تدهور العقل النقدي في الأنظمة العربية بسببِ عدم قيام المفكرين الكبار والباحثين بدورهم التحليلي الموضوعي لدراسة الحياة العربية، ونقدها بصورة شحاعة وحاسمة.
هؤلاء المفكرون دخلوا السجون وعاركوا الأنظمةَ المستبدة ولكن لم يواصلوا رحلة التشريح النقدية العميقة.
ما هي الأسباب التي تجعل هؤلاء يقطعون رحلات عمرهم المضيئة بإنهيار أخير؟
الفارق بين المنورين الغربيين وبين هؤلاء إن الموسوعيين والفلاسفة الغربيين إنهم واصلوا رحلتهم رغم التشرد والغربة والسجون وبقيت كتبُهم متسقةً في النضال من أجل الديمقراطية والحرية، ولم تثنهم العقبات المختلفة أو الإغراءات.
هل لأن(المعدن) العربي معدنٌ هشٌ لا يستمر في صلابته ويتكشف جوهرهُ في خاتمة المطاف؟
ليست المسألة قدريةً وغيبية بل هي واقعية صرفة.
إن الفارق بين جان جاك روسو المفكر الرومانسي وهو قدرتهِ على التشريح النقدي حتى لجسده الفكري الروحي وكشف عريه. وهو في هذا التشريح لا يعطي فرصة لنفسه للتخاذل.
أو حين يكتب جان جينيه المسرحي المعاصر في القرن العشرين عن نقاط ضعفه بكل صراحة.
لا يتابع المفكرُ العربي أخطاءهُ وتدهور رؤيته وتسلقه على مواسير الأنظمة، وإنقطاع روحه النقدية شيئاً فشيئاً، فيبدو في آخر مسيرته الفكرية منقطعاً عن جرأته الأولى وتعريته للأوضاع السياسية.
إنه يقدم صورةً وردية عن ذاته، لا يعري تراجعاته وأسبابها، فلا يكشف كزوج عقبات الزوجة والعائلة التي حاصرته وأرجعته للوراء، وربما كان امرأةً والعقبات أمامها كثيرة فصمتت عن التخاذل الذي أصيبت به.
ربما يبدأ المفكر من أشكال فلسفية هامة ويكشف رؤى عربية محافظة، عبر فلسفة عالمية، كما فعل محمود أمين العالم، أو عابد الجابري حول الوعي العربي الذي جرده الثاني في بنية العقل العقل العربي، لكن الأول نقل فلسفة روسية شمولية عجزت عن الحفر النقدي في الأنظمة العربية، فماشت أنظمةً رأسمالية حكومية على أساس أنها(الطريق العربي نحو الاشتراكية) والثاني غيّب الصراع الاجتماعي في الأنظمة العربية ولم يدرس تنامي هذا الصراع وأشكاله المعقدة عبر الارتداد الديني للنظام التقليدي، وضعف القوى التحديثية وضعف نقدها للبنى الاجتماعية الراهنة وبالتالي لم تجر المعركة المفترضة للقوى التقليدية الديينة والسياسية.
بعد ذلك تأتي مجرياتُ الحياة الاجتماعية الملموسة للمفكر وصعوده في مؤسسة صحفية أو سياسية وتبدل نمط عيشه ليخفف من حفرياته النقدية وموضوعيته. ثم يرى المتابعون الانهيارَ بشكل فاقع في سنوات لاحقة.
يواجه المفكر والكاتب العربي إغراءات معيشية في مجتمعات بلا قوة حضارية، فالاحزابُ الديمقراطية التحديثية غيرُ ذاتِ جذورٍ شعبية، وقوى التخلف والانتهازية واسعة، والنقابات صفراء، ولا يوجد قراء كثر يقفون معه ويشترون كتبه ودور النشر والمكتبات تسرقه.
كذلك فإن رجال الأعمال الذين يفترض مساندتهم للتنوير والديمقراطية ومساندتهم للمفكرين بتعضيد دور النشر والمجلات الموسوعية كما حدث في غرب أوربا يبتعدون عن هذه المساهمات التي تغذي الفكر وتؤدي لمجابهة التيارات الظلامية.
كان الانسكلوبيدون وهم الكتاب الفقراء ارتفعوا فوق الصحف والمجلات الشعبية وصنعوا الثورات الحديثة، فتعاضادت الأسباب الذاتية في مجالات الصناعة والتجارة ووفي مجالات الفلسفة وغيرت مجرى الإنسانية.
تضحياتٌ من الجانبين المنتجين المادي والثقافي، وبدونها لا تتكون التحولات.
2 ــالعقلالنقديالعربي
تعكز الهجومُ المحافظ الأسطوري في الثقافة العربية السوداء على إعتماد الخرافات سبيلاً للوقوف بعد السقوط والترنح الذي أحدثته الثقافة العربية التحديثية منذ القرن التاسع عشر، منذ الأنظمة الملكية الليبرالية فالأنظمة العسكرية الوطنية والثقافة التنويرية العلمانية تتصاعد بقوة دون أن تقطع بجذورها الإسلامية والقديمة والإنسانية.
كان الحصول على معنى المادة ومعنى العلم وكشف سببيات الوجود لتلك القبائل التي خرجت من الجزيرة العربية أمراً صعباً محفوفاً بالمخاطر لجماعات أمية محدودة الأرث العلمي، والتي إنتجت منها فئات وسطى حرفية وثقافية راحت تتساءل عن معنى الوجود وكيفية فهمه وكيف السيطرة عليه؟
لا تفهم الشعوب الطبيعة والمجتمع بشكلٍ مجرد سحري غيبي تلقائي عجائبي بشكل أساسي، وإن كانت هذه هي المراحلُ الدنيا لتشكلِ العقول، لكنها تتجاوزها، لأنها ذات مستويات دنيا، ولاعتمادها على الحدس وهو أدنى أشكالِ الفكر.
لكن هذه الأشكال الدنيا ملاصقة كثيراً للعرب والمسلمين لأنهم في المستويات الدنيا من الإنتاجين الصناعي والعلمي، ومن هنا فالأشكال الأخرى من السحر والدين تبقى مترافقةً مع هذا التطور ذي المستوى المنخفض.
ومن هنا كانت الجهود الجبارة للعلماء العرب والمسلمين في إنتزاع أسرار الطبيعة والمجتمع، وهم في بدايات الحضارة، وهو أمر مهده علماء اللغة والكلام ثم الفلاسفة، الذي وضعوا جميعاً القواعد الأولى لبناء العقلية العربية الموضوعية النقدية، التي تراكم لبنات المعرفة الموثقة، والتي تكشف خلايا المادة وعمليات التغلغل فيها بشتى أشكال تمظهرها، سواء كانت جسم إنسان أو حيوان أو أشياء مادية بمختلف حالاتها، أو كانت كوكباً أم نجماً.
ولا تنفصلُ العلومُ الإنسانيةُ هنا عن العلوم الطبيعية، بل كانت هي مقدمتها، فتطور علوم النحو والصرف والبيان ودراسة جذور اللغة وحياة العرب الاجتماعية، قاد إلى وضع لغة كبيرة ذات إمكانيات تعبيرية وإشتقاقية حيوية تحت تصرف علماء الطبيعة والطب والفلك والكيمياء.
فتغيرت الرياضيات بداية من تغيير الأرقام إلى جعل الصفر فيها وجعلها بالتالي سهلة ولا نهائية الحساب، لأن المادة لانهائية، وعبر الجبر تم إظهار الكم المجهول من الكم المعلوم، فغدت الرياضيات أداة أخرى، وتطورت الهندسة الأقليدية، خاصة عبر التلاقح مع الثقافة اليونانية، ثم بدأت الكيمياء والفيزياء بالتطور مع تطور الحرف والصناعات.
لكن هل تنفصل العلوم هنا عن الشعوذة خاصة مع هذه النشأة الأولى؟
(أخذ «جابر بن حيان» مادة الكيمياء – كما هو معلوم – من مدرسة الإسكندرية التي كانت تقول بإمكانية انقلاب العناصر وتحولها بعضها إلى بعض، وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآداب السحرية والتصوف والروحية الإيرانية)، (الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا، منشورات عويدات ط 2، 1988، ص 315).
إن إمكانيات الوصول إلى الأبعاد المتعددة للمادةِ مسألةٌ مرهونةٌ بقوى الإنتاجِ السائدة في المجتمع وتجلياتها في البحث العلمي خاصة مدى تقدم الحرف ومن ثم وجود معامل الإختبار، وتخصصات العلماء، وأدوات السبر والصهر والتحليل المختلفة.
ولهذا فإن حدوث جدل عميق بين الصناعة والعلوم لم يحدث:
(مزجَ العلماء العرب والمسلمون الذهبَ بالفضة، وإستخدموا القصديرَ منع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية، وإستخدموا خبرتهم الكيمائية في صناعة العطور ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع..) الخ، الموسوعة العربية العالمية، ص 460.
لنلاحظ هنا كيف أن منهجيات البحث العقلي كانت محدودة وكذلك فإن توجه الطبقات الحاكمة للاستئثار بجانب كبير من الفيض الإقتصادي، وجه الصناعات نحو الصناعات الاستهلاكية التابعة للقصور والتجار، مثلما أن الحركة الفلسفية لم تقم بتحليلات عميقة للمواد الطبيعية والاجتماعية.
إن المادة هنا باعتبارها مواداً وكواكب ونجوماً، أي مادةً كونيةً، لم تتغلغلْ الأبحاثُ فيها، فجثمت أشكالُ الوعي العربي العلمية على سطوح المواد والعمليات، وهي المواد المقاربة للاستهلاك أو للصحة الجسدية البسيطة، أو للتنجيم، وهو الثقب الأسود الذي إنهالت منه مواد الخرافة الواسعة وبلعت العقول والحضارة العربية.
وحتى شبكة العلوم الطبيعية كانت خاضعة لأهداف الطبقات العليا، فالطب والتنجيم والصيدلة يتم الصرف عليها، في حين لا تحظى علوم أخرى بمثل ذلك.
إن أشكال الوعي من دين وفلسفة وعلوم لم تستطع أن تصل إلى المادة إلا بأشكال محدودة وعجزت عن كشف تنوعاتها والوصول إلى مكوناتها الأصغر، في مختلف تجليات المادة الحية والجامدة على السواء، كما لم تصلْ إلى فهم عمليات المادة الأكثر تطوراً وهي الحياة الاجتماعية البشرية ونتاجها الأعمق وهو الظاهرات الفكرية.
ومن هنا فقدتْ مفاتيحَ إستمرار النهضة والتقدم.
إن أحجام كشف المادة في الحضارتين الكبريين الإغريقية والعربية والحضارات الأخرى كذلك مثل الصينية والهندية، لم تصل إلا لكشف سطوح المادة، لكن في الحضارة الغربية التي تصاعدت منذ القرن الخامس عشر بدأت ظروف جديدة تتشكل، فقد أزيلت الدولة الكلية الإستبدادية وأُبعدت أحجارُ سيطرتِها وهي الأديان الكاتمة على حريات العقول.
لكن ذلك إستغرق زمناً طويلاً وبتفاعل البُنى الاقتصادية والفكرية لكل المجموع النهضوي الغربي، بحيث تم تجاوز الحرفة، بظهور الصناعة اليدوية فالآلية، لأول مرة في التاريخ، وبهذا فإن المادة بمختلف تجلياتها الكونية والأرضية وُضعت تحت أصابع وعيون البشر لتفحصها.
إن الأجسامَ الكبرى كالكواكب والنجوم أُعيد النظر إليها، ورئُيت حركة الأجسام الكوكبية بشكل صحيح، فبدأت المناظير تتجه إلى المواد الأصغر فالأصغر، دون أن يتوقف تحليل المواد الكبرى.
3 ــعناصرإنهيار (العقل) العربي
لا يمكننا القول بوجود تعميم (العقل) المجرد في النظام العربي، بل توجد وجهات نظر سياسية اجتماعية لفئات مسيطرة، أي باعتبار العقل السائد المسيطر آلية سياسية تفتقد العلوم والقراءة المستقبلية وتوجه الواقع إلى الانهيار.
نمط الحكوميين والدينيين هما الشكلان السائدان، هما الشكلان للإقطاع الحكومي والإقطاع الديني العاجزان عن إنتاج رأسمالية ديمقراطية. ولهذا يسود اللاعقل وتتوجه العديد من المجتمعات العربية الدينية لاحتدام التناقضات والفوضى.
جميع المواقف والأشياء تؤخذ من خلال دائرة واحدة أساسية، هي النظرة والبؤرة المصلحية التي تجمع كل التفاصيل، ثمة عقل حكومي وثمة عقل ديني معارض – مؤيد، العقل الحكومي يرى تصرفاته ونهج عمله هو النهج الوحيد، نهج البقاء في الحكم، نهج منع الفوضى من قبل الأطراف الأخرى وخاصة من قبل الطرف الديني المعارض، وهو نهج السياسة الدولية الراهنة، نهج الحداثة القاصرة التابعة، والمصالح العالمية المترابطة لإنتاج رأسماليات متخلفة في جهة ومتطورة مسيطرة في الجهة الأخرى.
العقل الديني النصوصي يرى الأمر غير ذلك، يراه في سيادة نهج الأشكال الدينية، والقراءات المنتزعة من التراث، يراه في بقاء المسلمين مسلمين، لكن كلمة مسلمين المجردة هذه غير موجودة في الواقع المرئي فهناك طوائف. وبالتالي في رؤيته يجب الابتعاد عن الحضارة الغربية عن الحداثة والعولمة، وبقاء الأمة في كيانها المقدس التاريخي.
هو يقود الواقع العاجز عن الرأسمالية المتقدمة إلى الفوضى، واضطراب دول الشرق، وسيطرة الدول والجماعات العسكرية والحروب.
العناصر الفكرية التي يطرحها كلٌّ من الاتجاهين لا تُطرح كعناصر ديمقراطية يمكن الجدل بشأنها وتغييرها وإضافة عناصر أخرى، بل هي رؤية سياسية اجتماعية صلدة قائمة على مؤسسات موضوعية لها جماهير تتأثر بها، وتدخلها في حراك سياسي وفي كيانات حكومية وشعبية واسعة وخطيرة متصادمة. وهي لهذا تصير لاعقلانية، تصير فوضى سياسية، لكونها لا تأخذ مصالح الجمهور والتطور بعين الاعتبار.
يجب أن تأخذ الرؤية بكليتها، وهي مدعومة أحياناً حتى بالرعب والسلاح والتصفيات، في أقصى تجلياتها وأكثرها مأساوية.
في بقاء الرؤية الحكومية صلدة متغلغلة في الأحزاب والمؤسسات الإدارية، فلا تقيم الحكومات فاصلاً بين مصلحتها الإستراتجية الكبرى وبين مصالحها الأقل شأناً من ذلك.
نجد إنه حتى في البلدان العربية الأكثر تطوراً من غيرها كمصر أن الحزب الحاكم يعتبر كل الأشياء السياسية والاقتصادية من هيمنته، بل ربما حتى الأمور الثقافية.
ويُضفى هنا على هذه التدخلات في كل شأن مظهرٌ ديمقراطي، باعتبار أن كل ما يجري هو صراع ديمقراطي، بينما الأمر ليس كذلك، وهذا الفرضُ يقودُ إلى خلق (عقل) إجباري، وترديد مانشيتات عامة مصلحية، كعباراتِ (الحرية والليبرالية والحداثة)، وأن الآخرين المعارضين متخلفون عن العصر.
فيما يركز الفريق الآخر على مصطلحات أخرى، هي كذلك تُنزع من تاريخها ومن عموميتها، مثل خروج الآخر عن الملة، وعن مصالح الشعوب والمقاومة الخ.
ويُجير الدينُ ويُدخلُ في المساومات والإقطاعات والقراءات المتحيزة المؤدلجة، وينشأ نمطٌ من المؤدلجين، المراوغين المكرسين لمصلحةٍ واحدة، ولكرسي واحد، في صراع سياسي يتسم بالحدة وضيق الأفق معاً.
هذا الفريق يقتطع كلمات ما، والآخر يقتطع كلمات أخرى مغايرة، والجوهر هو نفسه، الإقتطاعات الجزئية، والتركيز على جوانب الفساد في هذا أو الجمود في ذاك، بشكل كلي، من غير أن الفساد قد يَعمُ، وأن الجمودَ قد يكون موجوداً في الطرف الذي يقول إنه متطور.
تتشكل في هذه الحدة القطعية، والمراوغة الفكرية التعبيرية، لغة الكرسي الواحد، الذي لا يخلق التعددية، والذي لا يُشارك، والذي يخلق البطانات ويحولها إلى سلطات متكاثرة في الشؤون الاجتماعية المتعددة، وهذا يقود إلى تحطيم عناصر العقل السائد هذا، عبر ترديده لأسطوانات وعدم قدرته على التحاليل المتعددة للظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تزداد تعقيداً وتأزماً.
هناك مثل تضخمي كاريكاتيري لهذا؛ حين يقرر المسئولُ الكبيرُ قضايا الفكر والفلسفة والفنون وقوانين الاقتصاد والأزياء والعادات وغيرها، حين يشكل ديناً له كتابه الخالد.
فتقومُ هذه الظاهرةُ بإفساد المثقفين حين يكتبون عن هذا (الفكر العظيم) ومولده ودوره وإنجازاته ويحيون أعياده وتُدعى لهذه الاحتفالات وفود من كل مكان وتُصرف الأموال الوفيرة وينشأ رسلٌ عظامٌ لهذا الفكر العظيم.
وهناك نمط آخر اكثر مرونة لا يشكل هذه الشخصنة المطلقة لكن يرتب أمور مؤسساته السياسية والفكرية بحيث تدور في فلك الفكر (المرن) الذي لا يسمح بنشؤ التحليلات المعمقة في البنية، فتراه يحيل القضايا نحو جوانب أخرى مهمشة.
وقد قال مسئولٌ كبيرٌ في إحدى الدول الإسلامية بضرورة إبعاد العلوم الغربية من فلسفة وعلم إجتماع وتاريخ عن الجامعات في بلده، لقد شعر هذا المسئول بتضاد عميق بين أدواته المكرسة لنظام شمولي وقوة الأفكار الحديثة الديمقراطية.
ما يحدث من تصلب تجاه الأفكار الحديثة والجهود لتدمير قوتها يعبر عن مرحلة جديدة من الأزمة العربية الإسلامية، ويحدث هذا التدمير سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر. أن يكون الفكر هو نفسه محل هجوم تغدو تلك قضية خطيرة.
هذا التضخم المتوتر يعبر عن تصاعد قضايا السياسة لدرجة الأزمة العامة، بغياب التنازلات والبحث عن حلول ومشاركة الفرقاء المتصارعين في الإدارة.
ثمة أربعة توجهات؛ التوجه الرسمي سواءً حكومياً أم معارضاً، والاتجاه التوفيقي المتلاعب بين الاتجاهين، والتوجه الموضوعي لرؤية البنية الاجتماعية ككل، وتبصر مشكلاتها وحل هذه المشكلات.
4 ــالوعيالعربيوالتغيير
تنامت العناصر الديمقراطية في الدولة الإسلامية على مستويي السياسة والوعي بدءً من العصر الأموي، حيث نفى العديد من المثقفين أفكار الشمولية في الوضع الاجتماعي السياسي والفكر، سواءً بالمطالبة بعودة(الفيء) للناس، أو إزالة هيمنة الخلافة الفردية، وتأكيد حرية الإنسان وتقليص صور الألوهية القدرية على الإرادة العامة، لكن وعي بعض الأفراد من الفئات الوسطى أتجه نحو عروض غيبية للقضايا المطروحة، وعدم الربط بين قضايا المال العام والاستبداد السياسي والمسائل الدينية والفقهية. ولم تتشكل حركات تجمع بين هذه المسائل الفكرية والسياسية المنفصلة لكونها فئات ولم تتشكل كطبقة على أساس صناعي، ويعبر ذلك عن تفكك إرادة الفئات الوسطى والعامة المقامة على إنتاج زراعي يتعرض للتآكل وحِرفي يعيش على بذخ الأغنياء.
لم يكن بإمكان الوعي الديني المثالي التنويري خاصة في علم الكلام المعتزلي أن يشكل تحليلاً لتطور الصراع الاجتماعي، وإستراتيجية موحّدة للفئات الوسطى المنقسمة بين فئاتها وتياراتها، وأن يقرأ الوضع المادي للمجتمع.
إن حركة الأفراد من الفئات الوسطى والشعبية لا تكّون حركة سياسية إجتماعية عامة، بل تتفكك وتضطرب وتغدو مجردةً، ثم تتشكل عبر فئات دينية مدنية منقسمة ذات مناهج متضادة.
فتسيطر مسائلُ الفقه على المساحة الأكبر من الوعي، فالفقه هو مؤسسُ العبادات والعلاقات المادية والروحية، ضمن مواد الماضي والأحكام الشرعية وتطوراتها المختلفة، حيث يسيطر توجهان، الحكم عبر الرأي والحكم عبر النص السابق.
تياران مختلفا النمو خاصة حين تزدهر الفئات الوسطى مع تنامي التجارة والأحوال المادية، فيما مدرسة الحديث تعبر عن إنكفاء ذلك التطور.
هذا الشكل الأولي من الوعي الذي يكّون الخريطة الاجتماعية اليومية، والملامح الأولية للأمم الإسلامية في عالمها الأسري والمادي وعلاقاتها السياسية، يعكس مدى التطور الذي تحقق خلال القرنين الهجريين الأولين لكن هذا التطور تلكأ وتوقف ثم حدث تراجع، ولهذا فنصيبُ مدرسة الرأي يتقلص لحساب مدرسة الحديث، كما أن عالم الحرية والقضاء على الاستبداد وإنتاج حياة الرفاهية لا يتحقق، فيظهر شكلٌ آخر من الوعي هو علم الكلام ليقرأ المشكلة.
إن علم الكلام يتشكل من أجل تحليل تلك المواد الأولية من الفقه والتاريخ الإسلامي، ويحدث فيه نفس الانقسام بين وعي يتوجه للتحليل النقدي المطور وتحليل يؤكد المسلمات السائدة.
إن علم الكلام المعنزلي الرائد يرتبط بمقولات الدين ويطرح أفكاراً جزئية فلسفية، تحلل قضايا مثل القدر والحرية والجبر والذرة والإله وصفاته والقرآن وتكوينه، وغيرها من المسائل التي إرتبطت بالوعي المثالي الجزئي, وقد تباين علم الكلام عن الفقه وبدأ في التحليق فوق التحليل المادي للتاريخ، عبر ذبذبة الفئات الوسطى بين النقد الاجتماعي للسلطات السياسية والدينية وبين مسايرتها. تعبر ذروة وأزمة علم الكلام المعتزلي في مسألة خلق القرآن المتأثرة بالطرحين اليهودي والمسيحي عن طفولية الوعي ومثاليته المغامرة وعدم قدرته المفترضة على قراءة القرآن ككتاب نهضوي تحويلي وبالتالي قراءة تطورات الصراعات الاجتماعية العربية، فبدأ هذا العلم مناضلاً وإنتهى ذيلياً لقوى النظام المناهضة للحرية والتعددية.
وقد حاولت الفلسفة العربية أن تقرأ الإشكالية ذاتها بأدوات أكثر تطوراً وبغني فكري أوسع، لكن الفلسفة هي الأخرى ظلت مثالية دينية لا تقرأ سببيات الحياة الاجتماعية والتاريخ لكنها قاربت بعض ذلك لدى ابن رشد وابن خلدون. الأشكال الفكرية من فقه وعلم كلام وفلسفة عبرت عن تكريس الوعي للمحافظة الاجتماعية والانقسامات المذهبية وضعف تنويره وتثويره.
هذا كان مظهراً لعجز الفئات الوسطى والشعبية عن التغيير من داخل المدن، والتغيير كان يحدث دائماً عبر القبائل المسلحة حتى العصر الحديث التي تركز القوة بين يديها، ولهذا ظهرت الثورة العباسية بقيادة الأشراف وقد تغلغلت وسط الجمهور الخرساني الشعبي، وهو الأمر الذي مثّل لحظة تطور مفصلية وأحدث الفترة التحولية الثانية في حياة المسلمين. ثم جاءت التغييرات التفكيكية عبر القبائل المسلحة ولكن للوراء والمؤدية لتدهور أشكال الوعي حتى إستلمت الجيوش الوطنية عمليات التغيير الحديثة في ظل إشكاليات مماثلة وإنجازات متذبذبة أو متدهورة.
5 ــالعربُولحظةٌجديدةٌفيالتاريخ
تخلف العربُ كثيراً عن اللحاق بركبِ التاريخ العالمي، وهذا بسبب إنهم قبائلٌ بدويةٌ إنساحتْ في عروق الأرض وتغلغلتْ في تضاريس الشعوب القديمة، والأديان السابقة، ولم يكن لها تراث غزير متجذر، وهوية صلبة سوى الإسلام واللغة والثقافة. وإذا كان الأولُ مفتوحاً لكل الأمم فإن الثاني والثالث مقصور على العرب.
تشتتُ العربِ في التاريخ والجغرافيا لم يجعلهم قادرين على اللحاق بتدافع الأمم الحديثة على صدارة المسرح العالمي، التي تتطلبُ مركزيةً في التاريخ والجغرافيا، والتي تتحول إلى سوقٍٍ جبارة متحدة، وقوى عاملة بشرية متطورة متعاونة، فالعرب يعيشون في تفكك على مستوى الأنظمة، والأنظمةُ نفسُها مفككة في بُنى إنتاجها، لكن الضغط المتواصل للعولمة وتشكل سوق عالمية كبرى متداخلة بحدة، يجبرُ الأممَ على التوحد، وقد سارعت أممٌ عديدةٌ بتفكيك أشكالها السياسية الفضفاضة القديمة، ومركزةَ أسلوب إنتاجها، وفجرت ثورات إقتصادية داخلها.
الكثيرون لا يعرفون العاصفة الاقتصادية السياسية التي تهدر، وعجزُ العربِ عن إستيعابِ الثورة الاقتصادية التقنية السياسية الديمقراطية، يصيرُ لهم مثل الكوارث القدرية وحروب داحس والغبراء، ويظهر لنا أناس يتكلمون عن الانفجارات الاجتماعية بأسباب واهية كثيرة فهم لا يعرفون التاريخ المعاصر وأسبابه الغائرة.
إن كافة أشكال الهدر الاقتصادية مثل الفساد والبذخ تتحول إلى كوارث على الشعوب العربية، لأنها بحاجة لكل قيمة نقدية من أجل تفجير الثورة الاقتصادية التقنية العلمية التي هي بأمس الحاجة إليها، وهذا الهدر يحس به العمالُ لأنهم لا يرون ما ينتجونه يتوجه لتغيير حياة المنتجين والإنتاج، وهما أساس توحيد العرب ونقلهم للحداثة.
وتداخلت أخطار العولمة وتحدياتها مع فشل التجمعات السياسية الفوقية العربية، وعدم إنجازها المقاربة بين الشعوب العربية وتطوير أوضاعها وتوحيد أسواقها ومواقفها، فأحستْ أمةٌ كاملة بالهوان والضياع، في عصر الأمم الكبرى، ولا عجب أن تقوم شعوبٌ صغيرةٌ بالثورة والتوحد والنضال من أجل أوضاع عمالها وجمهورها الفقير، في وقت توجهت فيه القوى الفوقية للاهتمام بمصالحها المغرقة في الذاتية.
بدون نضال العمال من أجل تطور أوضاعهم، أي تطور مصانعهم ومعرفتهم وإنتاجهم وأسرهم وطبقاتهم ووطنهم، لا يكون ثمة صعود للعرب على مسرح التاريخ المعاصر، الذي هو تاريخ الإنتاج والآلات والأسواق الكبيرة المشتركة وصعود العيش المشترك الأفضل.
كذلك لا يمكن لهذا الصعود أن يتم بدون تطور الملكيات الصناعية الخاصة كفرع محوري للاقتصاد وديمقراطية الرأسماليات الحكومية وبدون تغلغل ثروة المعرفة الحديثة في الجماعات والأفراد وتنامي الصلات الاقتصادية المتطورة بين الدول العربية.
إن العربَ يشكلون صلات تشبه الصلات التي كونتها الشعوب الأوربية في بدء عصر الثورة الصناعية وتشكل الأمم الأوربية وسيادة الحداثة، من حيث تأسيس القواعد الديمقراطية والصناعية، وتوحد كل شعب وتلاقي الصلات القومية بين أمة مفككة تصعد لتكون قارة إنتاجية.
ولهذا فإن نضالات الجماهير العربية الآن من أجلِ أجورِها وأوضاعها وتطور بلدانها الديمقراطي ليست موضةً، أو عمليات فوضوية، بل هي الوحدة القاعدية والتغيير من أسفل، والتوحيد على أسس شعبية عقلانية.
هي عملياتٌ موضوعيةٌ لا تصدر من قرارات وحرائق في البناء والأجساد، بل هي حاجات تتشكل في أعماق الشعوب، وظروفها، ولا تصدرُ من لجنة مركزية أو من قائد فذ، وهي للتخلص من طفيليات معرقلة لتلك الأهداف.
الغربُ المحافظُ المهيمن وليس الغرب الديمقراطي العمالي، لا يريدُ للأمةِ العربية التوحدَ، وأن تتصاعدَ قوى قواعدها لتطوير رأسماليات منتجة ديمقراطية تبنى أمةً كبيرةً ذاتٍ أسواق هائلة وقوى إنتاجية عظيمة، فتنضمُ للأممِ الروسيةِ واليابانية والصينية والهندية والجنوب شرق آسيوية، التي شكلت قواها المتحدة، وحينئذٍ يتواصل تقلص أسواق الغرب، وتزداد الضربات للأمة العربية لأنها تملك موارد نفطية كبيرة، فتُضربُ من الصهيونية ومن بعض القوى التي يُفترض إنها إسلامية وعربية.
لكن العديد من مراكز الأمة العربية ما زالت راقدة، لم تتشكل فيها السببيات التي تشكلت في تونس من حيث عدم الهيمنة الكلية للإدارة الحكومية الاقتصادية السياسية، ووجود قوى عمالية وبورجوازية خاصة حرة واسعة، وثقافة علمانية إسلامية ديمقراطية، لكن ذلك يحدث وبصور مختلفة والمخاطر التي تعيق ذلك هي الفوضوية والمغالاة الدينية والحداثية والعنفية.
6 ــتاريخلليبراليةالعربية
تعبر الليبرالية عن مسارات الفئات الوسطى العربية، وقد اتخذت في بدء تشكلها الحديث بعد الانفصال عن الدولة العثمانية، مساراً قوياً يتجاوز التوجهات المذهبية، بسبب العوامل الموضوعية المتجسدة في نمو كبير للحياة التجارية والصناعية الخاصة، التي لم يفرض عليها الاستعمار قيوداً مشددة، فجاء ذلك بخلاف أزمنة الدولة العثمانية واقتصادها المغلق.
ومن هنا تشكل قوسٌ كبير من الانجازات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وسواء ظهر ذلك في ظهور ونمو الصحافة العربية أم في نشوء الآداب والفنون الحديثة أم في تطور العلاقات الأسرية في المدن خاصة، ثم تجسد ذلك عبر ظهور الأحزاب والبرلمانات ونشوء معارك الاستقلال..
وقد تقلص هذا القوس الليبرالي بفعل تصاعد القوى الشمولية، فالقوى السائدة من استعمار وحكومات ورجال دين سائدين، عارضوا هذا النمو المتزايد للحريات، كلٌ من موقعه، فازدادت القيود على الصحافة وتم تفريغ البرلمانات من محتواها الديمقراطي المستقل، ومنعت الأحزاب الثورية وعُرقلت الأحزاب الديمقراطية للأغنياء، وتم تصعيد القوى المذهبية والنفخ في وجودها العضوي المتجذر.
وتضافر ذلك مع عجز قوى الإنتاج الليبرالي من التطور، فإمكانياتها للتحول إلى الصناعة الثقيلة كانت محدودة، وتركزت قدراتها الاقتصادية على الصناعات الخفيفة الاستهلاكية المعتمدة على المواد الخام الرخيصة كالقطن والتمور واللؤلؤ وعلى التجارة والريع العقاري الخ..
إن هذه الجذور الاقتصادية غير المعتمدة على الرأسمال الصناعي الكبير والواسع، قد جعلتها تتداخل مع القوى الإقطاعية القوية والكبيرة، فملاك الأراضي والحكام ومؤسسات رجال الدين، كانوا يهيمنون على الفضاء الاجتماعي، ويكرسون نظام الدولة المسيطرة على الاقتصاد، والتي كانت تشجع مختلف أنواع الفكر الشمولي، بحيث أن الأحزاب التي كانت واعدة بإنتاج الليبرالية تراجعت وتصحرت من النضال الديمقراطي الحر!
كان دأب الدول في تلك المرحلة هو خنق التصاعد الليبرالي الديمقراطي، خاصة في مجال الوعي السياسي والفلسفة والدين، فغدت الدول والأحزاب الدينية تعيد المجتمعات للماضي، منعاً للنمو إلى الإمام ورؤية الغرب كمنوذج صالح للتطبيق عربياً وإسلامياً، بحيث يمثل ذلك سحباً لكل امتيازاتها.
وهكذا فإن رصاصة القضاء على الليبرالية جاءت من أعماق هذه الدول، من الجيوش التي تولت الحكم، وكان غريباً أن تقوم المؤسسة الحامية للنظام بتحطيمه، ولكن لكون الأنظمة لم تترك سبلاً حقيقية للتغيير، ولتطوير قوى الإنتاج المتوقفة، ولتوسيع الحريات، فإن الأزمة استفحلت.
فجاءت الأنظمة العسكرية لتضرب الجانبين الحكومي الشمولي السابق، والليبراليات العربية الجنينية. لكن المتضرر الأكبر كان في ذلك هو الليبرالية العربية، فحكومات الجيوش وحكومات الدول العربية المستقلة الأخرى، كرست الشمولية بمختلف صورها، وجاءت الحركات المذهبية الشمولية كتتويج لهذا التراجع، فصار كل ما هو عام اقتصادي أو سياسي أو فكري هو الميهمن على العقول العربية بمختلف أنواعها.
والآن بعد سنوات طويلة من الحرب ضد الليبرالية والديمقراطية، حدثت انتكاسة مضادة، ولكن هذه المرة باتجاه الليبرالية!
لا شك أن الحركات الشمولية الدينية والقومية واليسارية، ستظل هي المنتجة الأكبر لليبرالية، فهي الحاضنة للفئات الوسطى، وقد جربت هذه الحركات الأنظمة الاستبدادية بمختلف أنواعها فكانت نتائجها خطيرة عليها.
وثمة علاقات متباينة بين هذه الحركات والتجارة والصناعة الخاصة، فهي ذات علاقات بالدول أكثر من هذا الاقتصاد، فأغلب منتجيها من الموظفين والمثقفين، ومع نمو المداخيل فيها، وتوسع هذه الفئات الوسطى، فإن أفكار الشمولية القديمة سوف تنحسر، وتدرك أهمية تكون برجوازية تحديثية ذات دور سياسي كبير، في حين ستوجه جانب كبير منها كذلك لليسار، ومساعدة الطبقات العاملة على تلمس طريق النضال المستقل.
وهنا سوف تنشأ ليبرالية إسلامية، وليبرالية قومية وليبرالية يسارية، وكل من هذه الأجنحة المتعددة للبرجوازية المنتظرة، في مرحلة جدية من النمو، ستعمل على العودة بالأحكام الدينية أو النظرات القومية و(اليسارية) على أن تكون تعبيراً عن حراك هذه الفئات نحو الثروة والسلطة.
وبطبيعة الحال ستكون القوى التقليدية في السلطات هي الأقوى، وسيتشكل صراع بينها وبين هذه القوى المتنامية، والتي لحد الآن لا تعرف علاقاتها المشتركة ومنحى التطور الذي يقارب بينها، وهي أمور تعتمد على اتجاهات التطور الاقتصادي في كل بلد، والصراع بين الملكيات العامة والخاصة لوسائل الإنتاج.
7 ــإخفاقُالليبراليةِالعربيةِالأولى
كان ظهورُ الفئاتِ الوسطى في بعض الدول العربية والإسلامية واعداً ومؤثراً خاصة بين فترتي الحربين العالميتين من القرن العشرين، وكان النتاج الفكري الثقافي مهماً ومتجهاً لنقد الثقافة العربية الدينية التقليدية بقوة، وقد ظهرت في هذا الزمن النتاجات الأدبية الرائدة، وصارت مقاربة الغرب الساكن الشمالي لحوض البحر الأبيض المتوسط مسألة وقت، يقول طه حسين:
(التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهبها في الحكم والادارة والتشريع. التزمنا هذا كله أمام أوربا. وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأننا نسير سيرة الأوربيين في الحكم والإدارة واالتشريع؟)، مستقبل الثقافة في مصر.
لكن هذا الحماس من طه حسين توارى وعاد مثل العديد من الباحثين للكتابة عن الماضي العربي الإسلامي، وساهم كذلك في نقد ظاهرات التخلف خاصة في الريف لكن التحليل الواسع المعمق للبنى الغربية والعربية لا نعثر عليه عنده. ويتناقض طه حسين مع محمد حسين هيكل في موقفه تماماً، فقد بدأ طه حسين مؤيداً لأحزاب الأقلية ذات التوجه المدعي للحرية، ثم أبتعد عنها وأنضم للوفد، جامعاً بين تأييد الحريات وتغيير حياة الأغلبية الشعبية للأفضل.
الروائي والباحث محمد حسين هيكل يقول:
(وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذها جمعياًُ هدى ونبراساً، لكنني أدركت بعد لاي إنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه).
ثمة رؤية تجريدية لثقافة الغرب، ولدوله، وعدم قراءة تاريخية إجتماعية له، فلم يكن بإمكان كل الدول الغربية أن تكون إستعمارية، وقد تمكن بعضُ الدول القليلة من الاستعمار وجعلها ذلك مختلفة السيرورة عن غيرها، وخلق من حكوماتها قوى مهيمنة على الدول المستعَّمرة، ولهذا فإن الحكومات البريطانية قاومت التحرر المصري وجمدت الدستور، وصعّدت الحكومات الدكتاتورية وناوأت حزب الوفد والقوى المناضلة.
في حين إن الثقافة البريطانية فيها جوانب إنسانية مضيئة، وثمة ثقافة رديئة سوداء تُروجُ في البلدان النامية بصور أسرع وتنشر الإدمان والجريمة والروح الاستهلاكية والتبعية، وهذا التنوع في الوضع السياسي والمستوى الثقافي لا يقرأه محمد حسين هيكل فيخلق تعميماً، كما أن النبت الديمقراطي النهضوي لا يتشكل من فراغ ويحتاج لأسس مادية خاصة من قبل ملاك الأرض والصناعة الكبار، وقوى الأحزاب، في تعميق الإصلاحات الاقتصادية، وهو ما لم تفعله نخبُ المُلاك، وبهذا فإن الشعب العادي الذي يعيش في ثقافته التقليدية لا يرى نوراً قادماً من الغرب وتتردى حياته المعيشية ويمضي للثقافة الحادة والغيبية والمغامرات السياسية.
إن محمد حسين هيكل هو عضو في حزب السعديين اليميني المنشق عن حزب الوفد والذي كرس حكومات الأقلية المناوئة للديمقراطية. ولهذا فإن هيكل لم ينتج كتباً تحليلية نقدية للعصرين الراهن والعربي السابق.
لقد تمت العودة للعصر الإسلامي بشكل عام تقديسي عند العديد من المفكرين والمثقفين والعامة، فلم يفرز عصرُ التأسيس التحولي النهضوي الإسلامي إستمراريةً إجتماعية سياسية وهو الذي لم يعش نظاماً إستبدادياً الذي صنعته وكرسته أسرُ الأشراف الاستغلالية فيما بعد، وهي التي كونت النظام الديني الاجتماعي الذي ورثه المسلمون، والتي قامت فيه الفئات الوسطى بمحاولات لمراكمة عناصر المعرفة والنضال دون أن تستطيع تغييره بسبب هامشيتها وطرحها المتناقض الذيلي.
ولم تع الفئاتُ الوسطى التحديثية العربية شروطَ النهضة التحويلية المفقودة في التاريخ العربي الإسلامي، ولم تدرس شروط النهضة الموجودة في التاريخ الغربي الحديث، فليست هي الجمل الشعرية التي يرددها محمد حسين هيكل:(وكم في ماضينا من أرواح قادرة على أن تبعث الحضارة الإسلامية خلقاً جديداً) بل هي التحرر الوطني والصناعة والعلوم والإصلاح الزراعي والثقافة العقلانية النقدية.
وكانت أشكال ثقافية ليبرالية متقدمة في هذا الزمن عبر نقل نموذج الغرب العلمي لكن هذا النقل لا يفيد كثيراً بدون درس وتحليل البُنى العربية التاريخية ونقدها ورؤية كيفية خلق التغييرات التحويلية فيها، فنشر النظريات العلمية أمر مهم ولكن العمل التحويلي للبُنية المتخلفة وتغيير تناقضاتها، وهو أمر يتشابك فيه العمل السياسي والبحث النظري، هو المسار الجوهري.
إن سيطرة الاستيراد الفكري وقوالبه التسريعية على المتنورين والأحزاب قاد إلى تصاعد الشموليات التي أنساقت وراءها الجماهير، ولم تعمل الليبرالية على التنامي التدريجي مع العمل السياسي الإصلاحي والبحث الفكري ومقاومة الشموليات والتسطيح المستورد على مستوى نقل التراث وعلى مستوى جلب الموديلات السياسية من الغرب والشرق.
8 ــمنظرالدكتاتوريةالعربية
لا بد أن يكون في البداية مغروراً متعالياً، محدود الثقافة، يستند لشعارات ميكانيكية سطحية وأن يكون ذا قدرة على الكتابة متوسطة.
ووحدها الصدف التاريخية التي تتيح له فرصة الصعود قرب دكتاتور ذي تطلعات كبيرة في لحظة تاريخية مليئة بالصراعات.
ومنظر الدكتاتورية لا يحفر معرفة، ولا يصدم ثقافة تقليدية، بل يعيش على هذه الثقافة التقليدية المُدمِّرة للأمة، لكنه ينفخُ فيها ويصورها بغير حقيقتها، من أجل أن يكون قرب الدكتاتور السياسي.
النقص في الزعيم السايسي يكمله المنظر الإيديولوجي.
المفكر الحقيقي لا يعيش على المستنقعات السياسية ولا المجاري ولا يستغل انتفاخ الدكتاتور ونقص معرفته، لكن الكاتب الزائف يجد من عقدة نقصه، ومن تفاهة منبته، ومن جلافة إخلاقه، خصالاً تعينه على التسلق.
أي دكتاتور عربي يصعد يعرقل عادة مشروعات الديمقراطية الحقيقية المتصاعدة في المجتمع، ويطرح دعاو شتى للخروج عن الديمقراطية والحداثة، وأن تكون السلطات بين يديه.
وهو لا يستطيع أن يبرر ذلك ويقنع الناس، بل يلجأ للمثقف الاحتيالي، والذي يمتلك بعض المهارات في الكتابة.
هكذا كان صعود الحركات والحكومات الشمولية العربية بحاجة لأقلام تسوقها، ولابد أن يكون ذلك عبر دغدغة مشاعر العامة، باستخدام أساليب بيانية متوسطة عموماً، ليست بها ذرى من المعرفة والأدب والحكمة، وليست مجارية لكنوز الثقافة الإنسانية، بل ترتكز على التحليلات السطحية، والقضايا الحادة التي تمر بها الأمة كالاستعمار والسيطرة الصهيونية ومقارنات الفقر والغنى، ولا يمكن الخروج منها لتحليلات معمقة للبنى الاقتصادية للغرب أو للحياة العربية ماضياً وحاضراً، وقراءة تاريخ العالم والحركات، بل يتم الاعتماد على الإنشائية العاطفية مثل:
الاستعمار يدمرنا ويسحق بلداننا والصهيونية الغاصبة العدوانية تغزو ديارنا والحكومات العربية تساعدها الخ.. ومثل هذه العبارات التي لم تتغير خلال عقود.
و في هذا الوعي ليس ثمة فرق بين الاستعمار أيام العدوان الثلاثي وسياسة الحكومات الغربية هذه الأيام، ولا فرق في الحكومات العربية بين تلك الأيام الخمسينية وهذه الأيام، فالجوهر العربي الذي هو خارج التاريخ عبر تصوره يتعرض للتدنيس، ويحتاج لدكتاتور يرفعه من الحضيص إلى ذروة المجد.
الكتبة الصغار يظلون في المرجعيات الصغيرة لكن المنظر الذي له بعض الموهبة يحول ذلك إلى فلسفة فيقول أن الزعيم لا يحتاج إلى دستور يقيده، فهو صانع الثورة، إنه فوق القانون أو القانون الأساسي أو الدستور وهي كلها مسميات واحدة فيصبح هو مصدر السلطات، مثل ما يدور الآن حول الولي الفقيه لا بد أن تعلو إرادته على مؤسسات المجتمع.
يقوم المنظر بتبرير الدكتاتورية على المستوى السياسي العام، ويقوم الكتبة بتنظيرها على مستوى الأحداث الصغيرة والمقالات اليومية، وبخلاف الكتبة ينهض المفكر لتحليل القضايا الكبرى، وصراع الأمم والتصدي للهيمنات، فيرى الأمة العربية ماضياً وحاضراً بنفس اللون، ويرى في الزعيم فرداً اعتلى فوق تضاريس التاريخ وتوحد بالرسالات وذاب عنصره في أهداف الأمة، وإذا كان الزعيم ينتمي لجماعة عسكرية، أو جماعة مدنية أو عصبة عشائرية، وضعَ هذه الجماعات الصغيرة في لحظة مقدسة من تاريخ الأمة، فهي قد تلاقت مع القيم والرسالات الربانية، أو احتوت على عناصر فريدة قلما تجتمع في أية لحظة من لحظات التاريخ، أو أنها انفجرت بعطائها في تجربة خالدة من تجارب الجماعة الإسلامية، أو أنها احتوت على الجوهر العمالي المطلق، أو كانت تتويجاً لولادات طاهرة وغير هذا من السفاسف.
غالباً ما يلتقي غرور المنظر بغرور القائد، إن تصوير الزعيم السياسي كرجل خارق للقانون البشري، يقصد به إنه خارق للدستور أو مواد العقوبات وغيرها من الأشياء المفهومة الواقعية، ولهذا فإن المنظر ذا الأصل المتواضع يريد أن يخرق قانون التطور الاجتماعي وقانون الرواتب والعلاوات.
تجري خلق إستثنائيات للبطل المعبود ولخارقي الدساتير والقوانين، مثلما تكون الأمة العربية أو الأمم الإسلامية في رأيهم خارجة عن القوانين التاريخية والسياسية، فلا الحدود ولا الحروب التي يشنها الدكتاتور ولا السياسات العقيمة ولا التبذير ولا الجمود، بقادرة على إقناع المفكر والكتبة على أن الزعيم المطلق منقذ الأمة هي خرافة من صنعهم، وأن الزعيم المنقذ كان دائماً في نظام ديمقراطي شعبي، هو الذي يكرس زعامته وحبه بين الناس.
ودائماً الانتصارات تأتي من وجود تلك الديمقراطية وثمة فرق بين حروب وطنية خاضها النظام دفاعاً عن شعبه وشاركته الجماهير فيها وبين حروب الغزو والتدخلات في البلدان الأخرى ومحاولة تشكيل إمبراطورية لاتفشل فقط بل تجلب الخراب لتجربة النظام.
وكما ينتزع المنظر البطل المعبود من تاريخيته.
9 ــالثوراتُالعربيةالإسلاميةإلىالوراء
بخلاف الثورات الأوربية الحديثة فإن الثورات العربية الإسلامية تعودُ للوراء دائماً. لقد كان هذا حال التحولات الأوربية نفسها، في العصر الوسيط، خاصة حين استولت القبائلُ الجرمانيةُ على روما لتبدأ هذا العصر الديني المتخلف.
وبعدها وفي العصر الحديث راحتْ المدنُ الغربيةُ تصيغُ التحولات السياسية بشكل عام، نحو الحداثة.
لكن العربَ والمسلمين لم تُتحْ لهم سيادة المدن إلا في عصرهم الديني التحديثي السابق، فمكة والمدينة ودمشق وبغداد وقرطبة قادتْ التحولات النهضوية، وعجزتْ البوادي في قممِ النهضةِ أن تقتحمَ هذه المدنَ لتطبعها بطابعها الأقل تطوراً. وحين فعلتْ ذلك بعد أن تدهورتْ العواصمُ وقوى النهضة فيها، حلَّ بالعربِ والمسلمين التخلفُ، وواصلت البوادي والأرياف التأثيرَ في المدن بفضل ذلك وحتى يومنا هذا.
ثورةُ الضباط الأحرار في مصر والثورة الدينية في إيران نموذجان لفعلِ الأريافِ وقيامها بإعادةِ المدن للوراء. ولكن ليس للوراء الكلي التام بل في جوانب معينة كبيرة ومهمة.
كانت مقاييسُ الثورة المصرية الناصرية أقلُ حداثةً من العهد الملكي الذي كان تطوراً طويلاً لتراكم الليبرالية وسط نظام ملكي إقطاعي، فتراكمت إنجازاتُ الحداثة الغربية في مصر عبر قرن، من تشكل الصحافة الحرة والأدب والبرلمان وحرية النساء، فجاءتْ الثورةُ لتعيدَ الأمورَ إلى الوراء في العديدِ من هذه النواحي، فتفاقمتْ هينمةُ الذكورة وغابت حرية الصحافة وتحول البرلمان إلى أداة للعسكر، فكان الضباط الأحرار ينقلون تقاليد الريف إلى المدينة المسيطرة على الشعب.
لكن هذا النقلَ للمحافظةِ القرويةِ ولفرضِها على حياةِ المدن المصرية المتقدمة، كان يتشكلُ في موقفٍ سياسي معادٍ للسيطرة الاستعمارية الغربية ومن أجل تحرر الشعب، وبشكلٍ متوترٍ عنيف، يعكس قلق القيادة وفوقيتها وعدم تجذرها في هذا النضال السياسي نظراً لروحها العسكرية الإنضباطية البيروقراطية، وإستخدامها أدوات التحولات لنشر إيديولوجية الحياة القروية، حيث الكل في واحد، وحيث الأب الراعي للقطيع الشعبي، وهي أمورٌ تعكس الخوف من التحولات الرأسمالية الديمقراطية المُفكِّكة لهذه الأبوية والقطيعية، وتأتي (الإشتراكية) إستكمالاً لهذه الهيمنة الأبوية والعسكرية والبيروقراطية.
تتشكلُ إذن رأسماليةٌ حكوميةٌ بقيمٍ ريفية محافظة، وتُدخلُ كذلك أفكاراً ثورية وعصرية، جزئية، في ظل هذه المنظومة.
ولهذا نرى ثورة الخميني مثالاً آخر لهذا النموذج الريفي المهيمن على المدن، وكيف أقام المحافظون القرويون هيمنةً على المدينة الحديثة، وإرجعوها للوراءِ عقوداً، ولكن نظام الشاه كان مغايراً للنظام الملكي المصري التحديثي، الليبرالي، ورغم ذلك كان متفوقاً على النظام الديني القروي الذي أقامهُ المذهبيون السياسيون الشيعة في إيران، نظراً لكونهم أقل تطوراً وحداثة من الضباط المصريين، كما أنهم أنشأوا نظاماً دكتاتورياً واسعاً تسندهُ منظماتٌ جماهيرية مغسولة الدماغ، مما جعل دكتاتورية العسكر في إيران أقل تطويراً للمنطقة، وإلى قيامها بإرجاعها لحروب طائفية وإنقسامات للمسلمين شديدة التخلف والحماقة.
لقد كان الارتدادُ يحملُ بصمةَ العداء للاستعمار والملكية المطلقة، وشعارات تحرير الشعب وإستقلاله، وقد تحقق شيءٌ من ذلك، وبُنيت مؤسساتٌ كبيرة للرأسمالية الحكومية بتوجه عسكري غالب، ودُعمت حياة جمهور كبير من الفقراء، ومن خلال إرتداد ماضوي، معادٍ لأشكال التحديث، وشكلهُ رجالُ دينٍ أنقطعَ أغلبُهم عن العصر.
ونلاحظ نفس القلق والارتباك للقيادة السياسية الإيرانية في بداية الثورة، حيث لم تتوافر لديها أي تقاليد نضالية سياسية شعبية، ومن ذلك خرق القانون الدولي والأعتداء على السفارات، وسيادة الأرهاب والتصفيات الدموية.
هكذا جلبتْ قوى الإقطاع في الريف والجماعات البرجوازية الصغيرة من الضباط القرويين، علاقاتٍ متخلفةً إلى المدن، ولم تستوعبْ علاقات التمدن، ولا الإرثَ الليبرالي الديمقراطي، وفرضتْ مستواها السياسي المحدود، لكن المدن بعد عقود لم تعد قادرة على التحمل فبحثت عن وسائل التغيير حسب مستوى كل بلد وقدراته الاجتماعية.
10 ــالعربوالقومياتالأخرى
نحن نعاني من أبنية إجتماعية تشكلت لأسبابٍ مركبة وإستمرت لقرون، وتغييرها يحتاج لوقت ولإنتاج وعي ديمقراطي عربي، وقومي متعدد، وإنساني.
القبائلُ العربيةُ التي أسستْ البلدانَ العربية المختلفة وساهمتْ في تشكيل تاريخ المسلمين وهم القوميات الأخرى، توحدتْ وتصارعتْ وتمازجت مع الشعوب القديمة.
الشكلُ الإمبراطوري ذاته الموروث كان لا بد أن يتكون من خلال أدوات التحكم المختلفة: الجيوش، والمذهب، والخلافة. وهي عناصرٌ تشكلُ طبقات صغيرة فوقية من الصين حتى أفريقيا.
حين نرى ألوانَ الخريطة الأرضية نجد بلادَ المسلمين باللون الأصفر الغالب، وهو لون الصحارى التي إنبثقوا منها وتشكلت علاقاتُهم الأبويةُ الأساسيةُ المضطردة فيها.
فيما أن اللونَ الأخضرَ قليلٌ وهو لونُ المناطق الزراعية، والتي مثلتْ ألواناً أخرى لقوميات وأديان ومذاهب مختلفة ومتداخلة مع اللون الأساسي.
في كل تاريخهم لم تتشكل علاقات ديمقراطية بين الحكام والمحكومين، بين الطبقات السائدة والمسودة، بين القومية المسيطرة والقوميات المُسيَّطر عليها، وبين جنس الذكور الغالب وجنس النساء المغلوب على أمره.
جملةٌ من العلاقات الاجتماعية تحتاج إلى تحويل، وكلها تتداخل وتتأزم وتتفجر، وهي تتكون في ظل القوميات العربية والتركية والكردية والفارسية والأفريقية والأمازيغ وغيرها وهي في حالات تبعية للقوى المهيمنة عالمياً كذلك.
كما تتفجر في ذات الوقت قضايا الأديان والمذاهب نظراً لأنها كغيرها لم تُحل خلال القرون السابقة، وهي أيضاً تدخلُ في صراعاتِ القوميات والهيمنات الغربية والشرقية المختلفة.
جملة من التداخلات الصراعية والقوى السياسية تتخذ مواقفها بأشكال متعددة وغالبيتها تجري نحو مصالح جماعاتها السائدة الراهنة، والحلول الجذرية مؤجلة.
لكن لا بد من سل مختلف الخيوط الملونة المتداخلة من تشابكها، فكلُ بنية عربية لها تاريخها الخاص ضمن ذلك العام السابق ذكره، وكل بُنية لها صراعاتها وسماتها وقومياتها المتداخلة ونمو طوائفها الخاص، فلا بد من حل مشكلات كل بنية حسب تطورها الديمقراطي العام، وهو أمر تقوم به القوى الاجتماعية والسياسية في كل بلد.
إن فك إرتباط القوميات والأديان والطبقات بأجهزة الدول المطلقة هو الحل العام الذي ينبغي أن يجري حسب التطور الديمقراطي لكل بلد.
وليس من المعقول أن تضطهد ديانة مثل الديانة المسيحية في مصر كما جرى خلال قرون سابقة، وليسن من المعقول أن تتغلغل الثورة الديمقراطية الراهنة في مصر لمثل هذه الجذور التاريخية بالفهم والتصحيح، دون أن تتحول مثل هذه الصراعات الدينية إلى عرقلة للتطور السياسي للمواطنين الذين يجب أن يكونوا مواطنين أمام القانون وليس مسلمين أو مسيحيين.
إن وضع الأمازيغ في شمال أفريقيا حيث هم مواطنون من الدرجة الثانية هو مرفوض كذلك، وهنا تلعب الجذور القومية لا الدينية كأسباب للتمايز الاجتماعي بين المواطنين.
كل العلاقات الدينية والقومية يسودها هذا، وهي من الممكن أن تُختطفَ وتُجير ليس لصالح تطورها الديمقراطي، عبر تفكيك الدول الوطنية ذات المذاهب الإسلامية المتعددة والدول القومية ذات القوميات العربية وغير العربية المختلفة.
إن الجماعات السائدة أغلبها غير ديمقراطي ويريد إستغلال أية علاقة متجذرة قديمة أو تحولات راهنة من أجل الفوائد السياسية السريعة.
لكن أية تحولات تمزيقية للخرائط السياسية للدول وراءها كوارث وحروب، والمسار الحقيقي هو نشر ثقافة ديمقراطية بين الجماعات السياسية والجمهور، ثقافة ديمقراطية علمانية إنسانية توجه أنظار الشعوب نحو مصالحها المشتركة وبرامج حياتها الاقتصادية الاجتماعية، بدلاً من النفخ وتسعير الخلافات القومية والمذهبية والدينية.
هناك جماعات كثيرة تستفيد من جذور الماضي ومشكلاته من أجل حراكها السياسي الإنتهازي، ولم تفعل على مدى سنوات لنشر ثقافة ديمقراطية وطنية، وتعمل على إصلاح أحوال الجماهير الشعبية التي عانت وتعاني قضايا الفقر والبطالة والتهميش من قبل المراكز، ولكن التعجيل وسلق التطور والركوب على أكتاف الجمهور المعوز لن ينتج لهذه القوى أي سلام وتقدم قادمين.
مسائلُ الأديانِ والمذاهب وما يرتبطُ بها من أحوال شخصية ومسائل عبادة يجب أن تُبعد عن الحياة السياسية، وخلق الحاجز بينهما مسألة تحتاج لسنوات طويلة، تشتغل فيها قوانين ودراسات ونشر وعي دائب وبعيد المدى.
إن التسرع في تفكيك الدول والخرائط السياسية وخلق الأقاليم المنفصلة، هو رد فعل لعصر سابق من الشموليات، والبديل هو نشؤ الأمم الحرة المتعاونة، بأن تقبل كل أمة بحرية الأمة الأخرى، مثلما هي منظومات الدول الديمقراطية الحديثة حيث ينشأ تعاون خلاق، بدلاً من قيام كل شعب بمنع تطور لشعب آخر، ويتم كتم أمم تتوق للحرية.
وهذا أمر لا يحدث إلا في أنظمة التعصب والمغامرات والتحكم القسري بالشعوب.
لكن هذه الصورة المثالية تحتاج لنضالات طويلة ومعرفة واسعة لدى جماهير الشعوب في المنطقة يمنع جنون الأنزلاق للحروب والصراعات.
11 ــالعربُأمةٌغيرُمركزية
عرفتْ القبائلُ العربيةُ نظامَ الحكمِ المركزي منذ بدء الإسلام وفيه عرفت الشمولية السياسية المركزية وكذلك تنامتْ عملياتُ التنوعِ الاجتماعية والفكرية والثقافية، وازدهرتْ مع توسع الفئات الوسطى وقوى الإنتاج البشرية، وفي ذلك الحين تجمعتْ أممٌ عديدةٌ وكان للعرب كقبائل هيمنة على المركز ثم على بعض الدول المستقلة.
إن عمليةَ المركزيةَ الشديدة إستمرتْ عدة قرون لكن لم تستطعْ أن تصهرَ القوى الاجتماعية ذاتِ الأصول القومية المختلفة، بسبب أسلوب الإنتاج الإقطاعي الذي وجه الخراجَ للاستهلاكِ البذخي الواسع لدولةِ الخلافة وغيّبَ الخيرات عن المنتجين.
فعرف العربُ بعد ذلك التفككَ والدولَ المختلفة وفي كل دولةٍ كانت هيمنة، لكن العربَ لم يعرفوا الدولة المركزية، مثلهم مثل بعض الشعوب كالهنود، الذين أتاح لهم عدم وجود مركز مهيمن حاد على مر التاريخ من القفزِ لنهضةٍ هائلة بدون تضحياتٍ جسام وحروب.
لهذا يمكن أن نرجعَ تكرارية وجمود التاريخ المصري القديم بوجود المركز المستمر، والذي كانت تعصفُ به ثورةٌ فيتغير من دولةٍ قديمة لدولةٍ وسطى وإلى دولة حديثة، لكن مشابهة النسخ الشمولية لم تنتجْ منه حضارة مستمرة.
كان تفككُ العربِ وظهورُ دولٍ عديدة بدا كلعنة وأنهم أمة لم تحقق المركزية والوحدة القومية، في حين أن النماذجَ المركزيةَ الموحَّدة كالألمان والروس والصينيين واليابانيين أنتجت دولاً كبرى ناهضة بقوة.
لكن من جهة أخرى نرى الثمن الباهض الذي دفعتهُ هذه الشعوبُ في عملياتِ الوحدةِ خاصةً في تضحيات الثورة والعنف والقهر في أثناء التوحيد والحروب، كما أن نجد أن التواريخ الشمولية فيها صهرتْ السكانَ كقوالب حديدية، وأن الهيئات البوليسية والعسكرية والبيروقراطية التي وقفت فوق روؤسها تبلغ الملايين، وأن السكان تحولوا لنمط، ولقالب نفعي كإستنساخٍ لآلة.
وحين تقرأُ الفكرَ والأدب الألمانيين بعد التصنيع لا تشعر بقوى التنوع النفسي المتوهج، والذوات العميقة، وإنهارت الثقافةُ الإنسانيةُ الرفيعة للروس بعد القبضة الحديدية الطويلة.
الثورات العربية العظيمة لم تُعرف من قبل بشرياً بهذا الزخم، ولم نجد هذه الملاحم الهادرة السلمية المزعزعة للقهر. فكيف لأمةٍ ممزقةٍ ولشعوبٍ ضعيفة أن تعلم الإنسانية هذه الملاحم؟!
رغم سلبيات التبعثر والتفكك القوميين العربيين وهي كثيرة مثل غياب العلاقات الاقتصادية العربية البينية الواسعة، وضياع فرص المشروعات المشتركة الكبرى وتدفق لفوائض مالية عربية هائلة للغرب، رغم هذه السلبيات الفظيعة إلا أن ثمة إيجابيات من تعددية الدول العربية وأهمها نشؤ تعدديات فكرية وسياسية راحت تغتني من ثمار الديمقراطية الإنسانية ولم يعد بإمكان أية دولة أن تفرض صيغتها السياسية الواحدية، وحدث تدفق معرفي ثقافي هائل لدى الجمهور العربي الطليعي على مدى عقود، ومع الثورة التقنية المعلوماتية فإن الشباب العربي إستوعب زخماً ديمقراطياً هائلاً، ولم تستطع الشموليات الألمانية الهتلرية والستالينية والماوية والرجعية والآن النسخة الدكتاتورية الإيرانية أن تُطبقَ على أعناق العرب.
لم يكن المتأثرون بالتجربة الشمولية الفاشية الإيرانية يعرفون أنهم ينقلون تجربةً غيرَ عربية إلى بعض الدول العربية، وأنه ليست عوامل سطحية سوف تهزمهم بل القوانينُ العميقةُ للثقافة العربية السياسية المتجذرة في أمةِ التعدد والاختلاف الديمقراطيين، والتي لم يتشربوا بها في أرواحهم وظلوا محبوسين في قمقمِ الهوسِ القومي الإيراني في نسختهِ الطائفية الأكثر خطورة. لقد أخطأوا على صعيدين قومي ووطني، فلم يكونوا جزءً من القومية العربية، ولم يتغلغلوا في الوطنية العراقية والوطنية البحرينية والوطنية اللبنانية وغيرها.
فروقٌ كبيرةٌ بين مذاهب التباين والتعددية والتسامح وبين صيغ الشمولية الباترة، ونمو التجارب الديمقراطية العربية الراهنة سيظل تغذيه القوانينُ الاجتماعيةُ الغائرة في هذه الأمة وشعوبها المتعددة، وهزيمة القوى الشمولية المذهبية والقومية واليسارية ضرورية لكي يثروا هذه التجارب ويتحولوا إلى نسيجٍ فيها يتغذى بالوعي المدركِ لأخطائه ويتجاوز نسخ التبعية الشمولية، نحو أمةٍ مستقلةٍ تحديثية ديمقراطية ودولٍ مستقلةٍ متنوعةٍ متعاونة بعمق فيها.
12 ــالعولمةُوالسيطرةُعلىالثوراتِالعربية
طُرحت أسئلةٌ جوهريةٌ حول مدى إنزلاق الثورات العربية نحو الهيمنة الغربية مجدداً، وهل ستكون الدول التي نجحت والتي سوف تنجح خاصة سوريا تتوجه للتبعية مجدداً عبر يافطات أخرى؟
أُثيرتْ هذه التساؤلات خاصة على التجربة السورية التي تعيشُ مخاضاً مريراً بسبب الهجمات الرهيبة للعصابة الحاكمة في دمشق والتي إستباحتْ كلَ شيءٍ في ظل عجز عربي وعجز دولي مخيفين.
وتُطرحُ هذه الأسئلة الوجيهة خاصة في ظل قيام الدول الغربية الكبرى بمساندة هذه الثورات، وتلكؤ الدول الرأسمالية الشرقية غير الديمقراطية في هذه المساندة وحسابها للربح والخسارة الاقتصاديين بشكل شحيح والزمن ينمو فوق الجثث والمقابر والمدن المحروقة.
ومن الواضح إن أنماط الأنظمة التي إنهارت أو في سبيلها للانهيار تتشابه مع الدول الشرقية الأخرى الاستبدادية، وتظل هيمنات الرأسماليات الحكومية هي أبرز مظاهرها مع إنبثاق قطاعاتٍ خاصة من أجواف هذه الكيانات الاقتصادية السياسية، وبالتالي فإن النمط العام للرأسمالية الحكومية المسيطرة على الاقتصاديات هو الذي يتعرض للأخطار، وأن نمط الاقتصاد الرأسمالي(الحر) أو الخاص هو الكاسب، وبالتالي فإن خسائر الرأسماليات الحكومية الشرقية من إنهيار التعاقدات في ظل الأسواق السوداء الحكومية الشرقية، سوف تكون عالية للقطاعات البيروقراطية السياسية، في حين أن الشركات الغربية سوف تجد أمكنة فارغة في هذه الأسواق الجديدة!
كذلك فإن توغل نمط الرأسمالية الحرة بما ينمو فيه من تداولية سلطة وصحافة حرة وثقافة ديمقراطية سوف يهدد مصائر الرأسماليات الشرقية الشمولية الكبرى في قارة آسيا خاصة!
إن العولمة ليست شيئاً مجرداً بقدر ما هي صراعات وتداخلات بين هذين النمطين من الرأسمالية اللذين يعكسان مستويين من التطور الاقتصادي الاجتماعي العالمي.
وبقدر ما أخذت القوى البيروقراطية الشرقية الثورات كأساس لنشوئها وخداعها للكادحين الشرقيين وحين وقفتْ عملاقةً ظهرتْ مضامينُها وحولتْ حياتهم إلى عواصف ورثاثٍ إجتماعي يتشرد ويبيعُ قوى عمله بين الدول والقارات، وصيرتْ نساءَهم وأطفالهم مواداً للبيع في الأسواق العالمية، بقدر ما حدث هذا كله فإن الثورات العربية جاءتْ لتحذر هذه الدول الكبرى من مغبةِ الاستمرار في تجاهل حقوق العاملين المهملين من قبل قوى رأس المال الحاكم عبر هذه العقود الطويلة من الانقلاب على القيم والمبادئ الأولى.
والأفظع حين تحولت نماذج من هذه الثورات السرقات عربياً إلى أنظمة ذبح للشعوب وحولت جيوشها الجرارة من جبهات الحدود إلى منازل المواطنين!
وهكذا فإن نمطَ الثورة التي أكلتْ أبناءها بغياب أدوات الديمقراطية لم تعد نموذجاً والتي أعتمدت العنف والتبشير الطبقي الرنان الأجوف، وعلامات الأنتماء الزائف للكادحين، لم تعدْ مقبولةً لدى هذه الجماهير العربية البسيطة والتي طرحت نموذج النضال السلمي والديمقراطية وتداول السلطة وتحرير الاقتصاد من الهيمنات والشفافية.
إنه النموذج الذي جمع اليسار واليمين، الدينيين والعلمانيين، ولا يزال في منطقة برامجية لم تتعمق حتى الآن ولكن أسسها الجديدة واضحة للعيان إلا لمن سُلبتْ منهم أدواتُ الرؤيةِ بفضل نظاراتٍ سوداء قديمة لم تعد تميز المرئيات والأنوار والظلمات.
إن مخاطر تغلغل رأس المال الأجنبي بصور إستغلالية موجودة، ولكن صعود أدوات الديمقراطية من رقابة وصحافة ومنظمات نقابية وحزبية عريقة في كشف ذلك والصراع ضده، وتمييزه عن الجوانب المفيدة للاقتصاديات والعلاقات العالمية التعاونية، هذه كلها لن تمكن أية قوى بيروقراطية وحزبية جديدة من التلاعب بالأموال العامة.
إن المضمون العميق البعيد للثورات العربية هو أن أجزاءً من أمةٍ كبيرة هي الأمة العربية تنضمُ للاقتصاديات الكبرى وتتوجه لتكوين تجربة إقتصادية عملاقة أخرى، عبر التعددية وإعادة تشكيل الهياكل التقليدية في الاقتصاد والثقافة والعلاقات القومية والعالمية.
ولهذا فهي في حالةِ الانضمامِ الواسع للعولمة تناضل ضد أشكالها المستلِبة لكيانِها وخصوصياتها، وتقدمها المستقل المميز، عبر التعاون القومي والتعدد الوطني، وهي حالات ستبقى مثالية ونموذجية بدون تكريس من قبل القوى القومية والتقدمية العربية.
ولهذا فإن ما تطرحهُ القوى الوطنية السورية في نضالها الصعب وغير المتكافئ مع آلة القمع الحكومية الرهيبة ومجازرها اليومية لا يتناقض مع هذا، أي لا يتناقض مع ما تدعوه إليه من سلمية وديمقراطية ومن ضرورة إسقاط نظام لم يعد عربياً سورياً وبشرياً، وهي لم تجد العون والحماية الدولية بعد.
لكن كيف ستترتب هذه الحماية وكيف سيمد المجتمعُ الدولي يدَ المساعدة فإن هذا يرجع لقرارات الشعب نفسه والذي يعبر من خلال صوته الموحَّد ومن خلال المجلس الوطني الممثل له.
ليس هناك إنخراط عربي ذائب في العولمة مع تصاعد الإدارات الديمقراطية الوطنية لكل شعب عربي، بل الذوبان يأتي من تكريس الشموليات وسرقة أموال الناس بحجج الممانعة، والتعامل مع الشركات من تحت عيون الشعوب.
13 ــالمذهبيونالسياسيونومرحلةُهدمِالدولالعربية
تواجه الدول العربية مرحلةً مصيرية من تاريخها الاجتماعي المعقد، فهي بين منعطف الديمقراطية التحديثي التحولي الكبير وبين تفكك أطرها وهدم كياناتها.
تاريخٌ طويل وهذه الدول لم تبن على أسس حديثة، بل على رحيل القبائل والفتوحات القديمة والحروب والتدخلات الأجنبية.
وخلال قرون الجمود بقيت الهياكل الاقتصادية الاجتماعية التقليدية حيث المدن الرئيسية في إنفصال وتضاد عميق مع البوادي والأرياف، وإلى مدى قريب كانت تقرر الشؤون العامة بشكل كلي.
مع سيادة المذاهب الواحدة نقرأ شيئاً من وحدة النسيج، فعلى الرغم من الشموليات والإضطرابات والثورات في بعض شمال دول أفريقيا لكنها حافظت على هياكلها السياسية الموحدة، إلا أنه كلما اقتربنا من المشرق العربي الإسلامي تصاعدت عمليات التفكك، بدءً من مصر والسودان، فتباين الأديان يظهر كعامل إنقسامي خطير في كيانات الدول.
حياةُ الدولِ العربية على أسسٍ دينية كانت تسمى سيطرة(الملة)تعبيراً عن عدم الاعتراف بالأديان الأخرى والقوميات والمذاهب المختلفة، حيث لعبت سيطرةُ الأفكارِ الدينية دور بناء الهياكل السياسية الاجتماعية. وبجعل المذاهب والأديان المغايرة مقصيةً عن المراكز السياسية المهيمنة، ومرفوض التعاطي معها، وتقدير أصحابها، ولهذا فهم في عزلة وموانع جغرافية كما يحدث للدروز والمسيحيين والإسماعيليين والعلويين في لبنان وسوريا وفي اليمن والجزيرة العربية حيث لا تحميهم الدول والقوانين بل مظاهر الطبيعة الجبلية الجبارة.
فتعبر الهواتُ الطبيعية بين السكان عن الهوات السياسية المسيطرة.
ثقافةٌ سياسيةٌ إجتماعيةٌ كانت مؤسسةً على الملة الوحيدة وغيرها خارج الاستقامة والكينونة، مثلما يحدث في إيران وإفغانستان حيث الملة الوحيدة لكن بشكلٍ مغاير، والطوائفُ والقوميات الأخرى كالأكراد والبلوش والعرب على ذرا المرتفعات والجبال، وفي السودان كانت الغابات المدارية هي الأم الحامية.
وقد عجزت قوى التحديث خلال القرنين التاسع عشر والعشرين عن تغيير هذا الطابع الاجتماعي السياسي الطبيعي المتداخل، فمستوى قوى الإنتاج والعلوم لم يتح سوى البقاء في الحِرف وإنتزاعِ المواد الخام بوسائل بدائية أو بأشكال صناعية محدودة الأعداد السكانية ومتدنية المستوى، وهذه هي الحدود التي سوف تتفجر عليها بعضُ الصراعات السياسية وتتغير حدود الدول عليها كلما تعمقت الصراعات الاجتماعي لابسةً ألبسة المذاب والأديان ومحاولة تغيير الخريطة الجغرافية – السياسية، أو تمزيقها في حالة التوغل في الانفصال وظهور قوى مستفيدة متجذرة في تغييبها للمشترك والتوحد.
كذلك فإن السياسات المقامة على هذا المستوى الإنتاجي تجسد تركيز الثروات والهياكل الإدارية في بقع جغرافية صغيرة وفي نخب إجتماعية صغيرة هي الأخرى.
أما التحول العميق للبنى الاجتماعية وتوزيع التنمية على مستوى الخرائط الوطنية والطبقات السكانية فهو غير ممكن بسبب تلك النخب وهيمنتها على رأسماليات الدول المحصورة التي تتطلب مرحلة جديدة من رأسمالية الازدهار الوطني الشامل وهي بذاتها مشكلة لكن لها حلول مؤقتة في الديمقراطية، وهو ما أدى إلى أن يتم التركيز على نقد سياسات العواصم، والتي تجري حسب طبيعة القوى الاجتماعية المتكونة في تلك الدول في مراحلها المختلفة، والتي تعبرُ ليس عن إعادة النظر في الرؤية النخبوية المذهبية الدينية المحافظة، بل تطبيقها من خلال قوى معاكسة لها في المذهبية الدينية فقط.
فرؤيةُ (الملل) الدينيةِ المحافظةِ الشكلانية تجسدُ نفس الهياكل السياسية الاجتماعية من مواقع طبيعيةٍ مغايرة؛ من خلال الجبال حيث تدور ربما حروب العصابات، أو حيث تُستقل وتُعزل المناطق الريفية والجبلية والغابية، ومن هنا إزدهار الكهوف والرؤى الكهفية الظلامية وأمراء الحروب، لكن هذه المرحلة تعمقتْ عبر المرحلة الراهنة، حيث لم تعد عمليات التمرد والاستقلال الجغرافية كافية بل ظهرت سياسات الانفصال وتكوين دول تفكك الدول السابقة، أو تغدو دولاً واحدة لكن منفصمة عبر حكومات متصارعة وليست كإتلاف وكونفدرالية تصعيدية للنهضة وتراكم الجهود، أي تشتغل على تحطيم الهيكل الموحَّد، عبر نفس الرؤى المللية العتيقة.
وقد قامت بها قوى وعدت الناس بتحولات كبيرة، لكن النصوص الدينية مُغيَّبة الحفر في الواقع، لا ترتكز على قراءة البنى الاجتماعية وقوانينها، وترتكز على مطامع باستيلاء جماعات نخبوية جديدة على الثروات، وهذا يحدث خاصة في مناطق النفط، ومن هنا تتفجر مسائلُ الحدود والطوائف والأديان في الخليج والجزيرة العربية وجنوب السودان.
وهكذا يغدو الصراع العربي الإيراني مفككاً أمماً كبيرة بسبب محاولات تقسيم حدود الدول وتغيير هياكلها وإعادة الاستيلاء على ثروات النفط.
14 ــالطابعالدينيللحراكالعربي
مهما كانت الشعارات الأولى تحديثية فإن البناء الاجتماعي العربي ذو طابع ديني صارم، لكن لحظات الفقه السني المُسيَّس هي غير لحظات الإثناعشرية في الزمن الإيراني، ففي الأخيرة حدث خطف المذهب الإثناعشري بسبب تصاعد دكتاتورية الشاه ثم دكتاتورية الولي الفقيه.
كان المذهبُ عبر العصر السابق تعددياً ذا مرجعيات متنوعة تتيح تعددية الأحكام والتفاسير والاجتهادات، ورغم تمركز السلطة الدينية في مرشدٍ لكنها أتاحت الإختلاف الفقهي والتباين السياسي.
جاءتْ ولايةُ الفقيهِ بعد تصاعد الدكتاتورية الاقتصادية السياسية في أجهزة الشاه، وغدا للفرس مؤسسات شمولية معبرة عن هيمنتهم القومية على الشعوب التابعة لهم في ظل إيران، فكانت ولايةُ الفقيهِ نقلةً أخرى في هذه المركزية السياسية الاقتصادية، فجعلت المذهبَ المتعدد التفاسير شمولياً في توجهه السياسي، وأعطت لقوةٍ واحدة كلَ السلطات الفقهية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، فتمددت في الداخل الإيراني وفي العالم الإسلامي.
فيما تواجه المذاهبُ السنية لحظات مختلفة، فقد تصاعد دورها السياسي في وقت تفكك الرأسماليات الحكومية ذات القبضات العسكرية والبوليسية الشديدة، فكان بعضها هو الذي يطالب بالحريات العامة وزوال الاستبداد ووضع حد لهيمنات الدول على الاقتصاد.
هذا الافتراق عن اللحظة الإيرانية هام ولكنه ليس كل شيء، فأبنيةُ الدولِ والمجتمعات شمولية، والشعوبُ ذاتها شمولية، تحّجم الحريات داخل البيوت وفي العقول وفي الإرادات الفردية، وتأتي المذاهبُ بإرثٍ شمولي في الفقه، وتباين في التعابير السياسية وإضطراب في المناهج الفلسفية.
وعملياتُ تفكيكِ إرتباط المنظمات الدينية بالعمل السياسي ليس قوياً، فتحويل الجماعة إلى أحزاب مدنية ذات طابع شكلي، فهي تعتمد في سيطرتها السياسية على أشكال متخلفة من العلاقات الاجتماعية، عبر إلصاق دور العبادة بالمؤسسة السياسية، وتبرير وتمرير أشياء كثيرة من خلال الثقافة الدينية التي تُسيس بلا معرفةٍ عميقةٍ بالإسلام ومراحل تطوره.
فإستخدام الشعائر والكلمات الدينية يتم بكثرة ولا نرى بارمج سياسية وإجتماعية عميقة، مما يعبر عن غياب رؤى إصلاحية للهياكل الاقتصادية النخرة الماضية، وعدم معرفة بعهود من إستلال الأموال العامة.
وقد بينت المنافسات السياسية الانتخابية إن هذه التنظيمات إستغلت الدكتاتورية الاجتماعية الرابضة طويلاً في الحياة الاجتماعية وفي حياة الناخبين وثقافاتهم البسيطة، وجيرتها لصعودها السياسي. وبهذا وضعت أول خلايا الشمولية المريضة في أجسام الحياة السياسية الجديدة.
ويعبر إبتعاد هذه الحركات السياسية المؤدلجة للإسلام عن اليسار والقوى الديمقراطية والنقابات والجماهير العمالية عن طابعها المختلف عن الثورة الإسلامية المؤسِّسة، التي جعلت التحالف مع العبيد والفقراء شكل الجبهة السياسية التي كونت سلطة الخلافة، وبالتالي فإن الجماعات الدينية الراهنة المسيِّسة للإسلام تعبر في سلميتها وطبقيتها عن فئات وسطى تريد من الفقراء تبعية وطاعة وليس تحالفات ديمقراطية فيما هذه هي الوحيدة القادرة على إعادة بناء الرأسماليات الحكومية الشمولية التي عرقلت التطور بشكل يؤدي لتوزيع الثروة على كافة الطبقات وخاصة العاملة منها والقيام بثورات إقتصادية مفيدة للجميع.
15ــعودةٌللأمةِالعربية
إن تحولات الدول العربية المعبرةِ عن مرحلةٍ مضطربة من تطور الشعوب العربية، تتوجه نحو التوحيد أو التفكك، إنهما شكلان معبران عن قوة أو ضعف القوى التحديثية الوطنية.
فهي نفس الأمة التي تعطي ملايين تغير، وآلافاً تفكك وتغير للأسوأ.
ثمة بُنى إجتماعيةٌ إستطاعت أن تخلقَ قوى وسطية توحيدية أحدثتْ تحولات وأخرى لم تقدر على هذا.
التياراتُ السياسية العربية المتعددة الرؤى قام الكثير منها على الأممية الماركسية أو الإسلامية أو القومية الشمولية، وهذه الأشكال من الوعي كانت تركز على تجاوزِ الشعوب العربية نحو وحدةٍ أكبر، ولم تخلق الجدليةَ بين ما هو وطني وقومي وبين ما هو قومي وما هو عالمي، فالقومي يذوبُ في العالمي الذي يغدو مجرداً، ثم زائلاً.
كان هذا الوعي يركز على قوى إجتماعية هامشية كانت ذات تأثير كبير في الحراك الاجتماعي، فالعمال كانوا ذوي قدرات فاعلة مهمة ومن أجل تحولات إجتماعية إشتراكية، وهي فاعليات أدت إلى ضمور الطبقات العمالية لصالح غيرها، ولا عجب أن تقوم في الثورات العربية الراهنة بالدفاع عن مطالبها الاقتصادية بقوة، بعد أن ساهمت بقوة في الدفاع عن الديمقراطية ونُسيت.
كما أن الوعي الاشتراكي المطروح بصيغ الأممية المجردة، المركز على الدفاع عن المعسكر الاشتراكي، لم يعد له وجود إجتماعي سياسي عالمي يدور في قطبه.
ضعف الأممية الاشتراكية جعل العمال يعودودن لقضاياهم المطلبية ويركزون على رفع المستوى المعيشي لهذه الطبقات التي أُستغلتْ في كل الثورات والتحولات.
أما الأممية الإسلامية فلم تعدْ لها صيغ نضالية متجسدة من المكن أن تقوم بتحولات إجتماعية، فقد خطفها المتطرفون نحو الإرهاب أو نحو التعبير عن مراكز قومية متضخمة تلغي حضورَ الشعوب والقوميات الأخرى.
أما الاتجاهات القومية فذابت في أنظمة شمولية لم توحد ما هو وطني، وبالتالي لم تستطع أن ترتفع لما هو توحيدي قومي.
ولهذا غدا الوسط الإسلامي الليبرالي جامعاً لفئاتٍ كبيرة تعبر عن الطبقات الوسطى وهي في حالات تشكل، وقدرت على تحريك ملايين للتغيير ووصولها هي لبعض السلطات العربية.
ما هو مرئي إن هذه الوسطية التي كانت التحليلات والمواد الإعلامية الكثيفة تركزُ عليها خلال العقود السابقة إستطاعت خلق توحيد وهو الأساس الممكن للتغيير في أي بلد، وبدونه هناك الفسيفساءات المذهبية والدينية والسياسية.
وقاد هذا الحراكُ الوسطي إلى ضعف اليسار المتطرف واليمين المتطرف معاً، في بعض البلدان في حين إنه لم ينتصرْ في بلدان عديدة أخرى.
كان نشوء فئات وسطى وعمالية فكرية متعاونة على الخطوط الدنيا للديمقراطية هو الخالق لهذا التحول، الذي بدأته الطبقاتُ العاملة سواء في مناجم تونس في الجنوب أم في معامل الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، وطورته قوى وسط ليبرالية ويسارية لتحوله إلى وعي ديمقراطي متحرك يبتعد عن أقصى اليسار وأقصى اليمين، ولا يطرحُ أمميةً من أي نوع، ولا طبقة طليعية، مما يجعله كذلك في مخاض إجتماعي يمثل طيفاً واسعاً غير متبلور.
سادت خطوط فكرية أهمها سيادة الوعي الديمقراطي وتغيير البرلمانات الصورية والقبول بالآخر الديني أو اليساري، وإعتماد قواعد الوعي الشعبي الراهن بكل مشكلاته وسلبياته وعيشه الطويل في أنظمة إستبدادية وجعله أساس التصويت والانتخاب بدون مراحل إنتقالية تنويرية، مما جعل الطبقات العمالية التي كانت هي المُحولة الأساسية للأنظمة الشمولية لا تحصل على أي شيء من البرلمانات فتقوم بإضرابات واسعة للدفاع عن مصالحها الاقتصادية دون أن تتوقف عن دعم القوى الديمقراطية. لقد خافت أن تضيع مصالحها البسيطة في رفع الأجور مع تحركات القوى المالكة والغنية لقطف ثمار المرحلة لصالحها وهي التي كانت رابضة تحت الرماد بإنتظار مثل هذه الفرص!
إن غيابَ التوجهات السياسية الفكرية الحادة نحو أقصى اليسار وأقصى اليمين أفاد المرحلة في ظهور قوى الوسط المتجمعة ضد الشموليات ولكنه جعل الأجيال الشابة بلا منظور طبقي واضح، وغدا الجمهورُ الفقيرُ الواسع المفتت يتبع القوى التقليدية التي مدت شباكها فيه لعقود، مما أحدث تطوراً من جهة وتخلفاً من جهة أخرى.
فحصلت ثوراتٌ عظيمة ثم نتائجٌ سياسية وإنتخابية هزيلة!
لقد تغيرتْ الأنظمةُ الشمولية وصعدت قوى شمولية!
لكن الديمقراطية حتى بمثل هذه النتائج والقوى أفضل من الزمن السابق، وهي تمثل فرصاً لإعادة النظر في الأطروحات والبرامج الجامدة في عقود، ومن أجل التوحيد الجدلي بين ما هو وطني وقومي وما هو عالمي، ومن أجل أن لا تتسع الهوات بين الطبقات العاملة والطبقات المالكة، وأن تجمع القوى السياسية بين الحفاظ على أشكال الديمقراطية البرلمانية وتطوير الحياة الشعبية التحديثية.
إن الروابط التعاضدية القومية والعالمية سوف تظهر لكن البلدان المتآكلة من الشموليات بحاجة للبناء الداخلي أولاً، وعبر ذلك سيظهر تعاونٌ قومي واسع وتضامنٌ أممي أكبر ولكن أسس ديمقراطية.
وستكون مراكز الأمة العربية الديمقراطية الكبيرة مثل النواة لعمليات تجديد للشعوب العربية بأسرها.
إن دور القوى التحديثية المختلفة هو التعاون على أسس التغيير الديمقراطي وتعريبه بشكل عميق وهي مرحلة طويلة من العمل والدرس.
16 ــالمشرقُالعربيالإسلاميفيمهبِالعاصفة
لم ينجح الاستقطاب الطائفي السياسي الاجتماعي كلياً في شمال أفريقيا العربية.
كان المشرق العربي أكثر تطوراً إجتماعياً وسياسياً، فهو الذي أسسَّ الأديانَ السماوية وثقافةَ النهضات في العصرين الوسيط والحديث.
فلماذا يكون أكثر تخلفاً وأشد عنفاً وأوسع تمزقاً؟!
كان شمالُ أفريقيا يتلقى حصيلةَ وثمارَ ما تنتجهُ قوى النهضة والتحول في الهلال الخصيب خاصة، فتحمل اللقاح إلى مصر لتفيضَ به على الجيران.
في الزمن الراهن الجاثم غدا المشرق غير قابل للتحول الديمقراطي الوطني الإنساني، يتصدع ويتمزق ويتفتت دينياً وطائفياً.
الربيعُ العربي ما أن عبرَ البحرَ الأحمر حتى إشتعل دماً.
بلدان هما اليمن وسوريا إحترقا.
بالتأكيد فإن الفاشيةَ الإيرانية لعبتْ دوراً تمزيقياً كبيراً ولكن ليس ذلك هو السبب الداخلي العضوي، فهو مجردُ عاملٍ خارجي وجدَ أرضاً خصبةً داخلية ونما.
لم يتواجدْ في المشرق العربي الإسلامي إنصهارٌ وطني.
لم تلتحم الشعوبُ إلتحاماً عضوياً عميقاً، وبقيت الدولُ مجموعاتٍ من النُخب القَبلية والمذهبية تسيطرُ على هياكلَ سياسيةٍ إجتماعيةٍ مفككة.
محدوديةُ المدن وضآلتها بجانب مساحات الصحارى خلقتْ على مر التاريخ التحرك القبلي كقوةٍ سياسية فارضةً التحول الفوقي، فيما الحياة الاجتماعية مشتتة متخلفة محافظة، تابعة للمسيطرين المذهبيين والقبليين المحليين في أجزائها المختلفة المتباعدة.
حين نأخذ الجماعات السياسية والدول التي قامت بالاستقلال والثورات فهي تنشىءُ أجهزةً وحكومات أقلية لا تنفذ للخريطة الاجتماعية الواسعة.
تصطبغ الأحزابُ بصبغاتِ قومية ووطنية وإشتراكية طلائية خارجية، فيما هي ذاتُ مضامين مذهبية ودينية، والأحزابُ القوميةُ فالدولُ تغدو رأسماليةً وهي سنيةٌ قَبلية، أو شيوعيةٌ وإشتراكية وهي شيعية وزيدية وعلوية.
الاجراءاتُ السياسيةُ والبناءات الصناعية والاقتصادية والثقافية المؤسسَّةُ من خلال هذه الأبنيةِ الفوقية تغدو طائفية وقبلية.
البناء الفوقي الإيديولوجي الطائفي هو الذي يؤسسُ المؤسسات السياسيةَ العامة والمصانع، لتقوم الفوائض النقدية بتكريس الطائفيات والقبلية.
كان العلويون في سوريا يعيشون في الجبال والقرى البعيدة لم ينصهروا مع الطوائف الأخرى، ولم يكن البعثُ سوى طلاء خارجي، أخذ يتفتتُ مع التحكم في المؤسساتِ العسكرية والاقتصادية، حتى برز كالحاً فاشياً في الصراعِ الطبقي بين الرأسماليةِ الحكومية وجمهور الفلاحة الريفي المتخلف الواسع.
والبعثُ في العراق كان طلاءً للقَبلية السنية البدوية التي أزالتهُ وهي تقوم بذات التحكم، فلا يبقى رباطٌ عقائدي بين العراق وسوريا ولا يبقى رباطٌ وطني بين السنة والشيعة والأكراد في العراق نفسه.
الطلاءاتُ الإيديولوجية إتخذتْ في عمقها مضموناً شمولياً معبراً عن أي جماعةٍ تتحكمُ في الحزب، ويدمغها من أي قبليةٍ وطائفة إنحدرت، حيث تقوم بالسيطرة على مفاتيح الحزب والدولة من خلال القرابة لا من خلال الرفقة الكفاحية الديمقراطية غير المتأصلة في بُنى إجتماعية متخلفة.
نحن لا نعرفُ الحزبَ – الدولةَ من إيديولوجيتهِ بل من القرابةِ الطائفية داخله.
لهذا فإن الطلاءات الخارجية المسحوقة بعوامل التعرية من إنتهازية ونفعية وتقلبات تهرجية ومآسٍ تعبرُ عن الهوات داخل المدن التي ما تزال قرى، وداخل المثقفين الذين ما زالوا أميين، والأحزاب التي ما تزالُ شِللاً وشَللاً، والفئات العاملة التي ما تزال خادمة، والفئات المتوسطة التي ما تزال ذيلية مصلحية، والدولُ التي بقيتْ أُسريةً قبلية.
إستطاعت المدافع والأسلحة الأقوى والتحالفات بين عمالقة الشموليات أن تدمر الكثيرَ من المباني والانجازات الكثيرة المادية على مدى عقود، فذهبتْ أدراجَ الرياح وأن تقتلَ حقولاً يانعة من الشباب وكأنها تقول أن البشرَ مجردُ كمٍ تافه في سياسات فاشية حملت جراثيمها في مضمونها منذ سنين وأزدهت بطلائها الخلاب القاتل للمتفرجين الحالمين.
الوجبةُ الأولى من المشرق وربما تكون وجبةً خفيفة، ولا نعرف الوجبات الأخرى القادمة ماذا تقدم على الغداء أو العشاء؟
النصف التحتي والشرقي من المشرق يحفل بتناقضات أكثر وأشد صعوبة من النصف الشمالي فأي مستقبل له؟ هل يتعظ من كل هذه الخرائب أم يواصل رحلة الجنون؟
17 ــالعنفُفيالمشرقالعربي
تعود حشود الطائفيات والنزاعات القومية في منطقة المشرق العربي الإسلامي، وخاصة في الخليج والعراق وإيران، إلى ظهور شموليات حادة في الأنظمة والتيارات السياسية، أدت إلى تمزق وتفتت الخرائط السياسية والقوى السكانية. ولم تستطع هذه القوى تجاوز نفسها أو القيام بالتعاون للحد من ظواهر العنف والإرهاب.
إنها شمولياتٌ في الأجهزة وتوزيع الموارد بأشكال غير متناسبة وتضخم شراء الأسلحة، وتغلغل القوى الغربية المضادة للديمقراطية والعلمانية، للهيمنةِ على إنتاجِ النفط وإبقائه مادة خاماً ومشتقاتها، وفصل المنطقة عن عالمها العربي.
كما أُغرقت المنطقة بفيض سكاني مغترب ومتنوع لم يقم بأي تأثير فكري إجتماعي خلاق، بل كان أشبه بأدوات عمل وإنتاج بكل ما يحملهُ من مشكلات وتأثيرات حادة.
أدت هذه إلى خلق إضطرابات وتحولات إجتماعية وثقافية عميقة داخلية غير مخططة وغير منظمة بأشكالٍ عقلانية، وقد بدت للسكان العوام العائشين في عزلة على مدى قرون أن هزة أرضية إجتماعية تكاد تنسف وجودهم التاريخي الروحي.
كل هذه السببيات جعلت المنطقة مختلفة عن جغرافية الربيع العربي والتوحيد، وعالم الديمقراطية الوليد وتغوص أكثر فأكثر في التمزق المذهبي بكل ما يجريه من تفاقم العنف.
القوى السائدة عملت على تغييب أي توحيد وطني وتغييب نمو الليبرالية والديمقراطية وفي عوالم محافظة لم تشهد حقباً تنويرية متصاعدة، فكانت فترات الازدهار الثقافي العقلاني ولحظات الديمقراية السياسية وامضة سريعة لم تترك آثاراً على أغلبية السكان البدو والمزارعين.
وأدت سياسات إعادة البداوة ونشرها في المدن الخليجية والعربية إلى عودة التصحر الاجتماعي مثلما تنامى التصحر الطبيعي، وتذكرنا هذه بسياسة العصر العباسي المتأخر في الاستعانة بالسلاجقة وأمثالهم من الرعاة مما أدى إلى تدهور الثقافة المميزة للعصر السابق.
كذلك تفاقم التطور في المدن على حساب المناطق المنتجة في الصحارى والمناطق الزراعية، وتبدلت تكوينات السكان بصور سريعة، جعلت المدن متسارعة التطور، فوضوية النمو، ممتلئة بقوى سكانية غريبة، كما توسعت تجارة السلاح السرية، وتحولتْ بعضُ البلدان لمراكز إيواء وتجنيد لعصابات وقوى مسلحة تخترق الحدود.
كما أن تفجر حروبٌ عديدة هائلة أُديرت من الخارج وتهدف لإبقاء نفس السياسات المحافظة القائمة، قد زادت من خلخلة القيم والتصورات المثالية فارتفع الاهتمام بالقوة والعنف على نحو لا سابق له، تغذيه محطاتٌ وثقافةٌ سطحية وفنون تركز على الغرائز.
عادت المنطقةُ للوراء إجتماعياً وسياسياً وهي تتطور إقتصادياً بشكل كبير، فالهياكل الإدارية السابقة لم تكن بمستوى التحولات، من حيث مستواها العلمي خاصة، فلم تكن هناك قدرات كبرى على خلق تطور مدني مسالم تكرسه مؤسسات مدنية ورقابية.
تصاعدت أرقامُ ضحايا عمليات الإرهاب من عشرات ومئات حتى الألوف، وأختفى القتلة وراء المنظمات والدول ولا تحدث أية أبحاث وتحقيقات كبرى لمعرفة هذه الشبكات، ويجري ربط الأعمال السياسية الطائفية بالتقنيات المتطورة، فغدت هناك قيادات فضائية وسرية للمجموعات المسلحة وقوى المنظمات الطائفية المرتبطة بمراكز كبرى وتداخلت مع الصراعات السياسية والاجتماعية. وكذلك فإن تبدل مهمات الجيوش من قيامها بالدفاع عن الحدود إلى أن تشارك في العمليات السياسية والغزوات الخارجية فصار بعضها موجهاً ضد السكان أو مستعداً لحروب قومية، فأدى هذا إلى تفاقم العسكرة بكل مظاهرها في الحياة المدنية.
تذكرنا عمليات العنف الهائلة غير المسبوقة بالتدفق الضاري الصحراوي لبني هلال وغيرهم من القبائل الرعوية الضارية قبل قرون والذين أكتسحوا المدن كجراد، لكن هؤلاء قاموا في زمن القحط لا النفط.
إدخال الرعويين والصحراويين والمنبتين من مناطقهم وصحاريهم وأريافهم في المدن وجلب العمال الأجانب المجهولي السير الشخصية الدقيقة، أدى إلى تضادات إجتماعية خطيرة، فتزايدت أعدادُ الجرائم وبلغت معدلات كبيرة، وظهرت جرائم لم تكن معروفة سابقاً وغدت أحداثاً يومية لا تهزُّ المشاعرَ كما كان الأمر سابقاً.
كذلك غدا تهريب الممنوعات سهلاً نظراً لهذه الأعداد الهائلة من المسافرين والعابرين والمهاجرين، ولضخامة التجارة في السلع والأشياء وغياب الرقابات الدقيقة.
وعلى الرغم من تضخم ظاهرات العنف وكونها ذات جذور إجتماعية وسياسية فإن المعالجات تتم بأساليب بوليسية، وتتكاثر أدواتُ محاربة الجريمة بأشكال تقنية، لكن لا تجري عمليات التعاون بين الدول لمعالجة هذه الظواهر، وتغيب الدراسات وعمليات التدقيق والبحث والحوارات، ومعرفة جذور الحركات الطائفية العنفية، وسببيات تبدل سلوك السكان المسالمين سابقاً.
18 ــمشكلاتٌرئيسيةٌفيالديمقراطياتِالعربية
تتجه الديمقراطياتُ العربيةُ لأزماتٍ محوريةٍ خانقة بسببب عدم تبلور السلطات العربية، فهل هي للقوى التنفيذية أم للهيئات المنتخبة أم للتعاون الوثيق بينها؟
خلال العشر سنوات الماضية طرح الوعي الديمقراطي العميق أهمية بلورة السلطة الديمقراطية من خلال البرلمانات، بحيث تكون الأجهزة التنفيذية منشأة من قبلها أو على توافق كبير معها.
إن خلقَ سلطةٍ برلمانية مع عجزها عن خلق تقدم فعلي في حياة الشعوب يؤدي لتفاقم المشكلات بدلاً من حلها.
ومن الواضح أن الدول العربية غير قادرة على إنشاء ديمقراطيات بمعنى الكلمة، ولكنها سلطات تتجه نحو ديمقراطيات إفتراضية ومحتملة.
حين تنشأ سلطاتٌ منتخبةٌ نرى النقصَ في تكوينها الدستوري، أو تغدو هيئاتٍ رقابية، أو تغدو سلطةً مركزيةً لطائفة أو لقومية واحدة ثم تقومُ الأقاليمُ الأخرى ذات الطوائفِ والقوميات الأخرى بإنتخاب هيئات مغايرة وحكومات مستقلة.
أو كما حدث في بعض الثورات العربية الناجحة حين تظهر برلماناتٌ منتخبة لكن المجلس العسكري أو قوى البيروقراطيات القديمة وأصحاب النفوذ السابق يظلون يديرون الحياة السياسية والاقتصادية.
برلمانات ضعيفة وحكومات قوية في يدها مفاتيح الأمور يؤدي إلى المشاهد التالية:
تحدث إجتماعات كثيرة للبرلمان ويقدم إقتراحات ويستجوب ويكثر من الأسئلة والقرارات لكن تغدو كل هذه الأفعال ضعيفة، وتتوجه لبعض الجوانب الجزئية أو التغييرات المالية العابرة.
ولعل هذا بسبب عدم تجانس البرلمان وإختلاف كتله، لكن السبب الأكبر هو ضعف مستواه السياسي وعدم قدرته على رؤية الأمور الجوهرية من ملكيات عامة ونتاجها ومن توزيعٍ غيرِ دقيق للايرادات والثروة الوطنية وضعف إستجواباته وهامشيتها.
ضعف المستوى ينبع من الثقافة الدينية الأدبية السطحية وغياب محامين كبار ومفكرين وقادة سياسيين ذوي تجارب كبيرة قادرين على الوصول لجوهر الأمور وتوجيه الحكومات إلى جوانب تغفل عنها، أو تضيع من خلال عدم وجود التخطيط وضخامة البيروقراطية التي تطرح مسوغات كثيرة بدون دقة ولرغبتها في إحتكار السلطة.
وللأسف فإن عدم تعاون القوى الدينية والمستقلة البسيطة الثقافة مع التيارات الديمقراطية واليسارية يزيدها ضعفاً، ويجعلها لقماً سائغةً لمناوراتِ الإدارات والحكومات ذوات التجارب الطويلة.
كذلك قد يكون عدم التعاون بين البرلمانات والحكومات أو حدوث الصراعات المزمنة المؤدية لاضطراب الجهازين معاً كما هي حالة الكويت نتيجةً لعدمِ تبلور طبيعة السلطتين التشريعية والتنفيذية ومساحة كل منهما، ورغبة كل منهما في إختراق الأخرى.
عموماً فإن هذا الذي يجري في البلدان العربية من صراعاتٍ بين البرلمانات والحكومات بأشكالٍ شتى، وبأسبابٍ متعددة حسب مدى التجارب والتطورات السياسية في كلٍ منها، هو بسببِ عدم تبلور الفئات الوسطى الموحّدة في تكويناتها الاقتصادية الطبقية وفي رؤاها النهضوية الوطنية ودرجات فهمها للواقع ولظروف بلدانها، والتباين الشديد في أقسامِها الثرية جداً والحاكمة وفي أقسامها الأقل ثراءً وربما التي تقترب من النزول لمستويات العاملين لأسبابِ الضغوط الاقتصادية والديون وتسارع إرتفاع الأسعار والإيجارات ومختلف ظروف العسر.
إن غيابَ الأسبابِ الموضوعية لتشكل الطبقات الوسطى من فقدان المصانع القوية والمؤسسات المالية الداعمة للكتل السياسية المنتخبة وملكيات الصحافة الحرة وإعتمادها على جماهير فقيرة هي ذاتها منقسمة دينياً وطائفياً وسياسياً وضعيفة إقتصادياً، يجعل مؤسسات البرلمانات ضعيفة في الوطن العربي حتى بعد الثورات الشعبية العارمة.
كما أن قيامَ الحكومات التي عاشتْ طويلاً على أجهزة الإدارات القديمة والجيوش وتحكمتْ في الشركات الاقتصادية والمالية لعقود، يجعل نفوذها أقوى وهيمنتها على الحياة السياسية بما فيها البرلمانات مسألة مؤثرة.
ولكن هذا لا يعني التخلي عن برلماناتٍ ضعيفةٍ ولا الاحتفاظ بها أبداً.
إن الديمقراطيات هي أن تكون هناك طبقات وسطى قوية، ترفدها قوى عمالية متنورة، ولهذا فإن حدوث ديمقراطية بمجرد الأوامر والانتخابات والقرارات وحتى الثورات هو غيرُ ممكنٍ بدون تكويناتٍ موضوعية في الأرض الاقتصادية الاجتماعية السياسية، وهي تحتاجُ لبناءٍ ذي نفسٍ طويل، ولتلاحم صفوف الفئات الوسطى المفككة، التي يتضحُ تفكُكها في تشتتِ المذهبيات والأديان والاتجاهات الحديثة، والتنوع الحاد للنواب الذين يأتون من مواقع إقليمية نائية عن بعضها البعض.
كما إن غرق الجماهير العمالية في الفقر والأمية والسلبية السياسية هي أمورٌ تُضعفُ من حراكِ الفئات الوسطى لتكون قوى ديمقراطية وطنية وتتحول لطبقاتٍ وسطى مع توسع الصناعات الخاصة والتقنيات والثورة الصناعية العلمية الاجتماعية العربية.
تكون قوى المركزية والتشتت والاستبداد على مدى عقود طويلة لا يمكن أن تغييرها بدون تراكم ديمقراطي صبور، لا تنفع فيه المغامرات والصراعات الأهلية والاعتماد على الأجندات الطائفية والقومية المتعصبة.
19 ــالميلادُالإسلاميالديمقراطيللأمةِالعربية
تفجر الثوراتُ العربية كانت لها أسبابٌ عميقة، فقد عجزتْ رأسمالياتُ الدول الشمولية عن التطور مع العصر، وكان هذا الشكل السياسي التعجيلي غدا أسلوبَ إنتاج عالمي شرقي ووصل إلى أزمةٍ عميقة خانقة تطايراتْ بعده أجزاؤهُ وأشلاؤه في المدار الكوني، وقد دخلتْ تياراتٌ عديدةٌ سياسية عربية في الترويج له، لكن قوى مذهبية سياسية ذات مرجيعات إسلامية لم تشاركْ في الانخراط في عملياتهِ التي استمرتْ أكثر من نصف قرن.
تأييدُ العديد من التيارات الشمولية لرأسمالياتِ الدول في الشرق حجّرَ مفاهيمها السياسية الفكرية، وراح بعضها يطبق هذه التيارات حتى في دول لا تمتلك حتى دراجات، أو تعيشُ نساؤها في العصر الوسيط.
تحجرُ مفاهيم هذه القوى وقد إمتلكتْ مناهج درس وحفر هامة يعودُ لعدم فهمِها للرأسمالية وضرورتها، أي لعدم فهمها كتشكيلةٍ تاريخية عالمية لها قوانينها وطرق تطورها وذبولها التدريجي الموضوعي القائم على قوانين السوق وتطور الوعي البشري، وأحلوا إرادتهم الذاتية محل الضرورات.
هذا أدى إلى عدم تراكم القوى الديمقراطية الحديثة في كل بلد، فيأتي اليسارُ ليضربَ الليبرالية وهي حليفته في نمو الأسلوب الحديث، أو ليهمشها ويخوفها، ويطرد الرأسمالَ الخاص من الأسواق أو يؤممه ويقضي عليه.
العملية الفكرية المصاحبة للشمولية من إلغاء للبذور الديمقراطية والليبرالية وعدم تصعيدها وتعاونها، تؤدي إلى إنهاك اليسار وذوبان هياكله، وعدم تبصره بتحليل الواقع الموضوعي، ووصول بقاياه إلى محفوظات وتغدو حفائر أثرية.
لكن الواقع من جهةٍ أخرى لا يتوقف عن الصراع، فرأسمالياتُ الدول في المدن الرئيسية تقلبُ حالَ الأرياف والمناطق الرعوية والحرفيين، وتمركزُ الثروة في تلك المدن الرئيسية ولدى أحزاب وعائلات وأفراد، وتخلق في المدن نفسها قوى هائلة من المقتلعين والمهمشين.
وإذ يعجز الفكر اليساري عن الحضور في هذه العمليات التحولية، بسبب مشاركته في الفساد، أو لصراعه مع هذه الرأسماليات من منطلق إلغائها إذا كانت يمينية، تنتعش الأفكارُ الدينية وتنتشر بين الجمهور الضائع في إضطراب الرأسماليات هذا، ويغدو الفكر القدري مطلوباً مع ضياع البوصلات الواقعية التقدمية، وتستخدم القوى الوسطى ما تجمع لديها من رأس مال في توسيع تنظيماتها ونشره بين المحطمين والمأزومين من فوضوية رأسماليات الدول الشمولية، الذين يعودون لعباداتهم وينفخون فيها طابع المعارضة والتغيير السياسي دون برامج عميقة وفهم لقوانين التشكيلة الرأسمالية التي يعارضون شكلاً منها، ليحضروا شكلاً آخر.
كما أنهم يأتون من مستويات متعددة في بُنى هذه الرأسماليات، فالسلفيون يأتون من عالم بدوي لم تتغلغل به العلاقات الرأسمالية الحديثة خاصة في الحياة الاجتماعية والفكرية، فيما الأخوان يأتون من مدن صغيرة لا يزال طابع الحداثة فيها غير مهيمن، ولكن الكثير منهم في بلدانهم نأوا عن رأسماليات الدول ذات الطابع(الاشتراكي) أو التحديثي. وهذا أدى لتصعيد رأس المال الخاص.
وبالنسبة للسنة كانت الدول المتعددة تتيح لهم التنوع، من دول قاربت الرأسمالية الحديثة كتونس والمغرب، وتشربتا بها، إلى دولة كمصر ظلت ممزقة بين الغرب والشرق، بين التقليدية والحداثة، تنتقل من(الاشتراكية) وهي في أزمة، ولا تكاد تعيش في رأسمالية حرة وتبقى في أزمات.
وضخامةُ السلفية والتيارات المحافظة الأخرى يعبر عن بقاء الريف الضخم والمناطق العشوائية في عوالم تقليدية.
في حين عبرت سوريا عن المعركة الأصعب والأكثر دموية في الانتقال من رأسماليةِ دولةٍ إلى رأسمالية حرة، وصار الاستيلاء على المدينيتن البرجوازيتين حصالتي الدم السوري لنصف قرن دمشق وحلب هو ذروةُ وإنتصار الثورة الشعبية.
وقد جاء تطورُ الاثني عشرية معاكساً للتطور العالمي، ففيما الشعوب تتجاوزُ رأسماليةَ الدول الشمولية وقعتْ أقسامُها السياسية المؤثرة في المذهب عامة، في هيمنة رأسمالية دولة إيرانية متأخرة زمنياً ومتخلفة فكرياً، ومصعَّدة تناقضاتها لمرحلة أعلى خطرة.
هذا يعبرُ من الناحية التاريخية عن قيام المذاهب الإسلامية الرئيسية ككل ذات الجذور الطويلة في التجارة الخاصة بإعادة تجديد لهياكل إقتصادية عامة بيروقراطية، وهذا يحدث في المناطق التي لها تقارب مع الحداثة، وللحركات المذهبية السياسية فيها علاقات مع البنوك والشركات.
لكن هذه التحولات لم تزل في بضع دول، وهي تحتاج للدول العربية التقليدية، أو التي لم تحدث فيها تحولاتٌ ديمقراطية، مما يربك التطور.
وبإنضمام دول أخرى وتأثر أخرى بعمليات التغيير فإن ظاهرة التجديد في الشعوب العربية الكبيرة هذه تتسارع، وتكمل بعضها البعض، مما يشير لميلاد يظل (إسلامياً) ديمقراطياً، معبراً عن تجديد تقليدي، يحتاج لرفده من قبل التيارات الحديثة وتطويره لتعاون واسع بين الشعوب العربية، كمركز مهم عالمي للأمم الإسلامية، التي تحتاج لدخول عميق كبير في الحداثة والتطورات الكبرى في الأسواق.
20 ــرأسماليةُالدولةالعربيةوقضاياالديمقراطية
تتبلور يوماً بعد يوم طرق التطور الديمقراطية وتشق طرقها في الكثبان المحافظة، وغدت مسألة توجيه الدخل الوطني العام نحو التحولات الديقراطية مسألةً محورية.
فأما رأسمالية دولة ذات توجه إقطاعي طائفي، وأما رأسمالية دولة ذات توجه وطني ديمقراطي تحديثي علماني عقلاني.
على بساطة هذه القضايا لكنها شديدة الالتباس خاصة لدى الأحزاب(الثورية)!
حين يقول المناضل العراقي بأنه من الضروري تشكيل تيارات وطنية عابرة للطوائف وتوحيد البلد يضعُ قدمَهُ على طريق الحل، ولكن هذا تجريد.
فرأسمالية الدولة المركزية تقبضُ عليها أحزاب طائفية دينية، تؤدي لتفتيت البلد وتصعيد صراعاته.
تمثل الجماعات السياسية الطائفية الشكل الإيديولوجي العملي للإقطاع، وحين تقبضُ على مال الشعب فإنها توجهه للوراء والتفتيت، وللحرب الأهلية في قادم الزمن.
التحالفات مع الأحزاب الطائفية هدم للوطن وتخريب للتطور، ولا بد من تصعيد التحالف بين القوى الشعبية والبرجوازية الديمقراطية العلمانية أي التي تطرح دولة مدنية علمانية.
الأحزاب الطائفية في تعمية عيون العاملين وأسر النساء وبث الخرافات لا يفيد حديثها عن الوطن والديمقراطية، فهذه كلها فخاخ لاعتقال الوطن في زنزانات مذهبية متخلفة، وإبعاد هذه الأحزاب الطائفية عن السيطرة على عقول المواطنين ومنع نشر العلاقات الإقطاعية في البيوت والشوارع والعقول ضرورة للبقاء والسلام والتقدم والتوحيد.
لا فائدة من هيمنة الإقطاع على رأسمالية الدولة فهو يقود لإنتاج التخلف.
زيادة حراك الطائفيين وتقويضهم للوحدات الوطنية في الدول العربية والإسلامية يأتي أولاً من فساد رأسماليات الدول وإنتاجها لتوزيع فوائض بطرق غير ديمقراطية وغير وطنية وغير عادلة.
وكلما تمت السيطرة على هذه الرأسمالية الحكومية رقابة وإدارة كلما تم تقويض الطائفية.
ولهذا نجد في الدول ذات الاختراقات الكبيرة من الطائفية تتصارع فيها وتخترقها وتنمو داخلها رأسمالياتٌ حكومية شمولية متصارعة على أجسام الشعوب.
نموذج الاتحاد السوفيتي يعطينا فهماً لكيفية الفساد الشمولي لرأسماليات الدولة المركزية وفي الجمهوريات بحيث تتحلل الدولة، والماركسية اللينينية المضادة للأديان هي وعي دكتاتوري ضد عقائد الشعوب وتاريخها الديني الاجتماعي.
والديمقراطية على العكس هي قراءة موضوعية للأديان والمذاهب وعدم البتر في تطورها و(سحقها) والاهتمام بالعناصر النضالية والديمقراطية فيها، ونقد الجوانب السلبية، وخلق أنظمة علمانية غير مسيِّسة للأديان ولإستخدامها النفعي الاستغلالي، وهذا يتشكلُ من ديمقراطياتٍ في مختلف الجمهوريات الروسية والآسيوية لرؤية الأديان في طرق تطورها التاريخية الحقيقية، وتصعيد سلطات الناس الرقابية وأشكال وعيهم العقلانية لتواريخ بلدانهم وثقافاتها.
هذا هو هو دور الأحزاب التقدمية العربية في هذه الرأسماليات الحكومية المتعددة، حيث لا بد أن يجري نقد التاريخ العدمي الديني لهذه الأحزاب، ونقد نسخ التجربة الروسية، وتجميع مختلف القوى النهضوية الديمقراطية الوطنية التحديثية العلمانية، بحيث لا يغدو الاستخدام المضاد النفعي الطائفي للدين بديلاً عن عدميةٍ دينيةٍ سابقة.
فالأحزاب العلمانية والتقدمية إسلامية الجذور، وتهتم بتفكيك الاستخدام الشمولي للأديان.
والاستخدام النفعي المحافظ الطائفي للدين هو الوجه الآخر للعدمية الدينية، كلاهما رفضٌ للعناصر الشعبية التوحيدية الديمقراطية في الإسلام والمسيحية، كلاهما عدم رؤية لمسار الأديان وإستغلال الجهل الجماهيري للوصول إلى السلطات وإستغلال رأسماليات الدول بأشكالٍ طفيلية.
سيطرة جماعة دينية سيؤدي لصراعها مع جماعة دينية أخرى، والصراع ليس هدفه خدمة الدين بل الإستيلاء على الثروات، وبهذا فإن الخدمة العنيفة المحافظة للدين تكمل مسار العدمية السابقة وتفجر المشكلات المؤدية لانقسامات أفدح فتضيع الأوطان والثروات.
قراءةُ الأديان بأشكالٍ منتجة وجعل القطاعات العامة أساس للتطور الاقتصادي الوطني في كل الطبقات والجماعات، هو وضع أساس لتطور القوى المنتجة العامة والخاصة.
لقد أدتْ العدميةُ الدينيةُ لاكتساح الطائفيات وتفردها بالوعي الجماهيري السطحي وبنشر التخريف والجهل بالأديان وإقامة مشكلات خطيرة بتسييسها وأدت لمذابح وحروب وما تزال شهيتها مفتوحة لمزيد من الكوارث.
توجيه الموارد لتغيير حياة الناس المادية والثقافية عبر التحالفات السياسية التحديثية سوف يضعُ فصلاً جديداً من التطور العربي
21 ــالقرنُالسادسعشروالسابعُعشرالعربيان
لم يستطع العربُ دخولَ عصر الثورة الصناعية، إنهم يعيشون فيما قبل ذلك، لكن بشكلٍ مختلف عن الغرب، بدرجةٍ أرقى من جانب البنية التحتية وأكثر تخلفاً في جانب البنية الفوقية.
تصنيعُ الموادِ الخام لم يتحْ تثويرَ البُنى الاجتماعية، فخلقُ صناعاتٍ صغيرة ومتوسطة غالبةٍ لم يَقم بهذا الدور، فيما الصناعاتُ الحكوميةُ العامة هي مراكزُ تصنيعِ الموادِ الخام وبثُها على القواعدِ السفلى.
رغم ذلك فإن الاقتصادَ مماثلٌ لاقتصادِ أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بدون تدفقِ الذهبِ القادم من أمريكا المُكتشَّفة حديثاً، وبدلاً منه تدفق الذهبُ الأسودُ من الجزيرة العربية، لكنه لم يستطع الدخولَ في الصناعات بل توجه للربح السريع في العقارات والمعاملات المالية والسياحة.
فيما كان سيلُ الذهبِ والتدفقاتِ المالية في الغرب وقتذاك يتوجه نحو الصناعات البازغة، مرحلة المنيفاكتورة، ونحو مرحلةِ الصناعةِ الآلية المبكرةِ المتسارعة التي أحدثت الثورةَ الصناعية وكل الحضارة الحديثة الراهنة.
سبق لأوربا خلقَ حركةٍ ثقافية نهضوية منذ القرن الثالث عشر وما بعده، وجاءت مرحلةُ التصنيع فيها وقد إنتشر التنويرُ وتنامت الطباعةُ ومئاتُ الآلاف من نسخ الجرائد اليومية الناشرة للأدب والفكر، وخرجتْ النساءُ للصناعة، وجاء عصر الديمقراطية في نهاية القرن الثامن عشر الأوربي.
تعددتْ الموادُ الخام وصناعاتُها وأغنتْ أمريكا الموادَ الخام بشكل أكبر وخرج مهاجرون كثيرون وأصبحت الصناعات بين قارتين، مما جعل مصطلحَ الغرب الصناعي يتكون ويخرج للغزو وجلب المواد الخام الأكثر والأكثر تنوعاً.
العالمُ العربي وهو يعيشُ على مادةِ خامٍ واحدة أو على موادٍ خام قليلةٍ فينحصرُ في بُنى إجتماعية محافظة تقليدية، ويفتقر على مستوى تنوع خامات الصناعة وعلى مستويات العاملين فيها، ومن هنا هو يعيش بين مرحلةِ التنوير الفاشلة ومرحلةِ التثويرِ العائدة للوراء.
البُنى المحافظةُ الاجتماعية، ومستوى الثقافة(النصوصية) السائدة تجعلهُ غيرَ قادرٍ على تثوير المواد الخام، والانتقال للصناعة الآلية والتقنية الواسعتين.
ولذا يغدو مستوى معالجته لفهم الأديان مستوى نصوصياً، بمستوى الحفظ وتجزئة الفقرات وتصعيد جمل مقطوعة من سياقاتها، والتركيز على أحكامٍ تعود لعصورٍ خلت، بدلاً من الغوص فيما وراء النصوص وإدراك السببيات العميقة لها.
فهو غيرُ قادر على إستثمار ثروته البشرية السكانية الواسعة، لكي تعالجَ موادَهُ الخام معالجات عميقة، فتجعله صناعات متطورة، ودقيقة، ومتغلغلة في الأسواق العالمية، فهو يعيشُ على كفاف الطبيعة مرةً تعطيه قطناً يحوله الآخرون لصناعاتِ نسيج تتطور بشكل مستمر، ومرةً تعطيهِ نفطاً فيصدرُهُ للآخرين يحولونه لثروات صناعية وتقنية متقدمة.
يجعلُ ثروتَهُ السكانيةَ معطلةً بأشكال مختلفة، مرةً على هيئةِ نساءٍ محبوسات في عصر الحريم، ومرةً على هيئةِ رجالٍ ونساء متكدسين في الوزارات الحكومية المختلفة، ومراتٍ على هيئاتِ شباب عاطلين وضائعين وعنفيين.
إضطرابُ العالم العربي بين التنويرِ التحديثي والتثوير السحري نتاجُ هذا الاقتصاد الخام، لم يكون الصناعات الثورية التي تجعل جماهيره قادرة على الدخول في عصر الديمقراطية، فدخوله للديمقراطية يجري عبر الاستبداد الديني، فربما أدتْ الديمقراطيةُ السياسيةُ القائمة على الطائفية والمحافظة الاجتماعية وغيرُ القائمة على ديمقراطية المصنع والمعهد العلمي والعلمانية لرجوعه للوراء وتخريب ما صنعه السابقون.
حداثةٌ وديمقراطيةٌ بدون تصنيع متطور واسع، وبدون كسر سيادة المادة الخام والخرافة الناتجة عنها والذكورية والقبلية وأخواتها المعششة في الأبنية الاجتماعية، هي مرادفة لمرحلة المانيفاكتورة الأوربية في تلك القرون التحضيرية للثورة الصناعية الديمقراطية، فكانت قريبة من العصور الوسطى وتجاوزتها، والتي لم تنتقل إليها إلا عبر الصناعة الآلية الجماهيرية.
وحتى الانتقال للصناعة الآلية يحتاج لتطورات كبيرة في حقوق الإنسان وثقافة الجماهير ومن هنا نحن نقترب من الدخول في العصر الحديث، لكن عبر قيادات طليعية ديمقراطية تقرأ بموضوعية أسس التطور الاجتماعي الحديث وتدفع باتجاهها لا أن تخالف المسار البشري العام.
لكن بدلاً من ذلك يحدث العكس!
فتجد القوى التقليدية جمهوراً أكبر مؤيداً لها في العلميات السياسية، لكن من أجل أن تكرسَ كسلَهُ وتقليديته وسيطرات متخلفة فيه، فتستغلُ أصواتَهُ لبقائهِ في أوضاع يريد أن يتجاوزها لكنه لا يعرف كيف، ويدركها عبر نصوص دينية مُبسّطة الفهم لديه، فيريد أن يحصل على تطور ومعيشة جيدة بدون أن يتغير بعمق في عاداته العملية وقراءته الفكرية وأصواته السياسية.
هذا الجمهور هو الذي يحدد التطورَ القادم وهو يعيشُ في الماضي، فيجرب في بلدانه وحياته.
22 ــالعربُوفشلُالتجريبِالسياسي
صراعُ الإقطاعين السياسي والديني إمتد طويلاً خلال العقود الأخيرة.
كلما جاءت قوةٌ سياسية للسلطاتِ العربية لم تستطعْ أن تنشرَ الحرية والديمقراطية والإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية، فهي ترثُ إمتيازات السابقين وربما قامتْ ببعض التغييرات لكنها ترثُ نفسَ أجهزة الدول السابقة بلوائحها وموظفيها ودورها المتنفذ.
الانقلابات العاصفة والانفجارات الكلامية السياسية خلال عقود وتحرك الملايين الهادرة في الشوارع، لم تُحدث تغييراً عميقاً، الإقطاع الجمهوري السياسي يرثُ الملكيَّ، أو ينسخُ الإقطاعُ الجمهوري نفسَهُ عبر إنقلابات يكررُ نفسَ النظام الانتاجي الاجتماعي السابق.
حين تصعد فئاتٌ متوسطةٌ تظهر لا على أساسِ الانتاج بل على أساس علاقاتها مع الدول والأجهزة.
الأفكارُ الليبرالية والديمقراطية والإسلامية التحديثية تظلُ في داوئر ضيقة غير متغلغلة جماهيرياً لأنها لا تقوم على أساس طبقات رأسمالية حرة أنتجتْ رساميلَها من السوق الاقتصادية.
القوى الانتاجية الشعبية تظلُّ بدون إصلاحاتٍ فالأريافُ تعاني الفقرَ والملكيات الزراعية الواسعة المتخلفة في أسلوب الإنتاج حيث قلة المكائن والعمال الأحرار، أما القطاعات العامة التي تزدهي بها الأنظمةُ وتصنعُ مواداً أولية تعبرُ عن مكانة الدول حسب سعر المواد لا حسب قوة الإنتاج، فإنها تتعرض لنفس الطفيليات الاقتصادية، وبهذا فإن القطاعات الاقتصادية المختلفة تعيش ما قبل الحرية.
مرت الدولُ العربية بثلاث ثورات حتى الآن، فكانت الثوراتُ الليبرالية في البداية، ثم الثوراتُ العسكرية، والآن الثورات الدينية.
الليبرالية حاولت قصقصتْ أجنحةَ الإقطاع ثم أنزلقتْ هي إلى حضنه، فكان ملاكُ الأراضي العرب وهم حضن الليبرالية والذين يقيمون مصانعَ على ضفاف الزراعة مالبثوا أن تكرسوا كإقطاعيين أكثر منهم برجوازية صناعية.
الحداثة الصناعية تتطلب ثقافة سياسية علمية تقنية مكلفة، والمصانعُ ذات دورات رأسمالية مطولة، وهذه المصانع الخاصة كانت تُجابه بصراع سياسي نقابي طفولي في أغلبه، والتوجه للرساميل العقارية والخدماتية أسهل وأجزل، وبالتالي تغدو العودة للإقطاع قوية.
إضافة إلى أن إقامة ثورة إنتاجية ثقافية علمية أمر مكلف وخطير.
المرحلة الثورية العسكرية قامت بتأميماتٍ وهيجان سياسي كبير وقالت بأنها ستغير الملكيات الزراعية الكبيرة وتنقلُ الأريافَ العربية للتحديث والغنى الاقتصادي لكنها لم تفعل ذلك عبر إعتمادها على نفس المكائن الحكومية القديمة التي تسربت الثروات إليها وبدلاً من الباشاوات صار الضباطُ الكبار باشاوات.
الثوراتُ الدينيةُ الراهنة عكست فشل قوى التحديث العربية بل كانت صفعات إجتماعية سياسية على وجوهها، الجانب السياسي من الدول الذي عكس الإقطاع السياسي، أتضح فشله ولكن ليس لخطوة للإمام بل للوراء. لم يقم بتراكمات ديمقراطية إجتماعية عميقة في الأبنية.
الإقطاعُ الديني يصعدُ من خلال هذه الجماهير العريضة المحطمة عيشاً ووعياً، ويستولي على نفس المكائن القديمة، ويريدُ شحنَها بزيته الخاص.
الدكتاتوريات تغدو دينيةً هذه المرة، وتظهر شرائح طائفية كل منها ضد الأخرى، مثل اللصوص الذين أتفقوا على الجريمة لكنهم إختلفوا بعد الحصول على الغنيمة.
وكل يوم تتفجر قضية دينية بشكل، وتنجرف كتلُ الجماهير للصراخ والعنف وتكرر ما فعلتهُ جماهير الخمسينيات والستينيات من غضب ولكن بأشكال أكثر فجاجة.
إعتمدت الجماعاتُ الدينية على حشد الغوغاء، وهي هذه الجماهير المُدمَّرة من تنميات رأسماليات حكومية غير مخططة ولا عادلة، ويتم صناعة هذه الجماهير مثل الجماهير الشمولية السابقة بالشحن والجمل المقطوعة السياق عن العلم وعن الدين، وبالهياج العصبي، والعنف المدمر.
كتل الثورات الثلاث، وجماهيرها، وثقافاتها مدعوة لرؤية الماضي والحاضر، ونقد تاريخها، ومعرفة سببيات تدهور مشروعاتها التحويلية وإستبدال آرائها وخطاباتها بقراءة موضوعية للواقع والتعاون الآن خاصةً بعدم التفرد السياسي، وبضرورة المشاركات الواسعة ورفض الاستقطابية الطائفية التي هي مكمن الضعف في المشرق العربي الإسلامي، والإستقطابية الدينية في مصر التي هي مكمن الخطأ التاريخي الوطني فيها.
ثوراتٌ تجريبية مكلفة كثيراً ولم يزل العربُ في مكانهم الأول في بداية القرن العشرين. وهم مرة أخرى أمام الحل وهو الديمقراطية الغربية العقلانية.
23 ــهليسرقالإقطاعُالدينيالثوراتالعربية؟
هناك وجوه شبه عديدة بين الثورة الشعبية الإيرانية وسرقتها من قبل الإقطاع الديني والثورات الشعبية العربية التي تكاد تُسرق.
واجه العائدون من المنفى والجماعات الدينية المحافظة الإيرانية شعباً جباراً إنتزع نظاماً دموياً وفيه قوى يسارية وليبرالية عديدة ونشطة، وكانت كل هذه الكتل تجعل حضور الدينيين المحافظين ضئيلاً، فكيف إستطاع هؤلاء إقامة دكتاتوريتهم التي فاقتْ عسفَ الشاه؟
علينا أن نرى أولاً البنية المحافظة القومية التي أُسستْ من قبل الأنظمة السابقة، إنها قد بدأت منذ قرون، عبر العزلة الإيديولوجية الصارمة عن المحيط الإسلامي، وتغذية التعصب الطائفي ونشر الأساطير وتنمية الأدوات العسكرية في الهيمنة والتوسع الجغرافي وضم القوميات الإسلامية الأخرى وقمعها.
فجاء التحديثُ من قبل الشاهين الأب والابنِ سطحياً ومن خلال نفس الأدوات الحاكمة، فهو إصلاح يتوجه لتطور التعليم والجيش وشيء من الحريات الاجتماعية، لكن نظام المحافظة والسيطرة على النساء والقوميات الأخرى والعقول وتشكيل برلمانات غير معبرة ديمقراطياً وتبادلياً للسلطة، إستمرت بقوة معبرة عن رفض الطبقة العليا الإقطاعية القومية الفارسية للتحديث الديمقراطي، ولهذا إنتشرت الأفكارُ الفاشية وتغلغلتْ بين المجموعات الدينية السياسية المتنفذة. وليستْ شعاراتُ الدينيين سوى السطوح الخارجية لهذه الفاشية الدينية التي تغلغلتْ وخلقتْ التعصب وروح المغايرة عن المسلمين والبشرية.
ظهر ذلك في بروز الصراع بين الليبراليين من جهة والدينيين الفاشيين من جهة أخرى يعاضدهم حزبُ تودة (الشيوعي) وجماعات مجاهدين والفدائيين.
كانت شعارات الدينيين المعادية للحداثة والديمقراطية والأنسنة تتغلغل فحتى في إحتفالات الطلبة الإيرانيين في أمريكا وأوربا إنتشر العداء للغناء والرقص والفنون الحديثة، وبدأت الألبسةُ القمعيةُ تُفرض على البنات الحديثات كشكلٍ من أشكالِ السيطرة على تفكيرهن وليس بدعوى الأخلاق، وأُيدتْ إجراءاتُ القمع من قبل الحكومات الشمولية في الشرق بدعوى نضالها ضد الاستعمار!
ومن هنا تسارعت في الاحتفالات الأولى بإنتصار الثورة الإيرانية عملياتُ الإعدامات بدون محاكمات أو بمحاكمات صورية وأثارت هذه المذابح العالمَ فقال الخميني ببساطة (أتعطى حقوق الإنسان لهذه الحيوانات؟).
وتتالت الإجراءاتُ؛ إغلاق الصحف الديمقراطية المختلفة، والهجوم على حريات النساء المحدودة، وعزل الليبراليين من السلطة، وإبعاد رجال الدين المناوئين للدكتاتورية، وتشكيل الفرق العسكرية من العامة المتحمسة طائفياً ثم حل الأحزاب بعد ذلك.
وفي هذا الهجوم كان بعض اليساريين المزعومين يدافعون عن هذه الإجراءات، فبالنسبة لحقوق النساء يقولون: ليس المهم حق المرأة البرجوازي الفردي بل نضال الشعب ضد الاستعمار والغرب!
غض (اليسار)عن عمليات تآكل القشرة الليبرالية الديمقراطية الإنسانية الضئيلة لنظام الشاه، ولم يقم بجبهة عريضة ضد تنامي الدكتاتورية.
وتلعب مشهدية (السفارة الأمريكية) والهجوم عليها في طهران دوراً متشابهاً في تصعيد قوى الفوضوية والعنف كما حدث عربياً، فقد عبرت لغة (وكر الجواسيس) كما كان يُطلق على السفارة الأمريكية المستباحة عن خطط لإثارة مشاعر الجمهور المسيّس الطائفي ودفعه ليكون أداةً للقمع الشامل ضد الشعب وللحرب.
كان إستغلال العقيدة ومظاهر العبادات لتكوين نظام دكتاتوري إيراني يتم بشكل واسع وساحق، في كافة المظاهر من مراقبة ومهاجمة ملابس وزينة النساء حتى تشكيل فرق مسلحة تسيطر على الأحياء في كل المناطق.
الأوضاع العربية تختلف ولا شك، ثمة دول متعددة، المركزيات الساحقة في كل دولة ضعيفة، لكن يمكن تصعيدها عبر الشحن الديني لكون هذه الفئات تتوجه نحو مراكز الثروات وتوزعها بين جماعاتها، فتكّون طبقات إستغلالية جديدة، وبالتالي تدافع عن مصالحها بدعوى الدين، وقد لاح ذلك في تصعيد جوانب متعددة من المظاهر العبادية كأشكال حادة مناوئة لبقية المسلمين والمواطنين، ومنع الاحتفالات الثقافية والمعارض الفنية، والاعتداءات المسلحة على السفارات وقتل موظفيها البارزين، والهجوم على النساء في حرياتهن وخصوصياتهن، وخاصة الممثلات، وإستخدام مراكز العبادة للسيطرة الحزبية.
هذه وغيرها مؤشرات لعمليات التصاعد وهناك قوى متعددة تريد عدم نجاح الأنظمة الجديدة في ديمقراطيتها وإنهاضها للشعوب العربية والأمم الإسلامية.
24 ــالمَلكيةُوالجمهوريةُوتناقضاتُالوضعِالعربي
الأشكال السياسية للعرب من أنظمةٍ وأحزاب تعبرُ عن طابع سياسي هلامي، ليستْ له جذورٌ راسخة، لكون العلاقات الاقتصادية الاجتماعية في برزخ الانتقال بين الإقطاع والرأسمالية فلا هي إقطاعية ولا هي رأسمالية، وهي مختلطة ومتناقضة.
الثورة الفرنسية التي توجهت للجمهورية لم يكن لها جذورٌ لحكم الجمهور، لقد كانت قفزةً في الهواء التاريخي، فالنظامُ الإقطاعي لا يزال قوياً، والنظام الرأسمالي لم يتكون بعد.
ولهذا اعتمدت الجمهوريةُ على العنف والفوضوية وحاولت ترسيخ مبادئ المساواة والتقدم بأشكال أيديولوجية شعارية.
كما قفزت على الأوضاع الأوربية القارية، حيث تسود المَلكيات، مما أدى إلى حروب ضارية رهيبة بين الجانبين.
لهذا فإن الشكلين السياسيين وما معهما من حزمة سياسية تعرقلا معاً، وظلت المعركة بين الملَكيين مؤيدي الإقطاع والأحرار مؤيدي الجمهورية والتحديث غير محسومة حتى تصاعدت التطورات الرأسمالية خلال قرن فغدت العلاقاتُ الاقتصادية الاجتماعية الناتجة عنها أهم من الأشكال أو أنها دمغتها بمضمونها.
ولهذا فإن العرب المجددين في إختيارهم الأشهر الفرنسية للثورة في يوليو كانوا ينقلون نفسَ المستوى المتخلف لفرنسا الإقطاعية إن لم يكن أكثر، حيث المقدمات النهضوية أقل بكثير.
وعلى عكس فرنسا فإن العلاقات البضاعية الحرة لم تُعتبر خارج الصراع السياسي العربي الجمهوري، فالجمهورية لم تكن ثورة جمهور بقدر ما كانت إنقلابَ عسكر. وقد حاول بعض العسكر أن يحركوا العلاقات التقليدية في جوانب شتى، بنشر الثقافة وجوانب من الحرية والتطور الاقتصادي، لكن الدكتاتورية الجمهورية لم تستوعب طبيعتها الطبقية ككيانٍ يفترضُ فيه تعميق التطور الاقتصادي الحر، أي مساعدة الطبقة الوسطى والطبقة العاملة المنتجتين في الصعود الكبير، لكن إنشاء صناعة مسيطر عليها حكومياً، ومحدودة وغير مرتبطة بتحويل القوى ما قبل الرأسمالية الريفية والبيتية والحرفية للتصنيع جعلت الجمهوريات مثل الجمهوريات (الاشتراكية) بلا جمهور تحديثي ديمقراطي، ولهذا ظل الجمهور يعيش في الإقطاع فيغدو الإرث الطائفي المحافظ هو المسيطر عليه.
وفي حين أن الأنظمة الوراثية ظلت في نفس العلاقات التقليدية لكن بعضها لم يضع العقبات لنمو الفئات الوسطى والعمالية الوطني الحرة، ولهذا ظلت الأحزاب تتنامى والتراكم الديمقراطي أكبر من الجمهوريات.
ولهذا فإن الجمهورية بشكل طائفي محافظ تغدو أسوأ، فبدلاً من أن يجري تحرر الريف والنساء التحديثي وتنامي حريات الجمهور يفرض الريفُ تخلفَه على المدن.
ولهذا فإن الأشكال المستعادة من القرون الوسطى والتي تتشنجُ في الأرياف والبوادي والتي تتجسد في حكمِ أمير الجماعة المطلق، وتحويل النص الإسلامي التوحيدي النهضوي لنص طائفي حربي، لا يمكن أن يتجذر تحديثياً فهو يعود للوراء.
وهذه الأشكالُ المتخلفة المستعادة من القرون الوسطى تشير كذلك إلى جوانب النقص في الجمهوريات والمَلكيات العربية وعدم قيام الأشكال السياسية بمد الجسور البنائية الاقتصادية مع المناطق الفقيرة الزراعية والرعوية والحِرفية وجذبها لدوائر التطور الاقتصادي، الذي يغدو بأشكال رأسمالية حكومية وخاصة إستغلالية عبر هيمناتِ المراكز غير المُرَّاقبة ديمقراطياً، وهو أمرٌ يفككُ تلك المناطق ويفقرها ولا يقدمُ لها البديلَ الاقتصادي العصري.
إن عمليات رجوعها الحادة للإرث الماضوي التي تنعكسُ في فوضى المرجعيات ومغامراتها وتضخم إمارة الفرد أمير الجماعة المطلق تعبرُ عن هذه الاختلالات في الهياكل الاقتصادية الاجتماعية الوطنية، وهو شكلٌ لا جمهوريَّ ولا ملكي معاً ويعيدنا للقَبلية الرعوية وغزواتها وهو أمرٌ يبين ضخامة الاختلالات في الوضع العربي الإسلامي.
25 ــالربيعُالعربيإضطراباتٌضدأسلوبِإنتاجٍمتخلف
عبرت أحداثُ الثورات العربية عن إحتجاجاتٍ لم تبلغ مستوى الوعي تجاه جذور المشكلات التي تعاني منها الجماهير العربية.
الأسلوب الانتاجي المعتمد على تصدير مادة خام تعرقلَ أكثر بهيمنة رأسماليات دول شمولية التي هي تعبيرٌ عن تضييع فائض القيمة على النُخب البيروقراطية الحاكمة والأحزاب الحاكمة الجماهيرية، وكلما كانت هذه الآليةُ قويةً إستنفد أسلوب الانتاج نفسه أكثر.
ربما كانت المادةُ الأولية هي الفوسفات أو البترول أو حتى القات أو مجموعة من المواد الصناعية والزراعية، وهي تعطي أسلوباً شبه موّحد لدى هذه الدول، حيث أن المادةَ الخام لا تشكلُ شبكة صناعية إجتماعية سكانية واسعة، فلا تعطي مجالاً لصناعات شعبية تلغي البطالة الواسعة، ولا تدمج الشباب القوة الرئيسية في الانتاج والعلوم في الاقتصاد، وهذا يترافق مع تحجيم القطاعات الاقتصادية الحرة والانتاجية الصغيرة، ومع علاقات إجتماعية أبوية، لا تتيح لعمل جماهيري ذكوري متطور فدع عنك الحضور النسائي المأزوم، وهذا يردفه وعي طائفي ديني محافظٌ يقتاتُ على سببياتِ الحِرف لا معرفة القوانين الكبرى للوجود، وكمثالٍ على هذا ما طُرح في وعي المعتزلة منذ ذلك الوقت، فيقالُ من صَنع الطاولة؟ فيكون الجواب هو النجار ومن صنع الكون؟ فيقال هو رب العالمين.
لهذا فإن الوعي المذهبي السياسي المكون بهذه العقلية هو الذي يقفز للسلطات ويعيش إجابات الحِرف، لا أسئلة الصناعات الكبرى والثورة التقنية والعلمية.
فلا يدرك أن أسلوب الانتاج المتخلف هو سبب أزمات الإسكان والانحراف الأخلاقي والأدمان لا الأخلاق والحداثة والتغريب!
شبكةُ صناعات كبرى جماهيرية هي نتاج تراكمات إقتصادية وسياسية تنموية تستطيع حتى رأسمالية دولة شمولية كالصين أن تقوم بها عبر التخطيط خاصة مع توفر قوى العمل الشعبية غير المكلفة كثيراً.
وحتى بدون مادة خام كبرى مهيمنة يمكن إطلاق قوى العمل، لكن شبكات البيروقراطية العربية إتحدت مع مذاهب سياسية محافظة متخلفة حجّمت من قوى العمل الجماهيرية وإفتقدت الحيوية في أجهزة الدول.
أسلوب الانتاج المتخلف عبر سيطرة المادة الخام الرئيسية يتواكب مع قطاعات إقتصادية مفككة، فليس هناك جهاز دولة ديناميكي يستطيع أن يخلق تعاوناً بين هذه القطاعات ويطلق طاقاتها ويخلق خططاً عبر دراسة السوق وظروف التصدير.
المشكلة ليست في الرئيس أو الحزب الحاكم المشكلة في أسلوب الانتاج وهو الذي شكلَّ الرئيس والحزب الحاكم، فعبر فائض إقتصادي وجمود الهياكل الاقتصادية وتوجه الفوائض للرساميل العقارية والخدماتية، يتقلص أسلوب الانتاج حتى يضمر ولا يستطيع أن يلبي كل متطلبات القوى الحاكمة وتبذيرها وسوء إدارتها.
بين السببياتِ المولِّدة للانفجارات والوعي بها مسافاتٌ كبيرة، فأغلبُ الوعي أتجه إلى النتائج لا إلى الأسباب، والوعي الشعبي ووعي النخب، تقلصت الفوارق بينهما، بالتركيز على النتائج التي يجب أن تتغير وترك الأسباب المسببية للنتائج.
غدت المعارك حول الرئيس والدستور والحزب الحاكم وهل هو حزب ديني أم علماني، لا أن يتوجه الصراع حول مَن لديه خطة لتغيير أسلوب الانتاج المريض، ومن يقدر على إدارة البلاد بكفاءات نزيهة حصيفة تتجه لمولدات الانتاج الضعيفة والمعطلة وتحركها.
وكم يقدر هذا الحزب على تفعيل الانتاج بدرجة ثلاثة أو درجة خمسة وتكون نتائجه في تشغيل الناس كذا، فيعرف معدلات الأجور والأسعار والإدخار، والحزب المنافس يطرح أرقاماً مسئولة أخرى وتكون المباراة حقيقية في صناديق الاقتراع ونتائج الانتاج.
بهذا تحولت الثورات إلى إضطرابات فلم تحدث نقلة في الطبقة الحاكمة للرأسمالية الحكومية البيروقراطية المتكلسة، التي يجب هي كذلك فصلها عن الإدارة وتوجيهها للعمل والانتاج الخاص لا للتحول إلى عدو يتسلل كما حصل ويصير جزءً من الأحزاب الدينية الحاكمة عبر تغيير ديكور وجهه ووضع مسبحته في يده.
تراكضت الإداراتُ نحو إستغلال الشركات العامة للشركات الخاصة وتضييع الفوائض الاقتصادية على الجماعات الحاكمة وبقاء نمط إنتاج المواد الخام وبقاء التخلف والأمية والثقافة الاستهلاكية السوداء مما ينتج جماهير أكثر تخلفاً وغضباً وفوضوية!
26 ــالعربُونقدُالواقع
أعتمد الوعي العربي على عدم نقد الواقع الكلي، وهو الواقع كنظام إجتماعي معرقل للتطور، وتوجه لصورٍ جزئية ماضوية وحاضرة ومشكلات جزئية، يكررها أو يرتفع عنها للخيال، متجمداً أمام واقع لا يتوقف عن الحركة، ويزداد تعقيداً فيما يوارب الوعي ويتوقف عند الظواهر الثانوية.
في الوقت الراهن تنفجر القضية من خلال جذورها الدينية التاريخية غير المُحلّلة، غيرالمنقودة بعمق، مع بقاء نفس النظرة الإيديولوجية الزائفة في رؤيتها والمدعية فهم الواقع والتعبير عن الناس.
شكلان إقتصاديان إجتماعيان متقاربان يضم الفرقاء المتصارعين: رأسمالية حكومية تغدقُ أغلبَ الفوائض على جماعة، ورأسمالية دينية تقوم بنفس التصرف.
هذا الشكلان يعبران عن مستوى واحد من العلاقات الانتاجية والاجتماعية، فالعرب والمسلمون في قارب تاريخي واحد، لكن يحدث صراع بدائي بينهما يتسم بسمات الأنظمة ما قبل الرأسمالية ومشكلاتها.
ثمة فوارق جزئية هنا وهناك: تشدد ديني في جهة، وتشدد أقل في الجهة الأخرى.
هيمنات عسكرية متماثلة وضياع موارد في تسلح وصراع وحروب.
لكن المناظير الإيديولوجية تصور الفريقين وكأنهما مختلفان جوهرياً وكلٌ منهما حسب نظر أصحابه يعبر عن الحقيقة والتطور والمصلحة الشعبية والدين.
أعتمد النظر عند الفِرق والتيارات العربية الدينية على فرضِ منظور إيديولوجي خارجي على الواقع وعدم قراءة الواقع.
كالخوارج أرادوا حكم المدينة عبر شعيراتٍ دقيقة ملتهبة من الأحكام والجمل الدينية الباترة.
وقام المعتزلةُ بصناعة جملٍ عقلانية صغيرة لرؤية الواقع لكنها جملٌ محدودة تتوجه للبناء الديني وتعزله عن الصراعات الاجتماعية والاقتصادية، فكان هذا يجعل نقدهم المحدود يتضاءل في قيمته، ويعجز عن الامتداد في قضايا المال العام والخراج والجزى وتوزيع الدخول على الناس حتى تنقطع أنفاسهم النقدية وتتركز أنظارهم على جيوبهم.
هذا ما يفعله معاصرون في تعميمهم لسمات الدول العربية وإلغاء جذورها في البُنى الاجتماعية والهياكل الاقتصادية التي تجمعها في سماتٍ بيروقراطية شمولية وتوزيعاتِ دخولٍ متخلفة وغير عادلة وكلها تحتاج للالتحاق بنظم العالم الديمقراطية الحداثية.
وهكذا فإن الصراعات بين التيارات السياسية تتركز في هذه الخنادق الضيقة، فأغلبها لا يقبل أن ينضم للديمقراطية المعاصرة العلمانية، مبعداً قسماً إجتماعياً وإمتيازات معينة وثقافة فكرية عتيقة عن النقد وعن ضرورة التغيير.
فرقاء حداثيون يكتشفون في مجرى الصراع السياسي أن الجماعة التقليدية غير ديمقراطية وغير وطنية وأنه يجب إبعادها عن الحكم.
والجماعة التقليدية بقيت طوال عقود تكرسُ نفسَها في تنمية الدكتاتورية وخلق عامة عنيفة، لكن النصوص الحداثية الوطنية لم تعالجها نقدياً وتعريها سياسياً فأنتشر وعي زائفٌ لدى الجمهور عن هذه الجماعات: الغائبة عن النقد.
الجماعة الحداثية نفسها منزلقة للتقليدية والانتهازية والمناورات السياسية مع الجماعات التقليدية وينفجر صراعها مدمراً أوضاعاً وكتلاً مختلفة وتكتشف أجنحةٌ متعددة إنها تتحطم وتنشل سياسياً فجأة.
يعبر التجريب في اللحم الشعبي عن الانفصال بين النخب الفكرية السياسية عن العلوم والواقع، وعن نموها الشمولي وعدم إقامة علاقات فكرية حوارية ونقدية مع الأجسام الشعبية المختلفة، فكرست نفسها في التكوين الشللي والعصبوي والمنفعي، وحين تنمو ديمقراطياً بشكل فعلي يعتمد هذا على طبيعة الأفكار السياسية التي تتبناها ومدى ديمقراطيتها وكشفها لحقائق الواقع وعدم صدورها عن إيديولوجية شمولية متيبسة وبضرورة علاقتها الحية مع الجمهور، ولهذا تصبح مسائل تحويل الواقع بالغة الصعوبة وبحاجة لمنجزات العلوم الاجتماعية ولمناضلين مفتوحي العقل لفهم الواقع ونقد الذات والتاريخ السابق واللاحق.
السلطة الكلية العربية الغائرة الممتدة تاريخياً للزمن التقليدي وهياكلها الاقتصادية الاجتماعية تُضفي على القبائل والجماعات والفِرق والتيارات مضامينَها الغائرة المسيطرة، مضامين هيمنة الذكور وملاك الأرض الكبار والموارد، وهيمنة النصوص المسبقة والتفسيرات الذاتية المرتبطة بأشكال إنتاجية مقيدة ومحدودة.
وكلما تأخر تحويل تلك البنية كلما أهترأت أشكال الوعي وتعقدت المشكلات وتنامت، كما من الصعوبة أن تنفصل أشكال الوعي التقليدية عن مصالحها ولهذا تغدو المكشلة تاريخية معقدة.
27 ــمنتجاربالأحزابِالعربية
يغرق النظام التقليدي المستعاد من العصر الوسيط في أزماته العميقة، وقد رأينا في حلقات (العصبية والعمران) كيف قام الحكم البريطاني في العراق كنموذج عربي حاد في إنعاش العديد من العلاقات الإقطاعية وتصعيدها.
سنرى بشكل ملموس كيف يعود النظام التقليدي والمجتمع يتفسخ ويعود للوراء، أو كيف أن التشكيلة العتيقة تزدهر بكل تقاليدها الرهيبة.
إن القوى السياسية المعارضة ذات أهمية كبيرة في المقاومة المفترضة لهذه التركيبة المحافظة البالية، وهناك قوى عديدة تعود للمعارضة ولكن أبرزها الاتجاهان(الشيوعي) و(القومي العربي).
وقد رأينا كيف أعتمدا على الجمهور الشعبي وعلى قوى العشائر، وفي حين نهضت قوى المعارضة اليسارية على الجمهور العامل كانت تتعرض للضربات في حين كان الاتجاه القومي يبرز في أشكال عسكرية بارزة فاشلة في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي ويتعرض للنكسات والاضطهاد.
ظهر الاتجاه الشيوعي معتمداً على حلقات مثقفين وتبلور بشكل جيد في لجنة مكافحة الاستعمار مركزاً على النضال الوطني، ولكنه فيما بعد ركز على تصعيد الاشتراكية وإنتصارها.
جاء في العدد الأول من نشرة الحزب الشيوعي العراقي السياسية:
إنه (يعتمد القوة والعنف لأنه يعلم جيداً أنه ليس هناك دولة أمبريالية تعطي بمحض إرادتها الحقوق للشعوب المستعبدة كما أنه ليس هناك طبقة تتخلى عن إمتيازاتها سلمياً)، (فهد والحركة الوطنية في العراق، دار الكنوز الأدبية، ص 164).
إن النضالات التي خاضتها الجماعة لتنوير الشعب وتصعيد إرادته الوطنية كبيرة، لم تقم خلالها بدرس التشكيلة وتاريخها ومشكلاتها الراهنة وكيفية تغييرها، فلقد كان الارتباط بالاتحاد السوفيتي مُسوقاً لأفكار سياسية وتنظيمية وفكرية جاهزة، وكان القالب الذي رست عليه تجربة رأسمالية الدولة القومية الروسية هو تصدير تجربتها كتجربة إشتراكية قادرة على حل تناقضات الشعوب وتجاوز المرحلة الرأسمالية.
كان هذا مهماً للدفاع عنها والهجوم على القوى الغربية.
كانت التجربة الروسية وقتذاك بين الثلاثينات والاربعينات قد عَبرتْ المخاضَ الأولي الذي حول الثورة القومية الاجتماعية بتضحيات الجمهور الشعبي إلى رأسمالية دولة ذات توجهات شعبية نهضوية واسعة سيطرت فيها القوى الإدارية والعسكرية العنيفة بحيث غدا النهج الشمولي هو المعبر عن هذه الماركسية الشرقية التي غدت نسخة للعديد من التجارب.
فيما كانت بريطانيا ترسخُ الإقطاعَ كانت روسيا تطرح قفزة(الاشتراكية). لهذا فإن الموديل التسريعي لسحق الإقطاع والبرجوازية سيكون هو المهيمن على قيادة الحزب العراقية المتحولة لهيمنة فردية شبيهة بالمركز. وهذا الأمر الذي صعّد الصراعات الخطيرة كاعتقال الضباط اليساريين وتصفية بعضهم والقيام بهجماعات قمعية شديدة على الحزب.
لم يكن بإمكان الحزب وقتذاك التغلغل في الجيش العراقي وهذا كان من نصيب الجماعات القومية.
كانت حركتا بكر صدقي رشيد عالي الكيلاني تعبيرين عن تصاعد نفوذ زعمائر العشائر وقوى الإقطاع البدوية خاصة في الأجهزة العسكرية والحكومية وهم الشكلان السريعان اللذان لم ينجحا كمغامرتين لكنهما عبرا عن بداية التواشج بين قوى السنة البدوية وجهاز الجيش، وهو أمر تُوج بعد ذلك في تجربة البعث.
بعد القرن العشرين دخل العراق مرحلة تحلل، وكانت ثمار التواشج بين العشائرية ذات الجذور الإقطاعية والجيش، بين التقاليد والظروف التي لم تخضع لتحولات ديمقراطية وبين قوى العسكر، تكونُ رأسمالية الدولة العسكرية الدموية.
إن هذا التتويج للانهيار الداخلي المديد يعبر عن إنتصار العَصبية على العمران، وهيمنة النزعات العنيفة على قوى الحوار، وقوى العشائر والطوائف المحافظة على القوى المدنية.
لقد كانت رأسمالية الدولة العسكرية التي شارك في تكوينها اليسار واليمين الشموليان، عبر حلقات التاريخ السابقة، تعتمد مغامراتها على الدكتاتور، على زعيم العصبة، وجماعته، حيث أنسد التطور الداخلي أمام بصيرته السياسية الضعيفة، فلم ير سوى المغامرات الداخلية والخارجية، فراحت الدولة العراقية تتحلل وتعود لمكوناتها الطائفية والعشائرية والمناطقية.
28 ــالقبائلُالعربيةُوالتحلل
تكونت القبائلُ العربية على أسسٍ موضعية ضاربة في القدم، مشكلة سمات خاصة لهؤلاء القوم بتداخل الصحراء وظروف الاقتصادية والعيش الاجتماعي.
وإذا جعلت قدراتهم في العمل الانتاجي محدودةً متجهين للرعي والحرف والزراعة والغزو والعيش على سطوح الانتاج، فإن تجذرهم في التشكيلات التاريخية سيكون حسب نسب العمل ومدى مشاركة السكان في الانغراس في الانتاج.
لهذا فإن المرحلة الاسلامية المؤسسة القائمة على فعل التجارة التاريخي ستكون وامضةً، غير مسهمة في تحلل القبائل لتكون مجتمعاً منصهراً، ولهذا فإن صراع الطبقات الذي يعيدُ تشكيل هذه المكونات البشرية الترحالية في شعبٍ منصهر لن يكون له تغلغل عميق.
في التشكيلة الاقطاعية حيث حكم الأسر الارستقراطية تسيطر هذه التشكيلاتُ السكانية على البلدان المفتوحة وتتبدل من تجار إلى ملاكِ أراضٍ سياسية وخاصة ستقيم تجمعاتها السكانية وسيطراتِها المدنية وستغزو وتقوم بما كانت تقوم به في جاهليتها من قطف ثمار السلع بدون إنتاج، معتمدةً على جماعات من الأمم الأخرى لتقوم بحِرف الثقافة والمهن المختلفة حتى يظهر من أبنائها بعد عقود من يدخل في هذه الانتاجية التاريخية البطيئة.
لكن الأمم التي أسلمت تردُّ العربَ إلى مناطقهم، وتتغلغل فيها، وتفرضُ سيطرتها على مناطق الأطراف الشرقية. فيظهر تحلل العرب بشكل أوسع، وتتفكك القبلية في المدن، وتتعدد المستويات الاقتصادية بينها.
تقوم العلاقات التجارية والمالية بتفكيك القبلية ولكنها لا تصل لمستوى الرأسمالية الواسعة، وتظل الكيانات القبلية في جمودها التاريخي حتى الرأسمالية المعاصرة التي هي الأخرى لا تحقق التطور الواسع الناجز لاستمرار الهياكل الاقتصادية الحِرفية والزراعية مسيطرة، وتُسد من خلال الرأسماليات الحكومية التي تحيل القرابات الأسرية للسيطرة الاقتصادية السياسية، فلا تتفكك القبلية بشكل واضح وعميق بل من خلال التباين الاقتصادي السفلي.
لكن القبائل الفقيرة في المدن والأحياء الشعبية والبوادي الصحراوية شكلت إنصهارات متعددة وظهرتْ كأشكال شعبية جديدة لم تتغلب على الطابع القبلي السائد العام في المجتمعات.
ولهذا غدت الكثير من وحدات الشعوب العربية تجرجرُّ خلفها عوالم قبلية مختلفة، بكل الإرث الاجتماعي الثقافي التقليدي الذي تحمله، والذي يذوب ويتبخر في الحياة الحديثة.
التكوينات الكبيرة المسيطرة في المدن والبلدان لم تستطع أن تنقطع بنيوياً عن المرحلة التقليدية فطابع الرعي والغزو والإيجار والضمان والأراضي الصوافي لم تزل تضع بصماتها على التطور الاقتصادي السياسي، والإرث الاجتماعي الذكوري التقليدي مهيمن على قيم المساواة.
وهذا يحدثُ تقلقلاً بين مرحلتين تاريخيتين وتشكيليتين مختلفتين كما يشيع الانقسامات الاجتماعية السياسية، فلا تعرف هذه المجتمعات أين المسير هل هو للماضي أم للمستقبل؟
الملكية الخاصة لوسائل الانتاج لا تنتشر، والملكية العامة تغدو غير عامة، مثلما أن القبلي مضطرب في الحداثة والديمقراطية، ومن هنا فإن هذا التذبذب التاريخي بين الدين والحداثة، هو إضطراب في طبيعة التطور الاقتصادي الاجتماعي وعدم الحسم في الصعود للتشكيلة الحديثة وتبدل طبيعة النظم وتغيرها بين الخلافة والديمقراطية.
29 ــتحللُالعربِ: العراقُنموذجاً
يغرق النظام التقليدي المستعاد من العصر الوسيط في أزماته العميقة، وقد رأينا في حلقات(العصبية والعمران) كيف قام الحكم البريطاني في العراق كنموذج عربي حاد في إنعاش العديد من العلاقات الإقطاعية وتصعيدها.
سنرى بشكل ملموس كيف يعود النظامُ التقليدي والمجتمع يتفسخ ويعود للوراء، أو كيف أن التشكيلة العتيقة تزدهر بكل تقاليدها الرهيبة.
إن القوى السياسية المعارضة ذات أهمية كبيرة في المقاومة المفترضة لهذه التركيبة المحافظة البالية، وهناك قوى عديدة تعود للمعارضة ولكن أبرزها الاتجاهان (الشيوعي) و(القومي العربي).
وقد رأينا كيف أعتمدا على الجمهور الشعبي وعلى قوى العشائر، وفي حين نهضت قوى المعارضة اليسارية على الجمهور العامل كانت تتعرض للضربات في حين كان الاتجاه القومي يبرز في أشكال عسكرية بارزة فاشلة في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي ويتعرض للنكسات والاضطهاد.
ظهر الاتجاه الشيوعي معتمداً على حلقات مثقفين وتبلور بشكل جيد في لجنة مكافحة الاستعمار مركزاً على النضال الوطني، ولكنه فيما بعد ركز على تصعيد الاشتراكية وإنتصارها.
جاء في العدد الأول من نشرة الحزب الشيوعي العراقي السياسية:
إنه(يعتمد القوة والعنف لأنه يعلم جيداً أنه ليس هناك دولة أمبريالية تعطي بمحض إرادتها الحقوق للشعوب المستعبدة كما أنه ليس هناك طبقة تتخلى عن إمتيازاتها سلمياً)، (فهد والحركة الوطنية في العراق، دار الكنوز الأدبية، ص 164).
إن النضالات التي خاضتها الجماعة لتنوير الشعب وتصعيد إرادته الوطنية كبيرة، لم تقم خلالها بدرس التشكيلة وتاريخها ومشكلاتها الراهنة وكيفية تغييرها، فلقد كان الارتباط بالاتحاد السوفيتي مُسوقاً لأفكار سياسية وتنظيمية وفكرية جاهزة، وكان القالب الذي رست عليه تجربةُ رأسمالية الدولة القومية الروسية هو تصدير تجربتها كتجربة إشتراكية قادرة على حل تناقضات الشعوب وتجاوز المرحلة الرأسمالية.
كان هذا مهماً للدفاع عنها والهجوم على القوى الغربية.
كانت التجربة الروسية وقتذاك بين الثلاثينات والاربعينات قد عَبرتْ المخاضَ الأولي الذي حول الثورة القومية الاجتماعية بتضحيات الجمهور الشعبي إلى رأسمالية دولة ذات توجهات شعبية نهضوية واسعة سيطرت فيها القوى الإدارية والعسكرية العنيفة بحيث غدا النهج الشمولي هو المعبر عن هذه الماركسية الشرقية التي غدت نسخة للعديد من التجارب.
فيما كانت بريطانيا ترسخُ الإقطاعَ كانت روسيا تطرح قفزة (الاشتراكية). لهذا فإن الموديل التسريعي اليساري لسحق الإقطاع والبرجوازية سيكون هو المهيمن على قيادة الحزب العراقية المتحولة لهيمنة فردية شبيهة بالمركز. وهذا الأمر الذي صعّد الصراعات الخطيرة كاعتقال الضباط اليساريين وتصفية بعضهم والقيام بهجماعات قمعية شديدة على الحزب.
لم يكن بإمكان الحزب وقتذاك التغلغل في الجيش العراقي وهذا كان من نصيب الجماعات القومية.
كانت حركتا بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني في الاربعبنبات من القرن الماضي بروفتين إنقلابيتين عن تصاعد نفوذ زعمائر العشائر وقوى الإقطاع البدوية خاصة في الأجهزة العسكرية والحكومية وهما التجربتان السريعتان اللتان لم تنجحا كمغامرتين لكنهما عبرتا عن بداية قيام الفئات الوسطى بتجاوز الدستور والقفز على المؤسسات التشريعية والقيام بمغامرات خطرة، وهو ما أيده جمهور واسع والأسوأ هو تأييد الأحزاب الوطنية وقد عبر ذلك عن سياق إنقلابي مغامر سوف يجد تطبيقه في الانقلابات التالية ثم في تجربة الشمولية العسكرية.
بعد القرن العشرين دخل العراق مرحلة تحلل، وكانت ثمار التواشج بين العشائرية ذات الجذور الإقطاعية والجيش، بين التقاليد والظروف التي لم تخضع لتحولات ديمقراطية وبين قوى العسكر، تكونُ رأسماليةُ الدولةِ العسكرية.
إن هذا التتويج للانهيار الداخلي المديد يعبر عن إنتصار العَصبية على العمران، وهيمنة النزعات العنيفة على قوى الحوار، وقوى العشائر والطوائف المحافظة على القوى المدنية.
لقد كانت رأسمالية الدولة العسكرية التي شارك في تكوينها اليسار واليمين الشموليان، عبر حلقات التاريخ السابقة، تعتمد مغامراتها على الدكتاتور، على زعيم العُصبة، وجماعته، حيث أنسد التطور الداخلي أمام بصيرته السياسية الضعيفة، فلم ير سوى المغامرات الداخلية والخارجية، فراحت الدولةُ العراقية تتحلل وتعود لمكوناتها الطائفية والعشائرية والمناطقية والقومية المحافظة.
لقد قال الأستاذ ساطع الحصري الباحث القومي المعروف في الاربعينات إن على العراق أن يلعب دور(بروسيا) الألمانية ويقود الأمة العربية ويوحدها لكن مثل هذه الشعارات المتغلغلة بين النخب أنتجتْ شيئاً معاكساً لذلك حيث على العراق أن يوحد نفسه ويعيد النظر في تاريخه
30 ــتحللُالعرب؛سوريانموذجاً
عبرت سوريا عن محاولة عربية أخرى كالعراق عن توحيد الفسيفساء الوطنية والعربية.
كان الجسمُ الامبراطوري العربي التوحيدي بقيادة الامويين قائماً على القسرِ وتكوين نخب وجماعات عسكرية وأهلية مدنية بمركز السلطة.
كان هذا يتوافق مع آراء مذهبية سنية غير متبلورة في مذهب متكامل، بل عبرَ إختيارات فكرية سياسية وامضة للحرية من جهة والمركزية من جهة أخرى.
في المسار التاريخي الطويل كان المركز ذا إمكانية غير متكاملة للسيطرة على سوريا الطبيعية، فالاقتصادياتُ الزراعية الحِرفية والتجارية الفردية والمناطق الجبلية الكبيرة المغايرة للبرية صنعتْ تنوعَ التكوينات السكانية الدينية والمذهبية الإسلامية المختلفة.
التباين بين مذهبية سنية ومذهبية علوية ومسيحية متعددة عبرّ عن إختلاف قسمي السكان الكبيرين، بين تقاليد قوى الرعاة وقوى الفلاحين.
بين النصوصيةِ الحادةِ وبين اللانصوصية، بين التفسيرات السنية، والتفسيرات العلوية، وقعَ ذلك الشرخُ التاريخي الذي لم يُدفن بثقافة وطنية تنويرية ديمقراطية علمانية حديثة.
وجاءت الهيمنةُ الفرنسية لتعمقه، فيما لم تستطع الحركات السياسية التحديثية قراءته ووضع السياسات لتجاوزه.
كان الجسمان السياسيان التحديثيان؛ القومي البعثي، والشيوعي، تعبيرين آخرين عن القراءات التي لا تقرأ قوانين البُنية الحقيقية.
إن البعثَ في إستيراديته الفكرية السياسية للفاشية الأوربية جسّد تكوين النخبة السياسية العسكرية المرتبطة بقيادة الزعيم المطلق، ورفض الديمقراطية والتنوع الوطني، في هلاميةٍ تحديثية برانية، وفي رؤية قومية شمولية ترفض قراءة التنوع الوطني العربي ومستويات التطور المختلفة بين الأقطار العربية.
عبرَ طرحِ صيغٍ توحيديةٍ قسرية ذاتية، تستلهمُ البدويةَ العربية الغازية والهيكليةَ الأموية – العباسية. ولهذا عرفتْ تسميةَ القيادة القومية والتمدد داخل أقطار الشام والتدخل في شؤونها بدرجة خاصة.
وقد عبرتْ في خلال الحكم عن تمثُل القوى الغنية والمتنفذة العليا الصاعدة التي غدت عسكريةً، وبدت طرق هيمنتها اللاعقلانية في الانقلابات المستمرة وصراعات النخب السياسية حتى تمظهر ذلك في النخبة المنتمية شكلانياً للطائفة العلوية.
وكان المسار الشيوعي مختلفاً حيث بقيت الصيغة الماركسية اللينينية تعبيراً عن النسخة الروسية من الدولة القومية ومن خيار رأسمالية الدولة العسكرية عبر رفدٍ شعبي نضالي في سنوات عديدة، لكن هذا التعبير عن الطبقات الشعبية غدا شكلانياً هو الآخر، حيث لم يلتحم بهذه الطبقات فكرياً وإجتماعياً ويعبر عن نقدها للنخب وطرقها في السيطرة، مما تجسد هذا أخيراً في(الجبهة الوطنية) غير المعبرة عن تنوع الطبقات وإختلافها.
هكذا عادت سوريا لتكوينها الجوهري في العصر الوسيط، أي إلى صراعها الطائفي السياسي بين المركز والأطراف، بين دمشق والأرياف والمدن الأخرى، بين الأمويين والعلويين، بين المنتمين شكلياً للمذاهب القديمة والمنتمين للتيارات الحديثة، فاليمينُ المحافظ الطائفي الديني إستطاع تذويب القوى الشعبية التوحيدية في مختلف العصور.
كان القمعُ الذي مارسه الجيشُ ضد الإخوان مقدمةً لهذا التقهقر للوراء، حتى تحول الجيش فعلاً إلى معبرٍ عن رأسمالية الدولة العسكرية، حيث السياسيين والمتنفذين والمال العام في جهة وبقية الشعب في جهةٍ أخرى.
ولهذا فإن الثورةَ ضد النظام لم تثر على التاريخ الطائفي الاجتماعي المتعدد الفِرق عبر العصرين الوسيط والحديث، ولم تحددْ طبيعةَ الخروج عنه برفضها التكوينات السياسية الطائفية، بل قامت عبر الاشتغال فوقها والاستعانة بها، فتداخلت الثورة والثورة المضادة، البديل والنظام، فلم يظهر يسارٌ ديمقراطي علماني لعالِم الفِرق المحافظة ذو حضور جماهيري، مما أدى لتدهور أكثر وظهور طبيعة العصر الوسيط العنفي الطائفي، أي قام الطرفان المركز والأطراف بتبادل الأدوار، بين جبهة النصرة والعسكر السفاح، رغم أن هذا التبادل هو شكلي، لا يغير من هوية القوى الاجتماعية إلا بتغيراتها العصرية، ولا يطرح أي بديل تحديثي ديمقراطي يتجاوز صراع الفريقين الممتد عبر مئات السنين.
31 ــتباينطرقِالتطورالعربية
رغم الكمية الكبيرة من المواد الفكرية والاجتماعية والسياسية التي أنتجتها الانتفاضاتُ العربية الشبابية إلا أنها لا تزال بكراً في تحليلها معبرة عن نفس زخم الأجيال الجديدة الحماسية.
إنها بلا مرئيات تاريخية عميقة، وتعيش على سطوح المجتمعات العربية، إنتقائية من مواقعها الدينية التحديثية، محافظة على مستويات المضامين، فهي تجثم على المجتمع المحافظ المذهبي الموروث الذكوري السائد.
الديقمراطيةُ الانتقائية خلافيةٌ مع الجهة الوحيدة التي تعارضها حسب تلك المواقع الانفعالية، فإذا كانت سلطةً ركزتْ كل السلبيات فيها، وإذا كانت عسكراً شنعت على تاريخها، وإذا كانت قوى مذهبية عرت محافظتها بفصلها عن جذورها ومجمل البناء الاجتماعي المحافظ الموروث التي تشارك هي فيه كذلك، وإذا كانت صديقة لها ضخمت من إيجابياتها ونست سلبياتها.
الديمقراطيةُ الانتقائية عند هذه الأجيال مؤدلجةٌ مفصلة حسب مصلحتها، ولحظتها الزمنية السياسية، فربما يتغير موقعها، وحينئذٍ يتبدل الكلام.
كذلك فإن مواقع الدول العربية مختلفة من حيث التطور الاجتماعي السياسي، فنقل المقاييس الانتقائية من بلد إلى آخر، هو ما تفعله الاتجاهات الشمولية العربية الكلاسيكية خلال العقود السابقة وهي التي سلمت الدول العربية للتوجهات الطائفية التي هي الوريثة لها.
ولهذا فإن جر دول الخليج لنفس أجندة دول الانتفاضات وتطبيق نفس المقاييس التجريبية والديمقراطية المؤدلجة الانتقائية هو خلق فوضى أكثر منها تحولات.
ولهذا فإنه بدون معايير الديمقراطية العلمانية العقلانية الغربية الإنسانية مطبقة على جميع القوى الاجتماعية السياسية حسب التطور السياسي لكل بلد، فإنها تغدو إنتقائيات تفجيرية.
ولهذا فإن مكافحة ظواهر العشائرية والطائفية في الحكم السياسي، والتغلب على الفساد، ودفع قوى التنمية الصناعية الجماهيرية وتغيير هيمنة العمالة الأجنبية وتغيير البيروقراطيات منتجة البطالة المقنعة وغيرها من الأهداف، تتم بالتدرج والخطط الشاملة، وليس بتلك التجريبية التجزيئية من مواقع القوى التابعة للطائفيين السياسيين.
هذه القوى التي تستهدف عرقلة التطورات الديمقراطية الوطنية في دول الخليج عبر الجمل الملتهبة فاقدة التبصر الموضوعي، وهي سبق تجريبها في البلدان العربية الأخرى وأنتجت أشكال الطغيان المعروفة.
القوى السياسية الطائفية لا تريد تطبيق المقاييس الديمقراطية عليها، ولا تريد عمليات تطور ديمقراطية خليجية مشتركة، فهي التي تحدد وقت وأشكال الديمقراطية، ولا تعترف بهذه المنظومة وظروفها المختلفة، ومستويات عيشها المتقدمة نسبياً عن غيرها من الدول العربية.
ضرب معايير الديمقراطية العقلانية العلمانية هي ما تقوم به في ضجيج حاد خالط للأوراق، وبدونه تظهر في عريها الشمولي وتخلفها، ورغبتها في عودة العرب والمسلمين للوراء، إلى النمط الذكوري المستبد المحافظ، وليكن ذلك في تشنجها حتى لو تم بالعنف.
التغيير المتدرج العقلاني في دول المنطقة يتطلب وعياً نقدياً صارماً للظاهرات السلبية، عبر طرح موضوعي، يكشف العلل ويدعو لتغييرها، مطوراً الايجابيات محافظاً على التطور وما تحقق فيه.
وليكن النقاد السياسيون يكشفون المشكلات ويدعمون التطور بلا إنتقائية وتجزيئية.
الانفجارات الفوضوية التي قامت بها هذه القوى عرقل مصالح الجماهير وكرس التخلف والبيروقراطية فكانت مساندة للسلبيات مؤكدة لبقائها الطويل.
كذلك وضعت الدول العربية والإسلامية بين الخنادق المتقاتلة، وساعدت القوى الغربية في تدخلاتها وتفكيكها للمسلمين، بدلاً من أن ترتقي بوعيها لفهم الإسلام والتاريخ المعاصر وخلق التعاون بين الدول العربية والإسلامية.
أسلوب النقل الميكانيكي لشعارات في بُنى وأوضاع مختلفة لدول أخرى سبق أن تم تجريبه وتجاوزه لكن ليست ثمة ذاكرة وطنية هنا.
32 ــفيالتطورِالعربيالعام
الدول العربية ذات مستويات تطور مختلفة، وهي مشدودة ككل دول العالم إلى التطور التحديثي العلماني الديمقراطي، ونرى الآن كيف أن فرنسا هي قمة التطور الصراعي الاجتماعي الديمقراطي الحديث، حين نضج هذا التطور خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وكون هذا المستوى الذي هو محصلة لمستويات التطور الاقتصادية الاجتماعية الثقافية الطويلة.
ومن هنا نرى النموذج التونسي ومقاربته لهذا التطور وكيف راح الصراع الاجتماعي يتبلور، فالطبقتان البرجوازية والعمالية واضحتان وضوحاً سياسياً كبيراً، فمنظمات قوى رأس المال والمصالح الخاصة، متبلورة مثل منظمات العمال والحرفيين والشغيلة عامة.
أحزاب اليسار وأتحاد الشغل تعبر عن الانفصال الاقتصادي الفكري الذي لم يكتمل تماماً، فالفئات الوسطى الصغيرة وجمهور من الشغيلة كذلك لا تفرق بين الوعي الديني والحقيقة، فالوعي الديني الإسلامي المحافظ هو شكل الحقيقة لديها، ومن يعتنقه يعبر عن الناس ككل كما تتصور في وهمها الإيديولوجي.
ولهذا فرغم ظروف عيشها الصعبة ومعاناتها من الاستغلال الحكومي حيث الرأسمالية الحكومية البيروقراطية مركز الاستغلال في العالم الشرقي، فإنها تؤيد هيمنة إستغلالية جديدة على هذه المُلكية العامة وقد كانت باسم الحزب الدستوري وتغدو الآن باسم حزب النهضة.
وقد ساهم وعي اليسار الجامد في هذا الوهم، فلم يفهم الإسلام الحالي كأشكال محافظة مذهبية معبرة عن الطبقات العليا الاستغلالية القديمة وبعض التفسيرات الجديدة المحدودة، وبالتالي كان لا بد أن يمتلك تفسيره الشعبي النقدي لرؤية الإسلام، لأن اليسار الديمقراطي هو وريث كل التجليات الشعبية المناضلة عبر التاريخ، ولهذا يهتم بكل الحقب التاريخية دون أن يذوب في مستوياتها ومستوياتها الفكرية، وهو أمرٌ لا ينفصل عن علمانيته، وفصله الدين عن السياسة، وهو موقفٌ مركب دقيق كذلك.
التبلور الفكري الناضج في تونس يحتاج لخلخلة الوعي المذهبي السياسي المحافظ وإكتشاف جمهور النهضة لمصالحهم الطبقية المختلفة، وتجاوز الصيغة المحافظة هي مسألة قراءات معمقة في التراث وفي عمق الصراع السياسي الراهن.
هذا التبلور بين الطبقتين الحديثتين نجده يتقارب في مصر والمغرب، ومصر إستطاعت إحداث قفزة، لكن جمهور العمال والبرجوازية أو الفئات الوسطى عامة، متداخل هنا مع أجهزة الدولة، وإذ راح يبلور أيديولوجيته السياسية التحديثية في الدستور الجديد لا يزال يصارع من أجل هذه البلورة والأنتماء الراسخ للديمقراطية الحديثة على النمط الفرنسي المتبلور.
إن خروج الصراع الطبقي إلى الوضوح وإلى المؤسسات الديمقراطية الحديثة، وقد منعته مخاوفٌ أسطورية رهيبة خلال قرون، هو الحل السياسي المعاصر للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
والإيديولوجيات الدينية هي ضبابٌ فكري سياسي راجع للعصور الماضية، وحين تتكثف وتمنع الرؤى الاجتماعية والطبقات والفئات من إكتشاف مصالحها والدفاع عنها بشكل حضاري تُحدث صراعات مَرضية في المجتمعات تدفعها للانهيار، فبدلاً من المصالح الحقيقية المتعارضة تظهر مصالح ذاتية معرقلة هي تدخلات الدول ونَزعاتها الدينية والقومية المعبرة عن قوى بيروقراطية وعسكرية وتقليدية.
لهذا فإن تبلور هذا المستوى من التطور الاجتماعي السياسي في بعض دول شمال أفريقيا العربية لم يصل لدول المشرق العربي الإسلامي، الذي راح يغوص في صراعات ما قبل الحداثة، فالطبقتان الحديثتان المتبلورتان لم تظهرا على مستوى الخرائط الوطنية بوضوح من خلال أشكالها السياسية الاجتماعية وحضورها في المؤسسات العامة.
ولهذا فإن كثافة حضور المنظمات الدينية المذهبية القومية المتصارعة يجسد هذا التخلف على المستوى الاقتصادي الاجتماعي.
فهذه المنظمات لا تريد التعبير عن فئات بل كذلك عن مذاهب كلية وقوميات لم تتبلور وتعيش في إضطرابات خلال قرون، وهي بهذا تجرُّ الخرائطَ الوطنية للتمزق والحرق في أثناء إنسحابها للعصور الوسطى.
إن منظمات أرباب العمل والعمال خاصة في مستوياتها السياسية النقابية لم تتبلور وتغدو ذات أهمية وطنية، كما يحدث في تونس عبر تضامن ووحدة مؤسسات أرباب العمل وإتحاد الشغل على المستوى السياسي الوطني، مع وجود المصالح المتباينة على المستوى الاقتصادي.
إن الديينيين ذوي العقلية المحافظة يفرضون نفوذهم في المشرق على نحو عنفي شديد، معطين الصراعات الاجتماعية البسيطة أشكالاً مذهبية وقومية رهيبة غير ممكنة الحل خوفاً من ظهور أشكال الحداثة الديمقراطية التي تنزع سلطاتهم المتكلسة عبر قرون.
33 ــآفاقالتطورالعربيالراهن
ليست الصراعاتُ الراهنةُ التي تجري في بعض الدول العربية هي من أجلِ مقولاتٍ ومُثُل مجردة فقط، بل هي لتقرير تطور إقتصادي إجتماعي لصالح الأغلبية الشعبية العربية.
في بلدان ظهرَ فيها النسيجُ الاجتماعي – الديني بشكلٍ مُوَحدٍ متقاربٍ على الأقل، أمكن أن يتبلورَ الصراعُ في السياسة والاقتصاد وليس في الدين.
إن الجمهور الهائل الذي طالب بالحرية كان يعني الحريات السياسية التعبيرية بشكل أساسي، بسبب نظام دولة شمولي لا يسمح بالتعددية.
لكن ليس هذا سوى أدوات نحو تغيير الاقتصاد، فماذا يفعلُ الجمهورُ بحرياتٍ مجردة؟
الهدف غير المتبلور في الوعي السياسي النظري هو الحصول على حياة معيشية أفضل، وهو رقي الأوضاع الاقتصادية إلى مدى جديد يفيض بخيرات على الأغلبية.
وما يعيق هذا هو رأسمالية دولة متكلسة، صارت لها علاقات شخصية بأصحاب الحكم السياسي، وقامت بخلق إحتكار في السوق، وضيقت الأحوال الحرة في الاقتصاد.
وبطبيعة الحال ستكون الرأسماليات الخاصة العربية هي المستفيدة بشكلٍ كبيرٍ من هذا التوزان الجديد بين رأسمالية الدولة وقد صارت رأسمالية دولة وطنية (ديمقراطية) والرأسمالية الخاصة الحرة، وجاء مسئولون جددٌ راحوا يركزون على تفعيل خدمات الدول وإزالة بيروقراطيتها ونشر خدماتها، من أجل تطوير قوى الإنتاج العامة في كل مجال، سواءً بتفعيل أملاك الدولة أم تغيير الأحوال الاقتصادية لكافة الطبقات الاجتماعية.
يَحضرني بهذا الصدد وزيرٌ في الحكومة المصرية الجديدة مُخصَّص(للعدالة الاجتماعية) وظهرَ في وسائل الإعلام وهو يتابعُ أسعارَ الخبز ومستوى تخزين القمح وسلع الحكومة المطروحة في الأسواق وأين تتواجد بأسعار دنيا وأدوات الدولة لضرب الإحتكار، وإلى ما إلى ذلك من تغلغل في الحياة الاقتصادية العامة الجماهيرية وقضاياها الحيوية، ومن توعية يقوم بها وزير من أجل أن تتعاون قوى المجتمع المدني لمحاصرة المحتكرين والمفسدين في السوق!
يفيدُ في تطورِ خدماتِ الدول هنا مستوى جديدٌ من حرياتِ وسائل الإعلام، ومن نشاطٍ شعبي، لكن هذا كله يحتاج لتطور طويل فنحن فقط في البدايات.
لكن الجوهري هنا بعيداً عن التفاصيل اليومية الكثيفة، هو تطوير حياة المنتجين وخلق نمو إقتصادي في كافة القطاعات، والفوائض المالية التي سُرقتْ أو التي تضيعُ بآلةِ الدولة أو من قوى التخريب تُعاد إلى مجال الإنتاج.
فنحن نرى كيف أن مليارات الدولارات صرفها النظام الليبي على زعماء أفارقة وعلى التسلح الباهض، وهذه كلها مدعوة للعودة إلى الاقتصاد.
وقد أمكن لدولٍ مثل مصر وتونس وفي المستقبل ليبيا وسوريا، أن تشكل شعوباً موحَّدة تقررُ دمجَ رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة في تكوين إقتصادي جديد متداخل متطور، وبدون هذا التوحد لا تظهر السوق الموحدة المشتركة.
هذا المستوى الجديد يتطلب علاقات إجتماعية متطورة، وأوضاع جديدة للعمال الشباب وقد توحدوا بالتقنيات المتطورة، وحياة متطورة للنساء في مجالات الإنتاج، ومستوى متطور من الحرية والخدمات لفلاحي وسكان المناطق المُهمَّلة كما يطلب سكانُ درعا الذين فجروا التغييرَ السياسي في سوريا، إضافة إلى كل التحولات فيما يتعلق بإرهاق السكان بالضرائب والقيود الاقتصادية البيروقراطية.
إن الأنماطَ المذهبيةَ المحافظة تعيقُ وحدةَ بعضِ الشعوب العربية، إنها تقسمهم سياسياً، ويقوم الغلاةُ المذهبيون بطرح العودة للماضي، ورفض الحريات الاقتصادية والاجتماعية للسكان، ومن ثم تتجسد هذه في (العسكرة) حيث يتحول النظامُ إلى نظامٍ عسكري أو يتحولُ الحزبُ إلى حزبٍ عسكري، فتتكرس الميزانيات من أجل الجيوش، وحين يقوم الغلاةُ بذلك يمزقون النسيجَ السكاني ويمنعون إرادته الموحَّدة من التوجهِ للتنمية ومقاربة الحداثة، فلا تظهر سوى رأسمالية دولة عسكرية، على طريقة ليبيا أو إيران، لا تستطيع أن تمضي للمرحلة الجديدة من النمو العالمي، وتعيقُ جيرانَها كذلك.
التخفيف من هذه الغلواء وإنتشار الحريات وجذب مختلف القطاعات الاجتماعية الاقتصادية للتنمية تتشكل على مستويين؛ روحي وسياسي، فالأحزاب الوطنية الديمقراطية الجديدة التي إنتشرت في مصر وتونس جعلت معركة التغيير غير مُدمِرة، وموحدة، ومتجهة لمهماتٍ تحولية تغني الموارد بدلاً من أن تضيعها أكثر مما ضاعت.
لا يعني أن الأوضاع القادمة في هذه الدول ستكون وردية ولكن مجيء حكومات منتخبة معبرة عن إرادة التنمية هو الذي سوف يطورها كما سيجعل بقية الشعوب العربية تتابعها في وحدتها وتنميتها.
34 ــلماذاالهجومُالواسعُضدالعرب؟
لم تستطع الثوراتُ العربية أن تبلور نظاماً عربياً ديمقراطياً شعبيا تحديثياً وإن كانت قد خطتْ بعضَ الخطوات بإتجاهِ ذلك في البلدان الأكبر، لكن مستوى التطور الاقتصاي الاجتماعي لم يُحدث تحولاً نوعياً كبيراً.
ومع ذلك فقد إستفزَّ هذا التطورُ المدهشُ تاريخياً بعضَ القوميات التي نأوتْ العربَ طويلاً في المنطقة، فيما كانت مواقفُ القوى الاستعمارية القديمة- الجديدة مذهلاً في عدائه وغرابته للتطور المستقبلي الصاعد.
إن عدمَ وصول التحول لنظام تحديثي علماني قومي في دولٍ مركزية رائدةٍ هو بسببِ تطور العرب كأمةٍ مُفككة، وهي عمليةٌ تفتيتيةٌ إستمرتْ طوال القرون الوسطى، ولم يتوجه العصرُ الحديث العربي لوضع ركائز الصناعة الشاملة مع حواضنها التعليمية والثقافية الثورية الاجتماعية الواسعة.
ولهذا فإن القفزةَ السياسية الفكرية الشعارية تعثرتْ في البحث عن الطرقِ الموضوعية للخروج من الصراع الاجتماعي التقليدي وتجاوزه.
صراعُ القوميةِ العربية ضد القوى الإقطاعية لم يتجذرْ ويتعمم لكونه لم يأخذ لباسَ الطبقات الوسطى الحاسم، ولم ترفدهُ طبقاتٌ عاملةٌ صناعية كبرى.
لقد ظهرَ هذا الصراعُ بشكله الإيديولوجي السطحي بإعتبارهِ صراع القوى الحديثة ضد الإخوان، ضد قوى تنأوى الحداثةَ وليس بإعتبارها قوى إقطاعيةٍ مفتتةٍ للأمة، وممزقةٍ لشعوبها، وتجرها نحو صراعات ماضوية مكلفة.
إن عدمَ وجود جذور مادية صناعية ثقافية علمانية ديمقراطية جماهيرية للفئات الوسطى وحلفائها من الفئات الشعبية، أدى إلى عملياتِ التذبذب المختلفة، كما أن مستويات التطور السياسي في بعض الإقطار متفاوت ومتناقض في بعض وجوهه مع مسار التقدم، مما زاد من إضطراب الصورة الحقيقية للأحداث.
لكن ملامح التشابه ومقاربة سمات نضالية معينة تقدمية عربية أبرز المحتوى القومي المشترك، وطابع التوجه الديمقراطي، ومن جهة أخرى صعّد ردود فعل الفئات الانفصالية والعشائرية والطائفية لتمزيق الدول العربية وكانت هي المستوى المباشر للقوى الإقطاعية المتضررة.
إن القوميات التركية والفارسية والنظام الإسرائيلي وهي القوى الموجودة على خريطة المنطقة شعرتْ بالقلق السياسي الكبير وهي التي تحملُ جذورَ الاختلاف والصراع مع الدول العربية المنقسمة المفتّتة، وإذا بها تراها كأمةٍ واحدة عارمة الحضور، تحاول أن تقفز للفضاء العالي، فوق مستنقعات العصور الوسطى، مما زاد إحساسُها بالقلق من التحولات الدراماتيكية العريبة.
كان الشكلُ الديني الإخواني العاملَ المشتركَ الذي إندفعت إليه وزايدت عليه، ليعيدَ التاريخَ للماضي وللتفتتِ والصراعات الجانبية المدمرة.
إن إتفاق الدول الشمولية الدينية ذات القوميات المختلفة السابقة الذكر على تصعيد الخيار الديني المتخلف وجعله أسفيناً يعيدُ الشعوبَ العربية لما قبل جنين الأمة المشترك الثوري، هو صراعٌ قومي مناطقي كبير، بين أمم ذات جذور دينية محافظة متصارعة لم تستطع الحداثةُ من إعادة تحولها للديمقراطية العلمانية، وهي دولٌ لا تحترمُ القومياتَ الأخرى في مجمعاتِها الشمولية كالأمم الكردية والبلوشية والتركمانية وغيرها من الإثنيات المضطَّهدة، وهو أمرٌ يزعزع مكانتها المركزية حين ترى صعود بديل ديمقراطي أممي إنساني يتجاوز سقفَ العصور الوسطى.
كما أن قيادات الرأسمالية الغربية كانت قد وضعت خيارها في تفتتِ العرب وعودتهم للمحافظة والتخلف، فاختارت الإخوانَ كأنبوبٍ كبير للفوائض المالية والنفطية نحوها، وكانت بذرة الوحدة ونزعة القومية الجامعة مخيفة بالنسبة لها.
ومن هنا كان إتفاقها مع القيادة الإيرانية على وقف تخصيب اليورانيوم لمدة ستة شهور، قابلة لكل المناورات بين الجانبين، فهي تطلق النظام الإيراني الحكومي المعادي للعرب، ولديه إهتماماتٌ إضافية للهجوم على الدول العربية وخيارها الديمقراطي العلماني المضاد لحظيرة الطائفية التي يريد قمع الشعوب الإيرانية المتحضرة فيها، ومن جانب آخر تستفيد الدول الغربية من تفتح أسواقه لها، وتخفف الضغوط عن النظام وإن لم تستطع أن تصل للب النظام العسكري الرافض لهذا المسار الذي يناور للجمع بين القنبلة والهيمنة.
هي صفقة كبرى مثيرة للقلق تعبر فيها قياداتُ الدول الغربية عن زيادة الضغوط على شعوب الأمة العربية، وفي سبيل إعادتها للخيار الطائفي التمزيقي، ولترك الخيار القومي التوحيدي الذي يمثل خطورة على مصالحها ومصالح إسرائيل.
إن أمةً كبيرة تحديثية تتجمع وتتعاون وتُصنع قدراتها الاقتصادية وثرواتها النفطية والمادية الأخرى وتقدم نموذجاً حراً للشعوب أمةً خطرة في تصور هذه القوى وتَحولُ دون الهيمنة الاقتصادية والسياسية عليها.
35 ــالسياسةُالأمريكيةُوتفكيكُالعربِ
تحتل الولايات المتحدة وأوربا االغربية واليابان مراكز الصدارة بين كبريات الدول الرأسمالية، بنسب إنتاج عالية في الصناعة، فهي تقارب نسب30% و14% و12% على مستوى العالم، وهي إذ تتصارع مع بعضها البعض للحفاظ على هذه المكانة، تصارع القوى الأخرى الصاعدة كالرأسماليات الصينية والروسية والهندية وغيرها.
ولهذا فإن الأمم الجديدة الصاعدة ذات الحيز الجغرافي الكبير المؤثر والتي تملكُ الموادَ الخام الهامة والقوى البشرية الكافية والأسواق تمثل لها أخطاراً جديدة عبر توحدها وتوجهها للتحديث الصناعي الاجتماعي، فهي تقلل مكانتها وتضعفُ التصدير لديها وتنافسها وتحول المواد الخام الرخيصة لسلع جديدة متطورة
وإضافة لكون العرب ذوي موقع صراعي تاريخي مع الغرب على مر القرون، فإنهم يقبضون على أهم مورد للطاقة الحديثة في العالم ويمكن أن يُصنعوا بلدانهم بصور سريعة، ويقيموا على علاقات لأمة واحدة.
ولهذا غدت حروب الولايات التحدة الأخيرة تدور مع العرب والمسلمين، ضرباً لدول تمثل خطراً نهضوياً صناعياً وعسكرياً كالعراق، بغض النظر عن طبيعة الحكم السابق، الذي كان توحيدياً لبلده وتصنيعياً ولولا مغامراته لمثّل أهمية كبرى لعملية توحد حقيقية.
ولهذا فإن ضرب العراق وتفكيكه تمثل نموذجاً للعقلية السياسية اليمينية التي غدت تهيمنُّ على الطبقة الحاكمة وشرائحها المتنافسة في ظلِ وحدة طبقية وفي ظل أزمةِ مركزِ القيادة الأمريكية الرأسمالية للعالم، هذه الزعامة المكلفة والمؤدية لتفكك بنيوي عميق في المجتمع ولصعود اليسار.
ولهذا تركزت الضربات وعمليات التفكيك ضد العرب لعدم قدرتهم على الرد الواسع الجدي، وتنوع الدول وصراعاتها وعدم وجود مركز توحيدي، فيمكن للسياسة الأمريكية أن تحصل على مواقع سياسية وعسكرية وإقتصادية متعددة بدون تكاليف كبيرة وتواصل تكديس الأرباح.
ثرواتٌ بترولية كبيرة وضعفٌ سياسي عسكري، وبذور لتوحد قومي مقلق، وهذه كلها تجعل السياسة الأمريكية تنفرد بإضعاف العرب والسيطرة على مواردهم، وبالتالي التحكم في النفط وتسليعه للدول الرأسمالية الكبرى الأخرى وإضعافها عبر ذلك.
ولهذا نجد التعامل الضعيف مع الثورة السورية وتركها تُلتهم وتُباد، منعاً لقيامها بتقوية المحور العربي من ذوي الدول المتقاربة مذهباً والتي يمكن أن تشكل ذلك الخطر الاستراتيجي.
كذلك فإن تحول سورية لدولة مختلفة يؤثر بقوة على التفكيك الذي قامت به للعراق.
أما تقوية النظام الإيراني الظاهرية والاقتصادية العامة فهي تصبُّ في نفس الاستراتيجية عبر تضارب الدول العربية والإسلامية، وإستنزافها بشراء العتاد العسكري وإحراجها بتوسيع القواعد العسكرية.
لم تتشكل أية سياسة أمريكية لدعم القوى الديمقراطية والمعارضة الإيرانية على كل سنوات العداء، بل صعّدت الصراع السني الشيعي، وجعلت العرب ينشغلون به.
كما صعّدت القوى الدينية الطائفية في العالم العربي لدورهم لحَرف مسار النضال وتفكيك العرب والمسلمين، والاهتمام بما هو خارج الثورة الصناعية العلمية محور وجوهر الصراعات الاقتصادية الاجتماعية .
تكشفت السياسة الأمركية بوضوح في الفترة الأخيرة نظراً للمواقف الغريبة تجاه الثورة التحديثية المصرية، والثورة السورية، والانعطاف المفاجئ تجاه النظام الإيراني وتوقيته، وهو الذي يمثل دكتاتورية تتسم بالحماقة والخطر على الشعوب.
عدم دعم النهوضيين العرب والدعم المستمر لإسرائيل وهذا الموقف الجديد تجاه النظام الإيراني كلها تتلاقى في تفكيك الدول العربية ومشروعها التوحدي النهضوي المشترك.
لم يعد اليمين الأمريكي يملكُ مساحات كبيرة للمناورة فتقارب الطبقة الحاكمة ورسم سياسة متماثلة يمثل أزمتها الداخلية وشهيتها التوسعية الخارجية لتغيير وضعها الداخلي.
36 ــإشكاليةُالتوحيدِ
يعجز العربُ خلال تاريخهم عن تشكيل التوحيد الديمقراطي المتسق المتنامي، فالمؤسسات البيروقراطية تفرض هيمنتها العليا غير قادرة على خلق التناغم السياسي مع الشعوب، وعلى إنتاج أشكال وعي ديمقراطية، فتتسم أشكالُ هذا الوعي بالهيمنة العليا والانفصال والتعثر وجلب بدائل مؤدية للصراعات التمزيقية.
منذ أن قام المصريون القدماء بالاعتماد على جهاز الري وحولوه إلى مُلكية عامة ودولة بيروقراطية، وساد الاستبداد الفرعوني فإن الحكم يظل منفصلاً عن العامة، وتغدو الأشكال الدينية معبرة عن هيمنة القوى المتغربة عن الإنسان كالحشرات والحيوانات ثم الرموز التجريدية كالشمس.
ولهذا فإن اليهودية شكلتْ توحيداً دينياً قَبلياً، وإنغلاقاً رغم التأثر بالتوحيد الفرعوني ونشره في المشرق، وإنفصالُ المقولاتِ الدينية وتغرب صور الألوهية شكلَّ أجهزةَ دولة فوقية، وحاولت المسيحيةُ أن تتجاوز الانغلاق اليهودي وتشكل توحيداً بشرياً واسعاً، ولكن الصورة الغيبية وتركز الفعل الخلاق على المسيح، وتجسد صورته في آلة الدولة الشمولية جعل هذه الصورة غير قادرة على خلق التوحيد المستمر بل أدت إلى مذهبيات متصارعة وإنفصال بين الجمهور وأجهزة الحكم وتفكك الأقاليم والدول.
وحاول المسلمون أن يتجاوزوا ذلك والقيام بإنتاج تحول شعبي توحيدي ولكن القوى الارستقراطية القبلية الحاكمة فرّغت المفاهيم الدينية التوحيدية من التداخل الحميم مع الجمهور وإنفصلت عن مصالحه.
هكذا تقوم القوى الاجتماعية العليا عبر التاريخ بتشكيلِ وحداتٍ فوقية بيروقراطية وصور دينية تفتقد الالتحام بالشعوب، الأمر الذي يؤدي لتفكيك الصور الدينية وقيامها بتمزيق البلدان والبنى الاجتماعية.
ينقلبُ دورُها في التوحيد إلى إنتاجها للتفكك والفوضى السياسية والحروب.
لهذا نجد اللوحة المعاصرة وهي تزخر بمفاهيم وصور دينية مُفكِّكة، ولا تستطيع القوى البيروقراطيةُ الحاكمة حلَّ الإشكاليات التفكيكة الدينية في حين تتوجه هذه الإشكاليات لهدم التطور بشكل متصاعد.
بسبب إصرار القوى البيروقراطية السياسية على الاستمرار في البناء الفوقي وعدم القدرة على الالتحام مع الجمهور، وحل مشكلاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، نرى المقولات الدينية وهي تعمقُ الانفصالَ وتحرك الناس لنقض التوحيد.
أشكال الوعي الدينية التي يُفترض أن توحدَ الناس تفرقهم، وأشكالُ الحكم تعجز عن فصل هذه الأشكال عن أجهزة الدول، وبحث مسائل الانفصال وظروف الجمهور، وتغييرها عبر وعي مدني يدرس مسائل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المحضة وأسباب مشكلاتها وطريقة تغييرها بدون تخريف.
كذلك يعجز عن جعل الأجهزة المنتخبة هي القارئة للأوضاع، فيوجهها نحو الأشكال الدينية المتغربة، ذات النزعات التمزيقية، فتؤدي الحلول إلى عكسها، وخلق الأزمات بدلاً من أن تساعد على حلها.
لهذا نرى هذا التخبط في القوى الدينية السياسية المختلفة وهي تحيلُّ أدوات السياسة الحديثة والمجالس إلى مزيد من الفوضى السياسية وتجنب بحث قضايا الجمهور بشكل واقعي وعميق.
ومن هنا فإن التوحيد على مستوى الدول والمنظومة الخليجية لا يتجه للتصاعد والتراكم التدريجي النهضوي التحويلي، فمسافاتُ الغربةِ والانفصال بين الأجهزة والجمهور تتسع، ولا تبقى سوى الأشكال الدينية المُفكِّكة التي هي في مستوى وعي الجمهور والتي تقودهُ للمزيد من التفكيك والفوضى السياسية.
الجمهور غير قادر على تبنى الشعارات العلمانية التوحيدية والمتعمقة في المشكلات بموضوعية وبإنفصال عن المذهبيات، وتساهم الأجهزةُ البيروقراطية في تشجيعها، نظراً لمشاركتها الأفكار الدينية الغيبية المتغربة طابعها الاجتماعي السياسي، وعدم حل الامتيازات الخاصة بهذه القوى.
تغرق البلدانُ العربيةُ الدينية في الأزمة وهي تتصور أنها تقوم بحل مشكلات التطور، ولكنها تفعل عكس ذلك ولهذا فإن الحروب والنزاعات الإقليمية والمناطقية والقومية والمذهبة تتصاعد في كل مكان.
مع التحولاتِ العارمةِ في البلدان العربية إنقسم التطورُ بحدة بين المغرب والمشرق العربيين، فعاد المشرقُ لسببياته القديمة في هيمنةِ الصراعاتِ الطائفية القومية، فالصراعُ العربي الإيراني لعب دوراً مؤثراً، وتنامت الفسيفساءُ الطائفية ولم تسمح بمقاربةٍ ولو قليلة للديمقراطية العلمانية، فيما كان شمالُ أفريقيا العربي أكثر قرباً لهذا.
تجاربُ التحديثِ في تونس والمغرب التي تشكلتْ في النصف الثاني من القرن العشرين خاصةً، والتي لعبتْ فيها أحزابُ الفئاتِ المتوسطة والعمالية أدواراً نهضوية هامة سمحت لتلك المقاربة.
إن أساس تلك المقاربة هو مدى التعاون أو التحالف بين هذه الفئات المتوسطة والقوى العمالية، وقد تجسدَ ذلك في تونس على سبيل المثال في التعاون بين الحزب الدستوري والنقابات العمالية(إتحاد الشغل) والتي طُرحت فيها تسمياتٌ إيديولوجية غيرُ دقيقة كتسمية التجربة الاشتراكية، والتي تراوحت فيها الخيارات الاجتماعية بين التأميمات والتعاونيات وبين التنامي الواسع للملكيات الخاصة الاستهلاكية الخدماتية.
ثم لعبت أجهزةُ الدولة بتناميها وبتغييب الديمقراطية وإنفراط أدلجة الاشتراكية دورها في تصعيد رموز الشمولية.
وكان نقدُ حزب النهضة لهذه التجربة بإعتبارها تغريباً ومحواً للإسلام جزءً من نشاط فئات وسطى أخرى مرتبطة بالريف والقوى المتأخرة في وعي الديمقراطية والحداثة، لكن تواجد قيادات من النهضة في فرنسا وتأثرها بالثقافة الديمقراطية فيها، جعلت عداوتها للعلمانية غير إلغائية وحربية. ولهذا كانت تحالفاتُها مع قوى حديثة جزءً من هذه المراوحة الإيديولوجية بين الإقطاع والرأسمالية، بين الارتداد الماضوي الفوضوي التخريبي وبين الصعود للحداثة.
لكن القوى الديمقراطية التحديثية واسعة في تونس، بسبب دور البرجوازية والعمال التعاوني في مرحلة الاستقلال والتطور الوطني المستقل، ورغم ضعف التصنيع إلا أن العوامل الذاتية كانت لها تأثراتها على بُنية الوعي.
وهو ما يمثل قاسماً مشتركاً مع المغرب، لكن المغرب كانت تجربته مختلفة وأقل تجذراً، حيث قام حزب الاستقلال وحزب القوات الاشتراكية بمماثلة ذلك التحالف التونسي بين الفئات المتوسطة والعاملين، لكن تجربة المغرب يغلبُ عليها الضعف، بسبب إتساع المساحة الإقطاعية في الزراعة وبناء الدولة، وقد تداعى ذلك التحالفُ بسبب مصالح الصعود والانتهازية التي تغلغلت في الفئات العليا من الحزبين النهضويين الوطنيين، مما جعل الجمهور يبحث عن قوى أخرى تواصل شعارات التقدم وتغيير حال الأغلبية الشعبية ووجدوها في الطائفيين المحافظين وكشفت التجربة التداولية مدى نقص الوعي الجماهيري والمستوى المحدود لتمثل واقع ومصالح العاملين لدى هؤلاء.
وقد مثلت مصر مستوىً أقل من ذنيك البلدين في تمثُل الحداثة العلمانية الديمقراطية، فقد كسرَّ الحكمُ العسكري الفئات الوسطى والعمالية المستقلة ولم تنشأ إمكانياتٌ للتحالف إلا بعد تدهور النمط العسكري الأخير المتحلل منه وهو نظام مبارك، لكن الإخوان كانوا مغايرين لحزب النهضة التونسي فقد ذهبوا للجزيرة العربية واستقوا الثقافة الإقطاعية ذات التوجهات البدوية، فنقلوا المستوى الحربي الغزواتي من هذه الثقافة، ومن الرغبة المريضة بالاجهاز على الثقافة الديمقراطية العلمانية العربية، وممثليها، وإقامة حكم طائفي محافظ، وهو ما فجّر مقاومة الشعب الذي كان يراكم التحديث بتضحيات جسام عبر قرنين من الزمن.
ولهذا فإننا إذ نشهد تفسخاً سياسياً إجتماعياً في السودان الذي هو أقل من جاره المصري في تمثُل الحداثة وأكثر إستجابةً لعوامل التخلف والتفكك، فهذا هو الشاطئ الذي تنتهي فيه شمالُ أفريقيا، وحيث ننتقل للمشرق الذي تتسع فيه عوامل التفكك والطائفية بسبب تاريخيته الشمولية القديمة وضخامة الطوائف الدينية داخله على مر التاريخ.
هنا لم يزدهر الوعي ويتقارب مع عوامل الحداثة العلمانية بل غرقَ في الطائفية وراح يحرقُ خرائطَه بلداً بعد بلد.
التماسك المحدود في اليمن بسبب قواه الشعبية التحديثية بين جماعاته الشمالية والجنوبية التي وصلت لتقارب غير حاسم، وهو التعبير عن عدم وجود تجربة تاريخية سابقة للتلاحم بين الفئات الوسطى والعمالية المعبر عن مستوى معين للتصنيع والترابط الاقتصادي الحديث بين الشمال والجنوب.
ولا تختلف بقية دول المشرق عن هذا المستوى ورغم تقدم بعضها إقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً لكن الاتجاهات التحديثية العلمانية ضعيفة وغير مؤثرة وبسبب طبيعتها الذيلية فقد غلغلت الطائفية والصراعات الجانبية داخلها وفتت الخرائط الوطنية.
38 ــتوسعُالانهيارِالعربي
قبل عقود قليلة كان الانهيارُ والحروبُ الأهلية على أطراف العالم الإسلامي في الصومال وإفغانستان وكان الكثيرون يرفضون إن مظاهر التحلل والانهيار سوف تتغلغل في البلدان العربية التي كانت مركزية في النهضة كمصر وسوريا.
المتاجرون بالمذاهب أستغلوا الصراعات الوطنية والعالمية ليتغلغلوا في شرايين كافة البلدان.
لم تستطع التجاربُ الوطنيةُ أن تتجاوز عالمَ العصر الوسيط الإقطاعي ذي الصراعات الدينية، وبين عالم النهضة الأولى في القرنين التاسع عشر وبدايات العشرين وبدء الانهيار وصعود الطائفيين السياسيين، لكون الدول العربية والإسلامية كرستْ الأشكالَ الشمولية العسكرية والدينية والقبلية.
صعودُ ملكياتٍ مطلقة عجزتْ عن التحول الديمقراطي وتفجر جمهورياتٌ عسكرية وتصدعُ التجارب الديمقراطية الضئيلة، وصراعات التحديثيين ضد بعضهم البعض، وتدهور وعي الأحزاب الوطنية والتقدمية ومسايرتها للطائفيين، كل هذه المسام العميقة فتحتْ الجروحَ للتدفق الماضوي السلبي.
أسرٌ عسكريةٌ بلا ماضٍ تحديثي عميق تلاعبت بالأشكال السياسية من مَلكية إلى أمبراطورية كنظامِ الشاه في إيران، وهو ما لم يؤسس بيئةً حضارية أسرية ممتدة ذات جذور عميقة فتغدو العائلةُ مغامرةً بالماضي التاريخي غير قادرة على إنتاجِ حداثة عصرية أو تكونُ العائلةُ منعزلةً في بيئةٍ متخلفةٍ فلا تقدر على إنتاجِ تحديثٍ يتوسع في البلد.
أو أن العسكريين الطائفيين والمحافظين يفرضون سطوةَ مناطقهم المتخلفة ويشكلون رأسماليات حكومية عسكرية بيروقراطية تمنعُ تطورَ التحديث الديمقراطي كما حدث في سوريا والجزائر وغيرهما.
هذه المسامُ تسمح لصعود الطائفيين وإستغلال الإسلام لاظهار مناطق التناقض بين الماضي (الزاهر) والحاضر التحديثي المتغرب المراكم للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية في البيئات الشعبية.
عدم قدرة مثل تلك الأنظمة العسكرية أو المَلكية المحدودةِ الشعبيةِ والمنجزاتِ التحويلية على حل تناقضات التنمية والديمقراطية وسيرورة الهيئات البيروقراطية السياسية متنفذة يوسعُ الشروخ.
لم يقدر النظامُ العسكري الانقلابي الأفغاني على فهم ظروف إفغانستان والمسلمين عبر سلق التطور وجلب صيغة إنقلاب فوقي يقومُ ببعض الإجراءات الشكلية كقيام الجمهورية وتغيير حياة القبائل بطريقة فوقية، بدلاً من فهم الإسلام وإجراء إصلاحات في مُلكية الأرض وتحسين حياة الفلاحين والقبليين المعدمين وتوسيع الأعمال الحرة والمصانع وإحداثٍ تآخٍ بين القوميات والمذاهب.
هذه الثغرات الواسعة تركت لشيوخ القبائل الإقطاعيين الطائفيين فرص تخريب إفغانستان بالكامل بعد التخريب الجزئي للعسكريين.
وكانت التجاربُ الأخرى من الصومال والسودان واليمن وغيرها عيناتٍ مماثلةً بحيث توسعت عملياتُ التحلل والانهيار من الحدود إلى أعماق الدول المدنية.
لهذا فإن قرناً من النهضة الحديثة في مصر لم يُجابه طائفيةَ الإخوان ولا دينية الحكم التقليدي، فراح التآكلُ الفكري السياسي بالعودةِ للأشكال الشمولية الدينية في الجماعات التحديثية يتصاعد، بدلاً من القطع وتبني سمات الحداثة في العلمانية والوطنية والديمقراطية، ورفض الحكم العسكري والحكم الديني معاً، ولكن ذلك لم يحدث وحين عجز الشكلان العسكري والطائفي عن تجاوز نفسيهما وتصعيد الشكل المدني الديمقراطي التحديثي حدث الانفجار.
فواجهت عمومُ الأمم العربية والإسلامية ثقافةً عتيقة مخربةً راحت تتصاعدُ في العديد من الدول على أشكالٍ مختلفة وبمستويات متباينة، وأُعطيت الأسلحة لتتقوى ومناطق التجارب الصحراوية لتتدرب، والألحياء المعدمة الفقيرة في المدن لتحصل على الأعوان الفوضويين، وجاء ظهورُ الدول الدينية الطائفية العسكرية كتتويجٍ لهذا الانهيار في الوعي وفي عدم السيطرة على الخرائط والتجارب السياسية فأمتد تغلغلها في البلدان التي كانت مراكز للمدنية والتطور السلمي.
39 ــصراعاتُالوعيالعربيتاريخياً
ظهرَ الإسلامُ في ظروفٍ شديدةِ التخلف عند العرب والأمم المجاورة لهم، وبهذا فإن شكلَ الوعي المكرس فيه يقومُ على شكل مثالي ديني، تلعب فيه الكائنات الغيبية دوراً محورياً مهيمناً على الوجود، وذلك بسببِ غيابِ العلوم بمختلفِ أقسامها عند أهالي المنطقة البدوية خاصةً.
ومع تطور المسلمين واحتكاكهم بالحضارات التي سبقتهم والمنتجة للفلسفة فإنهم اتجهوا للاستفادة من هذه المنتجاتِ الفكرية المتطورة القديمة، بصفتهم أكثر شعوب الأرض وقتذاك تقدماً.
وهكذا راح المسلمون يستثمرون هذه المنتجات في تطورهم الحضاري المستقل، ومن هنا كيفوها مع الموروثِ الإسلامي الأولي، ومع الموروث الإسلامي الجديد الحضاري الذي تكون حين شكلوا تلك الحضارة، منقطعين عن المستوى السابق.
والذي قام بهذه العملية ليس المسلمين ككل، ولكن تلك الفئات المثقفةَ التي يعود تكوينها للفئات الوسطى عموماً، وقد أبقت على المنظور المثالي للفترة السابقة، مطورةً إياه في منظور مثالي موضوعي.
بين المنظورين المثاليين الديني الأولي، والديني الفلسفي، ثمة نقاط تشابه ونقاط افتراق، في كون الأول يمثل الفئات الوسطى المكية المثقفة، وهي تقودُ عمليةَ التحولِ في ظروف شديدة التخلف، وبأدوات النضال الجماهيرية.
واعتمدت تصوراتها على الرؤية المثالية الدينية في أبسط أشكالها، حيث الجمع بين الواقع والميراث الأسطوري الفكري القديم، المستفيد من الدينين السماويين السابقين، اللذين هما كذلك مستفيدين من الإرث الفكري للعصر القديم.
وفي الجزيرة العربية أتيحَ للفئةِ الوسطى التحرك بحرية تاريخية نسبية، لعدم وجود الحكم المركزي القوي، فغدت المثالية الفلسفية اقعية تحليلية – أسطورية – تصويرية – مغيرة للواقع المتخلف. فهذا الجمع المركب الهائل بين أشد فاعليات التغيير ورصد الحياة والاعتماد على الغيب لم يتجل مرةً أخرى.
في حين واجهت المثالية في عصر الحضارة الإسلامية التالية إمكانيات فكرية وعلمية كبيرة، فتخلص أغلبُها من الشكل الأسطوري التصويري، ودخل في الشكل الأسطوري المفاهيمي، متوجهاً إلى المقولاتِ والتركيبِ النظري الواسع واعتماد المنطق الأرسطي وطرح استقلال الطبيعة والمجتمع من التدخلات الغيبية المباشرة الحادة.
لكنه اعتمد المثالية كذلك عبر جعل هذه المقولات تخلقُ العالمَ، وتشكلَ الوجودَ، مع اعترافها بموضوعيةِ هذا العالمِ ووجود قوانين لتطوره. لكن هذه القوانين تتمثل في الجانب الطبيعي بدرجة أساسية، وإن كان هناك بحث مستفيض في البنى الاجتماعية.
وهكذا فإن الوعي الديني والوعي الفلسفي تماثلا في إعطاء القوى الماورائية إمكانيات تحويل الحياة، مرة عبر الرسول الكريم، ومرة عبر الفيلسوف، ومرة باعتماد الجمهور الشعبي للتحويل وعبر الدخول الجريء في الحياة، ومرة عبر العلوم والانسحاب إلى الزهد كفاعليةٍ سلبية هادمة للبذخ، فهنا حدث تغير في طبيعة الفئة الوسطى القائدة، فالأولى كانت غير تابعة للقصور، والثانية كانت تابعة.
والأولى إذ غيرت العالم فإنها أسست مدنيةً مسيطراً عليها ثقافياً من قبل مستوى بسيط سابق، في حين أن الثانيةَ كانت أكثر تقدماً ثقافياً لكنها عاجزة سياسياً وتاريخياً!
وهذه التحولات المتضادة أُزيلت بإيجابياتها في المرحلتين، المرحلة الإسلامية التأسيسية، وفي المرحلة الحضارية المدنية، في عصر الانحطاط فلم يبقْ من الثورة التأسيسية والارتباط بين التقدم والجمهور الشعبي، ووجود برنامج نهضوي مطبق على الأرض، ولا كذلك ضخامة الإنتاج الفكري والفلسفي والتداخل مع إنجازات العصور السابقة واستيعابه ثروة الأمم!
وجاء العصرُ الحديثُ متردداً متناقضاً، غير قادر على فهم العصرين السابقين وعصره هو.
أطروحةٌ، فنفيٌ، فنفي النفي، أي عصور ثلاثة متضادة، راحت تتشكلُ على مدى الألفي سنة من عمر العرب والمسلمين، كلُ عصرٍ يقومُ بنفي العصر السابق، ليس بشكل كلي، ولكن بشكل أساسي، والعصرُ الحديث لم يفهم إنه تركيبٌ، وإنه جمعٌ بين العصرين السابقين ونفي لهما معاً.
إذا أخذنا سلسلةَ التطورات التي حدثت خلال القرنين الأخيرين، فسنجدُ ثلاثةَ فتراتٍ كبرى: الأولى تمثلتْ في استيعابِ المنجزات الغربية، الثانية: في تشكيل تجارب لرأسمالية دولة شمولية، توهمت إمكانية تجاوز العصر الرأسمالي، الثالثة عودة متدهورة للفترة الليبرالية الأولى مع عودة كذلك للإقطاع السياسي والديني الشموليين، وبالتالي فإن هذه الفترات في العصر الحديث العربي شكلت هي الأخرى أطروحة فنفي فنفي للنفي، أي أننا نعيش في الزمن الراهن أكثف فترات التجاوز.
كان النهضويون الأوائل في القرنين 19 و20 يتصورون إن التماثل مع الغرب هو كفيلٌ بخلقِ النهضة، وحين تزعزعَ هذا الوهمُ راح الدينيون يتصورون وهماً آخر هو استرجاع الفترة الأولى من العصر الإسلامي.
أي أن دراسةَ العصرين العربيين السابقين ورؤية تضادهما والخروج بتركيب منهما، وفي ظل ثقافة الحداثة المسيطرة، كان يمكن أن يكشف للعقول قوانين التطور الاجتماعي، وبالتالي أن يؤدي إلى التحكم فيها.
إن عصرنا العربي الإسلامي التحديثي الراهن هو عصر التركيب، للعصرين العربيين السابقين، تداخل معهما ونفي لهما معاً. إنه عصر نفي النفي. وهو لهذا عصر التمثل العميق للحداثة العربية على مر الزمن والصعود بها إلى لحظة نوعية جديدة مقاربة للمستويات العالمية.
فأخذ إنجازات الثورة الإسلامية المحمدية، والجوانب الإيجابية من نضال الفئات الوسطى التحديثية في العصر النهضوي الأموي – العباسي السابق، وتشكيل نضال نهضوي للفئات الوسطى المتحالفة مع العاملين بشروط الحداثة المعاصرة.
وهكذا فإن إنجازاتِ التحالف الشعبي الديمقراطي الإسلامي النهضوي الجريء في اقتحامهِ العالم، يُضاف إلى تراكميةِ الثقافة الفكرية الموسوعية والانفتاح وعقلنة الفقه وعصرنته، وقد تم كل ذلك بوعي ديني مثالي مسيطر على أجهزة الحكم، تعبيراً عن القوى العليا مرة في تحالفها مع العاملين ومرة في انقطاعها عن التحالف مع العالمين.
وبهذا فإن طيفاً اجتماعياً واسعاً لا بد أن يتشكلَ ليعيدَ إنتاج الحضارة العربية المستقلة الحديثة، وهذا التحالف الذي في جوهره تحالف الفئات الوسطى والعاملين، له مضمون اجتماعي هو إعادة تغيير طابع الدولة، في ملكيتها الاقتصادية الشاملة، وفي مذهبيتها السائدة المتحكمة، وفي تحرير كافة هذه الجموع من الدولة الإقطاعية – المذهبية، وفي خلق طبقات وسطى وطبقات عاملة حرة، تتداول السلطة حسب برامجها المقبولة للجمهور.
وعمليةُ إجراءِ الإصلاحات في جسم الدولة – المجتمع الاقتصادي والديني والاجتماعي والسياسي، يعتمدُ على سلسلة من الإصلاحات في ظاهرات الوعي المختلفة.
إن جسمَ الدولةِ – المجتمع الذي يعيش النظام الإقطاعي المذهبي، يعيش المفردات الدينية الشمولية، كخلفيةٍ متحكمة فيه عبر القرون.
وإذا كانت صورُ الإلهِ الواحد هي التي تهيمنُ على الكون فإن الحاكم الواحد هو الذي يهيمن على السلطة – المجتمع. إي أن هذه (الصور) تعبيرٌ عن مذهبيات شمولية تفكيكية للجسد الإسلامي، وتقارب هذه الصور، أو ظهور صورة مختلفة مميزة عن العصور القديمة، سيكون تعبيراً عن الإصلاحات العميقة الجارية في البــُنى، وللتقارب العربي والإسلامي والعالم .
40 ــإرتباكُالإصلاحاتِالعربية
يعودُ إرتباكُ الإصلاحاتِ العربية لكون القوى السياسية التي تقود العمليات هذه لا تحملُ المفاهيمَ الصحيحةَ للإصلاحات ولا تعبرُ عن القوى الاجتماعية القادرة على إرساءِ مضامين الإصلاح في الواقع.
فقوى اليمين التقليدية هي التي لها الأنصبة الأكبر، وهي تختلفُ حسب تبايناتها الطائفية لا حسب برامج الإصلاح العالمية التحديثية.
إن القدومَ من العصر الوسيط، والإبقاء على سمات المجتمعات القديمة من هيمنةٍ كلية أو عامة على السلطات، إلى إستمرار عبودية النساء المنزلية، إلى الإبقاءِ على النصوصية الدينية السطحية في الدساتير والثقافة العامة وهي نصوصيةٌ غيرُ ديمقراطيةٍ وغيرُ عقلانيةٍ، هذه كلها تؤكد هزيمة مشروع الحداثة العربية وقيام التقليديين الطائفيين والمحافظين بالصراعات الحادة أو الدامية في البلدان العربية.
إن هزائم قوى التنوير واليسار والعسكر الشمولية قد أعادَ مرةً أخرى القوى التقليدية للنفوذ السياسي الواسع على الحياة العربية، وهي لا تأبهُ كثيراً بالصراعات التي جذرتها في الواقع العربي المتعدد الدول ولا تعترف بمسئولياتها عن النتائج السلبية لتلك الصراعات.
فهناك تفككٌ واسعٌ للبُنى الاجتماعية بسبب مركزيةِ السلطات الطويلة، وسيرورةِ المدن العربية مراكز للهيمنة الاقتصادية بمشروعاتها غير الصناعية، سواءً كانت صناعةً ثقيلة أم خفيفة، وإنتشار الاقتصاد الطفيلي وأشكال أخرى من الاقتصاد المعتمدة على فيوضِ الصناعات الاستخراجية الضعيفة التطور الصناعي العلمي الجماهيري الواسع المبدل للبنى العتيقة.
ولهذا فإن أشكالَ الأعمال التجارية وقوى العمل الشعبية تغدو متدنيةَ التأثير وسلبية على المدى الطويل، فنجدُ إن بلداناً تعتمد على فيوض كبيرة من العمالة المهاجرة لا تقدم سوى إنشاءات مادية مرحلية، فلا يكون لها تأثير كبير مفيد على تطور البُنى الاقتصادية الاجتماعية، بل هي توسعٌ للجوانب الطفيلية، فتغدو المهنُ الطفيليةُ هي السائدة، فتقوم فئاتٌ بتأجير مختلف أنواع المُلكيات إلى فئات أخرى وتحصل على إيجار وريع وفوائد فيما هي لا تقومُ بأي عملٍ إنتاجي.
وهذا يصلُ للتأجير الفكري والتأجير الثقافي والسياحي، فهنا فئاتٌ لا تنتجُ أعمالاً بقدر ما توظفُ الفندقَ أو المبنى، أو الخدمات أو الأشياء، أو الأشخاص، أو الذات الكاتبة والمغنية والمفكرة، للغير نظير فوائد وعمولات.
إن الدولَ بهياكلها ما قبل الحديثة والمعتمدة على النفوذ السياسي والعائدة للقرون الوسطى، عبر سيطرة الطوائف والقبائل والعائلات والبيروقراطيات هي بعيدةٌ عن الحكم الديمقراطي الحديث، فهي حتى غير قادرة على تصعيد برجوازية صناعية أو حديثة تستجيبُ لقوانين السوق، وقوانين الديمقراطية، وقوانين العقلانية.
إن أحجام التخلف في المجتمعات العربية هائلة، ولم تؤدِ الفيوضُ النقدية لتحولٍ جوهري في القواعد الاقتصادية، ولم تفعل ما فعله الإمبراطور مايجي الياباني، عبر التحول للصناعات الثقيلة والخفيفة وتوسع التصدير، وربط التطورُ التالي ذلك بالحداثة والعلمنة وهزيمة القومية العدوانية بعد الحرب العالمية الثانية، بل عاشت البُنى العربية على الفيوض النقدية السهلة وتوسع الاقتصاد الطفيلي.
ولهذا نلاحظُ من الناحية السياسية إنتهاء سيطرات العسكر والبيروقراطيات القديمة المحتجزة على القطاعات العامة الفاسدة، نحو ولاياتِ الفقيه السنية والشيعية وغيرهما لتعيد إنتاج الماضي الاستبدادي.
إن ولايةَ الفقيه تعبيرٌ عن نشؤ طفيلياتٍ ودكتاتوريات على مستوى النصوصِ الدينية وعلى مستويات التفسيرات السطحية النفعية الخاصة بالقوى الاجتماعية البرجوازية الصغيرة الجديدة المتلاعبة بالأقوالِ الدينية نحو توظيفاتٍ طفيلية واسعة.
إن دكتاتوريات العسكر واليسار الانتهازي والقومي وغيرها هي طفيلياتٌ على مستوى النصوص العصرية المؤدلجة المُشذبة لصالح تلك الدكتاتوريات وبرفض قوانين الحداثة من ديمقراطيةٍ وعلمانيةٍ وعقلانية، فتقوم الطفيلياتُ الدينيةُ الجديدة بالحلول محلها، وتكرسُ أشكالَ الملكيات الخاصة الطفيلية تلك والتي إنتشرت بأشكالٍ واسعة عبر المقاولات والصرافة والبنوك وغيرها.
فيما تتطلب الأبنيةُ العربيةُ جبهات واسعةً متعاونة للتصنيع والعلوم والتقنيات وعدم إهدار الفيوض النقدية بالنوم والتآكل في الغرب والشرق، والعيش على الصراعات السياسية والمسلحة بين القوى في كل بلد وبين البلدان العربية والإسلامية بعضها البعض.
إن لغات الاستحواذ على تفسير المذاهب وعلى الكراسي والعقار والشركات والأسواق هي لغاتٌ تضربُ السوقَ الحرة، وتتفرد بالهيمنة على الوزارات والعهود القديمة والجديدة، وعدم العقلانية برؤية مسارات الانحدار الراهنة المضعفة لكل القوى، وتصعيد لسيطرات الذكور على الحياة والبيوت بأشكال متشددة من جهة، وفتح الأبواب للحلال الكامل للجنس الخشن، وإقتصاديات المتع والبذخ، وللفنون الحسية الهابطة من جهة أخرى.
أعادة النظر في أنماط التصنيع وربطها بتحولات السكان وإعادة الفوائض للاقتصاديات العربية بدلاً من شحنها للخارج، وتثوير العائلة الذكورية وجعلها ديمقراطية، ونشؤُ ولايةِ الشعب والبرلمان والسوق الحرة.
41 ــأزمةالأريافالعربيةبينعصرين
كانت الأرياف في المنطقة خلال قرون هي مصدر المنتجات الزراعية والاستقرار السياسي، رغم الجمود الاجتماعي السائد فيها، بل كانت الحياة الراكدة فيها والمحافظة أساس تلك التكوينات السياسية الأمبراطورية التي دامت فترات مديدة.
لكن مع تحول بلدان الشرق الأوسط إلى الحداثة الاستيرادية وبعدم وجود خطط تنمية شاملة في البلدان العربية والإسلامية وبغياب التتحويل ألإنتاجي المتعدد الصور للأرياف خاصة، دبت الاضطرابات في المنطقة خلال القرن العشرين، ويمكن أن نعتبر الانقلابات خاصة بأنها تمثل غلياناً مستمراً نابعاً من الأرياف المضطربة.
ولم تتوقف الاضطرابات في الأرياف حتى لحظتنا الراهنة، فنظراً لتدهور حال الزراعة وتدني أسعار المحاصيل الزراعية، وتمدد المدن الفوضوي فوق أجسام الريف، وتلاشي طبقات الفلاحين للهجرة نحو المدن أو للخارج، وغياب الأجيال الجديدة للعمل الزراعي، واقتلاع الأشجار وتحويل البساتين والأراضي الزراعية إلى مبان، وإزالة الحرف واتساع فترات الجفاف ونقص المياه وغيرها من الأسباب، غدت الأرياف المصدر الأكثر خطورة للحركات السياسية الضائعة أو فاقدة الأمل والتي تقودها ميراثاتها الدينية إلى الصدامات المختلفة الفوضوية أو المغامرة غالباً.
وقد فهم مؤسسو الحركة الصهيونية وإسرائيل فيما بعد أهمية خلق ريف مختلف عن أرياف المنطقة، وبأن يكون متقدماً، فنشأت حركة الكيبوتسات أو المستعمرات بدءً من سنة 1908، وصلت أعدادها سنة 2004 إلى 278 وتضم 126800 نسمة وهي تنتج 40% من محاصيل إسرائيل الزراعية، و8% من إنتاجها الصناعي في وقت سابق.(راجع موسوعة عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، 2004). وقد عادى المهاجرون من الدول الشرقية كالروس هذه المستعمرات وتدفقوا على المدن الصغيرة وتراجعتْ أعدادُ المستعمراتِ كثيراً عما كانت عليه وقت ازدهارها. وقد ظهرَ معظمُ قادة إسرائيل الكبار من هذه المستعمرات.
وعلى ذمة جريدة القدس فإن نصفَ المزارع التعاونية هذه قد أفلست في نهاية لثمانينيات من القرن الماضي، وقد بدأت الحكومات بإعادة تجديد المستعمرات وخلقها بصور مختلفة تقنية وفنية، لتغيير واقع معين وإظهار إسرائيل بصورة مختلفة.
كان ذلك في الماضي تفكيراً إستراتيجياً، وغدت هذه المستعمرات أساس الوعي السياسي العلماني الشائع، ولكن تدفق المهاجرين الشرقيين وهبوط حركة المستعمرات وتلاشي دورها السياسي، صّعد القوى الدينية المتطرفة، وهو أمرٌ مماثلٌ في الجانبين العربي والإسلامي ولكن لأسباب مختلفة.
فهذا شيءٌ مختلف عن دولة المواجهة والقيادة العربية وهي مصر التي لم تقم الطبقات المهيمنة العليا فيها بمثل هذه الخطة أو بمقاربتها، بل تركت الأرياف تعاني التخلف وسيادة الملكيات الكبيرة وأدوات الإنتاج المتخلفة، وقد حاولت ثورة يوليو إجراء تغييرات في هذا الواقع، لكن الارتدادات السياسية مع السادات إعادة الريف المصري لما كان عليه، إن لم يكن اسوأ فقد زاد عدد السكان وبقيت الأرض الزراعية بمحدوديتها ووسائل إنتاجها السابقة وتنامت طرق الإستغلال العتيقة.
كانت أسرة البدراوي وحدها تمتلك أيام الثورة سنة 1952(36 الفَ فدان)، وقـُلصت في الإصلاح الزراعي الأول، وحتى زمن الإصلاح الزراعي الثاني سنة 1965 كانت تلك الأسرة تحتفظ بالكثير من أراضيها، وأعطي قسمٌ منها للعائلات الفلاحية الفقيرة ويبلغ (سبعة وخمسين فداناً)!
في عهد السادات صدر قانون العلاقة بين المالك والمستأجر يتضمن فعلياً تحويل الأملاك المُصَّادرة سابقاً لمالكيها السابقين.
(وقد قام القانون رقم 96 لسنة 1992 برفع القيمة الايجارية إلى 22 مثل الضريبة، بزيادة تجاوزت 300% وأعطى المالك منفرداً الحق في إنهاء عقود الإيجار الزراعية اعتبارا من العام 1997) وهو أمر يحول الفلاح إلى قن.
(وازداد الوضع سوءاً بعد انخفاض أسعار المحاصيل وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من تقاوي وكيماوي وإيجار ومعدات، إضافة لقصر دور وزارة الزراعة على الجانب الإرشادي بعد أن كان دوراً خدمياً يشمل تقديم مستلزمات الزراعة بأسعار منخفضة وحماية المزارعين من التجار والمرابين وبيع المحاصيل وتسويقها بأسعار تشجيعية حماية للفلاح من سيطرة الاحتكارات)، موقع إسلام أون لاين.
(ويرصد عريان نصيف – مستشار اتحاد الفلاحين تحت التأسيس – تطور أحوال الفلاح المصري في دراسة له حيث يقول إن 22% من ملاك الأراضي كانوا حتى عام 1894 يحوزون أكثر من 50% من جملة الأراضي، وإنه وفقا لإحصاءات 1950 كان حوالي 75% من الفلاحين أجراء في أراضي مملوكة لكبار الملاك.)، السابق.
وكان من جراء هذه الظروف السيئة كلها تدفق المقتلعين من أراضيهم وظروف عملهم المستقرة نسبياً، الموروثة، إلى ضياعهم في المدن، وفي خارج مصر، وإستغلالهم سياسياً واقتصادياً. (90% من عمال الأرصفة والمشردين من الفلاحين في المدن).
إن وعي هذه الجماهير الريفية سواء كانت لاتزال في القرى أو هي مهاجرة منها، هو وعي ديني، فهي غير منظمة، ولا تعرف جذور مشكلاتها، وهي أمية وبالتالي تجذبها الشعارات الدينية ففيها عبادتها وحياتها، لكن يتم تنحية هذا الوعي باتجاه سياسي معين تغيب فيه قضية الريف وتغييره الاقتصادي فـُتستخدم هذه الجماعات للصراعات السياسية في المركز، وكان أغلب قادة وجمهور الحركات الدينية من هذه الأرياف. ووعيهم يوجه القضية باتجاه الأصطدامات مع الكفر والخيانة والردة وغيرها من هذه المطلقات غير المناسبة، فتضيع قضيتهم التي سببت إقتلاعهم من ريفهم.
ويكفي من سخرية الموقف أن أكبر طبقة مُعرضة لأقسى المشكلات وهي طبقة الفلاحين أن يكون اتحادها حتى الآن تحت التأسيس!
42 ــالابتعادعنالخيارالعربي
دُفعَ الجمهوري الريفي البسيط المحروم المذهبي إلى واجهة السياسة والمسرح بعد عذاب طويل وإستغلال بشع، وخدعوهُ بأن نصرهُ وشيك من خلال الشعارات المذهبية الذي لم يجر فيه سوى تقوية بعض القوى المتخلفة التي صعدت قوى الحكم البيروقراطي العسكري المغامر بمصائر المسلمين وتفتيت صفوف العرب خدمة للاتجاهات القومية الأخرى.
وهذه الولاية الفاسدة بعد أن ملكتْ الدنيا وزخرفَها الأمبراطوري حركتْ الأنواءَ الطائفية والدينية، أخفقتْ في ثورتها المزعومة، وصارتْ سياطاً على ظهور الكادحين، مهددةً شعوب المنطقة بالحرائق والأهوال.
لكن هذا لا يضيرُ الشيعةَ فهم أهلُ النضال والاحتمال على مر القرون، وكم خُدعتْ القوى المذهبية والسياسية السنية والأفكار الليبرالية والشيوعية الأخرى، لكن هذا يضير الجماعات السياسية القائدة في الطائفة الشيعية والجماعات السياسية التي ناصرتها في الجماعات الأخرى عبر إنخداعها بشعارات الملالي المحدودة وبعدم تبصرها، ومحدودية رؤاها.
إن شعار ولاية الفقيه عارض نضال الشيعة وصبرهم وإتساع صدروهم، ولجئوهم للنضال المسالم، وجعلهم بعد هذا الصبر الهائل في مقدمة المسرح العاطفي الحاد يعرضون أنفسهم لأفدح الأخطار والأهم إنهم يمزقون الأمة العربية في حراكها الكبير الراهن!
أين مقدمة صدروهم الآن؟
أفي جبال اليمن يُحصدون؟
أو يجابهون أخوتهم في العراق؟
أو يخدمون عصابات القتل في لبنان وسوريا؟
أو عند حزب الله (والعياذ بالله!) يعارضُ كل قوى التحررية اللبنانية والحداثة ويدافع عن سيطرة البوليس السوري الذابح لمفكريهم ومناضليهم والذي يريد أن يكون مهيمناً على حياتهم ومصائرهم، فأي إرث فاشي يريد أن يحوز؟
أم في السلطة الإيرانية الدكتاتورية الدموية التي تقهر الشعب الإيراني وتستغل عيشه؟!
ليس الآخرون بأفضل من ذلك، وليست المذاهب الأخرى والدول الأخرى بأجمل من هذه البشاعة.
ولكن هم لم يتنطعوا للقول بأنهم طريق العدالة الشاملة الآلهية النازلة عليه بالمن والسلوى.
ونحن نناضل ضدهم في إنزياحهم للدكتاتورية والعنف سواءً بسواء، لكن جماعة ولاية الفقيه أشعلوها فتنة خطرة راهنة.
وكان آياتُ الله العظمى الكبار في الطائفة الشيعية لم يدعوا إلى ذلك، وعَرفوا مقام العقل الديني المحدود المتطور على مر العقود، وكان معاصَرنا فيهم السيد السيستاني أزدان العقلُ الحكيمُ فيه، والذي ليس بين يده آية سحرية يقول لها كن فتكون، بل الأمور تعود لتطور طويل، وصراعات جمة كبيرة، وإجتهادات كثيفة، لا يكون الدينُ فيها مباشراً، بل مراجعاً متأنياً حصيفاً، وليس مراهقاً مدعياً نافشاً ريشه، بل يسري أحكامه بحكمة.
أي مذهب وفكرة دينية أو علمانية أو قومية تضع نفسها تحت سيطرة الدول وقوى العسكر المغرور فمآلها الخسران.
لا ولاية إلا للعقل المجتهد الحصيف العادل بين الناس. أي لقوى الفكر والوعي بين الناس المعبرة عن الأغلبية فيهم لا يفرض نفسه إلا من خلال قراراتهم، لا ولاية إلا للجمهور العربي المكافح من أجل التحرر والديمقراطية.
43 ــالبُنىالعربيةُوالثورات
تدهورت عقلياتُ العديد من المراقبين لسطوح الأحداث بسبب تكويناتهم السياسية المضطربة والذائبة في الجمهور العفوي والتي لم تتطور عقلياً بسبب تردي الثقافة والإنقطاع عن التحليلات المعَّمقة والدرس.
فهناك التعميماتُ المسطحةُ التي تُقال عن الثورات دون رؤية تنوع البُنى الاجتماعية العربية وكون كل واحدة منها ذات تطور تاريخي مختلف ومشترك مع المنظومة العربية، وترى الأحداثَ من خلال الوعي البسيط للجمهور العامي(المعلم)، الذي إستطاع أن ينقل العالم العربي نقلة تاريخية رغم أسره، ويُنتظر أن يتطور هذا الوعي البسيط لاحقاً بعد عقود من إحتكار الحكم والتوجيه.
إن أهم قضية محورية مركزية هي تحديد قوانين التطور الاجتماعي في كل بنية عربية وأهم هذه القوانين هو قانون الصراع الطبقي الرئيسي، فأما أن يُطرح هذا بشكلٍ إيديولوجي مُسقط من قبل الوعي السياسي على الواقع، وأما أن يُدرس بشكل حقيقي.
لقد قامت الرأسمالياتُ الحكومية الشمولية بأدلجة هذا الصراع، وجعله سابقاً بين الاشتراكية والرأسمالية، وهذا ما نراه في البنية الاجتماعية السورية حيث يُقال أنها بنية مقاومة أو إشتراكية!
لكن التناقضَ الرئيسي في البُنى الاجتماعية العربية هو التناقضُ بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة. وفي كل بلد يكتسب هذا الصراعُ درجةً من درجات التطور المختلفة في البنية، كذلك يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والسياسية والعلاقات بالخارج، فعلاقات الرأسمالية الحكومية بالغرب وبالرأسمالية الغربية ودرجة إستقلالية الجيش والطابع الاجتماعي للسكان كسيطرة الأشكال القَبلية أو الوعي الديني المحافظ أو على العكس توسع الفئات الوسطى المتعلمة ومدى إزدهار الرأسمالية الحاصة وقوى العمال والنقابات، فكل هذا يساهمُ في تطورِ التناقض بإتجاه الحسم الديمقراطي، أو بقائه في العنف الحكومي!
حين يُقال بأن التناقض الرئيسي ليس هو ذاك بل هو التناقض بين العمال والرأسمالية، نكون قد قفزنا عن مستوى البُنى الاجتماعية ودرجات تطور قواها الإنتاجية المتخلفة عربياً، والتي هي بحاجةٍ لتطوير طويل ونكون قد طرحنا أهدافاً تتجاوزُ مستوى الناس والطابع الموضوعي للاقتصاد.
إن التناقضَ الرئيسي في تونس ومصر كان واضحاً بين رأسمالية حكومية في مواجهة رأسمالية خاصة متسعة، أتخذ فيها الجيشان وضعاً محايداً بين القوى الاجتماعية السياسية المتصارعة.
لكن هذا لا يعني إن القطاعات العمالية والفلاحية والحِرفية لا تدخل في التناقض العام، لكن السؤال من هو القطاع القائد والقادر على خلق قفزة في القوى المنتجة والأحوال الاقتصادية لمختلف الطبقات؟
إن هذا التناقض الرئيسي لا يظهر للناس بل ربما حتى للقوى السياسية، فهي تضعُ تصوراتَها وأحلامَها ورغباتها بدلاً من الواقع الموضوعي، كما أن التصورات الإيديولوجية الحادة تعكس رغبات مغامرة في لي التطور خدمةً لهذه القوى.
ومن هنا فبعض القوى اليسارية تبالغ في دفع التناقض لإزاحة الرأسمالية الخاصة وإعادة الرأسمالية الحكومية بشكلٍ موسع وقاهر، فيما تتوجه قوى أخرى لشراء الأملاك الحكومية أو بيع القطاع العام، لكن الانتخابات والصراع السياسي العقلاني لا بد أن يضع مصالح البنى الاجتماعية وتطورها الموضوعي المدروس قبل أن تتوجه كل قوة سياسية لفرض نفوذها.
إن حيادَ الجيشين التونسي والمصري في عملية الصراع قد ساهم في حل سريع وبخسائر محدودة، كذلك فإن جسمي الطبقة الوسطى في كل من البلدين قد طورَ ذلك، فيما أن اليمن لم تستطع إيجادَ طبقةٍ وسطى شبه واضحة وقطاع خاصٍ قوي، فبقيت البنيةُ الاجتماعيةُ قَبلية تائهةَ الملامح، كما أن إنقسامَ الجيش في اليمن وعدم وجود نخبة ديمقراطية موحَّدة من الضباط الكبار أدى لتحول الجيش بيد فريقين هما العائلة الحاكمة وعائلة الأحمر، وكلُ من جهتهِ يسحبُ الجيشَ لصالحهِ وتحدثُ معاركَ وعمليات إستنزاف حادة. إن غياب الحد الأدنى من الوعي النهضوي الوطني المشترك العقلاني في الطبقة الحاكمة اليمنية جعل البلدَ في مهبِ العواصف الفوضوية العاتية. إن هذا يعبرُ عن ميراثٍ لتاريخ سابقٍ من النزاعات والحروب الأهلية والقَبلية التي غيبتْ تلك الحدودَ الدنيا من الوعي الوطني المسئول.
وإذا كانت سوريا قد صعّدتْ من القطاع الخاص وأوجدت طبقةً وسطى ذات جذور تاريخية حضارية، فإن سيطرة العسكر الحزبي الشمولي العنيف خلال أربعين سنة قد جعلها فُتاتاً سياسياً، وأدى لتحول القطاع العام فريسةً للحكم، وطُحنت الفئات الفلاحية والعمالية والانتاجية الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ولهذا فقد قام الجيشُ المؤدلجُ حامي اللصوص بذبح الشعب.
وهو الأمر الذي جرى نفسه في ليبيا ولكن من قبل عائلة صغيرة ورئيس مهووس، أمكن لتعاون القوى الشعبية والدولية من كسرهما.
إن تشكيل قوى واسعة لأجل قيادة القطاعات العامة للتطور الاجتماعي المخطط والناهض بقوى الإنتاج البشرية والمادية، وبالتعاون الديمقراطي مع القطاعات الخاصة، وتفجير قوى الثقافة والعلوم ومختلف قدرات السكان، هي المهمات التي ينتظر أن تُفعل خلال الحكومات البرلمانية القادمة العربية.
44 ــالتوصيفُالطبيعيللربيعالعربي
تعتمد وجهاتُ النظر المتابعة للأحداث العربية التوصيف الطبيعي القادم من قراءةِ الطبيعة ومماثلتها بالحراك الاجتماعي البشري، وعبر نقل مشاهد الطبيعة إلى التطور الاجتماعي، وهي نقلُ قراءةِ مستوى إلى قراءةِ مستوىً مغاير مختلف.
وعادةً أن عمليةَ النقل هذه ومشابهة المجتمع بالطبيعة قد جرتْ خلال قرون، بسببِ صعوبة فهم تحولات المجتمع، وقراءة قوانينه المتميزة الخاصة، والتي تحتاجُ لعِدةٍ تحليليةٍ تستندُ على مجموعةِ علوم كالاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة.
وعمليةُ النقلِ هذه قد جرتْ كما هي الحال في(علم) الهيئة الذي ظهرَ في بدءِ النهضةِ الغربية حيث تتمُّ مقارنة وجوهِ الناس بوجوهِ الحيوان للاستدلال على طبائع البشر، فهذا وجهٌ شبيه بالحصان، وذاك وجهٌ شبيه بالذئب ويتم نقل صفات الحصان أو الذئب لما يشابهما من الناس!
ولهذا فإن نقلَ دورة الفصول الطبيعية للحياة الاجتماعية هو نقلٌ خاطئ، وإعتماده في السياسة يؤدي لنتائج وخيمة.
ولقد أعتمدَّ ذلك على ثقافةٍ اسطورية عربية قديمة حيث الربيع مركز التجدد والتحول، ومن هنا جاءتْ اسطورةُ أدونيس وتموز – يوليو، وقامت ثوراتٌ في شهور القيظ.
وإذا كان الربيعُ فصلاً من فصول السنة حتمي الحضور والغياب، فهذا ليس من طبيعةِ الثورات، التي لها قوانينٌ مختلفة، متعلقةٌ بأزماتِ البُنى الاجتماعية ومدى تجمع التناقضات الاقتصادية والاجتماعية بها ومدى حراك الوعي المتداخل معها.
لهذا فإن الدخول والخروج في الثورات ليس بيد الجماعات السياسية والاجتماعية بل هو مرتبط بتلك الأزمات الموضوعية العميقة في البُنى ومدى إستجابة الجماعات السياسية والاجتماعية لها ولكنها لا تستطيع أن تُشعلها كيفا تريد.
لقد حاولتْ مجموعاتٌ سياسية إدخال بعض البلدان العربية في الحراك السياسي الجماهيري نحو تغيير الأنظمة فلم تنجح، وأحدثت مشكلات أكبر للمجتمعات، لكونها قامت على عدم قراءة الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية وعملت بشكل إرادي دون أن تكون هناك ظروف موضوعية.
هذا ما رأيناه مثلاً في دولة الكويت التي حاولت مجموعاتٌ سكانية مؤثرة تحريك الكويت للربيع العربي!
لا يعني ذلك عدم وجود مشكلات في الكويت، لكن عقلية المماثلة وسحب الكويت للربيع العربي هو نوعٌ من الكاريكاتير السياسي!
ظروفُ الكويتيين الاقتصادية الجيدة ودخولهم العالية لا تسمح بوجود ثورة مشابهة لما يجري في أزقة تونس ومصر العمالية الفقيرة!
على مدى عقود كان المطروح في الكويت هو تطوير ثقافة التنوير والحداثة والعلمانية والديمقراطية، وحين ساندت قوى معينة في الكويت دكتاتورية العراق القومية السابقة كانت تعرقل تنامي تلك الثقافة، وهذه العملية تعبيرٌ عن وجود قوى شمولية سياسية وإجتماعية محلية، لم تنصهر في بيئة ديمقراطية جنينية.
أو حين يقفز البعضُ في الكويت لمهام إشتراكية شمولية، وهو لم يقاوم عادات الاستبداد بالنساء.
كيف إنقلبتْ الكويت من مشروعِ تنوير في الجزيرة العربية إلى مشروع مغاير؟
لا شك أن البيئة البدوية وتناميها عبر الهجرات الصحراوية، وتصعيد القَبلية على حساب قيم التحديث، لعبت أدوارها في إضعاف أجنة القوى الديمقراطية، وكانت كارثة الغزو قد خلطت الأوراق وأربكت التطورات الوطنية رغم أنها ولدّت وطنيةً جديدة قامت على أساس المشاعر الفياضة العفوية.
لم تعمل أجنةُ القوى الديمقراطية لحل القضايا الرئيسية الاجتماعية السياسية المحافظة، كالقَبلية والطائفية والذكورية الاستبدادية وهدر الثروة العامة، وتصعيد التحالف بين القوى التجارية الليبرالية والقوى الشعبية نحو أهداف ديمقراطية مشتركة.
فهذه العتبةُ النضاليةُ الضرورية صعبة، لأنها مجابهة لقوى أهلية متخلفة الوعي، واسعة الانتشار، وتحتاج لجهودٍ يومية كفاحية وعميقة الوعي ومتأصلة الثقافة، واللغةُ الفوضويةُ العاطفيةُ بإتجاهِ اليمين الديني المتوجه لتصعيدِ دكتاتوريةِ طائفة السنة أو طائفة الشيعة أسهل بكثير من تصعيد التحالف النهوضي الوطني الديمقراطي بين كافة الطبقات الذي يحتاج جهوداً مضنية في مجال العمل والبحث والانتاج المادي والفكري.
إختيار الطريق الأول هو الذي جرى، الطريق السهل هو الذي إنفتح، لأن كلَ فئةٍ إجتماعية وسياسية لا تريدُ أن تضحي، تريدُ ما هو سهل وسطحي، فلماذا أناضل من أجل النساء والعمال والتجار والبدون وأجمعُ الناسَ على قيم مشتركة تحتاجُ لسنواتٍ من أجل التأصيل والتضحية بالجهود والمال، الأسهل أن أحركَ نوازعهم الطائفية وأوجهها ضد الدولة!
وهذا ما حدث فتغلغلتْ الطائفيةُ السياسية السنية والشيعية كلٌ بطريقتها، وكلٌ كسبتْ حُطاماً من كيان، وكان الخاسرُ هو الوطن الكويت الشعب!
يحتاج الربيعيون في الكويت إلى قراءة العلوم الاجتماعية.
45 ــالرأسمالياتُالحكوميةُالعربيةفيطورالأزمة
تواجه الرأسمالياتُ الحكوميةُ العربية حالاتٍ متعددةً من الأزمات، وهي كلها تمثلُ حقبةً مختلفة عن حقبة الإزدهار.
حين كانت تونس في زمنِ بورقيبة بتعاونهِ الوثيق مع إتحاد العمال وكأنهم فرعان من شجرة الشعب الواحدة، كان ثمة إنسجامٌ وتوافق. وكذلك زمنُ أحمد بن بللا في الجزائر والطور الأول من حياة الرئيس بومدين، كانت الرأسماليةُ الحكومية في كلٍ من البلدين في حالةِ توافقٍ نسبي مع الجمهور.
وهكذا كانت الرأسمالياتُ الحكوميةُ العربية المتعددة في طور التأسيس، وإنهمار فائض القيمة على الحكومات، ويلعبُ شكلُ التوزيعِ لفائضِ القيمة دوره في تحديد المسارات السياسية والاجتماعية لكل بلد.
وقد مضتْ البلدانُ العربية في مساراتٍ عدةٍ في هذا التوزيع، ويتجلى ذلك في طبيعةِ أملاكِ وثروات المسئولين أولاً، وطبيعة وأحجام ومستويات الرأسمالية الحكومية ثانياً، وكيفية نشؤ الرأسماليات الخاصة المتنفذة في أثناء عمل الرأسماليات الحكومية وطبيعة الرأسمالية الخاصة المستقلة ودورها وأهميتها ثالثاً، ومعيشة وأجور العمال رابعاً.
عندما حاولَ أحمد بن بللا مشاركةَ العمالِ وجعلَ مرتبتَهم في السلم الاجتماعي تقفزُ عن التراتبيةِ الطبقيةِ الرسمية المعتمدة من قبل البيروقراطيةِ السياسيةِ العسكرية حدثَ الإنقلابُ عليه.
عندما حاول بورقيبة أن يقوي البيروقراطية والرأسمالية الخاصة حدث الصراع بينه وبين إتحاد الشغل.
تجري الصراعات والأزمات وتُبنى الإيديولوجيات وتتفاقمُ المشكلاتُ بسبب صراع هذه الأطرافِ الأربعةِ الرئيسية، أو هذه الحصص الاقتصادية القادمة المتصارعة على أنصبتِها من الفيضِ المالي للإنتاج.
وكلما ظهرت أطرافٌ جديدةٌ إحتدمتْ الأزمة. أو كلما ظهرتْ محاولاتٌ لتغيير التوزيع في هذا الفيض تفجر الخلاف.
إن العمالَ هم آخرُ القوى الاجتماعية في عملياتِ التوزيع الخاصة بالنظام الرأسمالي الحكومي، في البدء هم الذين ينتجون ويستخرجون الفيضَ الاقتصادي ثم يذهبُ الفيضُ للوزارات لتحددَ أقسامَهُ وطرقَ توزيعه: رواتب المسئولين ومكآفاتهم، وحصص الوزارات والشركات التابعة للدولة، والعلاقات الاقتصادية مع القطاع الخاص، ثم أجور العمال.
بغيابِ علاقة ديمقراطية تحددها المؤسساتُ المنتخبةُ يحدثُ التداخلُ والاضطرابُ في علاقاتِ هذه القوى الاجتماعية، أو هذه المراكز الكبرى للحياةِ السياسية الاجتماعية، أقسامٌ من الدولة من مختلفِ المستوياتِ وبأحجامٍ رأسماليةٍ متنوعةٍ تنشيءُ فروعاً للاقتصاد الخاص وتمولهُ عن طريق القطاع العام، وينقلب الاهتمام من القطاع العام للقطاع الخاص، ويحدث هذا التخثر في النمو، والإشكاليات المتعددة، حيث يجب أن يقود القطاع العام لا أن يُقاد. ولكن قيادته تتطلب مركزية الدولة وديمقراطيتها وقيادتها للعملية النهضوية لكافة أطراف الإنتاج.
في عمليات الاضطراب والإختلال التي تجري تتغير حصةُ العمال من الفيض الاقتصادي، وتزدادُ نقصاً بعوامل الإختلال وبعوامل خارجية إضافية، ومنها طبيعة المواد المنتجة وأسعارها في السوق.
في تعملق القطاعين العام والخاص تجري حسابات دقيقة بحيث أن تكون هذه العملقة قادرةً على تطويرِ حياةِ الجزء الرابع من البناء الاقتصادي وهو العمال، وفي حال عدم وجود مثل هذه الحسابات الدقيقة فإن الشريك يَدخلُ في حالاتِ تمردٍ تبدأُ من العقلانية إلى الجنون والفوضى.
ويُلاحظ ذلك في طبيعة الإيديولوجيا الدينية كأحد المقاييس في عملية الانتقال هذه.
عندما تحدث علاقاتٌ ديمقراطيةٌ وعملياتُ تخطيط وحواراتٍ بين القوى الأربع السابقة الذكر تسودُ العقلانيةُ السياسية، لكن حين تفلت الأمور، وتتضخم أطرافٌ على حسابِ أطرافٍ أخرى، تصعد اللاعقلانيةُ ويمكن مراقبتها في تبدلِ مزاج الجماهير من السلم نحو العنف: مثل كثرة الجرائم الشخصية وغيرها واللامبالاة الاجتماعية الواسعة، وصعود أطراف دينية تعبرُ عن تغيير القسمة والتوزيع الاقتصادي بطرقٍ ذاتية حادة وكأنها قادرة على تغيير قوانين الاقتصاد والسياسة بالسحر والدجل.
لكن هذه ليست سوى حالات ضرورية مؤقتة، بمعنى إنه في عملية التحول الشاقة التاريخية التي تجري من الرأسماليةِ الحكومية وهي شكلٌ متخلفٌ شرقي من التطور الاقتصادي السياسي، إلى الرأسمالية الحرة ذات القوانين الاقتصادية الناتجة من داخل البنية الاقتصادية، سوف تحدث صراعاتٌ وإنهياراتٌ وبناءات، بحيث أن البناءَ الاقتصادي الحكومي الهائل سيختفي أو تتلاشى أجزاءٌ كبيرة منه، أو يُعادُ تشكيلهُ حسب ضرورات السوق والحاجات الشعبية.
ولهذا فإن القراءات المعمقة والحوارات بين قوى الإنتاج المختلفة وخاصة عبر المؤسسات المنتخبة ستكون لها نتائج فهم العملية الموضوعية وضبطها، وهي التي تجري بنا وضدنا، والخارجة أحيان عدة عن الإرادات السياسية.
46 ــالرأسماليةُالعربيةُالحرةُالممكنة
يمكن القول إننا انتقلنا عبر الثورات العربية إلى إمكانياتِ الرأسمالية العربية الحرة كنظامٍ سياسي – إقتصادي، ولكن هذا لا ينطبقُ على الجميع وبالتالي فإن أغلبيةَ البلدان العربية دون ذلك.
ولهذا إن ما أشار إليه بعض المعلقين هو صحيح لكنه محدود، مثلما يعلق الأخ حسن نظام من البحرين حول الرأسمالية الحرة العربية الطالعة بين الدخان الديني والسياسي:
(مقالٌ جيدٌ وموضوعي ومصيريّ، حتى الأفق المنظور للمرحلة الوطنية الحالية؛ مرحلة الخروج من الإستبداد المزمن(الإقطاع السياسي والديني)والولوج في تشييد المجتمع المدني(البرجوازي). ولكن أكيد أن المسألة ليست بهذه البساطة أو الميكانيكية نحنُ نعتقد بأن بنية المجتمعات العربية الإسلامية لا تسمح بالبساطة المرجوة لإنبثاق البرجوازية الحرة، إلا أن القوة المالية الضخمة قد تساعد في المستقبل؛ خاصة بعد نضوب النفط أو تراجع أهميته الإستراتيجية، لتأسيس برجوازية حرة ومنافسة قوية للمركز الرأسمالي)، الحوار المتمدن.
نحن لا نتكلم بإطلاق وتعميمات لا ترى مستويات التطور في الدول وإختلاف بُناها الاجتماعية، بل نتكلمُ عن بلدان الثورات العربية وخاصة تونس ومصر الأقرب لبنيةِ الحداثة، والتي شكلتْ فئات وسطى واسعة وراكمت تجاربَ رأسمالية الدولة التحديثية الشمولية بتماثلها وإختلافها وتجاوزاتها.
ويجري الآن في مصر تحديداً وبقوةٍ الصراع بين الإقطاع السياسي والإقطاع الديني بعد أن أغتنيا بثمار الحداثة لكل منهما وبثمار الاستغلال العائد للعلاقات ما قبل الرأسمالية والحديثة كذلك.
إن الإقطاعَ السياسي الذي مثلّهُ الحزبُ الوطني لن يتخلى عن السلطة بشكلٍ تام فركائزه في القطاع العام والإدارة والجيش موجودة ولكن حصل على ضربة واسعة قوية بفضل الثورة وبتكون برلمان منتخب واسع الصلاحيات منقوصها بعض الشيء.
ومن الممكن للإقطاع السياسي أن يواصلَ نفوذَهُ ويستعيدَ بعضَ أشكاله لكن تم قطعُ العلاقةِ بين الدولةِ وتكون رأس المال. وهو ما كوّن ذلك الإقطاعَ حيث يتم خلق الفائض من خلال السلطة.
هذه هي النتيجة الحاسمة الاجتماعية السياسية الكبرى للثورات العربية.
لقد وضعتْ الثورتان المصرية والتونسية خاصةً حداً للاستغلال السياسي للدولة، لكن لا يمكن وقف بقاياه وقضاياه الفردية بشكل مطلق فهذه قضية تاريخية متصاعدة.
المنتصر السياسي هو الإقطاع الديني. وهي المفارقة التاريخية، لكنها تعبيرٌ عن غياب التطور الديمقراطي الحر في الحياة الاجتماعية والفكرية العربية. وهو أمرٌ يعرقل تطور الحرية والتقدم الاقتصادي المطلوب في حياة النساء والرجال والريف والثقافة.
إن تحجيم الإقطاع السياسي يطرح تحجيم الإقطاع الديني معاً، لنمو الرأسمالية الحرة على الجانبين، الدولة، والشعب، فما تحتاجه هذه البلدان هو ثورة إقتصادية ترفع مستويات الأغلبية الشعبية وعيشها وثقافتها وعلاقاتها.
وما يميز البلدان العربية غير النفطية هو وجود أغلبية عاملة وفئات وسطى واسعة، وصعوبات إيجاد الفوائض المالية لخلق الصناعات الكبرى الجماهيرية، ودون تغيير طابع القوى العاملة وحشد أغلبيتها في هذه المشروعات، والحصول على الفائض وإدارته ديمقراطياً حسب الخطط التحويلية، تتعرقل عملية تطور المجتمع.
ومن هنا تصبح الرأسمالية الحرة ضرورة في حياة العائلة، بإدخال النساء في الصناعة بأشكال جماهيرية، وبتصعيد الثقافة والفئات العاملة الفكرية خلافاً لسيطرة الفئات اليدوية والعمل البسيط، فتطور البرجوازية يتطلب تطور الطبقة العاملة كذلك.
وبقاء الطبقة العاملة متخلفة يؤدي لهروب الرساميل وغياب الثورة الصناعية العلمية وهذا من الممكن أن يحدث لعدم فهم الدينيين قضايا التطور الاقتصادية، بحججٍ أخلاقية، هي تعبيرٌ عن إستبداد ذكوري مغلف، وبالتالي تغدو المعركة على الجانبين الحكومي ومدى توظيفاته الهامة في بؤر التطور الاقتصادي المطلوبة شعبياً، ومدى حراك الطبقة العاملة وتطورها ونضجها الاجتماعي السياسي لتصعيد هذا التطور.
تقلص الإقطاعين على مستويي الدولة والحياة الاجتماعية، ونشؤ حريات سياسية وإجتماعية وإقتصادية واسعة لن يتم بدون صراعات القوى السياسية ودفاعها عن مصالحها بخطابات إيديولوجية عديدة.
وبدون وجود الملح تتعفن المادة الاجتماعية والملح هو اليسار الديمقراطي.
فهذا كله ليس موقفاً يمينياً لكنه إستشراف اليسار الديمقراطي العربي للتحول الممكن. فلم يعد اليسار ذا خطابات عامة مجردة شمولية، بل هو يقدم قراءات متابعة لتطور البُنى الاجتماعية، يوجه الإرادة الاجتماعية السياسية نحو بؤرة المشكلة والتناقض الرئيسي، فكانت المشكلة المحورية هي رأسمالية الدولة الشمولية ويتم تجاوزها، والآن تواجه البنيةَ بؤرةٌ إشكاليةٌ أخرى لا بد من تجاوزها عبر تراكم الجهود للفهم والتحالفات والتوجه للتغيير.
إزاحة الإقطاعين وفتح الطريق لرأسمالية حرة طريق طويل لا بد أن نقرأه في كل خطواته بعمق وتأن.
وبالتالي فإن البلدان العربية ذات بُنى مختلفة متداخلة، فهناك دولٌ متقاربةٌ في مستوى وهناك دولٌ متقاربة في مستوى آخر، وكل منها له مساره، ولا بد أن تكون له قراءته النابعة من تطوره التاريخي الخاص.
ما كان قديماً من روشتة عامة، ونموذج مستورد مُعّمم، وقفزٍ على التطور الموضوعي، وعدم أخذ مسارات البُنى الاجتماعية للبلدان بظروفها الخاصة المتشابكة مع العام، هو منهجٌ يتمُّ تجاوزه لدى بعض الفئات السياسية لكن الطريق لا يزال طويلاً.
47 ــالعربُبيننارين
صراعُ الإقطاعين السياسي والديني إمتد طويلاً خلال العقود الأخيرة.
كلما جاءت قوةٌ سياسية للسلطاتِ العربية لم تستطعْ أن تنشرَ الحرية والديمقراطية والإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية، فهي ترثُ إمتيازات السابقين وربما قامتْ ببعض التغييرات لكنها ترثُ نفسَ أجهزة الدول السابقة بلوائحها وموظفيها ودورها المتنفذ.
الانقلابات العاصفة والانفجارات الكلامية السياسية خلال عقود وتحرك الملايين الهادرة في الشوارع، لم تُحدث تغييراً عميقاً، الإقطاع الجمهوري السياسي يرثُ الملكيَّ، أو ينسخُ الإقطاعُ الجمهوري نفسَهُ عبر إنقلابات يكررُ نفسَ النظام الانتاجي الاجتماعي السابق.
حين تصعد فئاتٌ متوسطةٌ تظهر لا على أساسِ الانتاج بل على أساس علاقاتها مع الدول والأجهزة.
الأفكارُ الليبرالية والديمقراطية والإسلامية التحديثية تظلُ في داوئر ضيقة غير متغلغلة جماهيرياً لأنها لا تقوم على أساس طبقات رأسمالية حرة أنتجتْ رساميلَها من السوق الاقتصادية.
القوى الانتاجية الشعبية تظلُّ بدون إصلاحاتٍ فالأريافُ تعاني الفقرَ والملكيات الزراعية الواسعة المتخلفة في أسلوب الإنتاج حيث قلة المكائن والعمال الأحرار، أما القطاعات العامة التي تزدهي بها الأنظمةُ وتصنعُ مواداً أولية تعبرُ عن مكانة الدول حسب سعر المواد لا حسب قوة الإنتاج، فإنها تتعرض لنفس الطفيليات الاقتصادية، وبهذا فإن القطاعات الاقتصادية المختلفة تعيش ما قبل الحرية.
مرت الدولُ العربية بثلاث ثورات حتى الآن، فكانت الثوراتُ الليبرالية في البداية، ثم الثوراتُ العسكرية، والآن الثورات الدينية.
الليبرالية حاولت قصقصتْ أجنحةَ الإقطاع ثم أنزلقتْ هي إلى حضنه، فكان ملاكُ الأراضي العرب وهم حضن الليبرالية والذين يقيمون مصانعَ على ضفاف الزراعة مالبثوا أن تكرسوا كإقطاعيين أكثر منهم برجوازية صناعية.
الحداثة الصناعية تتطلب ثقافة سياسية علمية تقنية مكلفة، والمصانعُ ذات دورات رأسمالية مطولة، وهذه المصانع الخاصة كانت تُجابه بصراع سياسي نقابي طفولي في أغلبه، والتوجه للرساميل العقارية والخدماتية أسهل وأجزل، وبالتالي تغدو العودة للإقطاع قوية.
إضافة إلى إقامة ثورة إنتاجية ثقافية علمية أمر مكلف وخطير.
المرحلة الثورية العسكرية قامت بتأميماتٍ وهيجان سياسي كبير وقالت بأنها ستغير الملكيات الزراعية الكبيرة وتنقلُ الأريافَ العربية للتحديث والغنى الاقتصادي لكنها لم تفعل ذلك عبر إعتمادها على نفس المكائن الحكومية القديمة التي تسربت الثروات إليها وبدلاً من الباشاوات صار الضباطُ الكبار باشاوات.
الثوراتُ الدينيةُ الراهنة عكست فشل قوى التحديث العربية بل كانت صفعات إجتماعية سياسية على وجوهها، الجانب السياسي من الدول الذي عكس الإقطاع السياسي، أتضح فشله ولكن ليس لخطوة للإمام بل للوراء. لم يقم بتراكمات ديمقراطية إجتماعية عميقة في الأبنية.
الإقطاعُ الديني يصعدُ من خلال هذه الجماهير العريضة المحطمة عيشاً ووعياً، ويستولي على نفس المكائن القديمة، ويريدُ شحنَها بزيته الخاص.
الدكتاتوريات تغدو دينيةً هذه المرة، وتظهر شرائح طائفية كل منها ضد الأخرى، مثل اللصوص الذين أتفقوا على الجريمة لكنهم إختلفوا بعد الحصول على الغنيمة.
وكل يوم تتفجر قضية دينية بشكل، وتنجرف كتلُ الجماهير للصراخ والعنف وتكرر ما فعلتهُ جماهير الخمسينيات والسينيات من غضب ولكن بأشكال أكثر فجاجة.
إعتمدت الجماعاتُ الدينية على حشد الغوغاء، وهي هذه الجماهير المُدمَّرة من تنميات رأسماليات حكومية غير مخططة ولا عادلة، ويتم صناعة هذه الجماهير مثل الجماهير الشمولية السابقة بالشحن والجمل المقطوعة السياق عن العلم، وبالهياج العصبي، والعنف المدمر.
كتل الثورات الثلاث، وجماهيرها، وثقافاتها مدعوة لرؤية الماضي والحاضر، ونقد تاريخها، ومعرفة سببيات تدهور مشروعاتها التحويلية وإستبدال آرائها وخطاباتها بقراءة موضوعية للواقع والتعاون الآن خاصةً بعدم التفرد السياسي، وبضرورة المشاركات الواسعة ورفض الاستقطابية الطائفية التي هي مكمن الضعف في المشرق العربي الإسلامي، والإستقطابية الدينية في مصر التي هي مكمن الخطأ التاريخي الوطني فيها.
ثوراتٌ تجريبية مكلفة كثيراً ولم يزل العربُ في مكانهم الأول في بداية القرن العشرين.
أجسامٌ سياسية مفتتة، وكلٌ منها دخل في بيته الخاصة يحاول أن يتطور.
ما قبل نشؤ الممالك والأمبراطوريات العربية إعتمد زمنُ الخلفاء الراشدين على هذه الصيغة البسيطة:
أغلب ما يملكهُ الحاكمُ الخليفةُ الراشدي هو للناس، وكلُ ما يملكه الناس هو للناس!
ومن هنا كان سبب (الفتنة الكبرى) هو إنقلاب هذه المعادلة وضياع الحدود بين ما يملكه أميرُ المؤمنين وما يملكه المؤمنون.
كل القرن العشرين إنقضى في بناء الاقتصاديات المتنوعة، أشكالٌ متنوعة من المركزية واللامركزية، وظل قانون التوزيع الاقتصادي هو نفسه منذ العصر العباسي:
ثلث الميزانية العامة للنفقات العامة ولميزانية الجيش وترميم القنوات وإنشاء الجسور وغيرها من الأعمال الضرورية للاقتصاد والبنية الاجتماعية حسب مقتضيات التطور في كل مرحلة تاريخية، وثلثا الميزانية للطبقة الحاكمة توزعها فيما بينها على حياتها الخاصة.
وهذا يشمل ما يُعتبر أملاكاً عامة وأملاكاً خاصة قادمة من الخراج فلم يكن ثمة مصطلح خاص بالأملاك العامة التي تخص المواطنين، فقد أنهار الحد الفصل بدءً من الفتنة الكبرى، فثمة غموض شديد هنا، وفي الأزمات يتسع الأمر لتغدو كافة الأموال الخاصة خاضعة كذلك للدولة.
أجهزةُ المحاسبةِ والتدقيقِ والرقابة لم تعرفها المجتمعات العربية طوال قرون، وقد طرحتْ الإداراتُ الاستعماريةُ التي إستولتْ على الوطن العربي فكرةَ الفصل، وإنشاء الميزانية العامة، والفصل بين الأموال العامة والأموال الخاصة.
لكن في العديد من البلدان العربية كيفت الإداراتُ الاستعمارية أوضاع الطبقات الحاكمة العربية مع التقسيمات القديمة كذلك، وأعطتها إمتيازات خاصة مبقية على وجودها المتميز واتسع هذا الوجود المتميز بعد إستقلال الدول العربية وعاد لالتهام العام.
ورغم ضخامة الموارد التي تصل لها، فإن الطبقات الحاكمة لم تقبل بهذا التقسيم غير العادل مصرة على تضييع الحدود بين الأموال العامة والخاصة العائدة لها.
وخلال القرن العشرين كله لم يُوضع الخط الأحمر بين العام والخاص، فرغم تطور علوم المساحة، والمحاسبة، وصعود الإدارات الرقابية، ونشؤ الأحزاب، وظهور البرلمانات، ونشؤ الانقلابات والجمهوريات، فإن الخط الأحمر ذاك لم يظهر.
إستمرتْ الطبقاتُ الحاكمة في تضييع الحدود بين الأملاك وتكشفت عن عبقريات مذهلة في هذا الخصوص، كذلك عملت الانقلابات العسكرية على إزالة الخط الصارم ذاك.
تضخمتْ الإداراتُ على نحو هائل، وأُضيفتْ المصانع والمعامل والورش وأحياناً حتى المتاجر والدكاكين لأموال الدولة، ولهذا فإن الجماهيرية الليبية كان كل شيء فيها بيد (الجماهير) من أموال النفط حتى المتاجر في بعض السنوات.
الدولُ العربيةُ المعاصرةُ قامتْ بنسخ الدولة الأمبراطورية القديمة التي تملك أغلب الملكيات الكبرى بدعاوى مختلفة، أي بأسماء مختلفة؛ الدولة الوطنية والدولة القومية والدولة الاشتراكية، لكن المضمون الجوهري راح يظهر عبر الزمن، فرغم وجود المشروعات العامة، وبناء الميزانيات إلا أن الثلث المخصص للظروف العامة، وثلثي الميزانية المخصصة للطبقة الحاكمة، لم يتغير كلياً، إلا مع وجود رقابة صارمة من حاكم مناضل أو مصلح كما حدث في فترات جمال عبدالناصر أو أحمد بن بللا على سبيل المثال، لكن البيروقراطيات المسيطرة على تحديد المال العام وإنتزاعه وتوزيعه والرقابة عليه، ظلت هي التي تكيف الاستثنائي للجوهري، أي تعيدُ العامَ للخاص، سواءً بحكم السيطرة اليومية أو بالاحتيال المنوع بإضفاء مشروعات وهمية أو بذكر مصروفات غير حقيقية، ورواتب عالية لفئات، أو أمتيازات الخ.
كما أن المشروعات الكبيرة والحروب وغيرها كانت تعيدُ العامَ الذي كان عاماً مخصصاً للناس حقيقةً إلى الخاص، وهذا لا يظهر في الأوراق الرسمية والحسابات العامة المطروحة في المشروعات، بل يظهرُ في الانقسامات الاجتماعية التي تتزايد مع تطور السنوات وعودة العام للخاص، حتى تصل الأمور إلى عدم الاحتمال، وظهور الفجوة واضحة بين الشعارات والواقع، فالجماهيرية تقول أن كل شيء للجماهير، لكن الجماهير البائسة تظهر للشوارع لتؤكد العكس!
وهذه القوانين الاجتماعية العامة لا تظهر في الاقتصاد بل في كل الظاهرات من الشِعرِ حتى الأزياء.
فالشعرُ في سنوات التنمية الوطنية، وتوجه الفوائض لخدمة الناس، يصيرُ شعراً عاماً مكافحاً، لكن في سنوات التدهور يعود الشعر للغموض وتظهرُ الأشكالُ (الشعرية) القديمة مثل الشعر القبلي النبطي والعامي المتخلف.
والأزياء الحديثة الفاتنة في أزمنة النهضة وتحرر النساء تتراجع لتصير أزياءَ قديمةً مغلقة، تكبلُ النساءَ في عالم قديم ومعها السحر والعقد النفسية.
أنتج العربُ نظرياتهم الفلسفية وأزدهر شعرُهم حين شدد خلفاءٌ وقادة ومثقفون وحركات سياسية على ازدهار وضع العامة وحقهم في الفيء العام، وتدهوروا حين صار العكس.
والأزمة الاقتصادية الاجتماعية تنتقلُ عبر سنوات وعقود وتنخر الأدوات والأشكال الفكرية والسياسية التي ظللت تلك الأبنية الاجتماعية، فالأحزاب المؤثرة المسيطرة لا يعود لها تأثير، وأدوات الحكم والرقابة والتقسيمات السياسية الإدارية تنهار.
ما بناه العرب في القرن العشرين إذن يتعرض للتغيير العميق، وعلى قواهم الفكرية والسياسية توجيه الأمور لخلق بناءات سياسية واقتصادية مغايرة، تراعي قوانين الاقتصاد.
49 ــالمساراتُالعربيةُإلىاين؟
يعودُ إرتباكُ الإصلاحاتِ العربية لكون القوى السياسية التي تقود العمليات هذه لا تحملُ المفاهيمَ الصحيحةَ للإصلاحات ولا تعبرُ عن القوى الاجتماعية القادرة على إرساءِ مضامين الإصلاح في الواقع.
فهي تعمل على نفس الأيديولوجية المحافظة القديمة التي لا ينتجُ منها تحول نوعي، أنظمة وحركات مذهبية تتصارع.
فقوى اليمين التقليدية هي التي لها الأنصبة الأكبر، وهي تختلفُ حسب تبايناتها الطائفية لا حسب برامج الإصلاح العالمية التحديثية.
إن القدومَ من العصر الوسيط، والإبقاء على سمات المجتمعات القديمة من هيمنةٍ كلية أو عامة على السلطات، إلى إستمرار عبودية النساء المنزلية، إلى الإبقاءِ على النصوصية الدينية السطحية في الدساتير والثقافة العامة وهي نصوصيةٌ غيرُ ديمقراطيةٍ وغيرُ عقلانيةٍ، هذه كلها تؤكد هزيمة مشروع الحداثة العربية وقيام التقليديين الطائفيين والمحافظين بالصراعات الحادة أو الدامية في البلدان العربية. لكن من القديم ينشأ جديد ويبنثق من رماد الثورات العربية فكرٌ مختلف في بلدان قليلة.
إن هزائم قوى التنوير واليسار والعسكر الشمولية قد أعادَ مرةً أخرى القوى التقليدية للنفوذ السياسي الواسع على الحياة العربية في بلدان متعددة ولكنها تمسك حطاماً أو كيانات مضطربة لا تملك قوى بناء كبيرة، وهي لا تأبهُ كثيراً بالصراعات التي جذرتها في الواقع العربي المتعدد الدول ولا تعترف بمسئولياتها عن النتائج السلبية لتلك الصراعات.
فهناك تفككٌ واسعٌ للبُنى الاجتماعية بسبب مركزيةِ السلطات الطويلة، وسيرورةِ المدن العربية مراكز للهيمنة الاقتصادية بمشروعاتها غير الصناعية، سواءً كانت صناعةً ثقيلة أم خفيفة، وإنتشار الاقتصاد الطفيلي وأشكال أخرى من الاقتصاد المعتمدة على فيوضِ الصناعات الاستخراجية الضعيفة التطور الصناعي العلمي الجماهيري الواسع المبدل للبنى العتيقة.
ولهذا فإن أشكالَ الأعمال التجارية وقوى العمل الشعبية تغدو متدنيةَ التأثير وسلبية على المدى الطويل، فنجدُ إن بلداناً تعتمد على فيوض كبيرة من العمالة المهاجرة لا تقدم سوى إنشاءات مادية مرحلية، فلا يكون لها تأثير كبير مفيد على تطور البُنى الاقتصادية الاجتماعية، بل هي توسعٌ للجوانب الطفيلية، فتغدو المهنُ الطفيليةُ هي السائدة، فتقوم فئاتٌ بتأجير مختلف أنواع المُلكيات إلى فئات أخرى وتحصل على إيجار وريع وفوائد فيما هي لا تقومُ بأي عملٍ إنتاجي ولهذا لا تجذر تصنيعاً.
وهذا يصلُ للتأجير الفكري والتأجير الثقافي والسياحي، فهنا فئاتٌ لا تنتجُ أعمالاً بقدر ما توظفُ الفندقَ أو المبنى، أو الخدمات أو الأشياء، أو الأشخاص، أو الذات الكاتبة والمغنية والمفكرة، للغير نظير فوائد وعمولات.
إن الدولَ بهياكلها ما قبل الحديثة والمعتمدة على النفوذ السياسي والعائدة للقرون الوسطى، عبر سيطرة الطوائف والقبائل والعائلات والبيروقراطيات هي بعيدةٌ عن الحكم الديمقراطي الحديث، فهي حتى غير قادرة على تصعيد برجوازية صناعية أو حديثة تستجيبُ لقوانين السوق، وقوانين الديمقراطية، وقوانين العقلانية.
إن أحجام التخلف في المجتمعات العربية هائلة، ولم تؤدِ الفيوضُ النقدية لتحولٍ جوهري في القواعد الاقتصادية، ولم تفعل ما فعله غاندي وسلفه، عبر التحول للصناعات الثقيلة والخفيفة وتوسع التصدير، وربط التطورُ التالي ذلك بالحداثة والعلمنة وهزيمة القومية العدوانية بعد الحرب العالمية الثانية، بل عاشت البُنى العربية على الفيوض النقدية السهلة وتوسع الاقتصاد الطفيلي.
ولهذا نلاحظُ من الناحية السياسية إنتهاء سيطرات العسكر والبيروقراطيات القديمة المحتجزة على القطاعات العامة الفاسدة، نحو ولاياتِ الفقيه السنية والشيعية وغيرهما لتعيد إنتاج الماضي الاستبدادي.
إن ولايةَ الفقيه تعبيرٌ عن نشؤ طفيلياتٍ ودكتاتوريات على مستوى النصوصِ الدينية وعلى مستويات التفسيرات السطحية النفعية الخاصة بالقوى الاجتماعية البرجوازية الصغيرة الجديدة المتلاعبة بالأقوالِ الدينية نحو توظيفاتٍ طفيلية واسعة.
إن دكتاتوريات العسكر واليسار الانتهازي والقومي وغيرها هي طفيلياتٌ على مستوى النصوص العصرية المؤدلجة المُشذبة لصالح تلك الدكتاتوريات وبرفض قوانين الحداثة من ديمقراطيةٍ وعلمانيةٍ وعقلانية، فتقوم الطفيلياتُ الدينيةُ الجديدة بالحلول محلها، وتكرسُ أشكالَ الملكيات الخاصة الطفيلية تلك والتي إنتشرت بأشكالٍ واسعة عبر المقاولات والصرافة والبنوك وغيرها.
فيما تتطلب الأبنيةُ العربيةُ جبهات واسعةً متعاونة للتصنيع والعلوم والتقنيات وعدم إهدار الفيوض النقدية بالنوم والتآكل في الغرب والشرق، والعيش على الصراعات السياسية والمسلحة بين القوى في كل بلد وبين البلدان العربية والإسلامية بعضها البعض.
إن لغات الاستحواذ على تفسير المذاهب وعلى الكراسي والعقار والشركات والأسواق هي لغاتٌ تضربُ السوقَ الحرة، وتتفرد بالهيمنة على الوزارات والعهود القديمة والجديدة، وعدم العقلانية برؤية مسارات الانحدار الراهنة المضعفة لكل القوى، وتصعيد لسيطرات الذكور على الحياة والبيوت بأشكال متشددة من جهة، وفتح الأبواب للحلال الكامل للجنس الخشن، وإقتصاديات المتع والبذخ، وللفنون الحسية الهابطة من جهة أخرى.
أعادة النظر في أنماط التصنيع وربطها بتحولات السكان وإعادة الفوائض للاقتصاديات العربية بدلاً من شحنها للخارج، وتثوير العائلة الذكورية وجعلها ديمقراطية، ونشؤُ ولايةِ الشعب والبرلمان والسوق الحرة.
50 ــالمستوىالسياسيللمعارضاتالعربية
تعود العديد من أسباب عدم صعود المعارضات السياسية العربية للحكومات لأسباب ذاتية كبيرة في هذه المعارضات ذاتها.
ومهما كانت سلبيات الحكومات فإنها أكثر تمثيلاً للشعوب من المعارضات، وهو واقع حقيقي للأسف.
هذا التمثل الأوسع هو الذي أتاح لها الوجود والاستمرار
ورغم أن هذا التمثل الحكومي للشعوب قام على أساس الأمر الواقع والقوة والعفويات الاجتماعية المختلفة وبعض التخطيط، لكنها قدرت أن تستوعبَ مختلفَ الطبقات والطوائف داخلها، وتجعل أجهزتها ذات تنوع مناطقي وأثني، رغم أن هذا التمثل يجري من خلال هيمنة قوى معينة ومذاهب معينة.
بطبيعة الحال جرى هذا التمثل الحكومي العربي أولاً بسبب سياسة الغرب الذي سيطر على المنطقة وأخرج الحكومات من المستويات المتدنية لزمن ما سُمي بفترة الانحطاط وفترة حكم الأتراك التي تلتها، فتشكلت سياسة عملية كنست زمن الرقيق وحكم الطوائف الكلي، وأخذت حكومات الاستقلال تقوم بتمثل نسبي للأهالي، واعتمدت سياسة عملية أدخلت النسيج الوطني في هياكلها السياسية، رغم أن هذا النسيج لم يكن متساوياً ومتساوقاً في ألوانه!
وكان يُفترض في المعارضات أن تكون متجاوزة لهذا، وذات بُنى وطنية أكثر تعبيراً عن النسيج الشعبي، وأكثر قدرة على تبصر طموحاته وتنويعاته، لكنها عجزت بعد أكثر من نصف قرن من زمن الاستقلال؟!
حين تعبر القوى التقدمية عن نفسها تقول بأنها تمثل العمال، ولكنها لاتضم العمال فقط بل تضم قوى إجتماعية أخرى، لكن القوى الاجتماعية الأخرى، التي دخلت تمثلت بأفراد ذابوا في أهداف العمال، ومع ذلك فإن هذه القوى السياسية تطرح مشكلات طبقات أخرى كمشكلات التجار والصناعيين، وتريد تغيير حياة الفلاحين وغير ذلك من تمثيل للقوى الاجتماعية.
إن هذا لا يجعلها معبرة فقط عن العمال بل عن قوى أخرى، ولكن القوى الأخرى من تجار وصناعيين غير موجودة داخل التنظيم، ولا تطرحُ أفكارَها ولا أهدافها، فكيف يمثلها الحزب التقدمي بدون تمثيل؟!
إن حالات الأحزاب التقدمية العربية السياسية وعموم الأحزاب في الشرق هي حالات منقولة من مجتمعات متطورة، هي مجتمعات الغرب الرأسمالي، حيث أنقسم المجتمع بوضوح بين طبقتين كبريين، هما الرأسماليون والعمال، أي جرى أصطفاف إجتماعي حقيقي، وحينئذ يعبر الحزب التقدمي بإنسجام عن قواعده، كما يعبر الحزب الليبرالي أو الجمهوري عن طبقته.
إذن الأحزاب التقدمية في الشرق هي جبهات اجتماعية تضم طبقات عديدة، لكن التصور الإيديولوجي المستورد يجعلها تظن أنها تمثل طبقة واحدة، وبالتالي عليها أن تقيم المجتمع الاشتراكي.
هذا يجعلها غير قادرة على تمثل مختلف الطبقات، ولا على فهم طبيعة المرحلة الانتقالية من الإقطاع للرأسمالية الحديثة، متصورة مهمة أخرى، وبهذا فهي تعجز عن مقاربة موقف الحكومات، التي تعي أنها تعبرُ عن مرحلة ما من التطور الرأسمالي، بدون أن تتطور هذه المرحلة لتصل إلى مماثلة النظام الرأسمالي الغربي المتطور، فهي تحافظ على بقايا من الأنظمة السابقة المتخلفة والشمولية. في حين تتجمد القوى التقدمية عند تمثل العاملين والحرفيين وغالباً ما يكون ذلك في العاصمة.
من الممكن للقوى التقدمية العربية أن تتجاوز هذا التمثيل الضيق بعقد تحالفات عميقة مع قوى التجار والصناعيين، أو بتحويل الحزب إلى جبهة تحالف عريضة بين أحزاب تستوعب مشكلات وأهداف مختلف القوى الاجتماعية الراغبة في التغيير.
أو أن تنمو المنابر الحزبية الداخلية لتعبر عن أطياف من الرؤى الاجتماعية في ظل فكرة سياسية كبرى تستوعب المرحليات المتعددة في التطور الاجتماعي، فهناك مرحلة كبرى لمماثلة النظام الرأسمالي المتطور ومقاربته وإزالة العوائق من طريقه، وهناك مرحلة ثانية هي العمل على تجاوزه. دون أن يمنع من ذلك النضال المستمر لتغيير أحوال الأغلبية العاملة في شتى المراحل.
بطبيعة الحال هذا يرتكز على فهم طبيعة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الراهنة، وعدم الفهم هذا غالباً ما يسبب الفوضى السياسية والاختلافات.
وقد ازداد عدم التمثل الديمقرطي والتمثل الوطني في الأحزاب الدينية بشكل أوسع وأخطر. وهي التي مثلت تمزيقاً للخريطة الوطنية، أي أبعد بكثير من الحكومات، ودون أن تعترف بالمراحل التاريخية الموضوعية للبشرية.
ولهذا فإن نموها يمثل إفتراقات وتفككاً للخرائط السياسية للشعب بدلاً من نمو التمثيل الوطني شبه المتماسك في ظل الحكومات رغم سلبياته.
والحكومات العربية تقوم بالتغلب على ضعف الديمقراطية والتمثيل الوطني في الأحزاب، مكتشفة بعض المشكلات التي تقوم بترميمها من أجل تجفيف المياه التي تعيش عليها الأحزاب المعارضة غالباً، لكن مع إستمرار سيطرتها على الموارد الكبرى، وهو أمر يعني عدم التطور الديمقراطي الحقيقي ولا حدوث المقاربة مع المجتمعات الديمقراطية المتطورة.
ولهذا فإن الأحزاب التقدمية مع حفاظها على بناها الاجتماعية العمالية فقط تظل ذات تمثل قوى محدودة، وغير قادرة على الاقتراب من إدارة بلد، وعلى تطوير الاقتصاد، وعلى فهم الطبقات المخلتفة وتمثلها أو تمثل مطالب كبيرة مهمة وطنياً لديها، أما الأحزاب الدينية فاقترابها من الإدارة يؤدي إلى رعب قوى سكانية كبيرة وإلى صراعات مذهبية ودينية وتمزقات في الخريطة السياسية للبلد.
فلا بد من هضم الثقافة الوطنية لكل بلد وأن يكون الحزب المعارض معارضاً لسياسة معينة معيقة من مقاربة الدول المتطورة، ويكون ممثلاً لمختلف القوى الاجتماعية بدرجات من التمثل النسبي الذي يعبر عن أهدافه وفهمه لمراحل التطور السياسي المستقبلي للبلد المعني.
51 ــجذورالانتهازيةالعربية
منذ أن تشكلت الدولة العربية الإسلامية وامتدت وصارت أقطاراً وسيطة فحديثة، ظلت السياسة والدين مصدري تكوين الوعي السائد.
وإذا كان الخلفاءُ والحكام ومن بعدهم لا يشكلون فكراً ولا يقدمون مادةً لآلة الدولة الإيديولوجية فقد قامت بذلك الفئاتُ الوسطى الصانعة للمعرفة، تستقيها من النصوصِ الدينية وتنتج وتغزل حولها، شرانقَ لاعتقال الكائن الإنساني أو فتح ضوء له.
على الرغم من ظروف الثقافة العربية في العصر الوسيط إنتشر فيها النقد الايجابي ومحاولة التجاوز للأوضاع، نظراً لأن النظام التقليدي العربي في ذلك الحين أتاح للفئات الوسطى العديد من الحريات التجارية والاقتصادية الحرفية والإنتاج الثقافي، رغم وجود الدولة الشمولية الدينية.
وهذا ما كررته الفئات الوسطى في زمن النهضة العربية، حيث كان ثمة فضاء عالمي للتجارة والتبادل الاقتصادي والتأثير الثقافي.
لكن بعد حصول الاستقلالات العربية وبروز الدول الشمولية بقطاعاتها العامة وسيطراتها على الفضاء الإعلامي، تم خنق الحريات في العديد من البلدان باسم التقدم وباسم الوطنية وباسم الدين.
كما قال ابن خلدون غدت الدول هي السوق الأكبر، ولهذا فإن الكثيرين من المثقفين منتجي الوعي، غدوا مقدمين سلع لهذا السوق وما تتطلبه ظروفه وصراعاته.
في الصراع بين الدول الشمولية الوطنية والدول الشمولية المذهبية العربية الإسلامية، غدا الفريقان(الوطني أو الليبرالي) الخفيفان في وطنيتهما وليبراليتهما و(المذهبي، والشموليات بألوانها)، هما المعسكران السائدان.
لم تستطع الأنظمة العسكرية والدينية الشمولية أن تقدم مناخات لتصاعد الحرية، لقد قامت بإنجازات على أصعدة تطور البُنى المادية والاقتصادية، لكن داخل الانغلاق ودون معلومات عن إشكاليات هذه الأبنية ما تحقق وما لم يتحقق، من إستفاد ومن لم يستفد.
قسمات الحداثة المتعددة لم تطبق سوى أجزاء قسرية منها، وحُجبت الأقسام الأكبر أقسام وضع التنمية في دوائر التعاون الديمقراطي بين القطاعين العام والخاص، ولم تطلق الحريات الفكرية والثقافية. وأنتشرت مكائنُ الدعاية لا أصوات البحث. ومكائن الدعاية هذه هي التي تُعطى الأمتيازات المادية والنوافذ لكي تسد مسام الأجسام العربية عن التفتح والكشف.
وبهذا وجدنا هذه الأنظمة وهي تعاني الأمرين من حروب الهزيمة ومن الانفجارات الاجتماعية التي أكتسحت المنطقة.
ولا تختلف الأنظمة الدينية والمقاربة المحدودة لليبرالية عن الجوانب الجوهرية للأنظمة السابقة، أي غياب تداول السلطة والعلمانية والعقلانية، ولكن الكثيرين من المثقفين إنحازوا للصراع بين الوطني والديني، بين الداخلي والخارجي، بين هذا الفريق من السلطة أو ذاك من المعارضة المحافظة، ولم تُطرح البدائل الأخرى المتجاوِّزة لهذه الثنائية الصراعية القاتلة.
كان أجدادُنا المثقفون معذورين في غيابِ البديل وغياب التحليل الكلي للواقع والعصر، وتوجههم نحو النجوم والكواكب والغيبيات المختلفة، ولكن حتى من هؤلاء ظهر باحثون يضعون الناسَ على بداية التحليل الاجتماعي الموضوعي.
52 ــجذورالمحورينالمتصارعين
قولنا قبل فترة بوجود محورين متصارعين في الساحة العربية الإسلامية أعقبه ملاحظات جزئية حول انتشارهما وأشكال وجودهما في بعض البلدان العربية وفي إيران، كدولة ملازمة وملاصقة ومنافسة للتطور العربي.
إن ما كان من تهدئة للصراع بين المحورين آخذ في التراجع لحساب التصاعد والتفاقم، خاصة في بعض البلدان كلبنان وفلسطين والعراق.
إن منطقة المشرق أصبحت ساحة ساخنة لكي يثبت كل محور إنه ممثل الناس .
في لبنان أنشق البلد سكانياً وسياسياً بشكل خطر، لولا حكمة التيارات الديمقراطي الوطنية.
إن تيار الدول المتشددة، يعبر عن قطاع عام متصلب، مشكل لنهضة وطنية هامة وكبيرة كما هو الحال في سوريا وإيران، غير أن هذا التيار لم يجد صيغة مناسبة للعلاقة بين القطاعين العام والخاص.
إن هناك تصلباً شديداً في الإدارات العسكرية والمخابراتية في السيطرة على الاقتصاد والسياسة، وليست لديها قدرة على أتاحة الفرصة لممثلي القطاع الخاص أن تكون لها ساحة سياسية كبيرة للتحرك.
لا شك إن هذه الساحة الكبيرة مرتبطة بالاقتصاد العالمي وبالتعامل مع الشركات الغربية الكبرى، وبالتالي فهي تتطلب حريات اقتصادية وثقافية، وأن لا يحتكر القطاع العام ووراءه الحزب المتنفذ والضباط، الموارد العامة.
وتغدو هذه المساحة السياسية المطلوبة مرتبطة بإجراء تغييرات هيكلية في الاقتصاد والحياة، فهي تمثل انقلاباً اجتماعياً، بهذه الدرجة أو تلك.
ومن هنا تشكل المحور السوري – الإيراني على قاعدة البقاء في الهيمنة الحكومية على الاقتصاد، رغم وجود انفتاح اقتصادي في السوق، لكن هذا الانفتاح لا يترجم بحريات سياسية حقيقية، وتغدو السياسة العسكرية التسليحية مظهراً لهذه الهيمنة، وتشكل لها لافتات تعبئ بعض الجمهور وراءها. وهو جمهور حقيقي كذلك، يعيش على قطاع عام رئيسي، لكنه لا يناضل ضد بيروقراطيته وفساده. إن لقمة العيش هنا تــُجير للحفاظ على الشمولية الوطنية.
في حين إن الدول العربية المعتدلة تعطي القطاع الخاص دوراً كبيراً دون أن يلعب كذلك دوراً مؤثراً في الحكم. فتبقى الدول والبيروقراطيات مسيطرة على الدخل الأهم.
ولكن لماذا تحدث الأزمة في لبنان مثلاً ؟
إن هذا البلد لا يعتمد على القطاع العام، بل على القطاع الخاص، فتلعب فيه الفئات الوسطى دور الحكم، رغم قيامها على هياكل تقليدية مناطقية متعددة، فهي تقترب بشكل كبير من التحديث الديمقراطي، لكن سيطرة القطاع العام البيروقراطي تأتي من الخارج، عبر السيطرة السورية السابقة والراهنة، التي تتمثل بقوى اجتماعية عاشت طويلاً على منافعها.
إن هذه القوى تصور الحراك الديمقراطي اللبناني بالعمالة للغرب، مثلما تصور نضالات القوى الديمقراطية في بلدانها بهذه العمالة. وإذا كانت تستخدم السجون في بلدانها ففي بلد مثل لبنان تستخدم فيه الاغتيالات والفرق المؤيدة لها.
وهذا لا يحدث في مصر وفلسطين بذات الطريقة. إن منظمتي الأخوان وحماس تعملان ضد القطاع العام البيروقراطي الفاسد، ولكن مستوى فهم الفقه الإسلامي متدنٍ لديهما، فتطرحان مستوى ثقافياً دكتاتورياً، بدلاً من أن تكيفان الفقه والفكر للعملية الديمقراطية، وبطبيعة الحال هذه مسألة صعبة في هياكل سياسية عاشت على الشمولية.
لو كان هناك حراك سياسي ديمقراطي وتعايش حضاري لربما أستفاد الفريقان وكونا مقاربات حضارية عززت من تطور الأمم الإسلامية.
53 ــهلهوتذويبللعالمالعربي؟
بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وجدت القوى الغربية العسكرية الكبرى نفسها في مأزق تاريخي، فليس ثمة (عدو)، يبرر هذه المصروفات العسكرية الهائلة خاصة في الولايات المتحدة، التي هيمنت هذه القوى فيها على الحياة السياسية طويلاً من خلال المجمع العسكري – الصناعي.
ومن المعروف كثيراً في الأدبيات السياسية إنتشار موضوعة خلق العدو البديل الإسلامي وضرورة إستمرار ماكينة الحروب في إنتاج أكبر الأرباح، وكانت الجماعات والدول الدينية في العالم الإسلامي أقوى مرشح بدلاً من بعبع الشيوعية الزائف.
ومع غليان الأحداث في العالم العربي وتفجر الأزمات، والإقتطاعات الكبيرة من أجسام الدول التي كانت موَّحدة، أصبحتْ ملامح هذه السياسة متجسدة.
غدت الإقتطاعات والدول الجديدة الهشة حقيقة واقعة، وهذه سياسة ظهرت كذلك في الدول التي كانت تسير في فلك روسيا.
وكانت أندونيسيا في زمن سوهارتو حليفاً قوياً لدول الغرب هذه في زمن الحرب الباردة وبعدها قلت قيمتها. وفي تلك الحرب فإن وحدة أندونيسيا كانت مهمة لتلك الدول وبعدها غدت عمليات إستقلال الجزر الأندونيسية عن الوطن الأم متاحة وأُيدت إنفصالات المسيحيين فيها خاصة!
وحين طلبت أندونيسيا مساعدتها في أزمتها المالية في السنوات الأخيرة طرحتْ هذه الدولُ حقيقةَ أهداف سياستها:
(وهي تحرير التجارة الخارجية، وتخفيض التعريفات الجمركية، والإسراع في الخصخصة بالسماح للشركات الأجنبية بشراء الشركات المحلية، وإلغاء مشروعات التصنيع الكبرى في إندونيسيا).
إن الدول الرأسمالية الكبرى تواجه عالماً ينضب تدريجياً من المستوردين وكثير من الدول تتحول للتصنيع، وتفكك الاتحاد السوفيتي أوجد مثل هذه الدول الهشة التي تعيش في زمن ما قبل العصر الصناعي، وكذلك توجد الدول العربية والإسلامية، والدول الأفريقية، فهذه مطلوب أن تظل بهذا المستوى الاقتصادي في زمن ما قبل التصنيع أو التصنيع على الطريقة الخليجية والعربية عامة: إنتاج المواد الخام.
ومن هنا نرى أهمية الحفاظ على البعبع الإيراني وأشباحه المختلفة وعلى القاعدة والصلف الإسرائيلي، مثلما كانت عمليات تقوية النظام العراقي السابق، وكلها من أجل تبرير هذه المصروفات العسكرية الهائلة وإبقاء الانقسامات وعدم نشؤ عمالقة إقتصاديين عرب وإسلاميين.
وتكوينات العالم العربية المُفتتة هي بحدِ ذاتها خدمة موضوعية لهذا، فالثالوث التعاوني: مجلس الشمال العربي الأفريقي، ومجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون الخليجي، لم تنتج عنها قوة إقتصادية عربية صناعية كبرى أو صغرى.
وفيما تضخ الدولُ العربيةُ الخليجية الأموالَ في بطون أوربا الغربية وأمريكا الشمالية تتنامى تلك الدول وتشكل سياساتها المغايرة:
(إن سيطرة الاتحاد الأوروبي على 30% من معدل التجارة العالمية والنمو المطرد لمستقبل التجارة العالمية في حوض البحر المتوسط سيزيد من قوة وهيمنة الاتحاد الأوربي، وذلك على حساب التجارة العربية).
قادتنا ساسياتُ الدول العربية برأسمالياتها الحكومية المتخلفة ومختلف أنواع الإيديولوجيات الشمولية التي نتجتْ منها إلى هذه الحال التحللية.
54 ــحمزةُالبهلوانوصراعُالعربِوالفرس
خلال قرون التحول والانفكاك من السيطرة العربية برزت الأشكال الجنينية للقومية الفارسية متحدة بالمذهبية فحدثتْ تحولات المراكز في المشرق العربي الإسلامي، في هذا الحين كتبَ الفردوسي الشاه نامه يعرضُ سيرَ ملوك الفرس وحضارتهم العريقة، ويَعرض بالعرب و(بداوتهم وتخلفهم).
وهو أثرٌ هامٌ في تاريخ الأدب ولكن دخلته النزعات الضيقة الأفق، وفي الجانب العربي كان الارتداد عن زمنية الفلسفة والفقه العقلاني وبروز للحنبلية في قلب بغداد التي كان يُفترض أن تكون قمة الحضارة، فعادت منطقةُ المشرق لصراعاتها الطائفية (القومية) الغائرة، وأنتقلت مركزيةُ الثقافة المقاربة لشيءٍ من التطور في مصر التي أخذتْ القيادةَ بدءً من هذا الزمن، فتظهر السيرُ الشعبيةُ فيما الأندلس تعطي آخر أنفاسها في أشكال الفلسفة والتاريخ والفقه المغايرة للتدهور الذي جرى في المشرق من صراع القوميتين المضمرتين العربية والفارسية.
وتظهر الترجمةُ العربيةُ للشاه نامه في مصر زمن السلطنة الأيوبية سنة 1223م، مما يؤدي للرد عليها بسيرة حمزة العرب، لكن دون تهجم عنصري.
سيرة حمزة البلهوان بأجزائها الأربعة وطبعاتها المختلفة غدتْ أثراً عربياً إنسانياً، لما شكلتهُ من فنيةٍ أدبية مختلفة عن زمانها، والتي قيل إن عز الدين ابن الأثير هو صانعها لكن ثمة إختلافات في الطبعات، وأحياناً لا يوجد اسم مؤلفها كما هي طبعة البحرين الصادرة عن دار الأيام.
تحتوي ملحمةُ حمزة البلهوان على بعض السلبيات المحدودة مثل غياب السياق العام الموضوعي للبلدان ووجود المرحلة الجاهلية، ومع ذلك فإن مكةَ الإسلامية بإلهها الواحد موجودة ومقدسة، كذلك تنبثقُ شخصيةُ حمزة البطولية من هذا التوحيد الإسلامي في زمن الجاهلية! كما أن فارسَ كسرى تهيمنُ على القسطنطينية واليونان ومصر في هذا العمل خرقاً للجغرافيا والتاريخ، كذلك فإن خريطةَ الأرض فيها وإتساع المسافات بين المدائن والهند وسرنديب لا تُؤخذ بالاعتبار في السرد فتتم الانتقالات الشخصوية بسهولة.
لكن رغم ذلك فإن السيرة الشعبية (حمزة البهلوان) ذات بنية قريبة للرواية الحديثة، فالعناصرُ العجائبيةُ الساحقة في القص السابق، تتضاءل هنا.
السردُ في هذه الملحمة يجري في بنيةٍ قريبة للرواية، وفيها قربٌ من الحياة كذلك، ومن التشكيل المتلون، المتعدد الشخصيات، والذي يتتبع بعض خصائص البلدان الموضوعية.
والصراعُ الذي تقيمُهُ هذه السيرة القديمة الرائعة بين بطلها حمزة والإمبراطورية الفارسية بقيادة كسرى ووزيره الشرير(بختك)، لا يعدم هو الآخر بعض العرض الموضوعي، حيث لا يغدو كسرى شريراً أو خيراً، بل هو متلونٌ، يؤثرُ فيه وزيره ويدفعه للصراع ضد حمزة وإبعاده عن الزواج بابنته عبر مهمات خطيرة، وهو صراعٌ معبرٌ عن صراع الأمتين العربية والفارسية في ظروفِ تفكك السيطرة العربية عن فارس وإستقلال الأخيرة وتحولها للتعصب ضد العرب، فيقوم مؤلفُ السيرة بالعودة لتاريخ بطولي سابق على التفكك الإسلامي الراهن وقتذاك، وهو أمرٌ جرى في بقية أشكال الوعي خاصة الفقه والفلسفة.
وتعتبر المهمات الخطيرة هي لب الجزء الأول من سيرة حمزة، ويعطينا هذا الجزءُ سرداً مشوقاً في مساره العام، حيث تتنامى مغامراتُ الأمير حمزة وهو يجمعُ الخراجَ الذي يأمرهُ بهِ كسرى كوسيلةٍ لجمع نفقات عرسه ابنته، فخزائنُهُ فضتْ على ما أشار بهِ وزيرهُ الشرير كخطة لهزيمة حمزة والعرب عامة.
في الحراك الترحالي الذي هو شبيه بحراك يولسيس في الرواية الإغريقية، لكنه حراكُ صدامٍ مع مدن وحضارات، الساردُ يقتربُ من خصائص المدن والدول التي يدخلها حمزة ويصارعُ حكامَها، فمثلاً تظهر في بلاد الإغريق مظاهرٌ مختلفةٌ عن غيرها من البلدان، مستقاة من الخصائص الجغرافية والمدنية، وكذلك تدخلُ هذه الجوانبُ العمرانية والمدنية في الأحداث، فملكُ بلادِ الإغريق يتآمرُ على حمزة ومقاتليه، ويحول مجرى أحد الروافد النهرية، ويبنيه بشكل آخر ويدعو حمزة للاستمتاع بالحياة والمكان والسباحة بالمجرى المزيف.
السرد، والوصف، وحبكة الموقف، وتفاصيل البلد اليوناني من بلاط أرضي، وتماثيل وشوارع وأزياء النساء الحرة، تنقلك إلى جو الرواية الحديثة.
وفي حراكِ جيشِ حمزة الجامع للخراج وهو الشكلُ الإقطاعي من السيطرة الاقتصادية السياسية، تبعيةٌ لكسرى، وتمردٌ عليه، عبر إعادة توزيع الخراج على الناس، وقطعه عنهم بعد سنوات سبع، وإرساله لمكة وليس للمدائن.
جانب الرومانسية السحرية والعشق من أول نظرة نجده في هذا العمل عبر إلتهاب مشاعر حمزة والنسوة اللواتي يلقاهن، وحدوث الحب من أول نظرة. لكن بعض هذا السحر الغرامي له اثر درامي، فابنة ملك اليونان تكشفُ خدعة أبيها وتساعد حمزة على النجاة. كما إننا نقرأ كلمات وصف وتعبير مباشر يقدر للنساء أزيائهن الحرة المختلفة عن المسلمات.
أهم ما يمكن مدحه في هذه الملحمة الطويلة المكتوبة قبل عدة قرون قبل ظهور أول رواية عالمية مُعترف بها ومروج لها عبر المركزية الأوربية وهي(دون كيشوت)، هو هذا السرد البسيط غير المسجوع وكأنك تقرأ سطور جريدة عصرية، وبلا تزويق سجعي وشعري، وعالمُ الجن الغرائبي محدودُ الأثر، وتطورُ الفصولِ يعتمد على فعل الشخصيات وصراعاتها الأرضية الواقعية، ويتداخل فيها الحوار والسرد والجدية بالفكاهة.
رغم وجود الصراع السلبي وتفكك الشعوب الإسلامية لكن أدى لنتاجات ثقافية مهمة، على العكس من الصراع الراهن.
55 ــالجزيرةُالعربيةُوقوانينُها
للجزيرةِ العربيةِ مستوى من التطور الاجتماعي مختلفٌ عن مستوى الأقطار العربية الشمالية، وقد شُوهد ذلك في الحضاراتِ القديمة وكيف إزدهرتْ في أوديةِ الأنهارِ الكبرى كالنيل ودجلة والفرات، فيما كانت الجزيرةُ العربيةُ ذاتُ بقعٍ حضارية لا تعمُّ ولا تزدهرُ طويلاً وبإتساع مثل تلك.
وحين تفجرتْ حضارةُ الإسلامِ إنتقلتْ بثقلِها الكبير إلى حوضِ الأنهار ثانية حيث وَجدتْ خريطتَها الكبرى فلماذا حدث ذلك ومركزها في مكة؟!
إن هذين المستويين من التطور يتعقدان ويتداخلان بحدةٍ في العصر الراهن.
وعلى المستوى السياسي فإن التداخلات التي تمت ْوأينعت في بعض البلدان العربية لم تزدهر في الجزيرة العربية.
ومثال على ذلك تعدد الجمهوريات في الشمال وندرتها في الجزيرة العربية، والجمهوريةُ الوحيدةُ وهي اليمنية في الجزيرة العربية تعاني أشد المعاناة ولم تنتقلْ لتكونَ نموذجاً متقدماً على جيرانها.
ومن هنا كانت ثورات حرق المراحل في الجزيرة العربية تتسم بتطرفٍ شديد لم يكن له حضور خلاق، كالثورة في عُمان التي كانت شديدة الغرابة والطفولية. وقامت ثورةٌ في جنوب اليمن أممت حتى الدكاكين، لكن الأجيال القديمة وقيادات القبائل والقبائل السياسية لم تراكم تحضراً داخلها.
وعندما حدثت الثورة الراهنة في اليمن قام بها الشبابُ عائدين إلى شعاراتِ الليبرالية الكلاسيكية عبر إيجاد مجتمع ديمقراطي فقط، لكن كيف يجري ذلك وكلُ القيادات والقبائلُ السياسية والأجهزة والرئاسة العتيدة شمولية عنيفة؟
الشباب كفروا بالأجيال القديمة ويريدون فرصاً في الحياة والطبقات القديمة لا تتركهم يتنفسون هواءً سياسياً جديداً؟
وفي عُمان رفضوا طريق المغامرات القديمة وعضوا بأسنانهم السياسية على التطور الإصلاحي المتدرج، لكن هل إستفاد الآخرون أو حتى درسوا هذه التجارب؟
من السهولة أن تخترق الأفكارُ الحديثةُ الجزيرةَ العربية لكن منابت هذه الأفكار صعبة، فإن أهل البادية متجذرون لقرون في حياتهم القديمة، والأشكال التقليدية من الحياة العائلية تعبرُ عن عدم القبول بأية أفكار جديدة، وتظل العائلة أكثر الأشكال مقاومة للتحديث، وإذا تداخلت القبلية والنظم السياسية والدينية والاجتماعية فتغدو أقرب للجبال أو أشد صلابة.
وإنه لأولِ مرةٍ في تاريخ الإنسان تغدو الجزيرةُ العربية موطناً عاماً للتحديث وليس مدناً وامضة، فأنظرْ كم قطعتْ البشريةُ من ملايين السنين وأسستْ من حضارات؟ وكان وسط الجزيرة الهائل مركزاً طارداً للسكان على مر التاريخ فيما هو الآن وعلى العكس ودفعةً واحدة يصيرُ مركزاً جاذباً وبشكل هائل للسكان! والكثيرون يندفعون لمصالحهم ورغباتهم وعواطفهم الحادة والكل يريد أن يأخذ، فلهذا تكون سياسات التأني العقلانية مهمة، وكثرة البحث في مشكلاتنا وكيفية حلها والاعتماد على الإنتاج العقلي في رؤية هذه الأوضاع أمورٌ شديدة الأهمية.
وهنا في وسط الجزيرة العربية نجدُ الثقلَ المحافظ الذي عاشَ طويلاً على الحياة الرعوية من المستحيل أن يقبل الأشكال الحديثة بسهولة ولا بد من تدرج وزحزحة الصخور الثقال بحذرٍ حتى لا تنقلب الصخور على الناس.
ونظراً لغياب الحواضن التاريخية الاجتماعية فقد قامت القوى السياسية على أشكال المغامرة أو على الجمود الحاد، وهي تخرق قوانين التطور الاجتماعية، وتخرق قوانين تطور الأمم. إن الأمة العربية لا تقبل النسخ من الأمم الأخرى، خاصة في هذه الأقسام المحافظة، والمهم أن يكون العرب عرباً، ويعرفوا كيف تطورت العرب، فهي لها قوانين إجتماعية في التطور الفكري السياسي، مثلما أن الأمم الأخرى لها قوانين.
الآن حين غرزت الأمةُ الروسيةُ تطوراتَها السياسيةَ الاجتماعية في سوريا يُصعبُ إنتزاعُ هذه الأشكالِ من لحمِ الشعب السوري وهو يتفتت. مثلما أن الأمةَ الفارسية وإنغراسَ التطورِ الألماني الهتلري في لحمِها يصعب أن تُعالجَ بسهولة، ولا بد أن نكونَ حذرين منها ومن تأثيراتها المَرضية. مثلما أنهم في ظفار حاولوا أن يغرزوا المرضَ الصيني فيها وشُفيت، ولكن نحن في البحرين لدينا عدة أمراض متراكبة لم تُعالج بعد، وجمعنا كافةَ الأمراض الروسية والصينية والعراقية والنسخة اليمنية والنسخة العمانية، وخاتمة الطوفان النسخة الفارسية الإيرانية.
التدرج والإصلاحية المتنامية وعدم إستيراد النسخ والعمل من خلال القوانين الاجتماعية والسياسية لكل بلد هذه هي ثمار تم التوصل إليها خاصة في هذه البلدان ذات التاريخ الصعب.
56 ــالدمجالقسريفيالجزيرةالعربية
تعاني الشعوب العربية من التمزق والتشتت، فقد ورثت هياكل اقتصادية واجتماعية منقسمة مفككة، ففي بداية الدولة الإسلامية كان الحكم قائماً على الدخول الطوعي للقبائل في جسم الدولة المركزية، التي لم تطرح نموذج الدولة المركزية بمؤسساتها العنفية القاهرة، بل طرحت نموذج الدين الواحد الموحِّـد، وتأتي من خلاله عملية التبعية الطوعية للدولة المركزية في عاصمتها الحجازية.
إن عدم ظهور الدولة بمؤسساتها القاهرة، وانبثاق الزكاة كركن من أركان الدين، التي تكون الدولة مسئولة عن تطبيقه، كان يعكس عدم قدرة العرب في ذلك الحين على تجاوز مفهوم الدولة الدينية.
لكن عدم التجاوز هذا كان له نتائجه، فعكست حروب الردة تحول الدخول الطوعي تحت مظلة الدولة إلى دمج قسري، وأخذت الدولة تتوسع بأجهزتها وخاصة العنفية منها، وحلت تدريجياً عن ذلك الانضمام الشعبي الواسع للدولة.
وحين تشابكت مصالح الأقليات الحاكمة في مختلف العواصم التالية بالتحكم الشامل في الأقاليم أخذت مناطقُ الجزيرة العربية في الانتفاض والعودة إلى حكوماتها الداخلية المستقلة، فعادت الأجسامُ السياسية الأساسية كاليمن وعــُمان والبحرين ونجد إلى استقلالها.
لكن ظلت السيطرة من الحكومة المركزية متواجدة بشكل الولاء الديني، أو عبر الحملات العسكرية المتواصلة التي تــُشن بين الحين والآخر.
وإذا كان أقليم الحجاز ذا أهمية خاصة، ولا يمكن أن ينفصل عن جسم الدولة المركزية، وقام الحج بجعله ذا أهمية دينية وتجارية وثقافية كبيرة، فإن الأقاليم الأخرى كانت تفتقد إلى مثل هذا الطابع، فعاشت حياة شبه مستقلة، خاصة المناطق شديدة الرعوية كأقالمي نجد، التي اتاح لها هذه الظرف الانفصال الكلي والقدرة على التدخل والغزو للأقاليم الأخرى.
وهكذا فإن جسم الدولة العربية الإسلامية خاصةً في الجزيرة العربية بمختلف مراحله لم يعرف التوحد الديمقراطي العميق، وكان القصد من هذا الدمج الحصول على الخراج، الذي صار جباية اقتصادية يفرضها النظام بأداته العسكرية.
فلم يحدث أي توحد في الهياكل الاقتصادية بسبب كون الأرض الزراعية هي الوحدة الأساسية في الإنتاج، فظلت القوة وانتزاع الخراج هما المظهران الأساسيان للحكم.
وصار هذا المظهر هو الديمومة المستمرة للدول، فأي مجموعة من القبائل تمتلك قدرة عسكرية تفرض نفوذها وتستولي على الخراج، ثم تأتي قوة أخرى وتزيحها وتعيد نفس السيطرة وهكذا..
ولم تكن التمردات التي سمعنا بها من ظهور للخوارج بفرقهم الكثيرة والقرامطة سوى عمليات انفصالية واستيلاء على الخراج المحلي، فقد كانت هذه الأقاليم بعيدة عن اهتمام السلطة المركزية فما كان منها سوى أن سيطرة على مقاليد الثروة فيها.
لكن هذا الاستيلاء تم بأشكال قسرية حربية من القبائل القوية، فصار الصراع القبلي يكتسي أشكالاً مناطقية ومذهبية، فتظهر دولٌ قبلية، ولكن قانون الصراع والتفكك يواصل عمله داخل الدولة الواحد المنفصلة، فتظهر دويلات في اليمن، وعمان الداخل وعمان الساحل ثم عمان الساحل المتصالح، وتتفكك دولة البحرين الكبيرة إلى مناطق.
فيغدو بناء الدول توحيدي سياسي فوقي وتفكك قاعدي مستمرو أساسه سيطرة مجموعة على الموارد وعدم قدرتها على تشكيل أسلوب توزيعي للثروة.
وقد ورثت الدول الوطنية الحديثة عمليات التفكك هذه وقوانين الصراع الموروثة لقرون عديدة.
ولكن الاستعمار البريطاني ثم الغربي عموماً أدخل جوانب جديدة ومنها ربط المنطقة العربية القليلة السكان بالهند وجنوب شرق آسيا، وأبعادها عن محيطها السكاني والقومي والديني.
وهو مظهر زاد من حدة الصراعات القديمة وأضاف إليها مادة قوية جديدة.
ورغم التطورات الاجتاعية والسياسية الكبيرة بعد القرون الوسطى في الجزيرة العربية، وضخامة البناء الذي جرى بفضل انفجار الثروة النفطية، فإن الانفصال بين السلطات والجمهور العامل ظل مستمراً، وهذا يتجلى بغياب السلطات البلدية المنتخبة، أو عدم فاعليتها الحقيقية، مما يجعل تلك الأقاليم الصغيرة أو الشاسعة لا تلعب أي دور في تقرير معيشتها وأحوالها البعيدة عن العدل في توزيع الثروة على الأقاليم المختلفة.
وقد أدى ذلك إلى تضخم المدن المستمر وزيادة سكانها إلى درجة هائلة، تناقض كلياً ما كان يجري في العصر السابق، وهو أمر أدى إلى زيادة مشكلات الفقر والتلوث والاختلاط الفوضوي بين الأمم، دون وجود أدوات سياسية شعبية قادرة على فحص هذه المشكلات وتفكيك الغامها.
فيلاحظ هنا المظهر المتضاد وهو إنه مع زيادة الثروة وفواضها على مختلف جوانب الاقتصاد تحدث عمليات صراع حادة تتسم بالعنف، كما يحدث بشكل مستمر في اليمن على شكل حروب أهلية وخطف وصراعات مسلحة في الجبال الخ..
أو بشكل أرهاب متسع وصراع مزمن مفكك للبنية الوطنية، وهذا كله يعود إلى أن تلك الثروة المتصاعدة تتجه إلى هياكل الدول التي تقوم بتوزيعها بشكل بيروقراطي.
وكما أن هناك إنجازات كبيرة على أصعدة التحديث والتطور الاجتماعي للسكان لكن (الخوارج) المعاصرين امتلكوا هم أيضاً تطورات واستفادوا من التقنيات العصرية وتسللوا إلى مناطق مدنية، واستغلوا الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين السكان، وبين المناطق، وبين العرب والمسلمين وبين معتنقي الديانات الأخرى.
فحدثت صراعات قبلية ومناطقية باسم المذاهب، وصارت (العودة للإسلام النقي الأصيل) وجهاً لدكتاتورية أخرى تغيبُ مضمونــَها كما غيب الخوارج والمذهبيون السياسيون القدامى أهدافهم الخاصة باسم الإسلام.
إن (الخراج) النفطي المعاصر، يتوزع على جهات دولية ومحلية عديدة، ويثير إشكاليات أكبر وأكثر حدة من الخراج الزراعي القديم، ويجذب إلى دوائر الصراع قوى إقليمية وعالمية كبرى.
فهو لا بلا تحديد كمي، وانعاساته ضخمة حيث يقوم المنتفعون به بجلب عمالة أجنبية متزايدة، وتحتشد المؤسسات الاقتصادية في رقعة صغيرة لدواعي الاعتماد على خدمات الدول الرخيصة المركزة في المدن الكبرى، دون أن تسهم هذه المؤسسات في الاهتمام بجسم الدول الواسع وبتوزيع الثروة على مختلف السكان المواطنين.
ويحتشد أبناء القبائل الفقراء في الجيوش وينقلون همومها إلى أداة التوحيد الوحيدة، وهي الجيش، وستكون لهذا انعكاسه على التطور مع بطء المؤسسات السياسية في عكس رغبات الناس وتغيير ظروفهم.
57 ــمنهجآخرللجزيرةالعربية
الاتجاهات العربية التقليدية تواصل معاركها اللفظية مع الاستعمار والصهيونية.
مضت عقود طويلة ومعارك كبيرة ونتائج خاسرة هائلة، لكن لم تتجدد تلك المناهج والرؤى التقليدية الشمولية، وبقيت خميرة راكدة لم تنضج لطبخة جديدة، ولم تنتج أفكاراً خلاقة، وكادت أن تموت هذه التيارات التي ناضلت طويلاً وتخثرت.
وتمسكت بقوى دينية هي أكثر منها جهلاً بالتطور التاريخي وبالتعقيد السياسي، واللغة بسيطة، والشعار سهل: هاجموا العدو! لكن مهاجمة العدو بتلك المناطحات انتجت المزيد من التراجعات والهزائم.
لم تحدث في هذه الصفوف السياسية تطورات اجتماعية كبيرة: قراءات أعمق للأفكار الحديثة ونشرها بين الناس، إعادة نظر للنظريات والفلسفات والتجارب السياسية، بسبب أن الأجيال الجديدة الملتحقة بالجماعات القومية والدينية لا تقرأ ولا تدرس وتكتفي بحفظ الشعارات القديمة نفسها.
كذلك فإن احتكاكها بالعمال والفقراء محدود، ولا تسمع سوى الضخ الذي يأتي من بقايا الأنظمة والحركات الشمولية العسكرية، وقد كانت معاركها هي التي إستنزفت القوى البشرية المناضلة وعرت الشجرة الخضراء ولم تبقْ سوى أوراق صفراء تتساقط واحدة بعد أخرى!
إن التصدي للاستعمار والصهيونية والتخلف هو واجب علينا، ولكن كيف ؟
هذه هي القضية!
تداخلت قضية تغيير الأنظمة الشمولية الدموية بقضية التحرر، فقد قامت هذه الأنظمة الشمولية نفسها بإستدعاء القوى الغربية وكرستها في منطقتنا بأساطيلها وأسلحتها، والآن يقوم النظامُ الإيراني بشكل مقارب لذلك، أي يستدعي القوى الغربية والحرائق، بنفس الحجج الواهية عن مقاومة الاستكبار العالمي!
كانت الخطوات تنمو باتجاه التخلص من القوى الغربية، فتضخمت تلك الأنظمة ونفشت ريشها، وخربتْ الكثيرَ من السياسيين والمثقفين لكي يؤيدوا سياستها القومية الاستعراضية التي جلبت النتائج الكارثية المعروفة.
في حين كانت نتائج صراع الأنظمة العسكرية الشمولية في قلب الوطن العربي قد وسعت من الاحتلال الصهيوني، وجاءت سياسة السلام لتخفف من ذلك، ولتنسحب إسرائيل عن مواقع مهمة، ولكن سياسة التهور والانفراد جلبت الكوارث وصعدت القوى المتطرفة في إسرائيل وأعادتها للحكم وليبقى الأحتلال مرة أخرى!
إن محور المراهقة القومية والدينية يتجدد بأشكال مختلفة، وكلما قام نظامٌ عسكري شمولي حرك قواه المختلفة ليخرب أي علاقات سلمية بين الشعوب، ولتتجدد المعارك دون أي نجاح للعرب وأي تقدم لقضية تحرر أراضيهم وأبعاد القوى الأجنبية عن المنطقة.
سياساتهم كانت وما تزال هي إسقاط الأنظمة ولكن على رؤوس الشعوب!
لماذا لا يقدرون على سياسة النضال التدريجي؟
هذه تتطلب تطوير القوى الشعبية وحياتها وظروفها، ومعارفها وتنظيماتها النقابية والسياسية، وهي سياسة صبورة تتجنب المغامرات وتحول حياة الناس كذلك، وهم لا يستطيعون ذلك، بل هم مشغولون بالمانشيتات الساخنة الحارقة والألعاب النارية.
لا بد من حراك لتغيير التخلف في منطقتنا الجزيرية الخليجية بصورة مغايرة لما ساد عربياً قبل عقود، يجب أن نتجاوز ما ساد عربياً وننفيه فكرياً وسياسياً.
➲ دارسة أوضاع العمال والفقراء وكيفية تغيير حياتهم وتطوير ثقافتهم بما في ذلك الحراك النقابي التحويلي لظروفهم، مع دعم الأنظمة السياسية وتحولاتها الليبرالية والتحديثية والديمقراطية.
➲ دعم تحولات وحريات النساء بما يحافظ على تطور الأسر والتماسك فيها وتكريس العائلة المنتجة الديمقراطية.
➲ دعم التحولات الإسلامية الديمقراطية، عبر تكريس العقلانية وقراءة تراثنا بصورة موضوعية توحد المسلمين وتحررهم وتشكل روابط عالمية تحديثية نهوضية كبرى بينهم.
➲ تشكيل سياسة خارجية نشطة تستند إلى مبادرة السلام العربية مع تكوين جبهات واسعة من قوى السلام والديمقراطية في المنطقة والعالم لهزيمة التوسع الصهيوني.
➲ تطوير قوى الإنتاج الصناعية والعلمية في المنطقة.
إنها مهماتٌ صعبة في طوفان من التحولات والهجمات والمؤامرات ولكنها ممكنة إذا قاومنا التطرفين المغامر الطفولي والإسرائيلي معاً.
58 ــالغزوالأجنبيلعاصمةالعرب
ليس من شكٍ في كون مكة منعزلة نائية عن هيمنة الأمبراطوريات هو عاملٌ هامٌ وأساسي في قدرتها على إنتاجِ أمةٍ عربية، ولهذا كانت قبائلُ ربيعة الضخمة الكثيرة في البحرين وبعض نجد، غير قادرةٍ على هذا الفعلِ التاريخي، لمجاورتها للفرس واتباعهم ومخافرهم السياسية من المناذرة، وفيما بعد كان تشكيل بغداد كعاصمة كونية عربية إسلامية قد نأى بها من عمق المحيط العربي، لتغدو عاصمة للمسلمين ككل، ولكن على أطراف (الأمة) العربية، التي يغدو تعبير الأمة سابقاً لأونه فيها، لكنه تمظهرَ بشكلِ شعوبٍ فيما كان سابقاً بشكلِ تحالفٍ قبلي، ثم تجلى في أواخر العصر العثماني كقومية مستقلةٍ وبأدوات الشعار وبضع علاقات مضطردة النمو.
كان الهاجسُ القومي العربي متوارياً في لحمةٍ دينية، رغم أن الرئاسة السياسية واللغوية من نصيب العرب، ثم تم القضاء على الرئاستين؛ السياسية بدخول الفرس والكرد والترك، كمسيطرين على مركز الخلافة، واللغوية بتدهور مكانة اللغة العربية من اللغة الأولى إلى إحدى اللغات الكبيرة في بابل الجديدة وفي الأمبراطورية المتمزقة.
في أزمةِ العاصمة المُعبرة عن أزمةِ أمةٍ متواريةٍ في الرداء الديني، تم إنتاج المذاهب الدينية المعبرة المسلمين ككل، حسب اجتهاداتهم، ثم أخذت المذاهبُ تصطفُ في الصراع القومي المتواري، وحدث استقطابٌ بين الأمم ذات الجذور الرعوية والأمم ذات الجذور الزراعية، ثم تفاقم هذا الصراع بشكل الصراع التركي – الإيراني، وبشكل الصراع السني – الشيعي.
كان العراقُ ضحية لهذا الصراع، وكانت بغداد خاصة، والتي تراجعت كعاصمة، ثم أنتجت أحزاباً وتيارات سياسية تالية ورثت تاريخاً طويلاً من الحماقة.
كانت التيارات السنية والشيعية المعتدلة تصوغ حالة من التعايش الوطني، ثم أضافت إليها التيارات الديمقراطية الحديثة شيئاً ضئيلاً آخر، لكن عقلية الاستقطاب الحادة، وغياب عاصمة التراكم الديمقراطي الوطني الطويلة الأمد، قد جعلت القبلية المتطرفة تعود ثانية وقد تسلحت بالتعصب والقوى الحربية الفتاكة.
مثلما أن المذهبية السنية والشيعية المتطرفتين لدى القلة كانتا تلعبان دور المفجر للصراعات والممزق لخارطة البلد.
إن انتقال بغداد من العمق العربي لأطرافه، وجثومها بين أربع قوميات متناحرة: العرب والفرس والأكراد والترك، وبين المذهبيات الكبرى والأديان الأساسية في المنطقة، كل هذا جعلها قطعة هائلة من الفسيفساء.
ولعبت الدكتاتوريات المتعاقبة؛ الملكية على طريقة ، والجمهورية على طريقة قاسم، والفاشية على طريقة صدام، ثم الاحتلالية على طريقة بوش، أدوارها المختلفة في الحرق للحداثة والديمقراطية والوطنية، وجاءت الأشكال المضادة من المقاومة الحادة مجسدة في استيحاء النماذج الهتلرية منذ الكيلاني حتى القاعدة.
ليس للعراقيين سوى أن يطووا صفحات هذا الماضي العنيف الدكتاتوري، المذهبي والتحديثي، ويشكلوا لحمة وطنية ترتفع فوق الأسنان الحديدية للقوميات والمذاهب، وأن يكون ذلك نقداً فكرياً عميقاً، تتحول فيها الأحزاب إلى أحزاب قوى اجتماعية لا أحزاب قوميات وطوائف، فالإصلاح لا يأتي بالاستمرار في الخطأ، وأحزاب الطوائف والقوميات تلغي الوطن المشترك، مهما تم تدبيج الخطب عن الوطن الواحد المجرد والفارغ من الدلالات الحقيقية.
هناك وطنية واحدة هي الوطنية العراقية، وما عداها هي أمور خارج السياسة العامة، هي جذور قومية ودينية مقدرة لكن لا تصنع هويات وطنية، والحفاظ على هذه الأزدواجية، وطموح كل طائفة في تشكيل دولة وطموح كل قومية في الانفراد بإقليمها وتوحيده مع أقاليم أخرى خارج نطاق الدولة العراقية، فكل هذا هي حروب مضمرة حتى في اعتدالها اللغوي.
وبغداد التي كانت عاصمة إمبراطورية عاش تحت ظلها عشرات الملايين من البشر من الصين حتى السنغال، تعجز الآن عن توحيد زقاق واحد، فهذا هو مسار الطوائف!
59 ــجزيرةالعرببلاعرب
إذا سارت معدلات الهجرة الأجنبية بمعدلها الراهن فمن المؤكد بأنها سوف تغير هذه شبه الجزيرة العربية التي كانت دائماً منبع العرب ومقر هجراتهم وتشكل لغتهم وحضارتهم.
لقد حاولت الأمبراطوريات على مر التاريخ كالأمبراطورية الرومانية والأغريقية والفارسية أن تحتل شبه الجزيرة العربية فما استطاعت.
ثم حاولت الأمبراطوريات الحديثة كالبريطانية والفرنسية بدون فائدة أيضاً، خاصة حين كانت الجزيرة بلا مورادها النفطية.
لكن حين ظهرت هذه الموارد تكالبت الدولُ الكبرى على السيطرة على الجزيرة العربية بكل السبل، وقد بلغت الأمبراطورية الأمريكية في ذلك مدى بعيداً، بل وورثت نفوذ الأمبراطوريات السابقة بفضل توجه العالم أكثر فأكثر نحو المركزة الرأسمالية والعولمة، وبسبب ضخامة الإنتاج الأمريكي الصناعي.
وقد عمل التاريخ الماضي على فصل الجزيرة عن العالم العربي الذي كان هو الملجأ لأهل الجزيرة العربية في تدفقهم عبر العصور بسبب القحط الذي يعصف بهذه المناطق القاحلة على مر العصور.
لكن حين تطورت هذه الجزيرة العربية وصار فيها بعض الغنى توجهت لقارات أخرى بعيدة تقيم معها أقوى العلاقات وتستورد منها البشر والمواد السلعية والثقافية.ويبدو أن هذه الخطة قد تداخلت مع عصر النفط، حيث رأى الغرب الاستعماري أهمية استنفاذ موارد الجزيرة العربية قبل أن يتمكن أهلها من التطور الصناعي الكبير، ويوظفوا النفط ومداخيله لثورة صناعية وعلمية في بلدانهم، تعيد تشكيل المنطقة، وتمتد آثارها نحو البلدان العربية الشقيقة لها.
ولهذا كان التفكك وبقاء الهياكل البيروقراطية والحرفية والاستهلاكية تسنفدُ الرساميلَ وتوجهها نحو محافظ الغرب والشرق النقدية، وأن تتوجه طبقاتها الغنية للبذخ وشراء الكماليات الغربية واليابانية بوفرة كبيرة، تتيح لقوى الإنتاج في بلدانها عبور الثورة العلمية والتقنية الجديدة واكتشاف وسائل بديلة للطاقة النفطية.
كذلك توجهت الخطة لإغراق هذه البلدان بالعمالة الأجنبية المتعددة القوميات غير العربية، وجعلها أدوات التأثير على التطور الراهن والمستقبلي، من حيث بقاء هذه الدول في فقر تقني وصناعي وتغييب التراكم الثقافي الإنتاجي الذي يلعب دور الرافعة للثورة الصناعية العلمية.
وبطبيعة الحال فإن العمال الأجانب ليس لهم دخل في مثل هذه المشروعات، فهم أناس يبحثون عن عمل في بلدانهم المكتظة بالسكان بدون فائدة ووجدوا فرصاً في بلدان أخرى، ولكن عدم معرفتهم باللغة العربية عامل هام لوجودهم.
وتكاد أن تكون العمالة العربية القريبة ذات تكاليف أرخص وذات أهمية في تراكم المعرفة الإنتاجية في هذه البلدان، بسبب عامل اللغة والقومية والصلات التاريخية الطويلة.
ليس وجود عمالة عربية سائدة ذا تأثير مهني، بل بسبب تأثيره السياسي، حيث سوف تترابط أجزاء الجسم العربي المفتت، ويكون لذلك تأثيره في نقل الأفكار والمطالبات الاجتماعية والسياسية، ما سوف ينعكس على المادة النفطية الاستراتجية في خاتمة المطاف.
ولو قدر لهذه المادة أن تبقى فإن ملامح جزيرة العرب يمكن أن تتبدل مع أصرار الدول على التوجه شرقاً، والتعامل مع دول غير عربية وغير إسلامية، وتغيير ثقافة المنطقة وتبديل هويتها.
وهو أمرٌ ظهرت بوادره في تفكك وضعف اللغة العربية خاصة في الأجيال الجديدة، وتدهور الإنتاج الفكري وفي ضعف الأنتماء القومي أو في تطرفه بصورة حادة كرد فعل على عمليات التذويب.