أرشيف الأوسمة: عبدالله خليفة : بوخارين ومصير روسيا

بوخارين ومصيرُ روسيا

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

لقراءة التجارب الديمقراطية العربية في ضوء جديدٍ نحتاج إلى رؤية الشموليات في الشرق وعلى أي أسس فكرية تكونت وما هي مصائرها، وكيف نميزُ بين شعيرات خطوطها، والتجربة الروسية هي لاتزالُ مؤثرةً وتسبب الكثير من المشكلات لنمو الديمقراطية في الشرق خاصة.
بوخارين من المفكرين والقادة الروس الذين وقعوا ضحية مثل تلك الشمولية عبر أفكاره وممارسته.
يقول ستالين (كلما تعمقَ البناءُ الاشتراكي زادَ الصراعُ الطبقي!).
كانت هذه الفكرةُ هي المسوغةُ لأعمالِ القمع الرهيبة والتصفيات التي شنها على الرفاق المساندين له أو المختلفين معه من القيادات. وهي فكرةٌ صحيحة، لكن حين نرى أن الصراعات تجري في نظامِ رأسماليةِ الدولة.
قامت أفكارُ هذه الجماعات على فكرة الاشتراكية الممكنة المُفّسرة عبر شبابية ماركس في الأربعينيات، التي رَوجتْ للمغامرة، حيث يغدو بناء الاشتراكية ممكناً في مجتمع رأسمالي متخلف كالمجتمع الألماني، هذه الفقرات التي سُحبت من المرحلة الشبابية ودخلت في مرحلة (نضج) المجموعات الروسية الاشتراكية البلشفية.
كان بوخارين (1888-1938) من الذين تصوروا بناء الاشتراكية في روسيا، وهو من المجموعات التي اعتبرت ان التأميمات وبناء جهاز دولة يمتلك المصانع والبنوك هي الاشتراكية.
إن بناءَ جهازِ دولةٍ بأي شكل في مجتمع شرقي متخلف، يمكن أن يكون أي شيء حسب إرادات الصانعين له، لكن تغيير البنية الاجتماعية شيء آخر.
البنية الاجتماعية هي ليست فقط الأملاك العامة والخاصة بل هي العلاقات الاجتماعية، بكل ما فيها من علاقات بين الأجناس والطبقات والفئات والأفكار والقوميات والأديان.
وحين يتم امتلاك المزارع والمصانع فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى الاشتراكية.
تصبح الدولةُ مالكةً لرأس المال، حسب المرحلة التي يمر بها المجتمع. في العبوديةِ الشرقية قبل آلاف السنين ملكتْ الدولةُ المزارعَ والكثير من الثروة، وفي الإقطاع ملكت الدولُ العربيةُ الإسلامية الأراضي الصوافي وأمّم القرامطة حتى مطاحن الحبوب للناس، لكن الملكيات العامة هذه نُخرتْ من قبل الموظفين والحكام واللصوص وصارت عملياً مفرّغةً من كونها ملكيات عامة.
الروسُ لم تكن لهم تجربة تاريخية طويلة، لقد ظهروا عملياً على مسرح التاريخ في القرن الثامن عشر، وتوجهت الدولةُ القيصريةُ الواسعةُ نحو الممالك المسيحية والإسلامية وضمتها، فشكلتْ توسعاً هائلاً، وغدا هذا تحدياً هائلاً في تاريخها.
ولهذا فغيابُ التجربةِ التاريخية الطويلة والاقتراب من أوروبا ومحاولة إيجاد القفزات للوصول لمستوى أوروبا، عبر تغيير العاصمة من موسكو لبطرسبرج، والاتجاه للفرنسة والألمنة، لم يغير شيئاً أساسياً، فالتخلف كان عميقاً، والعبودية لم يُقلل منها سوى في ستينيات القرن التاسع عشر.
هذا كله جعل من القيصر ومن جهاز الدولة الضامنين الرئيسيين لتماسك المجتمع وتطوره، لكن نحو الحداثة الرأسمالية!
ومن هنا نجد هذه المادة الروسية الاشتراكية الهشة في فهم التاريخ، عبر كثرة النقل من المصادر الغربية، والمحاولة الأولى في نقل التجربة بشكل آلي، فهناك الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في بلدان فرنسا وألمانيا وإنجلترا ويمكن نقل تجربتها.
ضخامة السكان الأميين وقلة المتعلمين وغياب المنظمات والأجهزة الديمقراطية جعلت من النخب الصغيرة مؤثرة بشكل كبير، وكان هذا يبدو كبيراً في الأزمات.
من هنا نجدُ كتبَ بوخارين النادرة المترجمة عربياً هي نقل من المصادر الغربية، خاصة من رأس المال حين ينقله مكثفاً بالتعاون مع(بريوبراجنسكي) وهو كتاب: ألف، باء الشيوعية، وهو نقلٌ لمستوى رأس المال الغربي في بُنية مجردة، أي في بُنية رأسمالية مكتملة، وليس في البُنية الروسية الإقطاعية.
يغدو التفكيرُ هنا نقلاً، وكان لينين أكثر منه مقاربة لظروف روسيا وكشف التطور الرأسمالي فيها، من حيث تحديد حجمه في البنية الاقطاعية المسيطرة وذلك في كتاب (تطور الرأسمالية في روسيا).
إن انتقالَ روسيا للرأسمالية هو مشكلة ليست روسية فقط بل عالمية، فهذا الكيانُ الكبيرُ الذي أقتحمَ العالمَ بقوى عسكرية هائلة فجأةً وضمَّ أراضي دياناتٍ وممالك، يعجز عن التطور الديمقراطي على غرار انجلترا وفرنسا، لأن مثل هذا التطور يفتتُ هذه الكيانات التي ضُمت بالقوة العسكرية المشددة.
وفيما كانت دول الغرب الصغيرة تغزو العالم بأشكال تحديثية كانت روسيا تشكلُ مستعمراتها بطرقِ غزو على غرار الفتوح القديمة وتنافس الإمبراطورية العثمانية في توسعها وتتصادم معها.
فكانت النهضة الجديدة المقترحة لابد أن تحافظ على الإمبراطورية، من خلال مضمون جديد. والمضمون الجديد من خلال الرأسمالية والديمقراطية مستحيل.

والنخبة الاشتراكية البلشفية المنفصلة عن الديمقراطية كانت تنفصلُ عن الواقع الحقيقي، وتكوّن عالماً افتراضياً متخيلاً، هو اشتراكية روسية في مجتمع شديد التخلف.
مصطلحاتُ الاشتراكيةِ ودكتاتورية البروليتاريا وإيجاد الصناعة المؤممة وإزالة البرجوازية ومنع تكونها ثانية وجذب البرجوازية الصغيرة للاشتراكية وإقناعها بذلك، هي بعض المصطلحات والشعارات التي يرددها بوخارين بحماس شديد، فيما كان النظام على العكس بحاجة إلى البرجوازية لترسيخ الجدل الاجتماعي والنمو المتدرج العقلاني.
وقد تحققتْ مصطلحاته فعلاً لكن ستالين يقول إن الاشتراكية هذه زاد فيها الصراع الطبقي كلما تطورت، فلماذا؟

الروس مثل بقية الشرقيين في تصوراتهم بنقل الديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية أو حتى نماذج الأديان حيث يتم تصور ذلك بالشحن كما تُشحن الثلاجات والسيارات من مناطق الاستيراد.
لكنهم في واقع التاريخ الحقيقي يُركِبون قراراتهم السياسية الاقتصاديةَ على بُنى قديمة هي البنية التقليدية التي لم تتغير.
إن الأشكال (الاشتراكية) من قراراتِ تأميماتِ المصانع والبنوك وإيجاد الزراعة التعاونية في الثلاثينيات في روسيا، هي تكوين مؤسسات عامة مملوكة للدولة، التي تغدو فجأة أكبر مالك للسلع ووسائل الإنتاج، تصبحُ هي الرأسمالي العام الأوحد، وبدلاً من عدة رأسماليين متنافسين يظهر رأسمالي واحد يلغي الآخرين. ثم هي التي تخرجُ من ثقوبها الرأسماليين الحكوميين فيما بعد.
الناس هنا لا يمتلكون رأسَ المال، وهم يعملون ويفكرون كأعضاء المجتمع القديم، الذي يكرسُ قوميته ويعلي دينه ويوظف أقرباءه، ويهتم بقبيلته، ويصعد منطقته، ويكرس مصلحته.
إن القوى المالكة لمختلف المواهب التي ارتفعت قديماً هي التي تصعد لجهاز الدولة أما القوى العاملة الأمية الفقيرة فلا تسيطر على شيء، وتصير الايديولوجيا الاشتراكيةُ افتراضيةً هنا، وتتجسد في كفاح عمال ومثقفين للحفاظ على الملكية العامة وتوزيع فوائضها، وتتكرس في نشر التعاون ومكافحة الفساد، لكن بنية الدولة القيصرية لم تلغ. الدولة الهائلة ازدادت تضخماً وغدتْ هي كل شيء، أجهزتها تتسع، وتضم المصانع والمزارع والبنوك والشرطة والجيش. وليس ثمة برلمان تعددي وأحزاب وجرائد حرة، كل شيء توجه ليكون حكومياً، وراحت الصراعات في المكتب السياسي للحزب تغدو هي الصراعات الشخصية الخطرة الوحيدة التي تجري وتصعد قيصراً وحيداً، بحكم مآل الدولة وسيرورتها فيغدو هو الرأسمالي الكلي. ولا يهم هنا زهده أو غناه، لأنه رمز للدولة التي تنمو في العمق والخفاء.
يوجه بخارين المسئول ورئيس تحرير أكبر جريدة من(1923 حتى 1929) الأنظار لتحقيق القيم الاشتراكية بشكلٍ مجرد، مثل الاشتراكية المجردة التي أسسها على الورق، ولم ينقد تنامي الديكتاتورية وغياب الحريات، فكانت هذه كرة الثلج التي تكبر.
الاشتراكية التي تجعل الأملاك عامة حقيقية للناس، لا تحدث بل يغدو هناك وكيل كلي عليها، وهو الذي يقررُ أشكال نموها، وبالتالي فإن الفوائض تتوجه لتغيير البناء الاقتصادي المعرفي المتخلف لكن بأشكال توزيع مختلفة، فتصعد فئاتُ البرجوازية الصغيرة وتتنامى مكاناتها بعسر، لكن الطبقة العاملة أكثر عسراً وفقراً وتبقى في ظروفها.
ما يجمد أوضاع الطبقتين المالكة والمنتجة هو جهاز الدولة الهائل فوقهما، الذي يحدث التطور الاقتصادي النهضوي الواسع، وينمي البيروقراطية وهي شكل البرجوازية التي سوف تظهر، ويجمد أحوال العمال الذين أقيمت بهم التضحيات والإنشاءات.
كان للثورة الروسية احتمال مهم كان يمكن أن يكون إنقاذياً، هو تشكيل رأسمالية دولة وطنية ديمقراطية، تضملا مختلف الطبقات، وبقيادة الأحزاب الاشتراكية، ليحدث النمو النهضوي التدريجي والصراع السلمي داخل السلطة، وتتحكم في حصص القيادة والتمثيل البرلماناتُ المنتخبة، لكن هذا الاختيار لم يظهر للتنافر الشديد بين الأحزاب ووجود فترة طويلة كلية من الاستبداد، فخرج الروس من استبداد متخلف إلى استبداد نهوضي كثير التكاليف والأثمان الفادحة، ثم عادوا إلى نقطة البداية وكأنهم يعيشون سنة 1917 نفسها مع مجتمع أكثر تطوراً ودولة استبدادية كبيرة.
بوخارين مفكر الحزب لم يستطع أن يرى أهمية الديمقراطية، لكونه عاش في فضاء اشتراكي متخيّل حزباً ثم نظاماً، وقد واجه العديد من الذين سوف يعدمهم ستالين فكرة الانقلاب في تلك السنة، مطالبين بتطوير فكرة الديمقراطية المشتركة بين مختلف الأحزاب الحديثة، لكن الأغلبية رفضت ذلك وأصرتْ على الانقلاب. ثم حين كبرت سلطة الانقلاب والدولة الشمولية راحت تبلع جميع القادة المؤيدين أصحاب الفكرة ومعارضيها، لأن الدكتاتور لم يقبل برؤى متعددة حتى داخل النظام.
رأسمالية الدولة تغدو مشكلة كبيرة مع تطورها، فتناقضاتها تزداد ولا تعرف كيفية الخروج منها، ولهذا فإن الصراع الطبقي يتزايد كما قال ستالين، لكن للخروج من مأزق رأسمالية الدولة حيث رأس المال تجمع في جهة واحدة بأدوات فوقية قوية بينما الشعب يغوص في الفقر. وتحدث الانفراجات النسبية حين يتم التخفيف من قبضة الدولة، لكن الخروج الكلي يتم في غالب الأحيان بفوضى أو حرب أهلية ونادراً ما تحدث الاصلاحات التحولية الديمقراطية المُنقذة لجميع الطبقات من الكارثة كما رأينا في العديد من التجارب العربية.