أرشيف الأوسمة: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفنون في الأديان

الفنون في الأديان

20070828bizreligion_dm_500

أضطر العرب المسلمون في نقلتهم الحضارية بين الجزيرة البدوية الصعبة ذات التاريخ المرير وإحتلالهم للشمال الزراعي الغني أن يختزلوا الكثير من المظاهر الحضرية ويشكلوا سمات حضرية خاصة بهم دون أن تكون هذه السمات متناسقة تمام التناسق.

من الجوانب البارزة في هذا الموقف الرسمي من الفنون، والموقف الرسمي هو الموقف المسجل في الوثائق الدينية المعتمدة للأنظمة السياسية التي تتالت بعد هذا.

كانت الشعوب القديمة الوثنية بطبيعة دياناتها تقدس الفنون، فهي مدار حياتها، فالإنتاج كالبذر والحصاد والصيد وبالتالي الأعراس والولادات والختان كلها تجري من خلال فنون الشعر والغناء والرسم والنحت، ولكن هذه الفنون تجري بتقديس الآلهة لهذه الشعوب، فهي جزءٌ من حياتها وإحتفالاتها.

وقد وجد العربُ المسلمون أنفسَهم مع قدومِهم لمسرح التاريخ في المنطقة بشكلٍ متأخر، أنهم يحاربون الوثنيات بقوة، وهي التي تمثل تعدديات الدول وتنوعها وسلطات المدن والقبائل والشعوب المتختلفة. ولم يكن مستواهم الثقافي في ذلك الوقت يتيح التمييز الدقيق والفصل بين ما هو وثني وما هو فني إنساني.

فلم يفصلوا بين محاربتهم للوثنية ومحاربتهم للفنون، التي كانت هي مندمجة فيها، بحكم التطور الطويل السابق، فظلت الأحكامُ الفقهية في الأجيال التالية دون معرفة العلل فيها، ثم تغيرت الظروفُ الوثنية المرتبطة بتلك الفنون، لكن الأحكامَ الفقيهة بقيتْ على حالها!

كان الساحرُ قديماً هو الفنان النحات والشاعر والراقص والصياد، ثم تخصصت صفاته في فنانين متنوعين، فالشاعر المغني أنفصل عن الساحر، ثم أن الشاعر كذلك أنفصل عن المغني وعن رجل الدين، لكنه انفصال غير تام وحاسم، فالثلاثة في علاقة متداخلة، كأشكال متقاربة من الثقافة، نظراً لأن الموسيقى والقداسة تجمعها.

فهذه هي كلها في عرف القدماء نتاج السماء أو وادي عبقر أو الروح أو الألهام، فرجل الدين يصنع الشعر ويغنيه ويؤثر من خلاله على الجمهور.

ومن هنا بقيت في الكنيسة المسيحية علاقة رجل الدين بالغناء، فهو إن لم يتحول إلى مغنٍ تماماً فهو ينشد، أو يقرأ بموسيقية ما، ويضعُ آلة موسيقية في الكنيسة، ويدعو المؤمنين للترتيل معه، أو الإنشاد أو الغناء.

المسيحيون كسكان مناطق زراعية متحضرة قديمة، لم ينشئوا دولة بسرعة العرب المسلمين، ولهذا احتفظوا بتقاليد فيها وثنية وتعددية إلهية وتراث موسيقي قديم، وأنتقلت تدريجياً إلى أوربا وبعد قرون ومع البعث النهضوي والترجمات الإغريقية تحولت إلى نهضة جديدة عالمية.

أما العرب فعلى العكس أرادوا أزالة المظاهر الوثنية بقوةٍ وسرعةٍ حتى لا تتفكك دولتهم الطرية، فعارضوا أي تذكير بالماضي حتى لو كان فنياً وإحتفالياً فرحاً، وكان يمكن لهذه الاحتفاليات والمظاهر الوثنية أن ترتبط كذلك بمعارضاتِ الشعوبِ ومؤامرات الإمبراطوريات الكبيرة المهزومة في ساحات القتال.

وفيما بعد حين زالت تلك المظاهر التاريخية السلبية المؤقتة، لم يكن بإمكان الفقه الحكومي المتصلب أن يقرأ ذلك على ضوء التحولات، وبقي في الموقف الرسمي وخاصة في الاتجاهات السنية، وكلما زاد في بدويته وشكلانيته قل تعليله للتاريخ الاجتماعي الديني.

لكن الشعوب الإسلامية لم تكن تعبأ بالموقف الرسمي الديني، فقد كانت شعوباً أدبية وفنية بحكم تقاليدها الطويلة وتجاربها الإنسانية، فانتشرت الفنون والآداب على نحو هائل فيها، فكانت أكثر الشعوب إنتاجاً وقتذاك في التراث الإنساني.

وقد حافظت كذلك على الوحدانية، لكن العلاقة بين رجل الدين والفنون ظلت متضادة، فحافظ رجلُ الدينِ المسلم على طبيعةِ الراهب المتشددة فيما يتعلق بالفنون في زمن الفتوح الإسلامية، أي ذلك الراهب المجافي للغناء والفنون عامة، خاصة الحركية منها والمرتبطة بالرقص فهذه أشد اقتراباً من الماضي الملغوم، الماضي المرتبط بالفنون المذمومة، والشهوات، وفقدان الوعي، من أجل أن لا ينزلق إليها المؤمن ولا يهوى في الوثنية، رغم أنها جميعاً غدت لا علاقة لها بذلك الماضي البعيد، وأن المسلمين انتصروا منذ زمن بعيد وأن تلك الروح الحربية لم تعد ابنة زمانها. لكن روح الأحكام العرفية مستمرة خاصة مع حكم المناطق العربية المحررة من هيمنة الدول السابقة، والتي كانت تزدهر بالفنون الوثنية لكن بعد إستقرار الفتح العربي تلاشت، وبحثت الفنونُ العربية الإسلامية عن الجمع بين التوحيد والفرح والرقص والتشكيل والمسرح والموسيقى.

لكن موقف الرجل الدين التقليدي أستمر وظلت معاداته للفنون قائمة حتى بعد زوال أسبابها. فهو يعارض كافة أنواع الفنون حتى لو كانت التجريدية منها وغير المرتبطة بالحراك الجسمي المبتذل، والمصعدة للنفس والروح في حالات إنسانية راقية. فيبدو له إن الفنون تخفي ورآها أوثاناً.

وهذا يعود لاستمرار الأحكام التقليدية الفقهية طوال قرون سيطرات الأسر الخاصة.

لكن ذلك يغدو مستحيلاً خاصة في العصر الحديث فالموسيقى تملأ الحياة والسياسة والعالم، والموسيقى لا بد أن تدخل في كل مكان، ومن هنا تنازل رجل الدين التقليدي للموسيقى الحربية أن تدخل عالمه، فهي تماثل روحه القتالية المستمرة، فاستعان بها للأناشيد والجنائز.

ولا شك أن قضية إدخال الموسيقى في الفرح والاحتفال ستظل هاجساً، وقضية خطيرة، بسبب انتشار الثقافة الغربية وأعتماد الموسيقى والفنون كمناخ إحتفالي اجتماعي جذاب، لكن هذه الثقافة تختلط فيها الجوانب العظيمة والجوانب المبتذلة، كما تغدو وسيلة إجتماعية لنشر المخدرات والجريمة في بعض الملتقيات. ومن هنا ضرورة الفصل بين هذه الأنواع وعدم التعميم.

الخيال والواقع في الأديان

تعتمدُ الأديانُ على الخيالِ غالباً، لأنها تشكلت منذ أكثر من أربعين ألف سنة على فكرتي الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة، فهذا السديمُ من الصورِ والمعاني يشتبكُ غالباً بالواقعِ ومشكلاتهِ من حروبٍ وأمراضٍ وصيدٍ وزواج الخ.

بداياتُ الأديان هي بداياتُ الانتقالِ للحضارة، وهي لا تعدو أن تكون 1% من التاريخ البشري، وقبلها ملايينٌ من التاريخِ المجهول للإنسان، حسب ما يقول فراس السواح.

ولهذا فإن فرزَ الجمادِ من الروح كانت ثورةً فكرية كبرى! حيث انفصل عن الإنسان عن الحجر والنهر والغابة ولكن ليس بشكل كلي، فإلى مدى طويل ستظل الأشياءُ ذات قوى روحية أو أرواحية، وسيظلُ الإنسانُ هذا الكائنَ الهشَ المعلقَ في خشبةِ الوجودِ السائرة في الأنهار.

وتتوجه الإراداتُ البشرية لطلب المساعدة من هذه الأرواح، مرة بالخير ومرة بالشر، وتصيرُ الآلهةُ نمطين مثلهما، آلهة تحكمُ بالخير وللخير، وأخرى للشر وبالشر.

وهذه المعاني العامة سنجدُها لدى البوذيين أو الهنود الحمر. وكلما تطورتْ الحضارةُ تخضعُ الأفكارَ الدينيةَ للتقاليد والمواصفات الإجتماعية وللمؤسسات السياسية.

ونظراً لكونِ الأفكار الدينيةِ متصلةً بعالمِ الأرواح فهي تبقى غامضةً، متعددةَ الرؤى، مختلفةَ التفاسير، ويتيحُ لها ذلك النموَّ التاريخيَّ، العقلاني مرة، وغير العقلاني مرة أخرى. وأن تقع في قبضاتٍ مختلفة، وإرادات متناقضة، وتصيرُ مرة للبناء ومرة للهدم.

ليس في عالم الأرواح تجريب وبرهان، ويقول صانعو الأديان إنهم يسمعون أصواتاً، وأن نداءات تأتيهم، وإن رسائلَ بُعثتْ لهم، وآخرون يقولون إنهم شاهدوا أحلاماً، وكل هذا يجري في السديم الغامض، في عالم الأرواح، حتى تبدأ الكتابة الملموسة للدين من خلال الكلمات، والقوانين، سواءً كانت في ورقٍ أو حجر، ويتحولُ الغموضُ الخارجيُّ الفوقي السماوي أو الأرضي، إلى جماعةٍ أو إلى نصوصٍ أو عبادات أو أوامر ونواهٍ إجتماعية.

عالمُ الأرواح الذي يتم التراسلُ معهُ أرضياً وبشرياً والمتسم بالغموضِ واللاتحدد من المتسحيل أن يعطي رسالةً واحدةً، وكما أن الأرضَ ذاتَ خرائطٍ وأصواتٍ مختلفة، فكذلك فإن الرسائلَ تتباين، وتتعددُ الأديان.

يعزلُ عالمَ الأرواح مع تصاعد المؤسسات الدينية والسياسية، إن عالم الأرواح الغامض لا بد من السيطرة عليه إجتماعياً، وأن يكون الدين مؤسسةً ثم مؤسسات، حسب تنازع القوى والمؤمنين أو تآلفهم، إن الأرواحَ الخيرةَ هي التي تتجسدُ في المؤسسة الدينية، لأن الدينَ في غاياتهِ الأولى كان بهدف خير، فقد كانت الرسائل الدينية تظهر لدى قادة روحيين مضحين، يشقون طرقاً لتطور البشر. فالرسالةُ في حدِ ذاتها تضحية، وبطولة، ولكنها تصيرُ مؤسسةً، وتنحازُ لهذا الطرف الاجتماعي أو ذاك، فينقسم الدينُ ويصير مذاهب وحركات سياسية وإختلافات.

الركائز الأولى للدين من ألوهية وإنقسام للأرض والسماء والدنيا والآخرة وغيرها من ركائز تصورية كبرى، هي ركائزٌ عرفتها البشريةُ كلها، حتى دون أن تتشكلَ علاقاتٌ مباشرةٌ بين بعضِها البعض، وهي تقومُ على أساسِ التضاداتِ الكبرى في الحياةِ البشريةِ غيرِ الممكنِ ردمها أو إزالتها. التناقضُ بين الحياة والموت، وهو أكثر التناقضاتِ رهبةً وبقاءً للجنس البشري والحيواني عامة. التناقضُ بين الوجودِ والعدمِ هو من أكثرِ المناطقِ خصوبةً لإنتاجِ الوعي الديني، والأفكار عامة، وهو الذي بدأَ تحريكَ الوعي باتجاه أن يكون الكائنُ النسبي مطلقاً، والعابرُ أبدياً.

وكذلك هناك التناقضُ بين الأرضِ والسماءِ، وهو شكلٌ آخر للتناقضِ بين الإنسانِ والوجود، ثم التناقضُ بين الحاكم والمحكوم وهو التناقضُ المولدُ للحركةِ الاجتماعية، ويتداخلُ مع التناقضين السابقين في توليدِ التصوراتِ وفي نسجِها بين الخالد والعابر، بين الفقير والغني، بين اللاموجود والموجود.

تنقشع ضبابيةُ الأرواح لدى المؤسسات، التي تحيلُ الدينَ لنصوصية قانونية وراءها العقوبات والسجون، والتقاليد، والحلال والحرام، وعلى مدى وجود العناصر العقلانية القارئة للآلام البشرية وحاجات العاملين أو عدم وجودها، تتحدد تطورات الأديان، بين ازدياد للعقلانية أو هجوم للجنون، فالحياة الاجتماعية تولد سلاسلَ من التطورات الدينية واللادينية، من الفرق المتبصرة أو ( من الهلوسات)، ومن التخصصات الدينية المدققة العاكفة على التطور التدريجي، ومن النصوصية الجامدة المريضة، ومن هجوم الفرق السياسية على الدين وإختطافه من حياته العبادية العادية، إلى حماية الدين بإبعاده عن التجارة والحروب السياسية.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفنون في الأديان