رفاعة رافع الطهطاويعالم مصري من رواد النهضة العربية، ولد سنة ١٨٠١، فى طهطا من صعيد مصر، التحق بالأزهر، وعين رئيساً دينياً لبعثة من طلاب المصريين المتوجهين الى فرنسا للتخصص فى الدراسات الحديثة، ورغم ذلك فقد عاد هو ليصبح فاتح الطريق للعلوم الحديثة في الثقافة العربية. فقد تعلم الفرنسية وتعمق فى اكتشاف علومها وتخصص بالترجمة عنها، ولكنه لم يكتف بالترجمة بل قام بالتأليف والدعوة للتحديث، واستلم مهام رسمية وإعلامية متعددة.
يعبر عصره عن مرحلة انتقال مناطقية وعالمية بين عصر الثورة الصناعية والاستعمار، حيث بدأت ثمار التقدم الغربي تشكل منظومات اقتصادية وسياسية رأسمالية غربية، لا تزال خاضعة لرأسمالية المنافسة والحريات الداخلية، والتوسع التجاري على الصعيد العالمي، وهذا ما أدى الى أن يكون خطاب الطهطاوي مرتبطاً بهذه العملية من العلاقات التجارية والتعاونية العالمية، وإن كانت صراعات الدول الرأسمالية الغربية أخذت بالبروز، وكانت الحملة الفرنسية على مصر فى طفولة الطهطاوي قد عبرت عن هذه الإرهاصات في التحول من مرحلة الرأسمال التجاري الى الاستعمار.
ولهذا فإن وعي الطهطاوي لم يتشكل في مرحلة الصدام بين الشعوب والاستعمار، وكانت الدولة المصرية، عبر مشروع محمد علي قد راهنت على تطور تحديثي مستقل وناجز. وقد تشكل وعي الطهطاوي فى ظل هذا المشروع السلمي والحالم والمبذر كذلك.
فقد واجه مشروع محمد علي الأشكال الفظة من النظام الإقطاعي القديم الرث، لكنه لم يقم بتغير شامل له، بل فتح المجال لتملك الأرض بشكل شخصي واسع، للأسر الأرستقراطية الألبانية والتركية، وقام بخلق قطاع عام لصناعات حربية فى الغالب، وشكل هذا التحديث المحدود للنظام الإقطاعي الديني. وقد أدت أعماله العسكرية الى استهداف مصر للاحتلال بشكل خاص.
ولهذا كله فإن وعي الطهطاوي سيكون محكوماً بوعي هذه المرحلة التاريخية، وباستيراد التقنيات والعلوم المفيدة في هذا التطوير للنظام القروسطي العربي فى مرحلة جديدة.
من هنا كان وعي الطهطاوي يردد باستمرار دور الحاكم المطلق فى تشكيل النهضة، يقول: «فإننا كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد تمدناً، ورفاهية، وتربية زاهرة، وسبب ذلك أن الخلفاء كانوا يعينون العلماء وأرباب الفنون وغيرهم»، تلخيص الإبريز، دار المدى، ص15.
هذا الذكر لدور الحكم المطلق في إنتاج النهضة، التي تتم من خلال دعم الخلفاء للعلوم، هو إنتاج لوضع المرحلة التي يعيشها الطهطاوي في مصر حينئذٍ، عبر دور أسرة محمد علي في إنتاج نهضة، يفترض أن تكون مماثلة للنهضة العباسية. أو إعادة إنتاج لها، وهذه المرة لا تأتي العلوم من قبل الإغريق بل من خلال الفرنسيين.
وكما تغيب شروط نهضة العباسيين عن وعي الطهطاوي، إلا من خلال الدور الفردي للمأمون، أو لغيره من الخلفاء، فكذلك تغيب شروط الاتصال مع اليونانيين، من حيث بنى المعرفة المنقولة ودور الوسطاء في عمليات النقل، وطبيعة هذه المواد المنقولة، وأثارها.
ولا تظهر عملية النهضة هنا سوى فى أدوار الأفراد، والحالات المشتركة من الازدهار بين عصر المأمون وعصر محمد علي، أما طبيعة العصرين المختلفة بين نظام إقطاعي مركزي عربي إسلامي يبدأ رحلة التدهور، ونظام إقطاعي مصري وطني في طور دخول التبعية، فهي لا تظهر لمثل هذا الوعي، بأدوات معرفته التقنية، بل يظهر المشترك بينهما وهو نمو النظام الإقطاعي بشكل نهضوي عبر تشجيع العلماء وترجمة الفكر، وهي عوامل جزئية محدودة مفصولة عن البناء الاجتماعي العام.
يدرك الطهطاوي تطور الحياة الاجتماعية التاريخية للبشر، عبر قوانين الصدف المحضة أوعبر التدخلات الإلهية، فهو يفسر اكتشاف النار في بدء التاريخ فيقول: «ثم حصل اتفاق أن بعضهم رأى شرارة نار من الصوان، بمصادمة حديدة أو نحوها ففعل مثل ذلك، وقدم وأخرج النار وعرف خاصيتها»، تلخيص ص ١٣.
رؤيته للصدف كعامل دائم في تشكيل التاريخ لا يتضاد مع إعطائه للتدخلات الإلهية ذات الدور، ولكن الجانبين يعكسان غياب معرفة السببيات المتداخلة لنمو التاريخ، وهكذا فإنه ينتزع من المواد المعرفية الفرنسية والأوروبيه عموماً، ملاحظاتها الصغيرة والمعزولة عن تشكل الحضارة، والطهطاوي لا يكتفي بعرض تاريخ النار، بل يقوم بعرض تاريخ المدنيات عرضاً سريعاً يقتطف بعض الجوانب الجزئية من التاريخ البشري، كتقسيمه الصحيح للتاريخ باعتباره ثلاث مراحل أساسية هي: المرحلة الوحشيه، والبربرية، والمرحلة الحضارية. وهو تقسيم مهم نجده عند علماء الانثربولوجيا، ولكنه هو يأخذه كطرفة، ولا يقوم بدراسة للعرب والإفرنج من خلاله.
ولهذا فإن كتاب تلخيص الإبريز لا يأخذ طابع الدرس المقارن بين الشرق والغرب، رغم تصنيفه، للعرب بأنهم بين البربرية والتحضر، حيث يُعطي الجزيرة العربية الوصف الأول، ويُعطي مصر والهلال الخصيب الطابع الثاني، مدركاً الفروق بين مستويات التطور العربي، وتقوم الرحلة بعرض الفروق بين تحضر مصر والعرب وتحضر أوروبا وقتذاك.
وكما رأينا سابقاً، فبؤرة العرض السياحي تقع في مسألة النهضة من خلال شروطها الفردية غير الاجتماعية، أي أن النهضة مرتبطة بإرادة الحكام، ومن هنا يغيب تاريخ مصر السابق، أي كل تلك التطورات التي أدت إلى مجيء محمد علي وتغيب الازمة المحتدمة في الدولة العثمانية والمنطقة، وتغدو النهضة على طريقه قوله: «فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الامثال الحكيمة: الناس على دين ملوكهم»، السابق، ص ١٦.
ولهذا فإن الطهطاوي يضيف بأن المتولي على بلاد مصر أراد ان يُرجع «إليها شبابها القديم، ويُحيي رونقها الرميم»، فهذه الإرادة الفردية المطلقة هي التي تصنع النهضة، عبر إحضار «أرباب الفنون البارعة، والصنائع النافعة، من الإفرنج، ويغدق عليهم فائض نعمته».
ولا يقيم الطهطاوي هنا قراءة لطبيعه هذه المهن والصناعات وعلاقاتها بالبناء الاجتماعي، حيث هي مرتبطة بالجوانب العسكرية وتقوية نفوذ الدولة وشرائحها المتنفذة، ولا علاقة هذه الجوانب النهضوية المفيدة حقا بالبنية الاقتصادية العامة، ولكنه يأخذها كأقوال عامة وجمل إنشائية، كقوله: «وبالجملة والتفصيل، فإن الوالي آماله دائماً متعلقة بالعمار، ومن الحكم المعروفة العمارة كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل إنسان على همته،»، السابق، ص١٧.
لكنه بطبيعة الحال يلمح طابع النهضة الراهنة في مصر حينئذٍ فيرى «ترتيب العساكر الجهادية من (الايات) ومدارس حربية» وبالتأكيد فإن مشروع محمد علي كان ذا طابع عسكري، وكان من الضرورة نموالعلوم الطبيعية والصناعيه المختلفة، أي كل ما يسرع من نمو آله الدولة الحربية، لكن إلى أي حد كان هذا الطابع يسمح بنمو الصناعه المستقله وبالتالي يغيب أو يضعف من هيمنه الدولة الإقطاعية العسكرية، فإن ذلك يبدو غير مرئي في وعي الطهطاوي وهو يشارك في هذه العملية التاريخية.
وتسمح هذه العملية التاريخية من جهه أخرى «بنشر العلوم والفنون الآتيه.. وبكثرة تداولها، وترجمة كتبها وطبعها في مطابع ولي النعم»، والمقصود بالفنون هنا هي العلوم الفنية، والتقنيات المختلفة، وكل ذلك يجري في أفق الوالي ومطابعه.
تتوارى أسباب انهيار الحضارة العربية وأسباب تشكل الحضارة الغربية في وعي الطهطاوي، فهو يربط الحضارة العربية وتشكلها في إحدى طرائفه بالرحلات، فهو يعتقد إن النهضة وليدة نشاط الناس التنقلي ورحلاتهم فيقول: «ثم لما خمدت عندهم أنوار هذه المعارف وأهملوها، ازدارءً لها، أو لسبب آخر، قلت سياحاتهم، وقامت مقامهم طوائف الإفرنج وبرعوا في ذلك، واستفادت الدولة والرعية الفوائد الجسيمة، بالأمور السياسية والتجارية».
إن ملاحظته حول أهمية الرحلات في تحريك الحضارة قد استقاها من عصر الكشوف الجغرافية الغربي الذي لعب دوراً بارزاً في الانتقال من عصر النهضة الثقافي والتنويري إلى عصر الثورة الصناعية، وعبره تدفقت الموارد الذهبية والمعادن إلى أوروبا واتسعت الأسواق، ولكن الطهطاوي يأخذ ذلك الجانب الجغرافي مفصولاً عن البناء الاقتصادي والتاريخي والثقافي العام، ولعله يتخيل انه عبر رحلته إلى فرنسا التي يكتب عنها في كتابه هذا، سوف تحدث ذات العملية النهضوية العميقة التي حدثت في أوروبا، خاصة مع المظاهر التي لاحظها من ازدهار التجارة والعمارة في مصر، خاصة بعد تصدى الحاكم لإحياء المعارف..
تعرقل عملية البحث هذه طريقة الكتابة لدى الطهطاوي التي تتسم بالتفكك والتجميع بين أساليب شتى متضادة، فهناك الدرس والملاحظات العلمية وادخال الطرائف و المُلح والأشعار، وهي عملية تعبر عن تغييب الحفر المعرفي في المادة، وبالتالي تغيب عمليات التحليل والمقارنات والاستنتاجات العميقة.
يقول رضوان السيد في تعليقه حول طريقة النهصويين الاوائل: «إن هذا الأمر كان معروفاً بين المعاصرين للطهطاوي، أي الاستطراد، وإدخال الأخبار والأمثال والأشعار في المؤلفات أياً تكن موضوعاتها. . » لكن الطهطاوي مضى في ذلك إلى آفاق أبعد من هؤلاء جميعاً؛ بحيث تضيعُ أحياناً معالم الموضوعات التي يعقدُ عليها الكتاب في سيل لا ينقطع من الاستشهادات والاستطرادات التي تكاد لا تنتهي»، حضور التراث العربي في كتابات الطهطاوي، مجلة الاجتهاد، العدد الخامس والخمسون والسادس والخمسون.
وفى الواقع فإن طريقة الازهريين فى البحث هي طريقة التراثيين التجمعيين، والذين تنقصهم أدوات التحليل المركبة، أي أدوات العلوم الحديثة المترابطة، وبالتالي يغدو الموضوع رحلة على مستويات مختلفة، رحلة إلى التراث والشعر وإلى فرنسا وعاداتها الطريفة وأوضاعها السياسية والحضارية المتقدمة.
أما عملية الربط بين الأوضاع العربية السابقة والراهنة والرحلة، فهي أمر غير ممكن بأدوات التعبير والتفسير المسيطرة وقتذاك، والتي تعكس طريقة فى التفكير والمواقف الاجتماعية، حيث الموظف، سواء كان مثقفاً على طريقة الطهطاوي أم رئيساً للرحلة، خادماً للسيد المتواري، وهو الدولة.
ويقول رضوان السيد بان طريقة التأليف هذه هي: «للتاكيد على البقاء في السياق الثقافي الكلاسيكي العربي والإسلامي، واجتراح التقدم في الوقت نفسه»، ولكنها في الحقيقة ليست مثل كل كتابات المؤلفين العرب الكلاسيكيين، أي هي بخلاف كتابة ابن خلدون التحليلية العميقة في المقدمة، فهي أقرب لكتابات الجاحظ، فهي عودة لبواكير الكتابة العربية النثرية.
إنها لغة المثقفين المرتبطين بسلطة نهضوية مستبدة، والتي لم تتكشف تناقضاتها الاجتماعية والسياسية بعد، والتي تمس رؤوس الموضوعات الكبيرة بشكل عابر، وهذه الطريقة تسمح لها بمدح الدكتاتور النهضوي وجلب الموديل الغربي في جوانبه غير المضادة للشريعة.
إن الطهطاوي في رحلته التي استغرقت عدة شهور براً وبحراً إلي عاصمة فرنسا، باريس، كان يقطع مسافة زمانية تاريخية كبرى بين عصرين، وهو إذ يأخذ تبدل أوجه المكان، لا يأخذ سيرورة الزمان، وكأن الفروق بين القاهرة وباريس، هي فروق كمية، وبضعة ميزات سياسية واقتصادية من الممكن نقلها، وليس الأمر في وجود بنيتين اجتماعيتين مختلفتين.
ومن هنا يقوم بعرض كل ما يصادفه من مظاهر الحياة في إيطاليا وفرنسا، من الأشجار والبراكين وطريقة الأكل والأدوية والتعليم والمدن والحياة السياسية، فتغدو الفصول مشاهدات، وليس مقارنات وتحليلات، ومن هنا يقوم بعرض الدستور والبرلمان والحكومة كما يعرض قضايا الصيدلة والنظافة.
ومن الواضح ان هذا العرض بحد ذاته كان مثل عاصفة للوعي العربي، فهو يقدم لأول مرة خريطة التمدن الشاملة في أوروبا. ويتيح له هذا العرض المحايد البانوارمي عدم الدخول في صراع مع السلطتين المهيمنتين: الدولة ورجال الدين. ولا شك أن أي عرض تحليلي ومعمق للديمقراطية على مستوى السلطتين السياسية والروحية، ما كان بإمكانه الظهور.
لكن كان الطهطاوي ينساب مع المهمات البسيطة والصغيرة للتمدن، ولا يحفر في اتجاه تحويلي عميق، ولهذا فإن عرضه للبرلمان والدستوروالديمقراطية والصراع السياسي يشكل أحد فصول الكتاب، لا أن يكون محور الرحلة وجوهرها.
ويقيم الطهطاوي بإيجابية دور البرلمان المنتخب، والذي كان محاطاً بسلسلة من السلطات التي تفرغ دوره فهو يقول عنه: «ووظيفة ديوان رسل العمالات غير متوارثة، ووظيفته امتحان القوانين والسياسات والأوامر والتدبير والبحث عن إيراد الدولة ومدخولها الخ..»، وهذا التحجيم للبرلمان والذي مارسته الملكية العائدة بعد هزمة الثورة الفرنسية، لا يقوم الطهطاوي بتشيريحه، فهناك عشرات الدواوين الملكية والحكومية ومجلس الأعيان.. الخ، والتي حصرت دور البرلمان في مناقشة قضايا الصرف والمكوس على حد تعبير الرحالة العربي.
ولكن الكاتب بعدئذ يذكر المواد الدستورية التي تُفرغ ذلك المجلس من سلطته التشريعية الحاسمة، فالملك هو الذي يستطيع أن «يبطل ديوان رسل العمالات»، أي البرلمان، ولا يسن شيئاً إلا إذا «رضي به الملك.»
ويدرك الطهطاوي في خاتمة المطاف أن العدل «في قطر من الأقطار فهو نسبي إضافي لا عدل كلي حقيقي»، ص 101.
لقد قامت الملكية العائدة في فرنسا بعد هزمة نابليون بإعادة النظر في الدور المحوري للبرلمان، والذي تعرض للتقلص في المرحلة الإمبراطورية كذلك، وفي فترة سفر الطهطاوي لم تحل بعد ثورة 1830 التي أعادت الحياة الديمقراطية بشكلها الاول.
وبطبيعة الحال كان هذا المستوى من التطور الفرنسي مناسباً للدولة المصرية الملكية التي يغيب عنها البرلمان، وبهذا كان نموذجها الذي يسوقه الطهطاوي مفيداً لمرحلته وعصره. فهو قادم من ملكية دكتاتورية إلي ملكية دستورية محدودة.
ولكن الأهم هو السياق الحضاري الحديث بمختلف جوانبه الذي يعرضه عرضاً يبدو محايداً.
كان نموذج النهضة الذي يقدمه الطهطاوي في رحلته وفكره هو هذا النظام البرلماني المحدود والحديث، مقطوع الصلات بالتحليل التاريخي والسياسي، ومطروح كنموذج للنهضة والتقدم لأمة تبدأ في الوعي والتفتح.