تداخلت عمليات تدهور الزراعة واشتداد الطلب على الأراضي وصعود رأسمالية الدولة وتدفق العمالة الأجنبية، لتكون ظواهر متداخلة مركبة.
فإذا كان الفائض النقدي الناتج من النفط قد ساهم مساهمةٍ كبيرة في صعود رأسمالية الدولة كأكبر رأسمالية لكونها تقوم على ملكية عامة في قطاع النفط خاصةٍ، فإن هذه الرأسمالية الحكومية تحكمت في تشكل جميع القطاعات الأخرى وحددت أحجام قوى العمل المختلفة.
كان قطاع الزراعة أكثر المتأثرين بهذا التبدل في أسلوب الإنتاج، حيث تبدل من الاعتماد على قوى العمل الحرفية في البحر والزراعة والحرف، إلى الاعتماد على استيراد مواد من الخارج أو تصديرها، والقيام بمعالجات متعددة، من المعالجة البسيطة كما في النفط إلى المعالجة المركبة كما في الألمنيوم.
(وبالتحديد انخفض عدد البحرينيين العاملين في الزراعة من 7,6 لعام 1959م إلى 5,4 لعام 1965م ومن ثم إلى 2,9 لعام 1971م، ويقابل هذا الانخفاض في نسبة العمال البحرينيين ازدياد نسبة العمال الأجانب في الزراعة من 0,7% لعام 1959 م إلى 1,8 لعام 1965م ومن ثم إلى 3,1 لعام 1971م)، (القبيلة والدولة في البحرين، ص 215).
إن الحرف الشعبية مصدر قوى العمل الوطني تتدهور بينما تزدهر سلع الرفاه كالعطور والمجوهرات والزينة ثم السلع المستوردة بشكل واسع.
إذن التمركز فيما يسمى بالمدن يجري بصورة سريعة ملغياً المناطق الزراعية المجاورة خاصةٍ، فتصبحُ نسبةُ سكان المدن سنة 1971 م حوالي 78% من المجموع الكلي للسكان، وهذا يؤدي إلى تصاعد سعر الأرض بشكل متدرج في المكان والزمان، فيقود تدهور الزراعة إلى زوال دواليب النخيل وبالتالي ترتفع أسعار الأرض لاستخدامها في أغراض اقتصادية مختلفة كالمنتجعات والفلل، كما يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار أراضي المدن، فارتفع سعر المتر (من دولارين في عام 1946م إلى 100 دولار في عام 1970م) وفي الريف من نصف دولار إلى 50 دولاراً، وفي سنوات الستينيات والسبعينيات تصاعدت مزارع الخضار على حساب زراعة النخيل، فمن 150 مزرعة سنة 1952م إلى 576 سنة 1959م.
إن هذا يؤدي على كل الجهات إلى تدهور قيمة قوى العمل العادية الزراعية والبحرية والحرفية، وهو ما يشكلُ فيضَ السكان الذي يقود إلى ازدياد العرض من قوة العمل.
وأتاحت أسعارُ النفطِ المرتفعة منذ أوائل السبعينيات للفيضِ النقدي الناتج من قوة العمل النفطية للمؤسساتِ الحكومية أن تنوع القاعدة الاقتصادية، فبدأ مصهر الألمنيوم عام 1972م بطاقة قدرها 90 ألف طن في العام مستخدماً 500 عامل فني ويدوي، والحوض الجاف سنة 1977م، إضافة إلى مشروعات النقل كالمطار والبنى التشييدية المختلفة. وذلك جرى أيضاً بجلب رؤوس الأموال العربية والأجنبية.
ومع وجود فيض سكاني من قوى العمل الرخيصة لكن ازدادت في الفترة نفسها عمليات جلب العمالة الأجنبية بشكل واسع، (فكانت نسبة هؤلاء في قطاعات العمل المختلفة على النحو الآتي: 8,45% في قطاع البناء، 37% في قطاع التجارة، 4,33% في الصناعة والتعدين، 6,4% في الخدمات العامة، وبين 33% و25% في قطاعات العمل المختلفة كالزراعة وصيد الأسماك والنقل والتخزين والمواصلات)، (السابق ص 217). ويمكن إدراج في هذا النوع من التطور صناعة الحديد التالية الخ..
يُلاحط على هذه الأرقام والنسب للفترة بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أن الفائضَ النقدي النفطي سواء أكان محلياً أم عربياً، أتاح سرعة بناء مؤسسات اقتصادية مُختلقَّة، أي لا يوجد لها أساس اقتصادي متجذر، فهي منقولةٌ من الخارج، وعمليات النقل هذه لا تتفرد بها المنطقة بل هي عالمية، حيث يقوم الرأسمال الغربي الكبير بالتخلص مما يُسمى غربياً بصناعات (النفايات)، فهذه الصناعات المعدنية تأخذ حيزاً جغرافياً واسعاً ولها ملوثاتٍ كثيرة على البيئة، وتحتاج إلى قوى عمل كبيرة نسبياً، وهي تعكس مستوى متخلفاً من قوى الإنتاج المتجهة نحو التقنيات بفعل الثورة التقنية الجارية.
وهنا نلاحظ العلاقة بين تدهور الحرف الشعبية من صناعة السفن والزراعة بجلب الصناعات الكبيرة التي سوف تأخذ مساحات جغرافية كبيرة كذلك فإن هذا مرتبط بمكانة جهاز الدولة المحورية وبجلب العمالة الأجنبية الرخيصة.
إن نمو العمالة الأجنبية في قطاعات البناء خاصة إلى ما يقرب من نصف عدد العمالة الأجنبية ككل، يعبرُ عن طابع العمالة غير الماهرة المنتشر والكثيف. لكن النسبة تنزل إلى 37% في قطاع التجارة حيث أن هذه العمالة هنا عمالة غير بسيطة، وفنية، وإدارية، وهكذا فإن القطاع العام والقطاع الخاص يقومان بأوسع استفادة من طابعي قوة العمل، لتكوين فوائض نقدية كبيرة.
(وتبين لنا من دراسة بعض الحالات الخاصة أن العامل قد يُستأجر في الهند بمبلغ 75 دولاراً أمريكياً في الشهر ثم يُؤجر في البحرين بمبلغ 125 دولاراً إلى سمسار عمال الذي بدوره يؤجره بمبلغ 200 دولار وهكذا دواليك. وفي عام 1975م عرفتُ بعض العمال الذين أجروا مرتين أو ثلاث مرات، وفي كل مرة يحصل الوسيط على ربح يجنيه بعرق جبين العامل الأجنبي)، (السابق ص 218-219). بطبيعة الحال إن ما يقوله مؤلف الكتاب فؤاد إسحاق الخوري هو شكلٌ قديم بسيط، لكن الوساطة تنامت بأشكال هائلة مركبة ومعقدة.
إن الفوائض النقدية تتدفق من النفط فيظهر مختلفُ أنواع الوسطاء: سياسيون، وتجار، وموظفون، وماليون، يقومُ كلٌ منهم في مستواه الاقتصادي، بتشغيل جانب من الفائض الذي حصل عليه، سواء بصفته موظفاً في الحكومة؛ أو تاجراً ترسى عليه مناقصات، أو تاجراً يقوم ببيع مواد إلى الدولة والعمال الخ..
وهكذا تغدو مشروعات الدولة مؤسسة بحيث تتيح توسيع أقصى الفوائض على المخططين والمتعاملين معها، من تجار وموظفين الخ..
ومن هنا فمشروعات الصناعة التحويلية وتوسع البناء تنمي أشكالاً متعددة من الوسطاء، الذين تتجمع الفوائض النقدية في أيديهم، ويسارعون إلى توظيفها، فتظهر البنوك المتعددة والمؤسسات الاقتصادية المختلفة.
وهذا يتشكل على حساب الأرض الزراعية وعلى حساب الإنتاج الحرفي القديم الذائب، وعلى حساب قوى العمل التي تآكلت داخل الأشكال الاقتصادية القديمة، حيث لم تساعدها تلك الأشكال على تطور مهاراتها، كما أن معدل التطور الاقتصادي الموجه إدارياً لا يتيح انتظار نمو أجيالها الحديثة أو تعديل أساليب التعليم، نظراً الى الكم الكبير من الفوائض النقدية التي تراكمت بين يديه ويتصرف بها بشكلين سياسي واقتصادي، ويريد منها مردوداً نقدياً متصاعداً وسريعاً.
وهذا أمر يتشكل بخلاف سنوات العقود السابقة حيث نمو فائض القيمة الداخل في السوق لا يتضاد مع نمو قوى العمل القديمة والجديدة بمثل هذا التضاد الكبير. ومن هنا تتحول الأرضُ إلى سلعة ثمينة، كما تتحول قيمة العمل المهاجرة الرخيصة إلى سلعة مهمة، كما تتحول المواقع السياسية والمعلومة الاقتصادية المبكرة إلى قيمة ثمينة. إن الخطة الاقتصادية الحكومية تسيلُ مطراً من النقود على الفئات السياسية والاقتصادية المشكلة لها.
إن القيمة العالية إذاً لقوة العمل في البناء والتجارة معاً، تدلل على التداخل والنمو المشترك بين الجانبين القطاع العام والقطاع الخاص، ففي حين تظهر قوةُ العملِ الأجنبية محدودةٍ في الخدمات العامة (6,4%) نراها في أقصى تجلياتها في البناء، وهو أمر يشير كذلك إلى التداخل بين القطاعين عبر إعطاء مهمات بناء المنشآت الحكومية إلى مقاولين، يزدهرون بالنقود على ضفاف هذه المشروعات. كما أن هذا النمو الكبير للقطاعين البنائي والتجاري يشير كذلك إلى ازدهار السوق، فمشروعات البناء تتطلب استيراداً واسعاً للسلع، وسواء كانت هذه المشروعات مصنعاً لخردة الحديد أم كان مدرسةٍ أم قصراً منيفاً، فإن تجاراً متنوعي الاستيراد يكونون منتظرين مطر النقود ذاك، وعلى حسب علاقاتهم مع المؤسسات السياسية والاقتصادية المتحكمة في توزيع الفائض.
وإذا كان تجارُ السلع الشعبية يظلون مزدهرين لأن كمية الأفواه التي تأكل ازدادت كثيراً، وهو أمر يجعل سوق السلع الضرورية نامياً، فإن تجار السلع الصناعية والترفيه والاستهلاكية الثميلة يتطورون بمعدلات أسرع كثيراً من الآخرين، لأن سلع الرفاه كالسيارات والأجهزة المختلفة هي التي يزداد الطلب عليها من قبل من حصلوا على فوائض كبيرة.
إن تجارَ السلع الضرورية كما هم عبر الزمن يقدمون المواد التي يحتاج إليها الجميع وهم يزدادون عدداً، ويختلفون نوعاً، عبر ظهور سلع جديدة زاد الطلب عليها، نظراً الى تباين أذواق الأكل واللباس والعبادة والسكن لدى الناس المتزايدين القادمين من شتى البقاع.
إن تجار المواد الخام الداخلة في الإنتاج العام يحققون تقدماً كبيراً، لأن الصناعات الحكومية تقوم على الصناعة التحويلية، كما أن تجار القوى العاملة يحققون تقدماً مماثلاً، لأن فائض القيمة أساسه الصناعة، ثم ينساب للتجارة و العقار والبنوك الخ..
وتتبعُ ذلك أيضاً الصناعاتُ التي تقام في ضفاف الخير الحكومي هذا، فهذه الصناعات التي تتنفسُ على روائح الغاز والألمنيوم تقدم موادها الى التصدير الخارجي والى السوق المحلي الذي ازدهر وحنت بيوته ودكاكينه للحديد والألمنيوم والغاز، فهو ينتجُ قيمةٍ جديدةٍ، ويوزعها كذلك على مستثمرين صغار أيضاً كالحدادين والصناع الصغار والورش والكراجات الخ..
لكن تجار السلع الكمالية يحققون هم أيضاً صعوداً مظفراً، فذلك النمو المتعدد الأشكال والمستويات للمداخيل يقود إلى بناءِ بيوت تتعرض للهدم دوماً كبيوت الإسكان أو إلى فلل وقصور صامدة للزمن لكنها تحن كثيراً إلى البذخ والتميز، وهي كلها تحتاج إلى سلع، وتتحول السلعُ الكمالية السابقة كالسيارات والثلاجات والمكيفات إلى سلع ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها، في مجتمع صار تصدير المواد الخام واستيراد السلع الرخيصة والثمينة هو نفسه اليومي، وتغدو السلع المرفهة وشديدة الرفاهية سلعاً يزدادُ الطلب عليها بحكم نمو قمة الهرم وكميات النقود التي تتجمع فيه.
لكن هذه التغيرات في الطبقة العليا والفئات الوسطى لابد أن تشمل كذلك الطبقة المنتجة، وقد تركنا العمال في الحلقات السابقة وهم يعيشون في غابة من الأكواخ ما لبثت أن تعرضت لعواصف الحرائق، التي حررت الأرضَ منهم، فراح العمال يتكدسون في بيوت صغيرة ضيقة على امتداد الخمسينيات والستينيات الوطنية الصاخبة.
فكانت أعداد الأسر التي يتكون افرادها بين 12-10، و9-7 و6-4 تأخذ نسباً من عدد المساكن الإجمالي كالتالي 20% – 32% – 24,5% وهذا يشير إلى تكدس أغلبية المنتجين في تلك الأبنية الضيقة أو القديمة ذات الأحواش.
وفي السبعينيات بدأت هذه اللوحة المعتمة تنير قليلاً، فالفائض اتسع لعمال النفط ثم لموظفي الحكومة بحكم تبدل أسعار النفط، كما قامت الحكومة بتدوير الفائض في مشروعات الإسكان لكي يعود إليها بأرقام أكبر، حيث تبيع أرضاً بلا قيمة لكن بثلاثة أضعاف ثمنها العام. واستعادت فئات التجار والعقاريين والبنوك جانباً من هذا الفائض عبر بيع السلع وتقديم القروض الخ.. كما أن السلع الكمالية عليها ضريبة عالية تعود الى الأجهزة الحكومية كذلك وإلى التجار ويتحملها العمال.
ويلاحظ إسحاق فؤاد الخوري مؤلف كتاب (القبيلة والدولة) أن من لديهم دخل سنوي يبدأ من 25 ألف دولار فأكثر ويعيشون كعائلات صغيرة لا تتجاوز نسبتهم 3,6% بينما تتسع العائلات التي يتراوح دخلها بين 1000- 3000 دولار سنوياً، إلى 15,63% من المجموع العام. وفي حين تعود النسبة الأولى الى كبار الموظفين والمقاولين وكبار التجار والضباط ورجال الدين، تعود النسبة الأخرى الى المدرسين والعمال المهرة وتجار المفرق وغيرهم، لكن نسبة الأقل من 1000 دولار سنوياً فهي من نصيب العمال غير المهرة والمزارعين والعاطلين عن العمل.
ويلاحظ المؤلف الخوري نفسه أن (اللامساواة التي سادت قبل النفط كانت طفيفة) لكن في (مجتمع النفط تحولت المفارقات الفردية في النظم الاقتصادية والاجتماعية وحقوق العمل إلى مفارقات جماعية)، (فكانت الاحتجاجات والشكاوى وتحركات الرفض)، (ص231) .
إن نسب توزيع الفائض النقدي النفطي دخلت في الغموض أكثر فأكثر مع تحول النفط إلى بؤرة الثروات، فأرباح شركة النفط والثلثان اللذان يوزعان على الاحتياطي لم يعودا مبينين في الدخل العام، فيجري الحديث هنا فقط عن الثلث الأخير الموجه للخدمات العامة، وهو الثلث الذي يتم أنفاقه في المشروعات العامة والذي يخضع لإعادة تدوير داخل المجتمع كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمّت
يصدر قريبـــاً : عبـــــــدالله خلــــــــيفة ــ إضاءة لذاكرة البحرين
✍ البحرين في بدء التحديث
✍ فائض القيمة البحريني
✍ القحط في زمن النفط
✍ فائض القيمة والاقتصاد السبعيني

