أرشيف الأوسمة: عبدالله خليفة : العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي

أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ ! 

العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي

العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي

 (1939- 2016)

في رفضه لأطروحات عابد الجابري، يتفق جورج طرابيشي مع محمد عابد الجابري في القبول بمصطلح العقل، هذا التعبير العام المجرد، وهو لا ينقض الجابري في استخدام هذه المفردة بل لأن الجابري يقصر(العقل) على اليونانيين في حضارتهم.

 ولهذا يقول في ملاحظة جانبية عن المسالة العقلية:

 «فإننا سنلاحظ، ودوماً من منظور اعتقادنا بوحدة البنية العقلية عند البشر كما بوحدة العقل الحضاري في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط..)، راجع كتابه نقد نقد العقل».

 وهو يؤكد طابع هذا العقل المجرد في مواقع أخرى، كقوله عن عصر التدوين في العصر العباسي:

 «بهذا نرى فاعلية منقطعة النظير قام بها العقل العربي الإسلامي فى طور تكوين نفسه بنفسه». ويضيف «عرفت الثقافة العربية فالقرون الرابع والخامس والسادس، أي بما فيه ‹لحظة الغزالي› حتى إلى ما بعدها، عصراً ذهبياً ترسخت فيه جذور العقل العربي الإسلامي المكوَّن وامتدت رقعته دون أن يتوقف قرينه العقل المكوِّن عن ممارسة فاعليته»، نقد نقد العقل العربي، ص٢٢.

 يتحول العقل هنا إلى تكوين له عناصر خالدة، وهذه العناصر موزعة بأشكال مختلفة بين العقول اليونانية أو الشرقية، فكل عقل به عنصر الخرافة والعلم، وليس ثمة عقل يخلو من هذين العنصرين، فاليونانيون لديهم كمية كبيرة من الخرافات، مثلما أن الشرقيين لديهم نصيب من العلم، ولكن الجانب الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط عرف العقل المشترك، بمعنى انه امتلك نصيباً متقارباً من الخرافة والعلم.

 يشكل طرابيشي مفردة العقل بشكل تاريخي أفضل قليلاً من الجابري، لأنه ينزل إلى الظروف التاريخية ولكنه يأخذها كحيثيات مادية وثقافية صغيرة، ينقض بها لا تاريخية الجابري، ولكنه عبر هذه الخلفيات التاريخية الموسوعية، لا يمنهج وضع هذا العقل، أي هذا المصطلح التجريدي.

 في مناقشته مثلاً للسحر والعلم والعلاقة يبنهما يصور علاقتهما كمية وليس نوعية، فالسحر ليس جزءاً محايداً في العلاقة المشتركة بالعلم، بل في علاقة صراع، إنه يغدو شكلاً معرقلاً أكثر وأكثر لنمو مضمون معرفى موضوعي بالأشياء، مثلما يحدث هذا مع الدين الذي يغدو شكلاً معرلاً لنمو تلك المعرفة، وهما يصبحان إطااً ميتافيزيقياً بشكل متواصل، فى حين تغتني معرفة الحياة بشكل موضوعي.

 فالقدرات عن الإمكانيات الخارقة للساحر واستدعائه لقوى الطبيعة من أجل الصيد تتراجع لصالح معرفة طرق الصيد وطرق عيش الحيوان وطرق تكاثرها، وهذه العملية تنبثق منها سلسلة من العلوم. وتظل قدرات الساحر موجودة بقوة إذا لم تحدث تطورات موضوعية لعالم الصيادين الخ..

 وإذا كان فى أشد لحظات السحر تطرفاً يوجد مضمون واقعي ضئيل فإن هذا المضمون لا يمكن أن يتطور إذا لم يصارع المضمون السحري الانفصالي عن معرفة الوجود، وإذا تطور المضمون الواقعي فإن الشكل السحري يتضاءل.

 ولهذا فإن الأديان البدائية كانت متخلفة عن الأديان السماوية، لأن الأخيرة تراجعت عن التحكم الكلي فى مواد المعرفة وفى نموها، أي تركت للوعى معرفة الظاهرات الطبيعية والاجتماعية وأسرارها، وإن كانت قد جعلت الوجود مصنوعاً لقوى غيبية. لكن هذه القوى الغيبية لم تعد متكاثرة ومتداخلة بشكل واسع كآلهة الإغريق، فأخذت تنسحب تدريجياً من الوجود المرئي والطبيعي والاجتماعي، لكن ظلت مراسلاتها وقيادتها لهذا الوجود سعتمرة.

 إن سيطرتها تكمن في النظام العام للمجتمع: شرائعه والعلاقات الأساسية فيه، وعلاقته بالعالم الغيبي. فهي تتحكم في التشكيل العام للمجتمع، بمعنى خلق سلطة دينية ممثلة للغيب، تنظم البناء السياسي والروحي للمجتمع. وهذا البناء يمتد من حياة الفرد العادية حتى بعد الموت، وكيفية العلاقات بين الجماعات، وبين المجتمع الممثل للمنظومة الدينية والمجتمعات الأخرى الخ..

 إن التغير بين الأديان البدائية والسماوية ليس جذرياً في الواقع، بل هو في اتساع الجتمع الموحد، ونمو الحاجة إلى تشكيل مجتمعات واسعة وإمبراطوريات. أي أن المسالة تعود إلى تطور أوضاع الجماعات وتبدل أنظمتها وأفكارها، وبالتالي حاجتها الماسة إلى المعرفة الموضوعية عن المواد والطبيعة والجسم الإنساني والأخلاق الخ… وهذا ما يؤدي إلى تضاؤل دور القوى الماورائية الشامل، وهي أمور تعبر عنها العلاقات بين السحروالدين والعلم. وهذا التضاؤل يبقى جزئياً ويترك للمناطق الروحية والنفسية وتاريخ الماضي الكلي، والمستقبل، لذات القوى الغيبية، فالعلم ينمو فى إطار أيديولوجي مسبق، في المناطق التي يُسمح له بالتطور فيها، أو تسمح له المواد المعرفية المتوافرة. وإذا حاول اختراق هذه المناطق المحظورة فلا بد له من الحرية والإمكانية المعيشية والمهنية للوجود والاستمرارية. وهذا ما أتاحه مناخ المدن الإيونية الصناعية، الذي تطلب تطور المعرفة بالأشياء والطبيعة ووفر الحرية للصناع والعلماء، وايضاً إمكانية العيش، بدلاً من انه في الوقت الذي تتطور فيه المجتمعات تقوم فيه بإعادة النظر في موروثها حسب تطورها الموضوعي، إنتاجها، جغرافيتها، علاقاتها بالأمم المجاورة الخ…

ولهذا فحين يقرر طرابيشي أن ثمة وحدة عقلية بين الناس في القسم الشرقي من البحر الابيض المتوسط، وأن هناك استمرارية فكرية بين الحضارات المصرية والرافدية واليونانية، لا يضع هذه الاستمرارية داخل سيرورتها الموضوعية، بل يقوم بتجريدها، فالحضارات المشرقية كانت أنظمة عبودية معممة، أو دولاً اسعتبدادية شاملة، في حين كانت اليونان تشكل تجربة مدن متميزة تتراوح ما بين الحرية والاستبداد، ولهذا فان عناصر السحر والدين كان يُعاد إنتاجها بشكل مستمر في الدول المشرقية، ويتم إلحاق العلم بخدمة القصور ومعابد الكهنة، في حين أن مناخ المدن الحرة والحرفية والصناعية اليونانية كان يتيح المجال لتفكك السحر والدين ونمو العلم، بالتالي فإن تراكم المعلومات العلمية في الشرق كان يفيد اليونانيين بلا شك ولكن في بُنى اجتماعية مختلفة.

 فالقضية ليست وجود عناصرالسحر والدين والعلم لدى الشرقيين واليونانيين بنسب متفاوتة متقاربة، ولا أن عقائد السحر كانت منتشرة عند العامة بشكل واسع في كل هذه الدول، بل في صعود العلم بشكل نوعي في اليونان، وفي إغنائه للفلسفة، وفي كسره لهيمنة رجال السلطة والدين على انتاج الوعي، هذه الهيمنة التي ظلت مستمرة في مصروالشام والعراق، في حين أنها كُسرت فى تطور المدن اليونانية، أي في شروط اجتماعية مختلفة، وليس لعناصر فى العرق. فالمسالة ليست وحدة عقلية بين هذه الحضارات، بل في تمايز شروط انتاج الوعي في هذه الحضارات، فالمسالة ليست عناصر فكرية جزئية متناثرة هنا وهناك، بل في كيفية نمو الكل الاجتماعي ومستوياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

 ولهذا فحين نقرأ وضع اليونانيين القدماء تجاه ذلك الثالوث السابق الذكر «السحر والدين والعلم»، علينا أن نقرأه على ضوء هذا التركيب المتداخل والمتصارع، في بنية اجتماعية مختلفة عن دول المشرق ومعقدة كذلك بين مختلف المدن اليونانية نفسها التي لم تصهرها تجربة واحدة.

 فما يشير إليه طرابيشي حول تصاعد الدجل والسحر في أثينا في نهاية الحرب البولونيزية هو أمر صحيح، لأن عناصر البنية ومستوياتها ليست ثابتة، فالوعي الموضوعي مرتبط لدى السكان بمستوى السيطرة على الطبيعة وتنامي الصناعة والتجارة، ولا يأتي من الفراغ، وحين تتعرض هذه العناصر للتدهور فمن المؤكد أن العناصر الغيبية والخرافية الموجودة فى الوعي العام ستعاود النهوض والانتشار بقوة أكبر.

 وطرابيشي يفسر تقدم الوعي الموضوعي، ويسميه العقل، بسبب تلك المواد الفنية وهي الطباعة والورق، فيقول: أن سر النهضة فى شرق المتوسط يعود إلى أسباب من أهمها:

 «وإلى ثورة الابجدية ينبغي أن نضيف ثورة (تصنيع) ورق البردى كحامل للمادة المكتوبة»، نقد نقد العقل ص ٧٣.

 ولأن الفينيقيين هم الذين قاموا بهذين الإنجازين الحضاريين فقد سبقوا اليونانيين إلى إنتاج الفلسفة.

أو يعيد العملية أحياناً إلى البحر: «وإنما الطبيعة البحرية لحضارة الشعبين هي التي حتمت لقاءهما» نفسه ص ٨٨.

 وهذه العناصر صحيحة، ولكنها كانت موجودة لدى الصينيين والمصريين، فالعناصرالمادية الجزئية هذه وجدت في المدن الإيونية جنباً إلى جنب مع التجارة الحرة، وظهور طبقة متوسطة مستقلة، وهذه الشروط الموضوعية المتمايزة عن الطبقة الوسطى المصرية التابعة للفرعون، حيث إن أدوات قمعه كافية لا لأن تخفف العقلانية بل لأن تزيل الرؤوس نفسها.

 ولهذا كانت المدن المصرية والعراقية مدناً سياسية يقيمها القصر أو الكهنة، ولا تظهر من شروط التجارة الحرة، وهذا هو الأمر نفسه الذي جعل مكة تؤسس النهضة العربية.

 كذلك فان العناصر العلمية التي يقول طرابيشي: إنها موجودة بتماثل لدى هذه الحضارات، أمر صحيح في جانب وخاطئ في جانب آخر، فالأمرلا يعود لوجود العناصر بل لفاعليتها، بمعنى ماذا يمكن أن تقوم به في بنية عبودية مُعممة كمصر وبنية عبودية خاصة في اليونان? أي في بنية عبودية تهيمن عليها الدولة هيمنة مطلقة، وبنية عبودية لا تهيمن عليها الدولة، وتتشكل فى مدن تجارية وصناعية? ومن هنا فالعناصر العلمية تنمو بشكل مختلف في. كل النظامين، حيث تتبع في النظام الأول حاجات القصر والمعابد الدينية، في حين تتبع في النظام الثاني حاجات الصناعة والتجارة، وبالتأكيد هناك جوانب مشتركة كصحة الإنسان.

 وبالتالي فإن أقسام العلم وتطوراته تكون مختلفة في كلا النظامين، ففي حين تتطور علوم التحنيط والتنجيم في مصر فإن علوم الرياضيات والفلسفة تتطور فى اليونان، فالأمر يعود هنا لقوانين البنية الاجتماعية، وليس للألوان والأعراق.

 إن الأحكام العامة المثالية التي يطلقها جورج طرابيشي كصنوه الذي يعارضه محمد عابد الجابري، كلها أحكام مثالية تجريدية فلسفياً، تبدو تضاداتها حين تُقارن وتحلل عبر التاريخ.

 فهو يقول في إحدى أفكاره:

 فالإشكالية المركزية التي تحرك العقل العربي الإسلامي في افقها هي إشكالية النقل والعقل، نظراً إلى أن هذا العقل اشتغل في ظل هيمنة وعي دين شمولى، ونظراً إلى الحضارة العربية الإسلامية، هي نموذج مكتمل) حضارة كتاب، قامت من الأصل على (أصل متقدم مسلم بأطلاق) على حد تعبر الشاطبي السابق ص ٩٧.

 هذه من الأفكار التي ظل يرددها الوعي اللاتاريخي عن تاريخ العرب، ولديهم هذه فكرة لا تقبل النقض، فالتناقض بين النقل، ويقصدون به القرآن تحديداً وبين أفكارهم (الحديثة) أو العقل كما يسمونه، فهل المسالة قائمة حقاً على التضاد بين النقل والعقل، وأنه لو حل هذا الاشكال انسابت الحضارة العربية في ركاب التقدم سواء في العصر الوسيط أم الآن؟

 ومنذ البداية نلاحظ هذا المنهج اللاتاريخي، عبر تجريد القضية ووضعها في فراغ تاريخي. فاللحظة التاسيسية الإسلامية لم تكن في تناقض مع اللاحق، بقدر أن اللاحق لم يستطع أن يطور فاعليته الكفاحية. فقد كانت ثورة، وجعلت قوى بشرية واسعة تتجاوز التخلف، ولكن القوى الثورية داخل هذا المسار لم تستطع التغلب على القوى المحافظة، التي فرّغت الثورة من محتواها، بخاصة في توزيع الملكية والملكية العامة، وحينئذ بدأ تاريخ مختلف. إن المدينة الحرة في تاريخ العرب مكة أُستبدلت بعدئذٍ بعاصمة الملوك والأشراف المطلقين. والثورة الإسلامية التي بدأت بتحالف بين التجار والعاملين، لم تستطع الفئات الوسطى في مدينة الحكم المطلق ذاك، أن تشكل إعادة إنتاج لها. وهنا لم تستطع بغداد أن تكون كأثينا فيها طبقة متوسطة حرة. وتشكلت الفرق الدينية لتنشئ حكماً اقطاعياً مختلفاً، أوظهرت داخل المدينة لتكون تابعة للاقطاع المسيطر.

 فإذن الأمر لا يعود لتناقض (العقل) المتكون حينذاك مع النص القرآني، بل لعجز هذا العقل عن قراءة الواقع والتاريخ. أي عجزه عن فهم القرآن. أو قل عجزه عن إنتاج ثورة أخرى تستكمل المسيرة النهضوية التي بدأت في مكة، وعجزه عن إقامة تحالف بين الطبقة الوسطى والعاملين لإنتاج ثورة تجديدية عميقة للمسلمين.

 إن النقل لو فهم في مضمونه الاجتماعي العميق، باعتباره مسيرة تقدمية في زمنه، عبر قراءة قوانينه، وإعادة إنتاجها فى عصر مختلف، لأمكن اكتشاف الفارق بين الثورة والثورة المضادة، بين النهضة وحكم الأشراف المطلقين.

 إذن كان التناقض حقاً بين وعي شكل الثورة، ووعي عاجز عن الثورة، بين نقل استطاع تغيير التاريخ بأدوات زمنه البشرية ومحدوديتها، ونقل عكف على تبرير الواقع وإفراغ الثورة من محتواها.

 إن فرق القدرية والمعتزلة والخوارج والعلوية الخ.. انتقلت للعمل في النظام الإقطاعي المطلق، الذي ورث آليات السحق عند الأنظمة العبودية المعممة السابقة، وبالتالي لم تظهر مدينة حرة واحدة، تحكمها الطبقة الوسطى أوالعاملون، بخلاف العرب الاوائل الذين جاءوا من صحراء لم تطبق فيها دول ذات جبروت مطلق عليهم، فاستطاعوا إحداث التغير التاريخي. ولهذا فإن الفرق المعارضة داخل النظام الإقطاعي المركزي اما تشكلت كفرق للنظام المسيطر، واما أسست أنظمة منفصلة.

 من هذا كله فإن الأفكار العامة التجريدية التي يقولها جورج طرابيشي حول تضاد النقل مع العقل، وهي أفكار شائعة في الوعي العربي، ينبغي أن تدرس في ضوء مناهج مختلفة، تصنل إلى التضادات العميقة للتاريخ والفكر، لا أن تكرر المعتاد والساذج من الآراء.

 وهي جزء وعينة من آرائه المثالية التجريدية التي يغرقها بالأمثلة التاريخية، التي فيها أحياناً الكثير من الفائدة والمتعة للقارئ، ولكن جوهرالأمور يُفلت بعيداً.

عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين