أرشيف الأوسمة: عبـــــــدالله خلــــــــيفة : إنّهُ المثقفُ العضوي!

إنّهُ المثقفُ العضوي!


افتحوا له الدروبَ، هذا المناضل قادمٌ من الأرض وعشق التراب، نثرَ دمَهُ للجماهير، وضحى بزهرة شبابه من أجل الشعب!
في الغربةِ وإغراء السفارات والدولارات، تاهت خطواته، وخلطَ بين اليمين واليسار، بين الدين والخرافات السياسية، وكلما زاد العَرقُ الشامي في السهرات ضاعتْ القضية!
تعلم عبدالخالق محجوب الماركسيةَ من جماعات مصرية، وعاد إلى بلاده وذهب إلى عمال السكك الحديدية، انتقى نفراً واعياً محدوداً وقادهم في معمعمان نضال طويل، وطلع منهم الشفيعُ الشيخ قائداً للعمال وتحكم في شرايين الحديد والوعي السوداني، وبينما كانت الجماعاتُ الماركسية المصرية تذوي في المعتقلات وبعدها في الحانات، كانت الجماعات الماركسية السودانية تصنع الثورات!
كلما زادت الروحانية في الفنادق وقطعت الزجاجاتُ العلاقات بالأرض، خفت عقولُ الاجتماعات وسحبت شروط الجماعات المناضلة، وصارت التنظيمات خليطاً وطارت عن مصالح الناس الأرضية الراسخة.
تتكون الجماعاتُ المناضلة من الحكمة والمعاناة الجسورة، يظهر العضو تتويجاً لنفي الصدف والجهل والفوضى، والمصالح الذاتية، وأوضاع الاستغلال القاهرة، يضع حياته في خدمة نضال الأغلبية الشعبية، وعندما تبرزُ تلك المصالحُ الذاتيةُ المتورمةُ في إطار سياسي يضربُ الجمهورَ بأسنانه، يتنحى، ويعود للعادية ومجرى الحياة اليومية الذي تضعف فيه التضحيات من أجل الغير، وتنتشر فيه الأنانية كميكروب فتاك.
لا تستطيع أن تصنع حزباً بخمسين شخصاً مجهولين، بل لا بد أن تبحث عن عقول اكتنزت فيها التضحياتُ الكبار، عن شخوص صارعتْ وسجلت مواقفَها في كل حين وراحت تعري الأخطاءَ وتكشفُ مسارَ الشعوب الصحيح!
عندما تجمعُ نثارَ وبقايا الطوفان وتحشد شخوصاً انقطعت عن التضحية، ولم تفرق بين الجريمة والغنيمة، وعاشت في الوزارات والشركات مسدودة العيون، وانقطعتْ علاقاتُها بالمعرفة الجدلية وكشف تناقضات الحياة والأنظمة، أو اختبأت بعد السجون، فلن يكون الجمعُ حزباً مناضلاً بل صنيعة لشمولي ما، أو راغب في الزعامة، أو دعاية لكائنٍ تلاشت نضاليتُه وقدم طلباً للتقاعد السياسي وأخذ مكافأة نهاية الخدمة، أو صار إطاراً يبحث عن مواد خام لصعوده نحو مصالح جديدة أو سقف عال مريح من الحضور.
يتصلب المثقفُ العضوي في سوريا زمن الغربة في ماركسية لينينية كصخرِ قاسيون، ويعود إلى الخليج فيفقد بعض وزنه الثوري في الكويت، وتبدأ الماركسيةُ في الخلخلة الصحراوية، وخاصة بعد هجوم الطوس الديناري، وفي بلد آخر يتأكد له أهمية الإخوان ودورهم البناء في الاستثمار.
حين أنشأ المهدي بن بركة المناضل المغربي في ستينيات القرن الماضي جماعةً صغيرةً من الرياضيين والعاملين أخذهم في تجارب طويلة كفاحية ساعدوا فيها الفلاحين وتدربوا طويلاً على كشف ملامح الكادحين، وفقدوا فيها كلَ شحمهم المدني وغدوا نواةً لتنظيم القوى الشعبية التنظيم الذي كان رائداً بين القوى السياسية.
حين يتحدثون عن المثقف العضوي تنهمرُ علينا مصطلحات غربية فيتعكزون على الأسماء الكبيرة، قال ماركس وقال هيجل، وقال غرامشي، ولكن أين ما قالوه في أزقة بلدانهم وخرائط العذاب لشعوبهم؟
حين ينساق المثقف مع فئات الشعب المتخلفة، ولا يناضل لأجل حقوقها وتطورها ومعاشها، ويصارع خرافاتها وعنفها وجهلها، يتجاوزه الشعبُ لأن قوى جديدة تظهر وتنزعُ الورقَ الأصفر من شجرة الشعب الخضراء الأبدية، فالشعب يبقى ويتجدد ويلفظ الأعشاب السامة أما المنساقون وراء جهله وفوضاه فيذبلون مع بقاياه وأوهامه.
حُوصر وذبل المثقف العضوي ولكن المثقف الديناري استمر في الحضور يقدم خدماته للقوى التقليدية السياسية والدينية، بحسب اتجاه الرياح، وغدا أكثر اتساعاً وحضوراً ومراكماً للأوراق الصفراء لتسد مجاري المطر والتنوير والتغيير، ذا رهافة شديدة لشعيرات المنافع، فكان ذبول الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في العالم العربي مريعاً لعدم تصاعد الثقافة التحويلية وغرسها في كل خلايا الشعوب، حتى غدا المثقف الديناري مطلوباً في أمكنة كثيرة وليطمس حقيقة التحولات ويصنع طاهرات ذاتية ويزيف التاريخ عن تضحيات الناس الجسام!