خلافاً لما يدبجه علماء الاجتماع والاقتصاد السطحيان في المنطقة علينا أن نقرأ تطور الإنتاج بصورةٍ مغايرة، مبتدئين من جذور هذا الاقتصاد، من اقتصاد الغوص.
فيبدو في وعي هذين (العلمين) أن التجارة هي التي سببت ثروة المجتمع وازدهاره الاقتصادي. يقول باحث (أما المصدر الثاني الذي زاد من ثراء البحرين وأهميتها التجارية فهو التجارة، فقد كانت تملك أسطولاً كبيراً من السفن، مما جعلها على علاقات تجارية مهمة خاصة مع الهند بل أصبحت البحرين مركزاً لتوزيع البضائع داخل الجزيرة العربية..)، (تاريخ البحرين، فائق حمدي طهبوب، دار ذات السلاسل، ص ٣).
إن الغوص والتجارة يصبحان فرعين بلا علاقة عميقة هنا، لكن التجارةَ تعيشُ على نمط الإنتاج. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، قامت القبائلُ المتنفذة في الخليج بالتركيز على تملك ثروة اللؤلؤ، فجثمت قرب السواحل مستفيدةٍ من قدرتها المسلحة على السيطرة على القبائل الأضعف وعلى القرويين فظهرت بدايات المدن – الدول، فكان البحارة في هذا النمط عبيداً بشكل تام، وكانوا يعملون مقيدين أحياناً، وبالتالي كانت ثروة الغوص على اللؤلؤ تذهب بشكل شبه كامل الى المسيطرين في القبائل.
إن السيطرة على الثروة المادية كانت تستتبع الوجود السياسي فآل مذكور القبيلة العربية العمانية التي حكمت البحرين ردحاً من الزمن كانت تقيم في أبوشهر (ولم يكن احتلال آل مذكور للبحرين يحمل في طياته أي أهداف سياسية وإنما أردوا فقط الاستفادة من مغاصات اللؤلؤ الغنية..)، المصدر السابق.
كانت علاقات الانتاج الرقيقية هذه تستدعي علاقة استغلال عبودية لأفريقيا، التي كانت تنتقل إلى العالم الغربي، فراح يمنع هذا النزيف البشري خارج سيطرته. كما أن وجود منتجين عبيد لم يكن في مصلحة تطور الإنتاج، كذلك فإن تدفق القبائل العربية (الحرة) في هذا النمط بشكل متدرج يتعارض مع العبودية، مما أدى إلى أسلوب آخر يجمع بين القديم وبين الأسلوب الإقطاعي الذي ظل يهيمن.
كان احتكار السيطرة على اللؤلؤ وإنتاجه بشكل عبودي قد سبب في فوضى سياسية واضطرابات اجتماعية، فهو يعني كذلك احتكار السلطة والتجارة والسيطرة على الأساطيل البحرية وتملك الأراضي الزراعية الخصبة، وقد كان بعض ذلك ضد مخططات الاستعمار البريطاني، الذي عمل على تفكيك سيطرة القبائل الحاكمة على مصادر الثروة الكبيرة هذه، من أجل خلق استقرار لسيطرته السياسية المتصاعدة، مما قاد إلى أن تظهر الأشكال القبلية من الغوص، حيث تقوم أفخاذ قبيلة أو أهل قرى معينة بالعمل المشترك، وهو أمر أدى إلى استقرار وتطور في الإنتاج، ونرى ذلك ينمو بتوتر وانقطاع وديمومة كذلك خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
لكن هذا الشكل القرابي الأهلي من الإنتاج راح يفتت القبائل بين غاصةٍ وبحارةٍ منتجين وبين ملاك للسفن ومستثمرين لقوة العمل. إن الأحياء في المدن الوليدة وفي القرى كانت أفخاذاً قبلية، ولم تتشكل عملية الانصهار المدني إلا بعد فترةٍ طويلة.
رغم تفكك قوى العمل من الحديد إلا أنها لم تتفكك من القيود، فالأنصبة المحددة بين المنتجين والمالكين كانت الشكل الأولي من هذه القيود، فالغاصة يتساوون مع الربابنة والسفن في توزيع الحصص.
وبدءاً يقوم الغوص على جهد الغواص، فكل التجهيزات المادية لا قيمة لها من دون بحار يسبح تحت الماء مدة معينة، وهذه السباحة الصعبة، يُمنع استخدام الأجهزة التنفسية فيها، حسب هذا الطابع البدائي من الإنتاج، وعلى الغواص أن يجمع أكبر كمية من المحار وأن يعود ثانيةٍ وثالثة إلى القاع منذ الفجر حتى المساء!
وبهذا فإن الغواص هو الذي يقوم عليه كل جهد الإنتاج وما البحارة المساعدون سوى تكملة ثانوية لهذا الجهد، فهو الذي يُحضر المادة المستخرجة، والغواص لا يصنع مادةٍ، بل هو مُستخرج هنا، مثلما يفعل الفلاح بقطف التفاح أو القطن أو مثلما يفعل العامل في استخراج الفحم، فتكمن قوة العمل في البحث عن المادة بين أسماك القرش واللجج وغياب الأوكسجين وعبر الإنهاك المستمر، لكن بخلاف التفاح الرخيص، حيث أن اللؤلؤ مادة ثمينة، وبخلاف الفحم أيضاً فهو لا يدخل في عملية الإنتاج مرة أخرى؛ فلا يتوجه لمعامل بل يذهب الى السوق مباشرةٍ، ويتحول إلى زينه، ومن هنا فاللؤلؤ يتبخر من بنية الإنتاج فيتألق في أعناق الحسان، ووراء الواجهات الزجاجية لمحلات التجار والماليين!
إن الغاصةَ الذين ينتجون فائض القيمة هم الأكثرية في قوى العمل وهم زهرة المنتجين، فالشباب يتوجه للغوص، وليس لمساعدة الغواص على الظهور من الماء وسحبه. هذا هو دور المساعدين، فالمساعدون هم من غير الشباب، وهم الذين سبق أن غاصوا، فكبروا، وبذلوا قوى عملهم السابقة، لكنهم انحدروا إلى مواقع إنتاجية مساعدة، أقل قيمة، ففقدوا قدراتهم الماهرة وربما فقدوا صحتهم وذروة عطائهم.
وهكذا فإن الغواصين هم قاعدة الإنتاج، والذين يقدمون زهرة شبابهم في استخراج المادة الثمينة، ورغم هذا الجهد تحت الماء، لكن ربابنة السفن لا يعفونهم من الأعمال الأخرى كفلق المحار مع البحارة الآخرين أثناء الليل وفي أوقات عدم الغوص.
إن قوة العمل المبذولة هنا في أصعب ظروف الإنتاج وأخطرها، تحصل على مقابل هو الحصة نفسها التى يحصل عليها الربان نظير قيادته العمل، ونظير وجود السفينة التي عملتْ هي الأخرى بأن حملتْ البحارة للبحر وأخرجت من داخلها الحبال، ووقف على خشبها العاملون واشتغلوا، فهي الأخرى تضيف من مادتها إلى السلعة، لأنها تُستهلك، وتحتاج إلى صيانةٍ ومواد الخ.. فهي رأسمال ثابت، بعضُ أجزائها يتلفُ أثناء الموسم ويدخل مباشرةٍ في القيمة، والجزء الأعظم منها يبقى عاملاً، وحاصلاً علي جزء من فائض القيمة بشكل متكرر.
ولهذا فإن مالكي السفن يأخذون جزءاً من الفوائض بلا عمل، وقد يكونون من الربابنة وقد يكونون من التجار الخ..
إن المواد التي تدخل في معيشة الغواص وبقية البحارة هي مواد ضئيلة القيمة، مثل المواد الغذائية الرخيصة؛ (أرز، وسمك يصطاده البحارةُ أنفسهم، وسكر، ودهن، وتمر)، كما أن الغواص يسكنٌ كوخاً مستأجراً في الغالب، ولديه زوجة وأبناء لابد من إعالتهم، لكي يتجدد الإنتاج ويستمر، ونمط الكوخ هذا الذي يجسد عائلة صغيرة يواكب التطورات في بنية الإنتاج، حين تفككت الأسرُ الكبيرة وصار نمط الغوص معتمداً على طبقة منتجين وليس على عائلات كبرى.
كذلك فإنه لا توجد نفقات تعليم وصحة وتدريب فالغواص يتدرب منذ طفولته في البحر من دون أي نفقات من إدارة الإنتاج الخ، وهذا مما يؤدي إلى سهولة إعادة إنتاج الغواص بهذه المواصفات، فيغدو أجره تافهاً، حيث لا توجد دفاتر دقيقة لضبط الأجور وأثمان السلع، فالأجور وشراء السلع تغدوان عملية واحدة في أغلب الظروف، لأن مالك السفينة أو ربانها هو الذي يسلفُ البحارَ السلعَ الضرورية لمعيشته ومعيشة عائلته، ويتجسد ذلك عبر (الدَّين)، ثم يتم شطب مبلغ الدين هذا في اخر عملية الإنتاج، فيظهر الغواص بمبلغ ضئيل، وفي غالب الأحيان يغدو مديوناً.
قد يكون مالك الدين هو الربان، وقد يكون تاجر السفينة، أو تاجر اللؤلؤ، ولكن تتشكلُ هنا طبقةٌ دائنةٌ عموماً، تقدم المواد الضرورية لإعالة المنتجين، التي تقتصر فقط على الضروريات الشديدة الارتباط بالتوالد الجسدي والبقاء، وبهذا فإن الطبقة الدائنة المتعددة الأوجه هي التي تتسلم أغلبية حصيلة الإنتاج وتقسمه بينها عبر هذا الشكل من التداخل بين الإنتاج والاستهلاك، بين بيع السلع الضرورية لإعاشة المنتجين وأسرهم وبين سرقتهم.
ففرعها الداخل في عملية الإنتاج يدخله كإدارة، دورها تنظيم عملية الإنتاج، عبر توسيع يوم العمل إلى أقصى مدى ممكن، فحنينه إلى تحويل الغواصين إلى عبيد حنين لا يتوقف.
إن تنظيم عملية الإنتاج هو نفسه تنظيم عملية الاستغلال، فعلى إدارة الربان تتوقف عملية الغوص برمتها، ومن هنا تتطلبُ مهنةُ الربانِ مواصفات كبيرة من حيث الثقافة العملية كمعرفةٍ واسعة بالبحر وبالمصائد وباختيار المواقع والرحيل عنها الخ.. وأن تكون لديه خبرة بنظام السيطرة عبر تقسيم العمل وكيفية زيادة الإنتاج وتقليص النفقات. و يتضمن ذلك نظام السيطرة الاجتماعية عبر خبرة الربان بربط البحارة حوله وتفكيك علاقاتهم المناوئة لسيطرته ولنظام الاستغلال الفظيع هذا.
إن تداخل الديون بالأجرة في نظام الغوص يجسد أنظمة الإنتاج لما قبل الرأسمالية. فليس ثمة هنا أجر بل حصة، والمحاصصة شكلُ من أشكال الاستغلال الإقطاعي. ففي هذا الإنتاج تتحول عملية توزيع الحصص إلى كارثة على المنتجين، فالعملية تبدأ بتسليف البحارة على أن يأخذوا حصصاً، تنتهي بوجود ديون متراكمة عليهم تجعل حصصهم متبخرة.
إن البحارة هم الذين يوجدون فائض القيمة عبر ظهور اللؤلؤ الثمين، وعبر قيام الملاكين المتعددين ببيعه، فتعودُ أقسامٌ من هذا الفائض إلى إدارة السفينة، إدارة المصنع البشري هذا، ويعودُ قسمٌ إلى مالك السفينة، ويمضي قسمٌ للتاجر المتعامل بتسويق هذه المادة في السوقين المحلية والعالمية. وكلما ابتعدت المادةُ الثمينة عن المنتج لها زاد سعرها، فهي بضع مئات من الروبيات حين ترتاح في قبضة الربان، لكنها تتحول لدى التاجر البحريني أو الهندي، إلى آلاف الروبيات، وكأن فيها سحرا خاصا يؤدي إلى زيادة قيمتها!
إن اللؤلؤ هو بضاعة قيمتها حسب قوة العمل الاجتماعي المبذول فيها، لكنها مثل الذهب والماس، كما أنها للزينة، وذات خصائص طبيعية نادرة، لكن القبائل في العالم الثالث كانت تبيع الماس كما لو كان زجاجاً، فقط لأسلوب عيشهاً، ورخص قوى عملها، وهذا ما كان يشكل السحر.
وهذا السحر غير موجود بين الوسطاء، ولكنه موجود في ساعد الغواص، فهذا هو الذي أنتجها للإدارة من دون أن يحصل إلا على شيء زهيد من قيمتها. ولا تكلف قوة عمله وإعادة إنتاجها سوى تلك المبالغ التي رأينا صرفها على المواد الضرورية لإعاشته وتجديد نسله وحتى الترفيه لا يكلف شيئاً فهو غناء جماعي يزيد الإنتاج.
وإذا قسنا قوة العمل المنتجة البحرينية في القرن التاسع عشر فسنجد أرقاماً كبيرة، فقد بلغ عدد السفن سنة 1833، 1500 سفينة، وكان إيراد البحرين يبلغ من الغوص في السنة نفسها 3,240,000 روبية.
ويقول زويمر: إن عدد السفن التي تشترك في الغوص سنة 1896 كان 900 سفينة، وعدد البحارة هو 30 ألفاً.
عبر إنتاج هذا الزمن تتشكل قواعد البلد من بيوت ومدن وقرى، لكن أغلب هذا الإيراد يذهب الى غير المنتجين. وفي الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي يتدهور شيئاً فشيئاً هذا الإنتاج، فكان عدد السفن في سنة 1926 هو 515 سفينة، وعدد البحارة 19250 ثم راحت قوى الإنتاج البحرية تتضاءل بنقص الرجال ونقص السفن.
توجهت فوائض الإنتاج الذي رأيناه متوسعاً ثم متقلصاً إلى إدارات الإنتاج العملية والحكومية والتجارية والدينية، بأنصبة متعددة، واستطاع الوسطاء في نهاية المطاف أن يحصلوا على أكبر هذه الفوائض، ومنها تكونت العائلات التجارية والأدارية الكبيرة.
إن التجارة راحت تنمو على فروع الغوص، فهي تجارة بحرية متخصصة في البداية بمواده من خشب وحبال ونسيج وحديد ومؤن، ومن هنا غدا أصحاب (العمارات) مشاركين تجاريين في عملية الإنتاج، ويأخذون حصةٍ من الفائض النقدي، وهناك الدكاكين التي تقدم السلع الضرورية للمنتجين، وعمارات ومتاجر المواد الأولية للسلع الفاخرة، كمواد بيوت الأغنياء والزينة والعطور الخ.. ومع زيادة حصص التجار من فائض القيمة البحري وتطور التبادل يتحول التجار إلى السلع المستوردة الحديثة كالأجهزة الكهربائية، وهو فرع مماثل للسلع الفاخرة، غير الضرورية في زمن الغوص فقط، ليتصاعد دوره في اقتصاد النفط.
إن تجار المواد الضرورية تظل دائماً في خلفية السوق يشكلها التجار الصغار، في حين يصعد لدور تجار مواد الترفيه والسلع الثمينة، وهم الذين طلعوا من تجارة الغوص، لكن روبياتهم كانت مجردة لا تعكس شقاء الغواصين، غير أن فائض القيمة البحري ذاك هو الذي أسس تجارتهم، ثم تقود الفوائض إلى تغيير السلع المتاجر بها، حسب طلبيات السوق والاستهلاك، وهو أمر يعكس نمو الفئات الوسطى والغنية المرفهة، التي حصلت على حصص كبيرة من الإنتاج، وخصصت قيماً محدودة منه لرفاهها، ولتغيير نمط منازلها وحياتها، مما أدى إلى توسع السوق، وصعود دور هذه الفئات سواء من الناحية التجارية أم الفكرية والسياسية.
لكن الغواص ظل في خلفية المسرح والحياة ناقلا شقاءه إلى ورثته من العمال الصناعيين القادمين في زمن النفط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصدر قريبــاً: عبـــــــدالله خلــــــــيفة ــ إضاءة لذاكرة البحرين ـ الفصل الأول من الكتاب .
> البحرين في بدء التحديث
> فائض القيمة البحريني
> القحط في زمن النفط
> فائض القيمة والاقتصاد السبعيني
