
النضال ضد حماس هو نضال من أجل الديمقراطية الاجتماعية، بتغيير حال الشعب المتخلف، بإعادةِ النظرِ في هيمنةِ القوى الإقطاعيةِ على الإسلام منذ بني أمية، وليس أن تضعَ صناديقَ الانتخابات بين هذه الأيدي غير المدركة لتعقيد النضال الوطني الفلسطيني.
كذلك بتغييبها إستثمار التقدم النضالي للقوى الشعبية في إسرائيل ضد الطغيان فيها، وبدون ذلك تُمزقُ صفوفُ العربِ والمسلمين، والمسيحيين واليهود، أي كل القوى الشعبية المتضررة من سياسات الغزو والإحتلال والإستغلال، لتهيمن الصهيونية عليها بأشكالٍ شتى عبر الانتهازية الفلسطينية اليمينية الفاسدة أو عبر المذهبية الاستغلالية اليمينية الأخرى المنتفخة بمغامراتها وتجارتها بالدين.
إن إنهيار المشروع العلماني الديمقراطي لفتح هو ثمار التنازلات المختلفة، وضعف تلك العناصر الديمقراطية الرقابية على القيادة وغياب حضور القواعد الشعبية، وجرى خلال ذلك تأييد الرأسماليات الحكومية العربية الشمولية التي وصلت إلى درجة الأزمة الخانقة كالعراق، وحركاته المخربة للتطور الديمقراطي العربي، ويتسبب ذلك في تجفيف ينابيع المال والتأييد لفتح، مثلما جرى الأمر عبر الالتصاق بالأنظمة الروسية والسورية والمصرية، أي لقد حدثتْ سلسلةٌ من الانهيارات في التحالفات العالمية والعربية، تشيرُ إلى عدم فهم القيادات الفتحاوية لفشلِ نماذجِ ومشروعات الرأسماليات الشرقية الشمولية ووصولها للأزمةِ العميقة والانهياراتِ المتتالية، وبضرورةِ إنتزاع نفسها وهي مشروعُ تحررٍ ديمقراطي مفتوح وليست نظاماً من تلك الأنظمة المسدودة الأفق.
لقد إستبقتْ الحركاتُ المعارضةُ العربية نماذجَ الرأسماليات الحكومية المستبدة عربياً وعالمياً، داخل كياناتها التنظيمية، وقلدتها وتماهتْ مع فسادِها وضيقِ فكرها، فصارتْ غيرُ قادرةٍ على إنتاجِ نماذج التطور الديمقراطي العلماني، فجاءت هزائمها السياسية.
جسدت حماس إختراق وتضعضع المشروع الوطني الفلسطيني التحرري العلماني، وهي سمةٌ (عربية إسلامية) عامة، نظراً للأصول المحافظة الإقطاعية للحركاتِ الدينية التي كونت التقليدية واللاعقلانية النصوصية بعد سقوط الخلافة الراشدة، وهي تعتمدُ على تمزيقِِ صفوفِ العربِ والمسلمين، وضرب الحداثة وهي القشرةُ الرقيقة التي تكونتْ في سنواتِ التحرر الوطني، وكلما زاد فساد وإنتهازية القوى الوطنية وتخليها عن المشروع العلماني الديمقراطي التقدمي، كلما قامتْ تلك القوى الدينية بإستثمار مناطق التخلف لدى الجمهور وغياب العدالة لتأصيل مشروعها الإنقسامي المتراجع عن قيمِ النهضةِ والتوحيد.
من هنا فتمزيق حماس لوحدةِ الشعب الفلسطيني وجره للوراء، والاشتراك في تحالفاتٍ إقليميةٍ مُفتتةٍ لصفوفِ للمسلمين ومهيجةٍ للطائفيات السياسية وللدفاعِ عن الرأسماليات الحكومية الفاسدة الرافضة للديمقراطية والإصلاح، هو إستثمارٌ لتناقضات النضال الفلسطيني التي نخرتْ فيه طوالَ العقود السابقة ولعدم تشكيله للبرنامج النهضوي التحرري العميق.
(حماس) هي تعبيرٌ عن رمزيةِ الأخطاءِ الفتحاويةِ والفصائليةِ وللتخلي عن العلمانيةِ والوطنيةِ والديمقراطيةِ والأمميةِ وعدم تطويرها في حلقاتِ العملِ السياسي السابقة.
ولهذا كلما تم إصلاح هذه الأخطاء وتواجدتْ جبهةٌ نضاليةٌ ديمقراطية تقدمية كلما أخفقت الأصواتُ الطائفيةُ المحافظةُ المستغلةُ للإسلامِ وتوظيفه لهدمِ نضال العرب والمسلمين المعاصر من أجل التقدم والتحرر.
فثمة ضرورةٌ كبرى لإعادةِ النظرِ في المشروع التحرري الفلسطيني منذ بدايته، ونقده، وضرب الفساد الذي عشش داخل أجهزته المسيطرة، وإحداث قراءات ديمقراطية علمانية للتراث والأوضاع الاجتماعية المحافظة للجمهور وتغيير حياته المادية الصعبة، وبضرورة العلاقات الوطيدة مع النضال الديمقراطي العلماني داخل العالم العربي وإسرائيل، وهي كلها عمليةٌ صعبةٌ تاريخية لكن لا يوجد بديل عنها.
رأينا كيف تجاوزت حماس أخطاء فتح وفتحت باب الإنهيار الوطني الفلسطيني العام، وعلى كلِ المستويات تم إختراق البيت الفلسطيني، فمزيد من الهيمنة الإسرائيلية والغربية ومزيد من تبعية القضية لأنماط جديدة من الإقطاع الأشد تخلفاً في المشرق العربي، ووصل التمزيق لصفوف المسلمين غير العرب، وسحب أيديهم من التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته.
كما قامت حماس بتقوية القوى الصهيونية داخل إسرائيل وخارجها.

صراع الطوائف والطبقات في «إسرائيل»

يعبر قيامُ إسرائيل عن مجموعة كبيرة من التناقضات السياسية والثقافية، فقد أُقيم المشروعُ من قبل الحركة الصهيونية، التي ظهرتْ في الغرب، ومثلتْ مستوىً دينياً واجتماعياً مغايراً لبقية اليهود في العالم، وخاصة اليهود الشرقيين، فسيطر ما يُسمى بــ(الإشكناز) على مقاليد السلطة وغدوا طبقة مميزة تناهض أي قوة إجتماعية تحاول الصعود.
منذ البداية كان مشروع إسرائيل متضاداً فقد أقامه اليهود العلمانيون المفترضون، فهو مشروع ديني بقيادة رأسمالية غربية يهودية، علمانية، فظهرت دولة حديثة ديينة معاً، فهي لا تنتمي للعلمانية ولا للدين، وهي خليط غريب بينهما.
إن النسيج الديني نفسه لا يقوم على دولة متوارثة ذات تقاليد متنامية، فلم تكن ثمة دولة، ولا تراكم تجربة سياسية حكومية، بل قامت على أحلام وذكريات أمتدت لقرون مديدة، فكيف يتحقق نسيج ديني موحد بناء على تاريخ الشتات الطويل؟!
لو أن اليهود الشرقيين قادوا بناء الدولة لجاءت الدولة دولة شرقية متخلفة، لكن اليهود الغربيين قاموا بهذه العملية ونقلوا المشروعات الغربية إلى إسرائيل، وهذا كفل لهم كذلك ليس القيادة الروحية فحسب بل القيادتين الاقتصادية والسياسية.
ومع هذا فإن اليهود الغربيين العلمانيين والتحديثيين قليلو الارتباط بالتقاليد الدينية اليهودية الصارمة، مما خلق تضاداً عميقاً بينهم وبين اليهود الشرقيين المُبعدين عن السلطة والامتيازات الاقتصادية، فقام هؤلاء بإستثارة التقاليد الدينية وتجذيرها في الدولة العلمانية المفترضة.
إن هذا الصراع الاجتماعي بين يهود الغرب ويهود الشرق ينعكسُ دينياً، بين شكلين من تبني اليهودية، أي بين يهودية تحديثية وبين يهودية تقليدية.
تناقضات العلمانية واليهودية عميقة، فقد تأسس النظام على أساس سلطة الحاخامات في تحديد من هو اليهودي، وأشترطوا شروطاً صعبة ومن أهمها أن يكون اليهودي من أسرة يهودية، وعن طريق أم يهودية، وهو أمرٌ من الصعوبة تحقيقه، خاصة لليهود الشرقيين الذين كان الكثير منهم مسيحيين.
تحديد السكان وأصولهم، وجعل هذه الأصول هي المسيطرة سياسياً، يجعل الدولة دينية غير علمانية، في حين أن ماكينة عمل الدولة تعتمد على الانتخابات الحرة والأحزاب المتصارعة، وهي آلية غربية ديمقراطية.
إن هذه الشروط وطرق العمل السياسي الأساسية تجعل أحزاب الأشكيناز هي المسيطرة، لكنها تؤدي كذلك إلى ردود فعل الأحزاب الدينية الشرقية وتصاعد دورها، فظهر بين اليهود الشرقيين حزب (شاس) المؤثر والذي يمنع الأحزاب العلمانية من التفرد بالسلطة.
فلا يُعرف حقيقة هل إسرائيل دولة علمانية أم دينية، أهي شرقية أم غربية؟
لكن الثروة توحد القوى الرأسمالية فيها سواء كانت تنتحب كثيراً عند جدار المبكى أم كانت لا تراه إلا في الصور.
ومع تجذرها الرأسمالي الكبير، وقد كان اليهود منذ زمن الكنعانيين رأسماليين في الشرق ثم في الغرب، فإن الصراع لا يدور عن توزيع الثروة فقط، بل أيضاً حول أنصبة الطوائف في حصص الحكم، والأمران يتداخلان ويغينان بعضهما البعض، الثروة تقود للحكم والحكم يقوي الثروة.
هل تؤدي التقاليد الدينية القوية في الدولة إلى الرجوع للبنى الإقطاعية الشرقية؟
هذا غير ممكن، سواء بجذور اليهود التاريخية التجارية، أو بسبب تعاظم الدور الرأسمالي في دولة أقيمت على أساس صناعي غربي متطور، ولكن مع هذا فإن التقاليد الدينية وتدني مستويات اليهود القادمين من الشرق، تجعل الميراث المحافظ موجوداً بقوة، ويؤججه الصراعُ مع العرب خاصة.
إذن فإن التناقض الأساسي في الدولة الإسرائيلية هو تناقض ديني بين اليهود الغربيين (الإشكيناز) واليهود الشرقيين (الإسفارديم).
ولماذا لا يحدث التناقض الطبقي هنا ويغدو هو محرك الحياة السياسية؟
هذا يعود إن قيادتي الطائفتين قيادات في نفس الطبقة الرأسمالية الحاكمة، لكن عبر مستويات اقتصادية واجتماعية متباينة، وبتقاليدٍ مختلفة، تمثل المكونين الأساسيين للسكان، القادمين من الغرب، وللسكان القادمين من الشرق، وهما ذا مستويين مختلفين رأسماليين، أي أن تطور الرأسمالية اليهودية في الغرب متطور عن مستوى الرأسمالية في الشرق.
ومع هذا فإن المستويين المختلفين اجتماعياً بدرجات معينة يشكلان اختلافات سياسية قوية، فتدخل في الصراع عواملٌ أخرى كاستثمار العمال في الانتخابات والاستفادة من التقاليد الدينية من أجل الوصول للكراسي على طريقة الجماعات الطائفية في العالم الإسلامي تماماً.
ومن هنا فإن العلمانية تتدمر مرة أخرى فتغدو الدولة دينية ليس على مستوى القمة الحاخامية فقط بل على مستوى القواعد السياسية، في حين أن الدولة صناعية.
وهذا أمرٌ يعود لطبيعة تشكيل الدولة القصير نسبياً، وزراعتها داخل غابة تراثية أسطورية، وعودتها للشرق جسماً وبقسمٍ كبيرٍ من السكان، فالقمة الصناعية رأسمالية متطورة والقاعدة شرقية تقليدية.
بل أن الأمر لا يقتصر على هذا، فوجودُ دولةٍ متغربة عن منطقتها وغازية على جسم سياسي لا يعود إليها، ويقوم هذا الغازي نفسه بغزو آخر يحتل فيه أراضٍ عربية جديدة، إن ذلك كله يعيده إلى تاريخ الاستعمار الغربي وطريقة الاحتلالات القديمة وهو ما يظهر في حركة الإستيطان:
(فيما تلعب حركة غوش أمونيم المتطرفة والتي تعتبر أحد امتدادات الحاخام المتطرف مئير كهانا دورا عنصريا مميزا، وهي التي جندت الدين في خدمة الاستيطان، ولهذا فهي في صراع مع جميع الحكومات من أجل الحصول على امتيازاتها الخاصة في دعم المستوطنات والوجود الاستيطاني في الضفة والقطاع والقدس الشرقية.)، (من كتاب الهامشيون في إسرائيل، د. أسعد غانم).
وتمثل حركة الاستيطان إستغلال الدين لغايات اقتصادية وسياسية واضحة، فالحركات الشرقية الدينية تقوم بإلهاب المشاعر الدينية من أجل أغراضها.
إن صراع العلمانية والحركة الدينية قديم في النشاط السياسي لليهود، ففي العصر الحديث وخاصة في أوربا الغربية ومع هزيمة الأنظمة الإقطاعية الدينية المسيحية أخذت الطائفة اليهودية تطرح بقوة على نفسها مسألة الهوية الدينية في عصر علماني غربي هائل؛ إلى أين تتجه؟ وهو سؤال مصيري تم طرحه في عقر الحداثة، وكانت نتائجه خطيرة جداً على وضع اليهود وعلى أمم أخرى لم يكن لها علاقة بذلك.
ظهر أتجاه علماني قوي في الجماعات اليهودية يطرح حلاً فردياً على كل يهودي؛ (كن يهودياً في بيتك وحداثياً علمانياً في العالم الخارجي).
وهو اتجاهٌ تنويري بين اليهود المثقفين، لكن لا يتطابق مع أوضاع اليهود عامة، فهناك ملايين من اليهود خارج هذه الأسئلة وتعيش عالماً تقليدياً سواء في الشرق أم الغرب.
وهكذا فإن حركة علمانية تولدت عبر الثقافة الديمقراطية الغربية السائدة، راحت تدعو إلى العيش التحديثي في الغرب نفسه، وعدم الذوبان كذلك في علمانيته.
لكن قوى أخرى تمثل اتجاهات متطرفة رأت ضرورة إستمرار الحي اليهودي المنفصل (الجيتو) عن المدينة الغربية الرأسمالية المتطورة التي راحت تزيلُ الأحياءَ الدينية والمذهبية الخاصة، في كلٍ اجتماعي لا يعرف الهوية الدينية بل يعرف الهوية المواطنية، لكن الرأسماليات الغربية الحكومية كذلك لم تـُزلْ جذورَ حكوماتها المسيحية بطبيعة الحال، وبهذا فإن مشروعات الغزو الاستعماري الغربية قوت الدينية التبشيرية والساحقة لشعوب العالم الثالث (الوثنية)!
وبهذا فإن الاتجاهات اليهودية المتطرفة وجدت في نمو الاستعمار قوة جديدة لتصاعد دورها، خاصة أن بعض اليهود يكونون شركات كبيرة، بحاجة للتوسع والمواد الخام والمستعمرات!
هكذا التحمت حركة (التنوير) اليهودية بالحركة الصهيونية وشكلتا الجسم السياسي للأشكناز الذين يديرون الدولة العبرية، فلم يعد اليهودي يهودياً فقط في بيته بل في شارعه ومستعمراته وأراضيه!
إن قيادة هذه (الطائفة) بالمعنى السياسي للدولة كما أوضح سابقاً، نقلت اليهود إلى مغامرة سياسية عالمية محفوفة بالكثير من المخاطر على الشعوب وعلى اليهود أنفسهم، ولم تستطع أن تكون إسرائيل (جيتو) مناطقي، منفصل عن محيطها، ولم يستطع أن يكون اليهود الغربيون هم كل سكانها، فحدثت تلك التناقضات السكانية والسياسية المتعددة.
فغدت حركة التنوير اليهودية ظلاماً يرفض أن يتغلغل لتعرية الدين وجذوره، ويكتشف في اليهود بشراً مثل غيرهم، فأحاطت بهم الأسلاك الشائكة الثقافية، وتفجرت حروب الاقتحام والاستعمار والإستغلال فعجزوا عن التنور والتماهي مع بقية البشر، وخاصة الناس الذي اقتحموا أرضهم وطردوهم وأستغلوهم.
وحتى تجاه اليهود الشرقيين الذين تعكزوا عليهم من أجل تضخيم العدد السكاني، جعلوهم في المرتبة السكانية الثانية، فالثالثة يحتلها العرب.
ففيما يقيم رأسماليو الإشكناز في إسرائيل في المدن المتطورة ويحصلون على ظروف عيش باذخة، يعيش الكثير من اليهود الشرقيين في ظروف الفقر والتمييز.
(ويتعرض اليهود الشرقيون إلى محنة واضحة على الصعيد الاجتماعي أيضا، فهم معزولون في أحياء قذرة وفقيرة في إسرائيل، إذ يسكن الكثير منهم في مساكن العرب القديمة التي تم هجرها بسب النكبة، في الوقت الذي يسكن فيه اليهود الأشكناز في أحياء جديدة راقية بعيدة عن أماكن القاذورات والمناطق الصناعية وفضلاتها، إضافة إلى فوارق في التعليم أيضا.)، (المصدر؛ الهامشيون في دولة إسرائيل).
وعبر هذا الفقر والمحدودية الثقافية تستثمر قوى التطرف السياسي الإسرائيلي مثل هذه الأوضاع لخق حركات يمينية متطرفة، كما ظهر حزب(ليكود) الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية خلال سنوات عديدة، وهو أمرٌ يشاركهم فيه جيرانهم العرب كذلك.
هناك صعوباتٌ شديدة في تشكل مواقف مشتركة للطبقات العاملة في كل من إسرائيل وفلسطين المتداخلتين، فالطبقة الحاكمة في إسرائيل تستغلُ كلاً من البلدين وجمهورهما العامل بضراوة.
وفي إسرائيل فإن الطبقة الحاكمة المكونة من سياسيين من قوى علمانية ودينية ثرية تركز على سياسة السيطرة على الضفة وغزة وعدم إستقلال فلسطين إلا بشروط مجحفة، فيما تستغل القوى العاملة في إسرائيل المكونة من يهود وعرب.
في حوار أجراه اليساريون العرب المغاربة مع عضو حزب شيوعي إسرائيلي من النمط التروتسكي، يقول:
(لقد تغير المجتمع الإسرائيلي كثيراً جداً خلال السنوات الأخيرة. لقد مرَّ وقتٌ كانت فيه إسرائيل قادرة على ضمان التشغيل الكامل وتحسين شروط عيش الشعب الساكن فيها. أما الآن فالبطالة تجاوزت نسبة 10%. الحكومة تعمل دائما على الاقتطاع من النفقات الاجتماعية. هاجمت أنظمة التقاعد، التعليم، الصحة وغيرها. وقد صرنا الآن نرى المتسولين في شوارع إسرائيل! والهوة بين الغني والفقير تتصاعد.
إن إسرائيل مجتمع طبقي، مثلها مثل أي بلد آخر. توجد فيه طبقة عاملة، مكونة من اليهود ومن العرب. وتوجد فيه أيضا طبقة سائدة. وهناك صراع طبقي كما يظهر من خلال العديد من الإضرابات)، (حيفا، 18 يوليو 2006).
تحول الحكوماتُ الإسرائيلية المتعاقبة الوضع الفلسطيني وخاصة التطرف فيه لأداة سيطرة عسكرية وإستغلال، وعبر الإدعاء بكون الفلسطينيين يشكلون خطراً وجودياً على إسرائيل فقد تفاقمت النفقات العسكرية بشكل هائل واقتطعت من عيش الناس، وبهذا فقد غدا حل القضية الفلسسنية ومشاكلها لدى الجمهور الإسرائيلي قضية محورية في حياته وأيدت السياسة السلمية وضغطت في إتجاهها لكن ظهرت جهاتٌ عربية أخرى تواصل تبرير الميزانية العسكرية الخيالية باستمرار المواجهة العنيفة.
يقول السياسي اليساري الإسرائيلي:
(إن المسألة القومية تعقد بشكل هائل مهمتنا هنا. فبينما الطبقة العاملة في إسرائيل طبقة مضطهدة من طرف طبقتها السائدة نفسها، فإن إسرائيل كدولة تضطهد شعباً بأسره، أي الشعب الفلسطيني. وطالما بقي الشعب الفلسطيني مضطهداً فإنه لن تكون هناك أية حرية حقيقية للعمال الإسرائيليين. إن النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزء من نضال العمال الإسرائيليين من أجل تحررهم الخاص.) .
إن الأوضاع متداخلة بقوة بين فلسطين وإسرائيل، وأي نمو لنضال القوى العاملة في إسرائيل يتطلب التوحد مع نضال الشعب الفلسطيني، والخروج من دوامة الوعي الديني العنصري، في كلا الجانبين، ونجد أن قوى عديدة في الجانبين بدأت تتخذ مواقف عقلانية ومتقاربة، لكن القوى القومية والدينية المتطرفة لا تزال كذلك ذات حضور قوي وتمنع فريقا السلام من العمل المشترك.
وإذا قامت القوى الديمقراطية في فلسطين بتطوير وعيها السلمي منذ الرئيس السابق ياسر عرفات ومواصلة بومازن هذا الخط، فإن هناك ضعفاً كبيراً في الجانب الإسرائيلي لهذا التوجه بسبب ما قلناه من الإرث الشمولي الغائر في الحركة الصهيونية، وبسبب إستغلال الجمهور العامل الإسرائيلي والفلسطيني، وخاصة في الجانب العربي لما يتم دفعه من أجور رخيصة لهؤلاء العمال قياساً حتى بالعمال الإسرائيليين، كذلك فإن بقاء التوتر بين الجانبين يجعل القوى المسيطرة العسكرية – الصناعية في قمة المجتمع متحالفة مع الحاخامات!
لقد كان التصور الأساسي للمجتمع الإسرائيلي بأن يكون قاعدة سكانية عسكرية في حالة طوارئ مستمرة وعمالاً مفرغين من وعيهم العمالي الإنساني وخاضعين للحركة الصهيونية، وهذا يتطلب سياسة مواجهة دائمة، وإذا لم يوجد طرف يواجه إسرائيل فلا بد من خلقه وتوتيره حتى يندفع للمواجهة!
كانت سياسة السلام مؤثرة ومزعجة للأوساط الإسرائيلية الحاكمة، ولهذا تكرست بقوة في سنوات المواجهة، والآن تقوم بمساعدتها القوى والأوساط الدينية والقومية العربية والإسلامية المتطرفة، وتعطيها المبررات لزيادة الأنفاق العسكري وطلب المساعدات وتصوير إسرائيل المحاصرة المخنوقة!
ومن هنا فإسرائيل الحاكمة تعمل على بقاء الحد الأدنى من سياسة المواجهة المتوترة كذلك تقوم بالابتزاز في مفاوضات السلام، بحيث تكسب من الجانبين.
وهنا فكلما زادت الأطراف العربية في سياسة السلام ورفضت التنازلات المصيرية، وتوقفت عن سياسة العنف وحركت قوى السلام واليسار الإسرائيليتين كلما فقدت تلك القوى الحاكمة الإسرائيلية أوراقها.
خاصة إن هذه السياسة العدوانية الاستعمارية العتيقة تواجه برفض جمهور متسع من الأقليات اليهودية المضطهدة والتي تريد العيش وزيادة دخولها بدلاً من أن تموت في حروب مستمرة لهذه الدولة – القاعدة العسكرية.
فتبدل الطابع الصهيوني للدولة العنصرية وضخامة الوجود العربي فيها الذي يبلغ 16% من مجموع السكان داخل إسرائيل، أي حوالي مليون عربي، وتمرد اليهود الشرقيين واتساع رقعة اليسار والقوى العلمانية الإسرائيلية، إن كل هذا يؤذن بخمود للسياسة الصهيونية من داخل إسرائيل نفسها.
ولكن تصاعد التطرف الديني والتطرف القومي بين الإسرائيليين وبين العرب يقود إلى تفتيت القوى الشعبية عامة، وأنتصار لقوى المتطرفة في الانتخابات وفي الوجود السياسي عامة.
لقد كانت الأحزاب المعارضة في القسم العربي قليلة ولكن مع تزايد تأثير القوى المتشددة فقد ظهرت الكثير من الأحزاب وقسمت الأصوات العربية.

صراع الطوائف والطبقات في لبنان

فصل من كتاب صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران

أقيم البناءُ السياسيُّ اللبناني الحديث على طوابقٍ قديمة من الطوائفِ الكثيرة ذات الارتباطات المختلفة، فهناك أكثر من عشرين طائفة، فهو مجتمعٌ من فسيفساءٍ سكانية لم يَعرفْ الدولة المركزية، ولعبت فيه بعضُ الطوائف دوراً مركزياً في فترات معينة دون أن تستطيع إقامة دولة محورية وطنية، حين قامت هذه الطوائفُ بدورٍ مركزي في الحياة السياسية المناطقية، أو حين هيأتها ظروفٌ عالمية مستجدة للتحرك بما يغاير من الخريطة السائدة حولها، وتلعبُ هنا الكثافة السكانية دوراً مهماً، فبدونها يستحيلُ تشكيلَ قوى عسكرية – سياسية في هذه الفسيفساء السكانية.

فجرجرتْ الطوائفُ الممزقة المتصارعة ذاتَها إلى العصر الحديث بدون تغيير جوهري في بناها المختلفة.

كان للطوائف جذور قديمة، ولكن تاريخها الحديث وتوظيفها في عصر تنامي الرأسمالية الغربية بدأ مع تضعضع الأمبراطورية العثمانية، وبين سنتي 1840 – 1860 نشأت الثورة الفلاحية ضد الإقطاع، ثورة طانيوس شاهين، وتم توظيف التحركات الشعبية لهندسة نظام الطوائف وتفجير الصراع الطائفي بينها، فجرى العملُ لصنع منطقتين سياسيتين، الأولى يسيطرُ عليها الدروز، والثانية يسيطرُ عليها المسيحيون.

ومن أواخر القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين تشكل نظامُ المتصرفية، الذي نصَّ على قيامِ كلِ دولةٍ أوربية بحماية جماعتها الطائفية، (فرعت) فرنسا الطائفة المارونية، وانجلترا الدروز، وروسيا الأرذوكس ورعت المسلمين سنة وشيعة الدولة العلية أو العليلة الدولة العثمانية.

مع الاستعمار الفرنسي نشأ لبنانُ الكبير، الذي بدأ ينسلخُ عن سوريا الطبيعية والسياسية، وقد ثبت الفرنسيون نظامَ الطوائف وكرسوه، وصنعوا رئيساً للجمهورية من المسيحيين.

وقد قامت القوى الوطنية اللبنانية في صراعها ضد الاستعمار على أزواجية فكرية تتضمن وحدة سياسية تقوم على التقاسم الطائفي، فتمَّ توزيعُ المناصب بعد الاستقلال، بعد سنة 1943، على أساسين ديني ومذهبي، لكن بأن يكون ذلك مؤقتاً، وليس دائماً، وأن يتشكلَّ لبنانُ الوطني، لكن فكرة رياض الصلح هذه تم دفنها مع تنامي حضور الطوائف. وقد نصت المادة 95 من الدستور على أن الطائفية مؤقتة.

وكان هناك صراعٌ كبيرٌ منذ بداية تشكل لبنان بين ولائين، ولاءٌ لفرنسا أساسه الموارنة، وولاءٌ لسوريا أساسه المسلمون، وبين هذا وذاك، تشكل حلٌ وسط هو لبنان الراهن المتذبذب بين سوريا – البعث، وبين الغرب – فرنسا والليبرالية.

أقر اتفاقُ الطائفِ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وبين موظفي الفئة الأولى، رغم أن اتفاق الطائف طرحَ انتخابَ النواب دون قيد طائفي مع استحداث مجلس شيوح للطوائف، فكرس اتفاقُ الطائفِ التقاسمَ الطائفيَّ بدلاً من إلغائه.

(من مواد الحزب الشيوعي اللبناني، دائرة التثقيف، تاريخ الطائفية في لبنان).

ويُقدر عدد المسلمين ككل في لبنان بــ(59،7%) من أجمالي عدد السكان، والسنة تقدر نسبتهم ب(27%) من السكان، في حين تقدر نسبة الشيعة بــ(41%)، والدروز(7%)، أما الطوائف المسيحية فتشكلُ ما نسبته (39%)، أكبرها طائفة الموارنة (16%) من السكان، وتعبر الأثرى في المجتمع اللبناني، وهناك طوائف مسيحية أخرى أصغر حجماً، كالكاثوليك اليونانيين، والرومانيين(1%) والأرثوذكس (5%) واليعاقبة والنسطوريين.

من أهم أحزاب المسيحيين حزب (الكتائب) الذي تأسس سنة 1936 بقيادة بيير الجميل، تأثراً في زيارة له لأسبانيا بكتائب فرانكو الدكتاتور الأسباني.

شكل حزبا الكتائب والحزب الشيوعي اللبناني أساس الوطنية اللبنانية النهضوية، من موقفين متضادين شكلاً متوحدين في الجوهر.

فكانت الدكتاتورية الهتلرية أوالستالينية أساس وعيهما، وهو ما ينطبقُ على أحزاب وقوى يمينية ويسارية عديدة في الوطن العربي، ولكن للبنان ظروفه الخاصة، فهو أكثر حيوية وحرية، وهو أسرع توجهاً للمغامرة وأخطارها كذلك، مرة لأنه لا يمتلك دولة استبدادية مركزية، ومرة لأن إحدى الطوائف تحول نفسها إلى ذلك.

كانت (الكتائبُ) بتوجهها إلى نماذج الفاشية تريد حلاً سريعاً لمسائل التشتت الوطني، وقفزاً على جذور التخلف والإقطاع، وباستخدام العنف الشعبي الموظف لقوى اليمين، وكان العدد السكاني يسمح لها بالقيام بهذه المغامرة، وعبر تعضيد فرنسا، التي ما لبثت هي نفسها أن واجهت كارثة الهتلرية.

إن العصبوية السكانية اتاحت للكتائب ذلك؛ فثمة تكتل ماروني، وتراث من التمردات المسلحة، وغياب التراكم الديمقراطي الثقافي العميق.

وحتى بعد هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية لم تتحول (الكتائب) إلى تنظيم ديمقراطي، وهذا بسبب جديد كذلك وهو نشؤ المعارضة القومية المتشددة، ونمو الحزب الشيوعي الذي أوغل في دكتاتورية مختلفة، يسارية هذه المرة.

وتقوم عملياتُ التحول السياسي هنا على استيراد فكري مقولب من مخازن الدكتاتوريات العالمية، الصاعدة بقوة، والمؤثرة على الكيانات السياسية الطفولية الناشئة وقتذاك.

إن طرح خطابين دكتاتوريين حادين متنافسين، ومن طبقتين متضادتين لكنهما تمثلان قطبي الحداثة، هو بسبب عملية الاستيراد الفوقية تلك، ولعدم النشؤ الطبيعي للطبقتين الحداثيتين المتصارعتين؛ البرجوازية والعمال، فيغدو خطاباهما السياسيان خطابي مراهقة.

كانت المطابقة مع فرنسا هو هدف المسيحية السياسية ولكن هذه المطابقة مبنية على الديانة، وعلى إرث ثقافي في اللغة والآداب، أما في استيعاب الحداثة الفرنسية وتطوراتها فلم يتشكل ذلك، خاصة في بُنى الأحزاب، فظهرت الكتائبُ ومتوالداتها السياسية كجماعاتٍ أبوية أشبه بالمافيا، نظراً لأن البناء الاقتصادي لم يقم على انتشار المصانع كما في فرنسا، فغدت البنية الفرنسية اللبنانية محض استيراد شكلاني.

كما أن القوى العاملة اللبنانية من جهة أخرى، هي عمال زراعيون وحرفيون وعمال مصانع صغيرة ووزارات، ذوو علاقات قوية بالوسط التقليدي وبالأمية.

وبهذا كانت الشعارات السياسية المستوردة وفرض القوالب تنمو أكثر من عمليات التحليل والتأصل العلمي الوطني، وتقود إلى مواجهة محورية كما حدث في العراق بين البعث والشيوعي، في مسلسل متشابه لتصادم قوى الحداثة بدلاً من صراعها الطبقي وتعاونها الوطني، مع اختلافات التجربة وتراكمها في كل من البلدين.

 يصور مندوبُ الحزبِ الشيوعي اللبناني تاريخَ الصراع الاجتماعي بصورةٍ مختزلةٍ في ندوةِ توحيد اليسار اللبناني السيد أيمن ضاهر، فيقول؛ (ساهم الاحتلالُ الفرنسي باختلال بنية المجتمع اللبناني وهو الذي ساهم بتكوين البرجوازية المارونية، حيث تكدست الأموال في هذه الطائفة دون سواها مما ساهم في تشويه الصراع، مروراً بالحرب اللبنانية التي بدأت بصراع طبقي ما لبث أن تحول إلى صراع طائفي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث تقوم القيادات السياسية بتشويه الصراع وأخذ شكله الطبقي بهدف تحويله إلى صراع طائفي من خلال التهويل بقدوم حرب طائفية جديدة)،(المؤتمر المذكور وقد عُقد في 19 يونيو 2007).

تعطينا هذه الفقرة اختزالاً زائفاً أيديولوجياً لتاريخ الصراع الاجتماعي في لبنان، حيث يجري تصوير طائفة واحدة هي الطائفة المسيحية بأنها هي الطائفة الغنية الوحيدة، وأنها شكل البرجوازية، وهو تصورٌ عامٌ مجرد يلغي التاريخَ الاجتماعي الملموس ويدخل تصوراته السياسية المسبقة في أحشاء السرد التاريخي.

وإذا كانت الطوائفُ الدينية والمذهبية الإسلامية قد تكونتْ في بعض مناطق سوريا وجبل لبنان كتكويناتٍ مقموعةٍ هاربة أو محتمية بالتضاريس من عسفِ الدول التي سُميت إسلامية، وهي دولُ طوائفٍ يهيمنُ عليها الإقطاع، فإن التكوينات الحديثة لها تراوحت بين البقاء في النظام التقليدي والنزوح نحو الحداثة، والتجارة، والغرب.

وقد لعبت الطائفةُ المارونية دور القيادة لعملية التحديث هذه، وخاصة الفئات الوسطى منها، وفي ظل التبعية لفرنسا، وقد ساعدها في ذلك بدايةً أفولُ دور الدولة العثمانية التقليدية الشائخة، وصعودُ العلاقات التجارية والفكرية الحديثة التي روج لها الغرب، لتفكيك الدولة العثمانية وإيجاد وكلاء تجاريين وثقافيين له.

ومن هنا وجدنا إن بدايةَ النهضةِ العربية تتشكلُ في سوريا ولبنان عبر هذه الفئات، ومعروف جيداً دور بعض العائلات المثقفة في تأسيس مختلف صنوف الأدب والفن العربيين الحديثين، ثم بعد قامت بنقل ثمار هذه الثروة المعرفية لمصر، نظراً لاستمرار القمع في الشام، وبدء الانفتاح المصري القيادي لعملية تغيير المنطقة.

ولكن ظهور الفئات الوسطى لم يقتصر على الطائفة المارونية بل سارعت طوائف أخرى لاحتضان بذور هذه الحداثة، كالطائفة الدرزية والسنية والشيعية، وافرزتْ قوىً برجوازية لم تخرج من كيانات الطوائف، ويمكن اعتبار الحركة الوطنية اللبنانية هي نتاجُ التفاعل بين هذه القوى الوسطى – التقليدية، وقضايا لبنان المحورية.

إنها برجوازياتٌ طالعةٌ من كياناتٍ مذهبية محافظة، وتحملُ دمغات نشأتِها في إبقائها على تكويناتها السياسية الطائفية، مثلما هي تقومُ على ملكية الأرض الزراعية والحرف والتجارة والمعامل الصغيرة.

وتتشكلُ تناقضاتٌ حادةٌ في هذا التكوين اللبناني، فكلُ طائفةٍ تغدو دولةً، وكلُ دولةٍ تحتاجُ إلى جهازٍ سياسي مسيطر بشكل أبدي، ولا يظهر التغيير من تراكم العناصر التجارية والديمقراطية داخل كيان الطائفة، بل من خلال انشقاقها، عبر ظهور دولة طائفية مختلفة أو مضادة، يؤسسها زعيمٌ تحديثي – تقليدي آخر.

إن التطورات تجري في لبنان بشكلٍ تفتتي وانقسامي، مما يضعفُ ويخربُ هذه التطورات ويعيدُها لسابق عهدها.

إن الفئات الوسطى الصغيرة الذابلة في كل طائفة لا تقيمُ تحالفاً، بسبب أنها لا تصل في عملها السياسي إلى سمات الحداثة وهي العلمانية والوطنية والديمقراطية، مثلما أنها تعجزُ على الانتقال إلى الصناعة الكبيرة وانتشار العمل بالأجرة وحرية النساء الواسعة.

وإذا كانت تستطيع بشطارتها أن تقفز على بعض الحواجز الاقتصادية، وتتفن في طرق التجارة، وتهاجر إلى اقصى بلدان الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقفز حدود الطوائف القريبة.

وإذا كانت بعض الدول العربية تجاوزت هذه الفسيفساء الطائفية نظراً لوجود دولة مركزية موحدة، أتاحت تشكل سوق وطنية واحدة، إلا أنها تظل طائفيةً لغياب نفس السمات السابقة الذكر، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تعبرُ عن عجز قوى إنتاج الصناعة الصغيرة أو الاستخراجية والتحويلية في عموم البلدان العربية عن نقل البلدان إلى بنى جديدة.

لكن في لبنان تتضاعفُ الخسائرُ المفردةُ المحسوبة في كل دولة عربية، ففي لبنان عدةُ دولٍ مضمرةٍ فيه، يقومُ شيوخُها وإقطاعيوها وبشواتها، كلٌ في مركزه الصغير بتمثيل دور صاحب العظمة والفخامة.

والزعيمُ من جهةٍ يحافظُ على ألقاب الباشا الموروثة طائفياً، وهي ألقابٌ تتحولُ مع تبدل دور الطائفة وتحالفاتها، الوطنية والمناطقية والعالمية، كما لا ينسى دورَ التاجر البارع في التقاط أي ثمرة مالية تتيحها التجارةُ والسياسة والدين.

ولكن ليس دائماً تؤدي الشطارة إلى أرباح، فكثيراً ما كانت التحالفات مدمرة وضارة، فتحالفات الباشوات اللبنانيين تـُؤسَّسُ سياسياً وليس على التراكم العقلاني العلماني الوطني، يقومُ بها الباشواتُ في حكمِهم المطلق على الملأ، فيختار الساسةُ الموارنة التحالفَ مع الغرب الاستعماري ضد تيار القومية العربية الكاسح حينئذٍ، وإذا كان ذلك فيه شطارة التاجر اللبناني المرهف الحس للرأسمالية الغربية ودورها التاريخي وأرباحها الجزيلة، إلا أنه وقوف ضد سوقه القومية وما يُنتظر لهذه السوق من تطورات عظيمة.

وإذا كان ذلك قد حدث حين أثبتت الصحراءُ العربية النفطية كرمَها الباذخ، وأخذ بعضُ هؤلاء الساسة يتنسمون نسائم نجد العليلة، فيغيرون من ولاءاتهم بلمح البصر، إلا أن ذلك يظل في عقل الباشا، وليس في عقل البرجوازي الحديث.

 وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللنباني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت على كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن أمثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر. فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى إنهيار بذور الحداثة.

تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجيهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.

لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدي هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ..

إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ لفهمٍ حقيقيٍّ عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج بهذه التجربة العالمية ويجري تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.

وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الإيديولوجية لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.

لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.

وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الأمبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.

ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجري تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة!

كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسسَّ بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين! ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر إنفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الدينيُّ الشرقيُّ المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.

وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.

لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحةً منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.

ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري _ الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد على أهمية التصدي للأمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.

بل أن هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النوايا.

وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية..

إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجياً إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:

(إننا نستطيع أن نؤكد إن نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيداً نضالياً، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، بأن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطنا مصير القوى المنحرفة قومياً مصيرها بمصير المد الأمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).

هل تصنع العبارات الحماسية شيئاً إيجابياً؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ودون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد كافة الفرقاء لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.

 ليست المصالحات اللبنانية تقوم على أرض صلبة، بل هي مصالحات تكتيكية، نتيجة لتغير ظروف خارجية، خاصة لتوجه سوريا للمفاوضات مع إسرائيل بشكل سري، مما جعل القوى المتصلبة تدرك بأن لا شيء ثابت وقوي في الدول العربية الشمولية.

تغدو المصالحات توافقات تكتيكية ولا تدخل إلى عظم الهيكل النخر للنظام الطائفي، فلم تصل حتى وثيقة الطائف إلا إلى محاصصات طائفية، وواصلت القوى السياسية العيش والعمل في نظام القرن التاسع عشر دون تغيير جوهري.

فالقوى التقليدية تظل هي السقف المسيطر ولا أحد قادر على تشكيل ثوابت الحداثة في النظام، لتستمر صراعات القوى المذهبية التقليدية، بشكل ثم تتصارع بشكل آخر، دون إحداث تراكم ديمقراطي وطني.

بعض قوى اليسار اتخذت مطالب العمال والكادحين لتأييد جهة طائفية ضد أخرى، وليس لتغيير حياة هؤلاء باتجاه وطني شامل.

إن المحاصصة الطائفية وتوزيع الكراسي والوزارات ثم توزيعها بشكل آخر ثم إجراء مواجهات دامية وغير هذا من ألعاب السياسة، تجعل فريقي السلطة والمعارضة، أو فريقي السلطة الآن، يواصلان تمزيق لبنان، وإعداده لمذبحة أخرى.

هل يمكن لبعض الفرقاء اللبنانيين كتحالف تيارات المستقبل والكتائب واليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي التقدمي أن يؤسسوا تياراً ديمقراطياً لبنانياً توحيدياً؟

ليس ذلك ممكناً وهم قد اعتمدوا على نفس الأسس الطائفية في بناء تنظيماتهم السياسية، باستثناء اليسار الديمقراطي، ولم يفصلوا بين السياسة والدين، ولم يشكلوا فريقاً فكرياً واحداً يعتمد عناصر الوطنية والعلمانية والخطوات الوطنية المتفق عليها لتغيير حياة أغلبية الشعب، فذلك لوحدث يتطلب إعادة قراءة تاريخ لبنان، وطرح فهم مغاير للأديان عن الرؤية التقليدية الإقطاعية السائدة، وتشكيل علاقة تعاون معينة واستراتيجية بين الفئات المتوسطة والعمال.

وليس ذلك بسبب إن إيران دولة دينية شمولية تريد فرض نموذج الدولة الدينية هذه فقط، بل لأن كل دول المنطقة غير قادرة على تصعيد مثل هذه الدولة الوطنية العلمانية، فتغدو الصراعات ثم الحروب هي المعجلة لمثل هذا الحل، وهي كوارث بامتياز.

وتغدو هذه أشد وأقسى في لبنان بسبب التاريخ والتكوينات الطائفية الكثيرة التي تم استعراضها سابقاً، وبسبب كون الفلاحين والعمال لا يحصلون على حياة تليق بهم.

وإذا رأينا الكتل السكانية المذهبية فسنجد إن كتل الفقراء الواسعة الكثيفة هي التي تدعم السياسات المذهبية المعارضة، وسنجد إن الطوائف التي تحوزُ على نسبة كبيرة من الثروة الوطنية هي التي تدعم الطائفية المحافظة، والتبعية.

ولكن مختلف الطبقات والقوى السياسية لا تعترف بأن الصراع على الثروة والحكم هو سبب المشكلات لا الأديان والمذاهب.

وبسبب هذا الصراع على الثروة المتشابك مع الحكم تـُقام علاقات غير وطنية وتحالفات فوق رؤوس المواطنين وتعدهم لمشروعات رهيبة. ويخف الصراع ويشتد بسبب هذا التداخل، وفي بلد بمثل هذه الفسيفساء يغدو عسكرياً عنيفاً في قممه الحمقاء.

أخذت قوى عديدة تريد فض الاشتباك بين المذاهب والسلطة، بين الثروة والحكم.

يقول أحد الكتاب (ثمة خياران: إما أن تغرق المنطقة في سلسلة حروب طائفية تفضي في النهاية لاستهلاك طاقة الطائفة ذاتها، وهذا ما تفعله الصراعات العنيفة دائماً أقصد استهلاك الطاقة الكامنة في عواملها، أو ينتصر الوعيُّ والعقلانية، وتنتفض شعوب المنطقة لتمسك يدها بمصيرها، وتختصر مساراً طويلاً من الألم والدم والخراب)، (معقل زهور عدي، الصراع الاجتماعي والانقسام الطائفي).

نرجو أن لا تنتفض الشعوب بل أن تراكم الثقافة الديمقراطية الحديثة وتتشبع بها أحزابها المناضلة، وتغير من القوانين العتيقة والتشكيلات السياسية المذهبية واحتكار السلطة والثروة، لأن الانتفاضات عادة دامية حادة، ولا تتصف بعقلانية سياسية ولكنها غير مستبعدة.

وقد توصل أغلبية المجتمعين في ندوة توحيد اليسار اللبناني إلى أفكار مهمة مثل هذه:

(وجدوا أن اليسار يفتقد إلى تنظيم قادر على بلورة شكل الصراع، من خلال تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وأن جزءً من اليسار اتخذ قراره بدعم دولة المؤسسات بحجة أن النظام اللبناني ليس رأسمالياً، وأن اليسار لم يعرف كيفية التعاطي مع تشوه الصراع وإصلاح هذا التشوه، ورأوا أن دور اليسار يكمن في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بمواجهة الأقطاب التي تعطي هذا الصراع طابعاً طائفياً، وفي رفض الصراعات الفئوية والطائفية، بالإضافة إلى إعادة صياغة شكل الوعي والعمل على تحقيق مكاسب أكبر للطبقة العاملة)، (ملتقى اليسار اللبناني، 2007).

إن تكوين مصالح وثقافة لليسار الموحد لا تنفصل كذلك عن توسيع بذور العناصر الديمقراطية والعلمانية والوطنية في كل الاتجاهات الأخرى، ففي النهاية سوف تظل القوى الوسطى هي المسيطرة على السلطة، لكن باتجاه تلك الثوابت التحديثية.

والنظام اللبناني ليس رأسمالياً حديثاً على المقاس الغربي، ككل الأنظمة العربية، فهو نظامٌ انتقاليٌّ بين الإقطاع والرأسمالية، ودرجات الانتقال تحددها تطوراتُ القوى المنتجة والوعي والتشكيلات السياسية، ونمو السياسة التحديثية يتشكل باستبصار هذه العوامل الموضوعية والذاتية المتداخلة وتوظيفها لمصلحة الأغلبية من السكان بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم.