أرشيف الأوسمة: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البنية والوعي

البنية والوعي

اختلف مع العديد من المفكرين حول رؤيتهم لمسار المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة، ولاسيما مع المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في مفهومه عن [أسلوب الإنتاج الكولونيالي]، الذي أراد أن يجعله توصيفاً لمجتمعات العالم الثالث التي منها مجتمعاتنا.

وقد استفاد مهدي عامل من تطورات الفكر الماركسي في فرنسا، وخاصة تطورات البنيوية الوظيفية على يد غولدمان وآلتوسير، اللذين ركزا على مفهوم [البنية]، باعتبار كل مجتمع بنية خاصة لها قوانين تشكلها، غير المنفصلة عن قوانين تطور التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تضم مجموعة من المجتمعات، والبنية ذات مستويات ثلاثة: اقتصادية وأيديولوجية وسياسية، وهي مستويات متداخلة، كل منها له أهميته التكوينية في مسار البنية، وبهذا ينتهي ذلك الفصل التعسفي بين الاقتصادي والفكري والسياسي.

وقد طبق مهدي عامل هذا المفهوم على مجتمعات العالم الثالث، رافضاً إنها مجتمعات إقطاعية أو رأسمالية، أو فقط مجتمعات تابعة، مقترحاً أسلوباً جديداً للإنتاج هو الأسلوب الكولونيالي، فهي مجتمعات تابعة، غير قادرة على إنتاج بورجوازية وطنية قادرة على تشكيل مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.

وبطبيعة الحال هذه المقولة تكمل الوعي اللينيني باستباق قيادة البرجوازية وقيام العمال بتشكيل هذه الثورة.ويواصل مهدي عامل ذلك قائلاً بأنها تابعة للرأسمالية الأقوى، وبالتالي لا يمكن أن تقوم بعملية القطع في بنية التبعية.

وفي رأيي فإن مهدي عامل لم ينطلق من درس تطور المجتمعات العربية الإسلامية، أي ما هي أساليب الإنتاج في دول المشرق الذي صار عربياً، وكيف ظهر الإسلام وفي أي بنية وما هي تطورات هذه البنية.

إذا أخذنا مثالاً بسيطاً على مفهوم البنية، فنقول عن سلطة الاحتلال الإنكليزية في الدول العربية في بدايات القرن العشرين، هل كانت سلطة رأسمالية أم إقطاعية؟

إن قانون البنية هنا يقول بأن البنية الاجتماعية لها قوانينها الداخلية، وهي التي تستقبل المؤثرات الخارجية وتعيد تشكيلها داخلياً، فنحن قد نأخذ أداة غربية متقدمة ولكن شروط وجودها في بنيتنا الوطنية تعيد تشكيلها حسب قوانينها، فالتلفزيون المنتج يغدو عندنا أداة ترفيه، وكذلك فإن قائد الاحتلال البريطاني الذي يسجن من يقوم بتعدد الزوجات في إنكلترا حين تدوس أقدامه أرضاً عربية يقبل بهذا التعدد.

وكذلك فإن كافة المنتجات الثقافية والاقتصادية تخضع لإعادة التشكيل داخل البنية، فيغدو المستعمر البريطاني رئيساً لسلطة إقطاعية.وتغدو عمليات التحديث الرأسمالي المحدودة غالباً في بنية إقطاعية مهيمنة.لكن هذا الإقطاع عرف سيرورة خاصة تمثل تطور المجتمعات العربية الإسلامية، التي تغدو فيها المذهبية شكلاً دينياً محافظاً للصراع الاجتماعي.

ولهذا فإن تكون الفئات المتوسطة في مجتمعاتنا هو تكون تابع أولاً للإقطاع، فتبعيتها للإقطاع هو الذي يجعلها تابعةً للإمبريالية.إن عدم تجذر الخطاب الفكري والسياسي للفئات المتوسطة، يعود لهذه التبعية المركبة.

لو أخذنا المجتمع اللبناني كمثال لقرأناه بوصفه مجتمعاً إقطاعياً مذهبياً نموذجياً.فكافة الشرائح التي تبدو قوى برجوازية هي قوى لإقطاعية مذهبية ودينية مختلفة.الحزب الاشتراكي التقدمي هو يافطة للإقطاع الدرزي والمهيمنين فيه، أي أن الشريحة المتوسطة في الطائفة الدرزية لم تستطع أن تغير الإقطاع المهيمن عليها، أي أن تغدو جزءً من طبقة برجوازية قائدة، وهذا يحتاج لشروط اقتصادية، عبر تعاضدها مع الشرائح الوسطى في الطوائف الأخرى، وفكرية عبر إزاحة الوعي الطائفي المهيمن في الفكر السياسي الدرزي وغير الدرزي، وبقراءة نقدية للوعي الدرزي باعتباره إحباطاً للنضال الثوري عند الفلاحين المسلمين في العصر الوسيط وهيمنة للإقطاعيين على إنتاج هذا الوعي والسيطرة على الفلاحين الذي تقسموا وفقدوا قدرتهم على الكفاح الطبقي العام، وهو أمر يُعاد إنتاجه في المجتمع الإقطاعي اللبناني الحديث، عبر مستوى آخر من تطور البنية وتداخلها مع الهيمنة الأجنبية.

ويمكننا أن نأخذ الوعي الفرنسي الملبنن كنموذج يواصل متابعة المسألة على صعيد الوعي، ونرى كيف إن وعي الثورة الفرنسية المستورد إلى لبنان تحول إلى كهنوت، أي أنه لم تستطع أفكار ديدرو وفولتير وجان جاك روسو أن تطيح بسيطرة الكنيسة والملالي على الوعي. فلماذا صار ميخيائيل نعيمة صوفياً؟ ولماذا ترنحت الثورة الرومانتيكية عند جبران خليل جبران؟ ولماذا صار الحزب الشيوعي اللبناني تابعاً لحركة القوى المذهبية عوضاً أن يقود معركة لتشكيل مجتمع حديث لا طائفي؟ أي كيف غدت الماركسية ديناً وعقيدة ؟ أي لماذا لم تستطع الفئات الوسطى والشعبية فيه أن تغدو علمانية؟ أي لماذا ابتعدت أدوات مهدي عامل من الحفر والهدم للمجتمع الإقطاعي اللبناني الطائفي كتشكيلة حقيقية وليس كمجتمع كولونيالي؟

تكمن الإجابات في الحفر المزدوج الماضوي والحديث، عبر دراسات ملموسة في تكوينات المجتمعات وتطوراتها الخاصة، أي تحولها من كيانات داخل الإمبراطورية الإسلامية إلى كيانات وطنية، وكيف تمت التطورات والصراعات القديمة والحديثة، وكيف ومتى حدثت التغيرات في البُنى الإقطاعية في كل بلد بلد، وفي المستويات الثلاثة السابقة الذكر، وهل وصلت هذه التغيرات إلى الخروج من التشكيلة؟

إننا في لحظة تاريخية فكرية كبيرة هي إعادة لصياغة المفاهيم وانقلابها، وتاريخنا كله موضوع للحوار، لأن كتلته الجامدة صارت تعيق أمة كبيرة عن المشي في الكوكب الأرضي.

البُنى والأزمات

حين تتفتق بنية اجتماعية ضيقة وتتداخل مع تحولات مناطقية كبرى يظهر ذلك في سير الشخصيات والجماعات وتحدث تحولات غير مفهومة.

في زمن الامبراطورية الرومانية وفي مدينة القدس بدأ مخاض لتغيير عالمي. يتمظهر ذلك في عجز النجارين عن مواصلة أعمالهم وتحولهم لعاطلين ومشردين. يمكن رؤية سيرة يوسف النجار هنا كمثال.

كانت أحوال الاستغلال متفاقمة والنزيف يتوجه لروما، وأهل المنطقة بحاجة لمقاومة سياسية تحررية ونظام جديد.

اليهودية هي الدين السائد غير الأممي الضيق، وتنشأ المسيحية في هذه الظروف، النشأة متداخلة مع اليهودية التي اعتبرت التكوين الجديد جزء منها، وحاولت تهويد الجماعة الجديدة الطالعة بغموض.

أصرت على عودتها للطقوس والأشكال القديمة فيما هذه تخرج منها.

النجارة حرفة تتداخل فيها هندسة ورياضيات ولكنها لا تصل لمستوى علم حينئذٍ، ويمكن أن ينفك النجار عن مهنته ويدخل في الوعي الديني السائد.

حاصرت اليهوديةُ المسيحيةَ الوليدة طلبت منها البقاء في طقوسها والأختتان وعدم أكل لحم الخنزير وعدم التداخل مع الشعوب الوثنية، لكن الأزمة السياسية الاجتماعية بحاجة لأيديولوجيا أممية، بطرس الرسول قاوم ذلك وركز جهوده على الانفصال عن اليهودية.

نزعتان سائدتان كانتا تتصارعان، نزعة صوفية ميتافيزيقية توجه فهم المشكلات نحو الغيب، فلا حاجة لتحليل ومعرفة قضايا الناس، ويكفي هذه المشاعر الدينية الفياضة الصاخبة ضد الامبراطورية والتي تتحول لمعارك دموية.

ولهذا فإن عمليات الغيب والتغييب تتكاثر، تشد الجمهور للدخول في مواجهات، وتدخل الجمهور الأممي من غير الملل المعروفة في بوتقتها.

النزعة المعرفية المتأثرة بالفلسفة الإغريقية تحاول القيام بقراءة مختلفة، لكنها نزعة مثقفين نخبويين.

المسيحية الوليدة تتمكن من الانشقاق، ينفتح الدين الجديد على الشعوب، تفك قيود عديدة، ويصبح المسيحيون أعداء يُحاربون.

تتغلب الصوفية والميتافيزيقيا على الفهم العقلاني البسيط، تغدو الشخصيات الطالعة في الخضم المضطرب تعبيراً عن اضطراب مشرقي واسع، فالشعوب فقدت قواها الانتاجية، بعد النزيف المستمر لروما وحملاتها العسكرية التي لا تتوقف، والاضطرابات تؤدي إلى انهيار الامبراطورية الرومانية في قسمها الشرقي وتحولها للمسيحية، والتي تغدو أشكالها الرسمية والكنائسية مختلفة عن الزمن النهضوي التحولي الأول.

يستولي الأمراء والإقطاعيين على السلطة ويقننوا المسيحية في مؤتمرات وعقود تاريخية.

الضباب الإيديولوجي أعقبه تغلغل الطبقات العليا في السيطرة على الطبقات السفلى، وتمت إعادة الاستغلال بأشكال دينية جديدة.

فيا بقيت اليهودية دين منحصر في جماعات مغلقة إنفتحت المسيحية على المشرقيين والعالم وغدت ذات توجهين مشرقي وتوجه شمالي غربي راحا يتصارعان كذلك!

البُنى العربيةُ والثورات

تدهورت عقلياتُ العديد من المراقبين لسطوح الأحداث بسبب تكويناتهم السياسية المضطربة والذائبة في الجمهور العفوي والتي لم تتطور عقلياً بسبب تردي الثقافة والإنقطاع عن التحليلات المعَّمقة والدرس.

فهناك التعميماتُ المسطحةُ التي تُقال عن الثورات دون رؤية تنوع البُنى الاجتماعية العربية وكون كل واحدة منها ذات تطور تاريخي مختلف ومشترك مع المنظومة العربية، وترى الأحداثَ من خلال الوعي البسيط للجمهور العامي(المعلم)، الذي إستطاع أن ينقل العالم العربي نقلة تاريخية رغم أسره، ويُنتظر أن يتطور هذا الوعي البسيط لاحقاً بعد عقود من إحتكار الحكم والتوجيه.

إن أهم قضية محورية مركزية هي تحديد قوانين التطور الاجتماعي في كل بنية عربية وأهم هذه القوانين هو قانون الصراع الطبقي الرئيسي، فأما أن يُطرح هذا بشكلٍ إيديولوجي مُسقط من قبل الوعي السياسي على الواقع، وأما أن يُدرس بشكل حقيقي.

لقد قامت الرأسمالياتُ الحكومية الشمولية بأدلجة هذا الصراع، وجعله سابقاً بين الاشتراكية والرأسمالية، وهذا ما نراه في البنية الاجتماعية السورية حيث يُقال أنها بنية مقاومة أو إشتراكية!

لكن التناقضَ الرئيسي في البُنى الاجتماعية العربية هو التناقضُ بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة. وفي كل بلد يكتسب هذا الصراعُ درجةً من درجات التطور المختلفة في البنية، كذلك يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والسياسية والعلاقات بالخارج، فعلاقات الرأسمالية الحكومية بالغرب وبالرأسمالية الغربية ودرجة إستقلالية الجيش والطابع الاجتماعي للسكان كسيطرة الأشكال القَبلية أو الوعي الديني المحافظ أو على العكس توسع الفئات الوسطى المتعلمة ومدى إزدهار الرأسمالية الحاصة وقوى العمال والنقابات، فكل هذا يساهمُ في تطورِ التناقض بإتجاه الحسم الديمقراطي، أو بقائه في العنف الحكومي!

حين يُقال بأن التناقض الرئيسي ليس هو ذاك بل هو التناقض بين العمال والرأسمالية، نكون قد قفزنا عن مستوى البُنى الاجتماعية ودرجات تطور قواها الإنتاجية المتخلفة عربياً، والتي هي بحاجةٍ لتطوير طويل ونكون قد طرحنا أهدافاً تتجاوزُ مستوى الناس والطابع الموضوعي للاقتصاد.

إن التناقضَ الرئيسي في تونس ومصر كان واضحاً بين رأسمالية حكومية في مواجهة رأسمالية خاصة متسعة، أتخذ فيها الجيشان وضعاً محايداً بين القوى الاجتماعية السياسية المتصارعة.

لكن هذا لا يعني إن القطاعات العمالية والفلاحية والحِرفية لا تدخل في التناقض العام، لكن السؤال من هو القطاع القائد والقادر على خلق قفزة في القوى المنتجة والأحوال الاقتصادية لمختلف الطبقات؟

إن هذا التناقض الرئيسي لا يظهر للناس بل ربما حتى للقوى السياسية، فهي تضعُ تصوراتَها وأحلامَها ورغباتها بدلاً من الواقع الموضوعي، كما أن التصورات الإيديولوجية الحادة تعكس رغبات مغامرة في لي التطور خدمةً لهذه القوى.

ومن هنا فبعض القوى اليسارية تبالغ في دفع التناقض لإزاحة الرأسمالية الخاصة وإعادة الرأسمالية الحكومية بشكلٍ موسع وقاهر، فيما تتوجه قوى أخرى لشراء الأملاك الحكومية أو بيع القطاع العام، لكن الانتخابات والصراع السياسي العقلاني لا بد أن يضع مصالح البنى الاجتماعية وتطورها الموضوعي المدروس قبل أن تتوجه كل قوة سياسية لفرض نفوذها.

إن حيادَ الجيشين التونسي والمصري في عملية الصراع قد ساهم في حل سريع وبخسائر محدودة، كذلك فإن جسمي الطبقة الوسطى في كل من البلدين قد طورَ ذلك، فيما أن اليمن لم تستطع إيجادَ طبقةٍ وسطى شبه واضحة وقطاع خاصٍ قوي، فبقيت البنيةُ الاجتماعيةُ قَبلية تائهةَ الملامح، كما أن إنقسامَ الجيش في اليمن وعدم وجود نخبة ديمقراطية موحَّدة من الضباط الكبار أدى لتحول الجيش بيد فريقين هما العائلة الحاكمة وعائلة الأحمر، وكلُ من جهتهِ يسحبُ الجيشَ لصالحهِ وتحدثُ معاركَ وعمليات إستنزاف حادة. إن غياب الحد الأدنى من الوعي النهضوي الوطني المشترك العقلاني في الطبقة الحاكمة اليمنية جعل البلدَ في مهبِ العواصف الفوضوية العاتية. إن هذا يعبرُ عن ميراثٍ لتاريخ  سابقٍ من النزاعات والحروب الأهلية والقَبلية التي غيبتْ تلك الحدودَ الدنيا من الوعي الوطني المسئول.

وإذا كانت سوريا قد صعّدتْ من القطاع الخاص وأوجدت طبقةً وسطى ذات جذور تاريخية حضارية، فإن سيطرة العسكر الحزبي الشمولي العنيف خلال أربعين سنة قد جعلها فُتاتاً سياسياً، وأدى لتحول القطاع العام فريسةً للحكم، وطُحنت الفئات الفلاحية والعمالية والانتاجية الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ولهذا فقد قام الجيشُ المؤدلجُ حامي اللصوص بذبح الشعب.

وهو الأمر الذي جرى نفسه في ليبيا ولكن من قبل عائلة صغيرة ورئيس مهووس، أمكن لتعاون القوى الشعبية والدولية من كسرهما.

إن تشكيل قوى واسعة لأجل قيادة القطاعات العامة للتطور الاجتماعي المخطط والناهض بقوى الإنتاج البشرية والمادية، وبالتعاون الديمقراطي مع القطاعات الخاصة، وتفجير قوى الثقافة والعلوم ومختلف قدرات السكان، هي المهمات التي ينتظر أن تُفعل خلال الحكومات البرلمانية القادمة العربية.

أشكال الوعي في البنية التقليدية العربية

إذا كانت البُنى العربية التقليدية بُنى إقطاع ديني، لكون الدين هو الشكل الوحيد المناسب لظهور وتجلي صراعات هذا التاريخ البشري الخاص، فإن هذا الإقطاع الديني يصير إقطاعاً مذهبياً، أي يقوم فيه العرب المسلمون بالصراع بينهم وبين أنفسهم كقوى ومستويات اجتماعية عبر المذاهب، وبينهم وبين الأديان الأخرى عبر الدين العام.

ولهذا فإن كافة مستويات البنية التقليدية تغدو مُسيسة، فلا توجد حركات دينية غير سياسية، ولا يغدو الدين الشعبي الجماهيري كذلك غير مسيس.

ومن هنا فإن هناك إقطاعاً دينياً سياسياً يهيمن على البنية التقليدية، وهو يشكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، ومن هنا كذلك فلا توجد مدينة عربية إسلامية حرة، أي ديمقراطية وحداثية، لأنها كلها خاضعة للإقطاع السياسي المتحكم عبر التاريخ، وهنا الفارق بين مدننا وبين المدينة الغربية البرجوازية التي نمت كمدينة حرة،  فهذه الأخيرة قد نشأت في عملية تاريخية لتغيير سلطة الإقطاع الديني والسياسي، أي لتحويل مجمل البنية التقليدية، عبر الفصل بين الدين والدولة، وجعل المدينة حرة من سلطة دينية سياسية مُسبّقة.

والأمر ليس تحرير المجتمع من الدين، ولكن تحرير الدين من الدكتاتورية السياسية. وتحرير السياسة من الدكتاتورية الدينية.

ولهذا فإن علينا أن لا نرى فترات ازدهار المدن العربية الإسلامية بالتجارة وببعض الحرية الفكرية والسياسية باعتبارها انقطاعاً عن الهيمنة الإقطاعية المستبدة، أو تحولاً نوعياً فيها وانتقالاً إلى كونها مدناً حرة، كما يوهمنا الكتاب السطحيون، حين يتحدثون عن فترات النهضة في الدولة العباسية أو في العصر الحديث، بل الأمر لا يعدو أن يكون وفرة مالية لدى الإقطاع السياسي تتيح له تحريك الحياة الثقافية والفكرية باتجاه مصالحه.

  إن الإقطاع السياسي المهيمن على أجهزة الدولة العليا يتيح للإقطاع الديني الهيمنة على المستويات الاجتماعية، خاصة على وضع القبيلة / الأسرة ومورثاتها الذكورية والثـقافة الجماهيرية، وغالباً ما يحدث الصراع بين الإقطاع السياسي الحاكم والإقطاع الاجتماعي، وكلاهما يحكمان مستويات البنية المتعددة، حين تنضب موارد الدولة أو تضيع في قنوات وشرايين الدول الفاسدة.

ولهذا فحين يستولي المأمون على السلطة من أخيه الأمين، أو حين يستولي الضباط الأحرار على الحكم في مصر، فإن البنية الإقطاعية / المذهبية لا تتغير، والمدينة الحرة لا تنشأ، فدور الدولة المركزي وهيمنتها على الأملاك العامة، وسلطتها المكرسة غيباً لا تتبدل.

وحين يقاوم الإقطاعُ الديني المأمونَ بسبب عمليات تحديثه فذلك لأن يصرف المال العام على بطانته، المجلوبة أغلبها من فارس، ولهذا فإن الإقطاع الديني المتحكم في البنية الاجتماعية وأغلبه عرب وجدوا أنفسهم بمنأى عن السلطة السياسية والمال العام، يصارع هذا التحكم ويتخذ من قضية خلق القرآن مظهراً للصراع على غنائم الحكم.وحين يقوم الواثق بانقلابه فإن شيئاً من الاستغلال والفساد لم يتغير، غير أنه قرب رجالات الإقطاع الديني وأجزل لهم العطاء.ولأن بطانة الإقطاع فارسية، إمامية، زيدية، اعتزالية، تزدهر لدى عامة بغداد المذاهب السنية.

ولهذا أيضاً حين يقوم الضباط الأحرار بانقلابهم ويحدثون إصلاحات مهمة فإنهم لا يخلقون مدينة حرة، لأن هيمنتهم على المال العام تتصاعد ويغدو جهاز الدولة تابعاً لفئة صغيرة تتحكم في كيفية توزيع الثروة، ونظراً لدور قيادتها الوطنية المناضلة فإن مشروعات شعبية كثيرة تتحقق، ووصول جانب من المال العام للشعب، لم يكن يعني أن يكون هذا المال تحت إدارته، فقنوات الدولة المهيمنة هي التي تظل تتحكم فيه، وبالتدريج ينتقل إلى جيوبها.

إن البنية الإقطاعية الدينية لم تتغير، وكان توغل الدولة وهيمنتها داخل المستويات الاجتماعية واتجاهها لدمقرطة وتحديث الأسرة، باعثاً لاصطدامها مع الإقطاع الديني المهيمن في هذه المستويات.

إن الشعب لا يستطيع أن يكون حراً مع دولة دكتاتورية، حتى لو فرشت الأرض ذهباً تحت أقدامه.

إن كافة العناصر الفكرية التي تولدت داخل البنية العربية التقليدية أو التي جاءت من خلال التأثيرات الأجنبية عبر اليونان أو الهند أو الفرس في القرون السابقة، أو الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب الرأسمالي أو الشرق ( الاشتراكي )، كلها خضعت لقوانين هذه البنية الإقطاعية، التي نحت عناصر وأبقت عناصر، تبعاً لوظيفيتها الخاصة.

بل وحتى الثورة المحمدية التي كانت سابقة قبل تشكل هذه البنية التقليدية تم إبعاد عناصر منها جوهرية، رغم إن تلك الثورة هي التي تمثـل مشروعية هذه البنية التقليدية حسب وعي هذه البنية نفسها .

 إن قوانين الثورة المحمدية الثلاثة تم تجاهلها، وهي التحالف بين التجار المتوسطين والعاملين، وربط تطور الثورة بتقدم الجمهور المادي والمعيشي والثقافي، ووجود برنامج نهضوي تحولي ل ( لأمة ).

والفارق بين لحظة الثورة المحمدية ووجود مدينة حرة في الجزيرة العربية، وبين زمن البنية التقليدية، هو فارق التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، حيث أن العرب الرعاة الأحرار لم يهيمن عليهم نظام استغلالي سواء عبودياً كان أم إقطاعياً، ولكنهم حين انتقلوا إلى الشمال العربي، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية كبيرة، دخلوا في المنظومة الإقطاعية، متجاوزين العبودية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، لكن ظلت العبودية تتجرر أذيالها الثقيلة.

وحينئذٍ، أي في زمن الإقطاع، فإن كافة الأفكار الُمصنعة محلياً أم المستوردة مناطقياً وعالمياً، خضعت لقوانين البنية وتطورها.

إن كافة التيارات المعارضة والدول لم تستطع إعادة إنتاج الثورة المحمدية في الظروف الجديدة. فالأعمال البطولية للأئمة والمغامرات الفردية ثم الانتفاضات عجزت عن الوصول لمفاتيح تلك الثورة، فالقدريون والمعتزلة لم يفهموا أهمية التحالف بين التجار والعامة، ولم يعرفوا كيف يربطون بين ثورتهم النخبوية وجمهور الفلاحين عبر تغيير طابع ملكية الأرض أو الخراج ، وحتى عندما أخذ العوامُ دوراً كبيراً في أعمال القرامطة والزنج فإنهم كانوا عواماً لصوصاً ولم يطرحوا برنامجاً لإزالة اللصوصية من هيمنة الدولة الإقطاعية.

ونستطيع أن نعرف لماذا انتصر معاوية بن أبي سفيان سياسياً على جيش الدولة الشعبية لأن هذا الجيش لم يربط انتصاراته بتوزيع الغنائم والمكاسب على الجنود والجمهور، في حين كان معسكر معاوية يغدق العطايا عليهم. وكذلك لم يكن لجيش  السلطة الشعبية برنامج تحولي جديد، وبهذا تخلى جيش السلطة الشعبية عن قوانين الثورة المحمدية وبالتالي هُزم.

ولهذا حين كان الخلفاء ( المتنورون ) يطرحون سياسة  ثقافية جديدة نهضوية لم تكن تنجح هذه السياسة، بسبب أنها تقوم على استغلال بشع للجمهور المنتج، فإذا كان هذا الجمهور أمياً، وخرافياً في وعيه، فإنه سيتأثر بالسياط والدجل أكثر منه بالقراطيس ذات الثمن الغالي التي ينسخها النساخ بصعوبة وتنتشر بين نخبة محدودة،  فالتنوير لا بد أن يترابط وتحرر الجمهور من الأمية والفقر الشديد، وكيف يتحرر من ذلك دون تغيير جوهري في شروط الإنتاج ؟

ولهذا فإن تقارب الدينان المسيحية الشرقية والإسلام، وتقارب المذاهب المهيمنة سياسياً، وغربة الفلسفة وضياع المتصوفين، لا يعود للعناصر الثورية والديمقراطية الجنينية فيها، بل لقدرة البنية المحافظة على انتزاع تلك العناصر وإخفائها في ركام من الاغتراب والنصوصية الشكلانية، بدلاً من توظيفها في مرحلة جديدة. أي عدم القدرة على ربطها بنضال الجمهور  وتقدمه.

إن بقاء نموذج الثورة المحمدية ملهماً للعرب والمسلمين يعود لقدرتها على نقلهم من تشكيلة إلى أخرى، واتساع التحالف الاجتماعي المتحقق بين التجار النهضويين والكادحين، وطرح برنامج تحولي لأغلبية القطاعات.

 وفي العصر الحديث قامت الليبرالية المستوردة من الغرب ببعض الجوانب التطورية في هذا الجانب،حيث رأينا تحالف الفئات الوسطى والعاملين، وتم طرح برنامج نهضوي لكن الليبرالية عجزت عن هدم البنية الإقطاعية، ورأت في الإقطاع الديني بأنه هو الإسلام، فعجزت عن رؤية جذوره في الثورة المحمدية، أي عجزت عن رؤية جذورها كليبرالية في المرحلة الثورية الإسلامية التأسيسية.

وهذا يعود لغربتها الغربية، أي بسبب نقلها الميكانيكي لأدوات معرفية وسياسية مستوردة، فهي لا تنقل مناهج بل أشكالاً فوقية غير متجذرة في الأرض، أي تستورد أشكالاً برلمانية وأشكالاً حزبية الخ.. لكن هذه في وجودها غير المنقول ،ليست أشكالاً، هذه بنية متكاملة، فالأمر ليس في نقل قلب سليم إلى جسم مريض، بل في تغيير الجسم كله.

وطبيعة النقل الشكلية لدى الفئات المتوسطة يعود لطبيعتها الاقتصادية / الاجتماعية. أي على كونها فئات تجارية ، زراعية، عقارية وإلى صناعية بدرجة أساسية. وهي من هنا تقوم بتشكيل فلسفة انتقائية، نفعية، وليس فلسفة تحولية جذرية.

إن الوعي الليبرالي وأشكاله الفكرية المتعددة، من فلسفة سياسية وأدب وفن وعلوم، عجزت عن التنوير والتحويل الاجتماعي والثقافي للجمهور العربي، وبقيت الهياكل الإقطاعية الدينية متحكمة فيه، مما أدى إلى أزمة هذا الأشكال الفكرية النهضوية.

أي أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية للثورة الديمقراطية لم تتحقق، مثل حرية الفلاحين والنساء والدين. وبقي الإقطاع الديني مهيمناً على الوعي.

إن الفارق بين الثورة المحمدية والثورة الليبرالية العربية الأولى الحديثة، رغم إن الطابع التجاري كان مشتركاً بين تكوينيهما الاجتماعيين القياديين، هو في قدرة الأولى  في الاستناد  إلى الجذور الفكرية للمنطقة، أي قيامها بإعادة إنتاج للفكر ( الوطني التحرري ) المحلي المناطقي، لكن الليبرالية المعاصرة لم تفعل سوى نقل المنتجات الغربية. أو العودة إلى حمى الإقطاع المذهبي، عبر قيام كل فئات وسطى عربية إسلامية، بالارتكاز إلى إرثها المحلي الضيق. فمرة تلجأ إلى سوق مسيطر عليها غرباً، ومرة تلجأ إلى إقطاع مهيمن عليها و(مقطع ) لسوقها الواسعة الُمفترضة.والشكلان لا يقودان إلى تراكم، تحتاجه إعادة تشكيل الهياكل التقليدية المعرقلة لنمو رأسمالي تحولي جذري.

وهكذا يغدو الإقطاع الديني حين يكون مسيحية شرقية، أو مذهبية إسلامية، مصمماً على تقطيع أوصال الأمة، أي أن شبكات المذاهب تعود إلى عرقلة نمو سوق موحدة وطنياً وعربياً، في حين إنها ترتكز على الإسلام، دون أن تعي إنها ترتكز على الإقطاع. أي أنها بعدُ لا تكتشف جذورها المتصلة بالثورة المحمدية.

حين عجزت أشكال الليبرالية العربية الحديثة الأولى عن حل مهام التحديث والتحرر، برزت رأسماليات الدولة العربية المختلفة، وفي الزمن الأول كانت متجهة إلى اليسار وأدبياته، والآن إلى اليمين وأدبياته.

قامت رأسماليات الدولة في المرحلة الأولى ( ناصريون، قوميون ، بعثيون، جبهويون جزائريون، استقلاليون تونسيون الخ..)، على وعي الهيمنة الحكومية، فجعلوا من ماكينة الدولة في كل قطر وسيلة لتشكيل الرأسمال الصناعي المفقود، معضلة العرب الأولى، وقد قادت هذه إلى سلسلة من نظريات التدخل الحكومي في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والفكرية.

لقد أفرزت في المجال الفكري مجموعات من الأفكار المؤيدة للشمولية، وقادت في النهاية إلى هيمنة الأفراد المطلقين، ومن ثم العودة إلى وعي  الإقطاع السياسي / الديني. إن الوحدات الوطنية لم تتشكل، والتصنيع الشامل لم يتحقق وتحول إلى مديونيات كبيرة، وواصلت الثقافة الجماهيرية رحلة الخرافة والأمية وعادت الأشكال القديمة في الإبداع الخ..

لم تستطع رأسمالية الدولة اليسارية أن تـُنجز ما وعدت به، لأن وعيها رفض مجابهة الإقطاع السياسي / الديني، بل أنها ورثت أشغاله الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، فتملكت الموارد وحددت أهداف النصوص الدينية على هواها السياسي.

إن رفضها لتحويل التصنيع الثقيل إلى قوة أساسية في الاقتصاد الوطني، يعود لارتكازها على فئات وسطى استغلالية، هي الفئات البيروقراطية والعسكرية المتنفذة، التي ترفض التضحيات وإعادة تشكيل الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل جذري، مما قاد مع غياب الرقابة الشعبية إلى تدهور القواعد الصناعية التي شكلتها، وإلى بعث حركات الإقطاع المذهبية المختلفة، التي بنت نموها في هذه الأقطار ( اليسارية ) على العداء للحداثة والتقدم، ومرتكزة على الأخطاء والهزائم التي واكبت هذه الأنظمة في بعض معاركها ونظامها.

ولا يمكن أخذ هذه اللوحة بعين الاعتبار دون رؤية صعود رأسماليات الدولة ( (اليمينية) حيث أتاحت الثروة النفطية ومحاصرة وهزيمة رأسماليات الدولة في العالم الشرقي، صعود هذه الأنماط من رأسماليات الدولة اليمينية المكرسة لتقوية العلاقات ما قبل الرأسمالية أي للإقطاع، وكذلك للرأسمالية الغربية.

وخدمة رأسماليات الدولة هذه لهذين الجانبين المتناقضين، حدثت بسبب ضعف الهياكل الاقتصادية في هذه الدول، الصحراوية والريفية، مما قاد إلى كونها سوقاً للبضائع العسكرية، والاقتصادية الأخرى، ورأس مالاً مالياً لخدمة التصنيع الغربي، وأدت إلى ازدهار أشكال رأسمال غير الصناعي، وبالتالي عودة البذخ الأسطوري للخلفاء والنخب اللاهية والفاسدة سياسياً وذوقياً، مما أدى إلى إنهاك القطاعات العامة الحكومية وتحميل الشعوب فاتورة الحروب والفساد والاستغلال .

وقد قاد هذا إلى هيمنة أشكال وعي قديمة كان يبدو للوعي السطحي بأنها انتهت، وكذلك تم اسيراد أشكال الحداثة الغربية الفارغة من المضامين التحويلية. وقد انتصر عربياً نموذج رأسمالية الدولة اليمينية المكرسة لعودة الإقطاع المذهبي، فظهر أمير  المؤمنين في أفغانستان والكثير من أمراء المؤمنين، ليتحول البرنامج الطائفي إلى حقائق دموية.

إنه كلما تخلى الإقطاع الديني عن قوانين الثورة المحمدية كلما أو غل في التطرف ضد الحداثة وتقدم المسلمين، أي حين يزداد شكلانية وتعصباً. فكلما تنامى تخلفاً في مواقعه الصحراوية والريفية كلما أزداد تقوقعاً وعداءً، وحين يتحد أكثر بقوة الإقطاع السياسي الحاكم الذي حصل على موارد وفيرة، فإنه يزداد ضراوة في الدفاع عن امتيازاته واستغلاله للجمهور. بل أيضاً يتطلع إلى الوصول للحكم.

إن الانقطاع عن تقاليد الثورة المحمدية قادت إلى الأحكام الحرفية والنصوصية الجزئية المبتورة عن سياق العصرين، ولهذا فإن مذاهب اللاقياس التي هيمن الإقطاع فيها بقوة، تغدو مثل مذاهب القياس التي لم تنتصر فيها الثورة النهضوية. ومع تنامي قوة الإقطاع الديني فإنه يزحف على كل ظاهرات الوعي والثقافة ليعيد ربطها لأحكام سيطرته.

مهما حدثت من أعمال نهضوية وتنويرية واقتصاد مخطط واقتصاد دولة فإن بنية الإقطاع لم تتبدل.أي حين يعتمد الآن على رأسمالية دولة جديدة وتنوير آخر فإن الأمر لن يغير من أسس البنية. لا يمكن إلا الخروج  عن طريق تأسيس بنية اجتماعية جديدة  أسسها العلمانية والديمقراطية والحرية الاجتماعية كنظام متكامل.

 وقد تغلغلت بُنى النظام التقليدي في الأحزاب الليبرالية و(الاشتراكية) و(الشيوعية)، فرفض بعض هذه الجماعات التحول إلى النظام الحديث، ربطها بأنظمة الإقطاع المختلفة، وطرحها عملية القفز على الرأسمالية كانت دفاعاً عن وشائجها مع البنية التقليدية الطائفية، ولهذا أخذت مفرداتها الديمقراطية تتهاوى، فتصبح الأنظمة الجمهورية ملكية، والديمقراطية المركزية تصبح مركزية، والقادة السياسيون الوطنيون يصبحون أبوات وقادة طوائف، وتغدو القوالب الفكرية المستوردة غير قادرة إلى التحول إلى مناهج بحث تلتحم بالبنى العربية تحليلاً واكتشافاً .ويترنح الشعر الحديث، ويعود الشعر التقليدي وتغدو الأنواع الأدبية والفنية من أدب قصصي أو مسرحي أو فنون تشكيلية نخبوية منعزلة.

البنية الاجتماعية والتراث

يستمر التراث القديم لأن البنية الاجتماعية التي شكلته مستمرة حتى الآن. فالذين يريدون تغييرالتراث، اي جعل الموروث المتجدد والمعاد إنتاجه متغيراً وذا صياغة جديدة، عليهم تغيير البنية الاجتماعية.

لقد ورثنا سلطة متسلطة منذ أقدم العصور، وهي التي تتدخل في كل

شيء في حياة المواطن، ومع هذا فإنها لا تعطي إلا الذي يتبعها، وينساق وراء مشروعاتها، التي تكون نهضة أحياناً لأنها تمتلك بعض النقود التي تصرفها علي مشروعات البناء، والتي تكون أحياناً دماراً بانسياقها وراء الحروب.

لكن هذه السلطة هي التي تقرر صرف الثروات وتحديد الأخلاق والواجبات الخ.. السلطة هي التي تحدد تشكيل الجماعات الاجتماعية، من تجعله باذحاً ومن تجعله فقيراً. من تجعله فوق السحاب ومن تجعله تحت الثرى.

ومن هنا فهي سلطة أبوية، متحدة بالجهازالسياسي المطلق، ذكورية، تستند علي العضلات، لأنها تقوم علي التمتع بفوائض الطبيعة وانتاجها القريب، وليس على أساس تصنيعها.

ولهذا شكلت السلطات المتعاقبة علي مر التاريخ، وهي تقوم بنسخ ذواتها وتكرار أنماطها الأساسية، وعياً دينياً تقليدياً، هو هو في شتى المذاهب والديانات، يقوم علي جعل السلطة المطلقة ورمزها أو رموزها، متدخلة في كل شيء في حياة المواطن، فهو مراقب حتي في بيته، أو تحت فراشه، خاضع للثواب إذا تقرب منها، خاضع للعقاب إذا تمرد عليها، وهناك ناموس للتقرب وللتمرد.

الدول المهيمنة على الأرزاق، مهيمنة علي المقادير والأقدار، تحدد أحجام الحياة والموت، أي متى تكثر المواليد إذا استغلت بكثرة وأرادت أن تخوض حروباً، ومتى تتخلص من المواليد إذا دخلتها فعلاً، أو إذا تقلص بيت المال.

بيتُ المال له حاكمٌ مطلق، لا يُسال كم فيه وكم صرف منه، وكم بقي منه، فهو يهب من يشاء أملاكاً، أو يأخذها منه، أو يحدد أحجام الفئات المستفيدة والمتضررة، فكل شيء مرهون بإرادته..

الآداب والفنون والعلوم والفلسفات تدور حول هذا المركز المطلق، فالمستويات الفكرية والاجتماعية من البنية الاجتماعية، مُشكلة حسب تلك المعانى والدلالات، فهى ليست صدىً مباشراً ولكنها متشربة بعروقها الداخلية، يضخُ لها نفس الدم، فتموت العلوم والآداب إذا غضب وليُ النعم، وتزدهر إذا تكرم وأعطى، فُتقاس عهود النهضة بابتساماته، وكرمه، وتقاس عهود التخلف بغيابه وانتشار البخلاء والضعاف والقساة من الحكام.

والشعب ليس شعباً بل قطيعاً مربوطاً بحظيرة الحكم، يعيش طوال عصوره منتظراً طلوع المخلص، أي حاكماً عادلاً أبدياً مطلقاً من خياله الصافى، ولكن المُكّدر بنفس الطين التراثي، فهذا المنتظر العادل المخلص هو فرد ذكر أيضاً، لأنه فى الثقافة الاستبدادية الذكورية العريقة لا يمكن أن يكون المخلص امرأة، لأن الإنتاج لا يزال بالعضلات، ولهذا فإن الشعب

المربوط عند حظيرة النظام الاجتماعي التاريخي يحلم بفرد آخر، ينجز الانتقال من عصر الظلم إلى عصر العدالة. دون أن يطرأ على الإنتاج تغيرات ما، لأن البنية التقليدية تقوم على اقتصاد زراعي ورعوي وحرفي أو صناعي حكومي، فلا تقوم بتغيير ثوري في العلاقات الاجتماعية، والأبنية الفكرية.

في البنية الاجتماعية العربية الحالية يستمر الحاكم في السيطرة علي موارد الثروة، فيستمر التراث القديم، فرغم غياب الإبل والخيول وتراجع دور الزراعة، إلا ان ولي النعم لا يزال يتعامل بثروة باطن الأرض مثلما تعامل مع ثروة سطح الأرض، فتغير شكل الثروة وليس الإنتاج الذي يتداولها، تبدلت الفواكه والخضراوات، بالماس والفوسفات والزيت.

ومن هنا فإن أشكال الحياة الفكرية والاجتماعية العتيقة تواصل الحياة، ويستمرالموتى في تحديد طرق الحياة لأجيال الأجهزة الكومبيوترية، مثلما عاش قرناؤهم السابقون والعلماء والشعراء تابعين لبيت المال وتتشكل نظرياتهم وقصائدهم في ظلاله.

البنية الاجتماعية القديمة تستمر فتعيد إنتاج حياتها الأولي بتكييف قليل، ولهذا فان تغيير التراث يبدأ من تغيير البنية التي صنعته علي مدى آلاف السنين، وهذه عملية مغايرة وطويلة.

البنية العربية التقليدية تكونها وسيرورتها

على مدى قرن التنوير العربي الأول المتشكل من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى جهود التنوير الراهنة التي تشكل المحاولة العربية الثانية للخروج من الحياة المتخلفة التقليدية، لم يعرف الباحثون والمناضلون ما هو الوضع الأساسي الذي يريدون إخراج الأمم الإسلامية والشعوب العربية منه.

لقد وُضعت مصطلحات محددة عديدة لتحديد البنى الاجتماعية العربية فى الزمن الأخير للوعي العربي النهضوي، حيث إن زمن النهضة الأول لم يبلور مصطلحاً محدداً للماضي الحاضر الذي يريد تجاوزه، وفي هذا اللاتحديد ضباب نظري واجتماعي، يعكس رؤى طلائع الفئات الوسطى العربية حينذاك وهي تتصور إمكانية التطابق البسيط مع الغرب من جهة ومع التراث من جهة أخرى.

أي أن وعي هذه الطلائع كان يأخذ الأفكار التجديدية والنهضوية كتكوينات فكرية واجتماعية خارج التشكيلات الاقتصادية/ الاجتماعية؛ باعتبارها عناصر مستقلة محايدة يمكن استخراجها من الأنظمة الاجتماعية المعاصرة أو الماضية، وزرعها في التاريخ العربي الراهن وقتذاك. ولهذا كانت التعبيرات المتداولة في هذا الوعي كقولهم: نأخذ من الغرب ومن التراث ما هو مفيد، أو كعملهم لفكرة الأحياء، فكل تيار يركز على إحياء أو الدعوة والدعاية للفصيل أو للتيارات (القريبة) منه.

ولم تختلف ممارسات طلائع الفئات الوسطى في الزمن (القومي) و(الاشتراكى)، لكن مناطق الاستيراد الفكري والاجتماعي اتجهت إلى مناطق وبلدان أخرى، تشكلت فيها رأسماليات الدولة القومية بأشكال متعددة (تجربة الاتحاد السوفيتي والتجارب الفاشية)، ولهذا فإن هذه الممارسات لم تتجه إلى التوصيف الموضوعي للبُنى الاجتماعية العربية.

ولكن فى هذا الزمن بدأت مفردة البناء التقليدي الماضوي تُطرح بصورة أكبر من الفترة التنويرية الأولى، واقترب مثقفو الفئات الوسطى لليبرالية من توصيف ماهية البناء التقليدي الموروث، لكن اسرار هذه التقليدية لم تحل.

لقد طرح الدكتور شاكر مصطفى مسألة البناء (التقليدي) الذي بدا قريباً من نظام اجتماعي وسياسي متداخل، فهو يحيل المنظومة التقليدية إلى عناصر هي الباقية من سيرورة التراث وهذه العناصر الأساسية الباقية تتجسد فى أربعة جوانب:

أ – طرق الإنتاح المادي ب – تكوين نظام السلطة ج – طبيعة العلاقات الاجتماعية د – قيم الفكر التراثية.

لكن هذه العناصر تبقى عناصر وبقايا لتاريخ، كما أنها غير مترابطة فى تكوين، أي لا تمثل بُنى اجماعية يتم تتجاوزها عبر بُنى مختلفة مغايرة، أي أن المسألة ليست مسألة تشكيلة اقتصادية اجتماعية، فيمكن الانتقال منها إلى البناء الحديث دون عملية قطع بنيوي. أي دون الحاجة إلى ثورة. ونجد استخدام مفردة أو مصطلح (تقليدي) بوفرة في قاموس النهضويين والليبراليين العرب والإسلاميين المتأخرين، لكن هذا المصطلح يُوضع فى إطار مجرد, وبدون قراءة لسيرورته التاريخية والاجتماعية.

ولهذا صار الوعي الطليعى لمثقفي الفئات الوسطى العربية هو المجابهة بين الحديث والتقليدي، وهذا في حد ذاته يعبر عن محاولة هذه القوى وتوحدها فى رفض الكابوس المتزايد لسيطرة البُنى التقليدية.

لكن هذا الصراع احتد في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولم تعد البُنى التقليدية مجرد قراءة للماضي أو محاولة لتأبيده، بل غدت كتلاً بشرية ضخمة تهدر في الشوارع ومعارك دموية وانقلابات؛ وهنا أخذت المصطلحات تضطرب، فمصطلح (تقليدي) لم يعد كافياً لتوصيف مثل هذه الحركات السياسية الماضوية، فظهر تصطلح (الأصولية) المنقول من الصحافة الغربية غير الدقيقة، أي باعتبار هذه الحركات السياسية التقليدية تمثل الأصول الإسلامية، وباعتباره مصطلحاً تبخيسياً، في حين إنه يعتبر مدحاً من وجهة نظر التاريخ الديني.

وقام الوعى اليساري للفئات الوسطى العربية بطرح مصطلحات مختلفة، مثل (حركات الإسلام السياسي)؛ وهو اصطلاح يمكن أن يضم حركات الخوارج والقرامطة وإرهابيي الجزائر، والمتصوفة الذين قاتلوا الصليبين دفاعاً عن الأرض العربية، كما أنه يمثل نظرة قاصرة لمستويات البنية المتداخلة التقليدية حيث الحدود ذائبة بين السياسي والاجتماعي والإيديولوجى!

وتم طرح تسميات أخرى كالحركات الإرهابية الدينية وهذا المصطلح يمكن أن يضم السيخ والهندوس والبوذيين المتطرفين كذلك!

إذن كان عجز الوعي العربي بأشكاله المختلفة عن الوصول إلى توصيف للبناء التقليدي العربى، يتمظهر في اضطراب المصطلحات، وهى العملية التي راحت تغلي مع اشتداد الصراعات السياسية حين عبرت البُنى التقليدية بأنها ليست ماضية فحسب بل حاضرا مهاجما ومسلحا بأقوى الأسلحة.

لقد عبرت آراء الأحزاب الاشتراكية والشيوعية العربية وهي تعكس وعي الفئات الوسطى ذات التوجهات اليسارية، عن اقتراب من البنية التقليدية، عبر توصيفها بـ(الإقطاع)، ولكن الإقطاع لديها هو إقطاع اقتصادي يتمظهر في الملكية الزراعية الكبيرة خاصة، ولم تقم بقراءة الإقطاع كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، ويكمن في هذا التحاقها الثقافي والسياسي بـ(رأسمالية الدولة القومية) الروسية أو الصينية اللتين خرقتا مسألة التشكيلات وتطورها الموضوعي، وبالتالي عجزت عن إنتاج وعي تقدمي عربي، أي أنها قامت باستعارة طرق قومية مختلفة عن ظروفها الحاصة. (راجع تحليلاتنا لمواقف هادي العلوي ومهدي عامل وغيرهما في مقالات سابقة).

وبطبيعة الحال فإن الأمر ليس رفض مصطلحاتٍ مجردة، بل هو رفض يتأسس من تكوينات سياسية اجتماعية شمولية تقليدية، لديها يافطات (تقدمية) غير أن البناء الفكري والاجتماعي شيء مختلف.

ولكن أيضاً حين نقول إن البنية العربية السابقة والراهنة بنية إقطاعية فهذا لا يكفى، أي أنه ينبغي علينا أن نرى السيرورة الخاصة لـ(إقطاعنا).

ولهذا عندما نقوم بتوصيف البنى الإقطاعية العربية، لن ننسى بأنها وريثة الأنظمة العبودية المعممة في المشرق (الرافدية، المصرية، الفينيقية الخ)، وهي نقطة عجز الوعي العربي التقدمي عن حلها، فهو لا يرى جذور هذه البُنى الإقطاعية العربية، في الزمن السابق البعيد كذلك، مثلما يجهل سيرورتها في الماضى القريب والحاضر، لأن تكون البُنى متداخلا ومركبا.

وإذا كانت جذور تكون البُنى الإقطاعية يتشكل مع الإسلام في الجزيرة العربية فهذا سيعطي لهذه البنى مستوى اجتماعياً وثقافياً معيناً، وبدون ظروف الجزيرة العربية الصحراوية المنعزلة عن أنظمة العبودية العامة في المشرق حينذاك، ما كان بإمكان هؤلاء الرعاة النمو والتحشد، وما كان بإمكانهم رفد المشرق العجوز بعلاقات إنتاج جديدة.

ولهذا كان نمو الإسلام مرتكزاً على إرث الرعاة، مع تشذيب المناطق المتطرفة منه؛ وإنهاضه، وفي مناخ التكون الاجتماعي التأسيسي ذاك كانت مسألة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية مفتوحة، بين الماضي المشاعي المنهار، وعبودية خاصة، أي عبودية قائمة على استخدام العبيد الخاص، وليس العبودية الفرعونية القائمة على عبودية شعب باسره، لأن ظروف العرب الرحل رفضت ذلك.

وفي الإسلام الأول حدثت عمليات إقطاع، أي توزيع ملكيات أرض على المقاتلين المسلمين بعد انتصاراتهم على الوثنيين، ولكن هذا الإقطاع ليس هو الإقطاع المقصود لاحقاً، فهو إقطاع خاص، وهو أشبه بتبديل ملكيات خاصة.

ومن هنا تشكل التوزيع الإسلامي الأول للثروة، والذي يمكن أن نسميه التوزيع القرآني للثروة المُصادرة، حسب الآية من سورة الأنفال، ورغم ان الدولة الإسلامية الناشئة هي التي تقوم به، إلا أن الدولة ذاتها لا تملك ملكية عامة. كما أن أكبر أجهزة الدولة وهو الجيش قائم على التطوع، والأجرة ليست سوى الغنيمة التي تُؤخذ بعد الانتصار في المعارك، أما بقية أجهزة الدولة: السجون، والشرطة، المراكز الإقليمية للأجهزة فلم تر النور بعد.

لهذا فإن الدولة لم تتكون إلا بشكل جنيني، وأدت عمليات إعادة توزيع الثروات، وارتفاع مكانة الصحابة الفقراء والقبائل المسلمة المعدمة إلى مخاض اجتماعي مفتوح لعدة احتمالات تاريخية.

ومع عمليات الفتوح والانتقال إلى المناطق الزراعية الشمالية وانهيار الأنظمة العبودية الُمعمّمة، وصعود مكانة القبائل الرعوية العربية، أخذت قوى الأشراف الحجازية في الصعود الاجتماعي والسياسي مجدداً بعد سقوطها كملأ مهيمن فى نهاية المرحلة الوثنية.

ونستطيع أن نعتبر حروب الردة الحادة التي شُنت على القبائل المرتدة، وتدفق خيرات البلدان المغزوة، ونمو آلة دولة الخلافة، خاصة قوى الجيش، وتشكل الاستخبارات التي عملت في هذه المرحلة لمراقبة الولاة، وفيما بعد لمراقبة الناس، إن كل هذا قد جعل أفكار المساواة والكفاح الاجتماعي لدى نفر من الصحابة غير قادرة على التجذر في الحياة الاجتماعية التي انقلبت تمام الانقلاب بعد مرحلة الشظف والفقر السابقة.

بل إن هذا النفر لم يكن قادراً على تشكيل آليات سياسية لمجابهة صعود قوى الأشراف المتسلطة، والتي كانت ذات خبرات كبيرة في معرفة الأمم المجاورة وطرق التعامل معها، وقد كانت متمرسة في أساليب الحياة السياسية والعسكرية المسيطرة، في حين كان ذلك النفر من الصحابة يشكل طرقه (الشعبية) في التعامل مع شعوب البلدان المفتوحة.

وقد تشكلت أغلب المميزات السابقة المذكورة فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، ولكن أهم ما تكون مع ذلك الصعود لقوى الأشراف في الحياة السياسية، هو ظهور الملكية العامة لوسائل الإنتاج تحت الإدارة الإسلامية العربية.

ومن المعروف كيف كانت سمات عدالة التوزيع للثروة المصادرة في عهد عمر بين العرب، وهو أمر بدا له غير متناقض مع تقريبه لمن يسمون بدهاة العرب، وأبناء الأشراف المحنكين، حيث كان يرى الاستفادة منهم فى حكم البلدان المفتوحة، ولكن ذلك ترافق وتشكل مع تكون الملكية العامة للدولة فى القطاع الزراعي، الذي وُضع الأساس للاقطاع.

ان هذه السمات المتضادة، بين عدالة توزيع ثروة للعرب وتشكيل دولة مركزية قوية، كانتا تكملان بعضهما في عهده، أي أن التوزيع على العرب فقط، يفترض مصادرتها من الاقوام الاخرى، وبالتالي كان لا بد من وجود دولة قوية، ولكن وجود الدولة القوية لا بد أن يرتد على العرب أنفسهم فيما بعد. في حين كان ذلك النفر من الصحابة يريد إضعاف الدولة لصالح الناس، وهما نهجان غامضان في هذه المرحلة وسيتبلوران لاحقاً.

إن عمر بن الخطاب وقف طويلاً أمام تشكل القطاع العام الإسلامي في الأرض الزراعية، وتحويل الأراضى الصوافي إلى ملكية عامة للمسلمين، فهذا يخالف التوزيع القرآني للثروة كما بينا سابقا. فالتوزيع القرآني يعتمد على نشر الملكيات الخاصة، ولا يُلحق هذه الأملاك بجهاز الدولة، كما سيفعل عمر فى هذه اللحظة التاريخية الفاصلة والخطيرة، وهذا الأمر يتضح في هذا ألماثور الإسلامى: (روى أبوعبيدة القاسم بن سلام بسنده إلى ابراهيم التيمي وابن الماجشون قال: لما أفتتح المسلمون السواد قالوا لعمر(بن الخطاب): أقسمه بيننا فإنا فتحناه عنوة! فأبى وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف ان قسمته أن تفاسدوا بينكم فى المياه.. ولكنني أحبسه لله وللمسلمين. قال أبوعبيدة: أراه أراد أن تكون فيئاً للمسلمين ما تناسلوا يرثه قرن بعد قرن..).

ان هذه المخاطبة الجماهيرية من المقاتلين لعمر بضرورة توزيع الأرض العامة على المقاتلين، كانت تؤكد وجود تغيير جوهري فى طبيعة العلاقات الاقتصادية من قبل الخليفة، الذي أراد أن تكون الأرض الزراعية (الصوافى) ملكاً عاماً، وليس للمقاتلين فحسب، وهذا ما سيسمى لاحقاً بالفيء الإسلامى.

لقد تكون هنا المستوى الاقتصادي العام للاقطاع، أي تمت استعادة طريقة الدول المشرقية القدمة فى وضع الأملاك الزراعية الكبرى فى يد الدولة، التي هى ملكية خاصة للأسر الأرستقراطية، ولكن عمر أخضع التوزيع لحاجات الجمهور العربي. ومن جهة أخرى حين قرّب أفراد النخبة الحجازية التى كانت تدير الدول بكفاءة، خوفاً من عمر وتحسباً للمسقبل،

فقد تم وضع الأساس لتشكل الإقطاع الاقتصادي العام.

اذن ظهرت أملاكٌ كبرى عامة تخضع للدولة الإسلامية وإدارتها، ولنطالع هنا ما هو مضمروليس ظاهرا فحسب، أي أن الإقطاع الاقتصادي العام الموجه لصالح العرب المسلمين عامة، كان يشكل بداية لنقيضه، وهو الإقطاع الموجه لفائدة الأسر الخاصة. من حيث ان توزيع الفائض الاقتصادي الموضوع في يد الدولة وإدارتها، يظل توزيعاً، وليس إنتاجاً، أي أن الأرض الزراعية والعلاقات الإنتاجية فيها، ستبقى كما كانت سابقاً، من حيث وجود دولة متعالية مستغلة تجبي الخراج أو الفائض لمصلحة أسر عليا، وإذا كان التوزيع يجري الأن فى عهد عمر وعلي بن أبي طالب لاحقاً بشكل عادل للعرب، فهو يتعلق فقط بالفائض وتوزيعه وليس في اعادة تشكيل علاقات الإنتاج.

أي أن عمر لو قام بتوزيع الأرض على المقاتلين وتحولت إلى ملكيات خاصة، فسيكون التغيير قد وصل إلى علاقات الإنتاج، وبالتالي ستبقى الدولة إدارة سياسية وليس ادارة اقتصادية كذلك. أي سوف يتكسر طابعها الشمولي.

ان وضع الأساس الاقتصادي للدولة الإقطاعية الشمولية سيزداد درجة أخرى فى عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث، فالمضمون الاقتصادي العميق للدولة المسيطرة والذي بدأ سابقاً، أخذ يكتسب فى عهد هذا الخليفة مضموناً سياسياً كذلك، فإدارة الدولة انتقلت تدريجياً من إدارة عامة تشاورية، إلى إدارة أسرية، فآل مروان هيمنوا على بيت مال المسلمين، وبنى سفيان أصبحت لديهم أقوى الاقاليم الإسلامية المفتوحة.

لكن عامة العرب المسلمين لم تزل لديها بعدُ قوىً عسكرية وسياسية مؤثرة، وهو أمر تجلى فيما سُمى بـ(الفتنة الكبرى). حيث حاول العامةُ إعادة تشكيل الدولة الإسلامية الوليدة لصاحهم، لكن عوائل الأشراف الحجازيين انتفضت بأشكال مختلفة ضد هذه العملية السياسية والاجتماعية الخطيرة.

ولم تستطع الفئة التجارية الوسطى المتحالفة مع الفقراء الثائرين فى هذه المرحلة ان تستوعب البرنامج النبوي الذي تشكل فى المرحلة التأسيسية الأولى للإسلام، وتطوره، خاصة في مسألة التوزيع القرآني للثروة، وكان عدم الاستيعاب هذا والتردد، كفيلاً بتفكك أولاً جبهة الحكم ثم تفجر حروبها التي سهلت للأرستقراطية الأموية هذه المرة، العودة ثانية للسلطة وقد اكتملت دوائرها.

مع سيطرة الأمويين على مقاليد السلطة السياسية أمكنهم أن يضعوا أيديهم على الثروة الاقتصادية العامة، أي أن الإقطاع العام صار إقطاعاً أسرياً خاصاً . ولم يحدث ذلك دون مقاومة ضارية من عامة المسلمين، الذين صار ينضم إليهم الموالي والذميون، أي شعوب الإمم المحكومه من قبل العرب.

وتعتبر انتفاضات الخوارج والإمام الحسين بن علي والتوابين وأهل الكوفة جزءا من عمليات الاحتجاج الواسعة على تغيير طابع التوزيع للثروة واحتكار السلطة، لكن الطابع الإقطاعي للملكية العامة والسلطه قد ترسخ في هذا العصر.

وأدى رسوخ هذا الطابع في الميدان الاقتصادي والسياسي إلى انتقاله إلى الميدان الاجتماعي والثقافي.

فعبر سيطرة الأشراف على الثروة العامة، وهو ما كان يناقض الأحلام الشعبية بالمساواة، والإرث النبوي والراشدي، أخذ الأمويون يرتكزون على الإرث الرعوي الأرستقراطي وتكريسه, فاحيوا المظاهر القبلية المتعصبة بشكل شديد، وروجوا لشعر العداوات القبلية بين الفروع العربية المختلفة، وخاصة بين المضريين واليمانيين الخ..

كان الارتكاز على الإرث الرعوي وإفراغ الدورة الإسلامية التأسيسية من مضمونها النهضوي يجريان معاً، لتشكيل بنية اجتماعية ثقافية اقطاعية، ومن هنا كان استنادهم على النصوصية الدينية الُمفرغّة من تلك المضامين النهضوية التحولية.

ونظراً لتنامي الثروات لدى هذه القوى الأرستقراطية، من جلب هائل للرقيق والجواري وسرقة واسعة للأمم، فقد تم التركيز في الآلة الدينية المسيطرة على الأشكال، والعبادات، والوحدة الظاهرية المجردة للمؤمنين والإعلاء التعصبي للقبائل، وغُيبت أساسيات الثورة. لكن الوعي الديني المعارض استمر في الوجود وإبراز جوانب مضمونية جوهرية في الإسلام، ووضع بعض الأئمه أساسيات للاحتهاد والقياس لتطوير النصوص الدينية، وابعادها عن السيطرة الإيديولوجية المطلقة للأمويين.

أي أن الوعي الديني راح ينقسم في هذه المرحلة بشكل فرق وأسر متتفذة، إلا أن الوعي المعارض هذا قبل بالأساسيات العامة لنظام الإقطاع المتكون، حيث لم تقم الفرق المعارضة وهي القدرية والمعتزلة والزيدية في هذه الحقبة، حين وصلت إلى السلطة أو إلى التأثير الثوري الواسع، بتفكيك ملكية الدولة العامة ووقف العبودية الخاصة المتنامية باتساع هائل ووضع حد لعبودية النساء التي تنامت مع تدفق الثروات على الرجال العرب وأرستقراطيات الموالي.

فعلى الرغم من المعارضة الواسعة والضارية أحياناً إلا أن الفرق غدت جزءا من تكوين الإقطاع.

ولدينا هنا شكلان من المعارضة وهي معارضة أسر الأشراف وأهمها المعارضة الشيعية، وتنويعاتها والتي هي بداهة مع نظام إقطاعي بديل عن الراهن تكون هي على رأسه، وكذلك الخوارج الذين قادتهم نصوصيتهم الحرفية إلى إقطاع آخر، في المناطق الصحراوية التي خضعت لحكمهم.

وهناك المعارضة التى تشكلت من الفئات الوسطى المدنية التي قامت على القبول بالنظام الإقطاعي وسلطته، نظراً لالتحاقها بخدمته أو تشكلت بفيض تدفق ماله، وهذه هي المعارضة التي ستشكل الأنواع الأدبية والفكرية المتعددة، التي ستعيش في الفضاء السياسي والفكري للنظام الإقطاعي، وستمتد من المطابقة التامة مع النظام الاجتماعي إلى طرح أشكال الإصلاح المحدودة داخله. وسواء كان ذلك من المذاهب السنية القياسية الاجتهادية أو من المذاهب غير الاجتهادية، إلى التيارات الصوفية المضادة للعقل، إلى التيارات الفكرية (العقلية) الخ..

إن كل التشكيلات الفكرية والأدبية هي خاضعة للمدينة التي يحكمها الإقطاع السياسي العربي ثم اللاعربي.

إذا كان الإقطاع قد تمكن من المستوى السياسي للنظام الاجتماعي بعد أن سيطر على البناء الاقتصادي، فلا بد أن نعرف كيف سيطر في المستوى الاجتماعى. لقد قامت حركة العرب التاريخية على نشاط القبائل، والجانب المفيد أن هذه القبائل الحرة قد تمكنت من دك أنظمة العبودية العامة المتكلسة القديمة، إلا أن الجانب السلبي أنها نقلت تراثها الرعوي الاجتماعى والثقافى وقامت بجعله مطلقاً. وهذا قد بدأ بالأشكال الاجتماعية الأسرية؛ عبر جعل القبيلة هي أساس التكوين المدني، حيث تقسم الأحياء السكنية حسب أفخاذ القبائل، وتتشكل السلطة المدنية من زعماء الشيوخ القبليين، وهوالأمر الذي قاد إلى هيمنتهم على أجواء المدن الإسلامية المبكرة. ويقوم شيوخ القبائل المدنيين بنقل السلطة الإقطاعية من مستواها السياسي إلى مستواها الاجتماعي، عبر منع أي مظاهر للحرية الاجتماعية، وعبر الولاء للخلفاء، وإلحاق المدن بسلطتهم المطلقة، سواء كانت سياسية أو دينية أو إيديولوجية. هكذا تغدو المدن والأحياء جزءا من النسيج الإقطاعي، إلا أن المدن قابلة للتطور التحديثي النسبي، عبر انتشار التجارة والحرف والثقافة والاجتماع، ولهذا فإن القبيلة كتكوين اسري واسع لا تصمد للزمن، بل هي تتفكك، وتقترب من التحول إلى طبقات، حيث يحدث الفرز الاجتماعي بين الشيوخ المهيمنين على القبيلة والمرتبطين بالسلطة، وبين جمهورها الواسع. ولكن ذوبان القبيلة المطلق لا يتحقق لكون المدينة تعيش دائماً على السلطة الإقطاعية المهيمنة وعلى الرفد الصحراوي والرعوي المستمر عبر الزمن، إلا أن الجانب الأكبر من نفوذ الإقطاع القبلي الاجتماعي، يتحقق عبر الأسرة الأبوية، فهذه الخلية الدنيا من القبيلة تقوم بالاحتفاظ بموروثاتها القرابية والاجتماعية والفكرية، عبر هيمنة الأب الذي يغدو وجهاً للسلطة النكورية المطلقة، وعبر تنحية النساء من النشاط الاجتماعي والسياسي، وعبر إعادة ضخ الوعي الديني المشكل حسب هيمنة السلطة. تغدوالمدينة الإسلامية المشكلة بسيطرة القوة السياسية والعسكرية، تعيد إنتاج ذاتها عبر التاريخ، سواء عبر الرفد المستمر من القوى الرعوية: الأتراك، والأكراد، وعرب الجزيرة، والأمازيغ (البربر) والألبان الخ..، وفي العصر الحديث عبر الجيوش والقوى العسكرية البدوية والقروية، أي أن القوة العسكرية السياسية تتحكم في الإنتهاج العام الزراعي، الذي يغدو في العصر الراهن الملكية العامة للمعادن والبترول والفوسفات الخ..، وهكذا فإن الفرق المعارضة للعصرين الأموي والعباسي تقوم على معارضة الأسر والجماعات المتحكمة في النظام الإقطاعي لا معارضة النظام الإقطاعي نفسه، فهي جزء من نسيج هذا النظام وهي تقوم بإعادة إنتاج له، من مواقعها الجغرافية والسكانية والفقهية المختلفة، فتضخ الحياة المؤقتة في عظامه المتيبسان بشكل متلاحق، فالإسماعيليون والمعتزلة والإثناعشرية والقرامطة الخ..

يعيدون تشكيل الأنظمة الإقطاعية في عملهم ومناطقهم وإرثهم. إن القوى المعارضة تغدورقوى سياسية إقطاعية، لكونها لا تعمل لتغيير النظام الإقطاعي، بل على الوصول للسلطة فيه، وبالتالي تقوم باستثمار آلياته لمصالح لأسر المسيطرة. وحين كان الإقطاع العام مركزياً اي موجهاً من قبل عاصمة ما، المدينة، الكوفة، بغداد، قرطبة، كان الوعي الديني عاماً، ومع دخول الذميين في الإسلام وتحولهم إلى معارضات وطنية و(قومية) مضمرة، راح الوعي الديني الإقطاعي ينمو في اتجاهين، اتجاه مع السلطة العامة المسيطرة، واتجاه مع المعارضات الإقليمية المتعددة.

في الاتجاه الأول العروبى الُمضمر والقبلي وذي الإرث الصحراوي الأكبر، والذي أخذ يرتبط أكثر فأكثر مع الدولة المركزية أولاً ثم الدول الإقليمية، التي قمعت أشكاله القياسية المتحررة والناقدة، وحولته إلى أشكال دينية تابعة لها، وهو ما مثل المذاهب السنية المختلفة، وغدا مضمونه في الحفاظ على النصوصية على درجات دون إنجازات الثورات المتحققة. والاتجاه الثاني الأممي المضمر، والذي تداخل والإرث الديني القديم لشعوب المشرق الزراعي، ومثلته الإماميات المختلفة، والمسيحية العربية. ولكن كافة الاتجاهات لم تتجذر في البادية أو الزراعة، لأنها عكست القوى السياسية المسيطرة في هذه التكوينات الاجتماعية والبشرية، ولهذا ليس ثمة سوى خلافات نصوصية وحفريات قديمة، حيث إن كافة القوى السياسية المذهبية لم تنسلخ من النظام الإقطاعي.

لقد شكل الإقطاع العام المركزي لامذهبية، ولكن الإقطاع اللامركزي والمتفتت، شكل الإقطاع المذهبي الذي نعيشه حتى اليوم.

إن الأمر يعود لأسلوب الأنتاج الذي تحكم في حركة التاريخ العربية حين خرج العرب من صحرائهم ليس لديهم تشكيلة اقتصادية واجتماعية محددة، وكان التاريخ العالمي يتوجه نحو المنظومة الإقطاعية، كما فعل أقران العرب القبليين في جرمانيا والذين غزوا روما العبودية ونقلوا القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية إلى عصر الإقطاع. وتكفل العربُ بنقل القسم الشرقي منها إلى ذات المنظومة.

إن أساليب الإنتاج في العالم الشرقي عامة والوطن العربي خاصة تنمو بشكل خاص، ولم تنفع أساليب المطابقة التي حاول البعض إجراءها مع أوربا في الحصول على نتائج فكرية وسياسيه خصبة.

وهذا لا يتعلق بالتشكيلات الكبرى للبشرية فهي واحدة، ولكن أشكال التطبيق القارية والقومية هي أشكال خاصة، والخصوصية تتعلق بالسمات الأولى المترسخة والتي تتمظهر بعدئذٍ في الأشكال الإنتاجية البشرية المشتركة.

وأهم خصوصية هي تدخل الدولة وتناسجها مع أسلوب الإنتاج؛ سواء كان في العبودية أم الإقطاع. ويبدو إن الرأسمالية العربية لن تكون بعيدة عن ذلك.

إلا أن ملكية الدولة العامة غالباً ما شكلت ضباباً فكرياً للباحثين، ولهذا فإن ملكية الدولة في عهد الخلفاء الراشدين اعتبرها بعض الكتاب [ اشتراكية ] أو كما فعل آخرون تجاه الملكية العامة للقرامطة فاعتبروها (شيوعية!)، وهكذا فإن ملكية الدولة العامة الراهنة في الدول العربية اعتبرها البعض تحولاً إلى الرأسمالية.

ولكن أثبتت الملكية العامة للدول العربية بأنها لا تشكل رأسمالية، بل تعيد إنتاج العلاقات الإقطاعية، ورأسمالية الدولة كما جرت في الاتحاد السوفيتي وكما تجري في الصين حاليا ليست لتحقيق الاشتراكية بل لتجاوز الإقطاع، ولكن لأنها دول شرقية، والدولة المالكة للإنتاج هي إرث تاريخي فيها، فقد التبس المضمون التاريخي التحولي فيها، حتى على المشاركين في التجربة، لكن التغيرات العاصفة فيها بينت المضمون الحقيقي للتحول.

لكن رأسمالية الدولة القومية في الصين وروسيا تمكنتا من إنجازمهام التحول من الإقطاع، وهذا بخلاف العالم العربي. فرأسمالية الدولة الوطنية هنا لديمومة الإقطاع وليس لتجاوزه. وهذا هو الالتباس الفكري التاريخي لدى العرب كما حدث للالتباس الروسي بشان تحولهم إلى الاشتراكية، في حين كانوا يحققون انتقالاً للرأسمالية بشروط هيمنة الدولة البيروقراطية.

إذن نحن في سيرورة الإقطاع المذهبي كما تشكل تاريخياً، أي أن الأقاليم العربية التي تتفتت تحولت إلى دول إقطاعية مذهبية، وإقطاعية مذهبية بمعنى أنها عاجزة عن أن تكون إسلامية عامة، مما يولد الصراعات المذهبية وعنفها. وهي لن تتحول إلى إسلامية عامة إلا بالعلمانية وهذه شروطها الديمقراطية. أي يعني بأن تخرج من أسلوب الإنتاج الإقطاعي، وتفكك العلاقة بين الحكم والثروة، بين المذهب والسيطرة السياسية والاقتصادية.

أما رأسمالية الدولة فتحددها هنا كيفية إدارة الدولة، أي كيف يتوجه الخراج الجديد، لإعادة إنتاج بسيطة وتجديديه محدودة أم للخروج من أسلوب الإنتاج العتيق؟

ولكن الذي يحدث حاليا ان الخراج الجديد يتوجه لإعادة إنتاج النظام الإقطاعي المذهبي، مما يعني المزيد من النمو والصراع بين الحركات الإقطاعية المذهبية المختلفة، وهي التي لها بنية ايديولوجية لها مقاييسها المضادة للعصر والحداثة. فمسألة الاعتدال والتطرف هنا نسبية، فهي تنطلق من معايير ناتجة من القرون الوسطى، من عصر الإقطاع الديني التي لا تعرف مسائل القانون الدولي وحقوق الإنسان الحديثة، ولا الوطن والدولة الحديثة اللادينية، التي هي تابعة لمعايير العصر البرجوازي الحديث. ولهذا فإن الفروق بين الدول والحركات والتصورات الإقطاعية المذهبية هي كمية وليست نوعية.

أي أن الأمر يتطلب التحول إلى تشكيلة جديدة هي تشكيلة العصر الرأسمالي بكافة معاييرها، وهو أمر يتطلب نضالاً سياسياً و فكرياً قوياً تحديثياً شاملاً لفك الارتباط مع النظام الإقطاعي المذهبي وحركاته وتصوراته.

الوعي الديني والبنية الاجتماعية

 لقد نما الإسلام عبر التضاريس الطبيعية والاجتماعية المتداخلة المركبة، وقد رأينا كيف كان الطابع معقداً ومتضاداً عبر تأثير الرعاة والصحراء على المدن ونموها، ولأن هذه المدن تتشكل بقيادة الطبقة المسيطرة، وليست باعتبارها سوقاً، حيث يأتي السوق كمُلحق وليس كقوة قائدة، فقد قام الأشراف بتراثهم الرعوي والمحافظ  بتثبيت هذه الأسس الاجتماعية والفكرية للماضي، مع استلال مضمونه الكفاحي، أو جعله أشكالاً أو عادات مُفرغة من المضمون التقدمي.

فالقبيلة والأسرة الأبوية التي كانت نمطاً اجتماعياً مهيمناً في البداوة تم سحبها إلى فضاء المدينة الاجتماعي، وغدت أفخاذ هذه القبائل تغدو أحياءً، وبالتالي كان هناك قواعد مادية بشرية واقتصادية لإعادة إنتاج الموروث البدوي. ونجد ذلك من الكوفة في عصر عمر بن الخطاب حتى مدينة المحرق البحرينية في القرن العشرين.

إن الإقطاع السياسي الحاكم يتحول على مستوى الحياة الاجتماعية إلى إقطاع أسري أبوي، وكذلك إلى عبودية إذا كان ثمة علاقات رق، أو استخدام للخدم العبيد والجواري.

وبطبيعة الحال، فإن المدينة المقامة بإرادة سلطوية، تقوم بتنمية التجارة والصرافة الخ، وتتحدد العمليات المالية هنا بمدى موارد السلطة وكيفيات الصرف. وهذا من جانب معين يقوم بتفكيك الإقطاع الأسري، عبر تطور وعي هذه الأسر، لكنه لا يقضي على الإقطاع الُمرحّل من العصر البدوي الذكوري القبلي السابق، إلى المدن، ويتوقف الأمر هنا على الموارد التي تدخل السوق والحرف وما إذا كانت تتجه للتوسع الخ..

فالمدينة ليست مدينة برجوازية بل مدينة إقطاعية، تنشأ فيها قطاعات رأسمالية محدودة ومرتبطة بالسلطة أو بحاجات الناس البسيطة. ولهذا لا تستطيع أن تغدو مدينة برجوازية إلا عبر تغيير السلطة.

لكن القبائل أو الأفخاذ وقد غدت مؤسسة حاكمة، تتمركز فيها السلطة والثروة،   تقوم بتأبيد التراث الذي ارتكزت عليه في الحكم، وهنا يمكن أن نرى عدة مراحل لعلمية التثبيت تلك، فالزمن الراشدي الأموي العباسي يثبت الأسر القرشية بإرثها العربي، وهنا كانت عملية استعادة الإرث العربي الإسلامي ذات صياغة عربية بدوية تحديثية، دون أن تتخلى عن الأسس الاجتماعية القبلية والذكورية والأرستقراطية، أي أن المدن أصبحت مضارب جديدة عبر هيمنة شيخ القبيلة الذي صار خليفة، وهذا الجانب الأساسي لن يتم التخلي عنه في أية تطورات متنامية، أي أن الإقطاع السياسي الحاكم، يكرس مستوى اجتماعياً ملائماً لقيادته. وهذا المستوى الاجتماعي من البُنية هو الذي يقوم الدين بتشكيله.الدين الذي سُحبت منه المواقف الأساسية في الثورة التأسيسية: التوجه نحو التحديث، وتحالف التجار والقوى العاملة، وتغيير التاريخ بالارتكاز على تطور حياة الجمهور المعيشية.

ولكن لأن الصراعات السياسية والفكرية تجري في المستوى السياسي فإن المستوى الاجتماعي يتكرس من كل الفرقاء المتصارعين السياسيين.أي أن تعدد الزوجات وعقوبات العنف واستخدام العبيد والحجر على النساء وتبعية الوعي والثقافة للقصور الحاكمة الخ.. إن هذا المستوى الاجتماعي لن يكون محط خلاف بين الفرق الدينية، التي أخذت تتحول إلى مذاهب بدءً من القرن الثاني الهجري.

فالتحول إلى مذاهب لم يكن يصب في إعادة تشكيل هذه المستويات الاجتماعية المتحجرة، لأن المسيطرين على إنتاج المذاهب انفصلوا عن العاملين، وغدت لهم مصلحة مشتركة في الإبقاء على تخلف وتبعية المنتجين. ومن هنا نرى تضادهم مع مضمون الثورة الإسلامية التأسيسية، ولهذا يركزون على الشكل لدرجة التعصب والعنف.

ولهذا فإن خلافات المذهبيين تغدو شكليةً أكثر فأكثر، مثل كيفية الوضؤ، أو الوقوف في الصلاة، وإذا كان المستوى الإيديولوجي يبدو متضاداً، عبر الاستناد على النص المستقل عن الأئمة أو الموروث عنهم، فإن هذا المستوى الفكري يتحول هو الآخر إلى أشكال مُفرغّة من بحث القضايا الجوهرية للتحول مثل الملكية العامة والخراج والاستغلال الخ..

وهكذا فإن الإقطاع السياسي وقد أسس الدولة المركزية، أو الذي انفصل عنها، فإنه يقوم لا بتكريس حكمه السياسي فحسب، بل بتكريس المستوى الاجتماعي، التقليدي، الذي تهدف ديمومته إلى إعادة إنتاج الطاعة لدى الجمهور المستلب الإرادة.

ويلعب الوعي دور الوساطة بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي، فالمثقفون الذين ينتجون الوعي والمرتبطون بالأشراف وخدمتهم، يصوغون المبادئ الدينية ويحيلونها إلى أشكال، أي يقومون بنزع وظيفتها التحويلية الأولى، ومواقفها الموجهة ضد الملكية الاستغلالية، ويركزونها على العبادات والمعاملات والعقيدة، ومن ثم تزداد بُعداً حتى عن هذا المستوى، أي تتحول إلى محض عبادات وتستوعب أكثر فأكثر المراحل السابقة للدين كالسحر والخرافة القديمة. [راجع هنا حديث أبن الماجشون عن قرار عمر بن الخطاب بجعل ملكية الأراضي الخراجية المفتوحة ملكاً لعامة المسلمين.]

وبطبيعة الحال فإن صياغات المثقفين لمستويات الوعي الدينية في كل مرحلة تختلف، لكونها مرتبطة بمدى قوة الدولة وطابعها وكيفية توزيعها لثمار العمل، ولكن إذا حللنا هذه الصياغات بدءً من نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث فنجد ما قلناه سابقاً من بروز التمذهب  الذي كرس البنية الإقطاعية بمستوييها السياسي والاجتماعي. وكان دور المثقفين المذهبيين المتعددين هو تكريس هذا الاختلاف عبر الأشكال الدينية التي تناسب بدلات القوى المسيطرة المتعددة الألوان..

ولهذا سيختلفون حول كيفية الصلوات وعدد الكواكب والنجوم والأرواح التي تهيمن على الفضاء الروحي، ولكن سيتفقون على استغلال العبيد والنساء.

وتغدو الاختلافات بين المجموعات الإقطاعية السياسية والدينية منصبة على الأشكال، وهي تحولها إلى أدوات للحكم أو لمعارضة الحكم ولكن ليس لتغيير أوضاع الجمهور.

إن هذا يستنزف البشر والنص الديني معاً، فالمدينة الإقطاعية الدينية وهي تدمر الريف والبادية بشكل مستمر، باستغلالهما وتفتيتهما، تقوم بتدمير نفسها أيضاً، بتوجه السلطات البذخية فيها، فلا تنهض الصناعة، ولا تلتحم بالعلوم، وتغدو قوة المدينة الاقتصادية مركزة على التجارة والإنشاء اللذين يصبان في البذخ، مما يجعل المدينة على مرور الوقت تنهار من الداخل وتفقد سيطرتها على الخارج.

فالتضخم المتواصل في عدد سكانها، والذي يكون من التوالد غير الطبيعي في العائلات الأرستقراطية، والذي يتكون بسبب الشهوات والفراغ، أو بسبب النزوح المستمر من الريف والبادية، أو بسبب تكوين فرق الارتزاق العسكري، أو بسبب التضخم السكاني المستمر في القرية والصحراء والذي يتشكل لأسباب إنتاجية ولمواجهة قسوة الطبيعة وتخلف الإنتاج وهيمنة الرجال كذلك.

إن النص الديني الموجه عبر هيمنة مثقفي الأشراف وخدمهم الفكريين، يضمرُ على مستوى المضمون، لفقدان الركائز الاجتماعية التي تغذيه بالحياة، فبدلاً من التحالف بين التجار المكيين والعبيد والفقراء، كما كان الإسلام في ثورته الأولى ، يتبدل إلى خضوع التجار للأرستقراطيات اللاهية، وبالتالي يغدو الهجوم على الملأ المكي القديم هجوماً شخصياً أو إيمانياً محضاً مقطوع الجذور بدلالاته الاجتماعية، أو أن التحالف الكفاحي بين التجار والعبيد والفقراء كما كان سابقاً والذين غدوا جميعاً صحابة ثورية، يصير الآن في العصر العباسي الأول وما يليه، تبعية تجار للقصور، أو استغلال نهم للفقراء.

وفي حين كان الإسلام الأول يعتمد على تغيير التاريخ من خلال مصلحة الجمهور ومشاركته، بغض النظر عن المستوى الذي تجلى فيه ذلك الاستخدام والتغيير، فإن المذاهب والفرق الدينية تقوم على تجميد التاريخ واستغلال الجمهور لمصالح شخصية ومن أجل الوثوب إلى الحكم الذي يعيد إنتاج التخلف.

إن هذا يؤدي إلى غربة النص عن مضمونه، أي عن الظاهرات التحويلية الشعبية التي تشكل في مجراها، فيزداد النص تركيزاً على أشكاله الخارجية، ويعادي أكثر فأكثر عمليات التحويل الحديث و(العدالة).

ومن هنا كانت مسيرة فرق المعارضة الدينية المتوجهة لقراءة النص كنص غيبي، تتدهور بشكل مستمر، فالقدرية تضمحل، والمعتزلة تُضرب فتتحول إلى شخوص تابعة للسلطة المستغلة، والزيدية تغدو نائية وموجهة لحكم  الأشراف في المناطق البعيدة كاليمن والمغرب وشمال إيران، والإماميات تتحول إلى معارضة ساكنة متوارية، عبر بدايات الإثنا عشرية، أو معارضة متنامية تصل للسلطة في القرن الثالث الهجري عبر الإسماعيلية، ولكن هذه القيادة والانتصارات فيما بعد تكون من خلال قيادة الأشراف وليس التجار، وكذلك يتم استغلال الفقراء ولا يقوم التحالف الثوري معهم، وتصير العمليات برمتها وثوباً للسلطة من أجل هذه العائلات وترفها.

وهذا ما يجعل النص الديني مستمراً في غربته عن مضمونه، فيتفكك، أي يتحول إلى مذاهب.أي إلى تفسيرات تائهة في أشكاله وحروفه المقطوعة الصلة بجذوره.

التحول إلى مذاهب تعني إن ثمة حقائق متعارضة في الدين، أي أن هناك حقيقة دينية، وهناك محاولة قوية أو محاولات للقضاء على هذه الحقيقة الدينية، التي تعنى لدى المثقفين أو الجمهور العدالة والسعادة في الدارين.

إن أساس الانقسام في الوعي الديني ناتج عن انقسام اجتماعي في صفوف المؤمنين، فهناك أقسام غدت مُلتحقة أو تابعة للسلطة، وهناك أقسام تجد نفسها مستغلة بشكل أساسي وبالتالي تصطف في المعارضة.إن القسم الأول ينطبق على الرعاة الذين شكلوا وهيمنوا على المدن وصاروا جنوداً وإدارات ثم عامة موالية أو ثائرة على السلطة، ثم رُفدوا بالعوام العسكر الترك والأكراد الخ، فغدوا هم التربة الاجتماعية للمذاهب السنية. والتكوين الرعوي الواسع وقوة المدن والسلطات المنبثقة عنها، هي ما جعلت لهذه المذاهب السيادة الكبيرة على المنطقة المشرقية من العالم الإسلامي، في حين كانت له السيادة المطلقة في الإقليم الغربي، نظراً لتجذر الطابع الرعوي فيه.

 إن القسم الزراعي الذي واجه هؤلاء الرعاة وادغم معهم أو صارعهم، تحمل عبء الاستغلال الأكبر، ونظراً لذلك أخذ هذا القسم بالمذاهب المعارضة، في مخاض معقد (قومي) واجتماعي وثقافي فداخله قوس من المذاهب الإمامية والمسيحية. وتداخل المذاهب الإمامية بالمذاهب المسيحية والإرث القديم أنتج العديد من الظواهر المشتركة.

وبطبيعة الحال يغدو القانون الاجتماعي هو هو، سواء على المستوى المركزي حين انتقل العرب إلى الإمبراطورية، أو في أزمنة التفكك، ففضاء مكة والجزيرة العربية الاجتماعي الذي لم يشكله الحكم الاستبدادي، هو غير المشرق الزراعي الشمالي المشكل على أساس العبودية العامة منذ فجر التاريخ.

إن كل قسم في الوعي الديني يقول إن الحقيقة الدينية معه، ولكن كما رأينا فإن النص الديني يُفرغ باستمرار من محتواه، وتنتقل هذه العملية التفريغية إلى المذاهب، فتغدو الاختلافات ليس من أجل الوصول إلى المضمون الثوري المُضيّع، بل إلى الاختلاف حول الأشكال المتباينة.

وبطبيعة الحال تمتلك الأديان آلية لمواجهة عدم تحقق الوعود الاجتماعية الدنيوية بالإحالة على الغيب، أو بروز عقبات شيطانية الخ..

وتزداد هذه العملية تعقيداً وشكلانية مع ازدياد الاختلافات، وتزداد عملياً الغربات الدينية المختلفة، وهذا ما يفتح مجالاً للمعرفة الحدسية، بعد أن فشلت أدوات النصوص الحرفية في اكتشاف مضمون العقيدة التحويلي.

وهنا تبدأ مرحلة مفارقة لمرحلة الاعتماد على النصوصية، التي أنتجت عقلاً دينياً تابعاً لها، بأشكال مختلفة، عبر كل المذاهب السابقة، أي تبدأ المرحلة الصوفية والفلسفية في الوعي الديني.وتقوم الصوفية على إنكار سياق النص، علىإنه ظاهر، وبالتالي فإن الحقيقة لا تكمن في الظاهر، بل في الباطن، ولكن هذا الباطن لا تجسده الصوفية نضالاً اجتماعياً، وتحالفاً أساسياً بين التجار والفقراء، بين الطبقة الوسطى والمنتجين، تجاوزاً للبنية الإقطاعية، بل تقيم دكتاتورية غيبية للقطب على المريدين، وتصبح هذه الدكتاتورية شديدة التنوع والتشظي بفعل الشطحات والمجاهدات الداخلية الغامضة للأقطاب، ويذكرنا هذا بتشظيات الخوارج، وإن كان بصورة مضادة.

أما المذاهب الفلسفية الدينية فأكثر تعقيداً، وقد أتاح القسم [العقلاني] منها إمكانية قراءة الطبيعة والمجتمع قراءة موضوعية بأدوات الزمن، لكن غيبيته في القسم الميتافيزيقي، تتشارك مع المذاهب الدينية الأخرى وخاصة الإمامية منها.ولكن لأن الفلسفة الدينية غدت مقطوعة التحليل بالسياق الاجتماعي التاريخي، وارتبطت بالتبعية لشرائح من طبقات الأشراف المختلفة، فقد أصابها ما أصاب الحركات المعارضة التي تجمدت عند هذا الأفق نفسه، كالقرامطة والإسماعيلية والدروز والزيدية الخ..

وبطبيعة الحال، كان كل هذا يشتغل في فضاء نظام إقطاعي زراعي حرفي بسيط، كانت إمكانيات التجاوز التقني والصناعي والعلمي، معدومة فيه.

إن اعتماد قسم من النص الديني على امتداده النصوصي، باعتبار إن هذا الامتداد النصوصي يقوده إلى النص المنبع القادم من النور الغيبي، يغدو بالنسبة إليه شرط الحقيقة الدينية، بغض النظر عن ملاءمتها للعصر أو تناقضها مع العقل أو أهميتها للتطور.

إن النص في هذه الحالة يغدو رجوعياً باستمرار، ولكن ليس إلى جوهر العملية الثورية الإسلامية الأولى، وهنا تحدث غربتان على مستوى الماضي وعلى مستوى الحاضر.

فهو يغدو غريباً تجاه الماضي، فلا يفهم سببيات الثورة الإسلامية وشروطها، أي عمليات تفاعلها الاجتماعية والسياسية والعسكرية مع الجمهور، ليس لشيء سوى لموقفه المحافظ وتبعيته لقوى القهر والاستغلال في زمنه، ولهذا يقوم بإعادة النص المفرغ من دلالاته الثورية إلى زمنه، لكي يمنع اكتشاف هذا المضمون.

تتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، فتزداد عمليات التدمير الذاتي والشكلانية النصوصية والشطحات والخرافات، أو النصوصية الحرفية الميتة الخ..

إن شروط التغيير وهي تحويل نظام الملكية العامة التابعة لأسر الأشراف، وتحرير الفلاحين والمرأة والعبيد، كانت هي أساس وجود هذه الأنظمة والتيارات، وبالتالي كانت إمكانية تشكل ثورة ديمقراطية معدومة، وكان وجود طبقة برجوازية حرة صناعية مستحيلاً، فراح العالم الإقطاعي الديني يعيد إنتاج نفسه على نحو تفتتي ومأساوي بشكل مستمر، حتى جاء الأتراك والصفويون وأقاموا نظامي الإقطاع المذهبيين الشاملين بنفس الأسس القديمة حتى العصر الحديث.

علامات في الوعي الحديث

للعقل العربي الحديث قصةُ تكونٍ، ونسميه عقلاً، بهذا التجريد، لأنه أراد أن يكون بهذه الصفة، وصفة العقل تعني بأنه يستخدم السببية في قراءة الظواهر، فالعقل هنا منهج في فحص الأشياء واكتشاف قوانينها.

وهذا الاستيرادُ من الغرب لكلمة العقل، وطرق استخدامها، هو جزء من مناهج الفئات الوسطى العربية وهي تستعير من قاموس قريناتها الغربية، أدوات لمماثلة تجربتها وتحقيق سياق نهضوي مشابه.

وقد عبر ديكارت في بدء العصر الحديث عن منهجية العقل هذه قائلاً :

[أنا أفكر إذن أنا موجود].

وإذا قمنا بقراءة لهذه الأنا، فهي ليست أنا فردية محضة، بل أنا المثقف الفرنسي في بدء الحداثة، وهو يحاول أن يجد سياقاً مبرراً لتطور الوعي خارج الدين، فالوعي البرجوازي هنا يتشكل بين عالم العصر الوسيط الغارب، والعصر الحديث الذي لم يتشكل كلياً بعدُ. ونحن سنأخذ وعي ديكارت في هذا الفصل كوعي اجتماعي عام مؤجلين رؤية تفاصيل هذا الوعي عبر تداخله لاحقاً مع تطور الوعي العربي وهو يخرج من مرحلته الأدبية إلى مرحلته الفلسفية، حيث ذاك تكون المقارنات داخلية معبرة عن أبنية فلسفية عبر العصور ولكن هنا لا نزال في الأفق العربي الثقافي الأدبي عموماً. فهنا ديكارت مجرد أداة معرفية هي الشك.

وعيُ ديكارت يقول أنا أفكر معرفياً خارج الدين، إذن أنا كفكر حديث موجود، ولكن تفكيري يخرج من [الأنا]، من هذه الطبقة الحديثة الفردية، التي لم تعلن بعد العلمانية الكلية، ولا تزال بعدُ بين الدين والحداثة، بين وعي العصور الوسطى العقلي، ووعي الحداثة العقلي الجديد، .

إنه عقلٌ حديث لا يرفض كلياً العقل الديني القديم، ومن هنا يكون دليل ظهور تفكيره وجود الله، ولهذا يقول لو لم يكن الله موجوداً لم أستطع أن أفكر، فلأنني أفكر فمعنى هذا إن الله موجود.

إن عقل الحداثة البرجوازي وهو يسوق فرديته، لا ينسلخ هنا من البنية الاجتماعية الإقطاعية التي لا تزال مهيمنة، في النظام الملكي وفي سلطة الكنيسة الكبيرة، ولكون عقل الحداثة البرجوازي الفرنسي هذا لم يصبح بعد عملاقاً، كما سيجري الحال في القرون التالية بعد القرن السابع عشر هذا، بعد تراكم مشروعاته، فإنه يستمد شرعيته من الماضي، فأنا ديكارت هي تعبير عن الفئات الوسطى التي لم تصبح بعد طبقةً قائدةً لمشروع الحداثة، أي أن شرائح هذه الطبقة لم تزل بعدُ مبعثرةً، في تكوينات تجارية، وعقارية، وصناعية، ولم تصبح الثورة الصناعية والعلمية قوة لإنتاج الرأسمال الصناعي العملاق.

ولهذا فإن صيغة [أنا أفكر..] تعبر عن العقل النظري، عن عدم تلاقح العقل بالمعمل، عن ضعف التحام الفئات البرجوازية الفرنسية، ومثقفيها، بالإنتاج الصناعي.

أنا أفكر وليس أنا أعمل، أو أصنع، فأنا موجود، أي أنني جنين الطبقة البرجوازية أتشكل عبر هذا الوعي العقلي، معطياً الكنيسة والملكية حصتيهما من المصداقية العقلية، فلهما مشروعية العقل الديني السياسي القديم، ولكنني أنا جنين الطبقة القادمة، لي مشروعية وعيي، واعترف لهما بأساس الوجود الاجتماعي الإيديولوجي.

يعبر العقلُ البرجوازي الفرنسي في ميلادهِ الديكارتي، عن مستواه التقني المحدود، حيث لا تتناسجُ هنا أدواتُ العقل والمعمل، وبينهما هوةٌ سببها مستوى تطور الصناعة الفرنسي المحدود قياساً بجارتها القائدة إنجلترا وزميلتها التابعة هولندا، حيث بدأ المشروع الصناعي الواسع، حيث انتجت إنجلترا [فرنسيس بيكون] لا ديكارت.

بين منهجي الفيلسوفين مستوى التطور الصناعي العلمي المتداخل، فعندما يقول ديكارت أنا أفكر، يقصد تفكيره المستقل في المكتب، ورؤيته الفردية، الباحثة عن الأسباب في ظواهر طبيعية واجتماعية مدروسة بشكل نظري عقلي، معزول عن شبكة الطبيعة والمجتمع.

يواصل ديكارت منهجية العقل الباحث السابق في القرون السابقة، ولكنه يفصله عن العقل الديني، وهو لا يفصله ليربطه ب [التجريب] بل بالتحليل والبحث النظري، فتعبر جملة أنا أفكر، أي أنا فكرٌ عقليٌ مستقل عن الدين الذي له منهج مختلف في قراءة الطبيعة، فمنهجي، يقول ديكارت، منهجٌ عقلي مستقل، يبحث في الظواهر بموضوعية، وبلا سببيات مُسبقة، وهو يكتشفها داخلها عبر البحث والتأمل، الذي هو المصداقية الأساسية في العقل.

لكن العقل العربي ( البرجوازي ) لم يبدأ ديكارتياً، بل كانت جملته :

[أنا أستورد.. إذن أنا موجود!].

لم يكن نصيب فرنسيس بيكون المفكر البريطاني وهو يؤسس منهجية علمية في الحضارة الغربية، كنصيب ديكارت، في عمليات الاستيراد العقلي العربي، فقد حظي الأخير باهتمام كبير في هذا الوعي وهو يحاول أن يردد صرخة ديكارت :

[أنا أفكر إذن أنا موجود!].

لا يعود ذلك إن العقلَ المصري الحديث، وهو بؤرةُ العقل العربي في وقت تشكله، لم يعرف بيكون، أو أن العلاقات الثقافية الفرنسية – المصرية وهي العلاقة التي تشكل بها الوعيُ الحديث المصري وهو يرى العالم كانت كبيرة، بل أن الأمور تعود إلى جوانب أكثر تعقيداً.

لقد كانت اللغة الإنكليزية أكثر حضوراً في الترجمة والبحث، وكانت الهيمنة البريطانية قوية على العقل المصري والعربي عموماً.

 ونقصد بالعقل هنا، طريقة تفكير الشرائح الوسطى العربية التي استعارت لفظة العقل، لتجعلها بديلاً عن لفظة الوعي، ولتجعلها بهذا لغة تجريدية، تــُصادرُ بها عملياتَ البحثِ الملموسة والموضوعية في البُـنـى الاجتماعية.

لكن مع هذه السيطرة البريطانية السياسية، فإن الوعي البرجوازي المصري وهو يتشكلُ في مخاضهِ الفكري، كان يتوجه إلى النموذج الفرنسي لا النموذج البريطاني في تشييد منهجية البحث. ومن هنا قال عميد الأدب العربي، طه حسين يقول : أنا أفكر إذن أنا موجود، وأعلن تبنيه لمنهجية الشك.

لكننا قبل أن نقرأ طه حسين في مقولته الديكارتية الإيجادية، علينا أن نعرف لماذا رفضوا فرنسيس بيكون؟

إن فرنسيس بيكون هو أبن الحداثة البريطانية، ومنذ سنة 1600 بدأ ظهور منهج فكري جديد في تاريخ العالم وهو [المنهج التجريبي].

[وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية، أعني مذاهب فرانسيس بيكن، وجون لوك، وديفد هيوم]، ( 30 ).  

ويقوم هذا المذهب التجريبي على اعتبار الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، فجان لوك يعتبر ذهن الإنسان صفحة بيضاء حين يُولد. ولكن بيكون لم يقصر المعرفة على التجارب بل اعتبر العقلَ أداةَ تحليلٍ وجمع تالية للتجربة، وبهذا وضع الوعي الحديث على أساس متين.

لقد عد بيكون الفلسفات السابقة بأنها أشبه ببيوت العناكب، فهي تصنعُ بيوتها من داخل نسيجها، في حين إن الفلسفةَ العلمية الحديثة هي مثل النحل، تصنع بيوتها من خلال رحيق الطبيعة وعبر التجربة.

إن فلاسفةَ التجريب الإنكليز هم ظواهر إنسانية عقلية هي حصيلة للتطور الصناعي والعلمي البريطاني، وقد بدأت عملياتُ التصنيع في بريطانيا مبكراً، ولم تظهر هنا صرخة ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود، بل صرخة مختلفة، هي أنا أصنع فأنا موجود.

وبدلاً من مثقفي فرنسا العقليين الذين يفكرون من خلال مكاتبهم، ويتابعون الفلسفات العقلية القديمة، كفلسفة أرسطو، التي كانت نادرة التجريب، وقائمة على التأمل، فإن المفكرين البريطانيين اندفعوا للمعامل يحّكمونها في دراسة المواد.

إذن فإن فرنسيس بيكون وجان لوك بدأا في تشريح أفكار البشر الفلسفية العقلية النظرية، فبدأت منظومات التأمل الميتافيزيقية والسحرية في الانهيار.

ولا بد هنا من أخذ دور العالم الإيطالي الكبير جاليلو جاليلي الذي سدد الضربات الهامة للمنظومة الفلكية العتيقة التي جعلت الأرض محور الكون، وحددت السماء عبر منظور خرافي، لكن بلد جاليلو ( إيطاليا ) لم تستمر في عملية الثورة العلمية، حيث أخذت بؤرة الثورة تنتقل إلى غرب أوربا.

إن انتقال الوعي العلمي التجريبي إلى بريطانيا التي كانت المعمل الأول للثورة الصناعية هو الذي فجر عصر الحداثة. ولهذا كان فرنسيس بيكون مؤسس المنهج التجريبي، وهو المنهج التي أثبتت القرون التالية إنه الأهم في إنتاج ( عقل ) حديث.

لقد وضعت المدرسةُ البريطانية ما يسمى بالعقل الحديث لدراسة المادة عبر المعامل، وحينئذٍ لم يكن المجتمع قد أُدخل في هذه الدراسة، فتركزت العملية العلمية على فحص المواد الطبيعية.

وبدلاً من فلسفة العصور الوسطى الدينية التي ربطت قوانين المادة من خارجها، بدأ الوعي الحديث باكتشاف قوانين المادة من داخلها. وهنا أخذت فروعُ العلوم الطبيعية : الكيمياء والفيزياء والرياضيات، في التحول إلى قيادة للوعي المعاصر. لقد اتسعت الاكتشافاتُ والاختراعات في هذه الفترة، وخاصة اكتشاف إسحاق نيوتن لقانون الجاذبية، الذي تداخلت فيه الفيزياء والقوانين الرياضية، فبدأ الاحتلال البشري العلمي للسماء، أي للمجموعة الشمسية، أي في المساحات الكبرى التي يمكن تطبيق قوانين حركية ميكانيكية واسعة عليها، وكان في هذا الاحتلال إعادة لجعل قوانين الطبيعة داخلها.

لقد سدد نيوتن ضربات حاسمة إلى منظومات العصر الوسيط الفلكية، وللآراء أرسطو عن هيمنة فلك ما تحت القمر، وأرواح الكواكب وهيمنة النجوم الخ..

لقد أعطى القرنان السابع عشر والثامن عشر مادة علمية ضخمة في كشف المادة والمكان، الأمر الذي أدى إلى تطور هائل للصناعة المترافقة مع الكشوف الجغرافية واتساع العالم الغربي جغرافياً واجتماعياً، ولكن في القرن التاسع عشر بدأ الفكر التاريخي بالنمو والتبلور عبر دارون وماركس والعديد من العلماء الآخرين، فلم تعد المادة الطبيعية فقط هي المدروسة بل المادة الاجتماعية، التي بدأ تطبيق قوانين مختلفة على دراستها.

وإذا كان المنهجان العقلي والتجريبي هما السائدان في الوعي البرجوازي، الذي رفض القراءة التاريخية والاجتماعية لتطور الوعي والتاريخ، فإن هذا كان يعبر عن تحييد العلوم وابعادها عن الصراع الاجتماعي الدائر في المجتمع الغربي، وبين المجتمعات الغربية والعالم المستعمر.

إن ديكارت وبيكون يظلان يمثلان الخطين الأولين للمنهج العقلي والتجريبي والميكانيكي في هذا الوعي، ولكنهما سيمتزجان في توليفات تالية، وسنجد تداخلاتهما في مناهج مختلفة، كمنهج ماركس الذي جمع بينهما وعبر قراءة التطور التاريخي للمادة المدروسة، فالبضاعة لديه تتحول إلى الجرثومة الأولية لتضادات الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، والذي يقومُ بدراسة قوانين ظهورها ونموها، مستعيناً بالإحصاءات الدقيقة عن هذا التطور الاقتصادي التاريخي المركب وذلك في كتابه [رأس المال]. وهنا نجد إنجازات العلوم التجريبية البريطانية المتمثلة في الاقتصاد السياسي البريطاني، الذي يقوم بفحص وتشريح الاشتراكية الخيالية الفرنسية بالأخص، ويدمرها عبر التحليل الموضوعي للحياة الاقتصادية. هذا لا يعني إن ماركس لم تكن لديه استنتاجات سياسية مُسبّقة فرضها على البحث العلمي كذلك إضافة لتباين مراحل تطور فكره : مرحلة الشباب، فمرحلة أقصى اليسار، ثم مرحلة النضج الأخيرة.

لكن العلومَ، حسب رؤى البرجوازيات الأوربية، أخذت تدخلُ في أزمةٍ عميقة. فالمناهجُ الاستقرائية تركز على المادة المفصولة عن شبكتها الطبيعية، وتعجز القوانين الميكانيكية عن قراءة الحركة الدقيقة للجزئيات، وأخذت الاحتمالية الكلية واللادرية، وخاصة شكوكية الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم، عن الاعتراف بقانونية وموضوعية قراءة المادة، في تشكيل أزمة ثقة بالعلوم.

إن فلسفة أنا أفكر إذن أنا موجود، دخلت فى ازمة اجتماعية

وتاريخية، فالبرجوازية الأوروبية غدت تصارع الطبقات العاملة في

بلدانها، التي تحفزت لتسلم السلطة، والحروب بين هذه

البرجوازيات دمرت «العقل» وخاصة في المذبحة الإنسانية الكبرى: الحرب العالمية الأولى.

إذن حين قال طه حسين : أنا أشك إذن أنا موجود، كانت صيغةً أقل قوة من صيغة ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود!

وطه حسين لم يعلنها صراحة بأنه موجود كأنا طبقية برجوازية تؤسس عصر النهضة العربي الحديث، وشكوكيته هنا القادمة من عصر ديكارت والمتأثرة بخطاه، سارت إذن في المنهج العقلي، المتصف بضعف التجريب، والمعتمد على التحليل العقلي الصرف، بما يسود فيه من فضاء فكري مهيمن، ومتوجهاً إلى الأدب وهو ليس ميداناً حاسماً في المواجهة مع التراث المحافظ، حيث توجه ديكارت إلى الفلسفة، وهي الميدانُ الحاسم في الصراع الفكري، ولهذا فإن طه حسين كان ذا عدة أدبية بدرجة أولى، لكن التأثيرات الفلسفية المضمرة كانت موجودة في هذا الأدب عبر تسرب الاتجاه الميكانيكي والوضعي والجدلي الواقعي لكن ليس فيها منهج حاسم.

أنا أشك إذن أنا موجود، اعتبرها طه حسين طريقة لإعادة إنتاج عقل عربي حديث، يقومُ في البدايةِ باستعمال الشك وتوسيعه في كافة ظاهرات البحث والدرس، وقد اعتقد إن استخدام هذا المنهج وتطبيقه على ظاهرات الثقافة كفيل بتوسيع استخدامه في كافة القراءات للمجتمع العربي المتخلف.

لكن زمان ديكارت كان قد انقضى عليه أكثر من قرنين، انطلقت فيه مناهج أخرى، وفي العقل البرجوازي نفسه، كان المنهج التجريبي قد انتزع مكان الصدارة.كذلك كان المنهج الدارويني الاجتماعي والمنهج المادي التاريخي والجدلي الماركسي، قد اثبتا حضورهما في الوعي الحديث.

إن عودة طه حسين إلى ديكارت، يؤكدهُ المسارُ العربي التقليدي الراكد، الذي لم تهزهُ الثورةُ الصناعية، وحين بدأت مصرُ الدخول فيه، عبرته من خلال الصناعات الاستهلاكية : السكر، والنسيج الخ.

ولم يكن لطه حسين علاقة بالمناهج التجريبية أو بالمادية التاريخية، وقد صارع بقوة المناهج الأزهرية المتخلفة في درس التراث، وكان هذا الصراع الفكري المنهجي هو الذي يؤسس نظرته إلى العالم، فهذه [التجربة] الشخصية كانت المعمل لإنتاج وعيه.

كان [الشيخ] التقليدي ماثل في وعيه، وهو الذي يراه كعائق أمام تحديث العلوم، لكنه أخذ الشيخ الديني كطرائق في البحث، وكأساليب في درس التراث، وليس كبُنية اجتماعية عتيقة، أي كجزء من منظومة سياسية تقليدية هيمنت على المسلمين، ولهذا فقد شهر سيفه أي قلمه في وجه هذا الشيخ المفصول عن النسيج الاجتماعي، وعن منظومةِ الإقطاع الغارزة حرابها في الجسد الاجتماعي، وحين كان يكتبُ عن أبي العلاء المعري، فقد اتخذ صنوه من العصر العربي القديم، ليس للاشتراك في العاهة الجسدية والتغلب عليها فقط، بل لمستوى الوعي المتقارب بين الرجلين، المعري في عصره العربي الإقطاعي المتفتت، وطه حسين في عصره العربي الإقطاعي المتفتت والمتُكون مجدداً.

وإذا كانت الشكوكية والسخرية والنقد المرير اليائس قد ظللت فيلسوف معرة النعمان، فإن الشكوكية البناءة المتفائلة ستكون النسيج الروحي لعميد الأدب، وهو يحاول أن يُخرج الأمة من الظلام إلى النور، مثلما هو يشكل خطاه على الأرض الدامسة، جامعاً بين فرنسا الحرة وإعادة تشكيل مصر الحرة.

وقد بينت معركة كتاب [في الشعر الجاهلي] طابع منهجية أنا أفكر المصرية التي أنتجها طه حسين. فالشك قاده إلى التشكيك المعقول بصحة الشعر العربي الجاهلي، لكن هذا الشك لم تسنده قراءات اجتماعية واقتصادية في بنية العرب الجاهلية قبل الإسلام، فقد أخذ الظواهر التعبيرية وإشكالياتها الحقيقية في معزل عن اللوحة الاجتماعية التاريخية المتكاملة. فأصدر حكمه بعدم حقيقية هذا الشعر الجاهلي. وقد عبر المنهج الشكوكي هنا عن قراءة عقلية فنية وفكرية غير غائصة في الجذور الاجتماعية للشعر والنثر الجاهليين، فجاءت أحكامهُ غير دقيقة علمياً. فكان للمنهج العقلي الشكوكي هنا نتائج مضادة للجوانب التي يبتغيها من نشر المنهج العقلي الباحث. لكن أسئلة طه حسين المهمة والكبيرة أدت إلى بداية البحوث في تاريخ العرب، والتي سينجزها باحثون آخرون. في حين ظل هو على عناده من مسألة الشعر الجاهلي المنحول، فأضاع فرصة في قراءة جذور التكون الإسلامي.

وفي وقت صدور الدراسة اتخذت القوى السياسية المصرية المتصارعة الكتاب القنبلة – والذي لم يهتم الرأي العام فيه إلا بجمل صغيرة تشكك في بعض النبوات، والتي حُذفت في الطبعات التالية للكتاب – اتخذت من الكتاب أداة لتسوية حساباتها السياسية.

فخطة القصر الملكي والاستعمار بتقوية الجماعات المذهبية واضعاف حزب الوفد، اصطادت الكتاب وحرضت الجماعات المتعصبة فما كان من حزب الوفد إلا أن هاجم المؤلف (الموتور)، وبهذا دخل حزب البورجوازية المصرية في سلسلة الدفاع عن النظام الإقطاعي الديني، بدلاً من أن يقود معركة العلمانية والديمقراطية بعمق.

بينت معركةُ كتاب (الشعر الجاهلي) المعسكرات الاجتماعية والسياسية والتي ستدخل معركة التحديث العربية بتردداتها وإنجازاتها وهزائمها، وهو هيكلٌ عامٌ اجتماعي واقتصادي لم يتغير نوعياً خلال القرن العشرين بل وربما أزداد ميلاً صوب المحافظين، بسب اكتشاف الثروة النفطية في المناطق الأقل تطوراً من العالم العربي.

ولكن يهمنا هنا استلال الخيط الفكري العقلي التحديثي وهو يتكون في المواد الاجتماعية البسيطة.

فطه حسين بتقديمه هذه اللوحة التشكيكية في التراث العربي الجاهلي، انطلق من أسئلة موضوعية بدون قراءة مادية تاريخية للعصر المدروس، بل من جانب رؤية مُسبّقة في اعتماد منهج الشك، ورفض المادة الوفيرة التي تؤكد صحة نسبة كبيرة من هذا الشعر إلى عصره. لكن الأهم في كل ذلك هو اعتماد الدراسة على جوانب فكرية مفصولة عن سياقها التاريخي في الماضي والحاضر، وبالتالي عدم تلاقح مذهب الشك مع أدوات البحث التاريخي الموضوعية، واكتشاف سياق التطور العربي، وأهمية الإسلام كثورة تجديدية في حينها، وأهمية رؤية دور مكة التجاري البرجوازي كمدينة تحاول أن تشكل عالماً نهضوياً، تم إدخاله بعد هذا مع تكون الإقطاع وتطوراته في عمليات الفتوح وبسبب آثارها الاقتصادية. أي أن الأدب الجاهلي كان يعكس جذور دور طبقة برجوازية (حرة) كانت تعيد تشكيل مجتمع أبوي، يدخل تواً العصر الطبقي.

أي أن الفئات البرجوازية المصرية التي دخلت العصر الحديث كمثيلتها القرشية المكية، دخلته وهي تابعة للبرجوازية البريطانية، ومتداخلة مع الإقطاع السياسي الملكي الحاكم والديني، فلم تستطع أن تطلق صرخة ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود!

بل كانت كلمة طه حسين أنا أشك، فأنا حائر، تائهٌ بين الطرق الاجتماعية.

إن الفئات الوسطى المصرية كانت كلمتها في الواقع : أنا استورد واصدر، وليس أنا أصنع فأنا موجود، فكانت معامل التجريب نادرة، وكان الفكر العقلي الذي تنتجه طالعاً تواً من الأزهر، فلم يستطع أن يقرأ حاجاتها الموضوعية، وأن يقود معركتها التحديثية.

 لنلقي نظرةً تشخيصيةً حول فكرته عن العقل.

إن اقتراب طه حسين من الفكر الفلسفي نجده في الصفحات الأولى من كتابه : ( مستقبل الثقافة في مصر ) الذي يقدمُ فيه خطةً عامة لتغييرِ نظام التعليم في مصر، والجمعُ بين هذا الفكرِ النظري العام وقضيةِ التعليم تحديداً، هو قمةُ عمل النهضويين (العلمانيين)، الذين اقتصروا على البثِ الثقافي وليس العمل السياسي والاجتماعي المباشر، حيث صعّد طه حسين تدريجياً التنويرَ الأدبي ليغدو نضالاً سياسياً تبلور عند التعليم، وذلك بسبب تصور التنويريين المثالي عموماً بكونِ الثقافةِ هي أداةُ تغيير التخلف، لكن هذه الثقافة مصاغةٌ داخل آليات بنية الإقطاع المذهبي وليس لاجتثاث هذه البــُنية مما يؤدي بهذه الثقافة نفسها أن تكرس تلك البنية لا أن تهدمها كما كانوا يتصورون.

ولهذا فإن منطلقات عميدِ الأدب طه حسين شبهِ الفلسفية في مقدمة هذا الكتاب تتطابقُ وخطته لتغيير التعليم في مصر التي أعلنها في هذا الكتاب سنة 1938 ثم طبق أساسياتها حين صار وزيراً للتعليم في حكومة الوفد بعد ذلك.

وفي هذه المنطلقات فإن مسألة ( العقل ) تغدو بؤرةً مركزيةً في عمليةِ إنتاجِ المفاهيم وتطبيقها، ولهذا يقول :

( فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ وبعبارة موجزةٍ جلية أيهما أيسر على العقل المصري : أن يفهمَ الرجلَ الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجلَ الفرنسي أو الإنجليزي؟)، (31).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انظر كل ذلك عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة ، 2015.