أرشيف الأوسمة: عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تركيب حضاري

تركيب حضاري

abdulla khalifa

ظهر الإسلام في ظروف شديدة التخلف عند العرب والأمم المجاورة لهم، وبهذا فإن شكل الوعي المكرس فيه يقوم على شكل مثالي ديني، تلعب فيه الأفكار الغيبية دوراً محورياً مهيمناً على الوجود، وتلك بسبب غياب العلوم بمختلف أقسامها عند أهالي المنطقة البدوية خاصةٍ، وهي تعبير عن الإنجازات الحضارية المؤسساتية لأهل المنطقة لكنها مشكلة دينياً.

 ومع تطور المسلمين واحتكاكهم بالحضارات التي سبقتهم والمنتجة للفلسفة فإنهم اتجهوا للاستفادة من هذه المنتجات الفكرية المتطورة القديمة، بصفتهم أكثر شعوب الأرض وقتذاك تقدماً .

 وهكذا راح المسلمون يستثمرون هذه المنتجات في تطورهم الحضاري المستقل، ومن هنا كيفوها مع الموروث الإسلامي الأولي، ومع الموروث الإسلامي الجديد الحضاري الذي تكون حين شكلوا تلك الحضارة، منقطعين عن المستوى السابق.

 والذين قاموا بهذه العملية ليسوا المسلمين ككل، ولكن تلك الفئات المثقفة التي يعود تكوينها للفئات الوسطى عموماً، وقد أبقت على المنظور المثالي للفتر السابقة، مطورة إياه في منظور مثالي موضوعي.

 بين المنظورين المثاليين الديني الأولي، والديني الفلسفي، ثمة نقاط تشابه ونقاط افتراق، في كون الأول يمثل الفئات الوسطى المكية المثقفة، وهي تقود عملية التحول في ظروف شديدة التخلف، وبأدوات النضال الجماهيرية.

 واعتمدت تصوراتها على الرؤية المثالية الدينية في أبسط أشكالها، حيث الجمع بين الواقع والميراث التصويري الفكري القديم، المستفيد من الدينين السماويين السابقين، اللذين هما كذلك مستفيدان من الإرث الفكري للعصر القديم.

وفى الجزيرة العربية أتيح للفئة الوسطى التحرك بحرية تاريخية نسبية، لعدم وجود الملكية الشاملة، فغدت المثالية دينية — أسطورية — تصويرية مغيرة للواقع المتخلف.

 في حين واجهت المثالية في عصر الحضارة الإسلامية التالية إمكانيات فكرية وعلمية كبيرة، فتخلص أغلبها من الشكل الأسطوري التصويري، متوجهاً إلى المقولات والتركيب النظري الواسع واعتماد المنطق الأرسطي وطرح استقلال الطبيعة والمجتمع من التدخلات الغيبية المباشرة الحادة.

 لكنه اعتمد المثالية كذلك عبر جعل هذه المقولات تخلق العالم ، وتشكل الوجود، مع اعترافها بموضوعية هذا العالم ووجود قوانين لتطوره. لكن هذه القوانين تتمثل في الجانب الطبيعي بدرجة أساسية.

 وهكذا فإن الوعي الديني والوعي الفلسفي تماثلا في إعطاء القوى الماورائية إمكانيات تحويل الحياة، مرة عبر النص الديني، ومرة عبر النص الفلسفي؛ ومرة باعتماد الجمهور الشعبي للتحويل وعبر الدخول الجريء في الحياة، ومرة عبر العلوم والانسحاب إلى الزهد، فهنا حدث تغير في طبيعة الفئة الوسطى القائدة، فالأولى كانت غير تابعة للقصور، والثانية كانت تابعة.

 والأولى إذ غيرت العالم فإنها أسست مدنية مسيطراً عليها ثقافياً من قبل مستوى متخلف سابق، في حين أن الثانية كانت أكثر تقدماً ثقافياً لكنها عاجزة سياسياً وتاريخياً!

 وهذه التحولات المتضادة أزيلت بإيجابياتها في المرحلتين، المرحلة الإسلامية التأسيسية ، وفي المرحلة الحضارية المدنية، فلم يبق من الثورة التأسيسية والارتباط بين التقدم والجمهور الشعبي، ووجود برنامج نهضوي مطبق على الأرض، ولا كذلك ضخامة الإنتاج الفكري والفلسفي والتداخل مع إنجازات العصور السابقة واستيعابه ثروة الأمم!

 وجاء العصر الحديث متردداً متناقضاً، غير قادر على فهم العصرين السابقين وعصره هو.

أطروحةٌ، فنفيٌ، فنفي النفي، أي عصور ثلاثة متضادة، راحت تتشكل على مدى الألفى سنة من عمر العرب والمسلمين، كل عصر يقوم بنفي العصر السابق، ليس بشكل كلي؛ ولكن بشكل أساسى، والعصرُ الحديث لم يفهم أنه تركيبٌ ، وأنه جمعٌ بين العصرين السابقين ونفي لهما معاً .

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تركيب حضاري