
تتويجاً لهذا المحو للجذور الاجتماعية لكلا الظاهرتين : الفلسفة والدين ، عبر أداة منطقية واحدة تتداخل في كلا التكوينين ، يمكن أن يصبح الدين والفلسفة متآخيين ، فيصبح الدين برهانياً مثالياً ، وتغدو الفلسفة دينية عقلية .
ولهذا يقول تعبيره المعروف : [ إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة ] .
تغدو الفلسفة والدين من أرومة عائلية واحدة ، ويقود التعبير الجنسي السلالي إلى تصور تماثلي ، بدلاً من أن يضع ابن رشد الشكلين من الوعي في نوعيهما المتميزين وتاريخيهما المختلفين ، لأنه حولهما إلى شكل منطقي واحد مجرد خارج السيرورة التاريخية والدلالة الاجتماعية .
فالدين الذي هو استخدام للصور التاريخية والواقعية والأسطورية والمعبر عن لحظة تطور طفولية للوعي في زمن القبلية غير المفككة سياسياً واجتماعياً ، لا يغدو لديه شكلاً للوعي يخفي التناقضات الاجتماعية ، فيؤسس دولةً يذوب الكل الاجتماعي المتناقض في كيانها ، ومع احتدام التضادات الاجتماعية يصبح هذا الشكل الموحد من الوعي بكل تمثلاته الغيبية واليومية والأسطورية ، مادةً للصراع بين المتصارعين الاجتماعيين ..
ولكون هذا الكل الاجتماعي يعبر من مرحلة الدولة / القبيلة ، أي من مرحلة الوعي الشفاهي الأسطوري، إلى مرحلة الدولة المدينة الإمبراطورية ، وإلى مرحلة الأشكال العليا من الوعي حيث تغدو الفلسفة تتويجاً لهذا التطور الاجتماعي الثقافي الواسع ، فإنه يحتاج إلى عملية تفكيك بين الدين والدولة ، وبين ذلك الشكل من الوعي الغيبي الأسطوري ، وأشكال التفكير العليا التي في ذروتها تقع الفلسفة ، حين تصل إلى رؤية مسار التناقضات الاجتماعية / الفكرية ، وتقوم بتفكيكها وحلها .
أي أنه على صعيد الممارسة الفكرية / السياسية ، فإن الوعي بحاجة إلى اختراق محتوى التطور ذي الشكل الديني ورؤية مضامينه الاجتماعية ، باعتباره ثورة اجتماعية تمت بأدوات فكر غيبي ، وتداخلت مع بــُنى اجتماعية قبلية بدوية .
أي رؤية الثورة الإسلامية التأسيسية وقوانينها ، كثورة للتجار المتوسطين المتحالفين مع العاملين في برنامج نهضوي تاريخي ، يعبر القرآن عن فكره ووقائعه وسجله وكفاحه وتشريعه .
ولكن هنا عبر اعتبار الحكمة أخت الشريعة ، فإن الطبقات الدلالية الغائرة تنتفي ، وتصبح الحكمة والشريعة ذهنيتين مجردتين ، مبعدتين عن جذورهما النضالية ، مُهيمناً على محتواهما في سيرورة سيطرة الطبقات الحاكمة عليهما كمنتوجين ثقافيين يخدمان أغراضهما في شكل اجتماعي ضيق .
فعملية إعادة النظر في الموروث الأسطوري وفصله عن المضمون الكفاحي ، والرؤية الاجتماعية التاريخية للفلسفة والدين ، كلها تنتفي عبر تحول الفلسفة الرشدية إلى منهج برهاني مجرد .
تصبح الفلسفة متدينة ارتدت عباءة الأساطير ، ويصبح الدين أداة سيطرة للطبقة الإقطاعية على المدينة التي لا تتحدث .
أي أن السلطات الغيبية من إله وملائكة وجنة ونار ، التي تعبر عن سلطة كلية أخلاقية ميتافيزيقية ، يعبر تنوعها عن مشاريع سياسية متعددة على الأرض المشرقية ، لا يستطيع المنهج البرهاني المنطقي المجرد من أدوات التحليل التاريخية والاجتماعية أن يتغلغل إلى أغلفتها الكثيفة .
فيحاول أن يعقلن بعض منتوجاتها ، نظراً لأن الفلسفة صارت دينية ، أي صارت جزءً من هذا الوعي الديني ، وصارت نتاجاً لتبعية فئات وسطى للإقطاع السياسي الحاكم ، وليس للإقطاع المذهبي الحاكم في المستوى الفكري والاجتماعي .
ولكن لكي تغدو الفلسفة البرهانية الدينية هي المنتوج الثقافي السائد فإنها لا تستطيع أن تقوم بذلك عبر أدواتها ، عبر تبعيتها للإقطاع السياسي ، فلا بد أن تفكك هذه التبعية ، ولا يحدث ذلك إلا في شروط تاريخية ومعرفية مختلفة ، أي أن تكون فلسفة لا دينية ، بمعنى أن تكون قادرة على التغلغل الاجتماعي والتاريخي في دلالات الثورة المحمدية ، وتغدو كفاحاً للفئات الوسطى في ظروف عصرها الجديدة .
وهي حتى في مستواها ذاك الفكري المجرد وغير الداخل في كشف المضامين المتوارية للنص الديني ، وبدون العلاقة مع الجمهور الفاعل ، أساس الحراك الاجتماعي ، لا بد أن تصطدم مع الإقطاع في مستواه الفقهي الديني ، وهو الحارس على إنتاج النص في ظل شروط التبعية المطلقة للإقطاع .
ــــــــــــــــــــــــــــ
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية الجزء الثالث
الموضوع كاملا على الرابط أدناه :
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1747140592122577&id=100004799598166
