أرشيف الأوسمة: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الدين والفلسفة عند ابن رشد

الدين والفلسفة عند ابن رشد

تتويجاً لهذا المحو للجذور الاجتماعية لكلا الظاهرتين : الفلسفة والدين ، عبر أداة منطقية واحدة تتداخل في كلا التكوينين ، يمكن أن يصبح الدين والفلسفة متآخيين ، فيصبح الدين برهانياً مثالياً ، وتغدو الفلسفة دينية عقلية .
ولهذا يقول تعبيره المعروف : [ إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة ] .
تغدو الفلسفة والدين من أرومة عائلية واحدة ، ويقود التعبير الجنسي السلالي إلى تصور تماثلي ، بدلاً من أن يضع ابن رشد الشكلين من الوعي في نوعيهما المتميزين وتاريخيهما المختلفين ، لأنه حولهما إلى شكل منطقي واحد مجرد خارج السيرورة التاريخية والدلالة الاجتماعية .
فالدين الذي هو استخدام للصور التاريخية والواقعية والأسطورية والمعبر عن لحظة تطور طفولية للوعي في زمن القبلية غير المفككة سياسياً واجتماعياً ، لا يغدو لديه شكلاً للوعي يخفي التناقضات الاجتماعية ، فيؤسس دولةً يذوب الكل الاجتماعي المتناقض في كيانها ، ومع احتدام التضادات الاجتماعية يصبح هذا الشكل الموحد من الوعي بكل تمثلاته الغيبية واليومية والأسطورية ، مادةً للصراع بين المتصارعين الاجتماعيين ..
ولكون هذا الكل الاجتماعي يعبر من مرحلة الدولة / القبيلة ، أي من مرحلة الوعي الشفاهي الأسطوري، إلى مرحلة الدولة المدينة الإمبراطورية ، وإلى مرحلة الأشكال العليا من الوعي حيث تغدو الفلسفة تتويجاً لهذا التطور الاجتماعي الثقافي الواسع ، فإنه يحتاج إلى عملية تفكيك بين الدين والدولة ، وبين ذلك الشكل من الوعي الغيبي الأسطوري ، وأشكال التفكير العليا التي في ذروتها تقع الفلسفة ، حين تصل إلى رؤية مسار التناقضات الاجتماعية / الفكرية ، وتقوم بتفكيكها وحلها .
أي أنه على صعيد الممارسة الفكرية / السياسية ، فإن الوعي بحاجة إلى اختراق محتوى التطور ذي الشكل الديني ورؤية مضامينه الاجتماعية ، باعتباره ثورة اجتماعية تمت بأدوات فكر غيبي ، وتداخلت مع بــُنى اجتماعية قبلية بدوية .
أي رؤية الثورة الإسلامية التأسيسية وقوانينها ، كثورة للتجار المتوسطين المتحالفين مع العاملين في برنامج نهضوي تاريخي ، يعبر القرآن عن فكره ووقائعه وسجله وكفاحه وتشريعه .
ولكن هنا عبر اعتبار الحكمة أخت الشريعة ، فإن الطبقات الدلالية الغائرة تنتفي ، وتصبح الحكمة والشريعة ذهنيتين مجردتين ، مبعدتين عن جذورهما النضالية ، مُهيمناً على محتواهما في سيرورة سيطرة الطبقات الحاكمة عليهما كمنتوجين ثقافيين يخدمان أغراضهما في شكل اجتماعي ضيق .
فعملية إعادة النظر في الموروث الأسطوري وفصله عن المضمون الكفاحي ، والرؤية الاجتماعية التاريخية للفلسفة والدين ، كلها تنتفي عبر تحول الفلسفة الرشدية إلى منهج برهاني مجرد .
تصبح الفلسفة متدينة ارتدت عباءة الأساطير ، ويصبح الدين أداة سيطرة للطبقة الإقطاعية على المدينة التي لا تتحدث .
أي أن السلطات الغيبية من إله وملائكة وجنة ونار ، التي تعبر عن سلطة كلية أخلاقية ميتافيزيقية ، يعبر تنوعها عن مشاريع سياسية متعددة على الأرض المشرقية ، لا يستطيع المنهج البرهاني المنطقي المجرد من أدوات التحليل التاريخية والاجتماعية أن يتغلغل إلى أغلفتها الكثيفة .
فيحاول أن يعقلن بعض منتوجاتها ، نظراً لأن الفلسفة صارت دينية ، أي صارت جزءً من هذا الوعي الديني ، وصارت نتاجاً لتبعية فئات وسطى للإقطاع السياسي الحاكم ، وليس للإقطاع المذهبي الحاكم في المستوى الفكري والاجتماعي .
ولكن لكي تغدو الفلسفة البرهانية الدينية هي المنتوج الثقافي السائد فإنها لا تستطيع أن تقوم بذلك عبر أدواتها ، عبر تبعيتها للإقطاع السياسي ، فلا بد أن تفكك هذه التبعية ، ولا يحدث ذلك إلا في شروط تاريخية ومعرفية مختلفة ، أي أن تكون فلسفة لا دينية ، بمعنى أن تكون قادرة على التغلغل الاجتماعي والتاريخي في دلالات الثورة المحمدية ، وتغدو كفاحاً للفئات الوسطى في ظروف عصرها الجديدة .
وهي حتى في مستواها ذاك الفكري المجرد وغير الداخل في كشف المضامين المتوارية للنص الديني ، وبدون العلاقة مع الجمهور الفاعل ، أساس الحراك الاجتماعي ، لا بد أن تصطدم مع الإقطاع في مستواه الفقهي الديني ، وهو الحارس على إنتاج النص في ظل شروط التبعية المطلقة للإقطاع .
ــــــــــــــــــــــــــــ
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية الجزء الثالث

الموضوع كاملا على الرابط أدناه :

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1747140592122577&id=100004799598166

الدين والحداثة

كانت التحديات المختلفة التي تحيط بالإمبراطورية العثمانية قد دفعت الخلافة إلى اختيار الاتجاه الإصلاحي بين التيارات الدينية السائدة ، فقد كان هناك الاتجاه الصوفي والاتجاه الوهابي.

لقد كانت الاتجاهات الصوفية هي السائدة طوال حقبة الانحطاط، وهي تماثل الاتجاهات العبادية الشكلية التي كانت تجاورها، حيث عبرتا معاً عن الركود الاجتماعي وإعطاء تميز ديني ما للمسلمين.

كانت هذه الاتجاهات الصوفية في كل مكان مجسدة في [الطـُرق] المختلفة تقوم بالمقاومة الوطنية والثورات في وجه الغزاة. وفي عاصمة الخلافة العثمانية كانت هذه الطرق تحظى بمكانة هامة.

فقد عمل السلطان عبدالحميد على تشجيع اتجاه الوحدة السياسية بين الولايات العثمانية، حيث غدت المركزية هي الأداة السياسية المطلوبة لتجميع أجزاء الإمبراطورية المفتتة والمُهدّدة من قبل الدول الغربية الصاعدة على المسرح العالمي.

[وعلى هذا اعتمدت الدعوة (إلى الوحدة الإسلامية) اللغة العربية واستعانت، لتحقيق فكرتها، برعايا من أصل عربي. فكان أحمد فارس الشدياق أول من أُستخدموا لهذه الغاية، وذلك في عهد عبدالعزيز. ثم جمع عبدالحميد عدداً من نظراء الشدياق، وعدداً من المشايخ العرب، معظمهم من اتباع الطرق الصوفية ، تنافسوا في تمجيد دعوته].

إن الطابع الصوفي الطرائقي بأشكاله المعرفية والاجتماعية يعبر عن التفتت السياسي، وعن الجمع بين الأشكال العبادية وأنواع الخرافة والعمليات السحرية، وهو ما كان متطابقاً مع الوعي الجماهيري السائد لما قبل النهضة.

ومن هنا كانت حنبلية العصر السابق والتي تنامت عبر ابن تيمية تهجر المدنَ الخاضعة للسلطة العثمانية وللطرق الصوفية متجهة نحو الصحارى العربية، وقد وجدت في الوهابية شكلاً مناطقياً أخذت تنمو من خلاله، لرفض هذه الطرقَ الصوفية المهيمنة وطرق العبادات الإسلامية المتوحدة بعبادة القبور والأولياء، ومن أجل أهداف شيوخ القبائل والدينيين التي تطابقت أهدافهم السياسية التوحيدية التوسعية في الجزيرة العربية وطموح رجال الدين هؤلاء الذين يسعون لهيمنة خطابهم التوحيدي القسري الحنبلي.

وكانت فارس تقدم نموذجاً إسلامياً مغايراً، حيث تمكنت الإثنا عشرية من تشكيل وحدة قومية فارسية عبر هذا المذهب التعددي الإلهي غير المركزي وبتحويل الطرائق الصوفية الشيعية إلى تيار جماهيري وطني محرر لإيران من هيمنة المغول والأتراك.

وفي توظيف السلطنة العثمانية للصوفية فقد كانت تتوجه للسائد وهو أمر كان يضاد توجهاتها السياسية الجديدة المستهدفة للتحديث والمركزية السياسية. ومن هنا فقد كانت بحاجة إلى شكل ديني مختلف يجمعُ بين المذاهب السنية التي تم تحنيطها عبر الإقطاع المركزي السابق، وبين أشكالٍ من التحديث تقوي الهيكل السياسي العثماني المسيطر.

وكان الصدام غير المباشر والمباشر الذي أخذ يتصاعدُ بين العالم الإسلامي وأوربا قد ولدَّ المشاعرَ والأفكار بالتصدي لهذا التفاوت الحضاري الكبير بين المسلمين والأوربيين، فظهر أكثر من داعيةٍ للتغيير الداخلي في الدول الإسلامية ، وقد تعددت الرؤى.

كان من أبرز هؤلاء الدعاة جمال الدين الأفغاني وهو الذي تبلورت فيه هذه اللحظة التجديدية المقاومة فهو قد عبر عن:

[(فكرة الوحدة الإسلامية)الثورية هذه . وذلك الخليط من الشعور الديني والوطني والراديكالية الأوربية].

لقد كان الإقطاع الديني المهيمن خلال القرون السابقة، قد استند إلى شبكاته المذهبية في كل بلدٍ ومنطقة، فكان الإقطاع المذهبي المتحالف مع شتى السلطات السياسية في هذه البلدان والمناطق، يرتكزُ على تلك القشور من العبادات المنسلخة من صيرورة الإسلام كحركةِ تغييرٍ نهضوية سابقة، فقام رجال الدين بالتحالف مع الحكام والسلاطين والشيوخ في بقع العالم الإسلامي بتجميد التطور.

ولهذا كان صعود جمال الدين الأفغاني ثم محمد عبده معه، يتشكلُ من خارج هذه الشبكات السياسية – المذهبية، ومن هنا حين كانت مذهبية جمال الدين الأفغاني متواريةً ومغيّبة ، فإذا قيل إنه كان شيعياً فإنه لم يظهر بذلك ، وراح يطرح [الإسلام العام]، أي هذا الإسلام اللامذهبي. فغدا ذا أصل شيعي وفكر سني.

هنا تعبيرٌ غامضٌ وحالةٌ فردية استثنائية للصعود فوق شبكات المذاهب السياسية، وتكوين رؤية إصلاحية نهضوية خارجها وترتكز على عمومياتها ، لأن بؤرة هذا الخطاب هو[التوحيد].

كما تقوم على رؤية فردية تخترق الموضوعي على صعيد تكون المذاهب، وعلى صعيد الفعل السياسي، ولهذا تتسم أفعالها بالمغامرة على الصعيدين . ومن هنا لن يكون لها نبتٌ محدد في أي بنية إقطاعية – مذهبية . في حين أن التلامذة سيبدؤون من الشعارات العامة فقط، لتتكشف الإشكالية التاريخية لها.

إن العودة إلى فترة الإسلام الأولى تعتمدُ على الخطاب العام ، وهذا الدمج بين عمومية الإسلام والإصلاح السياسي والاجتماعي هو ما كان تريدهُ الإمبراطورية العثمانية والباب العالي، ولم يكن جمال الدين كفردٍ مفتقدٍ لأي جماعة دينية وسياسية قادراً على العمل المناطقي الطويل، نظراً لاصطدامه الدائم مع السلطات الشمولية المتخلفة.

وبهذا فإن الاثنين جمال الدين والباب العالي وجدا إن ثمة مصلحة من تعاونهما، جمال الدين يقوم باستثمار حاجة الإمبراطورية للإصلاح عبر خلق أشكال تحديثية مختلفة، تحدُ من هيمنة الخلافة الشمولية وتتيحُ للمسلمين في شتى بقاعهم ظروفاً جديدة تطور من حياتهم وتقاوم الغزاة .

والباب العالي وجد في جمال الدين أداةً لاستقطاب رجال الدين والمصلحين والمثقفين إلى قيادته وتوظيفها لمزيدٍ من الهيمنة على الأقطار شبه المفككة .

ولهذا فإن الجانبين كانا لا يتفقان إلا وقتاً قليلاً، فالباب العالي يخضعُ بشكلٍ دائم للغزو الغربي المتصاعد ولشروطه ولتغلغل تجاره وشركاته ، في حين كان جمال الدين يدعو لمقاومة ذلك ، ولنشر المجالس المنتخبة والمدارس والمصانع والعلوم.

كان جمال الدين يعتمد على الوسائل النخبوية والأعمال الفردية والمغامرة وحتى الوسائل الإرهابية لتخويف وردع الحكام ، ثم أخذ يتوجه إلى الأشكال التثقيفية السياسية المباشرة عبر الصحافة .

كانت شعاراته الرئيسية هي :

 مواجهة [خطر التدخل الأوربي والحاجة إلى الوحدة الوطنية لمقاومته، والسعي إلى وحدة أوسع للشعوب الإسلامية، والمطالبة بدستور يحدُ من سلطة الحاكم].

والفكرة الرئيسية التي سيطرت على وعيه هي فكرة فهم الإسلام بشكل صحيح من قبل المسلمين، وتأتي في أولوياتها بعث خلافة العصور الأولى الموحدة، ولكن إذا لم تتحقق مثل هذه الوحدة السياسية فعبر التطور الإسلامي النهضوي لكل بلد ، والحاكم في هذا البلد لا بد أن يعترف بسيادة الشريعة، وأنه لا بد من الثورة على كل حاكم يحيد عن هذه الشريعة ، ولا يتصور الأفغاني وجود تناقض بين العقل البشري والشريعة الإسلامية، وتكمن شعلة الإسلام لديه في النبوة والفلاسفة:

[فهو يقر بأنه من الممكن قيام دولة فاضلة على أساس العقل البشري كما يمكن قيامها على أساس الشريعة الإلهية. وقد أعرب عن هذا، بتعابير تذكر بالفلاسفة، في تلك المحاضرة التي أدت إلى مغادرته اسطنبول. إذ قال إن الجسم الاجتماعي لا يحيا بدون روح ، وأن روح هذا الجسم هي الملكة النبوية أو الملكة الفلسفية . . أما الأولى فهي هبة من الله . . بينما الثانية تنال بالتفكير والدرس].

إن هذه الفكرة المستوحاة من الفارابي وابن سينا، تومئ إلى منظومة التفكير الدينية النهضوية القديمة لدى الفلاسفة العرب والمسلمين، والتي جعلت فكر النبوة فكراً تصويرياً وفكر الفلاسفة فكراً مفاهيمياً، وكلاهما معبران عن الرسالة الإسلامية العامة الإلهية، ولهذا فإن جمال الدين يشكلُ عقليةً اجتهادية عامة مسيسة للوقائع العصرية الجديدة، دون أن يصل إلى الوعي الديمقراطي الحديث بفصل الدين عن السياسة، أي أن مفاهيمه هي تصعيد للإقطاع السياسي الديني السابق في خطوطه العريضة، وهذا ما سيؤدي أن تكون نتائج الحركة الكبرى خاضعةً لإعادة تشكيل هذا الإقطاع القديم بصورةٍ يستفيدُ بها من التحديث الأوربي، دون أن يماثله في جوهريته.

بعضُ نقاط رؤيته تظهرُ في هذا المقطع :

[أن ما وحد الأمةُ في الماضي إنما هو مؤسسةُ الخلافة السياسية وجماعة  العلماء المحافظين على العقيدة الصحيحة . لكن الخلافةَ انفصلتْ عن العلماء في عهد العباسيين ، ثم زالت عملياً من الوجود فيما بعد، وقام مقامها دولٌ مستقلة، وبقي العلماءُ عنصر الوحدة الوحيد، وغدوا روح الأمة وقلب الشعب المحمدي. ولكنهم ، مع مرور الزمن، انقسموا هم أيضاً على أنفسهم حول المعتقدات وانحرفوا جميعاً، ما عدا القليل منهم، عن الحقيقة إلى الضلال ).

إن هذه الأفكار التعميمية عن [أمة واحدة] ، تحيل المسلمين بأممهم المتعددة المتصارعة، وشعوبهم المختلفة ، إلى كيان تجريدي عام واحد، وقد مثلته سابقاً عملية التوحيد القسرية الراشدية – الأموية – العباسية من خلال المركز الشمولي في العواصم المسيطرة، وبهذا يتطابق وعي الأفغاني مع الوعي السني الشكلي ، ويعيد وعيه إلى الوعي السائد لدى بعض الفقهاء في العصر الأموي أو العباسي، وبهذا فهو كفردٍ من الفئات الوسطى التي ظهرت في بداية العصر الحديث يعيدُ وعيه إلى هيكل النظام الإقطاعي المركزي السابق، فيحقق تبعية فئة وسطى لذلك الإقطاع الذي يغدو هدفاً للحاضر، ومن هنا فهو حين يردد فكرةً من أفكار فلاسفة المسلمين السابقين، الذين ماثلوا الفلسفة بالنبوة فهو يفكر من داخل ذلك المناخ، وبالتالي فهو غير قادر أن يتماثل مع نهضة البرجوازية الغربية المعاصرة التي أزاحت الإقطاع، رغم إنه يطالب بالاستفادة من إنجازاتها.

 أي أنه يعيد إنتاج مواقف الفئات الوسطى التحديثية التابعة للإقطاع في العصر السابق، والتي لم تستطع أن تقود الجماهير المسلمة في عمليات تحول جذرية. وهو إذ يصطدم بالأفكار الأوربية العلمانية الفاصلة بين الدين والسياسة، لا يستطيع أن يتفهمها، ليس بسبب غياب تجديده الفكري بل لأن هذا التجديد الفكري خاضعٍ لعصر سابق.

إن هذا الإصلاح يمثل تطوراً للمنظومة الإقطاعية المركزية النهضوية السابقة التي ضعفت ثم انهارت، والتي تكونُ عودةُ العالم الإسلامي إليها إنجازاً ، ولكنها عودة مستحيلة ، ليس فقط لزوالها، بل لأن العالم دخل تشكيلةٍ جديدة هي الرأسمالية الحديثة .

في المناقشة مع رينان تتضحُ جوانبٌ أخرى من وعيه، فرينان يعتقدُ بأن الفكر العربي السابق [من عمل مفكرين غير مسلمين عانوا ثورة نفسية داخلية على دينهم. وإذ قاومهم اللاهوتيون والحكامُ معاً، لم يتمكنوا من التأثير في المؤسسات الإسلامية. وقد بقيت هذه المقاومةُ محدودةً طالما كانت السلطة في أيدي العرب والفرس، لكنها انتصرت انتصاراً تاماً عندما تسلم البرابرة، أي الأتراك في الشرق والبربر في الغرب ، قيادة الأمة].

يتضمن رأي رينان تعميمات خاطئة عديدة عبر تحويل الفلاسفة العرب إلى كيان واحد متجوهر، ثم في رؤيتهم كغير مسلمين وهو زعم يتطابق مع تكفير المحافظين المتطرفين المسلمين. ولكن إسلام الفلاسفة كان مختلفاً عن ما هو سائد. كان تحديثياً. وهو أمر لا يعتقد رينان إنه ممكن [للعقل الشرقي].

يعتبر عبد الرحمن الكواكبي من مشاهير المثقفين العرب في القرن التاسع عشر المناضلين من أجل الديمقراطية والحرية، وقد ولد سنة 1854 بمدينة حلب، وعمل في الصحافة والمحاماة والتجارة، وتعرض للاضطهاد والسجن مراراً وصودرت أمواله وممتلكاته ، فهاجر من سوريا وطاف بالبلدان العربية، وألف كتابيه الشهيرين : [ طبائع الاستبداد وأم القرى]، وكتباً أخرى ضاعت.

وقد قُتل بدس السم له سنة 1902، بمصر في القاهرة، وهو لا زال في عز عطائه. وقد أثرت آرائه في التطور الفكري والسياسي للأمة العربية، التي اعتبرته أحد رموز التنوير والنهضة باختلاف تياراتها، لما قام به من جمع بين جذور الأمة والدفاع عن قضايا الحرية والإسلام والتحديث.

وقد توصل الكواكبي في ذروة تفكيره، وهو يجاهد لإعادة تكوين وعي العرب، بأن الاستبداد السياسي هو سبب الانحطاط التاريخي للمسلمين، لهذا نراه يقول بأن [أصل الداء هو الاستبداد السياسي]، وذلك في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد، وهو يقصد بالطبائع ما نفهمه الآن بالظاهرات والأسباب العامة للحالة المُشخصة، أو لقوانينها كذروة للغوص في تحليلها . يقول:

 وأنا لا اقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل وتشخيص مصارع الاستعباد. 

إن بحثه عن هذه [الطبائع] وقد اكتوى بنارها، جعلته يشتغل على درسها في المصادر العربية القديمة والحديثة والغربية المعاصرة، بحيث يتمكن من الغوص إلى مختلف تجليات هذه الظاهرة، وطبائعها أي ظاهراتها المختلفة، وتشير كلمة [طبائع] إلى التعبير العربي القديم بكون الأشياء ذات خصائص ثابتة شبه طبيعية.

ويقوم خطاب الكواكبي على جانبين متداخلين ومتضادين، الأول يعتمد على فحص وتحليل الظاهرة، عبر الغوص في مختلف تجلياتها، سواء في المجال السياسي أو الديني أو العلمي أو الأخلاقي أو المالي أو التربوي، أم في العودة إلى جذورها في التاريخ الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو البوذي الخ، بل أحياناً العودة إلى التاريخ المشرقي القديم، لدى الفراعنة والرافديين، وأيضاً تحليلها من خلال التاريخ المعاصر لدى العرب والغربيين، بحيث نجد الكواكبي يتنقل في فصل واحد، أو حتى في فقرة واحدة بين أزمنة شتى، ومراحل تاريخية متباينة، وهذا الانتقال يستهدف مناقشة الظاهرة سالفة الذكر، وتتبع أصولها ومظاهرها لدى الأمم.

والجانب الثاني من خطابه هو جانب غير تحليلي ، جانب وعظي وخطابي، يندد فيه ويدعو ويتحسر، وهو جانب يعبر عن انقطاع التحليل واستبداله بالخطب، وهو يعبر عن طريقه منبرية تلاقي فيها المحامي بالواعظ، مثلما يقول في فصل الاستبداد والدين من كتابه :

 (ولكن واأسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره  الخ.)، وهذا الجانب لا يقوم بتطوير قضايا التحليل المطروحة، بل هو يقفز إلى النتائج، ويعبر عن موقف المؤلف بشكل تقريري .

وبالتأكيد فأن أبرز جانب عقلي هو في القسم الأول، الذي بهر الناس على مدى القرن العشرين لما فيه من جرأة ونفاذ بصيرة.

ومنذ البدء يدخل الكواكبي إلى موضوعه معرفاً الاستبداد السياسي بقوله: [إن الاستبداد هو صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين]، وهذه الحكومات على نوعين أما حكومة مطلقة بشكل ظاهر، وأما حكومة مقيدة [بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة الحكومات التي تسمى نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية]. 

إن الكواكبي هنا يدمج بين شتى أنواع الحكومات الدكتاتورية، سواء كانت الشرقية المستبدة بشكل كلي وكامل، أو الغربية التي تنفذ من الشكل الديمقراطي بآلية دكتاتورية عميقة.

ويستطيع الكواكبي أن يغوص في المظاهر الاستبدادية لحكومات عصره الشرقية والغربية برؤية شجاعة ، فهو يكتب إنه ليس بالضرورة أن تكون الحكومة الدستورية حكومة ديمقراطية، فالحكومة التي تعمل بالدستور ولكنها تقوم بالتفريق بين الجوانب الثلاثة الأساسية لعملية الديمقراطية المتكاملة وهي [قوة التشريع] و  [قوة التنفيذ] و [قوة المراقبة]، فما لم تكن هذه القوى، أو السلطات ، منفصلة فإن الدستور لا معنى له.

ويقول في عبارة دقيقة حاسمة [أن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة ، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى).  

ولديه أن صمام الأمان في الحياة الديمقراطية هو وجود قوة اجتماعية واسعة تفرض [المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه] وهو يضرب مثلاً من قوة الصحابة والناس في أيام الخلفاء الراشدين وقدرتهم القوية على تبليغ صوتهم، وسماع الخلفاء لهذا الصوت بل دعوتهم لاستمراره وتأثيره . .

وبهذا الصدد يعتبر إن التجنيد الإجباري وجهالة الأمة هما من الظواهر الكبيرة المكرسة للاستبداد، ولا شك إن وضعه هذين السببين في مقدمة المظاهر المكرسة للاستبداد، يعود إلى رؤيته لدورهما في تجهيل وعسكرة الجمهور البسيط، خاصة الريفي والمدني الفقير الذي يستخدم لضرب الأقسام المدنية المتحررة، لأنه يمضي بعد ذلك في تحليل هذه الأقسام الشعبية وخطورة جهلها وعسكرتها على الديمقراطية. فهو يقول [وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء]. إن الكواكبي يقوم بتتبع مظاهر لا تبدو بينها خيوط ارتباط دقيقة في الظاهر، لكن سنرى العلائق بينها، فبعد قليل يعود إلى بحثه مؤكداً النموذج الإنكليزي في النظام السياسي، حيث الشعب لا يكف عن مراقبة ملوكه، وإن الوزارة المنتخبة هي التي تدير كل النظام السياسي بما فيها الملك وحاشيته وعلاقاته.

وفجأة من هذا النظام السياسي المتقدم يعود إلى الحكومات البدوية، فيقرر إن المجتمعات البدوية قلما عرفت الاستبداد [وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب فإنهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة]، وهذا التعميم في الواقع بين ملوك تبع، والقبائل البدوية، فيه جانب محدود من الموضوعية، فالقبائل الرعوية لم تتجذر فيها السلطات الدكتاتورية، ولكنها أيضاً تحمل بذور الدكتاتورية عبر الخضوع المطلق لشيخ القبيلة، وعبر [وحدة الدم] فيها ، التي تشكلها الحياة القاسية للصحراء وهيمنة الشيوخ. وعبر هذه الدكتاتورية أمكن لهؤلاء أن يشيدوا الإمارات والدول الاستبدادية المنبثقة من التطور القبلي.

وهذا المثال يعطينا كيف أن وعي الكواكبي يستقي بعض المظاهر الحقيقية لكنه يقوم بحالات من التعميم ، وبتغييب الدراسة التاريخية للظاهرة الجزئية المدروسة. والمثال السابق يدعوه لدراسة تطور الإنسان عبر التاريخ، فانتقل من تحليل البدو إلى تحليل تاريخ الإنسانية ، وكيفية الاجتماع ، فهو يعتبر إن الجماعات والشعوب المتلاصقة هي التي تعيش حياة الاستبداد كالأمم الشرقية، أما الشعوب المتفرقة في السكن كالبدو والإنكليز والأمريكيين فإنهم يعيشون حياة أقرب للحرية. إن الكواكبي هنا يعطي سبباً جغرافياً مطلقاً مفصولاً عن التطور الاجتماعي المركب، لكن الأمم الرعوية أقرب للحرية بسبب عدم تجذر السلطة الاستبدادية داخلها، أي عبر غياب مؤسسات القمع الراسخة، وحضور الجمهور المسلح وعدم رسوخ الطبقات، فالأمر يعود لبنية اجتماعية معينة، وليس لمسألة التفرق والبعثرة السكانية ، فالإنكليز والأمريكيين لا يعيشون هذه البعثرة بل التركز السكاني كالهنود والعرب ولكن مسألة الحرية تعود للتطور الاجتماعي والسياسي، حيث تمكن الناس في هذين البلدين من إخضاع الحكام للمؤسسات الدستورية   

وهكذا فإن الكواكبي عبر تحليل ظاهرات معينة، تغيب عنه قراءة التشابك بين الاجتماعي والسياسي .

إن الطابع الخطابي لدى الكواكبي يتضح في هذه العبارة البليغة النارية:

[المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم أخوتهم الراشدون . إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت] .   .

في مثل هذا الخطاب الحماسي الموجه لإيقاظ الشعب واستثارته، تتشكل المفاهيم من كلمات مجردة بلا خلفية اجتماعية وتاريخية، كتعابير: المستبد، والحق، والحرية، والعوام، والعلماء، فكل هذه الكلمات تتشكل في غياب الفضاء التاريخي، فالحق هنا مقصود به ولا شك حقوق الناس الديمقراطية التي أوضحها الكواكبي في أماكن أخرى، ولكن الكلمة تتجرد من دلالتها، مثلما تتجرد كلمة العوام، فهم نائمون بشكل مطلق وليس لأسباب موضوعية في ظرف تاريخي معين ، كذلك فالعلماء هم أصحاب الإيقاظ المطلق.

هنا يعبر الكواكبي عن العرب في بداية القرن حيث يستفز العامة للثورة، كما يستفز العلماء، علماء الدين، لكن لا يقوم بالتحليل لهذه التعبيرات العامة، ولكننا ندرك إن مسائل الوعي والثقافة والناس والمثقفون والأوضاع الموضوعية لا تترابط وتتداخل في فهمه، فليس ثمة شروط وقوانين موضوعية للتطور الاجتماعي، فالأمور خاضعة لديه لإرادة ذاتية يقوم بها العلماء ، وإلى جسم عامي مرتبط بهذه الإرادة، وليس لجسم شعبي مرتبط بظروف معقدة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي.

ولهذا فإن هذه التعميمات تتحول إلى رؤية كونية عامة مجردة مضطربة فيقول: [إن الله جلت نعمه خلق الإنسان حراً قائده العقل ، ففكر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل]، فهو هنا لا يضع مسافة موضوعية بين الله والإنسان، عبر التاريخ الذي تشكل فيه الناسُ، فتأتي كلماتُ: الإنسان، الحر، العقل، العبد ، الجهل، بلا ركائزها في التاريخ الملموس، أي يغيب التاريخُ الحقيقي في المواضع المختلفة من تطور الحضارات وكيفية نشؤ الدولة وانتقال الإنسان من المجتمع المشاعي إلى مجتمع العبودية المعممة في المشرق العربي، فمثل هذه السيرورة تغيب عن الكواكبي، ولهذا ينهال على رأس هذا الإنسان المجرد بأقذع الهجوم: [فكفر وأبى شكره وخلط في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره]، [فكفر الإنسان نعمة الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه فوكله ربه إلى نفسه وابتلاه بظلم نفسه وجنسه وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً] .

هذا الخطاب جزء من خطبة العالم الديني، الذي يمثله الكواكبي هنا، وهو  يقوم بالتعميمات المجردة اللاتاريخية، ويسكب الخط الديني الغيبي: فهنا الله وجنته ودينه الصحيح، وهناك الشيطان والنار والدين الباطل، وثمة الإنسان المجرد الكافر الذي يتوجه للمعصية، ولكننا لا نعرف لماذا يتوجه هذا الإنسان العام اللاتاريخي إلى الشر؟ ما هي ظروفه؟ وكيف تسهل قيادته من قبل الشيطان؟

في هذا الخطاب يعود الكواكبي للغيبية، ويبتعد عن دوره كمحلل تاريخي، لكنه يعود لهذا الدور بعد أن ينهي فصل الاستبداد السياسي، منتقلاً إلى الاستبداد الديني، اللذين يعتبرهما صنوين، ووجهين لعملة واحدة: [هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب].

يقوم الكواكبي بالحكم المُعمّم على الإنجيل والتوراة فيقول إن الحكم السابق حقيقي على [مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المُضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما]، لكنه لا يقوم بعرض وجهة نظره هذه، وكيف استطاع أن يفصل الأقسام التاريخية عن الأقسام التعليمية والأخلاقية؟ وهل الرسائل، ولعله يقصد رسائل بولس الرسول، تنفصل عن الأناجيل الأربعة، لأنه لا يوجد إنجيل واحد؟! إن الكواكبي لا يدخل معمعمة البحث هنا، وينتقل إلى الظواهر الاجتماعية البسيطة والمنتشرة عبر العصور، وهي استخدام رجال الدين للأديان من أجل المصلحة، ويقول إن أساس وضعهم يعتمد على ما في الأديان من تهديد بالعقوبات الكبرى أو بالثواب العظيم، وإن الأمر يعود لسيطرة رجال الدين على هذا الطريق بين الإنسان وربه، فهم يقيمون الحصالات المالية و يأخذون المكوس على أرواح البشر الحرة: [ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذلل والصغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران]،) .

لكن هذه العملية في رأيه ناتجة من المماثلة في وعي العوام بين الخالق والحاكم: [وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلاً بين ( الفعال المطلق) والحاكم بأمره]. وهذا ما يؤدي في رأيه إلى انتحال بعض الحكام القدماء صفات الألوهية.

في رؤية العلاقة بين الأديان والاستبداد يعطي الكواكبي للعوامل الشخصية الدور الكبير في صياغة الاستبداد، فرجال الدين والحكام، كلٌ على حدة، أو مجتمعين، يقومون بالدور الاستبدادي كلٌ في مجال اختصاصه، وهم يشكلون عالماً استبدادياً مشتركاً، وهم يفرقون الشعوب إلى شيع وطوائف [فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ]، أو مثل قيام [السلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية]، إن هذه الظواهر التي يقدمها الكواكبي تركز على الشخوص ولا تقوم بالتحليل الذي يربط بين هذه النماذج الشمولية والأفكار، فلماذا  استطاعت هذه النماذج دوماً من احتكار صياغة معاني الأديان واستغلتها للسيطرة، وما هو التداخل بين الفكري والسياسي والاجتماعي هنا؟ أي كيف حدثت هذه الديمومة ولماذا؟ ولماذا لم تظهر شخصيات تركز على معاني الأديان الإيجابية وتستمر في الدعوة إليها؟

لقد استطاع الكواكبي بعد هذه الفقرات أن يكشف معانيَّ دقيقةً، لا تزال حتى وقتنا الراهن غير معروفة لكثير من المثقفين، هي تلك الرؤية الدقيقة لتطور المذاهب الدينية في أوربا، حيث يتمكن من تمييز التحرر في البروتستنتية والتقليد في الكاثوليكية، فهو يفسر تحرر القسم الأول على ما يستقيه من الرواية التي يستشهد بها، بأنه راجع إلى أن التحرير الديني ساهم في تطور تلك الشعوب السياسي ، في حين إن الحرية السياسية في الدول الكاثوليكية لم تؤدِ إلى التحرر الديني، ورغم إن هذه ملاحظة دقيقة منه، إلا أن الكواكبي عبر منهجه المثالي (فلسفياً) يقوم بفصل تطور الوعي في شكليه الديني والسياسي عن التطور الاجتماعي ، فهو هنا لا يقرأ تطور الرأسمالية الأوربية ودرجاتها، حيث سارعت الأقطار الأكثر والأسبق في النمو الرأسمالي في إنتاج البروتستنتية، في حين كانت الأقطار الجنوبية الأقل تطوراً قد أنتجت المذاهب المتشددة، أي أن نمو الحريات الاقتصادية قام بتفكيك شبكة الإقطاع في المستويات المختلفة للبنية الاجتماعية، بدءً من حرب الفلاحين مروراً بنشؤ عمليات الإصلاح الديني حتى الثورة الصناعية الخ . .

ولكن كان طرح الكواكبي هنا يتصف بطابع متقدم، وسنجد في مقاطع تالية، أفكاراً مدهشة متقدمة أخرى حتى على وقتنا الراهن. ولكنا  وجدنا هنا مشكلة وعي الكواكبي المحورية حيث التحليل النقدي للاستبداد الديني والسياسي تنقصه عمليات تشريح اقتصادية واجتماعية وفكرية متضافرة، وفي الفقرات الكبيرة التالية المتعلقة بتفسير نشؤ ظواهر الألوهية في بلاد الإغريق يرجعها الكواكبي إلى عمليات الخداع التي قام بها حكماء بلاد الإغريق، كوسيلة للإصلاح الديني الذي هو البوابة للإصلاح السياسي كما يرى. وهو تفسير لا علاقة له بالتاريخ، وإذا كان هو هنا يواصل عدم معرفة التاريخ الموضوعي وأهمها نشؤ المدن الحرة والصناعة والطبقات الوسطى القوية التي أنتجت الديمقراطية الأثينية، إلا أن استنتاجه بشأن أسبقية الإصلاح الديني هو غير دقيق، لكون الإصلاح السياسي والديني كانا متداخلين، بل أن المحافظة الدينية ظلت قوية في بلاد اليونان رغم التقدم السياسي ، ثم لعبت دوراً كبيراً في الارتداد عن النهضة.

بطبيعة الحال كان دخول الكواكبي لتحليل الظواهر التاريخية في بلاد اليونان هو بحد ذاته إنجازاً، كما يشير إلى محاولاته الموسوعية لتفسير الظواهر الإنسانية، رغم نقص المواد المعرفية والمنهجية في زمنه.

ويأتي تحليله للإسلام معبراً عن هذا الترابط في وعيه بين الإسلام والديمقراطية والحداثة بل والاشتراكية، وإلى استبصاره المدهش لكون الإسلام ثورة اجتماعية وضعت العرب والمسلمين على طريق التطور والتحديث، وهو يقول إنها وضعت [أصول حكومتها: الشورى الأرستوقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد ]،).

إن شورى الأشراف التي أقيم عليها الحكم الإسلامي لم تنفصل عن رغبات ومصالح الرعاة العرب، أي الجمهور الأوسع. ونستشف هذا الفهم من تعبيره الاجتماعي الدقيق هنا: [الأرستقراطية] فالفئات الوسطى القرشية التي تسلمت زمام الدولة الوليدة، ظلت أشرافية، واعتمدت شورى أهل الحل والعقد، وليس النظام الديمقراطي الانتخابي ، أي لم تعتمد التصويت الواسع للجمهور، ولهذا فإن تقييم الكواكبي للحدث الإسلامي رغم نواته الموضوعية، يظل مضطرباً، ولهذا فإن جمعه للديمقراطية والاشتراكية هنا يشير إلى رؤيته لعملية الديمقراطية الاجتماعية العميقة: توزيع الأراضي على الجنود العرب، وتأميم أراضي الفتوح لصالح الناس، ووجود السلطة في متناول نقد وتصحيح الجمهور، وعدم وجود هياكل بيروقراطية ومؤسسة أمن وقمع الخ . .

لعل هذه الرؤية الاجتماعية التي عبر عنها الكواكبي بشكل مشوش، هي التي فصلت رؤيته الدينية عن الشمولية، وجعلتها رؤية دينية ديمقراطية، خاصة مع التحامها بالوعي الحديث. .

إن الكواكبي بتقييمه للإسلام كثورة اجتماعية لعب أشرافُ مكة دوراً طليعياً فيها، لا يقوم بمتابعة التحليل لمسار هذه الثورة، فهو يجد بعدئذٍ إن تلك الفترة المضيئة قد زالت لأسباب ليست عبر قراءة تحليلية لتطورها، فهو يعيدها إلى: [.. هذا الإهمال للمراقبة ، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود.]. .

فهو يعيد ظهور الاستبداد إلى مجال ضعف المراقبة الجماهيرية للحكام، وغياب جماعة الأمر بالمعروف، والحقيقة إن المسلمين لم يقصروا في هذا المجال، ونحن نجد مختلف الجماعات السياسية والفكرية طوال العهد الأموي تناضل وتتصدى بالسيف والكلمة للحكام الجائرين، وامتد ذلك إلى العصر العباسي، كما حدث في انتفاضة النفس الزكية والمعتزلة ضد جور بني العباس الخ . . ونستغرب من الكواكبي كيف لم يقم بدراسة هذه الظاهرات الواضحة في التاريخ الإسلامي، ثم كيف يقفز إلى جانب جديد اعتبره هو المسئول عن انهيار الحكم الإسلامي العادل، إلا وهو [والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد ، ألا وهو الاستعباد] .).

فما هو شكل هذا الانحراف، أي كيف تمكنت مظاهر دينية أخرى غير إسلامية من التغلغل في الإسلام، وما هي الأسباب؟

لا بد أن نرى الشق الأول من السؤال، ويبدأه بأن المسلمين اقتبسوا من المسيحيين مقام البابوية وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم وقلدوا الكهنوت في مراتبهم والوثنيين في الرقص وتطبيب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وشاكلوا الكنائس في مراسمها وجاءوا من المجوسية باستطلاع الغيب وتعظيم الكواكب الخ. . .

تغيب هنا عن منهجية الكواكبي مثلما غابت في السابق، القراءة المتابعة لتغير المراحل التاريخية، فهو لا يقوم بدراسة الإسلام التأسيسي وظروفه وتطوره، واعتماده على رعاة الجزيرة لتغيير المنطقة، وتأثير ذلك في توحيديته وبساطته، ثم ظهور مرحلة جديدة بانتقال العرب إلى البلدان المفتوحة، وتأثير ثقافاتها ومقاومتها وصراعها على تطور الإسلام، وبالتالي تغلغل تقاليد جديدة تعكس التداخل والصراع بين مستويين من الوعي والتطور، وهو ينتبه إلى دور الاستبداد في تبديل هذه الثقافة المشتركة وتوظيفها لخدمة سيطرتها، لكنه لا يرى كذلك إن هذه الثقافة لعبت دوراً في مقاومة السلطة الشاملة وتفكيكها . .

هذا الجانب التركيبي المعقد لا تستطيع أدوات الكواكبي فرزه وإعادة تحليله، فهو ينطلق من رؤية تبسيطية للدين وللإسلام، وهذه العمليات المركبة من التطور الاجتماعي الروحي تصعب على أدواته أن تدرسها. 

لكنه ينجح في تحليل ظاهرة عصره التي خبرها بمرِ تجاربه، وهي التي تعبر عن مضمون رؤيته، ألا وهي ظاهرة النبالة، أي الإقطاع، ففي فصل الاستبداد والمجد ، يقوم بكشف أصحاب الأمجاد هؤلاء الذين يتجه المستبد للإكثار [منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على أضرار نفسها تحت أسم منفعتها]، [والخلاصة إن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة.. ]، [ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز).] .

ثم يقوم الكواكبي بتعريةٍ واسعة لقيم المجد الزائف متغلغلاً في ظاهراته بلغة نارية ساخرة كاشفاً سمات التنبلة الاجتماعية حيث يرث ابن العائلة [الترف المصغر للعقول] و[الوقار المضحك للباطل السائد] ولا [يستخدم الثروة في غير الملاذ الدنيئة البهيمية ويرتبط [باقران السوء المتملقين المنافقين ] …

هذه المظاهر الاجتماعية للإقطاع يتبعها الكواكبي بتحليل اجتماعي سياسي مترابط ودقيق  [فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة الأشراف]  فقدرة الأسر الإقطاعية العربية على تأسيس الحكم يعتمد على قدراتهم العشائرية العسكرية، وهو أمر سبق لأبن خلدون تشخيصه باتساع، لكن الكواكبي يتتبع مختلف المظاهر المترتبة على فكرة الأصالة الأرستقراطية ، فتظهر النبالةُ العربية بشكلها القبلي المترفع، وبحياتها الاجتماعية الخاوية، ويظهرُ الاستبدادُ العربي مرتكزاً عليها، ثم على رؤساء العشائر الأخرى وعلى الإدارة الفاسدة، بحيث يستطيع المستبد أن يستمر في حكمه المتفرد . .

بطبيعة الحال لا يقوم الكواكبي بربط هذه الجوانب الدقيقة من تحليله الاجتماعي المعاصر بالقوى الاجتماعية المختلفة، وبالمسار التاريخي للأمة العربية، فتحليلاته تحليلات موضعية جزئية لا تتسع في تعميمات وتكتشف قوانين، ولهذا يغلب على ملاحظاته التجزؤ والتفتت وغياب الترابطات المختلفة ، فهو هنا  يكشف جذور الاستبداد الإقطاعي في المنطقة، لكن لا يربطه بما  فحصه سابقاً عن المذاهب الأوربية، أو عن التاريخ العربي، فتتحول ملاحظاته الدقيقة إلى وعي جزئي بالتطور العام . .

 المستبد هنا يتحول إلى فرد وليس إلى بناء سياسي واقتصادي وثقافي تاريخي، ولهذا تغيب الهياكل الاقتصادية والاجتماعية العامة التي أسست الاستبداد وأعطت الأفراد والفئات إمكانيات توظيفها للتفرد بالحكم. 

 استطاع الكواكبي أن يجمع بين نقد الماضي والحاضر الإقطاعي الديني العربي الإسلامي ونقد الرأسمالية الغربية الحديثة، وأن يقترب من جذور التطور في كلا المنظومتين، لكن هذا الدرس لم يرتبط برؤية التشكيلات التاريخية ومسارها، وبالتالي أن يحلل واقع العرب الراهن بينها ومسار تطورهم، ومن هنا فتظل ملاحظاته الهامة في طور القراءة الاجتماعية لم تتطور إلى أفق فلسفي. 

الدين بين المطلق والنسبي

أفــــــــــــق

في مجراه التاريخي الطويل يتوحدُ الدينُ بين المطلق والنسبي، يتضافرُ ما هو أبدي فيه بالمتحول والعابر.

المطلقُ أهم وأكبر وباقٍ دائماً، فالإنسانُ الضعيفُ الهامشي في الكون، ذو الجذور الحيوانية والذي يتكونُ جسمهُ من موادِ الكون المتغيرة، يتوحدُ بالأبدي، يتمسكُ بخشبِ السفينة المبحرة في رحلةِ الوجود الصعبة، يتوحدُ بها ويكونُ جزءً من خلودِها، ويكونُ في عالم المطلق، عالم الأبدية، حتى لا يزول.

وتغدو هذه الصعوبة المخيفة لدى الكادحين بدرجة أساسية، هم صناعُ العالم المادي الاجتماعي، ومع هذا هم المغيَّبون، المنفيون فيه، والذين لا يتمتعون في داخله الجهنمي.

تظهرُ العوالمُ الدينية الكبرى حين يتغرب الكادحون. هم صناعُ العالم المادي، خالقو الطين والمدن وأبراج بابل، وفي البدءِ تظهرُ أديانُ الوثنية، حين يقوم رؤوساء القبائل بالتحكم في ثمارها، ويسيطرون على منتجاتها، ويقيمون الممالك والأمبراطوريات.

الوثن، والروح المقدسة، والإله القبلي، كلها قوى تجري داخل القبيلة، لتوحدها وتعالج الأفراد من الأمراض  وتتبصر مستقبلها. هي ضمانتها في السلامة والصحة والبقاء والأنتصار على الأعداء، وحماية أفرادها في عالم الموت.

كلُ هذه الكائنات الطيفية تحركُ القبائلَ والشعوب لتتقدم ولتتاجر ولتبني مجد الأسياد، لصنع عوالم الرفاه لهم، وتعجز عن تشكيل الرفاه للعاملين، بل تقودهم للحروب، تجعلُ وجودَهم الأرضي أسىً وضياعاً وعذاباً، ولهم بعض الملذات الصغيرة العابرة، وإعادة إنتاجِ العذاب والإستغلال في ذريتهم.

ينفصل عالم الأرواح والألوهة الروحية والوثنية الفكرية لتغدو رموز القبائل والشعوب، ومستقر تاريخها وثقافتها، وتغدو هي السلطات السياسية والفكرية المسيطرة على العاملين الذين يتخصصون في المهن اليدوية.

ولكلِ أمة تاريخها في هذا السياق، والتفاصيلُ مهمة في سياقِ بعض القرون، لكنها تفقد أهميتها مع التوحدِ العام للشعوب، عالمُ السماءِ الغيبي يتقارب، يتجوهرُ في المطلقات الكبرى، يغدو آلهة كبرى متحكمة في المصير البشري، أو أرواحاً أو مجردات، وعالم الأرض والبشر يتقارب، لكنه لا يتحد ويذوب في بعضه، فالمصالحُ على الأرض تتضاربُ باستمرار مولدة حركات في الغيب وتعدديات في المذاهب والتفسيرات لها ونزاعات لا تتوقف.

الإنسان الباقي رافع أعمدة الأشياء فوق كاهله المتعب، تفرُ منه كائنات الأرض: الذهب والفضة والآلهة، وتكون بيد الأقوياء، فيصير كل شيء غريباً عنه، يستعبده تارة، ويقدم له الذبائح والصلوات والطقوس تارة، ويدافع عنه تارة، ويكون علمه في عالم الصراع من أجله، وحاميه في الملمات والأمراض، يجد فيه الأنتماء الذي فقده من أشياء المجتمع؛ النقود والقيود والسلطات.

هو كونُ الأنتماءِ الذي صنعهُ لنفسه، كهفهُ النيرُ الذي يلوذ به في  الملمات والكوارث، هو روابطهُ الاجتماعية التي يشعرُ فيها بأخوةِ البشر من حوله، وفي رعبِ المدن الاستعمارية والاغترابية والشيئية التي تسحقهُ وتحيله إلى برغي في آلاتها، وفقاعة في سمائها، وحشيشة في دخانها، يزدادُ اقترابهُ من الرموز، وكلما تبخرَّ الوطنُ الفعلي تعملقَّ الوطنُ الوهمي.

على ضخامةِ الرموز التي تقذفها في وجهه؛ أبطالُ الصورِ السينمائية وزعماءُ العالم الكبار المتنفذون الذين بيدهم الحياة والموت، المتلاعبون بمصيرهِ ورزقه، يجدُ في رموزَ الأديان كهفـَهُ الباقي على الزمن، في عالمِ التغيرِ المتبخر: الحكومات التي تقومُ وتسقط في فضائح مدوية، ساحبة ثمار العمل إلى المجهول، يجد حكومته الحبيبية التي لا تتبدل، يجدُ رموزَهُ تعطيه العزاء. الأرضُ لا تصنع رموزاً منتجة للخير أبداً وعلى نحو دائم، فيبقى الماضي والأساطير والذكريات العظيمة للرموز في قتالهم من أجل الخير المستمر، وتتحول حيناً لسيول من الدماء، وتتحول حيناً آخر لبنوك إستنزافية أخرى، وأحياناً لحكمة نضالية.

لا يمكن لأي شعب أن يكون بلا دين ذي قوى غيبية مهيمنة، لكون الإنسان هو نسبي، وكلما كبرت قوتهُ الأرضية وصار إنساناً، صغرت أحجام غيبياته.

كلما فرح وأزدهرت حياته بالغني الفني والاقتصادي قل اهتمامه بالأرواح والشياطين، والعكس صحيح، تتوحد عوالم الأديان مع توحد عالم الأرض الواسع، تزول الاختلافات الصغيرة والقصص الغائصة في تقاليد محلية تفقد خصوصياتها يوماً بعد يوم، وتتفجر الاختلافات مع الصراعات بين الأمم، فتزداد أحياناً أخرى تمسكاً بالخصوصية والتفرد، وتعلي ميراثها علواً رهيباً.

رحلة الإنسان لا تتوقف، السحرية تظل ملاصقة له، العلوم تظل جانبية في مسيرته، إنسان الأغلبية البشرية، إنسان العالم الثالث خاصة، والعوالم الثالثة في المجتمعات المتقدمة، الجنان الآخروية الدينية والشيوعية، على أسس خيالية أو على أسس (علمية)، تظلُ لصيقة به، فدائماً لديه الدائم الباقي الأخضر أبداً، السعيد المطلق، وهو منهوك بالعوز والبطالة والغربة والصراعات والنسبية، غربة الإنتاج المادي تصنع إنتماءَ الإنتاج الروحي، ذا الحلول والحلولية والأبدية، يزداد على الزمن تغييره لواقعه، تغدو مواريثه رحلات كهوف ولوحات صيد للمعاني، وهو يعلو صاعداً لاحتلال الفضاء الواسع.

الدينُ والثقافةُ

بدأتْ العلاقاتُ بين الإسلامِ التوحيدي والدولةِ العربية المركزية البدوية في التفكك.

كان مضمونُ الإسلام التوحيدي الشعبي العالمي وجدَ قبولاً لدى الأمم الأخرى عبرَ سهولةِ إعتناقه وبتكوينه أممية للشعوب الشرقية المستندة على الملكية العامة المدارة شعبياً والتي تعيشُ في المناطق الصحراوية الكبرى، لكن هذه التوحيدية المرتكزةَ على دورِ المال العام  أُخترقتْ من قبل أُسر الأشرافِ الحاكمة وكبار التجار والتي قربتْ الثروةَ العامة من مصالحها وإداراتها.

كان هذا التحولُ الشمولي لا بد أن يؤدي إلى إنقلابٍ في الحياةِ الثقافية والفكرية والعلاقاتِ الاجتماعية والروابط بين الشعوب مستنداً على نواقصٍ إجتماعيةٍ وفكرية وسياسية في البناءِ السابق والذي لم يستطعْ من جعلِ القوى التجارية والشعبية ذات خلافةٍ ديمقراطية.

بدأ ذلك في عزلِ النصوص الدينية والفقهية عن المنطق والفلسفة والتاريخ الاجتماعي التي كانت تنمو عبر الترجمة والتطور الفكري العربي، فقد رُئي أن العلومَ(الدخيلة) كما يتصورونها تُفسدُ الدينَ، وأنه لا بد أن تكونَ المعرفةُ دينيةً محلية خالصة، وأن تكون مصادرَها موثّقةً في الروي، لتغدو هذه المرويات هي كلُ الثقافة العربية الخالصة اللافظة لما عداها.

كان هذا قطعاً لعلاقةِ أدبياتِ الإسلام بالتكون الإنساني، وإنها عصارةٌ لعناصر ديمقراطية نضاليةٍ تكونتْ في بيئاتٍ أُخر عبر نضال الشعوب في المنطقة والعالم، والمرتكزة على السلطةِ المحددة في تلك العناصر الفكرية الاجتماعية، والمعبرة عن مضمون شعبي توحيدي.

لهذا خرجَ اليمينُ الاستغلالي الجديد مُركزاً على الشكل، وعلى الممنوعات في النصوص الدينية، كرفض الفنون التجسيمية والرقص وهي الظاهراتُ الطقوسيةُ السابقة المرتبطة بعبادةِ الأوثان لا لكونها فنون بحدِ ذاتها والمرتبطة بالأشكال التعبيرية.

والتنحيةُ كانت سهلةً تجاه العرب القادمين من البداوة، حيث لا أرثَ فنياً تعبيرياً تجسيدياً عميقاً لديهم، وهم يعتمدون على فنونِ الكلامِ المختلفة، التي لا يمكن منعها. فيما شعوبُ البلدان المفتوحة يرتكز الكثير من تراثها على الفنون التجسيدية المختلفة. وهي ظاهراتٌ إستمرت وأغتنتْ لديهم عبر تطور الآداب والفنون المتشابكة مع تراثِها الديني والتاريخي ثم تشابكتْ مع المذاهب الإسلاميةِ التي إنشقتْ عن المركز وصعّدتْ هذه الفنونَ والأساطيرَ في تراثِها المذهبي الإسلامي، ولهذا فإن الانعزالَ عن الفنون تكرّسَ في المذهبيةِ الإسلامية النصوصية خاصةً المتطرفة منها.

وهذا ما حدثَ في الوعي الفكري بأشكالٍ تناسبُ أدواته وتحولاته، فالمنطقُ والفلسفة وعلم التاريخ وغيرها من العلوم الجديدة واصلت الحضورَ والتأثير، ولم تستطع التوجهاتُ الفِرقية الفكرية غير المرتبطة بالجمهور وكفاحه أن تواصل زرعَ الأشكالَ والأدوات الفكرية المستفادة من التراث الأغريقي بشكلٍ نقدي متطور، فقد عاشتْ على مساعدات الخلفاء والأمراء، فراحت تُنحي العناصرَ الديمقراطية المرتبطة بالكفاح الشعبي.

وهذا يتماثلُ مع رجالِ الفقهِ التاليين للمؤسسين الموجهين المذاهبَ نحو خدمةِ السلطاتِ المختلفة، فعُزلَ الفقهُ عن الناس، وتوجه للجوانب الصغيرة والعبادية والمعملاتية المعزولة عن المشكلات الاجتماعية والسياسية العميقة.

فتجمعتْ في تلك الثقافة الرسمية ونُقلت بعد ذلك إلى العصر الحديث، عناصرُ رفض الفنون والآداب الحياتية والأدوات الفلسفية الحرة.

لقد كانت تمثلُ جانباً صغيراً من الثقافة في عصر النهضتين العربيتين العباسية والحديثة، لكنها توسعت بعد ذلك بخلاف تطور العصر الحديث خاصة، بسبب أن الهياكلَ الاجتماعية والسياسية العربية التي ظهرت فيها لم تتغير، وأن التغييرات قاربت بعض الجوانب والسطوح في أغلب الأحيان. فالثوراتُ العربيةُ كانت فوقيةً مظهرية عسكرية ولم تكن تحولات عميقة في علاقات النساء بالرجال، وعلاقات الحرية بين الحكام والمحكومين، في حين تربض الأريافُ في العصور القديمة.

ولهذا فإنه حتى الفنون والآداب والفلسفة المصنوعة أو المجلوبة من الخارج تسايرُ الموروثَ من الأبنية العتيقة، وما يَخترقُ الموروثَ ويحوله يُنحى، ويُضافُ العصري الرديء على القديم الرديء، إلا ما يقاوم.

 من هنا يبدو الارتدادُ طبيعياً، والعودةُ للوراء الكارثية جزءٌ من أبنيةٍ لم تُعالجْ ديمقراطياً، وهي في تراجعِها تهدمُ علاقاتٍ داخل الشعوب العربية والإسلامية وعناصرَ من العقلانية التي ضُحي من أجلها طويلاً، بسبب أن الأممَ العربية والإسلامية يَطرح عليها التاريخُ لأول مرة بعد قرون أن تصنعَ نفسَها بنفسها، وهي غدتْ حرةً، لكنها مستعبدة لعلاقاتٍ وأبنية وسلطات وعناصر ثقافية عتيقة فيها، ولم تكتمل أدواتُها بعد لتغييرها. وأدواتُها هي الشعوب وتوحدها وتنامي إراداتها الديمقراطية وعقلانيتها.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الدينُ والثقافةُ

 

الدين والسياسة

الدين هو سياسة عليا مقدسة، فرموزه تعبر عن وجود سياسة مطلقة لشعب من الشعوب تتجسد عبر تلك الرموز.

ونظراً لأن السياسة دنيوية، ملوثة غالباً بالمؤامرات وسفك الدماء فقد ظهرت عبر التاريخ سياسة مقدسة، تحاول جعل البشر يحولون قضاياهم وصراعاتهم ووحدتهم عبر ما هو مقدس من أجل أخلاقيتها وطهرها لكن ذلك كان عسيراً، وكما تحدث الانشقاقات والخلافات بين السياسيين والدول  تتفجر الخلافات في الأديان وتظهر المذاهب والانشقاقات الفكرية المختلفة.

ولهذا حين كات اليونان مليئة بالمدن الحاكمة كانت ثمة شبكة من الآلهة الحاكمة.

وفي عصر النهضة التحديثية الديمقراطية الغربية كانت الدول ما تزال إقطاعية دينية، وصعدت أنجلترا وهولندا في سلم التطور قبل غيرها، فأنحازتا للمذهب البروتستنتي، فكان ذلك تغييراً سياسياً، وتعبيراً عن رفضهما لهيمنة كنسية روما العالمية، وتفكيكاً للكاثوليكية وذلك عبر رفض رموزها العبادية كالاعتراف والرهبنة وتصعيداً للعلاقات الرأسمالية المفككة للمحافظة الاجتماعية.

ولهذا فإن الاشتراكية التي ظهرت خاصة في فرنسا وألمانيا اللتين تعيشان في مجتمعات كاثوليكية غالبة وبروتستيتة غير مهيمنة، ترددتْ بين الإلحاد وبين الموقف الديمقراطي.

كان الدينُ يلعب دوراً سياسياً مباشرا متدخلاً، مؤثراً على تصعيد الديمقراطية في كل من المجتمعين، حيث ما تزال الشمولية وتدخلات الدين تعرقلان صعود القوى السياسية الجديدة من برجوازية وعمال.

كانت الحكومات الفرنسية علمانية في فترة، وبعد ثورات العمال وجدت أهمية كبيرة لحكم الكنيسة وتدخلها في السياسة والمناهج التعليمية.

الاضطرابات في التحولات الألمانية والفرنسية بخلاف التدرج الديمقراطي الهادئ في أنجلترا، جعلت الاشتراكيةَ الديمقراطية تتذبذبُ بين هجوم كاسح على الدين وبين الرومانسية تجاهه، كما نلاحظ في رؤية ماركس في(نقد فلسفة الحق عند هيجل).

(إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبيرٌ عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى إحتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما انه روحُ الظروف الاجتماعية التي طُرد منها الروح. انه أفيون الشعب.)، نقد فلسفة الحق عند هيجل.

إنها رؤية مثالية للدين لا تراه كسياسة مقدسة إجتماعية، ذات ظروف بشرية تاريخية طويلة، حيث تؤسس الثورات أدياناً وتجمد الأديان الثورات.

إنها رؤيةٌ تجريدية للدين، وحكمٌ تعميمي عام، تتشكلُ في شبابية ماركس الهيجلي، حيث غابت الدراساتُ التحليلية عن الأديان، ولكن سوف تظل عبارة الدين أفيون الشعب مستنسخةً واسعة الانتشار دون وضعها في سياقها.

لقد تصاعدت الديمقراطية والعلمانية في فرنسا وألمانيا عبر عقود وتم عبرها تحييد المذهبين الدينيين المسيحيين عن الصراع السياسي المباشر، فالاجراءاتُ لخلق دولة ديمقراطية، بدأت من الجمهور العمالي بدرجة خاصة من أجل تغيير ظروفه وتصعيد ممثلين عنه للبرلمانات، وهذا تطلب جبهةً كفاحيةً ديمقراطية بين الاشتراكيين الديمقراطيين والعامة، تركزُ على نقد الظروف الاقتصادية البشعة وإتساع يوم العمل وضحالة الأجور ونقد القوانين اللاديمقراطية وغيرها من الظروف المعيشية الأرضية، فلم يعد نقد السماء في المركز بل توجه النقد للأرض.

ولم تظهر كتابات واسعة عن الأديان لدى رواد الفكر الاشتراكي بعد ذلك، بل كان تحليل الظروف الأرضية هو الأهم مع تصاعد التحولات وإشتراك قوى سكانية كبيرة من مختلف الأديان والمذاهب في التحولات.