20 مايو 1799 – 18 أغسطس 1850. روائي فرنسي، يُعتبر مع فلوبير، مؤسِّسَي الواقعية في الأدب الأوروبي. إنتاجهُ الغزير من الروايات والقصص، يُسمى في مجموعه الكوميديا الإنسانية La Comédie humaine كان بمثابة بانوراما للمجتمع الفرنسي في فترة عودةِ المَلكية (1815-1830) ومَلكية يوليو (1830-1848).
وكان أونوريه دي بلزاك من رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة التي اعقبت سقوط نابليون وكان روائياً وكاتباً مسرحياً وناقداً أدبياً وناقداً فنياً أيضاً كما اشتهر بكونه كاتباً صحفياً وطابعةً وقد ترك بصمةً كبيرة في الأدب الفرنسي برواياته التي تتعدى الـ 91 رواية وقصص قصيرة (137 قصة) نُشرت ما بين 1829 إلى 1852 وقد وُلد في 20 مايو 1799، وتُوفي في باريس 18 أغسطس 1850.
وقَيل إنه كان من مدمني العمل الأدبي مما أثر على وضعه الصحي (توفي في سن مبكرة عن عمر ناهز الـ51 عاماً)، (وكان في حياته يعاني من الديون التي أثقلت كاهله بسبب الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر التي غامر بالقيام بها، وقضى عمره فاراً من دائنيه مختفياً ومتقمصاً أسماء وهمية وفي منازل مختلفة، وعاش بلزاك مع العديد من النساء قبل أن يتزوج في 1850 الكونتيسة «هانسكا» التي ظل يتودد إليها أكثر من سبعة عشر عاماً)، موسوعة لوكيبيديا.
لقد حظي بلزاك بتقدير المفكرين التقدميين ولهذا كان كارل ماركس يتصور أن بلزاك قدم تحليلاً واسعاً نقدياً عن النظام الرأسمالي في فرنسا، ولكنه كان مرتبكاً من الناحية الفكرية حيث اعتبر أن النموذج الملكي الرأسمالي البريطاني هو الأفضل لفرنسا لو طُبق، واعتبر ذلك رؤيةً خيالية من جانبه لكون النماذج الاجتماعية تظهر من خلال نضال الشعب ولا تُستورد.
ويقول جورج لوكاش عن بلزاك: (لقد بيَّن أنجلس أن بلزاك، رغم أنه مَلكي سياسيا، توصل في أعماله تحديداً إلى فضح فرنسا الإقطاعية، والملَكية، وإلى توضيح بطريقة قوية وممتازة، كيف أن النظامَ الإقطاعي كان محكوماً بالموت)، بلزاك والواقعية الفرنسية، دار الناشرين المتحدين، ص18 .
(لا أحدَ مثل بلزاك أحسَّ بعمق الآلام اللاحقة بكل طبقات الشعب من جراء الانتقال إلى الانتاج الرأسمالي والانهيار الروحي والأخلاقي العميق الذي كان ضرورياً في تطور كل طبقات الشعب..)، السابق، ص22 .
لم يكن بلزاك متناقضاً مع نفسه، لأنه هو ذاته تجسيدٌ للتناقض. المحللون التقدميون لم يكتشفوا شخصية بلزاك ذاته كبرجوازي صغير، فهذا الكائنُ الاجتماعي الإنساني عبّر عن التناقضات الاجتماعية من داخل رؤيته المتناقضة كعضو في فئةٍ مترجرجة.
فهو كاتبُ يبيعُ بضاعتَه الورقية ويطمحُ إلى الغنى، وهو تاجرٌ صغير ومساهم ومضاربٌ يسعى للارتفاع إلى طبقة البرجوازية بسرعة شديدة، لكنه مَدين ومفلس ويخاف السقوط في طبقة العمال والمعدمين، وهو عاشق موله يحب ارستقراطية ثرية ترثُ الكثيرَ ولكنه يموت دون أن يطال شيئاً من ثروتها.
بين هذا وذاك عاش، وذبذبتُهُ الاجتماعيةُ السياسية تؤرجحُهُ هنا وهناك، تغدو تأييداً لنضال الجمهوريين الشجعان وبقاءً على الولاء للملَكية، تصيرُ رغبةً شديدة في الثراء والوصول إلى الرأسمالية وتكتب كذلك تصويراً لاذعاً للرأسمالية. هو كاثوليكي مَلكي ويعري الكاثوليكيين المَلكيين. هو خيالي شديد الخيالية حيناً وهو دارسٌ مختبري مدقق حيناً آخر. هو واقعي وهو رومانسي.
هذه الكتلةُ الحساسة المبدعة التي ظهرتْ من بين فئات البرجوازية الصغيرة رأت الثورةَ التي قادتها فئات البرجوازية الصغيرة، بخلاف المتصور أنها الطبقةُ البرجوازية، فقد مهدتْ لها وعبّدت الطريق أمامها بعد عقود تلك الفئاتُ المترجرجة، وخلقتْ من زمن الثورة اضطرابات واسعة وتحولات شاسعة، فعبرَ بلزاك عن الاضطراب وعن لحظات التقدم المتوارية في الأشياء والعلاقات، وطمحَ إلى الاستقرار السياسي ورفضَ حكمَ الثورة ولكنه أحسَّ بالثورة التي ستتفجر لاحقاً. كره الثورةَ وعبدَ نموذجها العسكري الذي صعدَ على أكتافها وغيرَها وسحقَها: نابليون بونابرت.
علينا أن نقرأ بشكلٍ واسع كيفيةَ تجسد هذا التناقض روايةً، وسياسةً، وخاصة عبر التكوينات الإبداعية التي تعكس هذه الرؤية المتضادة ونرى أن نموذجَها الشخصي المستمر والواسع هو البرجوازي الصغير، هو نموذجها الخلاق المأزوم.
تتحكمُ فيه البُنى الاجتماعيةُ المتحولة، ويضع قدماً في اليسار ويضع قدماً في اليمين، يضعُ قدماً في العمال والفلاحين وأخرى في الأغنياء والمترفين!
يضعُ يداً في العلم ويتناول أدوات الباحثين ويضعُ يداً أخرى في الفن والتحليق في الخيال.
بلزاك يعطينا مفاتيح ليس لفهم الثورة الفرنسية بل كذلك الثورات التالية في القرن العشرين التي صنعتها نفسُ الفئاتِ الصغيرة المتناقضة، وبالتالي يحتاجُ الأمرُ إلى تحليل مطول وهنا بعضٌ منه.
في الروايةِ الأولى التي نشرَها باسمه سنة 1827 والمسماة الناعقون أو الثوار الملَكيون في ترجمات مختلفة، يقدمُ بلزاك بنيةً حدثية شخوصية متسارعة متداخلة، يغلبُ عليها السردُ الخارجي التصويري المتصاعد، في دراما حدثية قتالية عاطفية متواشجة.
ليست فيها عتبةٌ تصويرية تمهيدية بل تتوجه مباشرة نحو البؤرة الروائية، حيث هي منذ البداية في قلب الحدث الروائي المركزي.
المنطقة الريفية من بريتانيا المقاطعة الفرنسية القريبة من بريطانيا التي تغدو بؤرة الثورة المضادة ضد الجمهورية، تُصورُ عبر طبيعتها الجبلية الزراعية الخلابة، وعبر الصراعات المشوقة العنيفة.
البؤرة الشخوصية تتمحور حول قصة عاطفية في نسيج المعركة بين المَلكيين والجمهوريين، أثناء الفترة الأولى المبكرة لحكم نابليون، وتغدو الفتاة الارستقراطية (دو فرنوي) هي هذه البؤرة.
السرد الظاهري الحدثي المتتابع يسجل صدامات المَلكيين الريفيين المنتشرين بإتساع في منطقتهم الريفية المُهّاجمة من قبل الجمهوريين، وتلك الفتاة البؤرة الشخوصية تظهر وتمسك خيوط الحدث وإمتداداته المختلفة.
الفتاة هي رمزية الثورة، والمرحلة، وعقدة التناقضات المركبة، فهي وُجهتْ لاختطاف أو قتل قائد الثوار المَلكيين، وهي ابنة غير شرعية لأحد الدوقات الذي لم يعترف بها سوى أخيراً وهو يحتضر، وحصلت على ثروة وتعهد بها محتالٌ غني كبير، وخاصمها الأخ في المحاكم ليلغي الاعتراف بها.
وأقامت علاقة مع الشخصية الثورية الكبيرة دانتون الذي قُتل في صراعات الثوار الجمهوريين، وظلت بعض عواطفها ملكية، ووجهت من قبل السلطة الخفية للثورة لكي تقتل زعيم (الناعقين)، المتمردين المَلكيين، لكنها تقعُ في غرامه.
الأحداث الدرامية الميلودرامية ذات الخيوط المتشعبة لمختلف الشخصيات من شخصيات الناعقين المؤثرين ممثلي الريفيين المتدينين الرجعيين الدمويين اللصوص، إلى زعيمهم الشاب الارستقراطي الشجاع الرومانسي الواقع في الحب، الذي يخلط الهجمات العسكرية الضارية بالجري وراء فتاته، إلى الضابط الجمهوري العجوز الشجاع الشهم الذي يقود المعركة، ومعه ضباط شباب مفعمين بالشجاعة والتضحية والرومانسية والأعجاب بالجميلة (دو فرنوي).
هناك الخلفية الريفية، جسدُ المكان، مركزُ الفعل والحدث، المكانُ الذي يعبرُ عن شخصية الريفيين، حيث الأراضي المسيجة الأشبه بالقلاع، التي حازها الفلاحون في الزمان غير المروي، والتي تعجز القوةُ الجمهورية العسكرية من السيطرة عليها.
عملية التداخل بين القوتين المتحاربتين تنعكس على مختلف جوانب الرواية، خاصة في بؤرتها الشخوصية، حيث الفتاة المزودجة الأنتماء، الجمهورية القادمة من باريس لكن عمقها الداخلي عاطفي شفاف لا يتغلغل بمُثُل الثورة، بل بمهمة عملية، بوليسية، مخفقة، بسبب عدم تغلغلها في الذات، غير الثورية.
ومُثُل الثورة غير مصوَّرة، وغير مجسَّدة في علاقات بل في شظايا من شخوص الضباط الجمهوريين، مُثُلُ الثورة تغدو هي حماية الوطن الفرنسي من الأجانب الأنكليز وغيرهم.
المُثُلُ القوميةُ تتغلغل ذائبةً في خلفيات الشخوص والأحداث، فلدى الفتاة هي إنتماء للجميع، وهي إضطرابٌ بين المَلكيين والجمهوريين، بين الارستقراطية والبرجوازية، بين الشعب والأعداء.
المعسكران الجمهوري والمَلكي مرسومان بموضوعية، السارد المسيطر على رسم الخطوط الخارجية والداخلية، هو نفسه المؤلف المطلع على كل شيء الذي درس المنطقة وجغرافيتها وأحداثها، وقطعَ منها بنيةً روائية مغامراتية ذات مشاهد حيوية، ليس فيها غوص عميق في ذوات الشخوص، وجذورهم الروحية والنفسية والاجتماعية، لكن فيها تحديدات عامة للمعسكرين، بل وصف للمرئي الحدثي، الراكض، المتداخل، المتوجه للمستقبل، الراجع مرة واحدة للماضي الموسع في حياة الفتاة (دو فرنوي)، ولهذا فإن المرئي المتناقض بين المعسكرين يظل في الحدث، لا في المنولوج، في الديالوج السريع، وفي الوصف للمشاهد، ولمواقع النزاع بين أشكال الطبيعة، فيحدث التداخلُ بين المعارك والجغرافيا الريفية، فتبرزُ الإيديولوجيا الجمهورية في السخرية من شعارات المسيحية وعباداتها، وتبرز بإتساع الإيديولوجيا الدينية حيث الكاثوليكية المتداخلة بالصراع السياسي العسكري الدموي والمدافعة عن الكهنوت المنهار.
ولهذا فإن التصوير المباشر يسلط الأضواء على مشهدية الخندقين الاجتماعيين المتصارعين كما هما مرئيان في اللحظة اليومية.
لهذا فإن الراوي لصيق المؤرخ هنا، ويبدأ بالقول:
(لكن لا بد للمؤرخ إن شاء أن يكون واقعياً تصويرياً أن يذكر أن المنطقة عادت ذات يوم ضاحكة الأسارير لينة الملامح بعد أن أعلن الجنرال (هوش) الصلح ووقع ميثاقه).
يغدو السارد مؤرخاً واقعياً مصوراً، محايداً بين الفريقين. لكنه حيادٌ مصّورٌ من قبل الطبقة السائدة المنقسمة هنا، جمهورياً وملكياً، الطبقة المنقسمة بين الارستقراطيين والبرجوازيين، في لحظتهم المرئية المسجلة هنا، لحظة الجمهوريين، الذين يحطمون الأغلال الكبيرة للإقطاع.
السارد الراوي الذي يستعيد اللحظة الصراعية التاريخية يسجلُ دقائقها، يعرض شخوصاً متعددة متضادة، في بياناتها الخارجية والسلوكية.
المعسكران، والطبقتان الارستقراطية و(البرجوازية)، تضادهما مباشر، إيديولوجي سطحي، يتمظهر عبر الانقسام الحاد بين الدين التقليدي، حيث المنطقة التي تقسمُ كلَ لحظة بـ(قديسة أوراي) وبين نفي الدين وإلغائه عبر الشعارات العسكرية. هو صراعٌ يمتظهر ضد ما هو فج ورجعي من الإقطاع، وعبرَ ما هو سطحي وفج من البرجوازية الصغيرة.
الواقعية الرومانسية تتداخل عبر الالتزام بمشهدية الصراع الاجتماعي المباشر وحركات لقطاته الموضوعية، وبوجودِ قصة الحب بين الآنسة دو فرنوي والمركيز دو مونتوران التي تنمو بالحيل المليودرامية عبر التلاقي في عربةٍ وبالحب من أول نظرة، والحب المتغلب على عقبات الصراع الاجتماعي والشهيد في خاتمة المطاف.
الواقعية تصفُ كل ما هو فظ وعنيف في الناعقين الريفيين الأجلاف، وحركة عربة النقل معبرة عن مستوى الأدوات المجسدة للتطور الاجتماعي كما يقول بلزاك نفسه كراو مباشر، ومشاهد الواقع اليومي من أدواتٍ وأبنية وملابس وصراع على الأشياء وتركات المقتولين.
وهي رومانسيةٌ في وصفها لنمو الحب والطبيعة الجميلة منشدة للرواية التسجيلية المشوقة.
مستوى الصراع الاجتماعي الافتتاحي المبكر الملحمي بين المَلكية والجمهورية، بين الارستقراطية والبرجوازية، ينعكس في البنية السردية المباشرة الدرامية الصراعية، الموضوعية، حيث الراوي الذي يصور الفريقين بكل ما يمتلك كل فريق من مزاياه الحقيقية، وهو في ذاته المعبر عن الكل، عن جموع الفرنسيين في مسيرتهم القومية، عن الارستقراطية وهي تتبرجز، وعن الثورة كأداةٍ للقومية، عن مزاياها الشجاعة والمضحية، عن نقد حثالة الإقطاع المتجسدة في الناعقين الدمويين لصوص الصراع السياسي.
الراوي بلزاك يقف محايداً فوق الصراعات الجزئية المتلاشية في دراما التاريخ، ممسكاً خيطَ الطبقة المسيطرة المتحولة، عارضاً تكونها التاريخي المعقد، حيث تقوم الثورةُ وإمتداداتُها التاريخية بإعادةِ نسج المجتمع، المرئي من قبل الطبقة السائدة، المتحولة، الذي يغدو بلزاك هو عينُها، المحدقةُ فيها، المبتعدة عن سلبياتها ومخلفاتها، والمبتعدة كذلك عن الطبقات العاملة، المرئية في الظلال والخلفية الاجتماعية التاريخية كأدوات لها، كضباط وجنود وفلاحين وتجار يمهدون التربة لنظامها.
لقد هُزمت الثورةُ الفرنسية بعد تقلبات حكم الجمهوريين المتصارعين وهم اليعاقبة والجيرونديين، أي فئتا البرجوازية الصغيرة اليسارية واليمينية، حيث لم تصعدْ بعدْ البرجوازية الكبيرة التي تحتاج لوقت من أجل التراكم الصناعي الواسع، فيأتي نابليون ويُجري تحولات ولكن حروبه تقود للهزيمة وعودة المَلكية. هنا يبدأ عهدٌ جديد للرأسمالية التي تتغلغلُ في المجتمع وهي مهزومةٌ سياسياً ومنتصرةٌ إقتصادياً، وبلزاك يعرضُ هذه التحولات في العمق.
أدواتُ تحليلِ بلزاك الروائية والفكرية متضافرة، فهو يصورُ مشهديات دقيقة، منسوجة مع الشخصيات والأحداث والأمكنة ذات الدور التوظيفي.
ومن مواد حياته الخاصة، ومن عذاب أخته مع زوجها وموتها الفاجع، ومن دخوله في السوق وفشله التجاري فيه، فيجسدُ اللغةَ الاقتصاديةَ البضاعية ودور رأس المال الجدلي، البنائي من جهة والاستغلالي من جهة أخرى، عبر جزئياتٍ وبُنى مشهدية صغيرة لا تتوجه للسيرورة الكلية للمجتمع الرأسمالي، بل لقطاعاتٍ فيه مقطوعة عن سياقه العام، فبلزاك لا يعمم بل يصف ويحلل جزئياً.
بلزاك ليس صاحب رؤية نقدية فكرية مدروسة بل لديه تحليلات ووجهة نظر حصل عليها عبر التجربة في أثناء تجارته الفاشلة. لقد خبر بقوة البضاعة والمال وكل الورق المجسد للعلاقات السلعية وأثمانها.
في البدء يغدو مشهده الروائي الافتتاحي لوحاتٍ للمكان، حيث يقوم بالدخول ووصف البيت الخاص منتزعاً سماته الأكثر وضوحاً وعمقاً، وهي التي تعكس حياة شخوصه. فالعتمة والتهالك والانغلاق كلها سمات تعكس صاحب هذا البيت الثري صاحب الكروم، البخيل، القروي.
في روايته (أوجيني غرانده) يجثمُّ عند موقع المنزل كمهندس أثري فنان: إلى جانب البيت المتداعي المرضوم الجدران حيث خلّدَ الحِرفيُّ زخارفَ أدواته، يرتفعُ قصرُ أحدِ النبلاء، حيث ما تزال تُرى على القوس الحجرية لبابهِ بعض معالم شعاراته التي حطمتها الثوراتُ المختلفةُ التي هزّت البلادَ من العام 1890) أوجيني غرانده، وزارة الثقافة السورية، ص8.
وهو يقفُ مطولاً عند المنزلِ والريف وصاحبِ البيتِ البرجوازي منتجِ النبيذ، موضحاً علاقته بالثورة وكيف صعدَ معها وإستفاد منها، لكنه في زمنِ عودةِ المَلَكيةِ وهزيمةِ الثورة تجمدتْ مكانةُ صاحب الكروم السياسية فانطلق في جمع الثرواتِ بكل طريقة وعبر تقتيرٍ شديد على أهله، ويبدو ذلك في وصف المنزل التمهيدي.
يتتبع بلزاك هذا النمو السردي ويتدخلُ فيه على شكلِ راوٍ مهيمن عارفٍ بكل شيء عن شخوصه وعالمهم، وهو يصّعدُ بناءَهُ الفني عبر متابعة الشخوص التي تظهر تدريجياً على مسرح الحدث المتصاعد، فصانعُ البراميل النبيذيةِ السابق جزءٌ من مشهد الريف الفرنسي حيث يرتعدُ الكرّامون من مخاطر صباحات ممطرة، لكن (الصراع مستمر بين السماء والمصالح الأرضية).
وفيما كان الكّرامُ يخسرُ سياسياً كان يحصدُ مواريث كبيرة، وتعيش ابنته وزوجته في ضنك شديد، أما الخادمة (فحكمَ عليها من واقع خبرته كبراميلي على مدى قوتها الجسمية، وضمنَ الاستفادة المرجوة من مخلوقةٍ أنثى كأنها فُصلتْ على نموذج هرقل).
تنامتْ تفاصيلُ العلاقات التي تكشفُ هذا البرجوازي في مرحلة التراكم وكيف تكونُ الوجباتُ شحيحةً، والملابس قديمة، والأهل في مَعزلٍ عن الحفلات والصرف، فيما يتكدسُّ الذهبُ في الغرفة الخلفية السرية المعزولة عن الغرف الأخرى.
ويجري هجومُ العائلات الريفية على خطف الفتاة ابنته والرغبة في الزواج بها والاستيلاء على كل الثروة المخبأة، لكن البراميلي كرانده يبحثُ لها عن عريس صاحب ملايين، مستثمراً دوافع هذه العلائلات.
المؤلف الراوي بلزاك هو كاتب بحث كذلك، فالروايةُ لديه ليست قصةً عادية، بل هي بحثٌ تشريحي تجسيدي، ومن هنا يعنونُ الروايةَ بـ(دراسة طبائع)، و(مشاهد من حياة المقاطعات)، ومشاهد المقاطعات مخصصة للريف، أي للرأسمالية الريفية المتخلفة في وعيها وعاداتها ولكنها شديدة الحرص على الذهب، وبؤرةُ هذه الأبحاثِ السردية هي شخوصٌ تجاريةٌ في ميدان أعمالها وإنتاجها، فتأتي مشاهدٌ وصفية للمكان، تكّونُ الأرضَ الموضوعية الجغرافية، ثم تتصاعدُ عمليةُ التحليلِ نحو المهن الرأسمالية، وذلك عبرَ دقائق الحياة الاقتصادية، فيرينا الساردُ المباشرُ هنا كيف يكّونُ الكرامُ كرانده ثروتَه عبر حركة الأحداث، من حساباتٍ دقيقة لانتاجِ الكروم وتصريفه، وإستغلال كل مادة في الربح: (كما اتفق السيدُ غرانده مع السباخين من مستأجري أرضه أن يؤمنوا لبيته البقول، بينما يجني من بستانه كميات وافرة من الفاكهة تكفيه ويبيع قسماً كبيراً، وكان حطب تدفئته يقطع من أسيجته…)، ص17. وهكذا فإنه يستغلُ كلَ مادة حوله. لكن هذه جوانب صغيرة غير العمليات المالية الكبيرة.
هذا التحليلُ المادي للعيش لا ينفصلُ عن تطويرِ الحبكة الروائية، فهي ليست عروضاً تقريرية، بل دراسة سردية، فواقع البيت الثري في كنوزهِ المتوارية يصطدمُ بحركةِ الحياة العنيفة، فالابنةُ الجميلة التي تعيشُ العزلةَ وشظف الحياة، ترى فجأةً شارل ابنَ عمها الجميلَ القادمَ من باريس الأناقة والرهافة والمذهولَ الفزعَ من حياةِ الريف وخنِ عمهِ الكئيب العتيق، والمستغربَ من إرسال أبيه له إلى هذا المكان. لكن خيوطَ إنزالهِ التي تمت بمغزلِ الروائي أدت إلى صدماتٍ عنيفة فأبوه أرسله بعد أن أفلسَ وقررَ الانتحار ونفذَهُ ووقبل ذلك أعطاهُ رسالةً للعم من أجل أن يعتني بشارل في هذه المحنة!
حبكةٌ مُصاغةٌ بحيل، لكن التناقضَ في بيتِ الكرام يتفجر، والابنةُ المعزولةُ عن الحياة تحبُ ابنَ عمها وتساعده وتصيبُ أباها بشلل نظراً لمطالبها المادية المروِّعة التي تضربُ الاكتنازَ الرأسمالي الطويل!
حبكةٌ ظلت هنا في النماذج الفردية المعزولة المتخلفة عن الحياة الاجتماعية الثورية في العاصمة باريس، ولكن الرومانسيةُ دخلت من النافذة الواقعية وقام المؤلف بخلق علاقة غرامية غريبة، ومع هذا فالدراسة والحبكة تقدمان خليةً من المجتمع الرأسمالي الفرنسي في حقبةِ المَلكيةِ العائدة التي ستكون في أكثر زمنه، مما يدعو الروائي للتدخل عامة وشرح رؤيته الناقدة للشح والتبذير وكل ما يعيق الفرح كذلك من أجل (رأسمالية أخلاقية).
وهذا التركيز على الشخصية المحورية وعلى صفات معينة فيها وربطها بتطور الاقتصاد سيكون هو طريقه الإبداعي الواسع الرئيسي الحافل بالنماذج والتجارب.
البرجوازي الصغير يصعد عبر تراكم رأس المال الذي يعضُّ عليه بأسنانه ولكنه يعود مرة أخرى لجحيمه بتحطم رأس المال!
كانت عودةُ المَلكية سنة 1815 وزوال عهد الجمهورية قد أرجعَ الارستقراطية الحاكمة السابقة، وأخذ هذا التناقضُ يشدُّ رؤيةَ بلزاك كأكثر التناقضات حدة. فزمنُ المُثُل الثورية والتضحيات زال، وغدا الناس يتهافتون على المال والبضائع.
هذه هي المرحلة الثانية التي تشكلت فيها ملحمتهُ (الكوميديا الانسانية) ذروة إنتاجه الروائي، والتي لم ينقطع فيها عن عرض النماذج البشرية وهي تُشوى بين حقبتين في نادر الأعمال، وتشوى في المرحلة المَلكية العائدة بشكلٍ رئيسي.
في قصته (مرقص سو)يتابعُ التضادَ الذي إنشغلَّ به بين المال والعواطف البشرية، ويكشفُ سيطرةَ مُثـُل النبالة المتهاوية في الواقع، فهذه المُثُل المتعارضة مع تصاعد الطبقة البرجوازية ما زالت تؤثر على بعض القطاعات الاجتماعية:
(فمرقص سو ليس فقط المكان الذي صادفت فيه أميلي دي فونتين لونغفيل لأول مرة، إنما هو خاصةً مكان لقاء رمز بين الماضي والمستقبل، بين الارستقراطية والشعب)مرقص سو، وزارة الثقافة السورية، دراسة حول القصة والمؤلف، ص71.
المرقصُ مكانٌ ريفي يسمحُ بإلتقاء طبقات عديدة، وأميلي دي فونتين هي فتاةٌ من العامة، من البرجوازية الصغيرة المتذبذبة جسم بلزاك الأدبي، حيث تتردد بين واقعها وطموحها، فهي تريد أن تقفز دفعة واحدة إلى الارستقراطية وتتزوج أحد النبلاء العائدين للحكم، وهي ترفض رفضاً قاطعاً أي شاب من عامة الشعب حتى لو أثرى وتحول لبائع كبير!
وكعادتهِ فإن بلزاك يُضّفر بين البنية الاجتماعية والحدث القصصي، فدائماً لديه زمن الثورة، وزمن عودة المَلكية، وقد تبدلت أحوالُ النماذج بسبب هاتين الفترتين، فزمنُ القصة هو زمن عودة المَلكية وزمن لويس الثامن عشر الذي رأى أهميةَ تجديد المَلكية وتحديثها، لكن والد الفتاة أميلي هو شخصيةٌ محافظةٌ عاشتْ في زمن المَلكية السابقة وتدهورتْ مع مجيءِ الثورة، وخسرَ الكثيرَ من ماله، وراح مع عودة المَلكية يستعيدُ شيئاً من المجد الماضي ولم يؤيد الملكُ على هذا التحديث في البدء، لكن مع المزايا التقاعدية المتدفقة عليه غيّرَ آراءه.
الابنةُ الارستقراطية المغرورة لم تُصور وهي تنشأ في هذا العالم، بل ظهرتْ أخلاقُها مكتملةً مضادة لتدهور أحوال العائلة، وكأنها إحتفظت في ذاتها بالنبالة وأرادت زوجاً يجمعُ كلَ خصائصها من الألقاب والشارات والأطيان.
لكن عالم المَلكية العائدةَ بدأ يتبرجز، والكثيرُ من المُلاك تدهورتْ أحوالُهم وتوجه بعضُهم للتجارة وإنشاء المصانع، لكن الثقافة الارستقراطية ومثُلَها لم تزل منتشرةً خاصة في الجماعات التي تحيطُ بالمَلكية، وتصيرُ الفتاةُ المحورية أميلي تجسيداً لهذا التضاد بين المثل المتدهورة وحقائق الحياة الجديدة.
فهي ترى شاباً وسيماً تنطبق عليه كل صفات (النبيل)، وتنشأ حركةٌ حدثيةٌ بينهما، تؤدي للتعارف المبهم وعدم إنكشاف الأصول الأسرية والطبقية. لكن الفتاة مصرة بأنه نبيل وأنه صاحبُ ثروةٍ قادمة من نبالة مؤكدة.
وتغيرت أحوالُ الفتاة تغيراً كبيراً وغدت متفائلة لا تسخر من الناس ولا تجرحهم كما تفعل عادة، ويحاول أبوها أن يخفف من طبعها المتعالي وأن يجعلها واقعية تتماشى مع إنتصار البرجوازية ومثُلِها، لا أن تحرنَ عند أطلال النبالة، لكنها ترفض ذلك وتؤكد أن حبيبها هو نبيل حقيقي.
وفي موقفٍ مفاجئ وهي في السوق ترى حبيبَها في متجرٍ ويمسكُ قماشاً ويبيعهُ فتُصاب بصدمة عاطفية شديدة!
فقامتْ بقطع علاقتها به بشكل نهائي، وارتمت في أحضان كهلٍ نبيل يملكُ ثروةً ولكنه بعمر أبيها وأكثر وعاشَ مجدَ المَلكية السابقة وكان يسخرُ منها!
كان هدف حياتها أن تلتصق بنبيل وترتعش بين جنبات شعاراته وخيوله وأملاكه، وتحقق هدفها والنبيل يلفظ أنفاسه.
في حين كان حبيبها الشاب هو من نبالة حقيقية مضحية، فقد ساعدَ أخاه وحصل على لقب النبل وتدفقت ثروته.
في وعي الكاتب بلزاك إهتمام رفيع بالأخلاق وكشف تناقضها مع التطرف المالي أو الطبقي، كشخصية من صغار البرجوازيين، المتحضرين، المواصلين تصعيد الرأسمالية التحديثية، وهو يرى أن قيم المالِ والبضاعة تنتشر وتكتسحُ المبادئَ (النبيلة)، وهو صاحبُ موقف نقدي إجتماعي مَلكي بونابرتي كما سنرى لاحقاً، فيمثل تشكيلة فكرية متناقضة، لكنه يقدمُ المشاهدَ ومواد الحياة التي تتفجر فيها تناقضات الطبقتين النبيلة والبرجوازية في هذه الحقبة. ومن هنا فهو يعرض الصراعات الاجتماعية المختلفة خاصة بين القطبين السائدين اللذين يمثلان الطبقة الحاكمة المشتركة في زمن عودة المَلكية بعد هزيمة نابليون، أما الطبقات الشعبية المكافحة فهي تأتي في الخلفية وكمواد خام مستغلة فلم تكن قد ترسخت في الحياة الاجتماعية في ذلك الحين. إن حضور الطبقة العاملة ومثلها المختلفة لم تظهر على المسرح البلزاكي.
وفي قصته الأخرى في نفس المجلد المسماة (المحفظة) هي عن نبيلين، أحدهما لا يزال بثروته، والآخر هو امرأةٌ كهلة إفتقرتْ وتعيشُ في شقةٍ بائسة مع ابنتها، ويأتي ذلك النبيلُ ليلعبَ معها الورق، ونظراً لعطفه عليها ورغبته في مساعدتها وعدم جرحها يفتعلُ الخسارةَ المستمرة في اللعب، ويُرى هذا المشهد من خلال عين فنان تشكيلي هو جار للمرأتين، فيظنُّ الفنانَ الحساسَ بأن المرأةَ وابنتَها تغشان ذلك العجوز الثري، خاصة وأنه إفتقدَ محفظته في المنزل وظنَّ أن المرأة الشابة التي أحبته سرقتها! ويسمعُ عن المرأتين كلاماً سيئاً فيصدقُ إتهامه الخاطئ، وحين يعود لهما يجد أن الفتاة جددت محفظته القديمة وما زالت نقودهُ فيها وما زال النبيل الشهم يخسر في اللعب!
هو عرضٌ هنا عن النبالة الإنسانية بغض النظر عن الموقع الطبقي، فالخصال الإنسانية تمتد بين شرائح متضادة.
النبالة المتعثرة والبرجوازية الصاعدة هي الملامح العريضة لمرحلة بلزاك الأولى ما قبل ثورة 1830 حيث ستؤكد البرجوازيةُ بعدها حضورَها الاقتصادي الكاسح ويختفي صراعُ النبالة والبرجوازية.
تعطي روايات بلزاك دروساً لفهم التحولات الاجتماعية بين الإقطاع والرأسمالية، ولهذا هي مفيدة لدرس العرب في الفترة الراهنة خاصة. فالثورة تتحطم والقوى(النبيلة) الإقطاعية تذوب، والرأسمالية تتوسع وتتجذر لكن كيف؟ هذا ما توضحه سلسلة الروايات الكثيرة.
ونتناولُ في هذا الجزء من التحليل رواية (الكولونيل شابير) هذه الرواية الآخاذة النموذجية من العمارة الكبيرة الإبداعية لبلزاك.
ليس ثمة رواية لبلزاك يبلغُ فيها التضادُ بين مرحلتي الثورة الفرنسية وما بعد الثورة، أي في زمن العودة إلى المَلكية، كما في هذه الرواية، إنه تضادٌ مكثف حادٌ عنيف مجسمٌ بحرقة.
الممهداتُ والعتبات الروائية التي طالما إتبعها الروائي للمضي نحو البؤرة الروائية هي هنا جسدُ المحاماةِ الأمامي الوضيع.
هنا المكتبُ الرثُ في أشيائهِ وموظفيه الستة، في وساختهِ وثرثرته السخيفة ونكاته الفجة، وبمنظرِ بقايا الأكل فيه، والملفات الظاهرة القبيحة، وفي الصِبية الذين يعملون في هذا المكتب والمستخدَمين لتوصيل الرسائل والتبليغات، هؤلاء الصبية الذين يضحكون على الزبون الفقير الرث الثياب.
هنا الآلية الحِرفية ما قبل التحول النوعي للمهنة، كجزءٍ من تضاريس رأسماليةٍ حِرفية وأجسام إجتماعية ما قبل رأسمالية تحيطُ بالعاصمة الفرنسية، كما سيظهرُ من تنامي السرد.
مثلما أن السردَ غير متبلور مركزياً، وله زوائد كهذه العتبة.
هذه الكتيبةُ من الموظفين وكلامُهم ونكاتهم لا دخلَ عميقاً لها في بؤرةِ الرواية، لكنها تقدمُ الشخصيةَ المحورية لتتوغل وتسودَ في العرض الروائي.
هذه الشخصيةُ الرثةُ الفقيرة الداخلة في هذا المكتب، هي بؤرةُ الروايةِ القصيرة هذه، وهنا تبدو الرواية على مفترق طريقين فأما أن تمضي مع شخوص المقدمة ويتحولون لبؤرة مركزية، وأما أن يتحول هذا المجهول للبؤرة، وقلقُ البؤرة هذا هو قلقٌ بنيوي لمرحلة بلزاك الروائية.
بعد هذه المشهدية التمهيدية التي يعرضها بلزاك نظراً لكونها جزء من ذكريات عمله كشاب في مكتب المحاماة، يأخذ الرجلُ الفقيرُ الشبح المسرحَ بكليته: (ذلك المشهد يمثل واحدة من آلاف المتع التي تجعل المرء يقول وهو يتذكرُ شبابَه الماضي ما كان أحلى ذلك العهد)، الكولونيل شابير، ص 17، وزارة الثقافة السورية، 1990.
يطلب الرجلُ الرثُ مقابلةَ المحامي ويُعطى من قبل الموظف موعدٌ في منتصف الليل حتى لا يجيء، لكنه يحضر ويتأكد أن الموعد هو من تصميم المحامي نفسه الذي رتبه لكي يدرس قضايا الزبائن في هدأة الليل وليس لكي يقابل المدعين.
تتبدل اللوحةُ فجأةً ويغدو دخول المحامي صاحب الخلفية الثقافية عوناً سردياً للسارد الأولي وهو المؤلف، حيث تقترب قامتا الساردين.
يصبح هذا الرجل الكولونيل السابق هو الراوي حين يطلب منه المحامي سرد قصته، وتحول الساردين وتتابعهم هو كذلك جزء من طبيعة الروي البلزاكي.
شارك الكولونيل في معركة يقودها نابليون ضد الروس في ألمانيا، فيذكر اللحظات الأخيرة في سقوطه ونتائج هذا السقوط:
(وسقط الحصانُ وفارسُهُ إذن واحدٌ فوق الآخر. وكان أن غُطيت بجثةِ جوادي التي حالتْ دون أن تدوسني الخيول أو أن تصيبني القذائف)، ص23.
أصابت ضربةٌ نارية رأسَهُ وحفرته بعمق، وحالت الجثثُ المختلفة دون موته، وصعدَ من خلالها بعد فترة، فاقداً الذاكرة لبعض الوقت وفاقداً أوراقه وعالمه العسكري السياسي كله.
تحول القائد العسكري إلى قتيل في الأوراق الرسمية، وظل يهيمُّ كمتشردٍ وساعده زوجان على تحديد حالته وتنظيم محضر بحالته، ولكن حالت الحربُ والظروف دون عودته لبلده ووضعه، في حين توجهت زوجته للزواج من رجلٍ نبيل وأنجبت من الزوج الجديد ولدين، فغدت عودته لوضعه السابق مستحيلة.
دخل النموذج في حالة ترميز فالضابط الكبير الذي سار مع جيش نابليون عبر العالم، لم يجد هذا الجيش الغازي، بل وجد أعداءه في باريس، والثورة التي طردتْ الإقطاعيين ورجال الدين هُزمتْ، وعاد هؤلاء لمركزِ السلطة، فغدا بمثابةِ شبحٍ لها، فهو جزءٌ مهزومٌ مشوه عاد إلى فرديته المسحوقة وسقطت إشاراتُها ومركزها، فالزوجة التي مثلت رمزاً مضاداً صعدت للنبالة وغدا زوجها الجديد النبيل يحذر من ماضيها، وأي هزة تأتي من صوب الماضي كفيلة بهدم الزواج.
الترميز يغدو فردياً، وحالة الكولونيل شابير تغدو مقطوعة الروابط مع حالةِ البرجوازية الثورية السابقة حيث أن وجوده العسكري في خدمة نابليون الذي عسّكر الثورة ثم حطمَ مثُلَها بغزوه للبلدان الأخرى، تعبير عن إنهيار المُثُل الثورية الديمقراطية وتحولها لغزو وصناعة إستبداد في الدول المغزوة.
ولهذا فإن شابير لا يستعيد تلك المُثُل أو يحدث مقارنات على مستويات عدة بين الحالة الجمهورية والحالة المَلكية العائدة، فهو فردي نمطي، لهذا فهو لا يقيم أية علاقات مع النماذج المتضررة من عودة المَلكية، وهو لا يصطدم بجوانب موضوعية من الزمن الجديد تكشف جوانب من شخصية ذات عمق كذلك.
فمطلبه الرئيس هو العودة لمركز العسكري ووضعه العائلي، وحين لا يجدهما يتحلل، ويصير قمامةً من العهد النابليوني البائد.
لهذا فإن شخصية المحامي المتعاطف والمهني المستفيد تلعب دور كشف الحالة في حقيقة حيثياتها، ومدى إنطبلق أقواله على شخصه.
وهو أمرٌ يوسعُ دائرةَ البؤرة، ينقلُها لمكانِ عيشِ الكولونيل في الضواحي الرثة ذات الظروف الحِرفية العتيقة، وإلى ظروف الزوجة المرفهة التي غدت ارستقراطية، وهذا مظهران يعكسان تنامي التناقضات الطبقية في المجتمع الرأسمالي الوليد المتسع.
تدخل الرواية دائرة الحِيل والمناورات القانونية، وتنتقل لمكان عيش الزوجة وعلاقاتها الجديدة، وتذبذبها بين الماضي والحاضر الزوجيين، مدركة أين تكمن مصالحها وأتجاهها، محيلةً مناورات المحامي التي تحصرُها في زاويةٍ ضيقة مهددةً وضعَها الطبقي الجديد بالانهيار، إلى مناوراتٍ وخدع للزوج الأول السابق، بحيث تجعله يخسر قضيته الرابحة بنفسه.
تحلل الشخصية العسكرية وتدهورها نحو الجنون يبقى شأناً ضيقاً فردياً، بحيث أن الوضع المختل القائم ذاتياً وموضوعياً، لم يتغير بل يعود الوضع للوراء.
لهذا تغدو الرواية قصيرة، ذات روابط قليلة، فزخم الشخصية المحورية كانت لحظة خروجه من تحت الجثث ومن تحت الأنقاض الاجتماعية، وإعادة شخصه، ولكنه حين يهمل هذا التطور تذبل الروابط الفنية والاجتماعية.
فلا نجد فرقاً كبيراً بين دفنه بين الجثث الميتة وبين وجوده في مركز الطب النفسي، والتشوه النفسي السياسي بدأ منذ إرتباطه بالجيش، لكنه لم يحاكم هذا الوضع، بل ظل له مفخرة، ولهذا فإن مرئيات الزمن العسكري وتحدياته البطولية تظل معدومة.
في روايته (الثأر) نقرأُ نفس الارتكاز على بؤرة الانقلاب الاجتماعي السياسي، فعودةُ المَلكية فوق جثة الجمهورية تُعطي لوعي بلزاك القومي هزةً نقدية تحليلية لواقع فرنسا.
العتبةُ السرديةُ الروائية ليست منفصلةً عن بؤرة الرواية، فالرجلُ الكورسيكي القادمُ من تلك الجزيرة إلى العاصمة باريس، يحملُ ابنةً صَبيةً منقذة من مجزرة في قريته في تلك الجزيرة حيث الثارات العائلية الريفية تمثل البقايا الاجتماعية لما قبل الرأسمالية، وهو هنا يدخل في قصر الحُكم حيث بونابرت وأخوه ومكتبه القيادي، يقودان مرحلةً مختلفة من الثورة الفرنسية المُجهَّضة.
تمثل النابليونية الإمبراطوريةُ هزيمةً لمُثُل الثورة الديمقراطية حيث كانت تلك المثل في غبش الولادة للنظام الرأسمالي، وكان الصراع بين الشمولية والديمقراطية مُتلبساً، والصراع بين اليعاقبة والجيرونديين مُستقطباً غيرَ منتج لتيار تحولي ثوري ديمقراطي، والذي سوف يتكون عبر عقود القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
إن تحديات الثورة الفرنسية جمعتْ القوى المحافظة في القارة الأوربية، وتوجهتْ للقضاء عليها، ولم يكن سوى جيش نابليون ينهي هذه التناقضات الداخلية والخارجية، لكن عبر إقامة دكتاتورية شخصية فئوية، وكان بطلُها القادم من جزيرة كورسيكا تعبيراً عن القوى العسكرية ذات الجذور الريفية التي ترسملتْ ولكنها ما تزالُ تحتفظُ بأجزاء من بناءٍ فوقي إقطاعي مضادٍ للبناء التحتي الرأسمالي المتغلغل عبر العقود.
يغدو النظامُ الإمبراطوري النابليوني معبراً عن القومية الفرنسية في صعودِها وغزوها للبلدان الأوربية وفي حفاظها على إستقلال فرنسا المُنتهك من قبل الغزاة الذين تمكنوا من كسر الإرادة الفرنسية الحرة.
فليس تكرار البؤرة هو عمل عفوي، إنها وطنية بلزاك الأبية وقد وجدتْ في نابليون رمزاً، وهنا يقوم الرجلُ الكورسيكي ذو الشيم الريفية المتعصبة بالدخول في عالم الطبقة المسيطرة المترجرجة عبر هذا التاريخ المضطرب.
إنه يطلبُ الحمايةَ من صديقه نابليون حيث كانا من منطقة واحدة، ومطالبه الانتقامية تُرفض من قبل بونابرت زعيم الدولة، لكنه لا يمانع من التستر على جريمته في قتل خصومه في عملية الثأر الفظيعة التي جرت، والتي لم ينجُ منها من العائلة الأخرى سوى ولد سيكون له شأن في هذه الرواية المُقامة على الصراع القَبلي والصدف الاستثنائية.
بقرارت ذاتية تمكن من نقل (بارتولوميو) العامي إلى طبقة النبلاء، وعاش هو وعائلته في أصيصٍّ زجاجي خارجَ التاريخ السياسي لحين دخوله في التاريخ العائلي المتصادم مرة أخرى.
فلم تؤد الإطاحة بنابليون في تغيير موقع هذا النبيل، ولم يشارك في عمل تاريخي أو سياسي، ليكون تحت خدمة بلزاك في حفرياته الروائية.
العتبة السردية في الرواية كانت تُدخلُ إلى البؤرة المأساةَ العائلية الثأرية المستمرة عبر الأنماط الفردية.
عتبةٌ أخرى تنشأُ في المرسم حيث مجموعات من البنات يشتغلنَّ في لوحاتٍ وتدريبات فنية على يد أستاذ هو الآخر نابليوني الهوى.
بدت هذه العتبةُ منقطعةً عن العتبة السابقة لكنهما إتصلتا عبر تنبيهات الراوي وتنامي الحلقات التي يشيدها، فالصراعُ بين الفتيات الارستقراطيات والبرجوازيات يشيرُ إلى مناخ فرنسا المتقلب، حيث المَلكية العائدة والنابليونية المهزومة، وتظهر ابنة الكورسيكي صاحب القضية الثأرية النبيل حالياً، ذات حضور آخاذ في المرسم، وحيث مهارة الراوي تندغم بالتشكيل.
لكن هذه الحلقة تتضاءل مع ظهور بؤرة الرواية وهي العلاقة العاطفية بين هذه الابنة وضابط شاب من جيش نابليون المهزوم يعاني جراحه، ويقعُ تحت عيني هذه الفتاة!
وسرعان ما تشتعلُ هذه العلاقة وتتعملق فوق جزئيات الرواية الأخرى.
حبكةٌ بدأت من جزيرة في البحر الأبيض المتوسط وتناسجت مع صراعات سياسية تاريخية وإنفصلت عن الشبكة هذه كلها، لتتعقد داخلياً وتتفجر مأساة.
وطنيةُ بلزاك الرومانسية تجمع هنا شخصيات الحلم القومي البونابرتي في بنيةٍ تتشكل عبرَ الصدف، ولكن الحلم القومي الثوري مات في الواقع، وقد أنجبَ أسرةَ حب في مرسم فن، بين ضابط جريح شجاع، وفتاة عاطفية وطنية، وتتمكن بقايا عالم الإقطاع وعادات الثار وعدم التطور الديمقراطي في الريف عامة، من هزيمة الحب وعدم نجاح الشابين في البقاء زوجين ثم حيين وقد إنقطع الأهلُ عنهما وعاشا في ضنك عنيف.
تمكن زمن ما قبل الرأسمالية من هزيمة الوطنية، ويشير هذا إلى ضعف الُبنية الرأسمالية الوليدة وضعف تطور القوى الفلاحية المؤيدة للدكتاتورية البونابرتية، وهذه الشموليةُ مُصعّدةٌ في وعي بلزاك الروائي على شكلِ مأساةٍ في عائلة فردية.
ما هي علاقةُ مأساة العوائل المتقاتلة في الجزيرة بنابليون والصراع مع المَلكية العائدة؟
إن التطور الجمهوري الديمقراطي الذي أطلقته الثورة لم يستمر لضعف الطبقة المنتجة له، وكان نابليون الذي قفزَ عن هذا التطور وغمر الفلاحين العسكريين بخيرات البلدان المغزوة، وطورَ من البنية الرأسمالية عبر هذه الهيمنة الشمولية فهو أعادَ المَلكية بشكل متطور، فكان لا بد أن يغدو رمزاً لها، وهكذا غدتْ العوائلُ الريفية تعيشُ مأساةَ ما قبل الرأسمالية وعجز الرأسمالية عن التطور الشامل معاً.
وبطبيعة الحال كان لا بد أن يكون (الأبطال) البارزون هم من (الوطنيين)، وهنا فإن بلزاك يتعاطف مع هذه القوى الفلاحية والوطنية، لكنه يرفض عدم تطورها الاجتماعي لكنه لا يغوص لمجمل تناقضات البُنية التي خلقتها بهذا المستوى.
غياب التحليل على المستوى الروائي بعدم تطور الشخصيات وعدم قيام علاقات واسعة في الرواية، يواكبه تحول البؤرة الروائية إلى قصة عائلية، فالأبطال الوطنيون لم يتطوراً نضالياً، ولم يتخلصوا من تخلفهم الاجتماعي، ولم يجعلوا الحب مزيلاً لعادات الثأر.
وأمام الحيثيثات الواقعية الجزئية المرصودة والمتنامية روائياً، والمأخوذة من عيناتٍ حقيقية جرت في التاريخ الحقيقي، فجثمتْ الشخوصُ والحبكة في مستوى الانعكاس الجزئي، ولم تقرأ التحولات الراهنةَ والمنتظرة في بنية رأسمالية جنينية.
لهذا فإن الفلاحين هم أكثر حضوراً هنا وفي أعمال أخرى، لكنها كطبقةٍ تتعرض للانهيار والتحول، ولا تستطيع سوى أن تكون ضحيةً وليس قوة تغيير وطنية في النمط الرأسمالي الوليد، الأمر الذي يؤهل العمال لذلك، عبر تحولات متصاعدة تاريخياً.
في روايته (سرفيتا) ينعطف بلزاك نحو جنس روائي يسميه (قصة من الدراسات الفلسفية) وهو جزءٌ من الملهاة الانسانية، وتمثل طبيعة مختلفة عن الأجزاء الأخرى من الملهاة، فالمكانُ الذي يغدو مكاناً للسرد ليس من تلك الأمكنة التي إختبرها بلزاك الممثلة لتطور البنية الاجتماعية الحديثة، فهنا ليس ثمة مدينة ولا ريف، بل صقيع، وجزءٌ ناء من شمال أوربا حيث النرويج لا تزال في ضباب التطور الحديث.
فهو كما ينعطف نحو جنس روائي مختلف ينعطف نحو بُنية مختلفة، بُنية ما قبل الرأسمالية الحديثة.
الافتتاحيةُ وعتبةُ الروايةِ المتوجهة نحو البؤرة تصورُ بشكلٍ آخاذ طبيعة النرويج:
(فالبحر يتغلغل في كل مكان، لكن الصخور تتشقق فيها بشكل مغاير وجروفها الصاخبة تتحدى التعابير الغريبة للهندسة، هنا صخر قد تسنن لمنشار، وهناك موائدٌ كثيرةُ الاستقامة لم تعان من إقامة الثلوج فوقها ولا من ذوائب شجرات التنوب الشمالية المهيبة)، ص 6، سرفيتا، وزارة الثقافة السورية 2001.
هذا الوصفُ المطول لمشهد الطبيعة ينزلُ إلى السكان:
(في أسفل جبال جرافيس تقبعُ القريةُ المؤلفة من نحو مئتي بيت من الخشب، حيث يعيش سكان ضائعون، كما تضيعُ قفائرُ نحل في غابة، وهم يواصلون العيش دون أن يتزايدوا أو يتناقصوا ساعين وراء تحصيل معيشتهم من قلب تلك الطبيعة المتوحشة)، السابق ص9.
هو إختيار لمشهد مجّمد عن حراك التاريخ الاجتماعي، كعتبةٍ نحو البؤرة الروائية، التي تظهر فجأة على قمة هذا الجبل الذي لم يصل أحدٌ إليها!
التكوين الطبيعي الساحر يقود للتكوين البشري السحري، والساردُ المؤلفُ الدائمُ الحضور سابقاً في العروض الاجتماعية يتحولُ لعرضٍ فكري:
(إن كل مبدأ متطرف يحملُ في ذاته مظهرَ النفي وعلائم الموت: أليست الحياة صراعاً بين قوتين: فليس هناك ما يغدر بالحياة. قدرة واحدة تسود دون معارضة هي قوة الجليد غير المنتجة)، ص 14.
شخصيتان تظهران فجأة في تلك القمة الجبلية الصقيعية، وهو ظهورٌ غير موضوعي فنياً، بل من قبلِ الإرادةِ الحرةِ للسارد، المتداخلة مع الإرادة الحرة المُتخليَّة للإله:
(في صبيحة يوم كانت الشمس تلتمع فيه.. مر شخصان على الخليج وعبراه وطارا.. فارتفعا نحو القمة وقفزا من إفريز إلى إفريز).
نرى المنزلقين الاثنين اللذين يصعدان الجبال: سرافيتوس وسرفيتا. كائنان كما أنهما يخرقان نواميسَ الطبيعة الجبلية كذلك يخترقان نواميسَ الجنس والعيش العادي.
(قالت وقد بدرت منها حركةٌ ميكانيكية لترمي بنفسها: إنني أموت يا حبيبي سرافيتوس.. فنفخَ سرافيتوس برفق على جبينها وعينها؛ فبدت فجأة كمسافر تمتعَ بحمامٍ منعش). ص 17 .
سرافيتوس حين نفخَ فجأةً غيّرَ شعور سرفيتا. (تقول من أنت لتكون لك هذه القوة فوق قوة البشر وأنت في هذا العمر؟) ص 19.
كأن القوة الخارقة له هي من خرق ناموس العمر وليس خرق ناموس الطبيعة عامة.
الصوفيةُ تتدفقُ في كلام سرفيتوس:
(إن أردتِ أن تكوني نقيةً فضعي دائماً فكرة العلي القدير في عواطف الأرض) ص24 .
يُبنى السردُ على تجريدٍ غرائبي يعطي لشخصياتِ السماويين إمكانيات عجائبية: عبور الجبال، والقيام بمعجزات، والعيش بين الأرض بتضاريسها القاسية والسماء بغموضها السرمدي المكتمل غيباً.
ويعتمدُ تصوير المعجزة السردية على تغلغل السماويين في البشر العاديين وجلبهم للخوارق التي يصنعونها.
لهذ فإن ولفرد الرجل المتغرب العائش في النرويج سيكون هو محطة التجريب العجائبي هذه.
فمينا التي بدأت بالالتحاق بالمعجزة الربانية المتجسدة في شخصية سرفيتوس عبر التأثير الخارق غير المرئي لنا،
(إنت مثل الكمال المثبط للهمة). (لماذا تبعدني عنك، أريد أن تكون ثرواتي الأرضية لك، كما أن لك ثروة قلبي، ولا أرى النور إلا من خلال عينيك، كما يشتق فكري من فكرك)، ص 24.
لكن سرفيتوس لا يمكنه العيش على الأرض حيث الوضع متقلقل، فيريدُ السماء، ويعد مينا للالتقاء بها هناك!
يقول: (لا يمكننا أن نقيس المدى الواسع للفكر الإلهي فلسنا فيه سوى قسمة صغيرة بقدر ما الله كبير)، ص 25.
ويضيف (إن الإنسان ذاته ليس خلقاً نهائياً، وإلا ما كان الله موجوداً).
يقوم سرفيتوس بتنظيرِ صوفيةٍ تقيم تضادات كلية بين الإنسان والإله، بين العالم الموضوعي والعالم المتخيّل الغيبي. الإنسان يغدو عابراً، والمجردات أبدية. في حين إن الإنسان من نمط سرفيتوس يصنعونها في شروط مجردة، في عالم الثلج النرويجي، حيث الرأسمالية نائمة.
تسأله مينا: كيف وجدتَ الوقت لتتعلم كل هذه الأشياء؟ يقول إنه لا يتعلم بل يتذكر، يعيدُ إتصالَه بالغيب، بالفيضِ الإلهي فينزلُ في رأسه، في تضاريسِ المادة الخشنة.
الصوفيةُ التقليديةُ خاصة في العالم الشرقي هائلة ويعيدها بلزاك إلينا:
(إننا أحد أكبر منجزات الله. ألم يمنحنا القدرة على أن نعكس الطبيعة وأن نركزها فينا بالفكر، وأن نجعل منها مرقاة نحوه؟ إننا نتحاب بقدر ما تحويه أرواحنا من السماء قليلاً أو كثيراً.).
أنعطف بلزاك من كونه روائي قريب للمادية والواقعية وتحليل الصراعات الاجتماعية إلى كونه متصوفاً، يصورُ كائناتٍ خارقةً، وهذا التذبذبُ من الماديةِ بدون التوغل العميق فيها ثم القفز للمثالية غيرِ الموضوعية، وتلك العروض الفاحصة للكائنات الاجتماعية المخبرية ثم هذه القفزة للمطلق في زمنيةِ ما قبل الرأسمالية، تعبرُ عن أدوات وعي البرجوازي الصغير في جمعهِ بين المثالية والمادية، بين اللاواقعية والواقعية، بين الإقطاع والرأسمالية.
في رواية (سرفيتا) السابقة الذكر تعودُ عملياتِ التحول والنشؤ الأرضية لمصدرٍ سماوي، وحتى عمليات الفعل الإرادي من حبٍ وكره وأعمال أخرى تكون صدىً للسماء. وهي مثاليةٌ ذاتية، لا موضوعية، تعودُ بالفكر لما قبل التنوير وهيجل.
يدعو سرفيتوس (مينا) لتحبَ (ولفرد) القوي الإنساني، وحتى هذه الرغبة فهي جزءٌ من جدول السماء المُنزل (وُجدَ لكِ).
يقول: أطيعي الحواسَ وأشحبي مع الرجال الشاحبين.
تغدو القيثاراتُ وكلماتُ الشعراء والوجوه والأزهار كلها صدى للسماء. ويتحول سرفيتوس لضبابٍ إلهي. وهو يستطيع أن يخضع المادةَ ويسيطر عليها ويتجاوزها كما يفعل في قمة الجبل العالية الثلجية!
ينزلان إلى الأرض، فيصير سرفيتوس سرفيتا، وتبقى مينا فتاة، وتدخلان بيت الكاهن بيكر، حيث النص الديني المتوارث، الذي يحاول بيكر إنتصاره في هذه البيئة الصوفية الغامرة بدون نجاح.
يتحول سرفيتوس إلى سرفيتا وتعبر الأرض وتجثم في مرقدها قرب خادمها ديفيد العجوز.
هو سرفيتوس والخادم يراه فتاةً اسمها سرفيتا، حيث الروح العليا تحول الكائنات برهافةٍ شعرية.
حين تظهر سرفيتا بشكل مكتمل، وتستعيدُ طابعَها الأنثوي، يظهر ولفريد الرجل السائح المتغرب، والذي لا يريد أن يكّونَ علاقةً مع مينا بل مع سرفيتا، التي تروي له كيف ذهبتا للقمة الجبلية وقد كانت بشخص سرافيتوس. هذه التناسخية الفنية البلزاكية تجعل الشخوص من عجينةٍ مطاوعةٍ بيد السارد.
يلخص ولفرد الطريقة البلزاكية الخالقة هنا المتداخلة مع الخلق الميتافيزيقي:
(أنت لا تقبلين شيئاً من العالم، وتحطمين التسميات فيه، وتفجرين القوانين، والتقاليد، والعواطف والعلوم)، وكان يمكن أن يوجز: أنكِ تدمرين الواقعَ الموضوعي عبر الوهم.
وترد: (إنني لستُ امرأة، فأنت على خطأ بحبي).
وهي تتكلم بقدرة إلهية ثم تعود لتتكلم بصيغ أنثوية ممزقة تابعة للرجال، فتقيم تضاداً كلياً كذلك بين الرجال والنساء:
(يا للنساء المسكينات! إنني أرثي لهن) ولكن القدرات السحرية لا تفعل هنا شيئاً في تغيير الواقع.
عبر هذا السرد الحدثي الشخوصي التجريدي يتوجه بلزاك للصوفية ويقيم تشكيلةً بشريةً وجودية من ثنائيات:
(فلسفتُهُ: ثنائيةُ الروحِ والجسم تصيرُ واحدةً مشتقة من فعل الصاعقة غير المرئي، بينما تتقاسمُ الأخرى مع الطبيعة الحساسة تلك الطبيعةَ الرخوة التي تتحدى الفناءَ مؤقتاً..). والتكويناتُ الميتافيزيقية تلجأُ للتعبير من خلال المادة الشعرية هنا.
يدخل بلزاك في نشوةٍ صوفية سردية محولاً النماذج إلى طيوف، والأرض الصلبة إلى بخار، فيذكر أن الأعراض:
(تشبه غالباً الحلم الذي يشغف به الترياقيون حيث تغدو كل حليمة مركز نشوة مشعة). ص 44.
إنتقال بلزاك لهذا الجو الصوفي المضاد لواقعيته إستقاه من قراءته لأعمال سويدنبرغ الصوفية:
يعيش سويدنبرغ عالماً سماوياً وأرضياً، حيث يتكلم مع الملائكة ويعيش مع الناس في حياته اليومية!
الإعجاز ناتج حسب التفسير الرائج الديني عنه من ضخامةِ مؤلفاته وأعدادها الكثيرة وهو أمر يبرر طابعها السماوي المساعد!
وقد قام بلزاك بإدغام تصورات سويدنبرغ وعمل تحويرات في تصوراته مكيفاً إياها لرؤيته ولطبيعة النص الروائي، راجع الهامش في ص 67.
(والاتحاد الذي يتم بين روح الحب وروح الحكمة يضعُ المخلوقَ في الحالة الإلهية حيث تكون روحُهُ امرأة وجسمُهُ رجلاً).
يتكون هذا العمل من أثر المناطق التي تعيش ما قبل الرأسمالية، ما قبل الحداثة، حيث تلعب الأرياف الفرنسية كذلك دوراً مؤثراً في هذا، كذلك يظهر أثر التباين بين وعي الناس المختلف، حيث يعود الوعي الديني بعد فورة التنوير الملحدة الفرنسية، ولهذا يعود السارد لمرحلة الديانات الأولى وكيف هي باقية حتى الآن، وللمعجزات الخرافية وحادثة السِن الذهبية التي طلعت لصبي بشكل إعجازي، تبين بعد ذلك كما يقول الشارح في الهامش أنها سِنٌ ذهبية مُركبة، ويذكر الشارح إهتمامات بلزاك المبكرة بالتنجيم،(ص 83).
لكن المسألة تعود للوعي الديني المحافظ لبلزاك، الذي يساير الكاثوليكية وبالتالي الوعي الشائع، ويردد عبارات المدح للكتاب المحافظين في فترة الردة عن زمنية التنوير. (كما في رواية: آمال خائبة).
إن بقاء الأفكار الدينية ومُثـُلها الأخلاقية يؤسسُّ أوضاعاً مستقرة للبشر لم تنجح الأفكارُ الثورية في تشكيل بناء إجتماعي علماني وعلمي قوي وثابت، ويغدو الكاتبُ البرجوازي الصغير في حالاتِ تذبذبٍ دائمة بين اليسار واليمين، بين مُثُل الثورة ومثل الثورة المضادة، بين الجمهورية والمَلكية، بين المادية والمثالية.
إن النصَ الروائي يخضع لهذا التذبذب الذي تحددُهُ لحظة الموقف والبنية الاجتماعية الثقافية المتأسسة في حينه، فهنا تحدد اللحظةُ والبُنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وجود وحراك الشخصيات والأحداث، فالبناءُ التقليدي الديني والوعي الصوفي المستثمر من خلال سويدنبرغ الذي عبرَ عن ذلك المجتمع وكل التاريخ القروسطي والقديم تعاونا في خلق الموقف والشخوص، فبلزاك قارب سويدنبرغ، وهنا الحداثي البرجوازي الصغير يمضي لأقصى اليمين الروحي، وإستعانَ بأدواتِ فكرهِ الملغية للموضوعية والمادية المخترقة لها عبر الروح، ولهذا تم تكييف الأحداث والشخوص بمنهجها.
كما بقيت الأدواتُ المنهجيةُ التعبيرية بمستوى المادة الاجتماعية اليومية الفرنسية التحديثية بصراعها الليبرالي والمَلكي، أو الثوري والتقليدي، المترددة في بناء إجتماعي سياسي قلق لبرجوازية حديثة في طور التكون ما تزال، تعودُ هنا في النرويج لما قبل الحداثة، وتلغي تناقضات المرحلة الفرنسية البرجوازية الملكية، لتحيا على مفردات الإقطاع الثقافي الدينية.
الروايةُ تغدو ملحمةً برجوازية (شعبية) بقدرِ ما هي سردٌ يعبر عن صراع وتعاون الطبقتين الرئيسيتين في التاريخ الرأسمالي وهما البرجوازية والعمال.
إنها لا تغدو (ملحمةً) إذا كانت برجوازية صرفةً بخلاف ما يقول المنظر جورج لوكاش، فملحميتها تتطلب نقيضها الاجتماعي، تتطلب حضور الطبقة العاملة، وحين لا تحضر ولا يتوسع الرصد الفني للكل الاجتماعي تخفت الملحميةُ كما هو شأن روايات بلزاك الأخيرة حيث أن رصده للفئات البرجوازية والارستقراطية يغدو هو الشامل، ولم يقم برصدها في فترة ثورتها الشعبية، بشكل موسع سوى عبر رواية وحيدة تم رصدها في هذا التحليل وهي عن صراعات المَلكيين والجمهوريين على الحدود، أو برصدها عبر الصراع مع العمال.
إن عناوينه الجانبية للروايات مثل (دراسات فسلفية) و(مشاهد من حياة الريف) ومشاهد من الحياة الخاصة ودراسات طبائع ، تعطي جانبين متضادين، الأول هو قصص ذات رؤى مثالية مسبقة، ليس هي دراسات فلسفية، أما رواياتُ المشاهد فهي تصويرٌ واسع أو ضيق لشخوص وأحداث في ظرفٍ إقتصادي مدروس ومحلل ومسرود معاً.
هذه الثنائية الفكرية التعبيرية تجسد غياب رؤية البنية الاجتماعية بشكل مادي تاريخي، وإعتمادها على الملاحظات الاجتماعية والاقتصادية الشخصية، وهي التي تصلً حينا لسببياتٍ عميقة في البنية الاجتماعية في لحظة تاريخية محددة، وحيناً تسقطُ عليها رؤاها المثالية، فلا تصلُ لشيء من ذلك.
وهذا التباين يتواصل مع تطور كتابة المؤلف حيث لا ينتهي برؤية تحليلية تاريخية نموذجية، بفضل إعتماده على النماذج الجزئية المنسوخة من الواقع، فلا تغدو ثمة عملياتٌ فنية تعميمية، فيما الروايات المثالية تعتمد على البناء المثالي التجريدي أو الرومانسي الفردي.
وهذه الثنائيةُ ودلالاتها تعكس غياب الرؤية الفلسفية التحليلية لظاهرات المجتمع، وكما أن إلتصاق بلزاك بالقوى الإقطاعية البرجوازية المتداخلة، يبعده عن رؤية دور الطبقة العاملة فهو كذلك لا يقترب من المادية التاريخية التي كانت بعد مثل العمال في الممكن القادم بإنتظار التراكمات الفكرية الاجتماعية.
إن الرؤية التي يكونها وينتمي لها الروائي تتشكل في خلال تطوره الكتابي الشخصي، وفي البنية الاجتماعية في لحظتها التاريخية، وملحميتها وغناها يعتمد على ذلك.
إن الروائي لا يستمر في تلحليل المجتمع مثل عودته للاسطورة، وهنا في الرواية التالية نجد عودته للرومانسية.
في رواية (الولد الملعون) التي تدور في الزمن الإقطاعي الصرف هيمنة النبيل المطلقة وهو النبيل المتوحش الذي لا ينتجُ حركةً حية إلا بشكل مرضي بولادة الابن المشوه والذي هام في الطبيعة، فيما لا تظهر الفئة المتوسطة جنين البرجوازية في إلا في الطبيب الفرد ذي الوعي الشامل.
في هذه الرواية والتي تُرجمتْ عَربياً عبر وزارة الثقافة السورية، (دمشق 1992)، نقرأ هذه اللغةَ التفصيليةَ النحتيةَ في تكوينِ وحفر المشاهد، المقدمات التعبيرية التي تؤهلُ بلزاك للتغلغلِ في الُبنى الاجتماعية. إن لقطات الأم المقبلة على ولادة متعسرة مضنية والعائشة مع زوج إقطاعي متوحش، لتتواصل ببطءٍ شديدٍ عنيف، والمؤلفُ يرسمُ بدقةٍ بالغةٍ جسدَ الأم وصراخَها العنيف المكتوم داخلها، وتقلبها الهادئ الرزين في السرير، حيث يجثمُ الزوجُ الوحش، وكيف يستمر الطلقُ رهيباً، وكيف تكونُ الولادةُ في الشهر السابعِ جريمةً بالنسبة للزوج، حيث لن يجدَ سوى طفلٍ خديج.
الولادةُ المتعسرةُ توقظُ الأبَ، وشكلهُ البشعُ يقوم برسمه المؤلفُ بشكلٍ دقيق تفصيلي، ولكن الأبَ يطلبُ مجيء طبيب في المنطقة ليسرع بالتوليد في تحولٍ مفاجئ.
اللقطات تحفر تاريخ الشخصيتين الزوجة والزوج بشكل منفصل عن العالم، مثلما نسمعُ البحرَ وهو يدقُ جدران هذا القصر والصخور التي تحمله، ونتابعُ قصةَ المرأة التي تكاثرت أملاكُها الوراثية بسبب موتِ أقربائها في الحرب الدينية المشتعلة بين الكاثوليك والكلفانية البروتستانتية، مثلما نتابعَ إهتمامَ الزوج بهذه المرأة والسيطرة عليها وإبعاد صديقها والقضاء عليه، وحصر هذه المرأة في عالمه، وإنتظار خليفته وهو ابنه الوريث، لكن خليفته يظهر بهذا الشكل المشوه، وكأن الأمَ تريدُ القضاءَ على الصلة بالزوج.
هنا ثنائية تناقضية تصادمية في الجنس، فليس ثمة علاقة أخرى تجمع هذين الكائنين المتباعدين روحاً.
زمن الحياة هو زمن ما قبل الثورة الفرنسية، هو زمن الإقطاع، وهوهنا في هذه الرواية هو مجردُ إمتيازاتٍ إقطاعية، فالثروةُ لا تأتي للمرأة سوى عبر الحروب وبموتِ أهلِها، وبقيام الزوج بالاستيلاء عليها، لكن الروائي لا يقوم بتحليل المجتمع بل يركز على هذه الكائنات النادرة المفصولة.
وحتى تلك الحرب التي تحضرُ كخلفيةٍ تاريخيةٍ سلبية لا صلةَ إجتماعية لها في تلافيفِ العلاقاتِ الشخوصية والحدثيةِ الروائية، فهي حربٌ دينية، لكن فرنسا الكاثوليكية تحسمُ خيارها الديني وتلقي عملية الإصلاح الديني جانباً فيما قبل الثورة بسنوات طويلة.
إن عدمَ حضور السيرورة الطبقية التاريخية لفرنسا هنا في الرواية هو نتاجُ أسلوبِ المؤلفِ بلزاك، فهو يعرضُ الشخوصَ والأحداثَ في وحدةٍ تركيبيةٍ مشهدية دقيقة متصاعدة، إنه يحفرُ في الشخصيتين الأب والأم بشكل عابر نحو ولادة الابن الأول فالثاني، ويقومُ الطبيبُ الخبير في كل شيء بذلك الزمان بدور الخيط الرابط والسببية الخالقة، بإعتبار أن الثقافةَ هي الخلاقةُ الفعليةُ للنمو النبيل، وقد كان الطبيب في زمنية إنهيار العصور الوسطى ما يزال مجموعةً من العلوم والمهن، حيث أن الطب هو موسوعة الثقافة كابن سينا في عصره، وفيه نجدُ الرياضياتَ والسحرَ والفلك، فيقومُ الطبيبُ بدور التوليد للأجساد وللعالم الرومانسي معاً، من حيث ولادة الابنين ومن حيث العلاج للأمراض الجسدية بل وحتى الاجتماعية حين يجعل الابن الأول المريض يتزوج من فتاةً أعدها له، وبهذا فهو ينقذُ العائلةَ من غياب وريثها ومن موت الابن الثاني القوي والذي وُلد طبيعياً في تسعة أشهر.
وفي حين إن العلاقات الإقطاعية من حروب تقضي على الابن الأصغر، تقوم الثقافة والحب بمعالجة أخطاءها، في رومانسية بلزاكية لإستمرارية الإقطاع العتيق غير المحلل.
إنها بنية فنية منغلقة في العائلة المعزولة عن الصراع الاجتماعي.
فنحن نرى الابنَ الأول المريض الهزيل يعيش طويلاً خارج القصر وقرب الطبيعة، ويغرق في الثقافة والموسيقى وحب الكائنات، مما يشكلُ وجهاً رومانسياً، مضاداً للعلاقات الاجتماعية الشريرة القبيحة في تهافت الأب على الأملاك والحروب، في حين يقع القبح في العلاقات الاجتماعية السائدة، في القصر والحروب وحكم الكنسية والملك هنري الرابع، وهي تعميمات لا نراها مجسدة إلا في سلوك الأب الإقطاعي القبيح الشرس، والذي يتفتقُ عن شراراتٍ إنسانية في ختام حياته.
تتوسع رواياتُ بلزاك في الفترة الأخيرة من حياته كرواية (النسيبة بت)، لكن هل غادر المنطلقات العامة التي تشبثَّ فيها؟
إن بؤرةَ الصدام بين مرحلةِ الثورةِ الفرنسية وعودةِ المَلكية لم تعد قادرةً على تغذيةِ التناقض الصراعي المتوتر، فالماضي الثوري غدا متجَّاوزاً، وبين بدايةِ العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات من القرن التاسع عشر حدثت تطوراتٌ كبيرةٌ في البُنيةِ الاجتماعية الفرنسية، فلم تثمرْ عودةُ المَلكية في تصعيدِ الارستقراطية التي ذُبلتْ مواردُها وتحول بعضُها للرأسمالية وأنهارَ بعضُها الآخرُ للحضيض الاجتماعي كما رأينا في نماذج عدة، وراحت رواياتُ بلزاك تعرضُ هذه الأحداثَ والتطورات في مشهدياتٍ كثيرة راصدةٍ وجودَها الراهن، مبتعدةً عن الجذور والتوسع في طبقات أخرى.
لهذا فإن بؤرةَ التناقض زالت، والطبقتان المتعاديتان تداخلتا في بعض، فبعضُ قوى الماضي بقي في الإداراتِ الجديدة، وبعض قوى الحاضر الرأسمالي صعدَ للقمة، فالتناقضُ بين الطبقتين لم يعد قادراً على إشعال موقد التوتر الصراعي السردي، فالنماذجُ القديمة المضادةُ للارستقراطية ذابتْ وترسملت، وهي تلك النماذج الاستثنائية كالوكونيل شابير التي لم تعدْ تطفح على سطح الواقع لتثيرَ نيران التناقض. أن الطبقتين المتصارعتين طويلاً غدتا طبقة واحدة.
ولم يجد بلزاك تناقضاً إجتماعياً كبيراً في الحقل الاجتماعي يشتغل عليه بإتساع كما هو حال التناقض السابق، ولهذا نقرأُ روايةَ (النسيبة بت) في هذا الضوء.
إن ثمة شخصيات محورية من الزمن النابليوني لا تزالُ تتنفس ولكن في عالم مختلف.
أهمها البارون هيلو والسيد كروفيل، اللذان مثلا تلك الجماعة البونابراتية التي تغيرت سبلُها في العيش، ففيما صعد هيلو في الإدارة إلى مرتبة الوزارة وصار (نبيلاً) أعتمد كروفيل على التجارة الشعبية المذمومة في عرف الارستقراطيين لكنه حقق نجاحاً كبيراً.
لقد إصطدم نموذجا عهد الثورة الآفلة هيلو وكروفيل لكنهما إصطدما حول الاستئثار بعشيقات، وطوال أحداثِ روايةٍ كبيرة بحجم (سبعمائة صفحة من القطع الصغير في الترجمة العربية، عن دار عويدات ببيروت) وهو أمرٌ يعبر عن تحلل هذه الفئة، وتقوقعها حول ذواتها وبدون أن تخوض معارك تحولية جديدة في المجتمع، فيما تبقت نماذج نادرةٌ من العهد السابق منقذةً ومُحتفظةً بشرفها الجمهوري.
إن العتبات الأولى في الرواية البلزاكية المعتادة الموجهة نحو بؤرة الرواية تختفي في رواية (النسيبة بت)، فالبؤرةُ الروائية تظهرُ منذ البداية حيث نرى زيارة كروفيل لبيت البارون هيلو ولقائه بزوجته البارونة (أدلين) حيث يراودها عن نفسها عارضاً بوقاحة مزايا مادية كبيرة، إنتقاماً من زوجها الذي خطفَ عشيقته المغنية!
أدلين المرأة المتقدمة في السن والمحتفظة بجمالها ترفض ذلك إيماناً منها بالمُثُل المسيحية وحباً في زوجها رغم معرفتها بخيانته.
هذه اللحظة الافتتاحية الواسعة المتحركة بين البيت ذي الأثاث القديم الرثِ والحديقة، تتضافرُ مع حركةِ النسيبة بِت ومراقبتها الفضولية وهي التي تجلسُ مع الابنة أورتنس، ومن هنا تبدأ الخيوطُ في الظهور والانسياح في كافة الاتجاهات الحدثية.
النسيبةُ بِت التي تتخذُ الرواية من اسمها عنواناً، قادمة هي الأخرى من الريف كذات عائلة النبيل فيلو التي لم تكن نبيلة لكن خدماتها للثورة ونابليون صعدتها، لكن بِت لا تزال فقيرةً وهي منمطمةٌ ومعقدةٌ ومليئة بالحقد والتظاهرِ كذلك بفعلِ الخير وخدمة العائلة في الوقت التي تقوم بنخرها، أنها نموذج البرجوازي الصغير المدمر، وهي تعقدُ علاقةً مع مهاجر فنان بولندي هارب من بلده أثر ثورة فاشلة، وهو يقدمُ على الانتحار لكنها تنقذه وتتملكهُ كعبد وتدعي تطويره، وهو يرضخ لارادتها ويتغير، فتسيطرُ عليه مؤقتاً، ريثما يحب بشكل حقيقي ابنة فيلو البارون (اورتنس)، ويفلت من شبكة بِت، ليقعَ في شبكة أخطر هي شبكة الجميلة البغي التي يقع معظم رجال الرواية في حبها، وتصطادهم وتعطيهم مواعيد مختلفة، وتستفيد من أمكنة متعددة، فيما بيتها هو مكان الحفلات والعلاقات.
محور الرواية شخصية فيلو البارون تترابط خيوطُها مع زوجته وابنته وعشيقته الجديدة التي يجمع الأموال من أية جهة وخاصة من مورد عائلته، ومن جهاز الدولة، ومن مساعدة قريب له هو (خاله) الذي يسافر للجزائر التي خضعت للاستعمار الفرنسي حينئذٍ ويضاربُ في قمح الدولة ويتعرض للسجن فينتحر، ينتزع هيلو البارون أي مال لكي يلقيه في حريق شهواته الذي لا ينطفئ حتى آخر سطر من الرواية.
فيما منافسه كروفيل يلاحقه ويكتشف علاقته بـ(السيدة مارنيف) فُيغيرُ على المكان ويلقي شباكه على تلك المرأة الفاتنة التي تصطاده وتسحب جزءً كبيراً من ثروته.
فيما تقوم النسيبة بت بحبك المؤامرات لمن تستفيد منه، وهي تشعر بالغبن حين يتخلى عنها الفنان البولندي ويتزوج أورتنس فتتزعزع العلاقات داخل الأسرة، التي لا تنتبه لهذا وينحدر الأب فيها لمهاوى الأفلاس ويتبرأُ منه أخوه المحتفظ بالمُثُل القديمة ويطرده من الوظيفة، ويعيش متخفياً في أمكنة حقيرة، ويظل يطارد البنات الصغيرات ويموت على هذا.
شبكةٌ كبيرةٌ من الشخصيات والعلاقات وهي كلها تدور في الحاضر، وبالسرد المباشر، المتصاعد، وتغدو الالتفاتات للماضي محدودةً وتجري من قبل الراوي المسيطر المهيمن على السرد، حيث يقدم خلفيات للشخوص والأحداث ويهتم إهتماماً شديداً بكمِ النقود التي يحصلون عليها بدقة شديدة، ووظائف تحصيل هذه الدخول، والبيوت التي يسكنون فيها، والتغييرات المعمارية التي تستجد وفواتيرها، ومن يربح في هذه الدخول ومن يخسر، وكيف تتسبب الميزانيات في الصعود أو الانهيار للشخصيات المختلفة.
يقدم بلزاك الشخصيات والأحداث بإنسيابية عفوية، فليس ثمة عقدة كبيرة، بقدر ما هي شهوات بعض الرجال الحادة التي تعبرُ عن فراغ روحي فكري، وهي كلها ضمن الطبقة السائدة التي بدا أنها تراكمُ الثروةَ من قبل الفرع البرجوازي وتخسر الثروة في الفرع الارستقراطي، الذي لم يستطع إنتاج مهن جديدة.
فيما كانت الشخصيات التي تبيع قوة عملها، كِبت التي تعملُ خادمةً ثم تستغل موهبتها في الخداع والدس في جمع ثروة، فهي أشبه بحشرة سامة متسلقة، فيما الفنان (لونسيسلاس) يبيعُ مادةَ موهبته المحدودة التي لا يثريها بالتواضع والدرس فتذبل.
فيما الغواني يعشنَّ على الجمال الذي يزول بكوارث، فستفيد الشخصيات الحشرات العالقة من هذه الكائنات كزوج ( السيدة مارنيف).
هذا العرض الواسع المتشابك للشخوص وتطورات الأحداث ينمو بصدامات غير جوهرية في البناء الاجتماعي، فالعاشقان الغنيان المتصارعان عبر البيوت والشقق والحفلات والهدايا ونسج العلاقات الجزئية الأخرى لنفس البؤرة يخثران السرد في هذه التطورات غير الدرامية، ولا تضيف الشخصيات الثانوية حطباً لهذه النار الخافتة، والجميع يتحلل ويذوب وتتحول الأمكنة من البيوت والفلل الكبيرة إلى الشقق الصغيرة والحارات الشعبية.
تناقض الطبقتين الارستقراطية والبرجوازية الذي تغذى به روي بلزاك في رواياته الاجتماعية القصيرة المكثفة يُفتقدُ بشكل متواصلٍ مع غيابِ أساسه الاجتماعي، وإندماج الطبقتين اللتين غدتا طبقةً واحدة من أصول مختلفة، ويظل الصراع على طبيعة المَلكية حيث تعبر عن بقايا الارستقراطية التي لم تعد مطلوبة ولكن بلزاك لا يتعرض الصراعات التاريخية بل يدرس مشاهد إجتماعية قاطعاً إياها عن سيرورتها وتطوراتها اللاحقة وهو منهج يحيل الحبكة إلى درس موضعي، ومن هنا يقوم بتهّميش أفرادَ الطبقة العاملة فتظهر على هيئة أفراد تابعين وممسوخين، ولهذا تغدو هي المفقود الاجتماعي في هذا العرض البلزاكي الواسع والتي هي القادرة في حضورها على تأجيج التناقض فنياً كما تفعل ذلك إجتماعياً وسياسياً، ولهذا تغدو رواية بلزاك رواية برجوازية عائلية تفتقد الصدامات الاجتماعية الواسعة.