أرشيف الأوسمة: رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ أو أسلوب الإنتاج الكولونيالي

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ أو أسلوب الإنتاج الكولونيالي

لا شك أن المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل من المساهمين البارزين في تحليل الواقع العربي المعاصر من منطلقات نقدية عميقة وخاصة من رافد الماركسية البنيوية ، التي قام  بتطبيقها على الواقع العربي بصورة حرفية ، دون رؤية الاختلاف بين مستوى التطور الغربي ، وتطور البُـنى الاجتماعية العربية .

ونحاول في هذه الموضوعات قراءة آرائه وتحليلاته لندوة جرت في الكويت في السبعينيات من القرن الماضي ، اتخذت لها عنواناً هو (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) ، وقد ناقشها في كتابه : (أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية ؟) .

يفترض مهدي عامل مسبقاً ، ودون دراسات ، بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات رأسمالية . فهو يصر على أن ( نمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر في البنيات الاجتماعية العربية) ، (9) .

إن هذا يبدو لوعيه شيئاً بديهياً ، صحيح إنه يقول أن ثمة علاقات ما قبل رأسمالية في هذا الإنتاج غير أنها ليست سوى بقايا .

فيقول بوضوح : إن فهم تطور بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية مثلاً في البلدان العربية في الوقت الحاضر ، وفهم أزمات هذا التطور يستلزم بالضرورة الانطلاق بالتحليل من هذه البنية بالذات في شكل وجودها القائم في كل من البلدان العربية. ) ، (10) .

وليس ثمة من الضرورة بحث جذور هذه البُنى (مع ظهور الإسلام مثلاً ، أو مع الجاهلية ، أو مع بدء العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي أو عصر الانحطاط الخ . . ، بل هو يبدأ مع بدء التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.) ، (11) .

وهو يعترف بأن ثمة (أشكالاً من الإنتاج سابقة على الإنتاج الرأسمالي لا تزال حاضرة في البنيات الاجتماعية العربية) ، غير أنها ليست سائدة فيه ، بل الإنتاج الرأسمالي هو السائد .

ونحن نحاول أن نفهم كيف استطاع الاستعمار أن يجعل من هذه العلاقات سائدة ؟ أي كيف استطاع أن يجعل العلاقات ما قبل الرأسمالية لا تسود بل أن تسود العلاقات الرأسمالية ؟

لا يقوم مهدي عامل ببحث هذه المسألة تاريخياً ، بأن يعطينا أمثلةً عن بلد عربي ومنذ القرن التاسع عشر تحول إلى الرأسمالية ؟ فلا نجد .  

ولا أن يقوم بتحديد متى استطاعت البرجوازيات العربية أن تستولي على الحكم وتنشر النظام الرأسمالي الشامل ؟

ومن جهة أخرى فهو يؤكد بأن ( كثيراً من علاقات الإنتاج الاجتماعية ، سواء في الحقل الاقتصادي أم السياسي أم الإيديولوجي ، التي تنتمي إلى أنماط من الإنتاج بالية ، أي بالتحديد ، سابقة على الرأسمالية ، لا تزال قائمة في البنيات الاجتماعية المعاصرة ) ، ( 12 ) .

ينطلق مهدي عامل لتحديد هيمنة الرأسمالية على العالم العربي منذ القرن التاسع عشر بشكل مضاد للقراءة الموضوعية ، وهو يفترض رأسمالية سحرية تتشكل منذ أن تطأ بوارج بريطانيا وفرنسا الشواطئ العربية ، في حين إن الرأسمالية تتعلق بمدى تشكل الرأسمال الخاص في القطاعات الاقتصادية المختلفة ، ومدى انتشار العمل المأجور على بقية أنواع العمل في النظام الاجتماعي .

وتتحددُ سيطرةُ البنيةِ الرأسماليةِ بوصولِ منتجي البضائع إلى سدة الحكم ، وإزاحة ملاك الأرض وإقطاعيي السلطة السياسية ، وسيادة العمل بالأجرة ، وهي كلها أمور لم تتحقق في نهاية القرن التاسع عشر ولا في نهاية القرن العشرين العربيين !

ولكن مهدي عامل يُصادر ببساطة ، قبل أن يبحث ، فهو منذ البدء يقول : ( أزمة البرجوازيات العربية. .) فأفترض إن هذه البرجوازيات قد حكمت وتعفنت في الحكم وهي مأزومة الآن ؟ ! في حين إن البناء الاقتصادي والسياسي لم تتحقق فيه شروط انتصار الرأسمالية !

ولكن ذلك لا يتعلق فقط بالبحث الفكري بل والأخطر بالمهمات السياسية المباشرة ، فيقول بأن :

( المهمة الأساسية لحركة تاريخنا المعاصر بهذا الشكل ، لاتضح لنا أن تحققها يمر بالضرورة عبر عملية معقدة من الصراع الطبقي ضد البرجوازيات العربية المسيطرة . .) ، ( 13 ) .

ولكن كيف يمكن إسقاط أسلوب إنتاج لم يُسد وطبقات لا تحكم ؟

علينا أن نناقش مسألة أسلوب الإنتاج الكولونيالي التي طرحها مهدي عامل ، كي نقوم بتفكيك تفكير هذا المفكر ، وهي التي اعتبرها حجر الزاوية في نظريته حول تطور العالم العربي .

كما رأينا سابقاً ، ( راجع الفقرة حول التاريخ العربي ) إن مهدي عامل يرفض تحليل البنية الاجتماعية العربية الحالية من خلال جذورها ، وهو ينتقد المفكرين العرب المجتمعين في الكويت لمناقشة ( أزمة تطور الحضارة العربية) بسبب قيامهم بالعودة إلى جذور التاريخ العربي ، طالباً الوقوف عند العصر الراهن والنظر إلى الماضي من خلال البنية الاجتماعية الراهنة .

إن مهدي عامل ينظر للبُنى الاجتماعية العربية الراهنة وكأنها صياغة أوربية غربية ، فقد قام الاستعمار الغربي برسملتها ، أي بتحويلها إلى رأسمالية ناجزة ، وهذه الرأسمالية الناجزة يُطلق عليها أسم ( أسلوب الإنتاج الكولونيالي ) ، وبهذا قام مهدي بخطئين كبيرين مزدوجين ، فهو قد قطع السيرورة التاريخية للبُنى العربية الاجتماعية ، أي قام بإزالة طابعها الطبقي التاريخي ، وهي عملية يقوم فيها بالتمرد على القوانين الموضوعية لرؤية المادية التاريخية عن التشكيلات الخمس : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية.

فهو عبر هذه المقولة قد ألغى كون البُنى الاجتماعية العربية بُنى إقطاعية ، فحين لا نبحث ألف سنة من التطور الاقتصادي والاجتماعي السابق ، ونعتقد أن أسلوباً جديداً للإنتاج قد تشكل ، وأسمه الأسلوب الكولونيالي ، في خلال بضع سنين ، وأن علينا أن ننظر للتاريخ من خلال هذا الأسلوب غير المحدد والغامض ، فتتشكلُ لدينا هنا رؤيةٌ سياسية دكتاتورية تحاول أن تفرض نفسها على جسدِ التاريخ الموضوعي ، بمعطيات غير مدروسة .

إن رفضَ تحليل الماضي ، أي رفض بحث التاريخ الإقطاعي للعرب ، يتضافرُ لدى مهدي عامل ، ورفض تحليل الحاضر ، أي قراءة عمليات التداخل بين الإقطاع والرأسمالية ، كأسلوبين للإنتاج موضوعيين في التاريخ العربي الراهن ، ويطالب بمناقشةِ أسلوب إنتاج من اصطلاحاته هو أسلوب الإنتاج الكولونيالي .

ومع هذا فعلينا أن نناقش تسمية أسلوب الإنتاج المقترح ، فمهدي عامل لا يُنكر وجود بقايا نظام تقليدي في هذا الأسلوب الذي انتصرت فيه العلاقات الرأسمالية ، ودون أن يطرح أية أرقام أو معطيات على انتصار العلاقات الرأسمالية الموهومة ، لكنه يعتبر إن العلاقات الرأسمالية المنتصرة في العالم العربي تشكل علاقة تبعية مع العالم الغربي حيث العلاقات الرأسمالية الأقوى ، وهذه الأخيرة الغربية هي التي تقوم داخلها بتقويض أساليب الإنتاج الأخرى ، في حين تعجز الرأسمالية العربية في علاقتها التابعة من تقويض أساليب الإنتاج السابقة داخلها ، وبهذا فإن أسلوبَ الإنتاج الكولونيالي الذي سادت فيه البرجوازياتُ العربيةُ يحتاج إلى ثوراتٍ عمالية لتقويضه والانتقال إلى الاشتراكية .

تتشكلُ هذه العمومياتُ الفكريةُ من منهجٍ مجردٍ يفرضُ قوالبه على الواقع الحي غير المدروس ، فتـُـلغى مسألةُ التشكيلة الإقطاعية بجرة قلم ، ويتم تحويلها إلى تشكيلة أخرى متطورة بقفزة خيالية أخرى هي التشكيلة الرأسمالية الكولونيالية ، ثم تحدث القفزة الأكبر إلى الاشتراكية . . ولا يزال الباحث لم يحلل الإقطاع العربي وسيرورته السابقة والراهنة .

والغريب إنه في كتابه هذا ( أزمة الحضارة العربية . .) يناقش جملةً من المفكرين العرب الذين يقدمون له مادة تحليلية ممتازة ، ولو أنه أبعد فرضياته الإيديولوجية المسبقة ، أو استفاد بعمق من الماركسية البنيوية التي نقل تطبيقاتها لفهم البنية الاجتماعية ، لأمكنه أن يدخل إلى دائرة التاريخ العربي وتشكيلته التي تضاربت أسماؤها لديه . ولكنه حدد منذ البدء هؤلاء الباحثين كمنظرين للبرجوازيات العربية المستولية على الحكم والتي وصلت إلى الأزمة ، وبالتالي يجب نقد وعي هذه الطبقات المسيطرة عبر وعي الطبقات الثورية الخ . .

حين يناقش مهدي عامل الباحث العربي شاكر مصطفى يتجاهل مهدي المادة الفكرية الثمينة التي يقدمها شاكر لتوصيف تطور المجتمعات العربية بقوله :

( إن الاستمرار الاجتماعي الذي تعيشه الشعوب العربية إنما تحكمه عناصر عديدة في مجموعها التركيب العربي القائم . . وأن لامتدادات التاريخ في هذه العناصر المكان الواسع إن لم يكن الأول. . ) وهذه (العناصر الأساسية الباقية عند أربعة جوانب :

أ ــ طرق الإنتاج المادي ب ــ تكوين نظام السلطة ج ــ طبيعة العلاقات الاجتماعية د ــ قيم الفكر التراثية..)، ( 14 ) .

هكذا نرى لدى شاكر مصطفى نظرة تاريخية موضوعية واقتراباً دقيقاً من فهم أسلوب الإنتاج الإقطاعي العربي الإسلامي المستمر عبر ألف سنة ، الذي يتأسس في نظام السلطة والإنتاج معاً ، ثم يتمظهرُ في العلاقات الاجتماعية : الأبوية ، هيمنة الذكور ، اللامساوة الجنسية ، الطائفية الخ . . ثم يصل النظام الإقطاعي إلى المستوى الثقافي : الأمية ، الخرافة الخ . .

إن شاكر مصطفى يمثـل مقاربة علمية ( ماركسية ) من فهم التاريخ ، ولكن ماذا يفعل مهدي عامل بمثـل هذه المقاربة ؟

بدلاً من أن يقوم بفهمها ودرس التاريخ العربي يقوم بالمصادرة السريعة ، فيقول :

( أما أن يكون هذا التاريخ الذي تكونت فيه البنية الاجتماعية للواقع العربي الحاضر ، تاريخاً يرجع إلى ما قبل عشرة قرون خلت ، أي إلى العصر العباسي أو أواخر العصر الأموي ، فهذا ما نختلفُ فيه جذرياً مع الدكتور مصطفى ) ، ( 15 )  .

 فهو يحتار كيف أن هذه البنية المزدهرة يوماً ما تصبح هي نفسها سبب التخلف ؟ فيقول بلغته :

( فالبنية هذه ليست في حاضرها ، من حيث هي بنية ، أي كلٌ معقد متماسك ، سوى البذرة التي كانتها في الماضي ، تنامت ، فتنافت وتواصلت في حركة من تماثـل الذات بالذات ، وما الذات هذه إلا الذات العربية نفسها . ) ، ( 16 ) .

إن مهدي عامل الذي ينتقد شاكر مصطفى على أنه صار يفكر بمنهج هيجل الجدلي المثالي ، يعجز عن اكتشاف رؤية الوعي الموضوعي لدى مصطفى شاكر في فهمه للتاريخ العربي ، ويصبح هو هيجلياً مثالياً .

فالبنيةُ العربيةُ الإقطاعية في زمن الإمبراطورية العباسية كانت نظاماً مركزياً ، والإقطاع المتحكم في الخراج الهائل يصرفه على البناء الترفي والثقافة المقربة المفيدة للنظام ، ثم يتحلل هذا الإقطاع المركزي بسبب ثورات الشعوب ، ليجيء نظام الإقطاع اللامركزي ، وتظهر الدول والدويلات الإقطاعية ، وتكرر بشكل أوسع إنجازات ومشكلات النظام السابق ، ثم يتهرأ هذا النظام الإقطاعي الديني العام بتشكيلاته المتعددة ، ليغدو أنظمة وإمارات إقطاعية صغيرة مذهبية الخ . .

إن هذه السيرورة التاريخية تحافظ على قسمات عامة أشار لبعضها شاكر مصطفى في المقطع السابق ذكره ، حيث يغدو الحكام هم المستولون على القسم الأكبر من الثروة العامة ، وتتواشج السلطة والثروة ، ويشركون رجال الدين في السيطرة على العلاقات الاجتماعية ، أي ينقلون العلاقات الإقطاعية إلى البيوت والأحوال الشخصية الخ . .

وإذا لم نقم كما يريد مهدي عامل بقراءة هذه السيرورة التاريخية الاجتماعية التي امتدت خلال ألف سنة ، والتي تتغلغل في أبنيتنا الاجتماعية وقوانينا الوراثية وفي سلطاتنا المطلقة، وفي شعرنا ونثرنا وعاداتنا ولاوعينا ، فكيف نقوم بتغيير هذه البنية التقليدية وتشكيل النهضة ؟ !

إن مهدي عامل يخرق قوانين الوعي على مستوى قراءة الماضي ، وعلى مستوى قراءة الماركسية ، فعبر قراءة الماضي يتجاهل البنية الإقطاعية وسيرورتها الراهنة ، وعلى مستوى الماركسية يقوم باختراع مغامرات سياسية محفوفة بالكوارث ، عبر اختراعه مقولة أسلوب الإنتاج الكولونيالي وتصفية البرجوازيات العربية .

فهو بدلاً من قراءة الماضي ورؤية أسباب عجز البرجوازيات العربية القديمة عن تشكيل النهضة ، والقيام بثورة رأسمالية ، وقراءة أسباب ضعف البرجوازيات العربية الراهنة وعدم قدرتها على تغيير أسلوب الإنتاج الإقطاعي وتشكيل تحالف معها لتغيير التركيبة التقليدية يقوم بوضعها في خانة العدو والقفز ضدها إلى مهمات غير حقيقية ومكلفة كما دلت تجربة الشعب اللبناني .

يمثـل المفكرون الذين تواجدوا في الكويت لمناقشة مسائل النهضة العربية وكيفية إيجادها ، نخبة اشتغلت في حقول الدراسات لزمن طويل ، وبغض النظر عن اجتهاداتها ومدارسها فإنها تعبر عن عقول مهمة تعارض المجتمعات العربية التقليدية من منطلقات مختلفة ، لكن المفكر اللبناني مهدي عامل نظر إليها كخصوم وليس كقوى مساندة للطبقات العاملة العربية في  تغيير مجتمعات التخلف ، وبهذا كان يرفض العديد من الآراء المهمة التي تقدمها كما فعل مع مصطفى شاكر .

ويعترض مهدي عامل كذلك على زكي نجيب محمود الذي يمثل المدرسة الوضعية أو التجريبية المنطقية في دعوته لاحكام العقل في النظر إلى الأشياء ، وخاصة في جملته التي قالها بضرورة ( الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه) ، ودعا زكي نجيب العربَ إلى التوجهِ لتمثل الحضارة المتقدمة ، واعتبر إن الاحتكام إلى العقل ميز الحضارات العقلانية ، معطياً نماذج أربعة على حضارات احتكمت إلى العقل وهي :

أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ، وبغداد في عصر المأمون ، وفلورنسة في القرن الخامس عشر ، وباريس في عصر التنوير في القرن الثامن عشر .

أي إن زكي نجيب يقدم درجات من صعود البرجوازية عبر العصور ، أعطى إنتاجها المادي قدرة على الفهم الموضوعي للطبيعة المجتمع ، على درجات متفاوتة .

ويعترض مهدي عامل على هذه التصنيفات ويقول :

( وهنا تظهر الدلالة الطبقية لهذا المنطق من التفكير : فانتفاء الطابع التاريخي ، أي النسبي ، من شكل العقلانية الخاص بالبنية الاجتماعية الرأسمالية يجعل من هذا الشكل الخاص مطلقاً ، فيظهر ما هو تاريخي – أي ما يحمل فيه ضرورة تخطيه ونفيه – بمظهر  ما هو طبيعي – أي يحمل فيه ضرورة تأبده – ويظهر الشكل الطبقي البرجوازي للعقلانية بمظهر العقلانية الإنسانية ، أي بما هو طبيعي ملازم للحضارة كحضارة . .) ، ( 17 ) .

إن فئاتٍ برجوازيةً عربية تعاني من هيمنة تقليدية متخلفة ، وحين تقوم باستعادة لحظات من فعل الفئات المتوسطة عبر التاريخ الماضي إنما تريد شحذ عقلها وإرادتها من أجل تشكيل عالم نهضوي عقلاني عربي ، يمكن حتى للقوى الشعبية فيه أن تناضل بصورة حديثة ، لكن زكي نجيب محمود هنا يفصل العقلانية عن أسلوب الإنتاج ، ولا يرى إن العقلانية في أسلوب إقطاعي ( عباسي ) هو غيره في أسلوب رأسمالي جنيني في أوربا ، وبالتالي كان هذا يحتاج لقراءة العنصر العقلاني في سيرورته التاريخية .

إن النموذج الذي يختاره مهدي عامل في الفصل الرابع من الكتاب السابق الذكر ، هو الشاعر والباحث أدونيس ، الذي صاغ دراسة حول الإمام أبي حامد الغزالي في ذلك المؤتمر مُستنتجاً ــ أي أدونيس ــ بأن الفكر الديني :

[بقواعده وغاياته ، هو الذي يسود المجتمع العربي ، اليوم . ولذلك فإن الإيديولوجية السائدة ، سواء في المدرسة والجامعة والبرامج التربوية ، والصحافة والإذاعة والكتاب ، إنما هي قوة ارتداد نحو الماضي ، وقوة محافظة على الراهن الموروث . . فعلاقات الإنتاج الموروثة . . ما تزال هي السائدة . . والبنية الإيديولوجية التقليدية . . ما تزال كذلك هي السائدة] ، ( 18 ) .

هذا الكلام يقوله أدونيس في سنة 1974 ، وبالتالي استطاع أن يشخص الواقع العربي تشخيصاً مهماً بحيث أننا الآن ( سنة 2005 ) ندرك الفجائع المترتبة على هذه السيادة الماضوية . ولكن اليسار حينذاك  لم يكن ير مثل هذا التشخيص ، كرفيقنا الراحل مهدي عامل ، الذي يتصدى لهذه المقولة قائلاً رداً وتحليلاً للرأي السابق :

[1 – الفكر العربي هو نموذجه ، ونموذجه هو الغزالي ، فالفكر العربي إذن هو فكر الغزالي .

2 – الفكر السائد في الماضي هو الفكر السائد في الحاضر .

3 – البنية الإيديولوجية السائدة في الماضي هي البنية الإيديولوجية السائدة في الحاضر.

4 – علاقة الإنتاج المتوارثة – أي السائدة في الماضي – هي علاقات الإنتاج القائمة في الحاضر .

إذن الماضي هو هو الحاضر ، لا شيء تغير. ( خلاصة ). ] ، ( 19 ) .

من الواضح إن مهدي عامل يقوم بتبسيط نظرة أدونيس إلى التاريخ الفكري العربي ، فالغزالي لدى أدونيس هو كل الفكر العربي الديني المحافظ ، ولكن أدونيس يقول إن هذا الفكر المحافظ المذهبي هو الذي ساد ، وإذا طورنا مقولة أدونيس كما توصلنا إليها  ، فنقول إن رؤية الغزالي كانت هي ثقافة الإقطاع السائد . ولكن ثقافة الإقطاع المذهبي متعددة ، وحتى تسود قامت بالقضاء على التيارات الدينية المعارضة ، وهذه لها حراك وصراع استمر إلى وقتنا الراهن ، فليس معنى ذلك سكون الخريطة الفكرية الاجتماعية ، بل أن لها ألواناً وتضاريس معقدة . ولكن من الناحية الجوهرية فإن المنظومة العربية الإسلامية لم تخرج عن التشكيلة الإقطاعية ، ومعرفة وتحديد التشكيلة هذه هي الخطأ الجوهري لدى مهدي عامل كما بينا سابقاً ، في حين أن الباحثين المنبثقين من الفئات الوسطى الحديثة كأدونيس وشاكر مصطفى ، يرون أنها مستمرة ، لكنهم لا يعرفون كيف يبلورن ذلك نظرياً . 

يضع مهدي عامل بعض ممارسات الفلاسفة العرب كابن رشد في دائرة ما يسميه [بالممارسة الإيديولوجية لما يمكن تسميته بالطبقة الأرستقراطية العربية المسيطرة في المجتمع الاستبدادي في القرون الوسطى.] ، وبغض النظر عن جمله من المفاهيم الخاطئة في هذه العبارة ، فإن مهدي عامل يضع الممارسات النقدية للمفكرين العرب المسلمين السابقين في سياق [مجتمع استبدادي] ، وليس في سياق التشكيلة الإقطاعية المعروفة بداهةً للمادية التاريخية ، ثم يقوم بوضع الحركات والفكر الديني الإسلامي المعاصر في سياق آخر  فيقول :

[ أما في الحالة الثانية ، «فالإسلام» موجود بالشكل الذي يتحدد فيه بحقل آخر من الممارسات الإيديولوجية الطبقية ، خاص ببنية اجتماعية مختلفة ، يغلب عليها الطابع الكولونيالي، في انتمائها التاريخي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي .] ، ( 20 ) .

إن هذه البنية الحديثة التي يضع مهدي عامل الوعي الديني السابق فيها ، هي بنية يغلب عليها ( الطابع الكولونيالي وتنتمي تاريخياً إلى نمط الإنتاج الرأسمالي) ، وهي توصيفات نرى كيف أنها بذاتها قلقة مضطربة ، وهو يلجأ إلى كلمة ( كولونيالي) الأجنبية المنتفخة ، لكي يُشعر القارئ بأنها مصطلح غني في حين يمكن القول بأن البنية العربية هي بنية تابعة ، ووجود التبعية لا يخلق تشكيلة جديدة ، أي أنه حين تقوم الرأسمالية المسيطرة غربياً بإلحاق البلدان الفقيرة الإقطاعية في العالم الثالث باقتصادها ، فإن هذه البنية التابعة تظل في تشكيلتها الإقطاعية السابقة ، لأن الاستعمار لا يقوم بثورة اجتماعية فيها بحيث يحولها إلى نموذجه أو نموذج الرأسمالية ، بل يبقيها في بنيتها السابقة ويجري تغييرات سياسية واقتصادية بحيث تقوم بضخ المواد الأولية إليه وتغدو سوقاً لمنتجاته الخ . . لكن عمليات الإلحاق والتغيير الرأسمالية المحدودة تكون في إطار التشكيلة الإقطاعية ، أي أن التشكيلة السابقة لم تتبدل بثورة تبدل البناءين ؛ التحتي بثورة اقتصادية ، والبناء الفوقي بثورة ثقافية ، بل جاءتها عناصر رأسمالية فقامت باستيعابها في قوانين التشكيلة الإقطاعية التقليدية .

إذن عدم فهم مهدي عامل للقضية المحورية وهي قضية التشكيلة يقوده إلى سلسلة من الأخطاء اللاحقة ، حيث ينفي كون الدين أيديولوجية فكرية مسيطرة في الحاضر ، لأنه نفى كون التشكيلة المعاصرة تشكيلة إقطاعية ، وبهذا لم يُدرك المهمات الفكرية والسياسية الأساسية الراهنة ، وهي تغيير التشكيلة وبناءها الفكري التقليدي .

ولهذا يقوم بنقد أدونيس لأنه يقول باستمرار التشكيلة الإقطاعية ووعيها الديني الأساسي ، ( ويجب أن نقول هنا وعيها : المذهبي السياسي ) ، منتقداً إياه بأنه ينقل :

[مركز الثـقل في الممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي ضد البرجوازية المسيطرة ، من صراع ضد إيديولوجية هذه الطبقة ، بمختلف تياراتها ، إلى صراع ضد الشكل الديني أو الطابع الديني من هذه الإيديولوجية..]  ، ( 21 ) .

وهنا يواصل مهدي عامل عدم فهمه وخلطه للأمور ، فأدونيس في نقده للشمولية الدينية ينقدها في ظل نظامها التقليدي الإقطاعي ، أي باعتبار الوعي الطائفي المحافظ تجلياً فكرياً واجتماعياً للممارسة الإقطاعية المهيمنة على المسلمين (والمسيحيين) ، وليس باعتبارها نضالاً ضد الشكل الديني ، أي بأنها قضية فك علاقة الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية الإقطاعية الراهنة ، وتشكيل منظومة سياسية حديثة علمانية .

أي أن مهدي عامل يريد تجيـير النقد ضد الدين ، ويجعله بإطلاق ، وليس ضد الوعي السياسي الطائفي المستغل للإسلام في تأبيد البنية الإقطاعية المتخلفة ، وبالتالي يريد توجيه الوعي الفكري ضد البرجوازية العربية الحديثة ، باعتبارها سبب الأزمة والعائق ، أي أنه في النهاية يقوم بالدفاع غير المباشر عن الإقطاع الديني ، أو أنه بالهجوم على البرجوازية الحديثة يفتت الصفوف الموجهة ضد الإقطاع الديني والسياسي .

فلنحلل أكثر التباس المفاهيم والمراحل واستراتيجيات النضال لدى مهدي عامل .

يقول :

[ فالعلاقة هذه التي تمنع تطور  الإنتاج الرأسمالي ، في شكله الكولونيالي ، من أن يميل ، في قانونه العام ، إلى القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليه ، في سيطرته بالذات عليها ، هي نفسها العلاقة التي تمنع البرجوازية الكولونيالية ، في ممارسة سيطرتها الإيديولوجية / من القضاء على مختلف الإيديولوجيات السابقة على الإيديولوجية البرجوازية ، في سيطرتها بالذات .. ] ، ( 22 ) .

يعتمد مهدي عامل على منطق ارسطي شكلاني يجرد التاريخ من سيرورته الحقيقية ، ويضعه في قوالب لا تاريخية ، أي لا توجد إلا في وعيه الذي يقع خارج التاريخ الحي .

فهو أولاً قد أثبت انتصار الإنتاج الرأسمالي في العالم العربي ، في القرن التاسع عشر كما سيقول لاحقاً أيضاً ! لكن هذا الانتصار تم في إطار كولونيالي ، ورغم إن البرجوازيات العربية التي انتصرت على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية قد انتصرت إلا أنها مع ذلك تحافظ على الأيديولوجيات ما قبل الرأسمالية وهو ذات السبب الذي يجعلها تحافظ على أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية !

فأولاً حين جاء الاستعمار إلى العالم العربي في القرن التاسع عشر ، كرس الإقطاع والطائفية والأمية ، ولم تستطع الفئات الوسطى ( البرجوازية ) أن تنمو إلا بشق النفس ، وخاصة  الفئة الصناعية ، وبقيت الأبنية الاجتماعية تسود فيها عبودية النساء وعدم خروجهن للعمل والإنتاج، وهيمنة الإقطاع الطائفي الخ . .

وبهذا فإن نضالات الفئات الوسطى كانت تتحدد في كل بنية اجتماعية عربية ، حسب تطورها الاقتصادي الاجتماعي ، فإن تنمو فئة وسطى وتقود نضالاً ديمقراطياً كان ذلك يحتاج إلى عقود ، وليس كما يظهر في وعي مهدي عامل ، بشكل أزرار سحرية ، وكأن تشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية تتم في الذهن وليس في الواقع الحي . أي أن الرأسمالية تحتاج إلى شروط موضوعية وهي انتشار الصناعة وانتشار العمل بالأجرة وتحرر النساء الخ . .

ولو افترضنا جدلاً بنشؤ الرأسمالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر ، وهذا محض خيال ، فإن أشكال الوعي الدينية ، المرافقة للتشكيلة الإقطاعية ، لا تنهار بسهولة كبيت من ورق .

إن الوعي الديني المترافق مع التشكيلة الإقطاعية العربية تأسس فوق بنية زراعية / حرفية / رعوية ، وداخل صراعات اجتماعية ( قومية ) ومناطقية ، وقادته الصراعات السياسية الاجتماعية إلى الانقسام المذهبي الكبير في عصر الثورة والمعارضة ، بين التيارات المحافظة والتيارات المعارضة ، بين التيارات الإقطاعية الناجزة وتيارات الفئات الوسطى الفاشلة ، ثم إلى الانقسام المذهبي الكبير الثاني حين انتصرت التيارات والدول المحافظة ، أي الانقسام بين السنة والشيعة .

إن هذه السيرورة الاجتماعية الإيديولوجية المتلونة بمراحلها وآثارها لا يمكن أن تزول آلياً مع الانتصار الموهوم للرأسمالية كما يظن مهدي عامل ، بل إن هذا البناء الفوقي يحتاج إلى قرون لكي تتم زحزحة خطوطه المتكلسة ، ولكن الأمر أعقد من ذلك لأن هذا البناء الفوقي يتأسس تحت بناء قاعدي لم يتغير كثيراً.

وكما أوضح شاكر مصطفى في عبارته الهامة التي اقتطعاها مهدي عامل ورفضها ، بأن النظام الإقطاعي العربي الديني تتداخل فيه مسألتي السلطة والُملكية ، أي تتواشج فيه جوانب من البناءين التحتي والفوقي ، فالمسيطرون على الثروة والملكية العامة والأوقاف الخ . . هم الإقطاعيون السياسيون والدينيون ، وهو أمر يتمظهر مذهبياً في البلدان ذات المذاهب المتنوعة ، ودينياً في الأقطار الإسلامية ذات الاختلاط مع المسيحية ، وهذه الهيمنة الإقطاعية تظهر على شكل مَلكيات استبدادية وهو أمر استمر حتى منتصف القرن العشرين في بعض الدول العربية وليس في أغلبها ، وعلى شكل جمهوريات رئاسية أو ملكيات لم تستطع أن تـُنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المكتملة ، أي في جميع الأقطار العربية الإسلامية حتى الوقت الراهن .

يحكم مهدي عامل على البرجوازيات العربية منذ تشكلها وصراعها ضد الإقطاع والاستعمار ، بحكم سياسي واحد ، فبعد أن شكلها بشكل ناجز في ذهنه فحسب ، وبعد أن شكل الأنظمة الرأسمالية العربية في وعيه فحسب ، غدت متطابقة مع البرجوازية الاستعمارية المسيطرة وبالتالي غدت منذ البدء عدواً .

لهذا فإنه لا يقرأ سيرورتها الفكرية والاجتماعية وبالتالي مراحل تطورها ومن هنا لا يرى فرقاً بين (ما نراه في أيديولوجيتها من مفاهيم «عصرية» ليبرالية ، وما نراه أيضاً في بدء ” تاريخها الإيديولوجي ” من مفاهيم أرادت أن تكون مثيلة مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية ، كما هو الأمر عند رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وغيرهما ) ، ( 23 ) .

ومهما كانت عدم الدقة في المطابقة بين آراء الثورة الفرنسية وآراء الطهطاوي ولطفي السيد ، فإن عدم رؤية أهمية آراء المنورين العرب في ذلك الكهف الإقطاعي التي كانت ولا تزال الشعوب العربية تحاول الخروج منه ، فذلك يدل على وعي الأرادوية الذاتية ( الثورية ) في إلغائها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي ، مثلما تفعل في مسألة الوعي بالتشكيلة وبالوعي المهيمن فيها ، حيث يلغي مهدي عامل أهمية أفكار البرجوازية النهضوية ويثبت آراء الإقطاع الديني ، فيقول بأن الإيديولوجية الدينية :

( ليست هي الإيديولوجية المسيطرة ، أو التيار الإيديولوجي المسيطر في الإيديولوجية المسيطرة ، أو أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية المسيطرة ) ، ( 24 ) .

إذن إنه في عدم وعيه بسيرورة الإقطاع السياسي الديني في الماضي : بقوانين تشكله وصراعاته وظهور الفئات الوسطى بين أشداقه وأسباب انهيارها وغلبته ، فإن مهدي عامل لا يرى قوانين استمراريته وانهياره في العصر الحديث العربي ، وأسباب ضعف الفئات الوسطى ، وصراعها معه ومع الاستعمار.

إن عدم رؤية قوانين البنية الاجتماعية في الماضي ، هي ذاتها تتجلى في عدم رؤية قوانينها في الحاضر ، ويقود ذلك إلى عدم رؤية قوانين التشكيلة الإقطاعية عامة ، خاصة عملية تفكيكها وتغييرها المعاصرة ، وإذا أحلنا آراء مهدي عامل الفكرية العامة إلى الميدان السياسي ، فيعني ذلك تقوية الإقطاع .

فعدم تثمين مقاومات الفئات الوسطى في الماضي والحاضر ، وتشكيل جبهة سياسية تحديثية واسعة ، تراكم الوعي النهضوي وتقود في الخاتمة إلى الثورة أو القطع مع المنظومة الإقطاعية ، واستبدالها بمنظومة حديثة ، يعني تصفية القوى النهضوية وتفكيكها ، وبالتالي تصعيد الإقطاع في مستويات البنية المختلفة .

علينا أن نرى إن ثمة عدم دقة تحليلية للإقطاع المذهبي وتطوره في التاريخ العربي لدى أدونيس كذلك ، أي أن أدونيس لا يرى الجذور الاجتماعية لتشكل الحداثة قديماً وحديثاً ، التي تؤسسها الفئات الوسطى العربية ، ولكنه يقترب من هذا التحديد بشكل أفضل من مهدي عامل، الذي يقول عن ذلك :

( لكن المنطق الذي قاد أدونيس إلى عدم رؤية هذا الطابع الطبقي المميز للصراع الإيديولوجي في واقعنا الراهن ، هو تلك المعادلة الرابعة التي أقامها بين علاقات الإنتاج السائدة في الماضي وعلاقات الإنتاج القائمة في الحاضر. .) ، ويضيف مهدي عامل : ( أما أن تكون هذه العلاقات الموروثة نفسها هي هي العلاقات القائمة حالياً ، فهذا ما لا يمكن للمنطق العلمي أن يقبل به ، برغم وجود الانسجام الداخلي في منطق أدونيس..) ، ( 25 ) .

ومن المؤكد إن الإقطاع العربي الكلاسيكي القائم على ملكية الأرض الزراعية والخراج ، لم يعد شاملاً ، لكن مهدي عامل لم يقم بدرس العلاقات الاقتصادية العربية الحديثة ، وكيف أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تمثل شكلاً إقطاعياً حين تغدو تابعة بالوارثة لأسرة أو جماعة سياسية ، بدلاً من أن تكون هذه الوسائل بضاعة متداولة ، ولهذا ثمة استمرارية كبيرة بين حقول النفط وحقول الزراعة ، وبين الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتركها في تقوية الإقطاع الأسري والحزبي الخ . . ونعرض ذلك كمثال عابر فقط ، من أجل أن نرى استمرارية الحياة التقليدية ، وبالتالي فإن الحكم العام الذي يطلقه أدونيس باستمرار الوعي التقليدي وهيمنته لا يجانب الصواب .

إن أدونيس إذن عبر تلك الفقرة التحليلية يقربنا من رؤية البنية الحقيقية للحياة العربية ، فيما يعمل مهدي عامل على إخراجنا من تلك البنية وإدخلانا في بنية موهومة من قراءته ومعايشته للحياة الغربية ، فيريد نقل مهمات الصراع الطبقي فيها، إلى بلدان متخلفة ، تشكو من قلة البرجوازية والعمال والتصنيع ، دون أن يحاول العودة إلى مصادر أدونيس في قراءة المجتمعات العربية ، في كتابه (الثابت والمتحول) خاصة .

في إحدى الفقرات من كتابه ( أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية ؟ ) ، يقر مهدي عامل ضمناً بسيادة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التقليدية وهو يرد على أدونيس فيقول :

( إن وجود هذه العلاقات السابقة في البنية الاجتماعية الكولونيالية لا يعني أنها العلاقات السائدة في هذه البنية ، حتى وإن كانت هي تنتشر على القسم الأعظم من السكان ، كما هي الحال في الهند مثلاً، أو في كثير من البلدان العربية . .) ، ( 26 ) .

إنه يعتبر الإنتاج التابع شكلا تاريخياً محدداً من الإنتاج الرأسمالي ، فمهما كانت الأشكال ما قبل الرأسمالية منتشرة فإن ما يحدد توجه التطور هو النمط الرأسمالي . وبطبيعة الحال لا يمكن أن نأخذ بهذه الجمل إلا عبر تحليل للأبنية الاقتصادية الاجتماعية المحددة في كل بلد ، فرغم أن التطور الرأسمالي هو تطور عالمي عاصف ، إلا أن كل منطقة وبلد لهما خصوصياتهما ، أي أن الأمر يعود لتطور التشكيلات وتاريخها ، وتناقضاتها الداخلية ، فالتشكيلة الإقطاعية العربية الإسلامية ، عبر سيطرة مختلف الدول الاستعمارية على أقطارها المتعددة ، لم تقم هذه الدول الاستعمارية برسملتها بشكل شامل ، وحتى بعد مختلف الثورات الوطنية فإن المسألة الديمقراطية لم تـُحل ، أي أن هذه الأنظمة ظلت على بنياتها الإقطاعية المذهبية ، وظلت الدولة طائفية واللامساواة بين المواطنين سائدة ، وظلت قوى ما قبل رأسمالية تتحكم في الثروة العامة الخ . .

لكن مهدي عامل لا يرى ذلك ، بل يرى إن هذه الأنظمة أنظمة رأسمالية فيجب أن :

( يرفض الدولة البرجوازية ، أي هذا الشكل التاريخي الطبقي المحدد من الدولة، ويرفض علاقات الإنتاج البرجوازية الخ . .) ، ( 27 ) .

كما أن القوى العاملة مدعوة ( لممارسة العنف الثوري ، من حيث هو عنف طبقي ، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي ، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي ) ، ( 28 ) .

إن مهدي عامل لا يقول ذلك في فرنسا والولايات المتحدة ، بل في لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية ، فبدلاً من معرفة ما يحدده شاكر مصطفى وأدونيس من دولة استبدادية طائفية إقطاعية متخلفة ، يقوم مهدي بصناعة دولة موهومة هي الدولة البرجوازية ، وقد اكتملت علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها ، وبين النموذج الواقعي الذي يرفض الدخول فيه وتحليله ، يجر نموذجاً آخر ويريد مجابهته ، وهذا الجر يخلق مهمات سياسية وعسكرية مختلفة ، فهو هنا يريد إزالة البرجوازية بالقوة ، فتتحول هذه الكلمات في يد اليساري اللبناني إلى سلاح ، ويغدو كل الفلاحين المقتلعين من الجنوب والنازحين على المدن والفقراء ، جيش الثورة البروليتارية في مواجهة البرجوازية .

إن مهدي عامل بعد أن حول المجتمع المتخلف الطائفي التابع الجائع إلى المصانع والبرجوازية إلى (مجتمع برجوازي مأزوم بسيطرة هذه البرجوازية ) ، لم تعد المهمة سوى اقتلاع هذه البرجوازية لكي تحل الأزمة ، وهكذا يُفتح الطريق للحرب الأهلية اللبنانية من البوابة النظرية .

لا يعني ذلك بأن توصيفات أدونيس للمجتمع العربي التقليدي متكاملة ولا أن الحلول التي يطرحها لتجاوز أزمة المجتمعات العربية التقليدية ، فهي كذلك تعاني من عدم فهم سيرورة التطور العربي. 

إن أدونيس يقول حسب رواية مهدي عامل بأن ( شخصية العربي ، شأن ثقافته ، تتمحور حول الماضي / القديم ) .  وأنه في الحضارة العربية (لما انتفى الفرد في الموضوع وتغرب عن ذاته في الجماعة أو الدولة أو السلطة أو النظام … كان الاتباع ، وكان التخلف ، وكان حاضر الإنسان العربي أو ماضيه ) ، ( 29 ) .

نستطيع أن نقول بأن مقاربة أدونيس للتشكيلة الإقطاعية  تركز هنا على غياب الوعي الفردي (البرجوازي) ولكنه يجعله مطلقاً ، والمسألة ليست مسألة انتفاء الوعي الفردي فهذا مظهر للبنية الإقطاعية التي جعلت الفئات الوسطى تابعة لها ، ولكنه وهو حين يشير إلى ( تلاشي ) الفرد المبدع أو هيمنة التقليد في الحضارة القديمة ، فهو يشير إلى شيء موضوعي لم يتبينه تمام التبين ، وهو سيطرة الهياكل الإقطاعية العامة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية ، ولهذا فإن الفردية، وتوسع الفئات الوسطى الحرة ، وبالتالي انتشار الإبداع لم يحدث بصورة جذرية ، وقد تتبعنا ذلك في قراءات سابقة ، وبينا جذور الفئات الوسطى وارتكاز قواها الأساسية على الدولة الإقطاعية . وبهذا فإن الفئات الوسطى العربية في الماضي والحاضر ، لم تستطع أن تتحول إلى طبقات برجوازية كلية ، وهذا بخلاف رؤية مهدي عامل التي تقول بأنها وُلدت كبيرة ناجزة بفعل الأزرار السحرية الغربية ، ولكنها بعد كما يقول أدونيس كذلك لم تستطع حتى الآن أن تزيح الاتباع وتنشر الحرية بشكل شامل !

تلخيصاً وتطويراً لما سبق، يقيّم مهدي عامل تقييماً سلبياً الجوانب التي يتلمسها المفكرون المنبثقون من الفئات الوسطى الحديثة والتي تميل لتشكيل النظام الرأسمالي الحديث بكل قسماته ، فمهدي عامل يقوم بإزاحة لهذا المجتمع التقليدي الحقيقي المرفوض من قبل هؤلاء المفكرين ، ويضع بدلاً منه توصيفات مستقاة من تطور أعلى ، هو تطور البلدان الرأسمالية المتطورة ، ويضع المهمات التي تواجه الطبقات العاملة في هذه البلدان الرأسمالية المتطورة ، والتي تعالج مهمات تاريخية مختلفة ، وبدلاً من تشكيل جبهات موسعة للقوى الحديثة والديمقراطية لإزاحة التشكيلة الإقطاعية الطائفية العربية ، فإن يوجه القوى ضد أحد الأجنحة المهمة في عملية التغيير الديمقراطية ، ولهذا فهو يجعل ممثلي القوى الليبرالية والعقلانية الفكرية في الندوة المذكورة ، كخصوم ألداء وليس كحلفاء في معركة واحدة ضد تشكيلة تجاوزها التاريخ .

وهذا يقوده لعدم تثمين الأحكام الموضوعية التي يطرحها هؤلاء المفكرون والباحثون، وعدم الاستعانة بهذه المواد الفكرية الثمينة لتطويرها عبر المنهج المادي الجدلي، ورؤيتها في سياق التشكيلة الحقيقية.

ولكن مهدي عامل دخل في قراءة التاريخ بذاتية ثورية تـُسقط رغباتها على التاريخ الحقيقي ، بدلاً من اكتشاف تطوره ، فكان ابتكاره لمقولة ( أسلوب الإنتاج الكولونيالي ) بداية لخرقه أساسيات المادية التاريخية ، حول أساليب الإنتاج المحددة والُمكتشفة ، وهذا الخطأ المحوري قاده إلى سلسلة من الأخطاء النظرية في تحليل الجوانب المحددة في تطور التشكيلة الإنتاجية العربية ، السابقة الذكر، فهو قد اعتبر علاقات الإنتاج الرأسمالية مُـنجزة في حياة المجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وهذا ما دعاه إلى عدم تثمين حلقات التنوير المتعددة التي قامت بها الفئات المتوسطة العربية ، في الماضي والحاضر ، ثم الدعوة إلى خلق اصطفاف حاد إلى معسكرين رأسمالي تجاوزه التاريخ ، وعمالي يجب انتصاره .

وكان هذا خرقاً للمهمات الحقيقية لقوى الثورة والتغيير العربية التي تواجه تشكيلة متخلفة ، ولكن الخطوط الفكرية التي طرحها مهدي عامل كانت تتضافر ووضع دولي مواتٍ ، مما جعلها في حيز التنفيذ ، ولكن النتائج المترتبة على هذه الخطوط النظرية والسياسية كانت كارثية خاصة على البلدان التي طبقتها بشكل عنيف ، وأهم هذه النتائج إن القوى السياسية ما قبل الرأسمالية ، والمذهبية الاجتماعية ، هي التي استفادت من تناحر القوى الحديثة ، وهي التي برزت إلى السطح والفاعلية ، حيث ساعدتها عوامل أخرى ، مما أوضح بشكل جلي بأن مهمات حركات التغيير العربية لا تزال مواجهة الأبنية التقليدية ، وضرورة عدم التحالف مع هذه القوى التقليدية وابرازها ، رغم السهولة التي تبدو بها عمليات التحالف مع هذه القوى الماضوية ، وضرورة تكريس تحالف الجبهة النهضوية التحديثية الديمقراطية ، حتى لو كانت الصعوبات جمة في طريق تشكيله وتعزيز عناصره الديمقراطية والعلمانية .

لكون التحالف مع القوى التقليدية وتعزيزها هو تقوية للتشكيلة الإقطاعية وسيرورتها الطويلة في الحياة العربية ، لأنها تشكيلة متكاملة ومتجذرة ليس في الحياة السياسية ولكن أيضاً في الحياة الاجتماعية والفكرية.

ونظن لو كان المناضل والمفكر مهدي عامل حياً ، لكان قد راجع الكثير من أفكاره ، التي كان يعززها حينذاك وضع عالمي مختلف .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش ومصادر:

لهذا فإن القول بوجود بنية كولونيالية أمرٌ يفتقد إلى التحليل المادي التاريخي.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=413619

 البنية والوعي

اختلف مع العديد من المفكرين حول رؤيتهم لمسار المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة، ولاسيما مع المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في مفهومه عن [ أسلوب الإنتاج الكولونيالي]، الذي أراد أن يجعله توصيفاً لمجتمعات العالم الثالث التي منها مجتمعاتنا.

وقد استفاد مهدي عامل من تطورات الفكر الماركسي في فرنسا، وخاصة تطورات البنيوية الوظيفية على يد غولدمان وآلتوسير، اللذين ركزا على مفهوم [ البنية]، باعتبار كل مجتمع بنية خاصة لها قوانين تشكلها، غير المنفصلة عن قوانين تطور التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تضم مجموعة من المجتمعات، والبنية ذات مستويات ثلاثة: اقتصادية وأيديولوجية وسياسية، وهي مستويات متداخلة، كل منها له أهميته التكوينية في مسار البنية، وبهذا ينتهي ذلك الفصل التعسفي بين الاقتصادي والفكري والسياسي.

وقد طبق مهدي عامل هذا المفهوم على مجتمعات العالم الثالث، رافضاً إنها مجتمعات إقطاعية أو رأسمالية، أو فقط مجتمعات تابعة، مقترحاً أسلوباً جديداً للإنتاج هو الأسلوب الكولونيالي، فهي مجتمعات تابعة، غير قادرة على إنتاج بورجوازية وطنية قادرة على تشكيل مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.

وبطبيعة الحال هذه المقولة تكمل الوعي اللينيني باستباق قيادة البرجوازية وقيام العمال بتشكيل هذه الثورة.ويواصل مهدي عامل ذلك قائلاً بأنها تابعة للرأسمالية الأقوى، وبالتالي لا يمكن أن تقوم بعملية القطع في بنية التبعية.

وفي رأيي فإن مهدي عامل لم ينطلق من درس تطور المجتمعات العربية الإسلامية، أي ما هي أساليب الإنتاج في دول المشرق الذي صار عربياً، وكيف ظهر الإسلام وفي أي بنية وما هي تطورات هذه البنية.

إذا أخذنا مثالاً بسيطاً على مفهوم البنية، فنقول عن سلطة الاحتلال الإنكليزية في الدول العربية في بدايات القرن العشرين، هل كانت سلطة رأسمالية أم إقطاعية؟

إن قانون البنية هنا يقول بأن البنية الاجتماعية لها قوانينها الداخلية، وهي التي تستقبل المؤثرات الخارجية وتعيد تشكيلها داخلياً، فنحن قد نأخذ أداة غربية متقدمة ولكن شروط وجودها في بنيتنا الوطنية تعيد تشكيلها حسب قوانينها، فالتلفزيون المنتج يغدو عندنا أداة ترفيه، وكذلك فإن قائد الاحتلال البريطاني الذي يسجن من يقوم بتعدد الزوجات في إنكلترا حين تدوس أقدامه أرضاً عربية يقبل بهذا التعدد.

وكذلك فإن كافة المنتجات الثقافية والاقتصادية تخضع لإعادة التشكيل داخل البنية، فيغدو المستعمر البريطاني رئيساً لسلطة إقطاعية.وتغدو عمليات التحديث الرأسمالي المحدودة غالباً في بنية إقطاعية مهيمنة.لكن هذا الإقطاع عرف سيرورة خاصة تمثل تطور المجتمعات العربية الإسلامية، التي تغدو فيها المذهبية شكلاً دينياً محافظاً للصراع الاجتماعي.

ولهذا فإن تكون الفئات المتوسطة في مجتمعاتنا هو تكون تابع أولاً للإقطاع، فتبعيتها للإقطاع هو الذي يجعلها تابعةً للإمبريالية. إن عدم تجذر الخطاب الفكري والسياسي للفئات المتوسطة، يعود لهذه التبعية المركبة.

لو أخذنا المجتمع اللبناني كمثال لقرأناه بوصفه مجتمعاً إقطاعياً مذهبياً نموذجياً. فكافة الشرائح التي تبدو قوى برجوازية هي قوى لإقطاعية مذهبية ودينية مختلفة. الحزب الاشتراكي التقدمي هو يافطة للإقطاع الدرزي والمهيمنين فيه، أي أن الشريحة المتوسطة في الطائفة الدرزية لم تستطع أن تغير الإقطاع المهيمن عليها، أي أن تغدو جزءً من طبقة برجوازية قائدة، وهذا يحتاج لشروط اقتصادية، عبر تعاضدها مع الشرائح الوسطى في الطوائف الأخرى، وفكرية عبر إزاحة الوعي الطائفي المهيمن في الفكر السياسي الدرزي وغير الدرزي، وبقراءة نقدية للوعي الدرزي باعتباره إحباطاً للنضال الثوري عند الفلاحين المسلمين في العصر الوسيط وهيمنة للإقطاعيين على إنتاج هذا الوعي والسيطرة على الفلاحين الذي تقسموا وفقدوا قدرتهم على الكفاح الطبقي العام، وهو أمر يُعاد إنتاجه في المجتمع الإقطاعي اللبناني الحديث، عبر مستوى آخر من تطور البنية وتداخلها مع الهيمنة الأجنبية.

ويمكننا أن نأخذ الوعي الفرنسي الملبنن كنموذج يواصل متابعة المسألة على صعيد الوعي، ونرى كيف إن وعي الثورة الفرنسية المستورد إلى لبنان تحول إلى كهنوت، أي أنه لم تستطع أفكار ديدرو وفولتير وجان جاك روسو أن تطيح بسيطرة الكنيسة والملالي على الوعي. فلماذا صار ميخيائيل نعيمة صوفياً؟ ولماذا ترنحت الثورة الرومانتيكية عند جبران خليل جبران؟ ولماذا صار الحزب الشيوعي اللبناني تابعاً لحركة القوى المذهبية عوضاً أن يقود معركة لتشكيل مجتمع حديث لا طائفي؟ أي كيف غدت الماركسية ديناً وعقيدة ؟ أي لماذا لم تستطع الفئات الوسطى والشعبية فيه أن تغدو علمانية؟ أي لماذا ابتعدت أدوات مهدي عامل من الحفر والهدم للمجتمع الإقطاعي اللبناني الطائفي كتشكيلة حقيقية وليس كمجتمع كولونيالي؟

تكمن الإجابات في الحفر المزدوج الماضوي والحديث، عبر دراسات ملموسة في تكوينات المجتمعات وتطوراتها الخاصة، أي تحولها من كيانات داخل الإمبراطورية الإسلامية إلى كيانات وطنية، وكيف تمت التطورات والصراعات القديمة والحديثة، وكيف ومتى حدثت التغيرات في البُنى الإقطاعية في كل بلد بلد، وفي المستويات الثلاثة السابقة الذكر، وهل وصلت هذه التغيرات إلى الخروج من التشكيلة؟

إننا في لحظة تاريخية فكرية كبيرة هي إعادة لصياغة المفاهيم وانقلابها، وتاريخنا كله موضوع للحوار، لأن كتلته الجامدة صارت تعيق أمة كبيرة عن المشي في الكوكب الأرضي.

عبدالله خليفة

( 9 ) : ( أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية ؟ ) ص 16 ، ونعتمد على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عن دار الفارابي ببيروت سنة 2002 .

( 10 ) ، ( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 21 ) .

( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 53 ) .

( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 39 ) .

( 14 ) : ( المصدر السابق ، ص 43  ) .

( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 54  ) .

( 16 ) : ( المصدر السابق ، ص 54 ) .

( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 34 ) .

( 18 ) : ( المصدر السابق ، ص 73 ) .

( 19 ) : ( المصدر السابق ، ص 74 ) .

( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 76 – 77 ) .

( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 78 – 79 ) .

( 22 ) : ( المصدر السابق ، ص 81 ) .

( 23 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) .

( 24 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) .

( 25 ) : ( المصدر السابق ، ص 85 ) .

( 26 ) : ( المصدر السابق ، ص 87 ) .

( 27 ) : ( المصدر السابق ، ص 104 ) .

( 28 ) : ( المصدر السابق ، ص 105 ) .

( 29 ): ( المصدر السابق ، ص 97 ) .

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ لينين و مغــــــــامرةُ الاشتراكيةِ ــ الكتاب الثاني

لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته

مقدمة

لينين في محكمةِ التاريخ
إنتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظللَّ هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرسَّ نفسه لكي يكون ديكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها كما تصور.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون لعشرات السنين وربما لمئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها وديكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما تغلغلت زادت البرامج شموليةً وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالمٌ إستبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة لا يستطيع أن يغير، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الديكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي إعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهضْ على أكتافِ مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حركا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ على الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركز على مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز على النضالات السلمية، والمحبة، وعلى(البعث الروحي) وهذه إعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ لنفس مسار روسيا بدون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فبدون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وإنتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون إشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في إستبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها نفس السمات كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في(ما العمل) أكدَ ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وإنقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون إستبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويغلغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيرَّ روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى إستعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!
سبب إنقلاب لينين على الحكومة الديمقراطية وقتذاك الكثير من المآسي للشعب ولكنه حقق نهضة هائلة.
كان تصعيده للصراع ضد حكومة أتاحت الأحزاب والانتخابات لكونِ برنامجه من البداية ينادي بإبعاد البرجوازية عن السلطة، وحين جاءتْ سنةُ التحولِ في 1917 سّرع من الدعوة لتحقيق مطالب شعبية ملتهبة، وعزلَ البرجوازيةَ عبر التحالف مع الفلاحين، وكان قبلاً لا يؤيد إعطاء الأرض للفلاحين لكنه في خضم الصراع ومن أجل تفكيك الخصوم وضرب بؤرتهم جذب الحزبَ الثوري الشعبي ذا الأغلبية وتبنى برنامجه وأضافه في لعبته السياسية، فحقق البلاشفة الأغلبية لأنفسهم وجاءت الملايين لتأييده، فهذا الإجراء حقق قاعدة هائلة في بلد يحكمهُ على الأرض الفلاحون.
لكن البرنامج البلشفي ليس هو هذا، وهو برنامجٌ عامٌ مجرد في بداياته، ويتوجه نحو ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة بشكل أساسي، بتأميم المصانع، وبهذا فإن البلاشفة أسسوا جيشاً كبيراً ومخابرات قوية، وراحوا يصفون الخصوم الخطرين، ثم ينقلبون على الحلفاء، فالحزبُ الشعبي حاول أن يعري هذه الدكتاتورية التي هي ليست دكتاتورية العمال، بل دكتاتورية البلاشفة، فكانت ضربة الحزب العنيفة حين أعلن بعضٌ بحارتهِ وعماله التمرد وتحول لغبار بشري!
تكوين سلطة بلا جذور، وعبر إجراءات إجتماعية وتشكيل أجهزة عسكرية وإستخباراتية عملاقة، أتاح صد المعارضين والقوى المتدخلة الأجنبية على التراب السوفيتي، وكان المتصور إنها بإمكانياتها العالمية قادرة على سحق هذا النظام الغض المحاصر، لكن تلك الأجهزة وإجراءتها التحولية لمصلحة الغالبية الشعبية، وعمل إنضباط هائل ومصادرة أية حبة قمح زائدة عن إستهلاك الفلاحين، أدت لتماسك النظام وإنتصاره وحدوث قمع رهيب وضحايا ومجاعة.
لكن هذا الرجل صاحب المشروع الدكتاتوري النهضوي مرهف لشعيرات التحول، فحين رأى تجاوز المرحلة السابقة وكم الدمار والتخلف والضحايا، تبدل عن هدفه في إزالة الطبقات، وتحول بنفسه لرئيس نظام رأسمالية الدولة.
ومنذ البداية كان مدركاً لطبيعة النظام الذي يؤسسه، قال في سنة 1918 في اللجنة المركزية: إننا نبني اليوم رأسماليةَ الدولة فعلينا أن نطبق وسائل المراقبة التي تسعملها الطبقاتُ الرأسمالية). وبعد ذلك في 1921 تحول هذا إلى نظام وعادت بعض الطبقات القديمة المالكة، ومضى المجتمع في تطور إقتصادي مع بقاء الأجهزة العسكرية والأمنية المتصاعدة النفوذ، وذابت قوى المعارضة أو أُذيبت، وإنتشرت معسكرات العمل الأجباري والمنافي وتحضرت البلاد لدكتاتورية أسوأ من دكتاتورية لينين.
إن مشروع الاشتراكية في إجراءات لينين قبل موته لم يزل قائماً، ولم تُعرف تصوراته للمستقبل، وماذا كان ينوي لو كان حياً، فهذه القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وبقاء الملكيات الصغيرة الفلاحية الهائلة، كان لا بد من تغييرها ونشؤ الملكيات العامة والتعاونية في كل الاقتصاد حسب التصور المفترض، وكان المكتب السياسي به قيادات مثقفة كبيرة، وكانت قادرة على متابعة فكره وتطبيقه بمرونة.
لكن الدكتاتورية المؤسَّسة بأجهزتها وبزخمها العامي وجدت في ستالين رمزها، وهو رجل داهية إستطاع الوصول لهذه الأجهزة، وقد حذر لينين المؤتمرَ العام للحزب من خطورة هذا الرجل، وبضرروة تقليص صلاحياته.
هذا الجانب ينقلنا لطبيعة الدكتاتورية التي أسسها، فهي دكتاتورية عنيفة لها أخطاء وتجاوزات كبيرة، لكن تستند على تطور المشروع بشكل ذكي، وقد نوّهَ بقياداتٍ أخرى غير ستالين، ولكن الهيمنة البوليسية صعدت داخل الحزب، وكرست الدكتاتور الأكبر.
وهذا جزء من طبيعة النظام وتاريخه وإمتداداته في العامة، وتصعيد الانتهازيين وطلاب المكاسب، وتحنيط اللغة الجدلية التاريخية تدريجياً وتحولها لقوالب، وشمولية كلية، وهذا يؤدي لغياب الغنى والتنوع وتمركز السلطة أكثر فأكثر.
المشروعُ في النهاية ظهر عبر مضمون المجتمع ومرحليتهِ التاريخية، فرأسمالية الدولة تتوسع على حساب الطبقات المنتجة، فتم عّصر الفلاحين والعمال وإنتزاع رأس المال منهم، وتحويله للصناعات والعلوم وتغدو الدولةُ أكثر فأكثر ذاتَ مضمون رأسمالي داخلي، بشكلٍ إشتراكي زائف، حتى يصل المضمون لتجليه الكامل عبر إعادة البناء، ويقوم بالتخلص من النفقات المكلفة ومن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية(الأممية الثالثة)التي تبخرت ومن مساعدات حركات التحرر ويصدرُ السلاحَ السلعة الوحيدة التي تمكن منها ويبحث بكل قوة عن النقد.
كان لينين دكتاتوراً ولكن ليس من خلال رؤية ذاتية، بل من أجل نظام آمن بتشكله عبر إجراءاته، لكن ستالين كان ذاتياً، أسقط شكوكه وكراهيته وتخلفه الفكري على إدارته، فأضاف الكثيرَ من القمع بلا مبرر.
قال أحدُ الرأسماليين المثقفين الروس في أثناء تلك التحولات العاصفة: إن لينين يقوم بإنشاء رأسمالية متطورة وبوسائل دكتاتورية وهو أمرٌ نعجزُ عنه نحن.

الفصل الأول

الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية
يضعُ لينين تعريفَ المفكر فريديريك أنجلز بدايةً لكتابهِ(الدولة والثورة)، الذي يُعرفُ الدولةَ في كتابهِ(الملكية الخاصة والعائلة والدولة)بأنها تنشأ:( لكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطفُ الاصطدامَ وتبقيه ضمن حدود «النظام».(1).
لكن لينين يقولُ شيئاً آخر:
(إن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدرِ ما لا يمكن، موضوعياً، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها).
وجهتا نظرٍ تبدوان متقاربتين لكن ثمة تشويشاً إيديولوجياً في تعبير لينين.
فحين تتصاعد التبايناتُ الاجتماعيةُ في القَبليةِ على سبيل النشأة التاريخية فإن جهازَ الدولةِ يظهرُ من رؤساء العشائر والمتنفذين ليجعل التناقضات الاجتماعية غير مفجرةٍ للقبيلة، وأن يستمر وجودها الاجتماعي الموحّد، وحين تغدو القبيلةُ متحكمةً في مدينة وتقوم القوى العليا بالحكم فيها وتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ فتظل الدولةُ قامعةً للخارجين عن سيطرتها ولخلق وحدةٍ إجتماعية سياسية.
إن التناقضات الطبقيةَ يمكن الموائمة بينها حسب طبيعة أسلوب الإنتاج ومدى تطوره أو تفسخه، وليس بشكلٍ تجريدي عام كما يصورُهُ لينين.
فإذا كان أسلوبُ الإنتاجِ مستمراً متطوراً فإن الدولةَ المعّبرةَ عنه تبقى مستمرةً وتبدأ الدولةُ في التخلخل والانهيار التدريجي حين يغدو أسلوبُ الإنتاج متناقضاً، وتصطدمُ قوى الإنتاجِ بعلاقاتِ الإنتاج المتخلفة، وعلى قدرةِ الدولةِ والقوى السياسيةِ بفهم هذا التناقضَ الجوهري وإيجاد الحلول له، فإن الدولةَ تبقى وربما تتطور، وربما تدخلُ في تناقضاتٍ مستعصية على الحل كالحالة الروسية.
لا يقومُ لينين بدرسِ أسلوبِ الإنتاج ليضعَ بعد ذلك الجوانبَ الداخليةَ فيه كالدولة والصراع الطبقي ضمن مساره، فيقرأها على ضوء الكل، على ضوءِ التشكيلةِ التاريخية.
(الإيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الإيديولوجيون البرجوازيون الصغار، – المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمراً ممكناً. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق – الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! – الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفاً اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.)، (2).
يتم الصراع الإيديولوجي هنا بين وجهتي نظر محصورتين في جوانب جزئيةٍ ضيقة، فالدولةُ لدى لينين أداةُ ظلمٍ من طبقة لأخرى، وكلمة ظلم مثالية أخلاقية، ويمكن قراءتها بأن الدولةَ أداةٌ في يد طبقةٍ لإستغلال طبقات أخرى حسب تاريخ التشكيلة، فيمكن لدولةٍ بأن تقوم بالصراع مع الطبقة التي تمثلها، وتطرح إجراءات تحويلية، في الاستثناء التاريخي، ويمكن أن تظل أداتها المعتادة في الحكم في الأحوال العادية.
ما يحددُ التغييرَ والعاديةَ في مسلك الدولة، وما يحددُ الثورةَ هو مدى تطور التناقض في أسلوب الإنتاج. فأسلوبُ إنتاجٍ في بدايتهِ ربما تلجأُ فيه الدولةُ لإجراءاتٍ إيجابية مفيدةٍ للكل الاجتماعي كما يحدث في ظروف الإصلاحات الاقتصادية السياسية. وما يحددُ الانفجارَ هو عجزُ الطبقةِ عن تغيير التناقض المتفاقم في أسلوبِ الإنتاج.
ومن هنا فإن التعبيرات المُستخدمة في هذه الفقرة السابقة أعلاه هي مواقفٌ جزئيةٌ لا تدلُ على أن الثورة لازمة حتمية أو أن الإصلاحات غير ممكنة أو أنها ضرورية، فالأمور هنا خاضعة للمجتمع ودرجات تطوره وتناقضاته وكيفية حلها، من قبل القوى الاجتماعية السياسية المختلفة.
فتعبيرُ لينين بكونِ الدولةِ أداةُ ظلمٍ، أو تعبير الاشتراكيين الديمقراطيين والجماعات الأخرى بأن الدولةَ أداةٌ للتوفيق بين الطبقات، لا يرتكز على قراءة تاريخ التشكيلة وأسلوب الإنتاج.
فالمجتمعُ الروسي القيصري هو مجتمعٌ إقطاعي فيه علاقاتٌ رأسماليةٌ متنامية، لكنه لم يحسم تطوره التحديثي بعد، فعلاقاتُ الإنتاجِ السائدة إقطاعية، وقوى الإنتاج البشرية السائدة وهم الفلاحون، والمادية وهي أدوات الانتاج في الزراعة خاصة تصطدم مع علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة.
ولهذا فإن الدولة الروسية هي دولة إقطاعية وينبغي أن تتحول لدولة رأسمالية حديثة وهو الخيار التاريخي، وحين يتوجه من يسميهم لينين بالبرجوازيين الصغار لتصعيد المجتمع الرأسمالي الحديث الديمقراطي وتغيير طابع الدولة يكونون في المسار التاريخي الصحيح، أما ما يقوله بالقفز على ذلك فهي مغامرة تاريخية كبيرة لها نتائج وخيمة.
في محاولتهِ لإقامةِ دكتاتوريته يتلاعبُ لينين بالنصوصِ الماركسية والحيثيات التاريخية، فالدولةُ كقوةٍ تمثل الطبقة السائدة هذا معنى معروف وشائع، ولكن القوى السياسية المعارضة لا تشكل فصائل مسلحة لهدم النظام بدعاوى مختلقة، بل عبر إعتمادها على التطور الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة المنبثقة عنه، لكنه يقولُ ذلك ويفعلهِ ليبررَ مغامرته العسكرية الذاتية، أي العائدة لفصيل سياسي مغامر يمثل الرأسمالية الحكومية ويقول أنه ممثل العمال وأنه يقيمُ الاشتراكيةُ لهم.
بالاعتماد على نصوصِ الماركسية القائلة إن الدولةَ جهازٌ يمثلُ الطبقة الحاكمة بشكل عام، لكن يمثله حسب تطور أسلوب الانتاج، لا في التجريد السياسي الاجتماعي، وعندما يقومُ بهذا التمويه وينتقي جملاً ويحشدها في برنامجه المغامر.
فهناك التعكز على كومونة باريس وإنشائها لقوةٍ عسكرية، ولكن هذه القوة تمت لغياب الجيش الفرنسي وللاحتلال الألماني لفرنسا، ولهروب الحكومة الفرنسية إلى فرساي، كما أن هذا الحدث الاستثنائي لا يُلغي في التاريخ الفرنسي العودة للمؤسسات الديمقراطية وإلى حكم الطبقة السائدة البرجوازية والصراع معها والدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية كذلك. لكن لا تستطيع الكومونة أن تقيم نظاماً إشتراكياً فرنسياً متواصلاً.
كذلك يستند لينين إلى دعاوى الفساد وأن الحكومات الغربية الرأسمالية ممتلئة برشاوى الشركات.
(وفي الوقت الحاضر«رقت»الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أية جمهورية ديموقراطية كانت).
إن تلوثَ الدول الغربية وتعبيرها عن الاستعمار والإستغلال هي أمورٌ لا شك فيها، ولكن هناك كذلك مؤسساتٌ تقاومُ وتفضح، عبر وجود برلمانات وصحافة مختلفة الاتجاهات وطبقات شعبية وحق الإضراب والتظاهر وغير ذلك، لكن في مشروع لينين الدكتاتوري فإن كل وسائل الفضح هذه سوف تختفي، والرأسماليةُ الحكوميةُ المزعومة إشتراكيةً ستغدو دكتاتوريةً شموليةً تمنعُ الصحافةَ المتعددة وحقَ الإضراب والانتخابات الديمقراطية وتُصعّد الفاسدين البيروقراطيين كحكامٍ ورأسماليين على مدى عقود حتى ينفجر الأتحاد السوفيتي بتناقضاته المزروعة من عهده!
إن التحالف والتعاون الذي تطرحهُ فصائلٌ سياسيةٌ إجتماعية متعددة من أجل إنشاءِ وتطور جمهورية روسيا الديمقراطية يهزأ به لينين ويرفضه، ويقول بأنه صارت في روسيا خلال الأشهر القليلة من سنة 1917 حيث إنتصرت الثورة الديمقراطية على الإقطاع ظاهرة فساد وهي دليل على فساد الحكومات الناشئة عن هذه الحيثيات السياسية وبالتالي يجب إسقاطها.
إن مقاومةَ الفساد هو شأنٌ نضالي جماهيري عبر تطور البرلمانات والأحزاب والصحافة والرأي العام والنقابات المستقلة، وغيابها هو بقاءٌ للفساد وتجذره في النظام حيث سيعششُ فيه ويخنقهُ مع غياب تلك الأدوات الديمقراطية كما حدث في نظام رأسمالية الدولة الشمولية الذي أقامه لينين.
(ويمكن القول في شهر العسل لقران«الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية.)، (3).
إن الإختلافات بين القوى السياسية الديمقراطية يجب أن تُحترم وتتطور لتشكيل نظام ديمقراطي وأن تُقاوم ظاهرات الفساد وفقر الناس وان تطور الإصلاحات في الريف وغير هذا من المسائل الملحة لتحقيق الثورة الديمقراطية الوطنية.
لكن لينين كدكتاتور يستغل هذه الوقائع ويفصلها عن مسار أسلوب الإنتاج والتشكيلة، عبر لصقها مع مقتطفات من أنجلز، وقد قرأنا لأنجلز في كراسه(حول المسألة الدستورية في ألمانيا) (4)
نظرةً مختلفةً عما يقولهُ لينين بالاستناد على أنجلز وكتابه(العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، وهو كتابٌ يعالجُ مسائلَ نظرية تاريخية بعيدة، في حين يوضحُ كراسُ المسألةِ الدستوريةِ أوضاعاً أوربية معاصرة، حيث يؤكد أنجلز في مقالته على أهمية دعم البرجوازية وتصعيدها لتشكيل نظام ديمقراطي حديث، بدون غياب الصراع معها.
نظرةُ أنجلز نظرةُ ثوري عالمٍ ونظرة لينين نظرة مغامر سياسي، لا يقوم بالتحليل العميق الواسع للظاهرة، بل يرتكزُ على مقتطفات غالباً ما تكون مطولةً من الكتب الأخرى، ليبررَ موقفه السياسي المفصول عن قراءة التشكيلة التاريخية عبر بضع عبارات وجمل.
فهل يمكن لنظام رأسمالي وليد في روسيا لم تمض عليه سوى بضعة شهور ليتم القفز عليه؟ فهو نظامٌ رأسمالي في قطاعات منه بينما علاقات الانتاج والحياة الاجتماعية إقطاعية سائدة؟
أسلوبُ الإنتاج الإقطاعي لم يتم تغييره، وثمة أسلوب لم يتعمق هو الأسلوب الرأسمالي، ثم يقال بأن هناك تشكيلة تاريخية أخرى هي التشكيلة الإشتراكية يجب أن تُفرض من أدوات السلطة!؟
ومن هنا فإن القوى السياسية الديمقراطية الروسية في تصعيدها للنظام الرأسمالي التدريجي كان ذلك ضرورياً، ثم جاءت المغامرةُ السياسيةُ البلشفية ومن ثم حدثتْ الحربُ الأهلية والتدخلات الأجنبية وسقط ضحايا بمئات الألوف.
إن غياب الرؤية الكلية لتباين مواقع الرأسماليات الغربية عن الدول الشرقية، وعدم قراءة أساليب الإنتاج في كلٍ موقع بين الغرب والشرق، وإعتماد الانتقائية في القراءة وإخضاعها لأدلجةٍ مسبقة لمشروع سياسي شمولي، وقلب الحقائق والمواقف الطبقية للفصائل المختلفة، وتصعيد المغامرات السياسية العسكرية، هذه هي نظرة لينين للعملية السياسية الاجتماعية، التي ستغدو مادةً وراثية لقوى سياسية كثيرة ستدخلُ في صلبِ أعمالها ومناهج عملها فتقودُ النضالَ الديمقراطي لشعوب الشرق إلى سكك خاطئة تفشل لتصعد القوى الطائفية والرجعية والرأسمالية الحكومية الطفيلية في نهاية المطاف .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
1-(نقلاً عن الدولة والثورة ص 4).
2- المصدر نفسه، ص 5.
3 – المصدر نفسه ص 8.
4 – حول المسألة الدستورية في ألمانيا، من موقع الحوار المتمدن، كتابات فردريك أنجلز.

الفصل الثاني

الماديةُ والعلومُ

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يُصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمُهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغربُ برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.

لكنه أيضاً يتوغلُ في مجال العلوم ويواجه تعددَ المدارس والتيارات الفلسفية المثالية العقلانية والمادية التجريبية من أجل إكتساح المادية الجدلية للمسرح الفكري. لكن أية مادية جدلية لديه؟
ظهرتْ في أواخر وأوائل القرن العشرين مدارسٌ وحركاتٌ علمية عديدة لا تنطلق من المادية الجدلية بل من وعي علمي مختبري ومن غوصٍ تجريبي في العقل ومن إستخدام اللغة في تحليل منتجات العلوم الطبيعية.
كانت مدرسة(التجريبية المنطقية) تتوجه نحو دراسة الظاهرات الطبيعية بأشكالٍ جزئية تجريبية، حيث تفصلُ الظاهرةَ العامة عن كلية الطبيعة، وتدرسُ عناصرَ التجربة، لاستخلاص نتائج موثقة.
تعارضُ هذه المدرسةُ أفكاراً ومسلماتٍ إطلاقيةً من أجل أن تموضع الدراسة، وتحللَ الشيءَ أو الظاهرة، ولهذا رفضت مفاهيم مثل(المادة) و(الجوهر) معتبرة إياهما آراءً قديمة غير نقدية.
(إن اللون هو موضوعٌ فيزيائي إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لمصدر النور الذي ينيره للألوان الأخرى والحرارة والمكان الخ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لشبكية العين فأمامنا موضوع نفساني إحساس).
إن التجريبية المنطقية تقوم بدرس هذين الجانبين المواد والأشياء عبر صلاتها بالأحساس والجهاز العقلي البشري:
(إن الصلة بين الحرارة والنار تخص الفيزياء في حين أن الصلة بين(العناصر) وبين الأعصاب تخصُّ الفيزيولوجيا، ولكن لا هذه الصلة ولا تلك توجد بمفردها بل توجد كلتاهما معاً)، (1).
هذا ما يقوله الفيلسوف الإلماني ماخ في القرن التاسع عشر والذي ينقله لينين في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
فيقسم النقدُ التجريبي عمليةَ المعرفةِ المتأتية من العلوم إلى عناصر شيئية، وعناصر تفكيرية.
ويقول مفكر روسي موجزاً هذا(الإحساس مُعطى لنا أصدق من الجوهرية). بمعنى أن المطلقات هي خارج عملية البحث والتحليل للأشياء.
يعبرُ لينين عن إختلافه بطرق هجومية حادة ويقول محدداً وجهة نطره:
(يجب القول إن كثيرين من المثاليين وجميع اللاادريين.. يلقبون الماديين بالميتافيزئيين لإنه يخيل إن الأعتراف بوجود عالم خارجي مستقل عن إدراك الإنسان يعني تخطي حدود التجربة. وسوف نتكلم في حينه عن هذه التعابير وعن خطئها التام من وجهة نظر الماركسية)، (2).
لا يحللُ لينين بدقةٍ مسألةَ وصف الماديين بالميتافيزيقية هنا، ويخلطُ بين(إن الأشياءَ مستقلةٌ عن وعي الإنسان بالمطلق)، وبين أن الأشياءَ ليست مسقلةً عن وعي الإنسان النسبي.
إن إنفصالَ الأشياء والطبيعةِ عن الإنسان هو أمرٌ موضوعي، لا جدالَ فيه، ولكنها ليست مستقلةً عن وعي الإنسان التاريخي حين يتعامل معها ويحللها ويحاولُ إكتشافَها.
وهكذا كان العلماء القدماء لا يفصلون أفكارهم وعقائدهم عن تحليل المواد، في حين وصلت العلوم بين القرنين 19 و20 إلى عمليات متقدمة لفصلِ الوعي الذاتي للباحثِ عن المادةِ المدروسة.
ومن الممكن بهذا أن يقعَ الماديون في عالم الغيبِ الاجتماعي السياسي كما سيحدثُ للينين نفسه.
ومن هنا تتعاظمُ أهميةُ هذه القراءة للاحساس، ولتحول الانطباعات إلى معرفة، والتركيز على التجربة، التي لها أدواتٌ ومستوياتٌ وتطوراتٌ في أجهزتِها والتي تغدو ملغيةً لمعلوماتٍ وآراء سابقة نظراً لهذه الصلة بين المُعطى والتجربة.
لهذا تغدو العلومُ الطبيعيةُ منفصلةً عن الفلسفات والأديان والآراء المسبّقة، وتغدو الفلسفات مستفيدةً من خلاصات هذه العلوم ومستثمرة لها في وجهات نظرها.
من الممكن أن يكون هؤلاء الباحثين مثاليين ودينيين وماديين من مختلف التيارات، بسبب أن نشؤ العلوم في الغرب جاء من وعي مسيحيين ويهود ومؤمنين عامة، وهؤلاء حاولوا الارتقاء بالعلوم وعدم الاصطدام مع أديانهم وحجموا دلالات ونتائج العلوم وربطها بالصراعات الاجتماعية. لكن لينين ينطلق من رؤية حادة لإزالة الأديان والإستغلال بدون وعي علمي حقيقي، فيؤدي لتجربة مغايرة لما يريد.
خذ مثلاً ما يقوله لينين نفسه عن الأثير وعلاقته بالوعي:
(وهذا يعني إنه توجد خارج عنا، بصورة مستقلة عنا وعن إدراكنا، حركة للمادة، مثلاً، موجات الأثير ذات الطول المعين والسرعة المعينة، التي يولدُ في الانسان، بتأثيرِها في شبكة العين، الإحساسُ بهذا اللون أو ذاك)،(3).
إن حركة المادة العامة المجردة هذه صحيحة التأثير غير أن(موجات الأثير) هذه غير موجودة في الطبيعة نفسها، أي أن هذا المصطلح من مفرداتِ مدرسةٍ علمية قديمة تم تجاوزها فلم يعد هناك شيءٌ اسمه موجات الأثير! لقد جرت تجارب علمية في أواخر القرن التاسع عشر أثبتت غياب هذا المُسمى، وبدأت نظرياتٌ علمية جديدة، ولكن مع غياب متابعة لينين:
(لقياس سرعة الموجات الكهرومغناطسية، قام ميكلسون ومورلي بإجراء تجربتهما الشهيرة سنة 1881وقد كانت هذه التجربة من أشهر التجارب في القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى ثورة علمية لأن نتائجها كانت تعاكس تماما أفكار الباحثين المؤيدين لفكرة الأثير).
بطبيعة الحال إن العديد من باحثي النقدية التجريبية مثاليون ومحافظون وبينهم باحثون مناضلون في نقد وتحليل العالم الطبيعي والاجتماعي كذلك، لكن التعددية وإستثمار العلوم ونتائجها وتطويرها بالنقد يخلق شبكات تحليل واسعة للحياة في مختلف جوانب المعرفة.
يولي لينين أهميةً كبيرة لرجل الدين باركلي بإعتباره مشابهاً بشكل كلي للعلماء الفزيائيين والمنظرين النقديين التجريبيين، أصحاب هذه الفلسفة الجديدة التي قام لينين بمواجهتها في سنة 1908 في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
(إن بريكلي يقول بكل جلاء إن المادة(جوهر لا وجود له)، ص 21.
يعتبر لينين ذلك بمثابة(الهجوم المقدس على المادة)!
إن رجل الدين المثالي هذا في تصوره يماثل أرنست ماخ الباحث من القرن التاسع عشر الفيزيائي المعروف.
لكن ثمة فرق هائل بين القس بيركلي والعالم ماخ!
فمن هو بريكلي هذا؟
(جورج بيركلي(مارس 1685 – 14 يناير 1753)كان فيلسوفًا بريطانياً-إيرلندياً وأسقفا أنجليكانياً يعتبر من أهم مساندي الرؤية الجوهرية في القرن الثامن العشر الميلادي، إدعى بيركلي انه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في عقل الله. وهكذا فأن العقل البشري لا يعدو أن يكون بيانا للروح. قلة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه الرؤية المتطرفة، لكن فكرة أن العقل الإنساني، هو جوهر، وهو أكثر علواً ورقياً من مجرد وظائف دماغية، لا تزال مقبولة بشكل واسع. آراء بيركلي هُوجمت، وفي نظر الكثيرين نُسفت)، (4).
إذن بيركلي صاحب رؤية دينية متطرفة ألغى من خلالها العالمَ الموضوعي، وأعتبرهُ مجردَ فكرةٍ إلهية، وهو إمتدادٌ للعصور الوسطى والوعي الكَنسي التقليدي، ولهذا فهو يختلفُ إختلافاً كبيراً عن إرنست ماخ المثالي الذي عاش في القرن التاسع عشر باحثاً:
(ماخ، إرنست (1838 – 1916م)فيزيائي وعالم نفسي نمساوي درسَ حركةَ الأجسام بسرعتها القصوى خلال الغازات، وطوَّر طريقة دقيقة لقياس سرعتها معبرًا عنها بسرعة الصوت. وتعتبر هذه الطريقة مهمة خاصة في مشاكل الطيران الأسرع من الصوت. ظل عمل ماخ مبهماً إلى أن بدأت سرعة المركبة الفضائية تقترب من سرعة الصوت. وبعد ذلك استُخدم مصطلح رقم ماخ مقياساً للسرعة.)، (5).
وهو(يـُذكرُ باسهاماته في الفيزياء مثل رقم ماخ ودراسة موجات الصدم. كفيلسوفٍ للعلوم، فقد كان له تأثير كبير على الإيجابية المنطقية ومن خلال انتقادهِ لنيوتن، الذي مهّد لنسبية أينشتاين).
تتعدد وجهات نظر لينين تجاه ماخ ورؤيته، فيقول(التصور العام للماخيين ضد المادة) ص16،( الأسقف بركلي يساوي الماخيين)، ص35، وأتباعه يحاولون(تمرير المادية خلسة!)، (حاول أن يميل صوب المادية).
إن علماء الطبيعة يقومون بتنحية المُسبقات المختلفة، ومنها الأفكار، والتصورات القديمة عن المكان والزمان والمادة، وقد يقعون في أخطاء فكرية في هذا الهدف، ولكنهم يلجأون لذلك من أجل البحث العلمي، وعملية التنحية تبدو للينين بمثابة خيانة، ومن هنا يقوم ماخ بالبحث الجزئي المتغلغل في الظاهرة المدروسة للوصول إلى معرفتها والسيطرة عليها تقنياً، ثم يقوم بإختراعاته الكبيرة لكن فهمه النظري المادي الجدلي محدود.
(إن افيناريوس ينعتُ بالبحث المطلق ما يعتبرهُ ماخ صلة(العناصر) خارج جسمنا، وينعت بالنسبي ما يعتبره ماخ صلة العناصر التابعة لجسمنا)، (6).
إن افيناريوس هو عالمٌ مماثلٌ لماخ أقتربَ من رؤيته، وهو يعتبر الطبيعة التي هي العناصر خارج الجسم وبالتالي هي مطلقة، ولن تكون هنا في مجال البحث، لكن العناصرَ التي تدخلُ البحثَ هي متأثرة بوعينا ومستوى إدراكنا فهي نسبية.
كانت ثمة ثورةٌ علميةٌ تجري في أوربا من أجل الإطاحة بمفاهيم الفيزياء التقليدية، ومن أجل تصور جديد للمادة والكون، وهو تصورٌ متراوحٌ متذبذب جزئي محدود لدى كل من ماخ وافيناريوس لكنه يظهرُ بصورته الكبيرة المادية الجدلية لدى انشتاين.
إن التجريبية النقدية المرفوضة عند لينين كانت تغيرُ العلومَ، لكنه كان لا يزالُ مع فكرة موجات الأثير، التي قامتْ تجربةُ العالِمين ميكلسون ومورلي بدحضها، سنة 1881 كما ذكرنا آنفاً في حين كتبَ لينين كتابَه سنة 1908، وطبعَهُ مرة أخرى بعد الثورة الروسية دون تغيير في فهمهِ لموجات الأثير، فتلك التجريبية أكدت أهمية دور العلماء الشخصي وتغييرهم لآراء سائدة مُسّبقة، قَبلية.
في مقابل واحدية الحزب المطلقة وهيمنة الدولة المطلقة يجري كذلك جعل المادية الجدلية مهيمنةً كلية، لكن الدكتاتورية هنا مُصّدعة للعلوم الطبيعية والاجتماعية على نحو خاص.
تتكشفُ في المساواة بين بريكلي والماخيين والتجريبيين المنطقيين عدم فهم لينين للتطور الاجتماعي الفكري العلمي ومراحله التاريخية ومسائل الديمقراطية وتعددية الاجتهادات الفكرية والفلسفية، ففيما يعكس بيركلي رؤية دينية صوفية رجعية يقوم علماءٌ من الفئات المتوسطة بتطوير العلوم مجتنبين الدينَ والمادية الجدلية الجامدة وقتذاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
1 -(المادية والنقدية التجريبية) لينين، ص 53، دار التقدم، موسكو.
2 – السابق، ص 64.
3 – السابق، ص 54.
4 – موسوعة ويكيبيديا.
5 – المصدر نفسه.
6 – المادية والنقدية التجريبية، ص 61.

الفصل الثالث

تصور الاشتراكية

تبرزُ دكتاتوريةُ لينين بشكل أكثر وضوحاً في الطرح السياسي، حيث تكمنُ البؤرةُ الرئيسية لعمله الفكري عامة، فرغم إنه ينطلق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من ظروفِ روسيا المتخلفة في الاقتصاد والحياة السياسية إلا أنه يقارن نفسه بدول رأسمالية أكثر تطوراً كألمانيا وفرنسا، دون أن يعي مستوى التشكيلتين الإقطاعية الروسية المتآكلة والتشكيلة الألمانية والغربية عامة الرأسمالية الصاعدة.

ومسألة تمييز التشكيلات في الماركسية أساسية وهي تشكيلاتٌ مرتْ بها البشريةُ عبر التاريخ؛ المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية.
وتتعلق فترتنا المشتركة في دول العالم الثالث بهذه الحلقة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية، وفيما تشاركنا روسيا في مرحلة الانتقال هذه، فإن ألمانيا المخصص لتجربتِها النقد في هذا الكتيب المُسمى (ما العمل)، بدأتْ تدخلُ الرأسماليةَ بإتساعٍ في ذلك الزمن من أوائل القرن العشرين.
وحين يلغي لينين الفروقَ بين البلدين، ويبدو كما لو أن البلدين يقعان في ذات السياق التاريخي، يبدأ أولُ إنحرافٍ كبير له، وهو الإطاحةُ بقوانين التشكيلات، والدخول في المغامرة السياسية.
سنقرأُ كتابَه لهذه الفترة المحورية وهو(ما العمل؟)، المتعلق بالمهماتِ الكبيرة التنظيمية والفكرية والسياسية للحزب المنقسم وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
في هذا الوقت إستطاعت الحركةُ الاشتراكيةُ الديمقراطية الألمانية أن تحققَ تقدماً كبيراً في الانتشار والحصول على تأييد العمال، بعد أن كرس فردريك أنجلز هذا المسار كما أشرنا لذلك في الفصل الأول، وبدأتْ التأثيرَ في الحكم والمشاركة فيه.
فيما كانت الحركةُ الاشتراكية الديمقراطية الروسية في حضيضِ الحياةِ السياسية الاجتماعية في روسيا في بلدٍ متخلفٍ أغلب سكانه من الفلاحين الأميين الفقراء، فكانت حركةً سريةً تعاني الرقابة والاضطهاد.
يوجه لينين الأنظارَ في كتيبهِ السابق الذكر إلى مسائل خلافٍ كبيرة بدأت تطفو في الحياة الفكرية السياسية داخل الحزب، وهو ما يسميه ظهور خطين للحزب ومستمدين من الصراع في الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية عامة، يقول:
(وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الاتجاه” الجديد” الذي يأخذُ من الماركسية” القديمة” الجامدة موقفاً نقدياً. ينبغي للاشتراكية الديمقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزبٍ ديمقراطي للاصلاحات الاجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطهُ برنشتين بمجموعةٍ كبيرة من البراهين والاعتبارات الجديدة. فقد أنكرَ إمكانية دعم الاشتراكية علمياً وإمكان البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ، أنكرَ واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية، أعلن أن مفهوم(الهدف النهائي) ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا رفضاً قاطعاً، أنكرَ التضاد بين الليبرالية والاشتراكية، أنكرَ نظريةَ الصراع الطبقي وزعم إنها لا تنطبق على مجتمع ديمقراطي صرف يُدار وفق مشيئة الأكثرية)،(1).
إن برنشتين، زعيمَ الحركةِ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية التي توجتْ تطوراً سرياً مقموعاً طويلاً في ألمانيا فتحولتْ لحركةٍ شعبية مؤثرة، يتطلعُ إلى المزيد من التطور لها وللحكم وتنفيذ إصلاحات عميقة في ألمانيا التي كانت قيصرية. ولهذا فإن الحركة وقد غدت بهذا التأثير يعمل لتقدمها ويطرح نقاطاً حيوية مهمة للتطور السياسي الاجتماعية، وبعضها نظري محدود الرؤية وحتى خاطئ مثل إنكاره لقدوم الاشتراكية وإزالة الاستغلال الرأسمالي من تاريخ البشرية القادم لغياب فهمه لجدلية التطور البشري وتصاعد الصراع العمالي البرجوازي خلال العقود البشرية التالية، ولكن الهام المفيد التقدمي أن برنشتين لا يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية التي تشارك في الحكم بل يريد توسيع الاصلاحات المخصصة للعمال والشعب عامة، وتعميق المسار التحديثي الديمقراطي، فلماذا يغضب لينين؟
لينين ينطلق من خطةٍ مضادة هي الإطاحة بالنظام القيصري، كهدف رئيسي في الثورة الديمقراطية البرجوازية، ثم يقوم بالإطاحة بالبرجوازية التي شاركته في الثورة على القيصرية، من أجل ثورة إشتراكية، لأن البرجوازية لا تصلح أن تقود وتؤسس نظاماً، فهي طبقة وصلت إلى الموت الاجتماعي.
هنا رؤيتان غير جدليتين بين برنشتاين ولينين، أحدها تجعل وجود البرجوازية أبدي، والثانية لا تستوعب (ضرورة) البرجوازية بشكل نسبي.
لقد إنساقَ لينين إنسياقاً كبيراً مع إرادته الذاتية، وعوضاً أن يدرس بعمق تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وكيف ناضل خلال عقود عديدة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ليتحول إلى هذا التأثير الكبير ثم ليطرح مطالب عملية هامة، بدلاً من ذلك إنساق لرؤية سياسية إجتماعية مغامرة والدعوة لقفزاتٍ كبرى في بلد إقطاعي شبه رأسمالي متخلف، وذلك لكي تصعدَ الإرادةُ الدكتاتوريةُ الشخصية والحزبية ويزيل البرجوازية بدون أية قواعد موضوعية راسخة.
ولم تكن هاتان الرؤيتان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلشفية والمنشفية) تُدرسان في لقاءاتٍ واسعة وفي جدل خصب إجتماعي، بل كانتا تُبحثان بشكل مقالات وكتابات مختلفة متصارعة تغيبُ عنها الأطرُ الديمقراطية والدرسُ الواسع الشعبي العميق وتتحول إلى وجهات نظر حادة ومبتورة وتكّون أتباعاً متحمسين منفعلين خاصة في الجانب البلشفي ليكونوا بعد ذلك أداة الانقلاب السياسي في 1917.
إن لينين عبر طرحه لخطه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان يريد القضاء على البرجوازية والرأسمالية عبر التحالفات الاجتماعية والسياسية في حدود سنوات قصيرة، مما يمثل قفزةً في الفراغ.
رفضه لقوانين التشكيلات وضرورة ترسخ الرأسمالية في بلد ونشؤ الطبقيتن المنتجتين للتطور الحديث البرجوازية والعمال قاده للمغامرات السياسية والعسكرية.
وقد رأي برنشتين زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني السابق الذكر والذي أستشهد به لينين وأعرض عن درس أفكاره بعمق، أن تحقيق الاشتراكية لم يعد هدفاً للحزب بل هدفه هو تطور وضع الطبقات الشعبية وتحقق إصلاحات عميقة لها. وهذا مقبولٌ بالنسبة لزمنه، وليس مقبولاً في مطلق التاريخ! مثلما أن الأخطاء الفكرية والسياسية تشوه التطور النضالي الديقمراطي وتقسم اليسار وتضعفه!
يقول برنشتين ذلك وهو في دولةٍ متطورةٍ قياساً للينين، وقد دخلت البُنيةُ الرأسمالية بقوة وإتساع، لكن لماذا لم يتجه برنشتين لتحقيق الاشتراكية وهو في مثل هذا الوضع؟
إن إعراض برنشتين عن وضع الاشتراكية كهدف نهائي في تلك السنوات هو أمر موضوعي لكنه غير موضوعي في مطلق التاريخ، فهل تعني سيطرة الطبقة العاملة على الحكم ((حينذاك)) إزالة الرأسمالية؟
هنا يرفض لينين جملةَ برنشتين(إن مفهوم “الهدف النهائي” ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا).
يعتبر لينين ذلك إنتهازية يمينية(حقيرة)وما إلى ذلك من تهم حامية، ويغيبُ عنه مرةً أخرى مفهومُ التشكيلة التاريخية، وهي المرحلة التي تسود فيها علاقاتُ إنتاجٍ لقرون.
إنه يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية كطبقةٍ لكن الرأسمالية ليست فقط طبقة، الرأسماليةُ علاقاتُ إنتاجٍ، سواء كان رأس المال للأفراد أو للجماعات أو للدولة، والقضاء على الرأسماليين الأفراد لا يعني القضاء على الرأسمالية!
لأنهم سوف يظهرون مجدداً في مؤسساتِ الدولة وخارجها، وتتحول الدولةُ إلى أكبر رأسمالي، ويتحدد نموها عبر البنية الاجتماعية التي تظهرُ فيها، بمستوى قوى الإنتاج، ومستوى علاقات الانتاج، وعمليات التبادل وطبيعة الأسواق الخ.
حين تصبحُ الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الأوحد لا تستطيع الإفلات من قوانين الرأسمالية والقيمة، وفائض القيمة وتوزيعه، وضرورة الأسواق لتصريف السلع، التي لا بد أن تكون منّوعة متنافسة لكي تتطور وتلبي حاجات المستهلكين. أما أن تَصنعَ سلعةً واحدة مفروضةً سياسياً فهو أمر يؤدي لتآكل وتوقف قوى الإنتاج عن التطور وتدخلُ في صراعٍ مع علاقاتِ الإنتاج الرأسمالية الحكومية.
فتحدث ثورةٌ لكنها ثورة مضادة، ثورةٌ للعودةِ إلى الرأسمالية الحرة!
إن رفض برنشتين لتطبيق الاشتراكية الراهن في زمنه صحيح، ولكن رفضه للصراع الطبقي وتباين الليبرالية والاشتراكية السياسية كتيار معبر عن العمال مسائل أخرى مختلفة وتؤدي للانتهازية.
ذلك المسارُ العائدُ السوفيتي المرصود أعلاه للخلف الذي تحقق فيما بعد يمكن ملاحظته في إصلاحات خروتشوف وليبرمان القاصرة لإعادة السوق التنافسية في زمن الاتحاد السوفيتي، لكن رأسمالية الدولة ظلت مهيمنة كلياً مكلسة لتطور السلع والحياة الاجتماعية السياسية.
هكذا فإن رأس المال العام حين يحكم بشكل(الاشتراكية) يتعرضُ للتآكل والتدهور، ويُعوض ذلك بالتوجه لصناعة السلاح التي تقع تحت يد الدولة كلياً، وقوى الإنتاج تتدهور ويصبح العمال مجمدين ومتخلفين وكسالى ومدمنين.
ليس رأسُ المال سوى نتاج لقوى العمل المتراكمة، التي تأخذ أشكالاً متعددة، وتتطور عبر توسع قوى الإنتاج والأسواق، حتى يعمُّ هذا الأسلوب البشريةَ وتصبح الطرق أمامه مسدودة في مسائل تصريف السلع ووجودها القيمي نفسه، وهذه مسائل للعقود والقرون التالي، أي هي مسائل القادمين.
لكن أن تتحول بلد متقدم أو متخلف إلى الإشتراكية فهو مسار صعب بعيد وقائد مثل برنشتين الألماني الديمقراطي يعيش في حالات جدال مع الدولة والعمال والبرجوازية ويواجه مسائل تطور عملية متصاعدة، فهو غيرُ قائدٍ سياسي مغامر مثل لينين، يعيشُ في مخبأه، ويحاورُ بضعةَ أشخاص، ويصدرُ الأوامرَ ويكّون تنظيماً شمولياً متجهاً للتحريض المستمر والصراع المتصاعد، ولهذا يغدو التحولُ من موقعه الإرادي الذاتي المنتفخ وعبر فهمه المسطح للاشتراكية منفذاً على مدى سنوات قصيرة، فلا داعي لانتشار العلاقات الرأسمالية بعمق في البنية الاجتماعية، ولا داعي لتطور كل هذه الملايين نحو الديمقراطية والتعددية وإنتشار الثقافة الحرة لا المقولبة كما سيحدث فيمكن إختزالُ الظروف كلها بإنقلاب.
توجه روسيا للديمقراطية وتناميها فيها وتحول روسيا التدريجي للرأسمالية والحداثة كان من الممكن أن يجنبها الكثير من المشكلات الخطيرة والكوارث وملايين الضحايا الذين سقطوا في هذه المغامرات، كما أن تحولها الديمقراطي كان سوف يعمم الديمقراطية في البلدان المجاورة ويرسخها فيها.
أما تحولها لرأسماليةِ دولةٍ دكتاتورية فقد تركَ بصماته الكبرى على ألمانيا على سبيل المثال، إستطراداً من بؤرة المسألة المطروحة، فقد إنتقلت تجربةُ السوفيتيات وما سُمي ب(الثورة الحمراء) إلى ألمانيا ذاتها، التي لم تكن الظروفُ مهيأةً فيها للاحتجاجات فقمعها الجيشُ بقسوة، وإنحازت البرجوازية الألمانية للدكتاتورية وصعّدتْ هتلر كأداةٍ لسحق تنامي دعوات الاشتراكية الحمراء!
ووجد هتلر في إفتراس الاتحاد السوفيتي أكبرَ مهمةٍ له، فيما كان ستالين قد ذبحَ الكثيرين كذلك، ورقد عن هذا الخطر، حتى أقتحم هتلر بلاده، لكن الشعوب في الاتحاد السوفيتي دافعتْ عن وطنها بشجاعة منقطعة النظير.
حين إنقلبت الأمور وحكم السوفييت جزءً من ألمانيا صدروا نظامَهم، حتى ثار الناسُ عليه، وراحوا يحطمون تماثيل ماركس!
كوارثٌ تاريخيةٌ كبرى وتحولات تبدأ من كلمات.
نرى هنا سلبيات النظرةِ الواحدية لكل من برنشتاين ولينين، عبر رؤية جانب من ميدالية التاريخ، قد سبتت الاضرار لكل من ألمانيا وروسيا، عبر التركيز عما هو راهن ونسيان السيرورة التاريخية وقوانين التشكيلات، وأدى ذلك لصعود دكتاتورية حادة في روسيا، أضرت بتطور العملية الديمقراطية القارية في أوربا، مثلما أن الانتهازية الاشتراكية في ألمانيا أضعفت تطور الحركة الاشتراكية الديمقراطية في أوربا وبالتالي إنتصرت الدكتاتوريات الرأسمالية: رأسمالية الدولة الشمولية العسكرية في روسيا، والرأسمالية الاحتكارية في ألمانيا(الموحدة)!
إن هذه النظرة بدأت تُنقد من قوى عديدة خاصة القوى الماركسية العربية المراجعة الناقدة للتجربة وبضرورة تصحيحها، (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1): كراس (ما العمل)، فصل الجمود العقائدي وحرية النقد.
(2): إن إحدى أبرز إشكاليات الحركة الشيوعية تبلورت في روسنة النظرية الماركسية التي مارسها لينين أولاً، وإنتقالها كنظرية روسية(أممية) إلى العالم كله باسم الماركسية،(كتاب فهد والحركة الوطنية في العراق، تأليف: كاظم حبيب وزهدي الداوودي، دار الكنوز الأدبية، ص 495).

الفصل الرابع

الاستعمارُ والديمقراطيةُ

لا بد من فهمِ أعماق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشؤ الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه(الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) بعضَ هذه السمات الجوهرية وعبرها حددَّ تطورَ البشرية، مثل تبدل الرأسمالية الغربية من مرحلةِ المنافسة إلى مرحلة الاحتكار، ومن مرحلة الديمقراطية إلى مرحلة الدكتاتورية العالمية، وإقتسام العالم بين الدول الاستعمارية الغربية، وإقتسام العالم بين إتحادات الرأسماليين المختلفة المتصارعة، وأن الاستعمارَ هو طفيليةُ الرأسمالية وتعفنها، والاستعمار هو تتويجٌ للتطور الغربي بين القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وحتى القرن الراهن الواحد والعشرين.

ولينين يعيد ذلك إلى دور وأهمية الجوانب التقنية أيضاً، كتبدل وسائل المواصلات وتصاعد أهمية القطارات وبالتالي علينا أن ندخلَ كل شبكة المواصلات والاتصالات الشبكية الواسعة التي حدثت حتى وقتنا الراهن.
ولينين يستنتج من الجوانب الاقتصادية والتقنية المعزولة عن اللوحة العامة إستنتاجاتٍ كبيرةً:
(وهذا الحاصل يُظهرُ أن الحروبَ الإمبريالية هي أمرٌ محتوم إطلاقاً على هذا الأساس الاقتصادي طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكاً خاصاً(طالما بقيت علاقات الإنتاج الرأسمالية، علاقات المُلكية الخاصة الرأسمالية مسيطرة)(1).
كما أنه يوسعُ هذه الاستنتاجات على نحوٍّ أخطر:
(لقد غدت البورجوازية في العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في ظل جميع النظم ملكيةً كانت أم جمهورية، “ديمقراطية” كانتْ أم فاشية)،(2).
يضعُ لينين العالمَ بين خندقين، الأول هو العالمُ الرأسمالي المهيمن عبر الدول الغربية والذي هو معاد للديمقراطية، والعالم الجديد الوليد، العالم الإشتراكي، أساس الديمقراطية الحقيقية في تصوره.
ولهذا فهو يرى أن المجتمعات الغربية بين فترتين فترة رأسمالية تنافسية ظهرت فيها أشكالٌ تنويرية ديمقراطية، ثم جاءتْ الفترةُ الاستعماريةُ فسُحقتْ الديمقراطية، ولهذا لا تَميُزَ بين التيارات، ولا يمكن قيام تحالفات بين القوى اليسارية والبرجوازية اليمينية، ومن هنا تغدو أهمية الأحزاب الشيوعية، التي هي حصيلة هذا الفهم حسب تصوره، والتي يقومُ دورها على هزيمة الرأسمالية في الغرب فيما الشرقُ يتجه للاشتراكية.
تقيم هذه الرؤيةُ إستقطابيةً كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الشر والخير، بين الماضي والمستقبل، فهي تعسكرُ البشريةَ عسكرةً ثنائيةً إستقطابية.
نلاحظُ هذا التعميمَ وهو يَخرقُ الموضوعيةَ في فهم العالم الرأسمالي، فمن خلال سمات تنامي الاحتكارات وهيمنة رأس المال المالي على بعض القمم الاقتصادية السياسية، وتصدير رأس المال بدلاً من تصدير البضائع، يصلُ إلى إستنتاجاتهِ السياسية النظرية الجازمة الكلية.
إن هذه السمات موجودةٌ حقاً، ولكن هناك قطاعاتٌ كبيرةٌ لا تهيمنُّ عليها الاحتكارات، وجزرُ السيطرة في قلب المدن الكبرى موجودةٌ وممتدة في شبكات البناء الفوقي، لكن توجد كذلك معارضة متعددة من أقسام برجوازيات أصغر وبرجوازيات دنيا، ناهيك بطبيعة الحال عن العمال، الذين هم أيضاً يناضلون ضد الرأسمالية ويتحول بعضُهم إليها كذلك!
كذلك فإنه لا يمكن الحديث عن كون العالم الشرقي المستغَّل من قبل الاستعمار هو إحتياطي جاهز للاشتراكية، حيث حددَ لينين المصيرَ الكامنَ المجهول في وصفةٍ طبية مُسبّقة، بدون أن ينتهي مصيرَ العالم الغربي الرأسمالي في تطور إستعماري وحيد لا غير فيه ولا إحتمالات متعددة له. فالعالمُ الغربي مليءٌ بالاحتمالات مثله مثل العالم الشرقي التابع.
لكن الوصول إلى هذا التعميمات الكُليةِ بين غربٍ فاسد إستعماري وشرقٍ ناهضٍ نحو الاشتراكية، يكّونُ رؤيةً غيرَ جدلية، ورؤيةً غيرَ ماديةٍ تاريخية، فهي رؤيةٌ آحادية ميكانيكية، تقومُ على نقائض مُعمَّمة مجردةٍ في جهتين متقابلتين. وهي ثنائيةُ الإلهِ والشيطان الدينية الغائرة.
وفي العملِ السياسي ينتجُ عن ذلك جملةٌ من المعالم والمشكلات الهائلة، فالتدرجاتُ والألوانُ الديمقراطية الممكنةُ لدى الأقسام البرجوازية الكبيرة والأقل منها، تُزالُ من أجل لونٍ واحد.
فتغدو الشيوعيةُ هي اللونُ الأبيضُ الذي يجب أن يسودَ اللوحةَ في الغرب والشرق، فتظهر الأحزابُ المطلقة القادرة على محو الرأسمالية في عقرِ دارها أو في العالم المتخلف الناهض بشكل إشتراكي حتمي.
تغدو في الغرب نضالاً فكرياً سياسياً يلغي مشروعية الرأسمالية ووجودها المتنوع، ويصيرُ في الشرق دولةً إشتراكية أو معسكراً إشتراكياً، أو أحزاباً تحملُ المشروع وتحققه.
صارت البشريةُ بكل تضاريسها المعقدة المركبة ومراحل نموها المختلفة، وتباينها بين رأسمالية خاصة سائدة ومشروع رأسمالية حكومية شرقية طالعة، في خطين أسود أو أبيض، رأسمالي أو شيوعي وليس ثمة طريق آخر!
يقدم لنا عنوانُ كتابِ(الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) نهايةً تامةً راهنة للرأسمالية، فالاستعمارُ يمثلُ تفسخ الرأسمالية على المستويين الغربي والشرقي، في الأول تنهار من الداخل، وفي المستوى الثاني تتفجرُ كفاحاتُ الشعوب بإتجاه الاشتراكية، فيكتملُ التطورُ البشري ويجري الإطباق على العدو الغربي، لهذا يتخذ لينين إجراءاتٍ سريعةً راهنة لتنفيذ هذه الرؤية.
إن رؤية لينين صحيحة على المستوى الإطلاقي، على مستوى القرون، لكن حتى على هذا المستوى البعيد فإن الرأسمالية لا تنهار من خلال إنقلابات، بل عبر التطور التدريجي لقوى الانتاج البشرية والمادية، عبر نموها الطويل وتشكل نقائضها داخل هذا التطور وبتداخل الراسمالية الغربية والشرقية ومجيء مراحل مشتركة تجمع بين هذين المستويين المختلفين من تطور الرأسمالية.
إن الوعي الانقلابي للاشتراكية كما لدى لينين، يتم بتحقق الاشتراكية بمعزل عن العوامل الموضوعية الحاسمة في تصور المادية التاريخية، والوعيُّ الخاصُ بالنُخبِ لا يمكن أن يصنع ثورة إشتراكية، فالثورةُ ذاتُ عواملٍ موضوعية، لكن في رؤيته خلط لينين بين الثورة الديمقراطية والإنقلاب لتشكيلِ رأسماليةِ دولةٍ شرقية.
إن سمات الرأسمالية الغربية المتطورة عن بقية البشرية في لحظة سابقة، والتي تطورت من المنافسة إلى الاحتكارات وكل تلك السمات التي لاحظها لينين واستقاها من مصادر علميةٍ غربية في وقته، هي صحيحة، لكنه رَكّب هذه السمات الموضوعية فوق رؤيةٍ مسطحةٍ ذاتية، وهذه المميزاتُ لم تنتقلْ للعالم المتخلف حينذاك، ولم تتحول بُنى الدول الشرقية إلى بُنى رأسمالية، فهي ما تزال في العصر الإقطاعي ومخلفات العصور السابقة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ينطبق على روسيا كذلك.
ورغم هذه المميزات المعبرة عن تطور إقتصادي إجتماعي غربي، وكذلك عن سمات إستغلالية غدت كونيةً، ونهبتْ العالمَ الثالث، لكن هذا الاستعمار من جهة أخرى جرّ هذا العالمَ لحركته التاريخية وبعض أشكال تطوراته، وعبر هذا نشأت حركاتُ التحرر الوطني، ذات الأهداف والميول الديمقراطية بحكم التداخل والصراع مع الغرب. وكلُ تجربةٍ تنامت عبر الليبرالية والديمقراطية والصراع والتعاون بين المالكين والمنتجين غدت تجاربَ مهمة، فيما الأخرى تكدست فيها الظروف الشمولية والتي لم يحدث فيها ذلك التطور الديمقراطي العميق الواسع تراكمتْ داخلها تناقضاتٌ هائلةٌ فانفجرت أو في سبيلها للانفجار.
وحين قدمت روسيا مشروعَ التسريع الشمولي المعادي للغرب عبرتْ عن إزدواجية الأنتماء للغرب ورفضه معاً. وتوجهت لجذبِ بناه التقنية لا مشروعه الاجتماعي الثقافي الديمقراطي. إن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ليسا نقيضا الغرب الرأسمالي، ولكنهما مماثلان له ومتخلفان عنه.
إنهما أخذا قواعدَهُ الاقتصاديةَ التقنية وطرقَ شبكاتهِ المالية وبعضَ علومه، ورفضا بنيته الديمقراطية الاجتماعية. ركبّا الرأسماليةَ فوق بناء شرقي إستبدادي عتيق. وهذا ما سوف تفعلهُ حركاتٌ(شيوعية) ودينية وقومية وغيرها كلٌ حسبَ بناه الاجتماعية ومواقفه.
ومن هنا نرى إن لينين بتلك التعابير المطلقة عن هيمنة الاحتكارات والتفسخ الرأسمالي والطفيلية قفز لاستنتاجاتٍ شمولية، وأقام بناءً رأسمالياً غير ديمقراطي.
فيما عاركت حركاتُ التحرر الوطني الاستعمارَ من منطلقات متعددة، وتوجه بعضها للديمقراطية وتوجه بعضها للاستبداد.
في القرن العشرين ظهر نموذجا رأسمالية الدولة الاحتكارية في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وكلٌ منهما على أساس مختلف، لقد ضربتْ السلطةُ الروسية أشكالَ الملكية الخاصة المتعددة، وغدت هي الرأسمال الأوحد، ولهذا فإن الديمقراطية إختفت، وغدا المجتمع تابعاً لهيمنةٍ عليا ساحقة، ومن خلالها إنبثقت الرأسماليةُ الخاصةُ ثانية مٌُلوثةً بكل ذلك التاريخ السابق.
وهذا إنعكس على المنظومة دولاً وأحزاباً حيث غدت مجموعات بذات التنميط الشمولي الفقير معرفة. إن عسكرة الريف والتجميعات في روسيا تُعطي في النهاية هذا المجتمع الشمولي حيث الدولة المهيمنة والثقافة المغيَّبة عن الأنسنة، فحين تغيبُ التعدديةُ الاجتماعية تصيرُ الدولةُ إمبراطوريةً ساحقة.
هذا ما قامت به حكوماتُ الولايات المتحدة فنشوء رأسمالية الدولة الاحتكارية أدى إلى الهيمنة الشمولية الساحقة للمجتمع الأمريكي وجفاف التعددية والتنوع، عبر سيطرة رأس المال العملاق والقوة العسكرية، وتحول هذا لنموذجٍ عالمي يهيمن على دول العالم الثالث، ويفرزُ جنرالات الشمولية ويؤيد رأسماليات الدول التابعة.
ثم وصل النموذجان للانهيار الظاهر والخفي، الأول عبر السقوط المباشر ثم الجثوم في القوقعة الروسية كآخر حصن قومي له، وتساقطت رأسمالياتُ الدول الشمولية في مختلف أنحاء العالم الثالث بأشكالٍ متعددة منفكةٍ من السيطرة الأمريكية والسيطرة الروسية أو في طريقها لذلك.
وفيما تواصل روسيا تأييد الأنظمة الشمولية العسكرية تؤيد أمريكا الخروج منها من أجل ظهور الأسواق الحرة والتغلغل فيها دون أن تعطي الشعوبَ ومنها الشعب الأمريكي حرياته الديمقراطية الحقيقية.
إن النموذجين الاستقطابيين حسب رؤية لينين لم يتحققا، بل تحقق نموذجا إستقطاب رأسمالية الدولة الاحتكارية في كل من الدولتين الكبريين، وقد أدى النموذج الأولُ الروسي إلى عدم إستغلال التنوع والقوى الرأسمالية والديمقراطية المختلفة في الغرب والشرق، وتعزيز حضورها، مثلما أدى ذلك في الدول والأحزاب التابعة للنموذج الروسي الشمولي إلى تغييب إمكانيات التطور الليبرالي والديمقراطي في بلدان العالم الثالث، ولهذا كانت الهتلرية تتويجاً لهذا التغييب في الغرب، فيما كانت الدولُ والحركاتُ الدينية والقومية الشوفينية والليبراليةُ الفوضوية هي الوريثة للسياسة(الشيوعية) في العالم النامي، ولم يؤدِ الانتصارُ على الهتلرية لإزلة طابع رأسمالية الدولة الاحتكارية، وتعميم النموذج الديمقراطي، فأستمر الصراع بين النموذجين من الحرب الباردة إلى الحروب الأهلية.
فيما طابع الرأسمالية الأمريكية طابع هيمنة الرأسمالية الاحتكارية بدون تعددية في الطبقة العليا كما يجري الأمر في بعض دول غرب أوربا الأكثر ديمقراطية من أمريكا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1)،(2): الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية، دار التقدم، موسكو.

الفصل الخامس

نقدُ المغامرةِ التاريخية

يعومُ لينين مصطلحات السياسةِ بشكلٍ غير تاريخي، ويلغي طابعَها الطبقي، وفي كتابه(مرض الطفولة اليساري) يقوم بتقييمِ تجربةِ حزب البلاشفة بإعتبارها نموذجاً عالمياً صالحاً حتى لأوربا وأمريكا، هذا التقييم نجدهُ عبر لغة تضخيم التجربة الذاتية بأدواتِ اللغة الإيديولوجية المُعّممة.

كلمة ثورة إشتراكية، وسيطرة المجالس العمالية على السلطة، هي مصطلحاتٌ لا تدرسُ كونَ الشخصيات البرجوازية الصغيرة القائدة كلينين وتروتسكي وبوخارين وستالين هي التي تقود العمال، والذين تصور لهم بأن السلطة القائمة حديثاً هي سلطتهم.
وبطبيعة الحال فإن تجربةَ مصادرة المؤسسات الخاصة والقيام بالتأميم تعني ضرب طبقة رأسمالية معينة، ولكنها لا تستطيع أن تضربَ الرأسمالية وتجتث جذورها و تزيلَ علاقات الانتاج الرأسمالية كما يتصور لينين وأنها هي الاشتراكية.
إن الاشتراكيين الديمقراطيين الأوربيين ينظرون لها بشكل آخر كشكلٍ من أشكال دكتاتورية فئات صغيرة.
هي في الواقع ثورة قومية روسية ضد التخلف ومحاولة للقيام بقفزة تاريخية، وفي هذا الغموض الاجتماعي بين تشكيلتين: التشكيلة الإقطاعية والتشكيلة الرأسمالية يتم التصور الواهم بأن ثمة قفزة للاشتراكية، لتشكيلة مستقبلية على أساسِ تأميم الشركات والبنوك.
هذا الكتاب يشترك مع الكتب السياسية الأخرى للينين في عرض تجربة البلاشفة، لكن هنا وهو في حالة السيطرة على السلطة وتصوير ثورة التحول هذه بإعتبارها ثورة إشتراكية ساحقة للطبقات.
المغامرة السياسية العسكرية لسنة 1917 تُعرضُ على أساس إنها ثورة إشتراكية تجاوزتْ الغربَ، فهذا البلدُ المتخلفُ الذي لم يقضِ على التشكيلة الإقطاعية بعدُ يتم تصويره بأنه يقفز إلى الاشتراكية.
لهذا فإن تحليلَ حزب البلاشفة طبقياً، وقراءة طبيعة السلطة المسماة السوفيتات كشكلٍ للسلطة الديمقراطية إنبثق من خلال التعددية الحزبية ثم تمّ تحويله لدكتاتورية حزبية بلشفياً وتقطعتْ علاقاته بالتعددية الحزبية والصحافة الحرة والديمقراطية عموماً، هذه كلها يجردُها لينين من طابعها الاجتماعي التاريخي ويؤدلجها حسب سلطته المطلقة سياسياً ونظرياً.
(ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن حرب ضروس تخوضها بمنتهى التفاني الطبقة الجديدة ضد عدو يفوقها بأساً، ضد البرجوازية التي تضاعفت مقاومتها عشرة أضعاف لسبب اسقاطها (وإن في بلد واحدة فقط)، والتي لا يكمن بأسها في قوة الرأسمال العالمي، وفي قوة ومتانة الروابط العالمية للبرجوازية وحسب، بل في قوة العادة أيضاً، وفي قوة الإنتاج الصغير. وذلك لأن الانتاج الصغير لا يزال موجوداً، مع الأسف، بمقدار كبير وكبير جداً في العالم، والحال أن الانتاج الصغير يلدُّ الرأسماليةَ والبرجوازية باستمرار.)،(1).
من هي الطبقة الجديدة؟ إنها فئة من البرجوازية الصغيرة من المثقفين صعدوا على الجسم النشط للعمال، وهي لا تعرفُ الأفقَ التاريخي الذي تشكله، فالثورةُ الديمقراطيةُ القومية هنا متداخلةٌ مع مهمات التحولات الاشتراكية التي لم يحلُ أوانها، ولهذا فإن مهمات الثورة الديمقراطية كالاصلاح الزراعي وتوسيع رقعة الفلاحين الصغار تُعطي السلطةَ المغامرةَ شعبيةً جماهيرية لكنها تقوم بتوسيع طبقة الفلاحين المالكة الخصم، أي البرجوازية الصغيرة المذمومة، وكأن لينين يتمنى زوال هذه الطبقة لتتحقق نفس مستويات أوربا الغربية وأمريكا من حيث إنتشار الصناعة في المدن والأرياف.
هنا إحدى فئات البرجوازية الصغيرة الروسية التي أستولتْ على الحكم عبر إنقلاب عسكري تتوهمُ ذاتَها بإعتبارِها جزءً من البروليتاريا، ومتجهةً لمحو الطبقات، لكنها في موقفٍ متناقض، فهي إذ تصفي أملاكَ أصحاب المصانع وتحيلها لإدارتها، تصعدُّ من جهةٍ أخرى البرجوازيةَ الصغيرة طبقتَها الواسعة الانتشار.
عملية الثورة الديمقراطية تأخذ بعداً تحويلياً قومياً، فالبرجوازية العالمية كما يقول تقفُ بالمرصاد، لكون هذا التحول يأخذُ طابعاً عسكرياً شمولياً عنيفاً، وهو يعكس طابع هذه البرجوازية الصغيرة الروسية القومي المتصلب، الذي يأتي بشكل الدِينِ الماركسي، حيث يغيبُ التحليلُ الطبقي التاريخي، والتجسيد الديمقراطي وتتصدر الكلماتُ الشعارات: دكتاتورية البروليتاريا، الثورة الاشتراكية، حكم السوفيتات، سحق الأديان.
إن البرجوازية الغربية المسيطرة عالمياً تنظر لخروج روسيا من السوق العالمية كخطر إجتماعي سياسي، لكن النموذج الروسي لا يحصل على أرضية تطبيقية في الغرب، ودون أن ينظر لينين لذلك عبر الخطأ المستمر في منهجه، وعدم إعترافه بالتشكيلات التاريخية المتباينة وتطورها المديد المختلف ولكنه يدرك الآن وهو في التطبيق جذور علاقات الانتاج خاصة الانتاج الصغير خاصة الفلاحي منه.
وهو يعيدُ عدم تحقق التحول الاشتراكي الحاسم عالمياً إلى قضايا وحالات شخصية فردية لزعماء الاشتراكية الديمقراطية:
(فإن سبب هذه الإنتهازية يعود أولاً إلى تشويه آراء ماركس في الدولة بل وإلى كتمانها المتعمد)، (2).
إن السبب يعود في الواقع لتطور تاريخي كبير مختلف بين روسيا والغرب، ففي الأولى ثمة هلاميةٌ إجتماعيةٌ واسعة، وملايين من الفقراء والفلاحين الشديدي الفقر، وبالتالي فإن البرامجَ الديمقراطية العامة كالاصلاح الزراعي تجدُ قبولاً واسعاً لديهم، فيما تجاوزت الدولُ المتطورةُ في الغرب هذا المستوى.
إن عدم توجه العمال الغربيين للثورة الاشتراكية يعود لمستويات المعيشة المختلفة كثيراً عن روسيا، كما أن الثورة الاشتراكية المتخيّلة من قبل لينين غير ممكنة في الغرب بتلك الشروط لأن العمال هناك لا يتحمسون لمثل هذه المغامرة الغامضة وهم يناضلون ضد الرأسمالية كذلك ويصّعدون ممثلين لهم في البرلمانات والحياة السياسية والاقتصادية ويطورون حياتهم الاجتماعية.
تصوير لينين الثورةَ الديمقراطيةَ القومية الروسية بأنها ثورةٌ إشتراكية هو جزءٌ من المتخيّل الحزبي، بسببِ الخلط بين بعض المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور روسيا في سياق صلتها بالتحديث وبعض الإجراءات الاقتصادية المضادة لتلك المهمات.
المتخيّلُ هو بسببِ غيابِ قراءة القوانين الموضوعية للتشكيلات، فتأميمُ مصانع لا يعني إزالة علاقات الانتاج الرأسمالية، كما أوضحنا سابقاً، ولهذا فإن علاقات الانتاج الرأسمالية ستظهرُ عبر المؤسسات الاقتصادية الجديدة الواسعة الانتشار، وعبر وجود إدارة وعمال. ولكن لن يحدث للجانبين الإدارةِ والعمال، القيادةِ والقاعدة، الملاكِ الجدد السياسيين والأجراء، نفس التطور لقرنائهم في الغرب.
إن شكلَ رأسماليةِ الدولة يغدو شكلاً إنتقالياً، فقد عبرَ التشكيلةَ الاقطاعية لكنه لم يدخلْ بعد التشكيلةَ الرأسمالية. ويظلُ يتذبذب لعقودٍ حتى يدخل فيها وهو عالقٌ ببقاياها المؤثرة جداً على تطور المجتمع.
إن سياقَ المهمات الديمقراطية يُؤخذ روسياً في حضنِ الدكتاتورية، فتوزيعُ الأراضي على الفلاحين هو إجراءٌ ديمقراطي إجتماعي، وهو يقوي الأحزابَ المعبرة عن الجمهور الريفي خاصة، ويوسع التنوعَ ويعزز سلطة البرجوازية الصغيرة الشمولية التي تخافُ من إنتشار هذا التنوع فتلجأ لإجراءات القمع الواسعة، ولهذا تجري جوانب مضادة للديمقراطية كخنق السوفيتات، وحل الأحزاب الأخرى، ومنع الصحافة الحرة الخ.
هذه التجربة يعتبرها لينين نموذجاً للغرب ولكن الشرق هو الذي يستفيد منها، بسبب تشابه التشكيلة الإقطاعية التي يعيشُ فيها، وجذوره الدكتاتورية القومية والمحافظة وضخامة البرجوازية الصغيرة المتلاعبة بالتطور السياسي و أسماء التشكيلات.
ومن هنا تأخذ الثورةُ الديمقراطية الروسية طابعاً تأثيرياً تحررياً في العالم الثالث، بمواجهةِ الاستعمار العدو المشترك، والخانق للتجارب الرأسمالية الوطنية، وكذلك تتضافر بعض المهمات الديمقراطية والاجتماعية، ويتنامى المتخيّلُ السياسي كثيراً وتزداد المغامراتُ الرعناء أيضاً.
مثلما يتبددُ ضبابُ التداخلِ بين ما هو ديمقراطي قومي وما هو إشتراكي، أو ديني، والذي يتشكلُ في بدايةِ الأفق الاجتماعي الصباحي التحولي لشعوب الشرق، والذي يبالغُ في تصويرِ قفزاته المتخيّلة بطرح الأسماء الشيوعية والاشتراكية والوطنية والدينية، ثم يقاربُ المهمات الحقيقية، برؤيةِ التناقضات الطبقية العصية على الحلول السريعة وأهمية تطور مستويات التطور للأغلبيات الشعبية في ظل مقاربات ديمقراطية.
أدواتُ لينين التحليلية التي تكونت في ظلِ رؤيةٍ شمولية مستعينة بالتعميمات المجردة، مكونةً مغامرةً تاريخية، تتوجه كذلك لرفض التكتيكات السياسية المغامرة أيضاً!
فهو إذ يعتبرُ ما قامَ به البلاشفة فعلاً تطورياً متصاعداً ناضجاً يرفض بعض الإجراءات السياسية والدعوات الفكرية الرافضة للمشاركة في البرلمانات والنقابات(الرجعية). معتبراً إياها عملاً مغامراً.
هذه الازدواجية تعبر عن كون النضالات التكتيكية هي مقدمة وأدوات للاستيلاء على السلطة، وإقامة السلطة الاشتراكية في البلد المتخلف روسيا، التي تغدو هي المغامرة الأكبر والخطيرة المكلفة لحياة الملايين من الناس. بدلاً من أن تكون وسائل ديمقراطية محولةً للمجتمع وللحزب نفسه.
إن الوعي المغامرَ يبدأ من البداية من نشر الشمولية في الحزب والتصور الواحد وقيادة المجموعة لتلك المخاطر التاريخية، بدلاً من الاعتماد على التعددية والنمو الديمقراطي التدريجي وتفكيك الصلات السياسية الشمولية بين القومية الروسية المسيطرة والقوميات المسيطر عليها، وخلق تجربة نهضوية متدرجة تزيل الألغام الاقتصادية والاجتماعية التي ما تزال روسيا حتى الآن بعد تلك المغامرة تعيشُ عقابيلها وآثارها (2013).
حيث ما تزال القوميات ومجموعات الأديان المختلفة تهز روسيا الاتحادية التي لم تقارب العالمَ الحديث الديمقراطي بعد، ولديها ترسانة عسكرية ونووية كبرى، وما تزالُ تعيش ذلك الضباب الصباحي السياسي ومفترق الطرق السياسية، وتساهم في قمع بعض الشعوب بشراسة.
ولو كانت تلك المغامرة لم تحدث وسارت روسيا في الطريق الديمقراطي لكانت قد فككتْ الكثيرَ من الألغام التي تمشي عليها الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1) كتاب مرض الطفولة اليساري، الفصل الثاني، أحد الشروط الأساسية لنجاح البلاشقة.
(2) المصدر السابق، من الفصل الرابع المعنون(في النضال ضد أي من الأعداء داخل حركة العمال نمت البلشفية وصلب عودها)، النصوص مأخوذة من موقع الحوار المتمدن، عبر طبعة دار التقدم.

الفصل السادس

تراجعُ الخيالِ الاشتراكي

بعد سنواتٍ حارقة من تطبيق ما سُمي بمرحلة الاقتصاد الشيوعي(1917-1920) الذي كان هيمنةً حكومية واسعة على الفائض الاقتصادي في الريف والمدينة، والذي أدى لعسكرةِ الدولة وبدءِ رأسماليتها الحكومية الشاملة، أخذ لينين يتراجعُ عن هذا الاقتصاد العسكري الضاري متوجهاً نحو جوانب إقتصادية رأسمالية، لا تنفي رأسماليةَ الدولة ولكن تجعلها عمليةً في جوانب إقتصادية وإجتماعية ضرورية بدلاً من هلاكِها بسببِ إنتفاضةِ الجمهور الطليعي العمالي ضدها والخسائر البشرية الرهيبة التي سببتها.

(قال لينين في خطابه الموجه للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي في آذار عام 1921، حول ضرورة التعاون مع العوامل الرأسمالية الداخلية والخارجية،”إننا الآن في مرحلة تحول، وثورتنا محاطة من قبل بلدان رأسمالية. وطالما نحن في هذه المرحلة، فإننا مجبرون على البحث عن أشكال عالية التعقيد من العلاقات”. وتكون هذه “الأشكال عالية التعقيد من العلاقات، طبعاً، كان إنشاء أساليب السوق للتوزيع أولاً في القطاع الزراعي وفيما بعد القطاعات الأخرى من الاقتصاد”. وفي ملاحظات أخرى للمؤتمر، أكد لينين للمندوبين أن المشكلة الأهم والأخطر في المرحلة الحالية لم تكن سياسة التنازلات للرأسمالية كما يحذر البعض وخاصة أولئك الذين على اليسار. وعلى الأصح كان المستوى المتدني جداً للقوى المنتجة الذي يهدد بقاء ثورة أكتوبر: “يجب أن لا نخاف من نمو البورجوازية الصغيرة ورأس المال الصغير. وما يجب أن نخافه هو المجاعة، الحاجة ونقص الغذاء، لأمد طويل، وهو ما يخلق الخطر المحتمل في أن(الثورة)البروليتارية تنهار فاسحة الطريق لتردد ويأس البورجوازية الصغيرة”.
وقد أظهرتْ كتاباتُ لينين الكثيرة منذ مطلع العشرينيات أنه توصل شيئاً فشيئاً إلى الاستنتاج بأنه في بلدٍ خاضعٍ للهيمنةِ الفلاحية ولمستوياتٍ متدنية من حيث القوى المنتجة والتعليم والثقافة، يمكن أن لا تكون هناك قفزة لخطوط الإنتاج أو التوزيع الاشتراكية أو الشيوعية)،(1).
السياسة التجريبية التي يقومُ بها لينين التي تشكلت من تجزيئيتهِ النظريةِ والقفز على قوانين المادية التاريخية، والتي إندفعتْ نحو أقصى اليسار في سنواتٍ سابقة تقومُ الآن في سنوات العشرينيات من القرن العشرين في روسيا بالعودة لقوانين الاقتصاد الرأسمالي!
هنا الإحساسُ بالتقارب مع اليمين، فظهورُ دولةٍ عسكرية شمولية هو أمرٌ يتناقض مع الاشتراكية لأن الاشتراكيةَ هي مرحلةُ خفوت الدولة وزوالها التدريجي، حيث تبدأ الطبقاتُ المتضادةُ بالاختفاء، لكن هنا الدولة على العكس غدتْ هي الكائنُ الاقتصادي السياسي العسكري الهائل، وإن الدولةَ لم تكتفِ بالهيمنة الواسعة على المجتمع بل تدخلتْ في كل علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جاعلةً نفسَها المالك الأكبر، ينافسها الاقتصادُ الفلاحي الصغير، حيث لا يمكنها أن تزيله لأن تلك الأراضي الزراعية الصغيرة غير مجدٍ تأميمها، ومن هنا التصور الخيالي الآخر بالقيام بالمزارع الجماعية حيث تُصادر المُلكياتُ الفلاحية الصغيرة، وهذه سوف يستكملها ستالين، بتوسع الاستبداد الدموي، فدكتاتوريةُ البرجوازيةِ الصغيرة التي تبدأُ من لينين تتوسعُ لدى ستالين مقيمةً رأسمالية دولة كلية، فكلٌ منهما يكملُ الآخر.
إذن هي ليست سياسة عالية التعقيد بل عالية التضليل، فالرجوعُ لقوانين الاقتصاد السوق الرأسمالية يستلزمُ النقدَ الموضوعي لتجربةِ التأميمات المستعجلة والمصادرات ومنع الأحزاب والقضاء على الحريات الاقتصادية والسياسية، ويلزمُ الاعترافَ بأن روسيا دولة متخلفة لا بد أن تعيدَ النظر في بنائها الاقتصادي، عبر إعادة المؤسسات الاقتصادية الخاصة وتكوين القطاع العام القائد، وتشكيل تجربة ديمقراطية متنوعة، لكن مثل هذه السياسة تعني إنهيار الأفكار الاشتراكية الحكومية الشمولية وزوال هيمنة رأسمالية الدولة التي غدتْ لها مصالح كبيرة وبيروقراطية هائلة صاعدة تتحكم في دولةٍ ضخمة والتي يقبضُ على خيوطها الدكتاتور الجماعي المتمثلُ في المكتب السياسي للحزب والذي يعبرُ عن التناقضاتِ غيرِ المرئيةِ في الوعي الرأسمالي الحكومي الشمولي هذا.
إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية النهضوية في روسيا وقتذاك بحاجةٍ لرأسِ المال، وبسياسةِ التقشف والمصادرة يتوارى رأسُ المال، فيجب أن يعودَ للساحة بعد أن تم طرده شر طردة!
هنا غدت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة بعثاً للرأسمالية فبدأ لينين في رؤية(أن التأميمات السريعة والآمال العالية للتخطيط الواسع في الاقتصاد التي ميزت السنوات الأولى قد ذهبت “بعيداً جداً” و”سريعاً جداً”)،(2).
فهنا لا بد من الحصول على الرساميل وخلق سياسة للأجور، ذات مراتبية، ولا بد من العودة للسلعة وقانون قيمتها، وإنشاء السوق، وخلق التبادل بين الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، لكن لا تزال الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الذي يشتري ويبيع خلافاً للحلم الاشتراكي بزوال الدولة.
لقد عبرت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة في روسيا في سنواتِ العشرينيات من القرن العشرين عن تحول الدولة الثورية ذات الحلم الاشتراكي بزوالِ الطبقاتِ وإزالة البرجوازية إلى أن تكون هي الرأسمالي الأوحد.
هي إمكانيةٌ كبيرة لدولة شرقية أن تتملكَ ثروات وتقوم بمشروعات صناعية وعلمية واسعة وبشكل شمولي فهي مهمة سهلة في بلدان الفراغ الاقتصادي الشرقي الحديث، لكن لا بد للمشروعات من رساميل، فكيف تضربُ الرأسماليةَ ثم تستعينُ بها؟!
حينها كان لا بد من تصعيد رأس المال من القطاع العام المؤّمم والقطاع الخاص الفلاحي الصغير الذي يمتلكُ ثروةً كبيرة ويكونُ الريفُ هو المُصدرُ المختّرع الزائفُ لظهور الرأسمالية مجدداً، وبهذا سوف يجري لاحقاً مصادرتها ونزعها بالقوة بأشكالٍ تعيدُ طرقَ التراكم البدائي الذي جرى في الاقتصاديات الغربية المنتقلة من الإقطاع للرأسمالية للظهور ثانيةً بقسوة لا تقلُّ دموية.
إن العبارات المتخوفة من الفلاحين الصغار والبرجوازية الصغيرة المنشأُ الموهومُ لعودةِ الرأسمالية- التي يذكرها لينين في خطابه السابق الذكر- لا تجدُ أن المصدرَ الحقيقيَّ لعودةِ الرأسمالية الخاصة هو عبر رأسمالية الدولة ذاتها، وبقيادة البرجوازيين الصغار الحكام، لكنهم كمناضلين تماهوا في زمن الثورة في شظف حياة العمال لن يروا هذه الإمكانية بسبب الخيال الاشتراكي.
إستطاعت التجربةُ الروسية أن تقومَ بتطوراتٍ صناعية وإجتماعية كبيرة، وإعتمدت على التقشف الشديد من قبل القيادات السياسية وعبر سحق الفساد، وبتضحيات الجمهور الشعبي، ودفاعه البطولي عن الوطن، ولكن تشكيل الصناعات الثقيلة وتطوير الحياة المتخلفة كان كله تأسيساً للدولة الرأسمالية القومية، حتى تصل لمستوى معين ثم تعجز القوى المنتجة عن التطور في هذا المستوى.
إعتمدت الدولةُ القوميةُ(السوفيتية)الروسية على تضحيات العمال الذين عاشوا بأجورٍ متدنية، وإستبسال في عمليات البناء الكبرى، ثم راحت الدولةُ القومية تنشقُ إجتماعياً، وتتفككُ صفوفُ الطبقات الموَّحدة قسراً في شكل سياسي شمولي، إلى قومياتها المتعددة عبر دولٍ مختلفة، وإلى عودةِ الاختلافات الطبقية الروسية وإستقطابها في إستمرار رأسمالية الدولة الشمولية حتى الآن غير القادرة على الدخول في الرأسمالية الحرة بشكلٍ كلي، وبقاء التناقض الرأسمالي في أقليةٍ هائلة الثراء وأغلبية شعبية فقيرة.
إن رأسمالية الدولة التي كانت رافعة التطور تنقلبُ لعقبة أمام التطور التقني وتنامي قوى الانتاج الحديثة، وكموديل لحركات التحرر الوطني العاصفة بالعالم الاستعماري، وتصيرُ بعدئذٍ نموذجاً متخلفاً وأداة لمساعدة القوى الرأسمالية الحكومية المحافظة في دول أخرى.
عبرت العملية التحولية نحو السوق والضرائب وتراكم النقد لدى الدولة وتطوير المؤسسات الصناعية النوعية عن رأسماليةٍ ناقصة، وعن إصلاح إقتصادي بدون إصلاحات سياسية وفكرية في بُنية الحزب، لكن على العكس من ذلك تغدو أفكار لينين تياراً، وهي ستنمو عبر تجارب العالم الثالث المتخلف، وتجدُ في بعض المثقفين والفئات الصغيرة أدوات لتوسيع حضورها وإعادة تكرار النموذج على مدى عقود، حتى يصل النموذج إلى عدم القدرة على الحياة.
إن التراجعات نحو إقتصاد السوق لم تُستكمل عبر الديمقراطية، فقد أصبح البلاشفة قوة دكتاتورية لا تقبل بالتراجع عن سلطتها، ولهذا كانت المناقشاتُ تجري في المكتب السياسي، بعد قتل لينين من قبل ضحاياه، حول تصعيد التجربة(الاشتراكية)في بلد واحد أم توسيع حضورها وتصديرها للثورات في البلدان الأخرى لأن الاشتراكية في بلد واحد غير ممكنة!
كانت تناقضاتُ قادةِ المكتب السياسي تعبرُ لا عن تناقضات بناء الاشتراكية في بلد واحد بل عن وهمِ بناء الاشتراكية من خلال الدكتاتورية والتخلف.
ولهذا فإن هذا الموديل التاريخي من الوعي بالاشتراكية لا يلغي تاريخَ الاشتراكية مستقبلاً ولكنه يعبرُ عن تصورات تجريبية حارقة، وسوف تنزلقُ حتى شعوب قصية شديدة التخلف، عبر مثل هذه الجمل التي إستخدمها لينين كما رأينا في القفز على مصائر الشعوب من خلالها ولكن سوف تستخدمها بأشكال أكثر جهلاً وإضطراباً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات:
(1): الحوار المتمدن، مقالة: مسألة التحول، وسياسة لينين الاقتصادية الجديدة، بقلم سي. جي، أتكنز).
(2): السابق.

الفصل السابع

أخطاء إعادة البناء

رغم الضبابيات الإيديولوجية في عالم الرأسماليات الحكومية الشرقية فإنها تصل إلى لحظة أزمة عميقة، وتصويرها بأنها ليست رأسمالية، وأنها تمضي في سبيل مختلف عن عالم الرأسمالية هذا كله لا يغير طابع الأزمة ولكنه يطرح تصورات خاطئة وعمليات خداع إجتماعية واسعة.

في الاتحاد السوفيتي كانت عملية إعادة البناء حادة ومكلفة ورهيبة، فالطابع الإيديولوجي السائد كان إعادة البناء للاشتراكية، وتفعيلها عبر الديمقراطية ولم يخطرْ في الوعي السائد للطبقة الرأسمالية الحكومية المتنفذة بأنه ليس ثمة إشتراكية فيها، ولن تكون هناك ديمقراطية كذلك!
لقد أوضحنا سابقاً كيف كان البناء الاشتراكي البيروقراطي وضخامة دوره النهضوي التصنيعي، وتفكك العلاقة بين البرجوازية الحكومية وبين العمال، وتمظهر ذلك في تيبسِ المنظومات السياسية والإدارية من نفوذ العمال، وزوال الطابع(السوفيتي)، وجرى ذلك على مدى تاريخي طويل نسبياً.
كانت مقولاتُ جورباتشوف في إعادةِ البناء ترتكزُ على مجموعةٍ من الأوهام الإيديولوجية، التي بدأتْ منذ ثورة أكتوبر(الاشتراكية العظمى)، ومن أهم هذه الأوهام وصول طبقة العمال للحكم وتفردها في النظام، وتذويبُها للطبقاتِ الأخرى، وتصوره لذلك باعتباره حقيقةً موضوعية، في حين أن نظامَ الرأسمالية الحكومية كان هو السائد، حيث تملكتْ طبقةٌ واسعةٌ من الموظفين العسكريين والأمنيين والإداريين الأملاكَ العامةَ وأخضعتها لسيطرتها الطويلة، بدون رقابة شعبية عميقة، وديمقراطية، وتحولت هذه الطبقة إلى طبقات في مجمل الهياكل السياسية للاتحاد السوفيتي، الذي يضم جمهوريات عديدة ذات قوميات مختلفة، فكما هيمنتْ هذه القوى على المركز كذلك هيمنتْ أشكالُها الأخرى على بقيةِ فروع الاتحاد، وكما نخرت القوى البيروقراطيةُ العاصمةَ وجمهوريةَ روسيا الاتحادية نخرتْ بقية الجمهوريات، عبرَ أشكالٍ من الهيمنة على المرافق الحكومية وبتجميد الوعي السياسي المعارض والوعي الجماهيري عن قراءة الواقع الموضوعي.
وهكذا فإن شعارات إصلاح النظام السياسي طُرحت على أساس أن النظامَ الاشتراكيَّ سليمٌ وينقصهُ بعضُ الحريات بحيث تؤدي هذه الحريات إلى تفعيلِ الاقتصاد الحكومي ويتم كشف الفساد فيه وتطهيره ويتم إحداث تقدم عميق به، يعزز المكاسب(الاشتراكية) عبر الديمقراطية وبعض حقوق الإنسان المهدورة فيه كالتعبير وحق التجمع والتظاهر.
هذا ما أرادهُ جوباتشوف في نظرةٍ مثالية، مرتكزاً على إعتبار أن الرأسماليةَ الحكومية إشتراكية، حققتْ إصلاحاتٍ جوهرية فيما يتعلق بسيادةِ العمال سيادةً كبرى على الحياة السياسية، وإنه لن تستطيع قوى إجتماعية أخرى أن تظهرَ في مواجهة وجودهم الكاسح.
كان الوعيُّ البرجوازي الحكومي السائدُ في الحزب الشيوعي السوفيتي، يمتلكُ مقولاتٍ معينةً عن تحققِ الاشتراكية وتضاؤل الصراعِ الطبقي وقيام الملكية العامة بتذويب الطبقات، وعن سيادة الإيديولوجية الاشتراكية في الاتحاد وهلم جرا من الأوهام.
لكن ما كان متحققاً هو ما ذكرناه سابقاً خاصة سيادة الرأسماليات الحكومية في الاتحاد في هذه الجمهوريات المتعددة، والتي اتخذت أشكال الهيمنة القومية بمختلفِ تجليلاتِها في تلك الجمهوريات، المرتكزة على مختلف أنواع البيروقراطيات التي نخرت الاقتصاد، وعلى قوى الرأسمالية الخاصة المتصاعدة كذلك، وقد ظهرت الرأسمالية فجأة وقارب القطاعُ الخاصُ الروسي القطاعَ الخاص في إيطاليا في بضع سنوات من الانقلاب الاجتاعي! وهذا لا ينفي دور القطاعات العامة في التطور التاريخي وفي الأبوية الاجتماعية، لكن كان إدخال الانتخابات في حياة الاتحاد السوفيتي هو إنفجار للقوى الشعبية المكبوتة خلال سنين طويلة بمؤسسات القهر، خاصة قوى القوميات المحرومة من القرارات المستقلة في الجمهوريات الأخرى، والتي لم تميز بين القهر القومي الروسي والمكاسب النضالية المحققة، وصعّدت قوى قومية، وقوى فساد سابقة وجديدة، فهذه الجماهير لم تـُتح لها فرصة الاكتشاف السياسي والوعي الديمقراطي. وفجأة زُجتْ في طوفان الانتخابات والانهيار العام!
كما أن القرارَ الرئيسي كان قرار المركز وهو جمهورية روسيا الاتحادية التي بنتْ الاتحادَ وسيطرت عليه وجاء الآن الوقت لكي تنفصلَ عنه!
كل شيء يجري عبر تلاعب الرأسماليات الحكومية في عملية البناء والهدم.
كان هدم الاتحاد السوفيتي عملية عالمية كبرى، كانت تجديداً كبيراً للرأسمالية العالمية. في خضم تلاعب الزمن وجدلية الهدم والبناء تكشف الاتحاد الاشتراكي عن مجموعة من الرأسماليات الحكومية العابرة للقارات.
إن الرأسماليات الشرقية التي تتشكل بجهاز الدولة منذ التشكيلة العبودية المُعمَّمة أيام فرعون، استخدمت جهاز الدولة لبناء الرأسمالية، التي تمظهرت بشكل إشتراكي. ولم تحسن أدوات الدولة الروسية عملية التغيير بين رأسمالية حكومية شمولية ورأسمالية حكومية تتيح مجالاً كبيراً للقطاع الخاص. إن البوليس السياسي لعب دور المشكل للتجربة وتغيير ربع الكرة الأرضية. مما سبب كوارث كبيرة للسكان في هذه البلدان.
وكان التفكيك لتجنب الخسائر الاقتصادية المتراكمة، وإنقاذ روسيا في صراع الاقتصاد العالمي، وترك الدول الأخرى التابعة تعالج مشكلاتها، وحين تم بعض العلاج أُعيدت السيطرة في الكومنولث. فكان لدينا رأسمالية حكومية تحت نهب القطاع الخاص المستمر. وهي صيغةٌ شرقيةٌ مُعمَّمة كذلك بشروطِ البلدان وظروفها الآسيوية الاستبدادية.
ولهذا فإن كافة الأدوات الأخرى من برلمان ومؤسسات وصحافة هي مجرد أدوات رقابية شكلية محدودة الصلاحيات، أما اليسار والنقابات فسوف تُوضع في الركن عاجزة عن الوجود أمام ضخامة أدوات الدولة الرأسمالية الحكومية – الخاصة الشمولية.
ولم تتحق إعادة البناء من أجل الاشتراكية الديمقراطية، لكون الأخيرة لا تظهر كمعجزة إلهية، بل تنمو عبر عشرات السنين، أمام التصويت اليقظ للشغيلة، ومن هنا فإن حكم العصابات يولد حكماً جديداً لها بمظاهر جديدة وشعارات مزيفة.
كان عجز الحزب الشيوعي الروسي عن التحول للاشتراكية الديمقراطية، وتجاوز اللينينية في صيغتها لبناء الاشتراكية، ليس هو فقط نتاج جمود فكري بل هو نتاج فساد طويل وتلاحم مع الأجهزة البيروقراطية وأفكارها المحنطة، وعدم النضال وسط صفوف الشعب وخاصة العمال.
لقد كشف تاريخ الرأسمالية الحكومية الروسية حقيقته الموضوعية في لحظة إنفجارية من الزمن، بسبب تراكم الأعباء العالمية عليها، فوصلت لحد الإختناق وكشفت طبيعتها الطبقية، فتخلصت من أشكال التضحيات الأممية وتوجت الأنانية كملكة حاكمة في النظام السياسي.
ظهورها على حقيقتها روع القوى التقدمية في العالم، التي اعتمدت على التصريحات النارية والاحتفالات الصاخبة والمساعدات المسيطرة، والوعي الشعاري السطحي بالاشتراكية.
وقد استفادت الصين من هذه التجربة المرة، وقد كانت قبل إنهيار الاتحاد السوفيتي قد مشت في طريق بعث الرأسمالية الخاصة من داخل هيكل القطاع العام البيروقراطي الشمولي نفسه دون أن تقدر على تجاوز تناقضات التجربة هي الأخرى.

خاتمة

روسيا ومصير تراث لينين

روسيا الاتحادية هي الجسمُ السياسي الذي ورث الاتحاد السوفيتي بعد حله في سنة 1991، وتظلُّ روسيا أكبر بلد مساحةً في العالم، وقد تقلصَّ سكانُها في حدودِ المائة والأربعين مليوناً، ويعبرُ تصديرها عن عدم تحولها خلال العقود السابقة لبلدٍ صناعية متطورة، فهي تصدرُ: النفطَ ومشتقاته، والغاز الطبيعي والخشب والمعادن والمواد الكيمائية والأسلحة والمعدات العسكرية.

عودتُها للكيانِ الروسي القومي المحض لم يُزل كيانَ الاتحادِ السوفيتي فقط بل التجربة (الإشتراكية). ففي أثناء تفكك الاتحاد السوفيتي وما بعده تصاعدت عملياتُ بيع المؤسساتِ العامة للقطاع الخاص، وأُلغي التخطيطُ وقسمٌ كبير من ملكية الدولة. وانتقلت روسيا بسرعة وحدة لاقتصاد السوق فهوت ملايينٌ من السكان في هوة الفقر، وكان معدلُ الفقر 5%1 في العهد السوفيتي فتفاقم إلى 49% في عام 1993، فأنتشر الفساد والأجرام، وتفجرت أزمةٌ إقتصادية وإنخفض الناتج المحلي ل50%.
الانتقالُ الحادُ من رأسمالية دولة شمولية كلية تمنع حتى إصطياد الفقراء للسمك بشكلٍ حر إلى رأسمالية دولة(ليبرالية) فوضوية، يعكس فشل المخاض الطويل في الاتحاد السوفيتي للتحول بين كونه رأسمالية دولة شاملة، إلى رأسمالية دولة شعبية ديمقراطية تحوي نسبة مهمة من الاقتصاد الخاص.
هذه العملياتُ السريعة المفرطة في بيع الأملاك العامة ووجود المشترين الروس أنفسهم، توضحُ الفسادَ المتغلغل لعقود ووجود رأسماليي الباطن الكثيرين، كما تعبرُ عن فقدان العمليات السياسية والفكرية الاشتراكية الديمقراطية طوال سنوات، حيث التصلب الإيديولوجي من جهة والتحلل الإيديولوجي من جهة مضادة. فالحزب السوفيتي لم يفهم العملية التاريخية التي قام بها خلال العقود السابقة، وهو لم يكتشف أساساً طبيعة النظام، الذي تصوره إشتراكياً يتوجه لذوبان الطبقات وإنتصار الطبقة العاملة الكلي على بقية المكونات، لكن أجهزة الدولة كانت تفرخ رأسماليين بالباطن، وهو غير قادر على وقف التحلل الداخلي وغير قادر على السير الديمقراطي للأمام.
ولهذا كان من نتائجِ الانقلاب على آخر رئيس سوفيتي حلُّ الحزبِ والاتحاد السوفيتيين اللذين كانا شكلين فقدا مضمونيهما التقدميين.
يستمر التناقضُ بين رأسماليةِ الدولة القومية الشعبية التي كانت ذات قوة إقتصادية وتماسك نسبي في العلاقات الاقتصادية العامة وحولها الجمهورُ العامل الذي إلتحمّ بمستوى خدماتها المتدنية كذلك، وبين الرأسمالية الخاصة وهي تنمو داخل شبكات الحكم والمجتمع وتحولُ الكثيرَ من الموارد لصالحها وتشكلُ اللاعقلانيةَ الاجتماعية السياسية المفتوحة على الفوضى.
إن الاقتصاد العام المسيطر سابقاً، التفت عليه الشعوبُ السوفيتية عامة، ومثّل تجربة التعاون الأولية لكل إقتصاد قومي متخلف يقفز بسرعة في الحداثة، لكن الاقتصاد العام منخور، والقوى العليا المسيطرة خلال عقود تكونُّ رأسمالَها منه، وتعصرُ العمالَ عبر النظام المشترك.
وهي في التحول الانقلابي الكارثي تُلقي بهذه الجماهير في عرض الشارع، وتتخلى عن كل الميراث النضالي، وتتوجه إلى الحداثة الرأسمالية المبتورة، فتجعل السوقَ متحكماً في الظروف الاقتصادية، والعلاقاتَ البضاعية والنقدية هي القانون لكنها تظل دكتاتوريةً كذلك عبر بقاء جهاز الدولة الصانع للثروات في يدِها وللمزيد من التخلخل الرأسمالي المبرمج لصالح الطبقة المسيطرة ومن يواليها.
أي أن ما كان غير مرئي في العلاقات الاشتراكية الكلية من هيمنة للبرجوازية الصغيرة على المؤسسات وصناعة الأفكار يتفجر وقد تحولت تلك المخلوقات الصغيرة فجأة عمالقةً نهمةً للعملات الصعبة وثمار العمل الشهية.
ولهذا فإن الطبقةَ الحاكمة إنقسمتْ إلى فرعين، وكأنهما العقلُ الاشتراكي الزائف وقد إنفصم إلى عدوين متلاصقين، فهناك أحزابُ السلطةِ التي خرجتْ من أقبيةِ المخابرات والجيش والوزارات والشركات وقد توجهت لليمين ومواصلة إنتاج الرأسمالية الخاصة من أموال الشعب، وهناك الحزب الشيوعي السوفيتي وقد تقزم من خمسين مليون إلى عدة آلاف وصار الحزب الشيوعي الروسي.
فكأن الطبقةَ الحاكمة وهي تتحولُ من منتج للرأسمالية إلى أن تُخرجَ من داخلها المتعفنِ عدواً زائفاً لها كذلك، فهي تعمقُ الرأسماليةَ الخاصة وتحاربها بخلطات الماضي السحرية، وبتواريخ النضالات العارمة السابقة وهي مُحاطة بذات الأطر الإيديولوجية التي أوصلت الناسَ لهذه النتائج الكارثية، أي هي تعمل أيضاً على تعميق النتائج الكارثية مثلما تعمقُ الرأسماليةَ الحكومية المتحولة لخاصةٍ بيروقراطيةٍ والتي ستؤدي لتحطيم أُطر الاتحادِ الروسي كذلك.
عبرت كتلُ الأحزاب والانتخابات في روسيا عن القوى الاجتماعية التي تكونتْ بعد تحول روسيا من رأسماليةِ دولةٍ كلية إلى رأسماليةِ دولةٍ بيروقراطية، وهي الحلقاتُ المتعددةُ التي تقعُ فيها الدولُ الشرقية في عملياتِ نموها من الإقطاع إلى الرأسمالية الحرة، حيث تقوم رأسماليةُ الدولةٍ كجهاز للتحولات الاجتماعية السياسية بيد الطبقة المسيطرة عليه.
وهذا التحول الروسي إلى رأسماليةِ دولة بيروقراطية يوضحُ العجز عن إنتاج الطبقتين السائدتين المتصارعتين المتعاونتين في الرأسمالية الحرة؛ البرجوازية والطبقة العاملة، ويوضح ضعف مستوى القوى المنتجة، وهو أساسٌ يؤثرُ على الأشكالِ السياسية المختلفة بدءً من هيئاتِ الدولة إلى خريطتها السياسية وأحزابها المختلفة وثقافتها السائدة.
ومن هنا فإن الطبقةَ المسيطرة داخل أجهزة الجيش والمخابرات والقطاعات العامة، التي قامتْ بالتخلي عن الاتحاد السوفيتي وأغتنتْ من حطامه، تمثلُ القوة الرئيسية وقد تحددت أخيراً بسيطرة حزب روسيا الموَّحدة وهو حزبُ الرئيس بوتين، المؤسَّّس سنة 2001، وهو الحزب الحاصل على الأغلبية الانتخابية سنة 2003 حين تحكمت هذه المجموعة في المؤسسات السياسية. ويعود ذلك لوفرة المستفيدين من حزب الطبقة الحاكمة، وضخامة أجهزتها ونفوذها المالي.
والحزب هو وريث الطبقة ذاتها في الاتحاد السوفيتي ولهذا فإن رأسماليةَ الدولة المستمرة تحفظُ الهيكلَ العسكري الاقتصادي لروسيا، ويغدو التوحد القومي الروسي هو الرابطة التي تجمع الدولة الكبيرة وتجعل من بقيةِ القوميات خاضعة لها، والتوحد له مؤسسات إقتصادية تمثل القطاع العام أساساً، وبالتالي فإن حزب روسيا الموحدة بجمعه بين السيطرة على الدولة وتقديمه العيش البسيط المستمر للعمال ورفضه التحول لرأسماليةٍ حرة كاملة يحصلُ على شعبية، بسبب أن العمالَ كانوا في ظل دولة أبوية مثلّتْ لهم نموذج الاشتراكية، وأي مقاربة لها تغدو شعبيةً. كما أن حزب روسيا الموّحدة يضمُ النخبَ الغنية الكبرى، فهو لهذا يواصلُ أبويةَ النظام السوفيتي، ويخلق تحالفاً هشاً بين برجوازية بيروقراطية وعمال ضعفاء إنتاجياً وسياسياً وتابعين. ولهذا يرفض التوجه لنموذجية الديمقراطية الغربية وأي تنام للديمقراطية يهدد هذا الكيان الحزبي الحكومي، فهنا تتواصل الهيمنة الروسية الحكومية وسيطرة البرجوازية البيروقراطية هذه الذي تحظى عبر هذا الخداع بالشعبية.
وكما يغدو عيشُ الجماهير الذي استقر طويلاً في إقتصاد الكفاف السوفيتي نموذجياً وحلماً سابقاً، في إطار الدخول الواسع للعلاقات البضاعية النقدية الحارقة، كذلك فإن الأحزابَ تتحددُ بمدى مقاربتِها للحلم السوفيتي بدون كابوسه الشمولي العنفي.
ومن هنا فإن الحزبَ الشيوعي الروسي حظى بأهميةٍ قوية بعد السقوط المروع للنظام السابق، عبر محافظته على الجوانب الإيجابية من ذلك النظام والمرتبطة بعيش الجماهير ومستوى دخولها وحقوقها المهنية المُدّمرة في هياج إقتصاد السوق الأولي.
ولكنه فقد هذه المقاعد بعد سنوات حين تمكن حزبُ روسيا الموحّدة من تثبيت وضع الاقتصاد وتحسين حالة العيش، عبر بيع النفط المتصاعد الأسعار وبيع السلاح على الدول الشمولية الأخرى الصديقة.
وقد ورث الحزبُ الشيوعي الروسي مقرات الحزب الشيوعي السوفيتي وشبكاته المادية كما ورث أيديولوجيته المحنطة. لقد دأب الحزبُ على تصوير نفسه كوريث للمنجزات السوفيتية، وراح يقدم تاريخاً بلا قوة تحليلية نقدية عميقة، فستالين نفسه يظهر كبطلٍ وتُخفف جرائمه لحد كبير، وبالتالي فإن القراءةَ الفردية البطولية للقومية الروسية ونماذجها من القياصرة تحلُّ محلَ المادية التاريخية.
تصعبُ عودةُ الحزب للاشتراكية الديمقراطية وتغيير مسار فكري واسع، لتغدو الاشتراكية إصلاحاتٍ مستمرةً وتبادلية في السلطة ومشاركة الحكم والمعارضة الديمقراطية، أي تغيبُ جدليةُ العلاقة الصراعية التعاونية بين البرجوازية والطبقة العاملة، وتبقى النظرة الواحدية للطبقة، فأما البرجوازية أو العمال، وبهذا فإن بناء الدولة- المجتمع يتعرض للصراع المدمر، للصراع الانشطاري الديني القومي.
ولهذا فأن زعيم الحزب جينادي زوغانوف يقدم لنا تحفاً في(التحليل الماركسي)كتأييده لحزب البعث السوري في حملاته الدموية قائلاً بأن(الحكومة السورية يحق لها الدفاع عن نفسها بكل الوسائل)(في تصريح لوكالة إنترفاكس يوم 23 يوليو)، مشيراً بهذا للأسلحة الكيمائية! ثم يطالب بإعادة التأميمات الكبرى، مما يشير للطرق القديمة وتقوية مركز اليمين الحاكم.
أما الحزب القومي الليبرالي فهو تكوينٌ مساير لقوى الطبقة الرأسمالية البيروقراطية الحاكمة الراهنة أو التي أُطيح بها، ولكن بتطرف عبر كره الأجانب وتصعيد اللغة الحربية. ولهذا فإن اليمين العقلاني يسقط هنا، فيما تحاول بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة تكوين لغات سياسية أخرى بصعوبة شديدة وسط الميراث الاستبدادي الروسي الطويل.

24/12/2012

تم

عبـــــــدالله خلـــــــيفة

‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆                        

𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙

21.10.2014 | 1.3.1948

من مواليد القضيبية – البحرين.

خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1974.

اعتقل من سنة 1975 إلى 1981.

◇ عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعية والثقافية في الصحف البحرينية والخليجية، ونشر في العديد من الدوريات العربية.

عضو اتحاد الكتاب العرب بسوريا.

◇ ساهم في مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، وأول مؤتمر أشترك فيه كان سنة 1975 الذي عقد بالجمهورية الجزائرية وقدم فيه بحثاً عن تطور القصة القصيرة في البحرين، وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، وببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والاستبداد» وذلك باتحاد الكتاب المصريين. والعديد من المؤتمرات الادبية العربية.

◇ منذ سنة 1966 مارس عبــدالله خلــيفة كتابة القصة القصيرة بشكل مكثف وواسع أكثر من بقية الأعمال الأدبية والفكرية التي كان يمازجها مع هذا الإنتاج، حيث ترابطت لديه الكتابة بشتى أنواعها: مقالة، ودراسة، وقصة، ونقد. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي قام بطبع نتاجه القصصي والروائي والفكري في دور النشر العربية المختلفة.

ونتاجه الأدبي والفكري يتنوع على النحو التالي:

القصص القصيرة:

1لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».

2الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل– الأحجار – العرائس – الماء والدخان».

3يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدربأماهأين أنت الخروج – الجد – الجزيرة».

4سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص:السفرسهرة – قبضة تراب – الطوفان  – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».

5دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء – الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».

6جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة –رجب وأمينةعند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد».

7سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش الناروراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».

8الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوسليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى– الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

9أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ– شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – القائدُ مجنونٌ – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف».

10إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – گبگب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار – أنشودة الصقرغليانُ المياه».

11ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة – جزرُ الأقمار السوداء – سيرة شهاب – معصومة وجلنار– سارق الأطفال – شظايا – الترابيون».

12باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الأول: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، 2004.

الأعمال القصصية الكاملة، المجلد الثاني: لحن الشتاء، الرمل والياسمين، يوم قائظ، سهرة، دهشة الساحر، جنون النخيل، سيد الضريح، 2021.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثالث: مريم لا تعرف الحداد، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، الينابيع، 2021.

الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع: محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021.

الأعمال الروائية:

13اللآلئ، 1982.

14القرصان والمدينة، 1982.

15الهيرات، 1983.

16أغنية الماء والنار، 1989.

17مريم لا تعرف الحداد، 1991.

18الضباب، 1994.

19نشيد البحر، 1994.

20الأقلف، 2002.

21ساعة ظهور الأرواح، 2004.

22رأس الحسين، 2006.

23عمر بن الخطاب شهيداً، 2007.

24التماثيل، 2007.

25عثمان بن عفان شهيداً، 2008.

26يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، 2008.

27محمد ثائراً، 2010.

28ذهب مع النفط، 2010.

29عنترة يعود الى الجزيرة، 2011.

30الينابيع, الطبعة الكاملة، 2012.

31عقاب قاتل، 2014.

32اغتصاب كوكب، 2014.

33رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.

34ثمن الروح، 2016.

35ألماس والأبنوس، 2016.

36ابنُ السيد، 2016.

37الأرض تحت الأنقاض، 2017.

38حورية البحر، 2017.

39طريق اللؤلؤ، 2017.

40بورتريه قصاب، 2017.

41مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، 2018.

42شاعرُ الضياء، 2018.

43خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ، 2019.

44هُـدهـُـد سـليمـان، 2019.

الدراسات النقدية والفكرية:

45 – الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي، 2004.

46الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، 2005.

47الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الثالث، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005.

48الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

49نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، 2007.

50– تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية، 2008.

51صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران، 2016.

52الملعون سيرة وحوارات وما كتب عنه، 2016.

53تطور الأنواع الأدبية العربية: دراسة تحليلية للأنواع من الشعر الجاهلي والقرآن حتى الأدب المعاصر، وهي دراسة مكثفة فكرية تكشف علاقة التداخل بين النصوص العربية والصراع الاجتماعي، 2016.

54 – الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي: وهي قراءة جديدة للماركسية، تبحثُ أسلوبَ الإنتاجِ الراهن في الشرق عبر نظرة مختلفة، الكتاب الثاني:لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته، 2016.

55عالم قاسم حداد الشعري، 2019.

56عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله، 2019.

57الكلمة من أجل الإنسان، 2020.

عبــدالله خلــيفة على موقع الحوار المتمدن

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436071

   مليون قارئ. 6, 348,633 عدد إجمالي القراءات:

عدد المقالات المنشورة: 1,218.

عبــدالله خلــيفة على ووردبريس:

https://isaalbuflasablog.wordpress.com

https://iakalbuflasa.wordpress.com

عبــدالله خلــيفة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/abdullakhalifaalbuflasa

عبــدالله خلــيفة على You Tube:

https://www.youtube.com/channel/UCdyc68FyFxWEu1nt9I7K46w

عبــدالله خلــيفة على مدونة بينترست:

عبــدالله خلــيفة على مدونة إنستغرام:

https://www.instagram.com/abdulla_khalifa_albuflasa

البريد الالكتروني لـ عيسا خليفة البوفلاسة

isa.albuflasa@gmail.com

isa_albuflasa@yahoo.com

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ الكتاب الأول

✺ توطئة
✺ الفصل الأول
✺ من تاريخ قوى المال الغربية
✺ إستكمالُ نظريةِ ماركس عن رأسِ المال
✺ الفصل الثاني
✺ الرأسماليات الحكومية الشرقية الكبرى
✺ اليابان تجربة الرأسمالية الخاصة
✺ الرأسمالية الحكومية الروسية
✺ الأجور والسلطة الحكومية الرأسمالية
✺ الرأسمالية الحكومية الصينية
✺ الرأسمالية الحكومية في الهند
✺ الرأسمالية الحكومية في أمريكا اللاتينية
✺ تجربة كوبا
✺ الفصل الثالث
✺ الرأسماليات الحكومية العربية والإسلامية
✺ الرأسمالية الحكومية المصرية
✺ الرأسمالية الحكومية الإيرانية
✺ الرأسماليات الحكومية الخليجية
✺ خلاصات عـــــــــــــــــــــامة
✺ مسارات الرأسماليات الحكومية الشرقية
✺ (إصلاحات) الرأسماليات الحكومية الشرقية
✺ أنماط الرأسماليات الحكومية الشرقية
✺ من يملك الرأسمالية الحكومية؟

توطئة

لم تتح لكارل ماركس فرصة التعرف على رأس المال الشرقي، الذي تطور بعد وفاته، في أواخر القرن التاسع عشر، ولهذا لم تتم دراسة هذا الرأسمال التاريخي المغاير لرأس المال الغربي، فخلافاً للرأسمال الغربي القادم من الإنتاج الشخصي، بدءً من الحرف فالمانيفاكتورة ثم الصناعة الآلية الخ، ظهر الرأسمالُ الشرقيُّ بقوتهِ الكبيرة من الحكومات أساساً.

ولهذا كانت مرحلة الليبرالية العربية وامضة، محدودة التاريخ، لاعتمادها على الرأسمال التجاري بشكلٍ كبير، فجاءتْ مرحلة الرأسمالية الحكومية ورافقتها الأفكارُ القومية والبعثية والماركسية والآن الطائفية.
لتطور أشكال الملكية العامة والخاصة في وسائل الإنتاج وفي نسبهما المتعددة، علاقاتٌ موضوعية، تعتمدُ على تطور هذه الوسائل.
إن تقلصَ الأفكارِ الليبراليةِ يرجعُ لتقلص الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج، والتوزيع، والتمويل، ولهذا رأيناها في المرحلة الحكومية الرأسمالية تذبل، وسواء كان ذلك في روسيا السوفيتية أو الصين الشيوعية أو مصر الناصرية وغيرها من الدول، فالدولُ الشرقية لها قوانينٌ عامة مشتركة، يحاولُ هذا الكتابُ أن يُظهرها.
كما أن الأفكارَ(الاشتراكية)مرتبطة بنمو الملكية الرأسمالية العامة، وهي تذبلُ كذلك مع تقلص هذه الملكية وتوسع الملكية الخاصة.
لن تنتهي الملكية العامة الرأسمالية الكبيرة الحكومية في الشرق إلا بحدوث ثورة كبيرة في قوى الإنتاج، فهذه الدول تسيطر على منابع الثروة كالبترول والغاز والمناجم الكبرى، باسم الشعوب الغافلة، وحتى في عهد الاصلاحات الرأسمالية الخاصة الحكومية في روسيا والصين وبقية دول الشرق التي تقاطرت على هذه العملية واحدة بعد أخرى، فإن الدولَ لم تتركْ هذه الملكية التي تصنع قوى الرأسماليين البيروقراطيين الحكوميين الذين يخرجون من هذه المطابخ الكبرى كقططٍ سمان.
ويجري ذلك أما بالتخلص من قطاعات خاسرة، وتحميل الشعوب فاتورة الفساد، أو عبر المشاركة مع الرساميل الخاصة الوطنية والأجنبية في أرباح مؤسسات قوية، لكن لا يجري ترك الدجاجة التي تبيض ذهباً؛ قطاعات إنتاج المواد الخام الثمينة.
وهذا على مستوى الأفكار يؤدي لشحوب أفكار الوطنية والقومية والاشتراكية.
وفي الدول الطائفية السنية والشيعية فإن المذهبية المحافظة تبقى حجر الزاوية في النظام الإيديولوجي، معبرة عن سياقات خاصة لدول أكثر ترسباً في النظام الإقطاعي.
وفي الوقت الذي تصعدُ فيه القوى البيروقراطية على جثة المجتمع القديم، فإنها لا تستطيع أن تكون ليبرالية ديمقراطية حقيقية، فهي بسيطرتها على أغلبية المال العام وإنتاجه تخشى هذ الديمقراطية، تخشى هروب الدجاجة الذهبية من تحت قبضتها، فتغدو لها تحفظات على هذه الديمقراطية لكونها (لا تتناسب مع تقاليدنا العريقة)، أو بسبب الخشية من الفوضى وغيرها من التبريرات التحكمية.
وتقوم بمزج هذه السلطة التحكمية بكم ما من الشعائر الديمقراطية، لكن التي تجعل حزب السلطة، سواء كان الحزب الشيوعي في الصين أو حزب روسيا بيتنا، أو الحزب الوطني الديمقراطي المصري، أو النخبة من الطائفة السنية المتحكمة في موارد البلد، أو النخبة من الطائفة الشيعية المتحكمة في موارد بلد آخر، أو أن يجري وضع خليط من النخب الطائفية المتعددة في بلد ثالث.
ومهما كانت الصراعات والخلطات فإن النتيجة هي إنشاءُ طبقة مسيطرة على وسائل الإنتاج، تتوزعُ بينها مصادرُ الخيرات العامة، بعضها متنفذ في أغلبية الملكية العامة وبعضها متنفذ في الملكيات الخاصة وبينها تعاون وصراع يتحددان بطبيعة العلاقات بين الطرفين وبحجم السوق ومسائل أخرى كثيرة.
هذه مرحلة رجراجة بين الرأسماليتين العامة البيروقراطية المنتهية ولايتها، وبين الرأسمالية الخاصة التي لم تعط الولاية ولم يحن سعدها الكامل.
هذه المرحلة التي نعيشها الآن والتي تمثل حلقة من حلقات تطور الرأسماليات الشرقية منذ أن كانت جنيناً في رحم الأمبراطوريات الإقطاعية فأنتجت لنا متجراً ومصنعاً صغيراً وبنكاً محلياً متواضعاً، حتى تفتت الأمبراطوريات أو تحولت بشكلٍ آخر محافظة على السوق الهائل كالأمبراطورية الروسية التي صارت أمبراطورية سوفيتية، والأمبراطورية الصينية التي صارت جمهورية الصين الشعبية، وهذا التحول فيهما أدى إلى إنجاز ثورة صناعية كبرى لم تصل بعد لمستوى الثورة الصناعية الغربية، لكن ضخامة السوق كانت معجلاً آخر، وفي حين لم تهدر الصين بضائعها على الجمل الثورية كثيراً استنزفت روسيا نفسها في ذلك.
كان المتفتتون – أي الذين زالت أمبراطوريتهم كالمسلمين – أكثر الخاسرين، فعلينا مراجعة تجربة مفتتة زادتها الأيام تفتتاً، وهي مثلت في النهاية تجربة المذهبيات الإسلامية المشغولة بالحروب الكلامية والحقيقية معاً.
كان بروز الرأسماليات الحكومية بشكل طائفي تعبيراً عن صراعات الماضي الخاوية، وعن الرغبة في إستعادة الأمبراطوريات، وعن ضعف الرأسماليات الحكومية في بلدان محدودة السكان، وعن تخلف هؤلاء السكان الاجتماعي والاقتصادي، وعن عدم وجود طواقم حكومية ذات كفاءة في رؤية مسارات التطور وضعف التعاون بين هذه الإقطار الدينية.

الفصل الأول

من تاريخ قوى المال الغربية

يتحدث العديد من المثقفين العرب عن أزمة الطبقة الوسطى وانهيارها أو صعودها أو غير ذلك في تعميمات ودون أية تحليلات اقتصادية وتاريخية، تجعل عقولهم ومناهجهم تتغلغلُ في البنى الاقتصادية وتفهم ما يجري.

هذا بخلاف علماء الاقتصاد والتاريخ الغربيين الذين كرسوا الكثير من المؤلفات لفحص ذلك، بدءً من آدم سميث وريكاردو حتى ماركس.
ويقدم لنا كارل ماركس وصديقه فريدريك انجلز لوحات تاريخية ومعركة ثقافية ساخرة وعلمية عميقة عن كيف نشوء الطبقة الوسطى وقوى المال عموماً في الغرب، وذلك في كتابهما المشترك:(1).
ويقدم المؤلفان ذلك بصفته تاريخاً للإنسانية الحديثة، ويعتبران ما تشكل ويتشكل في الغرب كأنه تاريخ للشرق كذلك، لكن ما يقصدانه هو تكون الرأسمالية في الغرب، في حين ستكون للشرق رأسماليته المغايرة وذات التاريخ المختلف، ولكن الرؤى الغربية حتى من وجهة اليسار في ذلك الحين تدور في المركزية الأوربية التي سوف تقود للاشتراكية. ويفيدنا ذلك في رؤية النمطين من الرأسمالية، الرأسمالية الغربية الخاصة والرأسمالية الحكومية الشرقية. وكل منهما له سياقه العام المتميز.
يتوجه ماركس في دراستهِ المذهلة عن تاريخ أوربا الاقتصادي إلى كيفية ظهور الإقطاع في العصر الوسيط وكيف برزت المدنُ بعد إنهيارِ الأمبراطورية الرومانية، وهو يمشي على تضاريس الحرف والنقابات الحرفية وكيفية تشكل الرساميل عبر مختلف البلدان، أي إلى الأجسام الاقتصادية لأرباب العمل المختلفين من إيطاليا حتى انجلترا مركز الثورة الصناعية، ويميز بين شرائح كبيرة من هذه القوى: (إن البرجوازية لا تنمو إلا بصورة تدرجية في ذات الوقت مع شروطها الخاصة، وتنشق وفقاً لتقسيم العمل إلى فئات متعددة، وتمتصُ جميعَ الطبقات المالكة التي تصادفها)، (بالقدر الذي تتحول وفقاً له كل الملكية القائمة إلى رأسمال صناعي أو تجاري)، (2)
وماركس حين يعرضُ منتوجات الواقع هذه يتتبعُ جذورَها في التاريخ السابق مثل الحرف، والإقطاع، والنقد الذهبي، والاكتشافات الجغرافية والثقافة، ويمثل ذلك حدوث الشكل الأول الأبتدائي من العولمة الحديثة، لكي يصلَ إلى مكوناتِ التاريخ الاقتصادي الاجتماعية، فمع نمو الرساميل بشكليها الصناعي والتجاري ظهرتْ المصانعُ الأولى؛ (وكانت العاقبة الأولى لتقسيم العمل بين المدن المخلتفة قيام المانيفاكتورات، هذه الفروع للإنتاج التي أفلتت من نظام النقابات الحرفية)،(3) ص66، (واقتصرت على السوق الداخلية)،(وأصبحت المانيفاكتورة ملجأً للفلاحين من النقابات الحرفية التي كانت تستعبدهم أو تدفع لهم أجوراً سيئة). (ومع قيام المانيفاكتورات وُضعت الأممُ المختلفة في علاقات مزاحمة، وانخرطتْ في صراعٍ تجاري، هذا الصراع الذي احتدمَّ بواسطةِ حروبٍ، وحمايةٍ جمركية ، وحظرِ إستيراد).
(وتلقت المانيفاكتورة وحركة الإنتاج بصورةٍ عامة انتفاضة هائلة من جراء امتداد التجارة الذي تحقق مع اكتشاف أمريكا والطريق البحرية إلى جزر الهند الشرقية. إن المنتجات الجديدة المستوردة من هناك، وبصورة خاصة كتل الذهب والفضة التي دخلتْ التداول، قد بدلت تبديلاً كاملاً مركز الطبقات حيال بعضها بعضاً، ووجهتْ صفعة شديدة إلى المُلكية العقارية الإقطاعية وإلى الشغيلة.)، والمقصود بالشغيلة هنا الحرفيين خاصة، (4).
إن قوى الإنتاج الجديدة التي غذتها تطورات العلوم وانتشار المجموعات الكثيفة من المشردين في المدن، والاتساع الهائل للتجارة أدت كلها إلى أن (التجارة والمانيفاكتورة قد خلقت البرجوازية الكبيرة؛ أما في النقابات الحرفية فقد تمركزت البورجوازية الصغيرة التي لم تعدْ سائدة في المدن بعد الآن، بل لم يكن لها بد من الانحناء امام سلطان التجار والمانيفاكتوريين الكبار)، ويحدد ماركس تكوينات القوى الغنية المتعددة بالشكل التالي في الهامش:(البورجوازية الصغيرة – الطبقة المتوسطة – البورجوازية الكبيرة).
أما المرحلة الثانية للتحول فقد بدأت في منتصف القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، التي تتميز باستمرارِ اتساعِ التجارة، وبتطورِ الصناعات المتخصصة كالحرير، وبرفع الحظر عن تصدير الذهب والفضة وبدء النقد الورقي، والمضاربة بالرساميل والأسهم من مختلف الأصناف)، وقد توسع الطلب التجاري بحيث أن قوى الإنتاج المحدودة عجزت عن تلبيته، (وقد عممتْ الصناعة الكبرى المزاحمة وأنشأتْ وسائلَ المواصلات الحديثة وأخضعت التجارة لها، وحولتْ الرأسمالَ بأسرهِ إلى رأسمالٍ صناعي، وانبثقت المدنُ الصناعية العملاقة الحديثة)، (ولقد دمرتْ حيثما تغلغلت الحرفَ اليدوية)، (لقد أكملتْ انتصارَ المدينة التجارية على الريف).
لقد لعبت الملكية الخاصة وقوة العمل المأجور دوريهما في صياغة هذا العالم الاقتصادي، ولم تكن هنا شبكة سياسية تمنع مثل هذا النمو المتداخل الذي بدا فوضوياً، ولكن تضافر الملكية الخاصة والعلوم والمنافسة الاقتصادية أدت إلى تثوير قوى الإنتاج، وعبر ثلاثة قرون من هذه الديناميكية تكون قوى الإنتاج قد تفوقتْ عن كل ما جرى في التاريخ سابقاً.
أما في الشرق فسوف تتعرض الحركة الاقتصادية لتدخل الرساميل الغربية، ثم إلى قيام منظومات سياسية شرقية تقيدُ نموَ الاقتصاد بشكلٍ حكومي، وينجحُ بعضها في أحداث قفزة بفضل أداة الدولة المركزية المُخططة، لكن لا تبلغ درجة تطور الغرب، ثم تتشابك المنظومتان الرأسمالية الغربية الخاصة والرأسمالية الشرقية الحكومية، في صراع عالمي، ثم في توليفة مشتركة راهنة تظل صراعية مفتوحة لاحتمالاتٍ جديدة لا تتوقف.

إستكمالُ نظريةِ ماركس عن رأسِ المال

كانت آراءُ ماركس واسعة عميقة، من جهة الغرب، ومحدودة من جهة الشرق.

جانبان متناقضان يمثلان مستوى الحركة العمالية التقدمية الأوربية بين سنوات 1844 إلى 1882، ويعبران عن حركة العالم المتشكل تحت نقدِ الغربِ وأساطيله.
فكانت الحركة التقدمية العمالية تصحو مشتتة مقموعة ممزقة، غارقة في الأحلام والهذيان الاجتماعي، وفي المعارضة العنيفة، وفي ثوراتِ الشوارع المنطفئة بسرعة، أقطارُها الغربية الثلاث أنجلترا وفرنسا وألمانيا، تصوغ ردودَ الفعلِ الشعبية تجاه ظاهرة الرأسمالية العاصفة التي فجرتْ تحولاتٍ غيرَ مسبوقةٍ في التاريخ البشري.
وكانت أنجلترا وفرنسا هما طليعة هذا الحراك الفكري السياسي، ففيهما بلغت الرأسمالية مستويين كبيرين، خاصة الأولى التي كانت هي الأوسع تطوراً.
ولكن الحركة العمالية كانت غارقة في المشروعات الخيالية الاجتماعية.
شارل فورييه وسان سيمون الشخصيتان الفرنسيتان الاجتماعيتان البارزتان تقدمان مخططات خيالية لكيفية إنقاذ العمال، وكانا ينشران تنظيميهما السياسيين في كل انحاء فرنسا، ويجمعان الأنصارَ والقيادات العمالية في هذه الشبكة الاقتصادية الواسعة من معامل النسيج والمناجم، ويخططان لكي ينقلا العمال إلى جزر ومناطق بعيدة لتأسيس مستعمرات إشتراكية، أو ينتظرُ فورييه الرأسماليين الكرماءَ ليقدموا له معونات لجعل الرأسمالية جنة إجتماعية وظل ينتظر في تلك الساعة التي حددها للقاء أهل الخير طوال سنوات كثيرة حتى مات دون أن يطرق بابه أحدٌ.
وكان برودون الاشتراكي الإنساني يؤسس بنكاً للمعادلات الاجتماعية، من أجل أن يأخذ العمال أنصبتهم من الأرباح وكذلك الرأسماليين، دون ضرر ولا ضرار بين الجانبين المتخاصمين، لتسود العدالة الأبدية هذين الفريقين المتنازعين على الفلوس التافهة.
لكن رجلاً ألمانياً هارباً من ثورة دامية ومطارداً جاء إلى فرنسا وهو مشحون بديالكتيك هيجل المثالي الغيبي، ليعدل هذه الأفكار.
كان عليه أولاً أن يعدل هذا الديالكتيك القادم من الفكرة المطلقة المسيطرة على العالم وتاريخه، وهي التي تكـّون الممالك والجمهوريات والأنظمة وتحددُ طبيعة الأدب في أفريقيا وآسيا، وتكونَ البوذية في الصين.
كان قلبُ هذه الأسطورة ذات المضمون العجيب والمضيء مهمة شاقة كبيرة لرجلٍ مثل ماركس، كان عليه بالتالي أن يقرأ كلَ تواريخ الإنسانية ويحللُ أنظمتـَها، وهو ليس مثل هيجل في موقعه الجامعي ومنزله الباذح في برلين.
وكان العملُ العلمي الذي إشتغل عليه في الجامعة هو تحليلُ الفلسفة الإغريقية، وهو إختيارٌ يدلُ على أوربيته الغارقة حتى العظم.
سنجدُ أن ثقافته الفلسفية والأدبية عن الأغريق هي ضخمة ونافذة إلى علاقات ومضامين دقيقة فيها، يكتب:
(إن ديموقريطس أبعد ما يكون عن رفض العالم، بل كان على النقيض من ذلك عالماً طبيعياً تجريبياً) ،(الذرة بالنسبة إليه، متعارضة مع أبيقور، قد كانتْ مجردَ فرضيةٍ فيزيائية، ذريعة من أجل تفسير الحقائق، تماماً كما هي في التراكيب الخلائطية للكيمياء الجديدة(دالتون وآخرون)، (5) .
هذه فقرة من كتابٍ من كتبِ مرحلة الشباب، الجدالية، مع الكـُتاب الألمان، ويبدو فيها وهو متبحرٌ في الفلسفةِ بضفتيها اليونانية والأوربية الحديثة، وفي قسمٍ صعبٍ هو فلسفة العلوم الطبيعية، والاختصاص الأوربي واضح وعميق فيها، والأهم هو وضعهُ تاريخَ الفلسفة فوق ظروف نشأتِها الموضوعية، محللاً شخوصَ الفلاسفة من حيث الفكرة والشخصية الخاصة كذلك، عبر هذا الجمع الجدلي بين الذات والفكرة والصراع الاجتماعي.
وهو نهجٌ سوف يطورهُ خلالَ صراعاتهِ الفكريةِ المختلفة.
لكنه لم يستطعْ أن يكونَ مثل هيجل وهو المتنقلُ بزوجتهِ وبناته بين بلدٍ وآخر، مطاردٌ من شتى المخافر، وبالكاد يستطيع أن يؤمّن لقمة عيشهِ وبمساعدةِ رفيق كفاحه فريديك أنجلز، وكان عليه أن يقوضَ تلك الأفكار عن الاشتراكية الرائجة في القطرين القائدين لرأسمالية ذلك الزمن، أنجلترا وفرنسا.
إن المصادرَ التي اعتمدَ عليها في قراءاتهِ الاقتصادية لا يمكن عُدها، سلسلة طويلة من المؤلفين في عصور أوربا الغربية النهضوية الرأسمالية، بدءً من سيسموندي الإيطالي وتلميذه شيربوليز وسينيور الأنكليزي وجيمس ميل وجون ويد وآدم سميث وريكاردو وغيرهم كثيرون ).
إن تحليلَ كتب هذه الحشود من الباحثين والمؤرخين الاقتصاديين وضعتْ منهجيتهُ فوق الأرض الاقتصادية الغربية للوصول إلى خلاياها الاقتصادية التكوينية الأولى وهي: البضاعة، ورأس المال، والنقد، وقوة العمل، والآلة وغيرها، أي هي عملية تشريحٍ علمية طويلة في الجسد الاقتصادي الغربي، في تكوينه وتاريخيته.
والتاريخية هنا هي تاريخية غربية، فظهورُ رأسِ المال مأخوذ في مجالهِ الذي يبدأ من العصر الوسيط حتى يتعملق في القرن التاسع عشر، سواءً تمظهرَّ ذلك في الدول الغربية الأوربية أو توسع في أمريكا الشمالية، وقد راحتْ قراءاتهُ تتوسعُ في اقتصادِ أمريكا، وتتنبأ لها بقيادة الاقتصاد الرأسمالي الغربي عامة، وسيتابعُ كذلك انتشارَ العلاقات الرأسمالية دولياً، ليس كما نبتتْ في أقطار العالم الأخرى، بل كما تمظهرتْ بشكلٍ بريطاني، في الهند وهو المثال الوحيد الذي تردد في كتبه عن الشرق الحديث، خاصة بعد استقراره في لندن وتوفر المراجع في مكتبة المتحف البريطاني.
وما يشغلهُ طوالَ سنين الاربعينيات والخمسينيات هو الوضع في المانيا بلده وتحليل البنية الرأسمالية التي سوف تحتاج إلى عقود من أجل الوصول لقوانينها.
وجاءَ اهتمامهُ بألمانيا باعتبارهِ بلده ولهذا تابعهُ بشكلٍ مكثفٍ من أجل حدوث تحول جذري فيه؛(فبينما كانت البورجوازية الفرنسية، وباسطة أضخم ثورة عرفها التاريخ، ترتفع إلى السلطة وتغزو القارة الأوربية، وبينما كانت البورجوازية الانكليزية التي سبق أن تحررتْ سياسياً تثــّور الصناعة، وتخضعُ الهندَ سياسياً، وتخضع بقية العالم تجارياً، لم يذهب البورجوازيون الألمان في عجزهم إلى أبعد من الإرادة الطيبة)، السابق، (6).
إن هذا الهاجسَ الوطني ترتب عليه مناقشات وحوارات عميقة وصاخبة مع العديد من رموز الثقافة الألمانية وخاصة مع ما يُسمى باليسار الهيغلي، الذي طمح في تغيير الفلسفة نحو اليسار لكنه عملياً ظل أسير مثالياتها الغيبية.
الخلاصة هنا هي أن ماركس هو منتج لنظرية اقتصادية أوربية تعكس سيرورة الرأسمالية الغربية عامة، ولها بنية اقتصادية مغايرة للتاريخ السابق وللتاريخ الشرقي.
تدل سنواتُ الأربعينيات والخمسينيات لكارل ماركس وفريدريك انجلز على بحثهما المضني لتفسير جديد للتاريخ، ظلَّ في مادةٍ أوربية غربية خالصة. وقد صدرَ المجلدُ الأول من رأس المال في الستينيات من القرن التاسع عشر.
وترافقَ ذلك مع نضالٍ فكريٍّ مع النخب الألمانية الغارقة في المثاليات والغيبيات والتحليلات الجزئية للتاريخ والمجتمع، والتي بدأت تقرأ تاريخ رأس المال الحديث لكن بمستوياتٍ قديمة.
ومن هنا أخذ هذا الجدالُ سمة المؤلفات ك(بؤس الفلسفة) و(الإيديولوجية الألمانية) و(الأسرة المقدسة)، و(ضد دهرنج)، وهو جدالٌ مليءٌ بالسخرية، والأحكام الجزئية وكثرة الموضوعات ومناقشة الجمل الصغيرة بتوسع، ومناقشة الأفكار الفلسفية النظرية المضادة، وتبيان تهافتها، وهو جدالٌ امتدَّ لفرنسا كذلك مع برودون وسان سيمون وجماعات الاشتراكيات الخيالية.
وفي هذين العقدين بدت لماركس وانجلز إن الثورة العمالية المباشرة هي الفعلُ الوحيدُ الممكن الراهن لتصفية الرأسمالية، بناءً على أثر الغضب المتصاعد في القرن التاسع عشر ولسوءِ أوضاع العمال.
وإذا كانت ألمانيا بلدهما متأخرة في تطورها الصناعي ومحاطة بدولٍ متطورة فلا يمنع ذلك من نشوء الثورة العمالية فيها والتي تزيل البورجوازية:
(ومن البدهي إن الصناعة لا تبلغ ذات المستوى من الأحكام في جميع أقاليم البلد الواحد. ومهما يكن من أمر، فإن هذا لا يؤخر حركة البروليتاريا الطبقية، لأن البروليتاريين الذي خلقتهم الصناعة الكبرى يأخذون زمام القيادة . .)، (وإن البلدان حيث تطورت الصناعة الكبرى تؤثرُ بطريقةٍ مماثلةٍ في البلدان التي تفتقرُ أكثر أو أقل إلى الصناعة، وذلك بقدر ما تنجرف هذه البلدان غير الصناعية بفعل التجارة العمومية في تيار صراع المزاحمة العمومية)، (7).
إن ماركس الألماني الذي تعيشُ بلدُهُ في تخلفٍ صناعي، وبعمال محدودين وبنخب مائعة فكرياً، يريد الثورة العمالية باعتبارها البديل الاشتراكي لرأسمالية متخلفة.
هنا نجدُ الأفكارَ التي استخدمها لينين فيما بعد. وهي الأفكار الماركسية الشبابية التي لم تنضجْ في معمل التحليل المطول. لم يصلْ ماركس لطبيعة الرأسمالية الأوربية بشكل دقيق هنا(أي في المرحلة الشبابية)، كما أنه لا يعرف كثيراً تاريخ العالم، وخاصة الشرق، وهو في هذا المستوى العلمي الأولي، فتبدو له الرأسمالية الظاهرة في أوربا كأنها الرأسمالية العالمية كما سوف تتطور فيما بعد. إنها النسخة الوحيدة المرئية، وحتى فهم التشكيلات وهي التشكيلة المشاعية، فالعبودية، والإقطاعية، ستـُؤخذ من خلال التاريخ الأوربي.
وإذا رجعنا للفقرةِ السابقةِ الذكر المُستشـَّهد به، فنرى إن تيار المزاحمة وانتشار التجارة لا يقودان بالضرورةِ إلى بناءِ أنظمةٍ رأسمالية على الطريقة الغربية، في آسيا وأفريقيا، وهو أمرٌ يلمح إلى أن الرأسمالية تبدو لماركس ذات خصائص واحدة في الغرب والشرق.
إن محدودية فهم الرأسمالية في الاربعينيات الأوربية والحماس وتفجر الثورات كلها تقود إلى إستنتاجات سياسية بزوال الرأسمالية الراهن، وهو أمرٌ يتقلصُ في كتابه (رأس المال) حيث تـُؤخذ على أنها انتشار الصناعات الكبيرة، وهذا يكفي للثورة الاشتراكية وإزالة الأستغلال الرأسمالي، وهي شعارات يُقصد منها كذلك دحر المشروعات الخيالية للاشتراكيين الحالمين. لكنه حتى في راس المال لم يتصور نمطاً آخر من الرأسمالية. فيتوارى تاريخ الشرق المميز عن ماركس كما عن لينين فيما بعد.
ولكن الثورات العمالية كانت تتوجه لتحسين أوضاع العمال رجالاً ونساءً وأطفالاً المعيشية ومكانتهم السياسية حيث يُحرمون من التصويت والدخول للبرلمانات، فكانت هي جزءٌ من عملياتٍ إصلاحية لتغيير مكانة الطبقات العمالية في النظام الرأسمالي الحديث، الذي يجمعُ طبقتيه الرئيسيتين المالكة والعاملة في الإنتاج. وهو أمرٌ صراعي تعاوني غذاه إستعمار هذه الرأسمالية للعالم الشرقي خاصة.
لكن من جهةٍ أخرى فإن ماركس هو كذلك ديمقراطي غربي يدركُ أهمية البورجوازية، وفي مؤلفه رأس المال يواصل الإصلاحية العميقة داخل هذ النظام، ومنذ الشباب يدركُ بعضَ جوانب ذلك؛ (ولقد ظهرت عبارة المجتمع المدني في القرن التاسع عشر، حالما تملصتْ علاقاتُ الملكيةِ من الجماعةِ القديمة والوسيطية. إن المجتمعَ المدنيَّ بصفتهِ هذه لا يتطور إلا مع البورجوازية)، السابق، (8).
لا تبدو لماركس الرأسمالية إلا واحدة، غربية، قامتْ على حراكِ البورجوازية الخاصة، ولم تكن الدولُ إلا مساعدة لصعودِها أو معرقلة لها، مرة من خلال الصراع ومرات من خلال التعاون مع الدول المَلكية خاصة.
لكن ليس من خلالِ مَلكية مطلقة فالملكية المطلقة تعني ضعف تطور الرأسمالية، وماركس يطالبُ من محاورهِ أن يسمي له بلداً(تعهدَ البورجوازية، في شروط متطورة للتجارة والصناعة، وفي مواجهة المزاحمة القوية، بالدفاع عنها إلى مليك مطلق؟)، (9).
تعطينا هذه العبارة، ليس فقط الشروط السياسية لنمو هذه الطبقة القائدة للإنتاج الحديث، بل أيضاً كون هذه التجارة والصناعة خاصتين غير حكوميتين، وكلما تدخلتْ الحكوماتُ المَلكية خاصة عرقلتْ ذلك التطور الرأسمالي في فروع الاقتصاد المختلفة.
كيف يمكن إذن أن تزولَ الرأسمالية؟ هذا سؤالٌ مؤرقٌ تسخنهُ أوضاعُ العاملين وطموحُ الإنسان عامة لإلغاء الإستغلال، فهل تزول الرأسمالية لأسبابٍ أخلاقية؟
يجيب انجلز بعد موت ماركس في مقدمة كتاب الأخير (بؤس الفلسفة)؛ (ونجد بالنسبة لقوانين الاقتصاد البورجوازي أن القسم الأكبر من الإنتاج لا يخص العمال الذين انتجوه. وإذا قلنا الآن:(هذا ليس عدلاً)، (يجب أن لا يكون هكذا). فإنما يصبحُ هذا القول متعلقاً بالأخلاق لا بالاقتصاد. . فماركس لم يُقمْ مطاليبَهُ الشيوعية على هذا الزعم بل أقامها على تقلصِ الإنتاج الرأسمالي المؤكد. هذا التقلص الذي لم يَحُدث أمام عيوننا!)، (10).
إن ظاهرة تقلص الإنتاج بشكلٍ نسبي ممكنة، ولكن التقلصَ بشكلٍ مطلقٍ لا يمكن تصورهُ إلا في عالمٍ تتحولُ كلُ الدولِ فيه إلى منتجةٍ واسعة للسلع فلا تجد كلها أسواقاً، وما دامتْ توجد دولٌ أخرى غير صناعية وفيها أسواق مفتوحة، فإن التقلصَ المطلقَ مستحيل. ولكن حتى التقلص المطلق لا يكفي لإقامة الاشتراكية لكنه يعبر عن الطريق المسدود للرأسمالية، وتلك مسألة أخرى.
وهكذا فإن أوربا الغربية وأمريكا الشمالية التي أوجدت الرأسمالية الخاصة راحت تبحثُ عن أسواق للمواد الخام وأسواق لتصدير البضائع المُصّنعة، وقامتْ بذلك عبر وسائل القهر، لا عبر التبادل الحر، فهي تنتزعُ الموادَ الخام بالقوة وتبيعُ سلعَها بالقوة وتلغي حرفاً قديمة وعالماً اقتصادياً في العالم الشرقي، وهو ما جعلَ البلدانَ المغزوة تنتجُ نمطاً آخر من الرأسمالية هو نمط الرأسماليات الحكومية الشرقية ثم غدتْ كذلك في أمريكا اللاتينية لأنها كحال الشرق.
إذن كان ظهورُ نمطٍ آخر من الرأسمالية قد جاءَ في الشرق كحمايةٍ قومية وتحررية ضد اكتساح الرأسمالية الغربية للعالم.
وفي حين كان أصلُ الرأسمالية الغربية حركاتٍ اجتماعية خاصة تحررية، فإنها قد وصلتْ للسلطة وصارتْ متحكمة في الحكومات، فاستخدمتْ أدوات القوة الرسمية لفرضِ نفوذِها الاقتصادي على الأمم المتقطعة الأوصال والمتخلفة والضعيفة.
وبهذا فإن الرأسماليات التي ظهرتْ في الشرق في مجتمعات إقطاعية متخلفة وجدتْ نفسَها تلتحمُ بأجهزة الحكم منذ البداية. وفي حين وجدَ النموذجُ الخاصُ الغربي الرأسماليُّ مساحة كبيرة من الزمن لنموه تصل إلى أكثر من خمسة قرون، فإن النموذج الرأسمالي الشرقي أختنق في وقت محدود بين مائة أو خمسين سنة، وتحت ضغط مقاومة للسيطرة الخارجية جعلتهُ يحمي أسواقـَهُ الداخلية بأجهزةِ الدول.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الرأسماليات الغربية لم يعد ركود الإنتاج فيها وأزماته إلا فترات مرحلية، يعودُ فيها الإنتاجُ أقوى من السابق، بفضلِ توسع الإسواق المستمر وتطور القوى المنتجة، التي التحمت فيها التطبيقات العلمية وثورتها بأدوات الإنتاج.
ويتعلق ازدهار الأسواق بظروف جديدة جيدة للجمهور في بقاع مختلفة، أما الكساد فهو غياب هذه الظروف، لكن الإنتاج الرأسمالي يشتغل على جانبين إستغلال موارد وتدهور حرف وصناعات، وعلى ازدهار معيشة، وهذان جانبان متناقضان.
وبين إعادة إنتاج الداخل وتنمية الأسواق والقوى العاملة والقوى المنتجة عموماً كانت تحدث توسعاتُ هذه الرأسمالية وتطوراتـُها المتسارعة المتزايدة في التقنيات، في حين وجدتْ الرأسمالية الشرقية الحكومية (ذات النمط المُسمى إشتراكي) نفسها في انقطاع عن السوق العالمية وعن تطور القوى المنتجة الكونية.
وتتراوح عمليات التطور في الرأسماليات الشرقية، ففي بعض التجارب الخاصة كاليابان التي حذت حذو الغرب بشروط البناء الاقتصادي نفسه حدثت تطورات هائلة، في حين أن التجارب الحكومية الرأسمالية العامة المتفوقة كروسيا والصين، واجهت إشكاليات هذا النظام، دون أن تستطع الخروج كلياً من إشكالياته، وضاعت دولٌ أخرى في عمليات تجريبية مشوهة غالباً بدون تجذر كمصر وأغلب دول الشرق عامة.
إن العديدَ من القوانين المكتشفة عن السلعة وقوة العمل والتراكم البدائي وأولوية الصناعة الثقيلة وتحرير الريف والنساء من السيطرة الإقطاعية وغيرها، والتي نتجتْ داخل الرأسمالية الخاصة حيث يلعبُ السوقُ الدورَ المركزي، لن تكون مستوعبة في أغلب تجارب الشرق الحكومية الرأسمالية، حيث لا يلعب السوق الدور المركزي دور ضبط فروع الإنتاج، بل ستكونُ لها تطبيقاتٌ مختلفة ومستويات متباينة في الرأسماليات الحكومية التي غدا فيها جهازُ الدولة هو المخطط وصانعُ الحواجز الاقتصادية والحريات الاقتصادية كيفما تريدُ إدارتـُهُ السياسية، وبهيمنة الأجهزة البيروقراطية في تشكيل المصانع وتحديد قوى العمل وتوزيعها، وفي خلق عمليات التراكم والتجديد الإنتاجي، وتحديد القطاعات الاقتصادية وأولوياتها، حسب وجهة نظر كل دولة، وحسب كل مرحلة من تطور قوى الإنتاج، وكذلك تحديد قوى العمل الفكري الذي يعودُ كذلك لسيطرةِ الدول عبر المدارس والمعاهد، ومدى رفده للعمليات الإنتاجية أو إنقطاعهِ عنها.
وهذا لا ينفصلُ كذلك عن تاريخيةِ المجتمع وطبيعةِ تطوره، ومدى حجم ونوع العلاقات ما قبل الرأسمالية كالعبودية والإقطاع، ومدى عرقلتها أو عدم عرقلتها للتطورات الرأسمالية. وكذلك مدى علاقات التبادل بين هذه الدول والعالم الخارجي، ودور هذا التبادل في تطوير أو عدم تطوير الإنتاج.
ولهذا لا بد أن تـُدرس كل دولة أو كل مجموعة دول في الشرق حسب تجربتها، مقارنة بنموذج التشكيلة الرأسمالية الغربية الحديثة.
إن التشكيلة الرأسمالية الاقتصادية – الاجتماعية الغربية تعبيرٌ يُقصدُ منه تعميم الصفات التي جرتْ في كل دولة غربية لنمو الرأسمالية، فرغم تأخر دول وتقدم أخرى، ورغم تبدل الأنظمة السياسية من نظام جمهوري إلى نظام ملكي إلى سيطرة اليسار في بعض المواقع التاريخية، أو عمليات تبادل الحكم بين الليبراليين – الاشتراكيين الديمقراطيين وبين المحافظين، فإن قوانين التشكيلة العامة تبقى هي نفسها كما حددها ماركس في كتابه رأس المال.
ولكن دول الشرق أُقحمتْ في هذه التشكيلة بدون إرادةٍ منها، فقد كانت منساقة في تواريخها الاجتماعية الخاصة، في تشكيلة تتراوح بين العبودية والإقطاع، في مستويات شديدة التباين، كوجود حتى علاقات مشاعية فيها، أو وجود تجارب إقطاعية ازدهرتْ بعلاقاتٍ بضاعيةٍ كبيرة كالدول العربية الإسلامية والصين، ولكن جميعَ هذه الدول وبغض النظر عن تلك المستويات والتقاليد المختلفة وجدتْ نفسها تـُزجُ في عالمٍ تسيطرُ عليه تلك التشكيلة الرأسمالية الغربية، وهي التي تجعلها كذلك أن لا تصيرَ مثلها، وتمنعَ تطابقـَها معها، بل أن تبقى في تكويناتها العامة ما قبل الرأسمالية الحديثة كي تمدَها بالمواد الخام وتفتح أسواقها لها، أو حتى تعطيها رساميل نقدية.
ورغم أن هذه الصيغة استمرتْ لدى العديد من الدول ارتضتْ لنفسِها دور البقرة الحلوب، مادة خاماً وسوقاً ورساميلَ نقدية موجهة للسيد الغرب، إلا أن دولاً أخرى ثارت أو تمردت بشكل مغامر أو عقلاني مخطط، حسب قدرتها على قراءة التشكيلة الرأسمالية الحديثة بقوانينها المُكـّتشفة، ومدى إستقلال أجهزتها السياسية عن الاقتصاد ما قبل الرأسمالي الخاص، وبهذا فإن أنماطاً عدة من الرأسماليات تكونتْ في تجارب الشرق، بعضها المطابق وبعضها المفارق، وبعضها التجريبي الضائع وبعضها المترنح للوراء بسبب الأبنية الاقتصادية – الاجتماعية شديدة التخلف وأجهزة حكوماته وجنونها السياسي.
وبهذا فإن التشكيلة الرأسمالية الحديثة الغربية وهي تسيطر على العالم الآخر كانت تنقلهُ إلى مستواها بسبب الصراع الذي أثارته، وتظهر منافساتـُها ومصارعاتـُها الرأسماليات الشرقية الخاصة والحكومية، في تكوين بشري رأسمالي تختلط فيه الرأسمالية الخاصة والعامة ويغدو أرفع من الرأسمالية التي وقف عندها كارل ماركس واعتقد أنها الطبعة الوحيدة، فقد ظهرتْ طبعة أخرى ورغم أنها سيئة وأقل جودة من النسخة الأولى، لكنها في مجرى الصراع الاقتصادي تـُحسنُ من النسخةِ المشوهةِ، وتستفيدُ من بعضِ جوانبـِها لتحسن عملية النسخ.
إن الطبعة الوحيدة تـُعّممُ، تغدو عولمية، بمستوياتِها المختلفة المتضادة المتداخلة.
وتحسنُ النسخُ الشرقي للرأسمالية الحديثة يؤججُ الصراعَ كذلك، لأن النسخَ تـُفعل أسواقها وتحولُ المزيدَ من المهمشين والمهمشات إلى عمال، وتخفف من تسلط الدول أو تتحكم فيها كلياً، وتقلل من الاعتماد على العمل البسيط اليدوي وتوسع الاعتماد على العمل التقني وتنتقل تدريجياً للثورة الملعوماتية التقنية الرقمية.
وبهذا يغدو الشرق غرباً، ويغدو العالمُ واحداً، وتصل البشرية إلى إختناق اسواقها بالبضائع، فتبحثُ عن صيغ عيش أخرى.

الخلاصة

قدم كارل ماركس مقاربةً اقتصادية لرأسمالية زمنه، وكشفَ قوانيَن نموها وتطورها لحد نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وجاءت الاحتمالاتُ الكبيرة التي تصورها لرأسمالية زمنه، بأن تدهوراً عميقاً سوف يحل بقوى الإنتاج، نظراً لنزول معدل الربح الوسطي، وبالتالي سيؤدي ذلك أما لتدهور الإنتاج أو لتوسع المصروفات القاصمة لظهر كل منتج، وإنه بالتالي فإن المجتمعات الرأسمالية سوف تشهد ظهور معسكرين لا ثالث لهما، معسكر نخب الأغنياء القليلة الباذخة، ومعسكر البروليتاريا المدقعة في الفقر والمتهيأة للثورة. لقد اكتشف سلسلة من قوانين الإنتاج الرأسمالي التي تمثل ثورة معرفية مثل فائض القيمة، وطرق إعادة الإنتاج الخ.
كانت هذه القراءة العميقة لجذور نمو الرأسمالية تمثلُ معجزةً معرفيةً لرجل واحد مضح، كرسَّ أربعين سنةً من سنواته الأخيرة من أجل القراءة والكتابة في بلد لا ينتمي إليه، وفي عائلة فقيرة وبين كثرة أولاد، لم يعتمد سوى على صديق واحد، ولم تكن له لجان أو مؤسسة دراسات خاصة به.
لكن الرأسمالية الغربية لم تقتصر على جذورها وعلى أوضاعها في القرن التاسع عشر، وراحت تتطور كأسلوبُ إنتاجٍ ديناميكي لم يتوقعه ماركس، وظن إنه سيكون محصوراً في أوربا الغربية وأمريكا النامية بقوة وقتذاك.
إن السوق الضيقة التي توقعها ماركس توسعت كثيراً، وشملت قارات العالم كله، وبهذا فإن الأنظمة الغربية حولتْ العالمَ إلى تابع لها، فما عادت القوانينُ المتعلقة ببنيةٍ اقتصادية ضيقة تشمل غرب أوربا بمماثلة لسوق كونية. وبهذا فإن دورَ الربح الوسطي المتآكلِ والمتدني والمضعفِ لقوى الإنتاج، والذي يعبرُ عن مجتمع واحد لا امتداد متوسع له، والمحكوم بآلية اقتصادية غدت ميكانيكية في رؤية ماركس؛ إن هذا الربح المتراجع تلاشى، وظهرت آفاقٌ لا تحدُ من الأرباح!
لقد توسعت الشركاتُ الغربية، ووجدت عالماً فقيراً تابعاً يمدها بالمواد الخام، وأسواقاً كبرى، ووجدت قوى عمل هائلة في الشرق، بأجورٍ شديدة الانحفاض وهذا هيأ لها الانتقال من عالم الثورة التقنية الميكانيكية إلى عالم الثورة المعلوماتية.
فمن المصانع الكبرى والتلوث وثورة الحديد والفولاذ والمدن المكتظة إلى عالم الأجهزة الدقيقة والكومبيوتر وثورات الفيزياء والكيمياء وتصنيع الزراعة والثورة البيولوجية وغزو الفضاء الخ.
ومن بعد الحرب العالمية الثانية توافقت الرأسماليات الغربية على منظومة واحدة، تجعل الصراع بينها سلمياً، تقنياً، وعبر غزو الأسواق الأخرى وهذا يعني مزيداً من التغيير في السلع والتقنية.
إن رأسمالية كارل ماركس القديمة لم تعد تحكمها قوانين الربح الوسطي وعجز القوى الإنتاجية، لكن تحكمها قوانينُ العالم الواحد الذي صار كتلةً اقتصادية واحدة، متعددةَ المستويات؛ غربٌ غنٌّي مسيطرٌ وشرقٌ ناهض، ذو آفاق في الرأسمالية أكثر توسعاً وتقنية وفتوة وأقل تكلفة من رأسمالية الغرب الكهل.
ظهرت قوانينٌ جديدةٌ للرأسماليات الكونية، رأسماليةٌ غربية حرة قديمة وذات مستوى عريق من التقنية والمستوى المعيشي الجيد ومن السيطرة على البيئة، ورأسماليات شرقية متنوعة تسودُ فيها الحكوماتُ المسيطرة والمتحكمة في الإنتاج والتي تقومُ بالتخطيط وبفتحِ الأسواق معاً، وهذا بسبب تأخر نمو هذه الرأسماليات وبضعف وعي الشعوب وتراثها الاجتماعي المحافظ، مما يجعل الصناعة بأجور شديدة الانخفاض وبدون شروط بيئية كبيرة، وهذا أدى كذلك لنقل صناعات كبيرة إلى الدول ذات النمو المتسارع كالصين والهند وشرق وجنوب آسيا.
فنهضت هذه الرأسماليات الشرقية نهوضاً لا سابق له، بسبب اتساع أسواقها وعوز أهلها وضخامة أعدادهم وكبر ساعات العمل فيها، وجلبها للتقنيات الغربية التي تعبتْ فيها الدولُ الغربية، فحصدتْ مكاسباً من التطور العالمي متنوعةً، وبهذا قامت بغزو أسواق المسيطرين السابقين عليها وانتزعت منهم الأرباح في عقر دارهم.
إنها رأسمالياتٌ كونية متعددة الأقطاب، متنوعة المستويات، وهذا لا يمنع من بقاء التناقض الكبير بين مستويات الغرب والشرق.
فرأسمالياتُ الغرب لديها كذلك عمقها التقني ولشعوبها مستويات حضارية أكبر، وهي لا تزال مسيطرةً على ثروات كبيرة من الشرق، خاصةً من المناطق الضعيفة التطور، والتي لا تزال تقدمُ الموادَ الخام وليس في شعوبها تطور صناعي أو تقدم تقني كبيرين.
ولكن العالم كله تشمله رأسماليات متعددة، مُقادة من الغرب، الذي لم تعد تناقضات كارل ماركس الاجتماعية تجري فيه بتلك الصورة المبسطة، ولكنه لم يخرج من ذلك التناقض المحوري بين البرجوازية والبروليتاريا، وهي برجوازية اصبحت ذات سيطرة عالمية، والبروليتاريا لم تعد البروليتاريا الصناعية المدقعة الفقر، بل تطورت مادياً ومعرفياً، وظهرت بروليتاريا جديدة ذات معرفة تقنية، وانتقل عصبُ قوةِ العمل إلى الدماغ بدلاً من التركيز على اليد كما كان سابقاً، فهي بروليتاريا مثقفة تتطلعُ لمستوى معيشة مرتفع، وتجمع في نضالها بين ورقة الانتخاب والأضرابات الاقتصادية المؤثرة، وآفاق تطور هذه الطبقات العاملة كبير، ليس على مستوى العمل الاقتصادي بل كذلك في دورها السياسي، وفي تغييرها لحياة الاستغلال والثقافة المحافظة، ولا يستبعد في العقود التالية أن تحكم عبر أحزاب ووزارات.
أما البروليتاريا الرثة المدقعة فقراً ذات العمل اليدوي فانتقلت إلى الشرق وأمريكا اللاتينية. إن برجوازيات الغرب تنقل مخلفاتها الصناعية إلى الشرق كما تنقل الوظائف الدنيا في مجتمعاتها، أو تستورد العمالة اليدوية المتدنية، فتصاعد التناقض بين الشرق والغرب وغدا كتناقض كبير يحكم العالم، فغدا سكان العالم الثالث كبروليتاريا عالمية متدنية الأجور وتعيش في أوضاع سيئة وبخدمات رثة، وبدت الفروق بين الأجور والظروف على مستوى العالم مخيفة.
وبدت سيطرة الدول دائم العضوية ودول الشرطي العالمي الغربية كجهاز عسكري يؤبد الفروق بين التكوينين المختلفين ولا يبحث هذه الفروق التناقضية الخطيرة ويحلها.
إن التطور الرأسمالي العاصف خلال القرن الجديد سيكون ذا احتمالات خطيرة، وستظهر رأسمالياتٌ شرقية كبرى تريد أسواقاً وموادا متناقصة باستمرار، ولا يستطيع هذا العالم المكتظ بهذه الرأسماليات المتصارعة إلاستمرار إلا عبر تغييره وتشكيل مجتمعات إشتراكية ديمقراطية تنقله إلى تعاون إنساني أرقى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الفصل الأول:
(1) : (الإيديولوجية الألمانية: كارل ماركس وفريدريك انجلز، دار دمشق ومن ترجمة فؤاد أيوب).
(2) :السابق ص 65.).
(3): (السابق ص 66 ).
(4) (السابق ، ص 68).
(5): (السابق ص139).
(6):(السابق ، ص 197).
(7)(السابق، ص 72)
(8) :(الإيديولوجية ، السابق، ص 85).
(9) : (السابق ، ص 205).
(10)(بؤس الفلسفة، مكتبة ودار الحياة، بيروت، ص 12).

الفصل الثاني

الرأسماليات الحكومية الشرقية الكبرى

لا بد لنا لكي نفهم طبيعة تكوينات الرأسماليات الحكومية الشرقية من مقارنتها بالرأسمالية الخاصة التي تكون تحت ظروف إستثنائية في الشرق وهي التجربة الرأسمالية اليابانية.

اليابان تجربة الرأسمالية الخاصة
حين نقرأ بعض الحيثيات المفيدة التي يقدمها مؤلفون عرب حول مسار التجربة اليابانية، وخاصة كيفية الانتقال من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي، فإنهم يضعونها في إطار المعجزة، الخارجة عن قوانين الانتقال نحو الرأسمالية في الشرق، لكونهم لا يقرأونها ضمن قوانين الانتقال العامة للرأسمالية الشرقية ذات الخصائص المختلفة عن الرأسمالية الغربية.
لقد قفزت اليابان نحو نمط الرأسمالية الغربية الخاصة، خلافاً للرأسماليات المعرقلة بتدخل الدول الشمولية في الشرق. بل وعلى العكس قامت الطبقة الحاكمة اليابانية بتوجيه قوى الأغنياء نحو تلك الرأسمالية الصناعية الخاصة، وهو جانبٌ سياسيٌّ فريد نشأ بسبب صغر اليابان تجاه الدول الكبرى المحاصرة لها والتي تريد التهامها كالولايات المتحدة وروسيا والصين.
لقد عملت الطبقة الحاكمة التي قلصتْ نفسها إلى أسرة صغيرة حاكمة، مزيلة طبقة الإقطاع الكبيرة وموجهة إياها نحو الاستثمارات التجارية والصناعية.
لكن قيادة الأمبراطور لهذه التحولات لم تكن دفعة واحدة بل جرى تذويب الطبقة الإقطاعية على مراحل:
(أطاحت القوى السياسية بالشوجون (قادة الجيوش) وانتقلت مقاليد السلطة للامبراطور من جديد بعد ان كانت في يد مجموعة من نبلاء البلاط استأثروا بها، نظراً لصغر سن الامبراطور مايجي، وقد كان عليهم باعتبارهم قوة جديدة ان يواجهوا المشكلات الملحة وعلى رأسها الزحف الغربي على بلادهم والفساد المالي، لأن مواجهة الاطماع الاوروبية في اليابان تتطلب قاعدة اقتصادية صلبة، بعد ان بدأت السلطة الحاكمة في اليابان في العمل على تعديل النظام الطبقي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، حيث قامت باجراء العديد من التعديلات والقوانين التي تنظم الطبقات، تمهيداً لإلغاء النظام الاقطاعي، وكانت البداية عام 1869 حيث وضعت تصنيفاًَ جديداً للطبقات جعلت بمقتضاه ارستقراطية البلاط وحكام المقاطعات طبقة واحدة باسم النبلاء، وقسمت الساموراي الى مستويين، ساموراي كبار، وساموراي صغار. وفي عام 1870 ادخلت الحكومة تعديلات على أوضاع الطبقة العامة فصار من حقها بمقتضى هذه التعديلات اتخاذ ألقاب عائلية، وسمحت لأبنائها في العام التالي بالتزاوج مع ابناء الطبقة العليا. كما سمحت الحكومة للنبلاء والساموراي بالاشتغال بالزراعة والتجارة والحرف. وفي عام 1872 أعادت الحكومة تقسيم القوى الاجتماعية الى ثلاث طبقات، هي النبلاء، والساموراي و«الهيمين»، والأخيرة تضمنت العامة وصغار الساموراي القدامى والمنبوذين وأصبحت جميع الطبقات بعد ذلك ـ نظرياً ـ أمام القانون سواء، وقد اضطرت الحكومة عام 1872 الى ان تسن قانوناً يجرم الاسترقاق ويحرم الاتجار في الرقيق.)، (1)
كان إبعاد الطبقة الإقطاعية الكبيرة العدد عن الدخول الحكومية هاماً لأجل إبعاد أجهزة الدولة عن التبعية لطبقة من الطبقات، أي أن تكون محايدة بشكلٍ نسبي، بين الطبقتين الكبريين، الطبقة الإقطاعية الآفلة، والطبقة الرأسمالية الصاعدة، فقد أدركَ الأمبراطور إن المستقبل للأخيرة وللصناعة وللحداثة، وهو بحاجةٍ للقوى العاملة الحديثة وللعلوم، ولا بد بالتالي من الانفصال عن إرث الماضي الإقطاعي، ومن جعل الصناعة بؤرة الحياة الاقتصادية، ومن تحرير الفلاحين والنساء، وتشابك ذلك المنحى الاقتصادي بالشعور القومي الاستقلالي، بل والاستعماري التوسعي كذلك، والذي تحول فيما بعد إلى عدوانية خارجية.
ولنلاحظ كيف كانت اليابان مربوطة بوشائج متخلفة مع علاقات الإنتاج القديمة، كالعبودية، وعلاقات اجتماعية متخلفة كثيرة، لكن جهاز الدولة المركزي إستقل عن الطبقات القديمة، وحسم الخيار الحضاري باتجاه مماثلة تقدم الغرب في جوهره، وهو التصنيع الواسع.
(وقد أدى إلغاء النظام الطبقي وتطبيق نظام المعاشات واستبدال نظام سندات حكومية به الى تجريد طبقة الساموراي بشكلٍ كامل من امتيازاتها المادية، ورفع عبئاً كبيراً كانت ميزانية الدولة تتحمله كل عام قامت بتوجيهه للتنمية.)، (2).
إن خلق التراكم البدائي في التجربة اليابانية كان على الطريقة السوفيتية، بأن تـُجلب الفوائض المالية من الطبقات المثقلة بالاستهلاك والبذخ أو الموظفة في الزراعة، وأن تصُبَ في الصناعات الثقيلة والخفيفة. لكن بدون أن تنتقل الثروة المُصادَّرة وعمليات التراكم المختلفة من ضرائب وغيرها، لتشكيل رأسمالية حكومية على الطريقة السوفيتية، بل أن تكون لعمليات التوجيه المركزي نحو المجتمع الرأسمالي من خلال قيادة الأمبراطور!
وهنا فروق كبيرة بين هذه القيادة وما جرى في بعض دول الشرق، فكثيراً ما تـُقارن عملية القيادة اليابانية بمصر في عهد إسماعيل باشا خاصة، كما يقول عارض الكتاب: يتحدث الكتاب في فصله الثالث عن حركة التصنيع ونمو الرأسمالية في اليابان، برصدها في عهد مايجي بشكل يذكرنا بحركة التحديث التي حاول اسماعيل باشا في مصر أن يقودها، وبنفس الاسلوب، حيث لجأ كلٌ منهما للاستدانة من بيوت المال الفرنسية والانجليزية لبناء وتحديث بلاده، وكانت القروض أداة كل منهما لاقامة مشاريعه التي رآها مناسبة لنقل بلاده الى مرحلة التطور والتقدم الصناعي التي تعيش أوروبا في ظلها)، (3).
إن عمليات الاستدانة والتثقف من الغرب والقيام بإجراء تغييرات في الريف لم تكن متماثلة مع نظام إسماعيل، لفارق جوهري هو طبيعة الدولة اليابانية في هذا الوقت التي اختارت التوجه نحو الاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية، وأن تكون منها بل من قياداتها، في حين ظل إسماعيل في دائرة النظام الإقطاعي، وتغدو الاستيرادات المجلوبة من الغرب لديه إستيرادات جزئية، تحديثة فوق جسد متخلف تقليدي.
في حين توجهت الطبقة الحاكمة اليابانية في تلك الأسرة الصغيرة الأمبراطورية إلى إزالة الإقطاع بكل تشكيلته وتداخلاته في الحياة الاقتصادية والدراسية، فجمعت التراكمات المالية لتوسيع الصناعات، وجعلت الأرياف مُلحقة بها، ولهذا كانت ثمة عملية قسوة شديدة موجهة للريف، أدت إلى حدوث ثورة فيه، نظراً لهذا الجلب الحاد لفوائضه من أجل الصناعة البؤرة الكلية التي توجه الدولة المداخيل نحوها.
هذا ما مثلَّ لستالين تجربة هامة سوقها فيما تلى تحت شعار الاشتراكية.
وفي حين انتهى عهد إسماعيل وخلافائه من بعده بتراكم الديون ظهرت الفوائضُ النقدية الكبيرة في اليابان!
إذن مثلت تجربة اليابان تجربة نحت نحو الرأسمالية الخاصة خلافاً لتجارب الشرق حيث تسودُ الرأسماليات الحكومية.
إن تحويلَ القطاع العام إلى قائدٍ سياسي للقطاع الخاص، يتطلب أن لا تـُثقل أجهزة الدولة بالعمليات الاقتصادية الواسعة التي تعيقُ دورَ القيادة السياسية للرأسماليةِ الناميةِ في محيطِ التخلف.
لماذا يجب أن تكون الدولة قيادة سياسية وليست اقتصادية، ولماذا لا يجب أن تأخذ دور أرباب العمل، بل وأن تشجعَ أربابَ العمل على الاستقلال عنها، وأن يفجروا طاقات الصناعات الثقيلة والخفيفة بقيادتها التخطيطية وليست الإدراية؟
لأنها تكون مشغولة بتلك القيادة السياسية ذات المهام الجسيمة الواسعة، فلديها مهمات نقل التجارب العلمية الغربية للمصانع، وتغيير مناهج التعليم لتواكب عمليات التغيير الاقتصادي، ولديها العمليات السياسية الخارجية المختلفة من إنشاء الجيوش والتوسع التجاري الخارجي ومجابهة التدخلات وغيرها.
كذلك فإن تدخل الدولة في تملك المصانع والمؤسسات التجارية وغيرها، يفسد عملية النمو الاقتصادي في مرحلة التشكيل الأولى للعلاقات الرأسمالية، فتغدو العمليات الاقتصادية مربوطة بأجهزةِ الحكم ومصالح الموظفين، وبتدخل الوزارات فيما ليس من إختصصها، وليس هو مجالها، ويضع بين أيديها ثروات هائلة ليس من ملكها، فتتسرب إليها وتضيعها.
ولا تتشكل سوقٌ حديثة تقومُ بتطوير البضائع، بل يحدثُ توجيهٌ بيروقراطي من أعلى، يجمد نمو العلاقات الاقتصادية في مخططات بيروقراطية وعمليات فساد واسعة. وفي مثل هذه المراحل التكوينية ليس سوى السوق يلعبُ دور المطور للسلع.
وتتكفل القيادة السياسية من قبل الدولة اليابانية في فرش الأرضية لنمو القطاعات الخاصة والثورة العلمية والتقنية في مجالي الصناعة الثقيلة والخفيفة على التوالي والتداخل في مرحل لاحقة.
كذلك فإن هذا يرتبط بعمليات الحريات في مختلف أشكال الوعي وأشكال الحياة، فالجامعات ومؤسسات البحث العلمي تكون حرة، غير موجهة بخطة حكومية لإعاقة العقول عن البحث المستقل كما تفعل المؤسسات العلمية العربية، ثم يغدو الصراع الطبقي محكوماً بمؤسسات دستورية، لا تجعل العمال مجمدين بدون تطور في مختلف جوانب حياتهم، بل يتابعون تطور الصناعات ويطورن أواضعهم المادية والعلمية.
تقومُ الرأسمالياتُ الحكومية الشرقية بتوجيه التطور الاقتصادي نحو أهداف سياسية واقتصادية مسبقة، بما فيها من صواب وأخطاء، وبما يفهمه رجالها من معرفة اقتصادية، نظرية، وهو أمرٌ مضادٌ لتشكل الأسواق الحرة، وبُنية الرأسمالية الحديثة.
فلم تقم النخبة السياسية المسيطرة في اليابان بفكرة الأخذ الجزئي من الحضارة الغربية، بالاستيراد الانتقائي لأجزاء من تلك البنية الحديثة الصناعية – السياسية – العلمية، فقد درستها وطبقت هيكلها الأساسي على المجتمع، ولم تقل سوف آخذ التقنية وأتوجه للصناعات الخفيفة أو الاستخراجية حتى لا أرهق الأجيال، بل توجهت للصناعات الثقيلة بشكل أساسي لترافقها وتليها بعدئذ الصناعات الخفيفة، وكذلك لم تفصل بين مستويات البنية هذه؛ مستواها السياسي الديمقراطي، وكذلك مستواها الثقافي العلمي التقني بصورة خاصة، لأنه هو المرتبط بالصناعة، أما مسائل الفلسفة والأدب والفنون فهي تـُنتج من خلال الوعي الوطني.
إن نمو الرأسمالية الخاصة اليابانية جرى من خلال السوق، وليس من خلال هيمنة الدول، وهذا أدى إلى حراك رؤوس الأموال باتجاه القطاعات المربحة والمفيدة للتطور الاقتصادي الوطني، وهذا أدى لتطور قوى الإنتاج والعلوم مع تطور السوق.
وقد شجعت الحكومة البيوتات المالية لتتحول إلى شركات كبرى وليس أن تحجم دور تلك البيوتات وتأخذ مكانها، وهو أمرٌ أدى إلى فوضوية السوق وتآكل الفوائض الاقتصادية في أجهزة الدول، وإلى هروب رؤوس الأموال وتشوه البنية.
هذا لا ينفي جملة من التناقضات كأي اقتصاد رأسمالي خاص، فطبيعة التوجهات الحكومية اليابانية التي أشرفت على تصنيع البنية الرأسمالية الحداثية في الأرض اليابانية، قامت بالإسراع بها، تجنباً للسيطرات الأجنبية وخاصة الغربية منها، وكذلك للحصول على المستعمرات والمواد الخام بأسعار رخيصة، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التدخلات اليابانية وإنشاء المستعمرات، مما كان له أثر سلبي على طبيعة هذه الرأسمالية التي غدت عسكرية توسعية فجّرت نفسها للحروب وللمحور الفاشي، وكان آخرها الحرب العالمية الثانية التي انتهت بمأساة كبرى على اليابان.
وأعطت التجربة اليابانية حراكاً لدول جنوب وجنوب شرق آسيا التي حذت حذوها فغدت الرأسمالية الخاصة الصناعية أساساً لتقدم نصف قارة آسيا.
إن أساسيات التحديث الغربي تم وضعه هناك، والمبني على الوعي العقلاني العلماني الديمقراطي، وعلى الحريات المختلفة، وتشكلت دساتير ومؤسسات على هذا الأساس، مما وسع بشكل هائل من قدرات المنطقة.
لا ينفي هذا صراع العمال والقوى الشعبية ضد هذه الرأسمالية الخاصة، بل هي قوى مشاركة في مثل هذا البناء، ويمكن أن تصل للسلطة من خلال الأدوات التي وفرتها المؤسسات، لكن لتطرح برنامجاً تطويرياً للاقتصاد لكن من وجهة نظر العمال، أي يتواصل النمو الاقتصادي ذاته الخاص من خلال مصالح المنتجين.
في حين أن الرأسماليات الحكومية تطرح أنظمة شمولية، ولهذا ترفض العلمانية والديمقراطية، ويمكن أن تتحدث بأسم العمال والفقراء، لكن بدون منظماتهم الخاصة المستقلة.
في الرأسمالية الخاصة على قرار النموذج الياباني يحدث نمو التراكم الاقتصادي داخل عمليات الإنتاج، ورغم تقسيم الفوائض الذي يقرره المالكون لا العاملون فإن العاملين يناضلون لأعادة تقسيم هذا الفائض باستمرار.

الرأسمالية الحكومية الروسية

عاشت روسيا خلال القرن التاسع عشر مواجهة مستمرة مع الغرب المتفوق عنها، والغرب المقصود هنا أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد نتج التحدي بسبب الطفرة التي قام بها الغرب، من التخلف حتى الصناعة الحديثة، وما استتبع ذلك من تبدل كبير للمجتمعات، ومن انتشار لثقافتها، ومن إستيلائها على مستعمرات كبيرة زادت من تطورها ومكانتها على الصعيد العالمي، بل وجاء هذا الغرب غازياً على خيول نابليون ومدافعه، في حين كانت روسيا تعيش في مرحلتي العبودية والإقطاع المتداخلتين، ففي الوقت الذي كان تنتشر في الغرب الديمقراطية والحداثة، كانت روسيا تناقش تحرير العبيد! كانت أغلبية الفلاحين وهم أغلبية الروس كذلك، مسترقين في قرى شديدة التخلف.

فكانت روسيا تصحو من مجتمع الرقيق على رؤية أكثر العلاقات تطوراً في العالم وقتذاك، وأدى ثقلها السكاني الكبير ومستعمراتها الأكثر تخلفاً منها، إلى إشكاليات في التطور الروسي إلى حد الانفصام، فهي حاضرة في أكبر الأحداث الغربية كهزيمة نابليون ووقف إصلاحات الثورة الفرنسية وراحت تقود المد الرجعي في أوربا وهي في نفس الوقت تتطلع إلى تجاوز أوربا ولعب دور قيادي آخر للإنسانية!
فكانت هناك أفكار وتيارات تنادي بتجاوز الرأسمالية، سواء بشكل أدباء كتولتسوي وديستوفسكي أم بتيارات كالشعبيين والاشتراكيين الثوريين وتنادي بالحفاظ على الإرث المشاعي الذي لا يزال قائماً في بعض المناطق والعلاقات، وهو الأمر الغامض الذي تغلغل في حزب البلاشفة في آخر الأمر، رغم أن حزب البلاشفة قام على الصراع ضد هذه الأفكار أساساً، ونادي بضرورة الدخول العميق في الرأسمالية! ويمكن الرجوع هنا لكتب لينين المتصدي الكبير لأفكار الشعبيين وخاصة في كتاب(تطور الرأسمالية في روسيا).
وحاول بعض القياصرة المصلحين سد الهوة الهائلة بين روسيا والغرب، عبر نقل العاصمة بقرب القارة الأوربية، وبخلق إنفتاح اقتصادي وبقبول المؤثرات الثقافية الفرنسية والألمانية.
لكن ضخامة روسيا ومستعمراتها و تجذر الاقتصاد الإقطاعي وضعف نمو الرأسمالية داخل هذا المجتمع ضعيف التطور الصناعي، جعل من حل تناقضات التخلف الرهيبة مسألة تحتاج لقرون.
كيف تبدل حزب البلاشفة من التصدي للشعبيين والاشتراكيين الثوريين، الرافضين للتطور الرأسمالي، والمنادين بالإبقاء على الجماعية وضرورة تأميم الأرض، إلى أن يتقبل مثل هذه الأفكار؟!
لماذا لم يواصل تأييد التطور الرأسمالي الديمقراطي العلماني والمتدرج؟
فبين الحملات الفكرية ضد أولئك الخصوم (غير العلميين) و(الفوضويين) على حد التعابير البلشفية وقتذاك، إلى تقبل أطروحاتهم ومركستها بصورة عسكرية، لم يمض سوى عقدان.
هل حدثت تغييرات رأسمالية هائلة تستوجب تجاوزها نحو الاشتراكية؟
لم يحدث شيءٌ من هذا القبيل، ولكن حدثت تطورات سياسية كبرى، فقد توسع الاستعمار الغربي، وراحت دوله الكبرى تستحوذ على أقطار الدنيا كلها، وتقوم حروب بينها، وخاصة المجزرة الهائلة، الحرب العالمية الأولى، بل وراحت تتغلغل في روسيا نفسها عبر شركاتها، مهددة ببلع مستعمراتها.
ولم تؤد دعوات لينين بتشكل معارضة قوية ضد الحرب دورها، وانحاز الاشتراكيون الديمقراطيون في كل بلد إلى بلدهم، وأعلن لينين الانفصال عنهم، ونعتهم بأنهم اصبحوا منحازين لبرجوازيات بلدانهم.
في هذه الفترة يمكن رؤية لينين(القومي)، المتواري، الغائر في الثقافة الشعبوية الاشتراكية المنعوتة سابقاً بالتخلف، وهذا التبدل الكبير بين تأييد التطور الديمقراطي للرأسمالية ورفض هذا التطور والقفز عنه، هوة كبيرة.
تم سد هذه الهوة المفاجئة الغريبة بمجموعة من المقولات، أهمها أن(روسيا تمثل الحلقة الرأسمالية الضعيفة التي يمكن كسرها والقفز بها للاشتراكية)، وبظهور الاستعمار الذي هو أعلى مراحل الرأسمالية، مما يعني في هذه المقولة الأخيرة بأن الرأسمالية غدت كونية، وإنه لا داعي لانتشارها الكلي في البلدان المتخلفة.
وكل هذه المقولات تقوم على هواجس قومية بورجوازية لدى لينين، فروسيا أمنا تواجه خطر السيطرة الأجنبية، ولا بد من الحفاظ عليها وعلى مستعمراتها، يغدو لينين هنا رجل التحرر الوطني، الذي سوف يجابه عملية استعباد روسيا، وينقذها بالتوجه الشعبي التحرري التقدمي.
لقد سقطت الأممية الثانية التي كانت ترفع راية الاشتراكية الديمقراطية في رأيه، رغم أنها لم تسقط حقيقة، وسقطت الماركسية المنتجة في الغرب كما يتصور.
هنا مفترق طريق كبير بين الشرق المتخلف الإقطاعي، والرأسمالية الغربية، فالشرق يريد النهضة، والغرب الاستعماري يريد السيطرة عليه، الشرق يبحث عن طرق جديدة للتطور مغايرة للغرب، الذي وصل إلى ذروة التطور الاقتصادي ويريد منع الآخرين من التطور والاستقلال!
قاد لينين عملية إقامة الرأسمالية الحكومية الروسية. لينين هنا أقرب لقائد تحرري شرقي، انزلق تدريجياً من ثقافة الغرب الماركسية الديمقراطية إلى منتوج فكري خليط، يجمع أفكاراً ماركسية إلى أفكار الشعبيين والاشتراكيين الثوريين الروس.
من الماركسية أبقى على بعض المنهجية في معالجة قضايا الغرب، وتجاه الأم روسيا تخلى عن هذه الماركسية، وراح يركب المقولات التي تلائم نهضتها التسريعية وهيكلها السياسي البيروقراطي القومي.
من الماركسية أخذ ضرورة تطبيق الاشتراكية ولكنه جعله في بلد لا يمتلك التجربة الصناعية الكبيرة ولا السكان العمال، وجلب فكرة كارل ماركس بشأن(دكتاتورية البروليتاريا) باعتبارها نظاماً شمولياً وليس فترة إستثنائية لأي دولة شعبية ديمقراطية تواجه نظاماً قديماً شرساً كما رآها ماركس في مذابح كومونة باريس سنة 1870.
إن العودة للنظام الاستبدادي الشرقي هي مسألة شاملة للحركات والأنظمة في الشرق بعد فترة من جلبها أفكاراً ديمقراطية من الغرب، فالبناءُ الشرقي الاستبدادي هو الذي يحددُ تطورَ الأفكار المجلوبة.
إن مصطلح(السوفييت) نشأ من خلال ثورة الجماهير نفسها، وهي تقومُ بخلقِ مجالس شعبية مُنتخبة، تمثيلية للعمال والبحارة، وهذه المجالسُ تكونتْ بفعلِ نضالِ الناس أنفسهم، وصارتْ جهازَ حكم، ديمقراطياً، وكان شعار(كل السلطة للسوفيت)، يعني جعل الحكم في يد هؤلاء الناس، ولو إنه هذا الشكل الانتخابي استمر طوال الفترة اللاحقة لأمكن للقوى الشعبية أن تحد من سلطة الجهاز التنفيذي وتضع حد لتجازوات شرطته السرية خاصة، لكنه تم القضاء على إستقلال السوفيتات، لتـُدمج في النهاية في السلطة التنفيذية. ترافق تحويل السوفيتات لجهاز تابع للسلطة التنفيذية بالقضاء على الأحزاب والصحافة الحرة، وبهذا فقدت الثورة زخمها الشعبي الحر وعيونها المفتوحة.
إن(السوفيتات) تعبيرٌ عن الجهد الخلاق للجمهور وعقليته الديمقراطية، وعَبْرَ كفاحِها ضد القوى المناوئة تمكنتْ من خلق سلطة شعبية مُنتخبة، وغدا (رأسمال الدولة) في ملكيتها العامة، وهذه الفترة تعبر عن الثورة الشعبية التي فجرها البلاشفة، لكنهم لم يتركوها مستقلة، مُراقِبة للسلطة التنفيذية، وأن تجري إنتخاباتها بشكل حر ودوري.
إن أبرز مواقع السلطة التنفيذية كان الجيش الذي بُني من صفر إلى أن وصل إلى ستة ملايين جندي، ثم جهاز المخابرات، فراحت هذه الأجهزة تمثل الهيكل الحقيقي للحكم.
فالرأسمالية الحكومية إذن تشكلتْ والمالكُ الحقيقي (قوى العاملين) يُبعد عن ملكيتهِ، وكان جهدُ هذه القوى في بناء المصانع وتشغيلها ومراكمة الفوائض المالية هو المؤسسُ للصناعة وتطوراتها، لقد كان العمالُ المالكين الرسميين الشكليين لقوى الإنتاج في أغلبيتها، لكن المالكين الحقيقيين كان الموظفون. كانت البيروقراطية هي التي تدير قوى الإنتاج هذه، وتقرر كيفية نموها وإعادة إنتاجها، وكمية توزيع الفوائض والتخطيط لمؤسسات أخرى والعلاقة بينها وبين التعليم والمرافق العامة كلها.
ومثلما يحدثُ في أي ملكية عامة شرقية يبدو الناس هم أصحابها، لكن الملكية الحقيقية تعود للإدارة، وكلما ازدادَ نمو الفوائض وازدهر الإنتاجُ تشبثتْ هذه الإدارة بالملكية.
علينا أن نقرأ شعار(الاشتراكية في بلد واحد) بكونه شعار(الرأسمالية الحكومية في بلد واحد).
لماذا لم يطرح هذا الشعار الأخير بدلاً من كل هذه المناورة الكبيرة؟
لقد كانت شعارات الاشتراكية هي مولدة الزخم والتضحيات الجسيمة لدى الجماهير، فهي مصدقة بأنه في خاتمة جهودها ثمة واحة خضراء تهون في سبلها كل التضحيات، ولهذا فإن حماسَها مشروع، خاصة أن صانعي المشروع يعيشون في مستوى عيشها، في بداية الأمر، ويقومون بنفس تضحيتها، ويصبحُ المشروعُ دينياً ككل المشروعات السياسية في الشرق، فهنا تضحية وهناك جنة، ولكن الجنة أرضية هنا.
إن الإدارة الصارمة العسكرية البوليسية الزاهدة تستنفر معجزات العمل الجماهيري، والذي يقوم بالخوارق العملية حقاً، ففي بضع عقود قليلة يتم إنجاز بناء قوى الإنتاج الكبرى في الصناعات الحديثة. بناء مصانع تنتج وسائل الإنتاج استغرق في الغرب عدة قرون!
هذه الملحمة لا تخلو من أخطاء جسيمة تعبر عن إدخال العسكرة والأرهاب في الاقتصاد، كفرض التعاونيات بالقوة والتأميمات الكلية.
إن رأس المال العام غدا رمزياً من صنع وملكية العمال، لكنه خرج عن هذه الملكية، وانفصل عن هذا الجمهور، فالسوفيتات لم تعد مالكة حقيقية، ولم تعد مراقبة بجدية المُلكية والسلطة والحزب التي اصبحت كتلة واحدة، تقاطر عليها الانتهازيون والاستغلاليون، كما نقول أرى الناس قد ذهبوا لمن عنده الإنتاج والأرباح، ولم تملك أدوات المحاسبة من خلال برلمان حر، ولو إنها فعلت ذلك لكان قد خففت من نتائج الشمولية.
كان لينين مؤسساً لهذه الدكتاتورية، وكان لا بد لفكرة القفزة نحو الاشتراكية أن تصادر أدوات الديمقراطية (البرجوازية)، وهي ثقافة إنسانية واسعة وعميقة من عقلانية ومراعاة حقوق الإنسان، وتعددية حزبية وتعددية داخل الحزب نفسه، وإذا كانت البرجوازية قد ساهمت بها وقادتها في لحظة تاريخية وتخلت عنها في فترات كثيرة، لكنها ثقافة إنسانية من صنع العاملين، ومن دونها تزول الثورة والاشتراكية وكل ذلك، ويظهر الأمبراطور الشرقي في شخصي لينين وستالين، لكن هذا الأمبراطور فقير ومضح!
لقد أثارت التجربة السوفيتية قيادات اليسار في ذلك الحين ومنهم كاوتسكي وروزا لكسمبرغ:
(السيدة روزا لكسمبورغ تقول أن ” نظرية لينين في الدكتاتورية تفترض أن الإشتراكية إنما هي صيغة معدة سلفاً وهي في جيب الحزب الثوري، وجماهير الشعب بأكملها يتحتم أن تأخذ دوراً في ذلك وإلا فإن تحقيق الإشتراكية سيجري بمراسيم تصدر عن دزينة من المنظرين خلف مكاتبهم “، (4).
وتقول أيضاً ؛ (إن التحقيق العملي للنظام الاشتراكي بشكله الاقتصادي والاجتماعي والقضائي إنما هو مسألة غائمة).
بطبيعة الحال كانت هذه الانتقادات تصدر من اليسار الغربي المعجون في عالم الديمقراطية لكن الأمر ينمو بشكل آخر في الشرق.
بدأت الرأسمالية الحكومية بشكلها السوفيتي كنهاية لتاريخ الإستغلال السابق وملحقاته من الأديان والدكتاتوريات واللاعقلانية، والتحمت بأحلام الاشتراكية القاضية على الطبقات وصراعاتها، ومؤدية لعالم بلا طبقات.
إن الرأسمال الشعبي الذي صنعهُ الناسُ بتضحياتهم، لا يزول كلياً حتى في أسوأ لحظات الارتداد، فهو قنطرة غير مباشرة لاشتراكية الحلم تلك، ولكنه في الواقع الراهن الزائل كذلك، قنطرة للرأسمالية الخاصة.
انفصلَّ رأسُ المالِ عن مالكيه لغياب الديمقراطية، وتحولَّ لمالكيهِ الحقيقيين بحكم قبض اليد وهم البيروقراطيون الحكوميون بكلِ تنوعِهم ومراتبهم العليا المتحكمة في مفاتيح الإنتاج.
حين تغدو البيروقراطية حاكمة فإنها تجمد أي نظرية عن الغنى والجدل مع الواقع، سواء على مستوى الرقابة والتشريع، أو على مستوى العلوم الاجتماعية.
وكما تخبو المجالس المنتخبة وتموتُ انتقاداتـُها ورقابتها الصارمة كذلك تفلس النظرية الحكومية، وتغدو الماركسية هنا أداة تبرير لا تحليل، والعمالُ الذين تصوروا الاشتراكية جنة أرضية يصنعونها بدمائهم وعرقهم، يجدون نفس الإدارات الاستغلالية، ونفس الهيئات الكهنوتية، فينفصلون عن النظرية المقولبة كما ينفصلون عن الملكية العامة (المسروقة).
لا يعودون يضحون أو يطورون مهاراتهم، فينتقلون لمستويات أرقى في الإنتاج، بل إنهم يغتربون عن الإنتاج الذي صنعوهُ وصار يسيطر عليهم ويستغلهم، وبينما كانت الماركسية أداة محاربة الاستغلال والاغتراب تغدو أداتهما، فيعود العمال للدين، بعد فشل الجنة الأرضية وتحولها لجحيم!
بعد أن قامتْ الرأسمالية الحكومية الروسية بخلق القواعد الصناعية الكبرى، ومؤسساتِ الطاقةِ العملاقة، وطرق النقل، وقفزت بالثقافة الجماهيرية قفزات هائلة، وكانت أساس هزيمة الغزاة الألمان الذين دمروا الغرب الديمقراطي، ونشرت نموذج التحرر من الاستعمار في العالم، عجزت عن التطور، خاصة بنقل قوى الإنتاج إلى مستوى آخر، فتجمدت سلعها التقنية.
مهماتٌ خارقة في الواقع، تمت بتضحيات أسطورية، وكان لا بد من فك الأغلال السياسية عن قوى الإنتاج، وتمظهر ذلك بنقد تجربة الدكتاتورية عبر خروتشوف، الذي فهم عجز (الاشتراكية) عن التطور بسبب عنف ستالين وجبروته، لكن البيروقراطية عادت وأمسكت السلطة كلية، ثم بدأ الإصلاحيون من داخل الحزب بتفجير الموقف بدلاً من المراجعة الطويلة الدقيقة للأزمة.

رأسمالية الدولة

يقدم لنا (توني كليف) قراءة إقتصادية سياسية عميقة في البناء السوفيتي:

(الرأسمالية بصفة عامة – ورأسمالية الدولة البيروقراطية بصفة خاصة تعنى بخفض النفقات ورفع الكفاءة وليس تلبية الحاجات الإنسانية. إن عقلانيتها ليست عقلانية بالأساس، حيث أنها تغربُ العاملَ، محولةً إياه إلى “شيء”، إلى موضوع متحكم فيه، بدلا من ذات تشكل حياتها وفقا لرغباتها. لهذا السبب يعمد العمال إلى تخريب الإنتاج.
وكما في الزراعة، سعى ورثة ستالين للتعامل مع هذه المشكلة في الصناعة بواسطة الجزرة، ووجدوا أنهم لا ينجحون هكذا، وعادوا جزئيا على الأقل للعصا.
إن إغلاق معسكرات العمل العملاقة بعد وفاة ستالين، قد تلاه إبطال للقوانين التي جعلت العمال عرضة للعقوبات القانونية عند غيابهم أو تأخرهم عن العمل. يقارن كليف هذه التغييرات بما حدث خلال تطور الرأسمالية الغربية: في المراحل الأولى للثورة الصناعية استخدمت كافة أنواع الإكراه “قوانين التشرد، نظام ملاجئ الفقراء” لإجبار الناس على قبول نظام الانضباط في المصنع، ولكن متى صار للنظام الرأسمالي الجديد جذور فان أنواع الإكراه هذه بدأت تعطل إنتاجية العمل، وإستبدلت بأشكال إكراه ذات طابع اقتصادي صرف.
ولكن كانت هناك قيود صارمة على حجم الجزرة التي كان بالإمكان استخدامها لتحفيز العمال لرفع الإنتاجية. في عام 1953 / 1954 وعد أول رئيس وزراء بعد ستالين، مالينكوف، بإنتاج أكبر للسلع الاستهلاكية على حساب وسائل الإنتاج. إلا أن فترة شهر العسل للصناعة الخفيفة لم تدُم طويلاً، ففي إطار التنافس الاقتصادي، والعسكري العالمي، لا يمكن تجنب إخضاع الاستهلاك للتراكم. وما أن حل خريف عام 1954 حتى شنت هجمة، قادها خروتشوف وبولجانين (وزير الدفاع وقتها) وشيبيلوف، ضد “تدليل المستهلكين”، ودعت للعودة إلى المزيد من التركيز على الصناعة الثقيلة. في يناير 1955 أعلن خروتشوف أن:
المهمة الأكثر أهمية، والتي يكرس الحزب كافة جهوده لإنجازها كانت وتظل، تقوية الدولة السوفيتية، وبالتالي الإسراع بتطوير الصناعة الثقيلة.
بعد ذلك بأسبوعين أجبر مالينكوف على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء. أما نصيب الصناعات الخفيفة والصناعات الغذائية في الاستثمار الصناعي للدولة، والذي تراوح بين 16 و17% في الخطط الخمسية للثلاثينيات، و 3ر12% في النصف الثاني من الأربعينات، فقد انخفض لأقل من ذلك في الخمسينات وأوائل الستينات إلى حوالي 9%.
بدون أي حل للأزمة الزراعية وبدون أية زيادة في الاستثمار في صناعات السلع الاستهلاكية، كان هناك حد للارتفاع الممكن في مستويات معيشة العمال خلال سنوات خروتشوف. وبحلول 1963:
بشكل مطلق، تحسن إنتاج السلع الاستهلاكية. ومع ذلك، فإجمالاً لم تصل النتائج في حالات كثيرة حتى إلى أهداف الخطة الخمسية الأولى فيما يتعلق بنصيب الفرد من الإنتاج، على الرغم من كل التغييرات، إلا أن مستويات المعيشة في روسيا ما زالت أقل كثيراً منها في أوروبا الغربية وأعلى قليلاً فقط منها في روسيا في عام 1928 (قبل عهد الخطط).
هكذا فعلى الرغم من أن الأوضاع كانت أفضل كثيرا بالنسبة للعمال في نهاية فترة خروتشوف، مما كانت عليه في ظل ستالين (يذكر أن مستوى معيشتهم كان قد انخفض في منتصف الثلاثينات إلى حوالي ثلاثة أخماس ما كان عليه في عام 1928)، فان التحسينات لم تكن بأي حال كافية لكي تحدث زيادات هائلة في إنتاجية العمل. هكذا ختم كليف فصله عن العامل الروسي:
إحدى الهموم الرئيسية للقادة الروس اليوم هي كيفية تنمية إنتاجية العامل. لم يسبق أن كان موقف عمالهم بهذه الأهمية بالنسبة للمجتمع.
فمن خلال جهدهم في تحويل العامل إلى ترس في آلة بيروقراطية، يقتلون فيه ما هم في أشد الحاجة إليه، الإنتاجية والقدرة الإبداعية. الاستغلال المرشد والصارم يخلق عقبة رهيبة أمام ارتفاع إنتاجية العمل.)،
يقدم توني قراءة تحليلية من الداخل للبنية الاقتصادية- الاجتماعية، عبر رؤية هيمنة الإدارة المركزية على نشاط العمال، ويبين تناقض الخطط مع مستوى الإمكانيات، ويشير أن خطط خروتشوف فشلت وجاء عهد الركود البريجينفي الذي لم يقدم جهود تغيير.
وعبر فسيفساء النظام المتطاير وتكسير الحوائط وتدمير الروابط السياسية بين القوميات وحرق الحدود، عادت روسيا لتكون الأمة المستقلة وهي التي اعتقلتْ كلَ الأمم حولها وقادتها في تجربة نارية كونية!
كان تفكيك الاتحادات وتغيير المسار السياسي يستهدف من البيروقراطية المتغيرة الآن العودة للرأسمالية وقوانين سلعها، وتبديل طوابع قوى العمل، وتوسيع قوى العمل الذهني بدلاً من سيادة قوة العمل البروليتارية. إن ذلك كان يصدر من مفاتيح السلطة في المخابرات والجيش، التي وجدت في يلستين أداة التحطيم المناسبة وإلغاء التضحيات المالية الاشتراكية الهائلة، للعمالة وللشعوب في الخارج وللمعسكر الاشتراكي، وكان عجز جورباتشوف نموذجاً لعدم تطور الماركسية داخل الحزب، وغياب التحام النظرية بالجمهور وطليعتهُ الجديدة عمالُ التقنيات والصناعات الحديثة، وغياب الديمقراطية الحزبية والسياسية العامة.
ولهذا فإن تفجيرات قد حدثت وليس إعادة بناء طويلة وديمقراطية متدرجة، ومثل يلستين هجوم البيروقراطيين الفاسدين ورجال الأعمال، وكان ذلك لا بد أن يكون شعبياً مؤثراً بسبب تلك المتحجرات الدكتاتورية خلال عقود، وإغلاق العقول والإنتاج عن التطور، ومصادرة الحريات، فكانت القوى البيروقراطية في تحولها نحو الرأسمالية الخاصة تستند على تراث طويل من الأخطاء هي التي صنعته، وتهاجم تلك الإدارات المتعسفة في الزمن السابق وهي امتدادها وثمرتها.
إن نشاط الرأسمالية الحكومية الروسية خلال سبعين سنة سابقة كان يجري تحت بند إزالة الطبقات والإستغلال، وهي أمور لا تتشكل بسبب تغيير الإقطاع وإحلال رأسمالية حكومية، خاصة أن الرأسمالية الحكومية هي شكلٌ متخلفٌ من الرأسمالية الحديثة! فهي رأسمالية تقوم على العنف الإداري، والعنف يشكل مؤسسات كبرى، لكن التطوير الداخلي التقني العميق خاصة للقوى العمالية أبرز أدوات الإنتاج، لا يمكن أن تشكله.
لكن الرأسمالية الخاصة التي أُقيمت كانت كذلك بتجريبية مدمرة، يقول الخبير الروسي الاقتصادي (ستانليسلاف مينشكوف) :
إن(إصلاحيي فترة ما بعد الحقبة السوفييتية انتهجوا العقيدة الكلاسيكية الغربية الجديدة، والتي تقوم على فكرة أنه لكي يعاد هيكلة النظام الاقتصادي الاشتراكي على شكل اقتصاد رأسمالي فإنه يكفي الاستعاضة عن ملكية الدولة بالملكية الخاصة، مع إطلاق قوى السوق على هواها، ولكن التطبيق العشوائي لاقتصاد السوق بعد سنوات طويلة من الأخذ بالاقتصاد الموجه، جعل التحول إلى الرأسمالية أمراً محفوفا بالمخاطر، وتسبب في تضحيات اقتصادية واجتماعية جسيمة، تجسدت على شكلِ تردٍ حاد في الأوضاع المعيشية بالنسبة لمعظم أفراد الطبقة العاملة والمتوسطة الروسية.)، (5).
(من كتابه تشريح الرأسمالية الروسية).
إن نسب الأرباح الهائلة للشركات الروسية أعلى من نظيرتها الغربية، فشركة يوكوس(بلغت أرباحها في عام 2003 نحو 36 % من قيمة مبيعاتها الإجمالية، في حين تصل الشركات الأمريكية إلى 10%)، (6).
وإستناداً على ملكية عامة هائلة اصبحت مرتكزاً للشركات الخاصة، حيث غدا النظام الضريبي وسيلة لإعطاء المال للأغنياء من جيوب الفقراء، فصار نشؤ الرأسمالية بشكلها الخاص الرهيب هذا نتاج التحكم العتيق الطويل للرأسمالية الحكومية.

الأجور والسلطة الحكومية الرأسمالية

رغم تباين مسيرتي الرأسماليات الغربية الخاصة والرأسماليات الحكومية، إلا أن للرأسمالية عموماً طابعاً متماثلاً مهما كان طابعها الاجتماعي المتلون بين هذا البلد أو ذاك، بين هذه المنظومة الغربية الرأسمالية ، الخاصة أو تلك الحكومية الشرقية (الاشتراكية؟).

فللرأسمالية عموماً صفات جوهرية فهناك مالك وعمال وأجور، وتشكيل قيمة لأي سلعة، وإنتاج فائض قيمة، وتحول قوة العمل إلى سلعة، ووجود فترة أولية تـُسمى التراكم البدائي، حيث تـُحضر رساميلٌ ومدخراتٌ لتشكيل صناعات كبرى، يسودُ فيها تخفيض الأجور، ومعروف ما كتبهُ كارل ماركس عنها في الجزء الأول من كتابه رأس المال، كذلك معروفٌ ما كتبه عن الرأسماليات الخاصة الغربية في بدء تشكلها من تطويل ليوم العمل إلى 16 ساعة وأكثر، ومن إستخدام للنساء والأطفال بشروط مجحفة إلى آخر ذلك من ظاهرات قام بدرسها طوال عقود.
كذلك فإن من ظاهرات التشكل الأولي للرأسمالية التركيز على الصناعات الثقيلة ثم نشر المكننة في كل فروع الإنتاج، ثم يأتي التتويج لذلك في مكننة الزراعة.
لكن ما لم يُبحث هو كيفية تشكل الرأسماليات الحكومية الشرقية، وهل استطاعت أن تخرقَ تلك القوانين لتشكيل الرأسمالية الغربية وأن تتجاوزها في تكوين مغاير؟
لقد أهيلت الكثير من المصطلحات والدعايات حول هذه التجارب الشرقية، ولكننا سنرى إنها لم تختلف عن تكوين الرأسمالية الغربية الخاصة، لكن بأشكال مختلفة، وفي ظروف أخرى، اتسمت بالتسريع.
إن الطابعَ السياسي الحكومي المُضفى على الملكية الرأسمالية لا يستطيع إختراق أو تغيير قوانين القيمة وفائض القيمة، بل يؤدي إضفاء الطابع السياسي إلى مشكلات اقتصادية وسياسية على المستوى البعيد، تقومُ بعدها قوانينُ الاقتصاد الرأسمالي بالظهور وبكسر الغلاف السياسي الزائف الذي وُضع فوقها.
إن الدولة تضفي على هذا الإنتاج طابعاً إيديولوجياً بالقول إنه وطني أو قومي أو إشتراكي، لكن هذا لا يضيفُ شيئاً اقتصادياً للسلعة المُنتــّجة.
ويُقصد بالطابع الإيديولوجي عادة خلق حماس لدى المنتحين للتخلي عن بعضٍ من أجورهم، وإعطائها للإدارة، وغالباً ما يتخلى العمال عن بعض أجورهم من أجل القضية القومية أو الاشتراكية ولدعم التطور الاقتصادي بل ويشتغلون بلا أجور في مناسبات تضحوية، ولكن أجورهم هي سلعة مشتراة حسب إعادة تجديد قواهم وتجديد حياة أسرهم، فيما تمضي الفوائض للإدارة الحكومية بدلاً من الرأسمالي الفرد.
إن التجربة الروسية في تشكيل الرأسمالية الحكومية هي من أبرز التجارب في إظهار تماثلها مع الرأسمالية الغربية الخاصة، في الجوانب المشتركة، وهي إستغلال العمال، والعودة لقوانين القيمة والربح ووجود فترة تراكم بدائية أولية وغيرها، عبر واقع تاريخي مختلف، ومن خلال بنية اجتماعية مغايرة.
فحين تأممت المؤسسات الخاصة غدت جزءً من القطاع العام، الذي أمسك بشكل متدرج الاقتصاد، وكان السؤال الاقتصادي الأهم هو كيفية الحصول على الموارد أي الفوائض التي يمكن بها توسعة الإنتاج وتجديده على نحو كبير يلغي التخلف؟
إن القطاع العام المُصَّادر من طبقة البرجوازية قامت بإدارته قوى العمال، فتملكتهُ ونظمتهُ على نحو جديد، لكن قوى العمال الأمية كانت غير عليمة بالإنتاج وتوسعه، وتطويره، في المنشأة وعلى المستوى السوفيتي، فتراجعت الإدارة العمالية التشاركية الديمقراطية، وجاءت الإدارات البيروقراطية، وكان هذا أول دخول من الباب الخلفي للرأسمالية الحكومية:
(أرغم لينين عام 1918 على القول بأن ” الإدارة الفردية هي الأكثر نجاعة” في الصناعة. وبحلول عام 1920، طلب استبدال إدارة اللجان بإدارة الأفراد، رغم اعتراضات اتحاد العمال وأعضاء الحزب، هذا رغم أن لينين نفسه كان ضد البيروقراطية.)، (7).
(كذلك قامت التعاونيات بتشغيل عمال مأجورين مبررة ذلك بتخريجات نظرية، إلى جانب تبرير تفارق الأجور. كان ستالين قد تحدث للمدراء عام 1931 قائلاً:(علينا وضع حد للمساواة البرجوازية الصغيرة. إن التفارقات ضرورية للوصول إلى نجاعة أعلى في مجتمعنا الإشتراكي)، (8).
إن تراكم الفوائض من القطاع العام لم يكن يكفي لإحداث التحولات الجذرية في الصناعة، رغم أن التأميمات مثلت شكلاً من أشكال التراكم البدائي، وامتدت إلى سرقة الأموال الشخصية للملاك وسرقة دور العبادة المسيحية، لكن جاء التراكم البدائي الأوسع عبر مصادرة أموال وأراض أغنياء الريف، وإحداث التجميع التعاوني الزراعي بالقوة، وهذا مكن الدولة من الحصول على موارد كبيرة، لخلق الصناعة الثقيلة.
وإذ قامت تجربة الرأسمالية الحكومية على نهب الأغنياء لكنها لم تـُغني الفقراءَ كذلك، فظلت الأجورُ بمستوى متدنٍ طوال عقود من التجربة السوفيتية، وكان بقاء الإدارة العمالية الديمقراطية يعني الاهتمام بهذه الأجور وبرفعها، وكذلك ببقاء السوفيتيات كشكلٍ ديمقراطي للحكم، وكذلك بقاء وانتشار الثقافة العقلانية والديمقراطية الماركسية، لكن كل هذا مُنع لتصاعد دكتاتورية الإدارات البيروقراطية الحكومية.
كان جعل الجماهير العمالية تعيش في الفقر يتم من خلال اليافطات الحماسية، وكان إبقاء الأجور على هذا المستوى المنخفض يعني حدوث تقدم صناعي كبير، وكذلك يعني صعود الإدارات الحكومية فوق ظروف طبقة مغايرة أفضل حالاً نبسياً وقتذاك لأنها ستنمو بصورة كبيرة فيما بعد، فتنفصل عن العمال، وتكون طبقة رأسمالية داخل أجهزة النظام.
إذا رأينا كيفية تشكيل الرأسماليتين الغربية الخاصة والحكومية الشرقية، فإننا رأينا بشكلٍ خاص نمو الرأسمالية الشرقية ومثالها كان الاتحاد السوفيتي، وكيف أن قوانين الرأسمالية العامة راحتْ تتجسدُ على الأرض، خاصة قانون التراكم البدائي، الذي لعب دوراً في تجميع الفوائض الكبيرة وإنتزاعها من المنتجين لتشكيل التصنيع الواسع، وترافق مع ذلك تحديث الريف ومكننته، وهو شرط هام آخر، لعدم العودة للإقطاع. وهو أمرٌ طبقته التجربة الصينية في زمن وظروف أخرى.
ومهما كانت شعاراتُ الحكم فإن الاقتصاد له سببياته المستقلة في النمو، وتكوين المصانع وخلق شبكة هائلة منها، وتنويع السلع، هذه كلها جوانب تنموية تقدمية، لكن في النهاية تغدو البضائع هي الأساس، وعمليات تسويقها، وتنافسيتها، وقدرتها على اختراق الأسواق المحلية والعالمية.
إن الهياكل البيروقراطية تؤدي إلى تخلف البضائع وتدهورها، فالسكان مضطرون لشراء السلع الرديئة حيث لا تأتيهم سلعٌ خارجية، وتقوم الدولة هنا بسرقة المنتجين والمشترين على حد سواء.
فالعمالُ يصنعون هذه البضائعَ بأجورهِم الهزيلة ثم يشترونها بمبالغ كبيرة، ويُمنع هنا نقد البضاعة السيئة، وكذلك إحتجاجات العمال ضدها وضد الأجور المنخفضة!
هذا يقود إلى إستزافٍ اقتصادي، فالبيروقراطياتُ المعجبة بنظامِها الإنتاجي، تؤبدهُ ببقائِها داخل المؤسسات، وبالرشاوى التي تدفعها للصحافة أو لأعضاء الحزب، وبنظامها السياسي الذي يمنع التكوينات السياسية الأخرى، والتدقيق في العملية الاقتصادية السيئة.
إن تعرض البضائع للتدهور المستمر يتشكلُ من جانب آخر فوق تقسيم عمل دولي معين، أي في ظل شروط الصراع بين الرأسماليتين الخاصة الغربية والحكومية الشرقية، صراعٌ سبقت فيه الأولى الثانية بأشواط طويلة، وعبر شروط المنافسة وبتحكم السوق الحرة وعبر النمو المتدرج لقوى الإنتاج والتقنيات فيها، وعبر إستقلال الثقافة والعلوم عن هيمنة الحكومات.
إن خروج الرأسماليات الحكومية الشرقية من السوق الدولية لا يغدو خروجاً مطلقاً، فهو خروجٌ نسبي مؤقت، بسبب التنمية التسريعية لقوى الصناعة، ولكن ما تتوصل إليه من بضائع مُنتجة داخلها لا يحتك داخل سوقها الوطنية المنفصلة، ولا يتعرض للمنافسات، ولا يتطور عبر السوق، التي تغدو مثل بقية أدوات الاقتصاد كالمصنع والسلعة والإدارة مشكلة بطريقة سياسية فوقية.
هذا يؤدي لتدهور البضائع، ويتوقف تطور المصانع عند بناء المؤسسات الكبرى والبنى التحتية، ثم تتجمدُ العملياتُ الانتاجية، عاجزة عن التطور الرأسي، وتطوير قوى الإنتاج، ويؤدي ذلك لبقاءِ الأجور عند مستوياتها المنخفضة، والتركيز على بيع المواد الخام أو الأسلحة للسوق الخارجية، واتساع التهريب لأسواق هذه الدول، وتغدو المهربات سوقاً إستنزافية وأداة تعرية لجمود التطور التقني في الرأسماليات الحكومية.
وهذا ينعكس على حياة العمال، فمن الحماس للتجارب إلى خبوه، والعودة للدين الذي يمثل مانعة الصواعق في كل العصور، وإلى الأدمان، وعدم ظهور أجيال من عمال شباب ذوي ماهرات عالية وتقنيات رفيعة، واتساع الهوة التقنية والتنافسية بين الرأسمالية الغربية والرأسمالية الحكومية الشرقية.
وتؤدي السياساتُ الجامدة لمزيدٍ من التدهور في الإنتاج، كما تؤدي السياساتُ الذكية والمرنة لتطوراتٍ جيدة على مدى المقاربة مع قوانين إنتاج التشكيلة، ولهذا فإن خروتشوف حاول أن يغير من النظام الجامد على مستوى نقد الماضي، وتحريك الوعي النقدي في السياسة والفكر، مثلما حاول أن يغير الاقتصاد في نواح محدودة، واتجه أغلبها نحو إعادة الاعتبار لبعض قوانين إنتاج البضائع.
(علينا التأكد فيما إذا كان تمويلنا للسد العالي في مصر مربحاً أم لا. لا شك أننا نريد تقوية علاقتنا بأصدقائنا، ولكن هذا مجرد حديث سياسي بحت، حيث يجب أن لا نلقي بنقودنا في الهواء. علينا التأكد بأن المصريين قادرون على الدفع لنا من قطنهم الجيد ومن أرزِّهم)، (9).
(إن خروتشوف هو الأول الذي جعل من تحصيل أعلى معدل للربح هو الهدف الرئيسي للنشاط الإقتصادي، كما استخدم الحساب الرأسمالي “الكلفة – الفائدة” وتعديل الأسعار لتمكين هذه المعايير.)، (10)
ترافق ذلك مع آراء الاقتصادي السوفيتي ليبرمان الذي خفتت من المركزية وأعطت للمؤسسات الاقتصادية استقلالها ووضعت أهمية للسوق. لكن لم يترافق مع ذلك أعطاء الفرصة لظهور المؤسسات الخاصة، وإحداث ديمقراطية سياسية وفكرية، ويرتبط ذلك بسيطرةٍ هائلة للبيروقراطيات، التي رفضتْ خلال عقود المشاركة العمالية في ظل النظام، مما كون رأسمالية سوداء باطشة وعصابية، وهو الأمر الذي خفتتْ منهُ الحكومة الصينية، فأحدثتْ تدرجاً في التحول الاقتصادي.
لقد بدأ التحطيم المتدرج للسوق (السوفيتية) المُسيّسة، وللأدلجة البيروقراطية للماركسية، واصبحت العودة للسوق الدولية محتمة، مثلما العودة لقوانين الإنتاج الرأسمالية، فقال خروتشوف بضرورة (دخول السوق العالمية طبقاً لقانون القيمة الدارج في هذه السوق)، ورغم الردة في عهد بريجنيف إلا أن كوسيجين رئيس الوزراء أكد على ضرورة؛ (توجيه المشروع ليحقق نجاعة أعلى، ويبدو أنه من الأفضل استخدام مؤشر الأسعار).
لكن هذه التحولات الجزئية في نظام الرأسمالية الحكومية السوفيتية لم تعبر كذلك عن فهم طبيعة المنظومة السوفيتية، التي فـُهمت بأنها نظامٌ إشتراكي يعاني من بعض الاختلالات في طريقه نحو الشيوعية في حين إنه نظام رأسمالي حكومي ذو صعوبات كبيرة في التطور وفي فهم العملية الاقتصادية، ويحتاج إلى ديمقراطية عمالية كان قد فقدها في تلك السنوات الثلاثينية خاصة، ولأن العمال المتخلفين تقنياً وفكرياً ومستوى القوى الإنتاجية المتخلفة لا تبني الاشتراكية عامة وربما لو وُجدت كانت قد أصلحت بعض الشيء من الكوارث التي انفجرت في خاتمة المطاف.
اكتشفت الرأسماليتان الغربية الخاصة والشرقية الحكومية وحدتهما المشتركة عبر الصراع والتطور التاريخي المتداخل، وعبر التهام الطبقات العمالية بكل شكل ولون.
وما كان تبايناً شديداً تم رؤية نسبيته، وكونه مرحلياً في العملية التاريخية المشتركة، فليس النمطان سوى مرحلتين من تطور العملية الرأسمالية العالمية، قامت الأولى في ظلِ سيطرتها على المواد الخام والعمال والأسواق الواسعة، بشكلٍ مبكرٍ نظراً لظروفٍ خاصةٍ بالقارة الأوربية والقارة الأمريكية، وكان إنتاجها المتميز المتطور في القرنين 19 و20 هو ثمرة لتلك التراكمات على أصعدةِ قوى العمل والعلوم.
ولم يكن لحاق الرأسماليات الشرقية الحكومية تحت واجهات سياسية، وبدعوى رفض الطريق الغربي، نظراً لجراح الاستعمار وللجذور القومية والدينية المنتهكة من قبل القوة الأولى، سوى شكلٍ آخر للرأسمالية حاول اللحاق بالشكل الأول وتجاوزه والظهور بمظهر المجدد المتميز المختلف.
وكانت الرأسمالياتُ الغربية، التي ضمتْ كذلك رأسماليات خاصة فتية في قارةِ آسيا، قد دخلتْ في حقبةِ النصف الثاني من القرن العشرين عصرَ الثورةِ التقنية والمعلوماتية، وكان هذا العصرُ قد كشفَّ بوضوحٍ قيادة الرأسمالية الغربية – اليابانية للتطورين الاقتصادي والعلمي في العالم، وعجز الرأسماليات الشرقية بسيادات الدول البيروقراطية، عن اللحاق ليس بالمستوى الجديد من تطورها بل وحتى بالمستوى القديم.
ولم تكن هذه سيادة في الفراغ، بل كانت سيادة بضائعية متطورة من نوع جديد، وإستغناء عن الكثير من المواد الخام، وعن الكثير من المصانع القديمة، وهي كلها أمورٌ فجرتْ العديد من أغلفة الأنظمة الشرقية الاستبدادية.
أخذت التطوراتُ الجديدة تغزو المنظومات الشرقية المتعددة المستويات، فتتخلى هذه عن الاقتصاديات القديمة المتكلسة، وتحررُ أقساماً من الاقتصاد، وتسمح بقطاعات خاصة كبيرة، وتقوم بتقليد السلع الغربية المتطورة، خاصة في بلدان الصين وروسيا وجنوب شرق آسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدول، وكما هي العادة فقد لعبت قوى العمل دورها في تفجير طاقات هذه الدول، ونقلها لمستويات تطور جديدة.
إن ضعف الأجور وتدنيها لعبَ مرة أخرى دوره في تفجير هذه الطاقات، وفي انتقال الثورة التقنية للدول الآسيوية ذات القوى العمالية الواسعة، والأسواق الكبيرة، وهذا أثرَّ بدورهِ على وضع العمال المتميز في دول الغرب.
قامت العديد من الشركات العالمية بالانتقال لدول مثل الهند تجد فيها حريات اقتصادية واسعة وقوى عمل هائلة ورخيصة ومتقدمة.
إن العملية الرأسمالية المتطورة بوصولها لدول الشرق اطلقت كبيرة فيها، وانتقل جانبٌ كبير من التحديث إلى الشرق، وبهذا حدث تداخلٌ على مستوى جديد بين الرأسماليتين العالميتين، وهو تداخل مباشر وعالمي مختلف، فلم تعد الرأسمالية المتطورة الغربية ذات مكان جغرافي محدد محصور برقعة جغرافية، بل صارت كونية، ولكنها كونية مرتبطة بالأجور وتدنيها، لا برتفاعها وتطورها، إلا إذا اعتبرنا أن العمال في بعض دول الشرق حصلوا على أجور مترفعة قياساً لما تقدمه الرساميل المحلية.
لكن هذا التداخل بين الرأسماليتين العالميتين يمثل حلقة جديدة من التطور التاريخي للمنظومة الرأسمالية المعقدة والمركبة، فنحن هنا أمام رأسمالية ذات مستوى متطور ورأسمالية ذات مستوى متخلف تصطدمان بقوة خلال بضع سنوات، مما ولدت ظاهرات بالغة الحدة والثراء والتنوع والخراب كذلك!
كوكبان يصطدمان ويولدان جسماً ثالثاً، قد يكون مسخاً وقد يكون وليداً جديداً ذا تكوين انتقالي لرأسماليات حكومية ديمقراطية، يلعب فيها العمال دوراً مغايراً مختلفاً عن دور البقرة الحلوب ويشاركون في الحكومات على أساس كونهم ممثلين للطبقات العمالية بشكل حقيقي وليس أدوات للطبقات الاستغلالية المتوارية تحت يافطتهم.
وفيما تزدهر الهند بشركات التقنية المتطورة، فإنها لا تزال تعيش ريفاً إقطاعياً متخلفاً، فيما تغدو الرأسماليات الحكومية على نمط روسيا والصين أكثر قابلية للتطورات الثورية في وسائل الإنتاج العصرية، فيما تتزعزع بعضُ الرأسماليات الغربية الكبرى. يطلق زعيمٌ ألماني من جمهورية ألمانيا الاتحادية على الرأسمالية في بلده بأنها (رأسمالية الجراد!)، ويقول:
(في الآونة الأخيرة بلغ هذا التناول الانتقادي الجديد للرأسمالية ذروته في سلسلة من الهجمات التي شنها زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي فرانتز مونتيفيرينج . فقد اتهم رجال الأعمال الذين ينقلون الإنتاج إلى الدول ذات الأجور المتدنية بأنهم يؤكدون بهذا على فرط جشعهم وافتقارهم إلى الإحساس بالمسئولية الاجتماعية. ثم شبه مديري صناديق الأسهم الدولية بوباء الجراد الذي يحتل الشركات ويستغلها ثم ينتقل إلى غيرها بعد أن يكون قد أتم عمله التخريبي وأجهز عليها.)، (11).
وفيما تقوم الرأسمالياتُ الخاصة بتطور جديد في دول الشرق المنهكة من السيطرات الحكومية، فإن الرأسماليات الخاصة بحاجة للتغييرات الشعبية والحكومية الديمقراطية في الغرب.
مسارات مختلفان، ومركبان، يرسمان حركة تاريخية مختلفة للرأسمالية العالمية، لا تبدو لنا الآن سوى بضع ملامح من تكوناتها.

الرأسمالية الحكومية الصينية

تمثل الصين تجربة تاريخية فريدة وغريبة، فهي خلافاً لما كان يُسمى(الدول الاشتراكية) والتي لم تستطع القيام بقفزة صناعية كبرى بفضل مواردها السلمية، أستطاعت أن تصل لمستويات الدول الكبرى الصناعية في خلال نصف قرن.

يقول أحد المسئولين الصينين:
(قامت الصين بدفع الإصلاح والانفتاح بكل الثبات على مدى الـ25 سنة الماضية، حيث تم بناء نظام اقتصاد السوق الاشتراكي وتكوين اقتصاد الانفتاح، وازدادت القوة الإنتاجية الاجتماعية والقدرة الإجمالية للدولة وتطورت جميع القضايا الاجتماعية على نحو شامل، وتم إنجاز القفزة التاريخية لمعيشة الشعب من حالة الكساء والغذاء إلى مستوى الرغيد بشكل عام. فخلال 25 سنة من عام 1978 إلى عام 2003، حقق الاقتصاد الصيني معدل النمو السنوي %9,4، وزاد كل من اجمالي قيمة الناتج المحلي (1400 مليار دولار) وحجم التجارة الخارجية (851,2 مليار دولار) واحتياطي النقد الأجنبي (403,3 مليار دولار) بـ10 و40 و2400 مضاعفة على ما كانت عليه في عام 1978. وحاليا، يتربع الحجم الإجمالي لاقتصاد الصين المكانة السادسة في العالم ويحتل إجمالي قيمة التصدير والاستيراد المرتبة الرابعة في العالم)، (12).
تشير عبارتا (تكوين السوق الاشتراكي) و(اقتصاد الانفتاح)، إلى الهيكلين اللذين رأيناهما في اقتصاديات الدول الشرقية عموماً، حيث جهاز الدولة الذي سيطر خلال عمليات التنمية والتغيير، وشكل القطاع العام، وكذلك إلى هيكل الاقتصاد الخاص.
لقد حاول ماو تسي تونغ أن يخلق اقتصاداً عاماً كلياً خالياً من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وأن يقوم بقفزة اقتصادية على هذا الأساس وعارض بقوة ظهور وتوسع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وكانت الثورة الثقافية التي قادها قد رفعت شعارات القضاء على البرجوازية، اقتصاداً وثقافة، وفي سبيل ذلك اضطهد الكثير من قيادات الحزب، لكن النزوع نحو ظهور البرجوازية كان قوياً في الاقتصاد والسياسة.
(في عام 1979، بدأت الصين تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، لاكتشاف طريق جديد للتنمية الاشتراكية ودفع التحديث بكل القوة) (من حديث السفير السابق الذكر)، أي أنه في هذه السنة تم حسم خيار التطور الاجتماعي الصيني، واتسع حضور القطاع الخاص جنباً إلى جنب القطاع العام المسيطر.
علينا أن نتجاوز مصطلحات القادة الصينيين ونحن نفسر مثل هذه التحولات الكبرى، فما قامت به الصين عبر ماو كان تشكيلاً لرأسمالية حكومية عامة كلية، وكانت الأجور المنخفضة، والتأميمات، والتعاونيات، وتوسيع الزهد والاكتفاء ب(صحن الأرز)الوحيد لكل صيني، والتي سُميت عبر الطرح السوفيتي ب(إشتراكية الثكنات العسكرية) كان تراكماً رأسمالياً أولياً، والتراكم البدائي قانون كلي عام في التجارب الرأسمالية غرباً وشرقاً، كما رأينا في التجربة الروسية، وهكذا فإن نشؤ الرأسمالية الحكومية كان قوياً، وواسعاً، عبر خلق قوى الإنتاج الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الوطنية العامة، ثم توقف عن التطور النوعي نظراً لحبس الملكية الخاصة، وجمود الملكية العامة. أما كيف ظهر قادة صينيون من قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وألغوا التجربة الماوية، فهو أمرٌ يظل غامضاً ولم يُطرح في الأدبيات السياسية الصينية بوضوح. لكن كان يظهر في المسار الصيني قوة التوجه القومي في الحزب، والبحث عن حلول للتطور الاقتصادي من خلال ظروف الصينيين، وليس عبر نسخ مستوردة، وكان الحزب يعيش بين الجماهير كالسمكة في البحر كما يقولون، فقام بتجديده الكبير من خلال هذا الاهتمام بمصالح نخب الحزب والدولة والجيش وبمصالح الناس، فزاوج بين القطاعين العام والخاص.
ولا شك أن البرجوازية التي حاربها ماو طويلاً وهجس بها موجودة داخل القطاع العام، وهي التي زاوجت وقادت تشكيل القطاع الخاص الهائل، لكن تظل الحكومة في يد المسئولين(الشيوعيين)!
ولا تستطيع هذه البرجوازية الحكومية – الخاصة، أن تقذف البلد في تجربة رأسمالية على النمط الغربي دفعة واحدة، ومن هنا فهي تتخندق في (الحزب الشيوعي)،الذي يجمع بين الملكيتين، ويرفع من مستوى معيشة الشعب، ويشكل كذلك فئات برجوازية مرفهة.
مذا يحدث للثقافة (الشيوعية) التي كانت تـُحفظ حتى لأطفال المدارس؟ تظهر المصطلحاتُ السابقة الذكر المزودجة تعبيراً عن كل شيء مزودج في الصين، وعن هذا الخيار الثنائي المعقد؛ إنها مصطلحات(اقتصاد السوق الاشتراكي)، و(سياسة الانفتاح).
فيتم تخفيف الحديث إن لم تـُـلغ تماماً الكلمات عن زوال الطبقات، وإزالة البرجوازية، وزوال الأجهزة الحكومية القامعة، وتنتشر ثقافة مزدوجة، ثقافة البرجوازية الحكومية المسيطرة وظلالها من ثقافة رجال الأعمال الغربية، وهناك ثقافة الشعب العادي الخافتة والذائبة في ظل سيطرة الطبقة الحاكمة بفرعيها العام والخاص.
وكما حدث للماركسية في روسيا عبر خفوتها وتحولها إلى نمطية بيروقراطية، يحدث هنا ذلك، مع بقاء (الماوية) كشكلٍ منافس للماركسية الحكومية وقد صارت ليبرالية شمولية.
يجادل بعض الكتاب اليساريين بأن ما تم في روسيا والصين هو تجربة إشتراكية، وأن ما يُسمى بإصلاحات الصين الأخيرة هو هدم لتلك الاشتراكية.
(هُدم الانجاز الاقتصادى التاريخى المتمثل فى الثورة الزراعية الصينية التى لم تحرر مئات الملايين من البشر فى ذلك البلد من أسار العلاقات الاقتصادية الاقطاعية فى منتصف القرن العشرين فحسب، بل نقلتهم فى النهاية الى اعتاب الاشتراكية؛ وكيف تم هذا الهدم بصورة فوضوية تحت دعاوى نظرية تطوير القوى المنتجة تحت ستار تحقيق “اشتراكية ذات خصائص صينية”، ذلك الشعار الذى صار مثاراً لتهكم العمال الصينييين الذين حرّفوه الى شعار ” بل هي رأسمالية ذات خصائص صينية”. فبعد شروع الحزب الشيوعى الصينى فى التحول لبناء الاشتراكية فى الستينات من القرن الماضى كان جوهر الصراع، فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، داخل الحزب والدولة فى الصين هو صراع بين دعاة نظرية تطوير القوى المنتجة كيفما اتفق، والمدافعين بقيادة ماو عن ضرورة التغيير الاجتماعى الجذرى لاحداث ثورة فى القوى المنتجة. كان هذا جوهر الصراع، الا انه ظل، بين الفينة والاخرى، يبرز متستراً بأشكال مختلفة من الخلافات الفكرية والآيديولوجية.) ، (13).
إن تشكيل الرأسمالية الحكومية يبدو بشكل إشتراكي، وقد عملت لبناء ذلك الشعار القوى العمالية والفلاحية بتضحيات جسيمة، ولكن أشكال حكم هذه القوى الشعبية التي ظهرت في بدء الثورة يُلغى لصالح الأجهزة الحكومية، وهي التي تقود عملية الرسملة، مثلما جرى ذلك في التجربة الروسية وأن كانت الصين أقل دموية وأكثر اهتماماً بشعبها وبعدم الخوض في صراعات عالمية ذات خسائر جسيمة، ومثلما جرى ذلك في تجارب التحرر الوطني، والبناءات الوطنية المغلفة بمصلحة الشعب والقومية والدين ثم تكشفت هوياتها الحقيقية.
ولهذا فإن الحديث عن جمهورية الصين الديمقراطية ذات التعددية، لم يستمر طويلاً بل هيمنت اللجان العليا في الحزب الشيوعي الصيني على المجتمع، وتحولت لجنين قيادة الرأسمالية بشكليها العام والخاص.
لقد حدث المسار الديمقراطي بشكل وميض سريع أثناء شعارات مثل(دع مائة زهرة تتفتح)، ولكن نشؤ الملكية العامة والإدارة العامة والحزب الواحد يؤدي إلى الرأسمالية الحكومية البيروقراطية بشكل عادي كما جرى في التجارب ذات التركيزين الاقتصادي والسياسي الحكوميين.
فتنبثق الرأسمالية الخاصة كحل لانسداد الطريقين السياسي، بغياب مشاركة العمال في الحكم ومنظماتهم، وكانسداد اقتصادي بسبب تحجر الملكية العامة.
إذن (دكتاتورية البروليتاريا) في الشرق هي شكلٌ من أشكال نمو التجربة الرأسمالية الحكومية، ولو أنه انبثقت تجربة ديمقراطية شعبية حقيقية وحافظت على النمو الاقتصادي المتصاعد وكذلك على المشاركة الديمقراطية لمختلف القوى الاجتماعية، لحدث الوصول إلى رأسمالية دولة ديمقراطية، وهي شكلٌ أولي لظهور الاشتراكية. لكنها تفتقد هنا عوامل القفزات والتسريع الذي تطلبه كل قومية عملاقة ذات مصادر طبيعية غنية وشعب هائل والتي يقودها حزب واحد دكتاتوري عموماً.
بمعنى أن (رأسمالية الدولة) الديمقراطية لا تصبح مجرد حصالات لظهور الرأسماليين من قنوات الحكم كما يحدث في دول الشرق عموماً، بل تتم مراقبة الدولة وأجهزتها بشكل شعبي، وتظهر رأسمالية خاصة في النور ولكن أملاك الناس العامة يتم الحافظ عليها وتطويرها.
ولكن الدكتاتورية الشخصية لماو والسياسية للحزب والاقتصادية للقطاع العام، جعلت هذا مستحيلاً، وكرست ثقافة سياسية مسطحة ذات لون واحد.
الآن يبقى مسار جمهورية الصين المستقبلي غامضاً، فرغم النتائج الكبيرة في الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية، فإن التطور غير مراقب من قبل الجمهور، والبلد تفتقد إلى الأحزاب والصحافة المختلفة مع الدولة والحريات الديمقراطية بشكل عام.
والإنجازات إذا لم تراقب فإنها تضمرُ بعد سنين وتتحول الفوائض الكبيرة للحصالات الخاصة، وللتبذير.
ويتراكم الفقراء والمعوزون والعاطلون في جانب وتتضخم الملكيات الخاصة للرأسماليين، ثم يحدث صراع كبير حاسم، أما بإستكمال مسيرة رأسمالية الدولة باتجاه ديمقراطي إشتراكي أو يغدو المجتمع رأسمالياً صرفاً، تتفجر فيه صراعات قومية واجتماعية حادة.
وما دامت الدولة قادرة على توفير العمل للأغلبية وهي أغلبية هائلة جداً، فإن الناس سوف تسير وراءها، وإذا وجدت في أجهزة الحزب والدولة قوى تواصل النهج الاشتراكي الديمقرطي فإنه سوف تقلل من الكوارث التي سوف تحدث في حالات الاستقطابات الاجتماعية في بلد واسع وخطير مثل الصين.

الرأسمالية الحكومية في الهند

رغم ضخامة السوق الوطنية الهندية، وكثافة القوى العاملة ذات الأجور الزهيدة، فلم تستطع الهند القيام بتجربة مماثلة للرأسماليات الحكومية في كل من الصين وروسيا، وقاربت تجربتها تجربة بعض الدول العربية كمصر، رغم توجهها لحكم علماني ديمقراطي.

يعود ذلك للطابع المسالم لتجربة حزب المؤتمر والتي كانت تعني تداخلات بين الفئات الوسطى القائدة لهذا الحزب وطبقتي الإقطاعيين الزراعيين والدينيين، وهو أمرٌ ماثل حراك الفئات الوسطى المصرية منذ الوفد حتى الضباط الأحرار، ومن هنا جاء اللقاء في كتلة عدم الانحياز.
لكن مسائل التشابه تعود لقضايا أكثر تعقيداً وبشكل أوسع وبطريقة تلاق غريبة، فقد قام حزب المؤتمر بعد الاستقلال عام 1948، بتأميم صناعات عديدة وأنشاء القطاع العام في العديد من الصناعات، في مشابهة أخرى للتجربة المصرية.
يقول تقرير عن المشكلة الاقتصادية للهند بالرؤية التالية:
(ويرى كثير من الخبراء الهنود والأوروبيين أن هذا النمط التنموي الموجه ظل يعمل بكفاءة طيلة فترة حكم نهرو، حيث نجح في خلق قاعدة صناعية واسعة ومتنوعة، فضلا عن تحقيق قدر كبير من الحرية للاقتصاد الهندي في مواجهة التبعية الخارجية. ويذهب البعض إلى أن الفضل في ذلك يرجع إلى ما كانت تتمتع به النخبة الهندية في ذلك الوقت من رؤية للتحديث، مما ساعدها على التوظيف الأمثل لموارد الدولة المتاحة واستثمارها في القطاع العام الصناعي. ومع هذا تظل نقطة الضعف الأساسية في هذا النمط التنموي في أنه لم يكن مصمماً على افتراض ضرورة التصدير للأسواق الخارجية، استناداً إلى اتساع السوق الداخلي الهندي والوفاء باحتياجاته من السلع والخدمات. وبالتالي فإن بؤرة تركيزه انصبت على تحقيق طفرة إنتاجية كمية وليست نوعية عالية للصناعة الهندية، وهو ما أدى بدوره إلى ضعف قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية.) ، (14).
رغم صوابية هذه النظرة إلا أنها تبقى جزئية، فالقضية أكبر من ضعف القطاع العام الصناعي، فالثورة الصناعية تفترض ثورة في الإنتاج الزراعي وتغلغل المكننة في الريف، وهذا ما لم يحدث، بل تـُرك الريف في تخلفه وبسيادة الإقطاع داخله، وبكل فسيفساء القوميات وهيمنات رجال الدين الكثيرين والسحرة وغيرهم وهذا أمرٌ ينفي الثورةَ العلمية الرديف الثقافي للتصنيع في المدن والأرياف. وبهذا فإن المدنَ الهندية الكبرى تعرضتْ لموجاتِ الهجرة من الريف نحوها وملئها بالعمالة الرثة وببحر من المقتلعين والمهمشين وبمدن الصفيح، فنجد شيئاً من المشابهة هنا كذلك مع الاقتصاد المصري والعديد من إقتصاديات الدول العربية والإسلامية.
وبدلاً من ذلك لجأت الحكومة الهندية إلى عمليات واسعة لاستصلاح الأراضي حققتْ شيئاً من الفوائض الزراعية لسنوات، لكن الإنتاج الزراعي ظل راكداً.
إن فشل القطاع العام الصناعي كان متوقعاً، أولاً بسبب جزريته وسط المحيط الزراعي الحرفي القروي، وثانياً لضعف الموارد التي كانت سوف تأتي من عمليات إصلاح الريف، وثالثاً للفساد والبيروقراطية داخل هذا القطاع.
وبهذا فإن تجربة (الإشتراكية) الهندية استنزفت الموارد وعجزت عن القيام بتحولات جذرية في القطاعات الاقتصادية الكبرى، فحصلت أحزاب اليمين على فرصة لرفع شعارات الخصخصة، وتغيير التحول الاقتصادي بجهات جديدة.
إن الهند وهي تشكل نظاماً إنتخابياً حراً، لم تستطع أن تقوم بإصلاحات شبيه بإصلاحات ستالين وماو، في إستنزاف الريف وإستخراج الفوائض منه، لتوسيع الصناعات الكبرى، ولم يكن ذلك ممكناً عند أقطاب المؤتمر وأساسهم الاجتماعي البرجوازي الوطني، فحاول المؤتمر أن يوازن ويحتفظ بدور الأب السياسي الراعي للطبقات المحافظة، والفقيرة على حد سواء ، وهذا محالٌ إلا في فترةِ توازنٍ اقتصادي مترجرجة بين الطبقات الأساسية، لكن الطبقات الفقيرة تنمو بمعدلات هائلة، والتصدير ضعيف، والصناعات مُستنزفة بيروقراطياً، فكان مجيء اليمين والأحزاب الهندوسية الدينية، والتوجه لتصعيد دور القطاع الخاص، كقيادة للاقتصاد. وقامت هذه بإجراءات الخصخصة الواسعة بدءً من أوائل التسعينيات.
لكن مقاومة القوى البيروقراطية والنقابية العمالية والتقدمية كانت تتصدى لعملية بيع القطاع العام أو إلغاء دوره، وأيدت عملية إزدواجية القطاعين، فتنامت إجراءات الخصخصة والتحولات الانفتاحية:( وقد كان التدرج والحذر هما سمة التحول، وليس أدل على ذلك من أن قطاع التأمين لم يتم تحريره أمام المستثمرين الأجانب إلا في أوائل عام 2000، كما لم يتم التحرير الكامل لسعر صرف الروبية الهندية إلا عام 1993.) ، (15).
إن الفئات البرجوازية التي تشكلت في القطاع العام وجمدته وجمدت الثورة الزراعية تحالفت بعد ذلك مع الفئات البرجوازية الجديدة الصاعدة من الأحزاب الدينية والبرجوازية الكبيرة، ومع القوى اليسارية أيضاً، لمواصلة وتوسيع تغلغل الرساميل الأجنبية، (من قبيل إعطاء حق التملك الكامل للأجانب في مشروعات(الطرق والسياحة والصناعات البترولية وتوليد الطاقة) أو الحق في تملك 49% من قطاع الاتصالات و51% في الصناعات الدوائية، فضلا عن كثير من القطاعات الأخرى التي أصبحت الموافقة عليها بصفة آلية مثل الكيماويات والتعدين والنقل والغزل والنسيج)، (16). وكانت العملية الأكبر والهائلة هي في خلق مراكز البرمجة والمعلوماتية.
لقد تهمشت الرأسمالية الحكومية بعد عقود الجمود، فقاد اليمين المتطرف الهند مرة واليسار مرة، في تناوب اجتماعي اختفى منه حزب الوسط التاريخي مؤسس (الإشتراكية) والرأسمالية الحكومية الهندية!

الرأسمالية الحكومية في أمريكا اللاتينية

تجربة كوبا

تداخل النضال من أجل التحرر الوطني بالنموذج الاشتراكي في كوبا تداخلاً شديداً، فلم يكن التخلص من الدكتاتورية السياسية السابقة يهدف فقط لمجتمع ليبرالي متحرر من السيطرة الأجنبية ومن حكم العسكر والإقطاع. كانت تحمل نموذجاً مبهماً ومضموناً راح ينمو بشكل عسير ومتحول وعنيف.

فكوبا تقع على بعد خطوات من أكبر دولة مهيمنة في العالم، وراحت تتحداها وتشكلُ نموذجاً مغايراً صلباً وذا حماسة ثورية فائقة!
وعلى الرغم من التغييرات الاجتماعية الثورية التي قامت القيادة الكوبية والمؤامرات الأمريكية الخارجية المستعينة باللاجئين إلا أن الحكم لم يتزعزع.
ثم أضيف إلى هذه التدخلات العسكرية تبدل المنظومة(الاشتراكية) وسيرها نحو خطوات تحولية مغايرة، أطلقت التعددية الحزبية والصحافة الحرة وحكم البرلمانات وكوبا رفضت ذلك كله!
وكان غياب الاتحاد السوفيتي سنة 1990 يعني على المستوى الكوبي زوال مساعدة تبلغ عدة مليارات من الدولارات تـُعطى سنوياً لجزيرة (المقاومة والحرية) كما يُطلق عليها!
ولكن غياب هذه المساعدات وتبدل التجارة الجيدة مع سوق الكوميكون (سوق الدول الاشتراكية) لم يقد كذلك إلى زوال حكم الحزب الشيوعي الكوبي ولا إلى انفجار اجتماعي كاسح من الشعب، رغم أن أزمة البلد الاقتصادية بدءً من أولائل التسعينيات كانت قوية مشهودة في المرئيات الإعلامية العالمية بصور الهاربين في القوارب والغارقين في المحيط والواصلين بعسر إلى شواطئ الدولة العدوة من جزيرة الحرية!
تعود صلابة الحكم في كوبا إلى قيامه بإجراءات اجتماعية جذرية، فقد سلم الأراضي الزراعية للفلاحين، وسلم المصانع والمتاجر للعمال، وصار هؤلاء المنتجون مالكين حقيقيين لقوى الإنتاج الرئيسية، ومسئولين عن منجزاتهم، وأي عودة للمنفيين الكوبيين يعني إستعادة هذه الأملاك، وبالتالي إحداث إضطراب مخيف. فجعل الحكم هذه الجماهير على مدى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مالكة ومسئولة ومعسكرة بمليشياتها وجيشها ضد أي تدخل أجنبي.
بل هي كانت تقدم خدماتها العسكرية عبر القارات وخاصة في أفريقيا وتساهم في دحر قوى معادية للثورات الوطنية فيها.
هذه الأحزمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية مربوطة بأدلجة كفاحية مضحية زاهدة تجعل هذه الجماهير في حالة إستنفار دائم.
هذا الصمود الأسطوري تشكل على مدى العقود بلافتة النظام الاشتراكي، وهي لافتة تشيرُ إلى سير المجتمع الحتمي نحو زوال الطبقات والملكية الخاصة وأجهزة الحكم القسرية وما إلى ذلك من مصطلحات الرؤية (الماركسية – اللينينية) التبشيرية بتحقيق الاشتراكية بدون أدوات الرأسمالية.
إن هذه الرؤية الملتحمة بين الحرية الوطنية والإجراءات الاجتماعية التأميمة والإصلاحية الزراعية، غدت هي فكر الدولة ووجودها، وحياة الناس، وأي استعادة للأرض مثلاً من قبل المالكين القدامى من بين أصحابها المالكين الجدد يعني الحرب الأهلية، وسواء جاء الملاكون القدامى عبر التدخل الأجنبي أم عبر صناديق الاقتراع فإن الأمر واحد.
وتحولت هذه الرؤية والمصالح الشعبية إلى دولة لا تقبل برؤية أخرى وهي على خندق المجابهة المستمرة، فصارت الدولة هي دولة الرأسمالية الحكومية الوطنية، ولكن بعد لم يتحول موظفو الدولة إلى المالك الحقيقي، ويبعدوا الناس عن الفيء العام كما نقول بلغة الفقه الإسلامي.
وهذا الفيء صار تعليماً وعلاجاً مجانين في كل الظروف والمراحل، وهو أمر أدى إلى مزيد من التلاحم بين هذا الشعب الفقير الذي توزع عليه الخيرات العامة المحدودة بشكل متقارب، ولكن هذا لا يعني أن الوزارات لم تبدأ بالانفصال عن الجمهور، وأن الفساد لم يظهر.
ولكن تلك الرؤية المشار إليها سابقاً تصدعت في مركز إنتاجها في روسيا، وأنعكس ذلك ليس بشكل فكري فقط بل بشكل مالي حاد أيضاً، وتلك العقود المحمية بمساعدة الرفيق الأكبر انتهت، والأزمة الاقتصادية وصلت إلى كوبا بعنف.
وفي العقود السابقة وضعتْ كوبا أسسَ قاعدتها الاقتصادية، وتخصصت في إنتاج سكرها ومعدن النيكل والتكنولوجيا الحيوية والصناعة الطبية الالكترونية. وهي كلها لا توفر تطوراً واستقراراً أقتصاديين، ولهذا تنامى العجز وزادت مشكلات الفقر.
فـُطرحت أسئلة كبيرة على التجربة ومدى صحتها، وكيفية تجاوز مشكلاتها، وهل يتم التوجه نحو التجربة الروسية وتحولها أم تستمر كوبا على نفس النظام بدون تغيير أم يحدث الخيار الثالث وهو الخيار الذي أتبعته تجارب مثل فيتنام والصين؟ فكان الاتفاق على الخيار الثالث الذي يواصل تجربة مقاومة الجار الثقيل، وقد طرح سياسيو كوبا ومفكروها آراءً تؤدلج رأسمالية الدولة الوطنية هذه وتقول بأن الماركسية المتبعة لديها ليست جامدة بل تتطور عبر أزمات الواقع وتبدلاته، دون أن تلغي الأساس الاقتصادي الذي صار الهيكل العظمي للدولة، بل تحسنه لمزيد من الانجاز، كما أن الأساس الفكري للحكم وهو الاشتراكية سيظل متبعاً، وأن تفاوت الثروة المتصاعد لن يلغي هدف المجتمع لإزالة الطبقات، وبالتالي لن يسمح للقوى البرجوازية الصاعدة عبر هذه الإصلاحات في الوصول للسلطة. لكن كيف يتم زوال هذه القوى الجديدة المطلوبة اقتصادياً؟ وإلى أين ستوجه نموها؟ وهل سيبقى البلد بعد هذا بلد الحزب الواحد؟ وهل لن يحدث تداخل وتحالف بين القوى البيروقراطية المتحكمة في الأجهزة ومنافعها وبين هذه القوى المالية الجديدة؟
عموماً انطوت صفحة معينة من تاريخ كوبا وانفتحت صفحة جديدة ودخلت الرأسمالية الخاصة للاقتصاد المُسمى إشتراكياً.
ظهرت تغييرات كبيرة في الاقتصاد الكوبي بعد سنوات طويلة من تحكم الدولة في الهيكل الاقتصادي العام. فقد جرت إجراءات مالية واجتماعية كثيرة:
(شملت هذه الاجراءات فتح الباب امام الاستثمارات الاجنبية وتوسيع الشركات ذات الملكية المشتركة (بين الحكومة الكوبية والشركات والاستثمارت الاجنبية) وانتقال هذه من قطاع التصدير والاستيراد الى قطاع التمويل الاستثماري والقطاعات المحلية في الاقتصاد الكوبي. وقد أدت الازمة الاقتصادية الى التعجيل في علمية الاصلاع الاقتصادي الذي شمل العناصر التالية:
على مستوى التجارة الخارجية:

  • انفتاح متزايد على رأس المال الاجنبي وازدياد عدد الاستثمارات المشتركة بين الحكومة الكوبية والشركات الاجنبية وتنشيط الاستثمارات الاجنبية (السياحة الدولية، صناعة الادوية، تطوير البيوتكنولوجيا، انعاش انتاج السكر). وقد لاقت هذه الاجراءات نجاحات كبيرة في معالجة الازمة والتصدي لآثارها المدمرة على المستوى الداخلي، كما شكلت محاولة منتظمة ومثابرة في انعاش الاقتصاد الكوبي وادخاله الى السوق العالمية.
  • ازالة احتكار الدولة للتجارة الخارجية
  • السماح بتداول العملات الاجنبية وتحديداً الدولار الاميركي وافتتاح المزيد من مكاتب صرف العملات الاجنبية تحدد سعر صرف هذه العملات على أساس العرض والطلب. وقد صُرّح للمشاريع الخاصة بالتداول بالدولار وتمويل ذاتها مقابل تحويل جزء من دخلها (بالدولار) الى خزينة الدولة. وتشكل الدولارات التي يرسلها المغتربون الكوبيون في الولايات المتحدة الى ذويهم في كوبا الجزء الاكبر من الدولارات التي غزت السوق الكوبية. إضافة الى ذلك، فقد سمحت الاتفاقيات التي عقدتها الحكومة الكوبية مع الشركات الاجنبية العاملة في كوبا، ان تدفع جزءا من رواتب الموظفين الكوبيين العاملين في هذه الشركات بالدولار.
  • تعديلات في الهيكلية التنظيمية للدولة من اجل ضبط العلاقة في التعامل مع الشركات الثنائية والاستثمارات الاجنبية
  • التعديلات القانونية التي صاحبت هذه التطورات الاقتصادية والتي كان من اهمها التعديل الدستوري في يوليو 1992 والذي اعاد تعريف “الملكية الاشتراكية”، والاقرار بظهور شكل جديد من الملكية، وتحديد الملكية وتغييرات اخرى داخل نظام التخطيط الاقتصادي.)، (17).
    هذه عينة من التحولات الاقتصادية الصناعية والمالية خاصة التي جرت في كوبا، وهناك إجراءات في الزراعة التي تمثل جذور التجربة، فقد تم إلغاء سيطرة الدولة على الأرض، وهذا يعني إن ملكيات الفلاحين التي كانت شكلية أصبحت بيدهم فعلياً وقانونياً كذلك، كما عملت الحكومة على تشجيع التعاونيات الزراعية وهي إجراءات تشير إلى خوف الدولة من تنامي الفئات البرجوازية في الريف، بعد جعل تطور الملكية الخاصة قانونياً وفي وسيلة إنتاج مهمة وكبرى في الجزيرة.
    إن الدولة الاشتراكية المفترضة هنا تقوم بتغذية نمو الطبقات المختلفة، فهذا سوف يقوم بخلق إزدهار للفئات الوسطى، ويوسع أعمالها، وتستفيد الحكومة من ذلك عبر الضرائب المستحدثة، وتنامي خزينتها، وقد عمقت ذلك أيضاً عبر إعطاء إستقلالية للمؤسساتها الاقتصادية، التي غدت حرة، وتتعامل مع السوق بشكل مباشر، وتنمي ماليتها المستقلة، وهو أمرٌ سيؤدي إلى تطوير الإنتاج والتقنية.
    ولا تنعدم في مثل هذا الاقتصاد الخاص المتنامي حالات الفساد والتداخل بين الرأسمالين الحكومي والخاص، في ظل تنامي العمليات الاقتصادية المختلفة.
    وبهذا يتشكلُ مساران اقتصاديان مختلفان، متضادان كذلك، ودرجة التضاد وعمقها تعتمد على إدارة الدولة، وهو شأن تقوم به وزارة التخطيط، وبهذا تكون تكونات الفئات الوسطى المالكة محسوبة، ومستثمرة من أجل تطوير القطاع العام.
    لكن هذا يعتمد على الرقابة الشعبية والحرة، وهو أمر لا يتشكل في مجتمع بلا صحافة حرة وبلا إنتخابات وبرلمان حر، ومن هنا فإن العكس قد يكون هو المتواجد والمستمر، أي أن يقوم القطاع العام بتسريب أمواله إلى القطاع الخاص، وحين يصل القطاع الخاص إلى قوة كبرى فإنه يعيد تشكيل التجربة لصالحه.
    (حقق الاقتصاد الكوبي في الفترة الواقعة بين العام 1994 و1999 معدل نمو سنوي يساوي 4.5 % . وفي العام 1995 كان النمو 6.2 %. وفي العام 2000 وصل النمو الاقتصادي إلى 5.6 %. وفي عام 2001 وصل إلى 3%، ولم ينم الاقتصاد أكثر من ذلك حتى الآن)، (18).
    يشير هذا إلى نمو بطيء ومهم وإلى توقف عن التطور اخيراً، فسيطرة الدولة وحجم الاقتصاد ومواده لا تسمح بأكثر من ذلك، وظلت الخدمات الصحية أفضل خدمات صحية على مستوى العالم، وأكبر عدد من الأطباء قياساً للسكان. ولكن بدأت المجانية الكلية تختفي، وبدأت رسوم على بعض الخدمات.
    إن شعارات مختلفة تنمو في المجتمع الكوبي، فالشعارات الاشتراكية ومؤسساتها تخبو، والشعارات الرأسمالية تتصاعد، ولكن نموذج رأسمالية الدولة الوطنية أنتصر ليس على مستوى كوبا بل على مستوى أمريكا اللاتينية التي بدأت بعض بلدانها بإصلاحات عميقة دون أن تتحول الدولة إلى دكتاتور كما في كوبا، وهو ما يشير كذلك إلى أن القارة اللاتينية سوف تصبح سوقاً موحدة ذات خصائص متقاربة، مستقلة عن الهيمنة الأمريكية الشمالية، وسوف تتغلغل الحريات السياسية والفكرية في كوبا أيضاً، ويتشكل نظام جديد مرتكز كذلك على الماضي الثوري.

بقية تجارب رأسماليات الدول في أمريكا اللاتينية

عبر صعود اليسار في أمريكا اللاتينية وإستلام العديد من الأحزاب القومية الاشتراكية واليسارية الديمقراطية عن تنامي حركة التحرر الوطني والتوحد والإصلاحات الاجتماعية في هذه القارة، وهي كلها معانٍ متداخلة معبرة عن تبدلات في هذه القارة.

فمنذ الانفصال عن الاستعمارين الأسباني والبرتغالي والقارة في عملية ديناميكية لإزالة التكوين الإقطاعي الشديد التخلف والجمود، خاصة في ملكية الأرض، ثم واجهت ككل وبصور مختلفة هيمنة الحكومات الأمريكية الشمالية، التي كرست حكم القوى الإقطاعية والكمبرادور وخصصت القارة لإنتاج المواد الخام، وظهرت في خلال ذلك فئاتٌ وسطى واسعة، راحت تطرح رؤى ليبرالية ويسارية عديدة بهدف التغيير الاجتماعي الذي تحقق بأشكالٍ بطيئة ومتضادة، وظهرت تجاربٌ قومية تحررية على أساسٍ استبدادي غالباً وكانت هي أقوى التجارب وما زالت تتمظهرُ حتى في حكومات اليسار الأخيرة.
عبرتْ هذه المضامينُ الاجتماعية القلقة المتتالية عن هواجس مشتركة لدى(اللاتين) في الاستقلال عن هيمنة القارات الأخرى، وعن تكوين قارة متحررة ذات سمات قومية متقاربة، يجذرُ ذلك الأصولُ العرقية التي يؤسسها الهنودُ الحمر المنتشرة في القارة، والأصول القرابية الاستعمارية لشبه الجزيرة الأيبرية، (الأسبانية – البرتغالية)، وهو ما يؤدي إلى إنشطار اجتماعي بين الفلاحين الهنود والأرقاء السابقين، والأقليات البيضاء، التي تشكل غالبية الفئات الوسطى والحكام غالباً، وما يؤسس ذلك الوحدات الوطنية لدى كل شعب، وبمدى تغلغله في عملية الثورة الديمقراطية وحدوث الإصلاحات في الريف وتطور العمال في المدن، وتنامي الصناعات التحويلية غالباً، وهي كلها أمور تخلق تنام للوعي السياسي الديمقراطي.
لم تستطع أمريكا اللاتينية أن تخلق تجربة (إشتراكية) على غرار روسيا والصين، الدولتين الكبريين، تعيد تشكيل التخلف بصور قاسية وسريعة، إلا في كوبا التي عجزت عن ذلك بسبب صغرها وضعف مواردها الاقتصادية وقلت قواها السكانية، وكونها جزيرة مفصولة عن بحر القارة الواسع.
ومن هنا كانت كوبا تمثل هاجساً سياسياً لكل أمريكا اللاتينية وتحريضاً مستمراً على القفزة الاشتراكية المنتظرة وعلى التحرر الناجز والعداء المطلق للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هنا ظهر الرافدان الأساسيان لحركة التغيير في العقد الأخيرمن القرن الماضي وتصاعد حضورهما في بداية هذا القرن، وجاءا من مصادر فكرية واجتماعية متداخلة مركبة معقدة بطبيعة هذه القارة.
كانت التأسيس اليساري القومي الشمولي من الحركات الأولى في القرن الماضي زمن الخمسينيات، وخاصة الحركة (البيرونية)، التي قامت بخلق تغييرات اجتماعية نقلت البلدان اللاتينية درجة جديدة من الصراع الاجتماعي وغدت نسخة مطبقة في بلدان عدة؛ حيث قامت حكومات لاتينية متعددة بتأميم بعض مصادر الإنتاج الرئيسية، ووزعت بعض دخولها على الجمهور الأكثر فقراً، وخلقت بهذا شعبية حماسية للتغيير.
وتمثل هذه الحركات (الاشتراكية) العسكرية والحكومية بداية لصعود رأسمالية الدولة الوطنية، مرتكزة على قيادات قادمة من الطبقات القديمة المسيطرة وتنحو باتجاه تحويل اجتماعي نهضوي يفكك العلاقات الإقطاعية المتحكمة في النسيج الاقتصادي خاصة، ويدعم هذه السياسة العاملون اليدويون والفلاحون بدرجة خاصة، ومن ثم فهي حركات لا تعتمد على تطور عميق في قوى الإنتاج، مما يقود إلى عجوزات مالية وأرتفاع للأسعار وهبوط للأجور، وبالتالي لا تجد هذه الحكومات العسكرية الشمولية، ذات الجمل الثورية الحماسية، آفاقاً كبيرة للتطور، وتسقط بانقلابات مضادة، ويستولي على الحكم ممثلو الطبقات القديمة وممثلو الفئات الوسطى الموالون لهم. وتنتشر في القارة معادة اليسار والشيوعية وتتوسع هيمنة الولايات المتحدة وتكرس الأنظمة الموالية لها، ويصبح اليسار محاصراً في(كوبا) أو مُسقطاً بشكل دموي في (تشيلي) أو مُطارداً يعمل على حروب العصابات في الغابات الكثيفة بكل مآسيها وكوارثها وإنتصاراتها النادرة.
ومع سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت التيارات اليسارية بالأزدهار، فقد سقطت مسألة المعسكرات الدولية المتصارعة، ولم يعد الجمود الاقتصادي والإقطاع الرث بمقبول حتى على المستوى الأمريكي عامة، كما أن التيارات اليسارية خلال العقود السابقة كانت قد أنتشرت في مراكز العمل والإنتاج، وغدت ذات جماهيرية في مناطق الفقر والهنود، كما توسعت الحريات السياسية التي ساعدت هذه القوى على الأنتشار بصورة أكبر، مع تخلي الكثير منها عن أفكارها القديمة؛ أفكار حرب العصابات، و(الماركسية – اللينينية) ورؤى الدولة الشمولية وبدأ إنتاج فكر ماركسي ديمقراطي يستحضر تجارب أوربا الشرقية والرؤى الديمقراطية الإنسانية الغربية خاصة تجارب الاشتراكية الديمقراطية.
لكن مستوى هذا التمثل مختلف، فقد أبرزت تجارب صعود اليسار الرافدين سابقي الذكر، في مؤسسات الحكم، وعكست نهجين مختلفين في إدارة الاقتصاد وفي العلاقة مع الجمهور وفي تشكيل علاقة دولية ولاتينية.
يعبر مصطلحُ(اللاتين) عموماً عن الجذور الدينية الكاثوليكية، وهو أمرٌ يشيرُ للسيرورة التاريخية المغايرة لأمريكا الشمالية، حيث هناك قاد البروستانت الأنكليز والهولنديين والألمان تكوين القارة، فصعّدوا العلاقات الرأسمالية بقوة، خاصة إنها ليست ذات إرث إقطاعي، وغدت موحدة كذلك، في حين حمل اللاتين تراثاً ضخماً من الإقطاع، في قارةٍ مفككة، لم يذبحوا فيها الهنودَ كما فعلوا في الشمال، وهذه الأنسنة والمعاداة للرأسمالية وتحول الشمال إلى مسيطر ومشكل للرأسمالية، وهياج الوحدة القومية – الأممية اللاتينية، حملَ أرثاً (يسارياً) راح يتمظهرُ في كل مرحلة بأشكال.
عبّر الرافدان السياسيان المهيمنان على حكومات أمريكا اللاتينية اليسارية عن عقليتين مختلفتين، عن يسار قديم لم يتشرب الوعي الديمقراطي، وتيار آخر بدأ يدرك نسبية اليسار ومرحلية حكمه، وموقعه في تنشيط العمليات الاقتصادية الرأسمالية والدفاع كذلك عن مصالح الأغلبية الشعبية.
هذه الجدلية في تكوين هذا اليسار الجديد الحاكم لا تعني انتفاء النواقص، ولا التناقضات الاجتماعية، بين أن يكون حاكما وينشط علاقات إنتاج رأسمالية ويدعم قطاعاً عاماً ويعمل على زيادة الإنتاجية، بدلاً من نثر النقود والمعونات على الفقراء، وهو أمرٌ يثير اقصى اليسار، ويعتبره خيانة فيشكلُ يساراً مصارعاً منافساً!
تمثلت تيارات اليسار الديمقراطي في التجارب التالية:
(حزب العمال الموحد” بزعامة (لولا)، عامل الصلب والمناضل العمالى فى البرازيل، و”الحزب الاشتراكى الديمقراطى” بزعامة ريكاردو لاجوس ثم ميشال باشليه (ناشطة حقوق الإنسان) فى تشيلى، و”الحزب الاشتراكى الديمقراطى” فى أورجواى بزعامة تابارى فازكويز (المقاتل السابق فى حركة توباكوموراس). وهذه الأحزاب تتولى مقاليد السلطة فى بلادها حالياً. كما تشهد نيكاراجوا صعوداً متسارعاً لتحالفات يسارية من هذا النوع وإن كانت مازالت فى المعارضة حتى الآن ومرشحة بقوة لتولى زمام السلطة.)، (19).
إن ظهور هذه الأحزاب الحديثة وتحولها عن اليسار القديم ونشؤها من مناضلي حرب العصابات والمثقفين الاشتراكيين الديمقراطيين وطلوعها من مواقع الإنتاج والأرياف، لم يكن بدون أفكار إشتراكية جديدة ديمقراطية، تلاقحت مع النشاط العمالي، وغدت ذات أشكال ديمقراطية في تكوين مؤسساتها السياسية المعتمدة على غياب المركزية المتصلبة، وتعددية المنابر وتكوين وحدة سياسية عملية مؤثرة في الواقع، أي أنها راحت تعمل على فكر سياسي عملي في خدمة الجمهور وفي العلاقة الديمقراطية معه، وكان وصولها للسلطة ليس إنقطاعاً عن تلك العلاقات الجماهيرية، وعبر خلق تحولات لها، لا تضربُ كذلك قوانين الاقتصاد وترعب الشركات الخاصة، وهي تقدم أيضاً تغييرات يحسها الناس في حياتهم المعيشية، بدون الأدعاءات بالقضاء على الاستغلال.
وهناك اليسار القديم المتمسك بثوابت الصراع المطلق مع الولايات المتحدة، وتكوين تحالفات ضدها، وهو يعبر عن نمط تجارب الرأسماليات الحكومية التي كان مشروعها الأول إزالة الرأسمالية وإلغاء الطبقات والاستغلال، وتجسد ذلك في كوبا، وكما رأينا في موضوع سابق، كيف تجمدت التجربة وتحولت نحو نموذج مغاير، ونضيف هنا بأن التجربة الكوبية هي في قلب تجارب النضال القديمة والجديدة في أمريكا الجنوبية، فتجارب اليسار الجديد ترفض حصارها وتقدم المعونات لها رغم إختلافها الفكري عنها، ورفضها لطريقتها السياسية، في حين أن تجارب مثل التجربة الفنزويلية بقيادة شافيز تعتبرها هي النموذج وتقدم لها مساعدات كبيرة غدت مكان المساعدات السوفيتية السابقة.
يقدم لنا أحد الصحفيين المطلعين على تجارب الصراع بين نمطي اليسار ملاحظات نارية في تصوير هذا الصراع، ويكشف المحور اليساري الصاعد وخصمه الرئيسي، فقد برزت:
(مجموعة ثلاثية جديدة من زعماء أمريكا اللاتينية ـ الرئيس الكولومبي ألفارو أوريبي، والبرازيلي لويز إناسيو لولا داسيلفا، والمكسيكي فيليبي كالديرون ـ العازمين على القضاء على أباطرة المخدرات والحركات العصابية المسببة لزعزعة الاستقرار في أمريكا اللاتينية، فضلاً عن عزل زعيم الدهماء مُـحدث النعمة، الرئيس الفنزويلي هيوغو شافيز.)، (20).
إن السياسات الداخلية المعتمدة على الحكم البرلماني النزيه والقوانين التي تدعم نمو الرأسمالين العام والخاص، وبالتالي تقوم بتطوير الدخول الوطنية، تشكل في السياسة الخارجية سياسة تعاون سلمية غير مؤدلجة وغير مواجهة، بغرض تخفيف عملية التسلح والعسكرة وتوجيه الدخول نحو التنمية بصورة أساسية. وهذه تحتاج إلى علاقات حسنة مع كافة الدول بما فيها حكومات الولايات المتحدة المختلفة.
لكن مثل هذه السياسة تقابل بالرفض من قبل حكومات وتنظيمات يسارية أخرى، لا ترى نفسها إلا في مواقع المجابهة.
هكذا فإن رئيس كولومبيا عليه أن يواجه حرب العصابات التي يقودها (ثوار ماركسيون) وتجار مخدرات، ويتعاون مع الدول الأخرى ليضع حداً لمثل هذه التجاوزات.
(لقد بات محور أوريبي – لولا – كالديرون يشكل نفوذاً جغرافياً استراتيجياً لأن الأمور بدأت في التغيير في كوبا منذ سلَّم فيدل كاسترو الرئاسة رسمياً لأخيه راؤول. وأصبحت أمريكا اللاتينية مهووسة بهذا التحول، ويبدو أن أوريبي وكالديرون ولولا عازمون على عدم ترك الزمام لشافيز)، (21).
إن محور رؤوساء الجمهوريات هؤلاء يعبر عن صعود تلك العقليات الجديدة في اليسار اللاتيني، الديمقراطية في علاقاتها بالجمهور ودرايتها بقوانين التشكيلة الرأسمالية في لحظة صعودها الواسع الراهن وتناقضاتها المعقدة في تلك القارة، بما يعزز نموها ويبدل العلاقات الإقطاعية والأبوية والعشوائية في توزيع الدخول ويحافظ على معيشة الأغلبية، ولكنه في أول الطريق، فما تلبث قوى اليمين الليبرالي أن تمسك بزمام السلطات في وقت مغاير، لكن هذه المرحلة تتوجه للصراع مع اليسار الطفولي والدكتاتوري المتلفع بالرايات القومية والمعاداة الشكلية للرأسمالية.
لعل شافيز رئيس جمهورية فنزويلا يمثل نمط اليسار القديم الفاشل في فهم العصر والتحولات والمسبب للكثير من المشكلات لبلده ولمنطقته.
هناك إحتفاء به في الصحافة العربية السائدة بسبب إهتمامها باللغة الخطابية الانفعالية والفارغة في محاربة الأمبريالية ولبقاء الأنظمة التقليدية الدكتاتورية في منطقتنا، في حين إنها لغة تسبب في فنزويلا وفي أمريكا الجنوبية المتاعب للشعوب.
فبدلاً من مساعدة القيادة الجديدة في كوبا للتخلص من نهج الاعتماد على الغير والدول الأخرى، بإعتمادها على شعبها وإجراء تغييرات عميقة في النظام تبعدها عن هذا التسول التاريخي، يصر شافيز على بقائها بهذه الصورة الجامدة، وعلى غياب الديمقراطية والتعددية وحرية الصحافة، باعتبارها أحد المراكز المناؤة لأمريكا ولهزيمتها، وهو في سبيل ذلك يهدر أموالاً كثيرة ويصّعب وضع شعبه. لكن صعوباتها ومشكلاتها الاقتصادية كبيرة:
(وفي وقت سابق من هذا العام (2008) وافق وزير خارجية المكسيك على إعادة جدولة الدين الذي بلغ 400 مليون دولار أمريكي الذي تخلفت كوبا عن سداده.)، (22).
يجري الباحث المصري عمرو عبدالرحمن، مقارنة عميقة بالأرقام بين نظامي شافيز والنظام المكسيكي بالصورة التالية:
(النظرة السريعة تشير إلى تدهور مؤشرات النمو الاقتصادى والتنمية البشرية منذ مجيئ شافيز للسلطة في 1999 بشكل متواصل. وهو ما يتضح من مقارنة تلك المؤشرات مع نظيرتها فى المكسيك، التى شهدت واحدة من أدنى معدلات النمو فى القارة خلال الفترة ذاتها. فخلال السنوات السبع الماضية نما الاقتصاد المكسيكى بمعدل إجمالى 17.5% بينما لم يحقق الاقتصاد الفنزويلى أى نمو على الإطلاق. وفى الفترة بين 1997 و2003 نما الناتج المحلى الإجمالى المكسيكى بنسبة 9.5% على مدى الفترة، بينما انكمش الاقتصاد الفنزويلى بمعدل 45%. وفى المدة بين 1998 و2005 فقد البيزو المكسيكى 16% من قيمته بينما هبطت قيمة البوليفار الفنزويلى بنسبة 292%. وبين عامى 1998 و2004 تقلص عدد الأسر المكسيكية التى تعيش فى فقر مدقع بنسبة 49% فى حين ازداد عدد الأسر التى تعيش فى فقر مدقع فى فنزويلا فى ذات الفترة بنسبة 4.5%. أما من حيث معدل التضخم، فقد قدر بـ3.3% فى المكسيك فى عام 2005 فى حين بلغ نظيره فى فنزويلا 16% فى نفس العام. ولم تمنع هذه الأزمة المالية المستحكمة شافيز من التوسع فى عقد صفقات السلاح مع كل من روسيا وأسبانيا.).
يتبلور النهجان في كون النهج اليساري الديمقراطي لا يضحى بالحريات الاقتصادية والثقافية والسياسية من أجل التنمية، بل يمزج بينهما في توليفة صعبة، تجعل الحكومات من هذا النوع معرضة لمناورات أقصى اليمين وأقصى اليسار، ومن أجل تحقيق خططها في التنمية تجعل الجمهور مشاركاً ومتحملاً المسئولية وتجعل خططها وأعمالها مكشوفة للبرلمانات والصحافة، ولكن عبر هذا يجب أن تحقق ما وعدت به الناخبين من تطور معيشي ونمو في مداخيل السكان وتقليص للبطالة.
أما حكومات اليسار القديم فهي تفرض سيطرة مغايرة على البرلمان والصحافة، وتعود جذور ذلك للبيرونية وهي النزعة السياسية القومية الشمولية والمعادية كذلك للاستعمار والمؤيدة للتأميمات على غرار التجارب العربية(القومية)، ولم يتورع بيرون عن قمع الجمهور وخاصة العمال والقيام بمجازر.
وهذه النزعة على الطريقة الكوبية لا تقبل بالمعارضات، وتقود في نهاية المطاف إلى العجز الاقتصادي لهذه الأنظمة.
(أما إيفو موراليس فى بوليفيا فهو قادم من خلفية شعبوية قحة تدافع عن زراعة نبات الكوكا السام والذى يستخدم فى إنتاج الكوكايين تحت دعوى الخصوصية الثقافية لشعب الإيمارا الهندى الأحمر!)، (23).
مثل هذه الأنظمة عرفناها في منطقتنا العربية وقادت وتقود لكوارث جمة، لكن عبر شعارات فضفاضة عن القومية ومحاربة الأمبريالية.
لكنها تقوي التبعية باستنزاف المصادر الاقتصادية على السلاح والبيروقراطيات والمساعدات غير المبررة لأنظمة وحركات أخرى إستبدادية مثلها.
تتعدد سياسات اليسار الديمقراطي الحاكم في أمريكا الجنوبية، وأغلبها لا يتصادم مع مؤسسات النقد والأمم المتحدة والشركات الكبرى ويحاول تطوير الاقتصاد وحياة الناس من خلال أدوات أخرى لا تلغي عمل الحكومات الليبرالية السابقة، على غرار سياسة لولا رئيس البرازيل:
(ومع وصوله للسلطة استطاع من خلال هذه السياسات تحقيق فائض سنوى فى الموازنة العامة بالرغم من تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد البرازيلى. ومن جهة أخرى، استطاع حزب العمال البرازيلى انتهاج سياسات اجتماعية مبدعة مثل التمويل الاجتماعى للعائلات حسب ارتفاع مستوى تعليم أبنائها وهى المبادرات التى كان حجر الزاوية فيها إدماج مؤسسات المجتمع المدنى. المحصلة كانت قفزة نوعية فى مؤشرات التنمية الاجتماعية مثل التعليم والصحة وخلافه)، (24).
تنوع اليسار الحاكم لو تم بشكل رفاقي يكون أمراً مفيداً، لكن ذلك لا يحدث وتصر وجهات النظر الشمولية فيه على إفشال التجارب الأخرى، ومهاجمتها، مما يقوض سياسات التعاون المشتركة بينها، ويجعل توحد أمريكا الجنوبية على أساس سياسات تقدمية ديمقراطية بحاجة لعقود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
(1) توفى المؤلف ولم نعرف من اين استمد المصدر!
(2) انظر الهامش (1) .
(3) انظر الهامش (1) .
(4):( عن مقالة (روزا لكسمبرغ في مواجهة لينين، فؤاد النمري، موقع إيلاف).
(5): (الخبير الروسي الاقتصادي (ستانليسلاف مينشكوف) : فقرة من كتابه تشريح الرأسمالية الروسية).
(6)(المصدر السابق).
(7): (عادل سمارة (السمينار الفكري الذي عُقد في بروكسل حول التجارب الشيوعية سنة 1995).
(8): (السابق).
(9): (السابق).
(10): (السابق )
(11):(فيرنر– سين ، مدير معهد Ifo للبحوث الاقتصادية في ميونخ).
(12): (من كلمة السفير ووسيكه في مؤتمر ” الصعود الصيني” الذي أقامه مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة).
(13):(من مقالة للسيد محمود محمد ياسين، موقع الحوار المتمدن.).
(14):(من (موقع المعرفة، تطورات الاقتصاد الهندي، بقلم عبدالرحمن عبدالعال).
(15):(السابق).
(16):(السابق).
(17) (مسعد عربيد، مستقبل الاشتراكية في كوبا، الحوار المتمدن).
(18):(السابق).
(19):(عمر عبدالرحمن، موقع البوصلة).
(20):( موقع الصحيفة الاقتصادية الإلكترونية).
(21):(السابق).
(22):(السابق).
(23): (موقع البوصلة).
(24) : (السابق).

الفصل الثالث

الرأسماليات الحكومية العربية والإسلامية

الرأسمالية الحكومية المصرية

كانت للتدخلاتِ الحكومية في الاقتصاد جذورٌ موغلة في القدم في مصر، وفي العصرِ الحديثِ ظهرتْ من خلالِ محمد علي، وتتوجتْ في العهد الناصري، الذي شكلَ قطاعاً عاماً كبيراً.

(وكانت أبرز هذه السياسات قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، والاتجاه إلى التصنيع لاستيعابِ مزيدٍ من العمالة وإنشاء “المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي” أواخر العام نفسه، وبدء الاستثمار الحكومي المباشر من خلاله في شركة الحديد والصلب عام 1954، ثم تأميم قناة السويس عام 1956. ومع تزايد تدخل الدولة بدأ الاتجاه للتخطيط عبر إنشاء لجنة التخطيط القومي عام 1957 بدلاً من مجلس الإنتاج القومي.)، (1).
سيطرة الدولة على القطاع الأكبر من الاقتصاد قادتْ إلى تحولاتٍ اقتصادية واجتماعية كبيرة، وحدثَ نموٌ بمعدلاتٍ متفوقة، (وقد أسفرت تلك المرحلة عن تحقيق معدل نمو بلغ 38% خلال الخطة الخمسية)، (2).
إن توسع قطاعات الدولة كما كان لها دورها في تشكيل البنية الاقتصادية التصنيعية الهامة كان له سلبياته على المدى البعيد كأي قطاع رأسمالي حكومي شمولي، لا تصحبهُ رقابة شعبية ومشاركة للعمال في الإدارة والمراقبة، مثلما تغيّبُ المنظمات السياسية الشعبية والبورجوازية.
يشيرُ الباحثُ المصري عادل غنيم في مؤلفه “رأسمالية الدولة التابعة فى مصر” إلى مأزقِ استراتيجيةِ الاستثمارِ الحكومى الموسعِ فى السوق الرأسمالى. ففى هذا المؤَلف يشيرُ غنيم الى اتجاه البورجوازية المصرية الى التوسع فى الاستثمار الحكومى لصالح مشروعها الدولتى والذى لاقى مساندة من الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى نتاج اعتبارات أيديولوجية وسياسية متعددة. ومع تشكلِ بيرواقرطيةٍ متنفذة من رحم هذه المؤسسات تسعى الى الانتقال لصفوف الرأسمالية كان النهب المنظم أو ما يُطلق عليه فى الإعلام سياسات التخسير هو السبيل الوحيد أمام هذه الشريحة للانتقال لصفوف البورجوازية. ويورد غنيم أمثلة شيقة جداً حول وقوف هذه الشرائح بحزم أمام أى محاولة لإصلاح القطاع العام أو حتى ضخ استثمارات جديدة فى منشآته إذ تشكل أى محاولة لإصلاح هذه المنشآت إخلالاً بالشرط الموضوعى لهيمنتها السياسية والأيديولوجية. وفى المقابل لم يكن أمام التحالف الإجتماعى الحاكم فى هذه الحقبة إلا التوسع فى سياسة المنح والاقتراض من الخارج للابقاء على نفس المستوى من الانفاق الإجتماعى فى حين بقي قطاعُ الدولة خرباً ولم تكن استثمارات القطاع الخاص قد نمت الى الحد الكافى الذى يسمح لها بلعب دور محورى فى عملية التنمية. هذا ما أطلق عليه غنيم رأسمالية الدولة التابعة: نظام للهيمنة السياسية والأيديولوجية لبيروقراطية الدولة العسكرية والأمنية القائم على نهب القطاع العام والتوسع فى سياسة المعونات والديون فى ذات الوقت.)، (3).
إن الفئة البورجوازية الصغيرة العسكرية التي استلمت الحكم في الثورة تصاعد نفوذها وثروتها حتى جاء زمنُ الانفتاح لتغدو فئات وسطى كبيرة عمقتْ النموَ الرأسماليَّ الخاص ووسعتهُ إلى حدٍ كبير لكن عن طريق الفساد السياسي.
وهي إذ حافطتْ على القطاع العام في بعضِ الجوانب وخاصة في مؤسساتِ الجيش والأمن والإدارة العامة والقطاعات التصنيعية الكبيرة، فإنها جعلتهُ مصدراً لبقاء السلطة ولضخ الرساميل إليها، عبر مختلف المشروعات الحقيقية أو الزائفة، خاصة في زمن ما بعد عبدالناصر.
يتساءلُ باحثٌ مصري عن دور الأجهزة الحكومية المتدخلة في الاقتصاد بالصورة التالية:
(• بماذا نسمي تآكل 1.2 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة والذهاب لاستثمار مليارات الجنيهات لاستصلاح أراضى صحراوية؟!
• بماذا نسمي تراجع الإنتاج المصري من القطن وقصب السكر وانعكاس ذلك علي صناعتى الغزل والنسيج والسكر وكذلك علي احتياجات المصريين من هذه المنتجات؟!
• بماذا نسمي تصفية أصول إنتاجية مملوكة للدولة وبيعها كمعدات خردة وأرض فضاء؟ كما تجاوز عدد المصانع المتوقفة عن الإنتاج من القطاع الخاص 800 مصنع حيث أغلق 400 مصنع بمدينة العاشر من رمضان، و151 مصنع بمدينة السادس من أكتوبر، و170 مصنعا بمدينة برج العرب. وكشفَ تقريرٌ صادرٌ عن جمعية المستثمرين بمدينة السادس من أكتوبر أن 29% من المصانع بالمدينة، أغلقت أبوابها بسبب التمويل و11% بسبب الارتفاع الذي شهدته أسعار الخامات.
• بماذا نسمي إنفاق مليارات الجنيهات على قري سياحية ومشروعات عقارية مثل مدن الأشباح بينما انتشرت العشوائيات لتضم 17‏ مليون شخص يعيشون في‏1109‏ منطقة عشوائية في‏20‏ محافظة.
• ماذا يعنى تهريب أكثر من 200 مليون دولار إلي خارج مصر بينما نتسول استثمارات نقدم لها كل التسهيلات ولا تأتي؟!
• ماذا يعنى دخول بنوك القطاع العام في شراكة مع البنوك الأجنبية طوال الثمانينات والتسعينات ثم بيع حصتها بأبخس الأسعار ؟!) (4).
كانت الرأسمالية الحكومية إذن هي بوابة إنتاج كبيرة للرأسمالية الخاصة، وفي الجانب الأول يتفق ذلك مع ظهور الرأسماليات الحكومية الشرقية، التي سُميت بأنها التجارب الاشتراكية وفي هذا الزمن أعطتْ الجمهورَ بعضَ الحقوق، وهو أمرٌ ضروري لثبيت سيطرتها، وتوسيع شعبيتها، وبطبيعة الحال فإن زمن توسع الرأسمالية الخاصة وتحول الرأسمالية الحكومية قيادة لها ومُشكِلة لإياها يكـّونُ هذا الخيلط المرعبَ بين رأسمالية حكومية فاسدة ورأسمالية خاصة تابعة لها. ولكن تغدو الرأسمالية الخاصة لأرباب العمل المستقلين دائماً محل تهميش أو ضغوط وخسائر بطبيعة الحال.
والرأسمالية الحكومية بهذا تجرُ مخلفات الإقطاع معها هنا، وهي سيطرة الوعي الديني المحافظ، وتخلف النساء واللامساواة بين المواطنين، وتشكيل بورجوازية جبانة ذات ذهنية محافظة تابعة للسلطة، خاصة في الأقسام العليا المتواشجة مع عمالقة القطاع العام. فيما تواصلُ بعضُ الفئاتِ الوسطى المعارضة الديمقراطية.
على المستوى السياسي فإن حزبَ الحكومة يبقى هو حزبُ الحكومة مهما اختلفتْ اليافطاتُ التي يرفعُها كالاتحاد القومي فالاتحاد الاشتراكي فالحزب الوطني، وهذا يختلفُ عما جرى في الرأسمالية الحكومية الروسية حيث انفصل الحزبُ الشيوعي عن جهاز الدولة، وغادرَ إمتيازاتها لكونه يمتلكُ تاريخاً نضالياً عريقاً وقيادات صلبة، في حين تشكلَّ للمافيا حزبُ السلطة الخاص، الذي وصلَ للحكم عبر الانتخابات في زمنٍ قياسي! وهذا يدلُ على قوة العناصر التقدمية في روسيا حتى في جهاز حكم فاسد، في حين لم يحدث ذلك في مصر. وكان آخر إطلالة لهذه العناصر فيما عرُف بالتنظيم الطليعي السري في الاتحاد الاشتراكي، الذي ذهب العديد من أفراده للسجن وذهب هو مع الريح.
وهذه السلطة الحكومية الرأسمالية – العامة – الخاصة – المتضافرة مع بقايا الإقطاع الكبيرة في النظام المصري والنظام العربي الإسلامي عامة، يجعل اليساريين المصريين يتساءلون عن إمكانية الفعل النضالي تجاه مثل هذه البنية المشوهة من كل جانب، هل يجري تغييرها من خلال الحفاظ على بنية الرأسمالية وتطويرها أم يجري نسفها وإحلال رأسمالية (حرة) مكانها ويتم فيها إلغاء القطاع العام كلية؟
هناك العديد من الاختلافات والرؤى المتعددة بهذا الصدد.
لقد أخذت بعضُ قوى اليسار المصري تستوعب العملية المرَكـَّبة في تشكلِ الرأسماليةِ الحكومية الشرقية، فلافتات الاشتراكية الوطنية المؤَّدلجة تظهرُ باعتبارِها مراحل لتطور رأسمالية الدولة، وتجاه وضع ومصير هذه الرأسمالية تتباين الآراء.
إن هذا المصير يتعلق بمدى تطور الرأسمالية الخاصة الليبرالية المستقلة عن شمولية الدولة، وبمدى تقدم وضع الطبقة العاملة، ويتداخل وضعا العمال والبورجوازية الخاصة المستقلة تعاوناً وصراعاً. كذلك يتداخلُ هذا كله بعملياتِ التغيير لرأسمالية الدولة الشمولية باتجاه رأسمالية الدولة الديمقراطية. فلا بد من الحفاظ على الصناعات الكبرى العائدة للملكية العامة ومراقبتها وتغيير طابعها البيروقراطي. إنها عملية مركبة ولكن ثمة اتجاهات سياسية عديدة تأخذها بشكلٍ جزئي، وبعدمِ فهم السيرورة التاريخية العامة لهذا النمط الرأسمالي الشرقي من الرأسمالية العالمية.
ويظلُ حجمُ الطبقة العاملة ودورها هنا أساسياً، وقد تطور الوعي التقدمي المصري هنا كثيراً في رصد تاريخ هذه الطبقة ومستوياتها وأقسامها وعبر الأرقام، منذ زمن بعيد.
(بلغ إجمالي قوة العمل فى مصر في أول يناير من العام الحالي ما يزيد عن‏20‏ مليونا‏ًً، وبلغ عدد المشتغلين في القطاع الحكومي نحو ‏5 ‏ ملايين، ونسبتهم من إجمالى عدد العاملين بأجر غير معرضة للزيادة فى ضوء سياسة تقليص التعيينات بالحكومة.)، (5).
إن تقلص عدد العاملين بأجر داخل الأجهزة الحكومية وتصاعدها في خارج هذه الأجهزة يشيرُ عموماً إلى تراجع هيمنة الرأسمالية الحكومية وتفكك هيمنتها السياسية الاقتصادية، بشكلٍ محدود، وتصاعد دور الرأسمالية الخاصة، ولكن العمال خارج هذه الأجهزة متنوعي الارتباطات بالرأسمالية الخاصة:
(وفي القطاع الخاص داخل المنشئات‏ يبلغ عدد العاملين المُؤّمن عليهم نحو‏5‏ ملايين وفق الإحصائيات الرسمية، ونسبتهم تتزايد مع تصاعد كل من عمليات الخصخصة والاستثمار الخاص. والحقيقة أن الكثير من العمالة المنظمة فى القطاع الخاص غير مؤّمن عليها، ومن ثم لا يتضح حجمها الحقيقى من الإحصائيات الرسمية.).
(وينقسم العاملون بأجر حسب القطاعات التى يعملون بها إلى 50% يعملون فى التجارة والخدمات، و19% يعملون فى الصناعة، و31% يعملون فى الزراعة‏.)، (6). (السابق).
إن تبعثر الطبقة العاملة وضعف تكوينها الصناعي، ووجود حشود تحتية كبيرة لها متقاربة مع (قاع) البروليتاريا، إضافة لهيمنة النقابات الحكومية وسيطرة الوعي الديني المحافظ عليها، وهي أمورٌ كلها تعكس الجذور الريفية لهذه الطبقة و هيمنة الاقتصاد الخدماتي عليها، وغيبة التكوينات النسائية الكبيرة عنها، وبالتالي هامشيتها السياسية.
إنها في مرحلة النضال الديمقراطي العام وطنياً، فهي نقابياً تسعى لتغيير أوضاعها المهنية داخل المؤسسات الحكومية والخاصة، وهو أمرٌ يتجلى في إضرابات بعض قطاعاتها، إنه أمرٌ نقابي عمالي يتضافر مع حركة أرباب العمل للخروج من هيمنة الرأسمالية الحكومية، لتوسع وحريات الرأسمالية الخاصة.
على المستوى السياسي يتجسدُ ذلك في المعارضة المشتركة لحزب الدولة المسيطر خلال نصف قرن، والذي يعكس تلاوين الرأسمالية الحكومية في عدة عهود، كما أن قوة الأخوان المسلمين تعكس هي الأخرى محافظة وتخلف الرأسمالية الخاصة وجذورها الريفية، وكذلك تنامي شرائح منها عبر الفساد السياسي.
وفي حين تتقدم علاقاتُ الرأسمالية الحديثة داخل الريف المصري، حيث يبين ذلك توسع حضور العمال العاملين بأجر، فإن الرأسمالية الخاصة الصناعية ضعيفة.
إن هذه الظاهرات تعكس سببيات عامة مهمة، مثل إن الفساد السياسي يبعثرُ فوائضَ كثيرة خارج عملية التجديد الموسع للصناعات الوطنية والقوى العاملة، مثله مثل المحافظة الاجتماعية والسياسية الدينية التي تعرقلُ انخراطَ النساء في الصناعة، فيما تتقدمُ الأريافُ و(المدن) الريفية في المدن، وتتضخم الأجهزة الحكومية بالأعداد غير العاملة.
إن قوانين الرأسمالية الحكومية الشرقية الصناعية الشاملة على غرار روسيا والصين لم تـُستكملْ في مصر الناصرية، وقوانين الرأسمالية الخاصة المستقلة على غرار اليابان لم تـُستكمل هي الأخرى في زمن ما بعد عبدالناصر.
ولهذا فإن الحديثَ عن مقاربةِ مصر لنمور آسيا في أقصى تصور لحداثة رأسمالية مصرية، أو بمعنى عملية هدم القطاع العام وبالبدء من رأسمالية مستقلة(حرة تماماً)، برنامجٌ غير ممكنٍ بسببِ السيطرة الطويلة المتجذرة لقطاع الدولة، وفكرياً يتجسدُ ذلك بالواحدية الفكرية الدينية اللاعقلانية، فلا بد من الانتقال لرأسمالية الدولة الديمقراطية، على مراحل، وبتوجيه الفوائض الاقتصادية والقوى العاملة للصناعات الحديثة العامة والخاصة المتطورة بشكل رئيسي، وهذا يتطلب محاربة الفسادين الاقتصادي والسياسي الحكوميين، وبتحالفات ديمقراطية تقدمية وليبرالية واسعة لتنفيذ البرنامج التحديثي السابق الذكر.
إن هدمَ القطاعِ العام أو القفزة نحو الحكم الاشتراكي، شعاران كلاهما يعبران عن عدم فهم قوانين التطور الاقتصادية، فالأمرُ يتطلبُ تقوية القطاع العام ومراقبته وإخضاعه للديمقراطية، مثلما يتطلب الأمر التعاون الواسع مع الرأسمالية الخاصة المتوجهة لتحديث المجتمع وتصنيعه وديمقراطيته.
تتم رؤية التطور في مصر لدى بعض وجهات النظر اليسارية في تضاد لا يقبل هذا الجمع:
هل تجري عملية (تعبئة عمال القطاع العام للإبقاء على منشآتهم خاسرة ويتحملوا هم وأبنائهم للجيل الثالث على الأقل خسارتها مع المطالبة البائسة باستقلالية تنظيمهم النقابى فى مواجهة طبقة تعتمد فى سلطتها على هذا القطاع العام نفسه؟ أم القبول بخصخصة هذا القطاع مع النضال من أجل شفافية هذه العملية وضمان حقوق العاملين واستقلالية التنظيم النقابى والتى ستتحول الى مطالب منطقية ومشروعة فى أى ديمقراطية بورجوازية أظن أننا على أعتاب الولوج اليها قريباً؟)، (7).
إن خصخصة هذا القطاع بشكل كلي صعبة كما أنها مضادة للتطور الاستقلالي الوطني الاقتصادي، وهي تلقي البلد في أحضان الشركات الأجنبية، وهذا لا يمنع من النضال من أجل ديمقراطية هذا القطاع، وداخل النضال الديمقراطي الوطني عامة، لكن وجود مرتكزات اقتصادية عامة إستقلالية والسيطرة على فوضى الاقتصاد الخاص، يجعل القوى الشعبية ذات حضور أكبر في (الديمقرطية البورجوزاية القادمة).

الرأسمالية الحكومية الإيرانية

دون تراث ديمقراطي طويل في البلدان الشرقية لا تستطيع ملكية الدولة إلا أن تتحول إلى رأسمالية حكومية شمولية.

هناك الكثير من الآراء والمناقشات حول الثورة الإيرانية وأسباب تحولها لنظام ديني شمولي بدلاً من أن تكون حتى نظاماً ليبرالياً ديمقراطياً.
لقد أسس الشاه دكتاتورية الحكم وقطاع الدولة الاقتصادي الكبير، الذي تغدو فيه ملكية النفط الحكومية أداة السيطرة الكبيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن دينامية الثورة تعود للجماهير الشعبية التي شاركت فيها، لكن القوى السياسية الليبرالية واليسارية لم تفهم قوانين الأنظمة الحكومية الرأسمالية في الشرق. فصعودُ الدولة ذات القوة الكلية في المجتمع لا يمكن مقارنته بتطور الصراعات الاجتماعية في الغرب.
لم ينفصل النظام الملكي السابق عن المحافظة الدينية، وتجسيد القومية الفارسية، فجاءَ النظامُ الديني ليكمل ذلك التاريخ.
ورغم منطلقات الحزب البلشفي في روسيا، واختلافها عن أفكار حزب الجمهورية الإيرانية كثيراً، لكن كان تتويج النظامين في توليفة واحدة: هي دكتاتورية الدولة وهيمنتها على القطاع الاقتصادي الأكبر، ثم إنتاج بورجوازية (سوداء) من داخل مؤسسات النظام، وإذا تأخر ظهورها في إيران فإنها سوفَ تظهرُ لاحقاً.
(كان الضعف فى حركة العمال جزئياً نتيجة لعوامل موضوعية، فكان هناك أنقسام داخل الطبقة العاملة بين أولئك العاملين فى القطاع الحديث فى المصانع الكبيرة وهؤلاء العاملين فى القطاعات التقليدية فى الورش الصغيرة (والتى معظمها كانت تـُدار من أصحابها أو أعضاء العائلة). وكانت المناطق التى يسكنها العمالُ غالباً يسودها عددياً القطاعات البائسة من البورجوازية الصغيرة، فقد كان يوجد 750 الف تاجر ومن الطبقة الوسطى، وتجار صغار، فى طهران فى 1980 فى مقابل 400 الف عامل فى المؤسسات الصناعية الكبيرة. وكانت أعداد كبيرة جداً من العمال جديدة على الصناعة ولديهم تراث ضئيل من الصراع الصناعى – 80% منهم كانوا من أصول ريفية وكل عام تغرقُ الاحياءُ بحوالى 330 الف من الفلاحين السابقين، وكان ثلثهم فقط متعلماً ولذلك كان قادراً على قراءة الاعلام اليسارى، برغم أن 80% كانوا يمتلكون جهاز تليفزيونات. وأخيراً كان حجم القمع فى ظل الشاه يعنى أن عدد المناضلين الموجودين فى أماكن العمل كان قليلا جداً، (8).
إن التدفق الريفي للمدن هو عامل مهم في نشر الإيديولوجية الدينية المحافظة لكنه ليس هو السبب المحوري، فالبنية الاجتماعية بنية إقطاعية قديمة، والفهم المذهبي المحافظ هو نتيجة طويلة لسيطرة الإقطاع على إنتاج الإسلام، وهزيمة النزعات الديمقراطية الأولى، ولكن ذلك يتبدى بصورة أكبر مع هيمنة الأجنحة الريفية على عملية الإنتاج هذه، وهي الأشد محافظة، ومن هنا فهذا الفهم موجود في الأحزاب اليمينية وكذلك (اليسارية).
فنظراً لعدم وجود فئات متوسطة إيرانية مستقلة على مدى التاريخ السابق، إلا من لحظات ثقافية صوفية شعبية انتقادية، ومن نزعة تحررية لبعض الشخصيات الفكرية والأدبية، فإن الفهم الإقطاعي المحافظ سيطر على الحياة بكل جوانبها وبتاريخها السابق، وتقوم الدولُ ذات الملكية المركزية بإدامة هذا التراث، في لحظات تشكيل جهاز الدولة وملكياته المختلفة، إلى مستوى معين من تطور قوى الإنتاج، ولهذا وجدنا البلشفية تتصدع في زمن، كما تتصدع الماوية في زمن آخر، فلإيران البيروقراطية الدينية لحظة تصدعها القادمة، من داخل جهازها نفسه.
إن المظلة الدينية التقليدية تظلل الجميع، ولهذا ليس وجود قوى عاملة ثورية كافٍ بحد ذاته، ما لم تكن ثمة قوى رأسمالية خاصة واسعة، وما لم تكن الدولة ليس في يدها معظم الثروة، فإذا كانت كذلك تستحيل الديمقراطية!
لقد قام المحافظون على مدى ألف سنة بتشكيل وعي ديني (إسلامي) مقلوب على رأسه، وقد أقاموا ثقافتهم على رفض توزيع الأملاك الزراعية على القرويين، والهيمنة على خيرات الأملاك العامة، ونشر ثقافة السحر واللاعقل والأحكام الفقهية الجزئية العاكسة لذلك المبنى الاجتماعي، ويُكمَلُ هذا بإضعاف الأسرة الصغيرة الفاعلة المنتجة والثقافة العقلانية الديمقراطية وتأييد الأنظمة المستبدة.
وبهذا فإن الحزب الجمهوري الإيراني كان يواصل هذا الاستبداد، بإدعاءات ثورية، أما النسب الطبقية الاجتماعية المعبرة عن نشؤ أجسامٍ للحداثةِ في العهدين الملكي والجمهوري، فهو نشؤ أغلبه إستيرادي، فهذه الأجسام الصغيرة في بحر الريفيين المقتلعين من قراهم، تعتمدُ على صناعة مستوردة وصناعية نفطية (نخبوية) وصناعة إستهلاكية، وهي تنمو الآن نحو صناعات أكثر تطوراً، وهذا سوف ينعكس على مجريات التطور الاجتماعي القادم.
إن قوة الثقافة المحافظة الإقطاعية كانت تتغلغل في كافة المنشآت السياسية والاجتماعية، بقيادة جهاز الدولة، وهو يقوم عبر سيطرة فئات البورجوازية الصغيرة التي استولتْ على السلطة بعد ركوب الموجة الثورية، كما فعل ذلك الضباط الأحرار في كثير من الأنظمة العربية، وهو توسيعُ قطاعات الاقتصاد الحكومي، وفي إيران فإن إعطاء الأجهزة العسكرية قطاعات اقتصادية يؤدي إلى توسيع الخنق السياسي للقطاعات المدنية، وإلى مخاطر الحروب.
لهذا فقد تم نمو الدكتاتورية الحكومية عبر مراحل وأول مرحلة هي إبعاد اليسار، فقد كان الحضور اليساري الواسع يعرقل تحكم البورجوازية الصغيرة في المنشآت العامة الموجودة من العهد الملكي والمؤمّمة أو الجديدة، فهو يقوي الرقابة وحضور العمال المستقل والانتقادي لهذا التحكم في الثروة العامة.
وكانت مغامراتُ بعضِ فصائل اليسار وعدم فهم الفصائل الأخرى لطبيعة نظام الرأسمالية الحكومية الشمولية، يؤججُ تصاعد نفوذ البورجوازية الصغيرة التي تمتطي سلالمَ النظام، والتي تجدُ في الصعود ثروة ومنافع ونفوذاً متصاعداً، وهي تتحول بهذا إلى بورجوازية أكبر، وذات يوم ستجدُ أن سقفَ النظام باتَ ضيقاً عليها.
ومن ثم كان ضرب الاتجاهات الليبرالية (بني صدر وحزب بازركان وغيرهما )محطة أخرى لنمو الرأسمالية الحكومية، وهو أمرٌ يعبرُ ليس عن ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة في إيران فمهما كانت توجهات الدينيين، فهم لا يقدرون على رفض هذه العلاقات لأنها مؤيدة من قبل الدين، وكان نضال التجار عاملاً مهماً في تصاعد النضال السياسي، ولكنهم يرفضون تمدد الرأسمالية الخاصة وتحولها إلى نظام، وما يترتب على ذلك من نشؤ نظام رأسمالي خاص بأثاثه الديمقراطي وحرياته المختلفة.
كذلك فإن النظام الرأسمالي الخاص يكون تعددياً ومنفتحاً فيغدو مغايراً لمشروع الدولة القومية التوسعية أو ذات الجمهور المذهبي المُفترض المنتمي لها، فهي دولة مذهبية فوق قومية كذلك، فليس ضرب الاتجاه الليبرالي الديمقراطي هو لمجرد مماحكات شخصية وتنافسية بين المتحالفين الدينيين – الليبراليين الذين استولوا على السلطة بتعاونٍ مرحلي، بل لاختلاف المشروعين الرأسماليين، مشروع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية ومشروع الرأسمالية الخاصة.
ورغم أن التكتيكات السياسية لعبت دوراً في تغليب الاتجاه الأول على الثاني لكنه وحتى بدون هذه التكتيكات والمناورات فإن القواعد الاقتصادية الاجتماعية الكبرى للمجتمع تعطي الدينيين الشموليين فرصة هائلة لتشكيل دكتاتوريتهم أكبر من حلفائهم في فترة ثم خصومهم في فترة لاحقة.
ليس لينين أو ماو أو الخوميني، هم الذين شكلوا هذه الرأسماليات الحكومية لكنها الظروف الموضوعية التي جعلتهم، كلٌ في بلده وظروفه يتوجه نحو تصعيد دور الدولة الكبرى، حسب المنظار الإيديولوجي لكلٍ منهم، وهو منظارٌ يعكس تلك الظروف الموضوعية والذاتية.
إن الإجراءات ومسارات تشكيل المجتمع كانت توضح تباين طريقي الدينيين والليبراليين، وفيما كان الليبراليون يسعون لإضعافِ الدولة وتقوية المجتمع المدني، كان الآخرون على الضد منهم، ولكن لنر ما لدي الليبراليين من أدوات لتحقيق نظامهم المفترض.
كان تحالفهم مع الدينيين يتوجه لضرب الحريات التي كان يُـفترض أن يكونوا هم المدافعون عنها بوجه الموجة الدينية الشمولية:
(وافقَ كلٌ من قادة الحزب الجمهورى والليبراليون على فكرة الثورة الثقافية من خلال الفعل المباشر للجماهير الذين حرضوا على التظاهر فى ساحات الجامعات. كان ذلك بالنسبة لليبراليين وسيلة للتخلص من المحرضين اليساريين فى النقابات العامة والمصانع والمناطق الريفية، حتى يمكن اعادة الاستقرار الاقتصادى والسياسى للبلاد.)، (9).
وبتصعيد مثل هذه الأدوات وبإدخال الغوغاء لضرب المثقفين والعمال والجرائد اليسارية، وهي أدواتٌ طالما استخدمتها الرأسماليات الحكومية المستبدة خاصة نظام ماو تسي تونج وغيره، قام الليبراليون بعزل أنفسهم عن الجمهور الطليعي.
وكانت جذورهم الاقتصادية التصنيعية ضعيفة، ولهذا كان يُسمون قوى البازار، كما أن رفاهيتهم الكبيرة ساعدت الدينيين على تصويرهم بالقوى الطفيلية.
كما أن قواعد الدينيين الاجتماعية من جهةٍ أخرى كانت واسعة بسبب الاقتصاد التقليدي العريض؛ قطائع زراعية، وعقارات، وحرف، فكان الجمهور مشكل من غياب الاقتصاد الحديث، وعبر هذا الجمهور المتمسك بالعادات الإسلامية في اللباس والعبادات، في هذا المجتمع، كان التراث الديني التقليدي الشعائري هو السائد، ولكن الدينيين حولوه لفعلٍ سياسي مضادٍ للحريات ولهذا الجمهور الكادح نفسه، ومن أجل تركيز السلطة بين أيديهم، فتجاه التقدميين واليساريين ركزوا على الطبيعة (الألحادية) لفكرهم، وقد ساعدهم هؤلاء أنفسهم نظراً لعدم تشكل النظرة التغييرية من داخل التاريخ الإسلامي وعبر الارتكاز على التراث والواقع الموضوعي الراهن، فـُصورتْ غربتهم عن التراث كفعلٍ معادٍ للإسلام، وليس كنقلٍ ثقافي حضاري هام للشعب الإيراني في وقت لم تكن فيه أدواتٌ فكرية نضالية إيرانية مُنتـَّجة محلياً، خاصة وأن الإسلامَ تم السيطرة عليه من قبل المحافظين وتجييرهِ لخدمةِ السلاطين والشاهنشاهات عبر القرون السابقة، ولكن اليساريين من جهة أخرى، لم تتطور نظراتـُهم مع تصاعد الصراع الاجتماعي، وظلت شعاراتـُهم السياسية مفصولة عن فهم القوى الاجتماعية والإرث وكون الدينيين المحافظين يعبرون عن قوى الأستغلال المتصاعدة في حراكها من الإقطاع الحكومي إلى الرأسمالية الحكومية المرتكزة على تخلف القوى الشعبية الريفية خاصة، لأجل استخدامها في مشروع الرسملة المتصاعد بأجورٍ زهيدة، وبلا حقوق كبيرة، وعبر تخلف ثقافي يتيحُ لتلك القوى القيام بمختلف المشروعات السياسية.
إن إستخدام الإرث كان فعلاً سياسياً مباشراً، فعبر تصوير اليساريين بالملحدين أعداء الإسلام، وتصوير الليبراليين كخدم للغرب، كانت تجري عمليات قمع واسعة لتجسيد ما يصوروهُ الدينيون المحافظون بأنه الأسلام:
(احتلت عصابات حزب الله الجامعات، اصابت وقتلت أعضاء الجماعات السياسية التى كانت تعارض الثورة الثقافية، واحرقتْ الكتب والصحف التى أُعتقد أنها ” غير اسلامية “، وأغلقت الحكومة كل الجامعات والكليات لمدة ثلاثة سنوات تم خلالها اعادة كتابة مناهج الجامعات.)، (9).
إن الهيمنة الدكتاتورية تنتقل من القيادة السياسية إلى الاقتصاد وتستثمر الفوائض النفطية خاصة في توسيع القواعد الاقتصادية والمشروعات وأنظمة التسلح وتوسيع عسكرة المجتمع، وقمع الحريات السياسية ثم الفكرية والاجتماعية، تقوية لذلك البناء الاقتصادي البيروقراطي.
وهكذا فإن الليبرالية يُقضى عليها من الجانبين عبر توسيع الملكية العامة لتغدو هي الهيكل الاقتصادي المسيطر، وبإزالة الحريات والتفكير الحر، وبفرض قالب عام مؤدلج تجري عبره الاحتفالات والمفاسد والمسالخ والحروب.
الماضي أقوى، والاقتصاد التقليدي أوسع، والجماهير أغلبها أمي، وحينئذٍ تأتي عملياتُ الغسل العقلية الجماهيرية لتنمية خط اقتصادي، يوسع مشروعات، لكنه يفسدها عبر التحكم البيروقراطي، وتزداد الصناعات الاستهلاكية بسبب ذلك ولعجز الاقتصاد بهذه التسربات الكثيرة والعسكرة عن خلق الصناعات الثقيلة.
وإذا كان الليبراليون متحالفين متعاونين في ضرب اليسار مع الدينيين فقد حاولت فصائل العمال الدفاع عن أنفسهم ولقمة عيشهم فانتشرت موجة من الأضرابات:
(كان اليسار مسيطراً فى أوساط الطلاب برغم الموجة الاولى من القمع الذى تعرض له فى أغسطس 1979، وكانت مجالس شورى المصانع قد انهكت نتيجة لموجة القمع ذاتها، لكن استمر الكثير منها قائما لعام آخر، وبالطبع لم يكن استعداد العمال للصراع قد انتهى – ففى عام 79-1980 كان هناك 360 اضراباً متنوعاً ” الاعتصام بالمصنع أو احتلاله ” و180 اضراباً فى 80-1981 و82 اضراباً فى 81-1982.)، (10).
لكن نظراً لكون الفصائل اليسارية ماشت الموجة الدينية بقوة في البداية، وأيدت صعود الرأسمالية الحكومية ذات القناع الديني، واعترضت على أشياء جزئية، وانساقت مع موجة العداء المضلل للاستعمار الذي يصطنعهُ النظامُ وسيلة تخديرية للجمهور، ولم تفرق بين جوانب التبعية وبين جوانب الحضارة الغربية الديمقراطية، الضرورية لمنع الاستبداد، وهذا يبين الطبيعة العقلية ليسار ديني محافظ غائر تحت الجلد السياسي، فاليسار نفسه يعيش ظروف الدينيين الاجتماعية العقلية، من حيث العلاقة بالدين والنساء والتاريخ، ولهذا فإن حراكه إضرابي جزئي اقتصادي، أو عسكري أرهابي أو جماهيري نقدي عقلاني مفيد لكنه يُقمع وينتهي.
بقعُ اليسار والليبرالية صغيرة في هكذا مجتمع ديني محافظ، يبدو للجمهور فيه أن الدينيين هم الجذر والأصل والتراث، نظراً لطبيعة الثقافة والمهن والتاريخ القومي.
وككل الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية فإن الطبقة المسيطرة من العسكريين والموظفين الكبار المتضافرين مع رجال المال والمعبرين عن مصالح هذه الرأسمالية سوف يتوجهون لليبرالية منسوجة على قياس مصالحهم، وإلى خلقِ مجتمع أقل استبداداً، وتخفيف الطابع الديني الشمولي للنظام دون الخروج التام منه، إذا لم تفجرْ الحروبُ والثوراتُ هذا النسيج.
وهكذا فإن خيار الرأسمالية الحكومية الروسية أو الصينية الشاملة قاد إلى نشر العلاقات الرأسمالية الحديثة بصورة جذرية، مثل خيار الرأسماليات الخاصة في اليابان وإستراليا والهند، ومن منطلق آخر، ومن مستوى اقتصادي مختلف.
لكن خيار الرأسماليات الحكومية الدينية في العالم الإسلامي يستندُ إلى واقع قوى إنتاج متخلفة، ذات جذور قروية وبدوية(فتصير قوى شيعية وسنية متصارعة)، ويتم عرقلة تطور العلاقات الرأسمالية والتحديثية في الريف ولقوى الإنتاج البشرية، خاصة النساء، نظراً لتخلف العلاقات الاجتماعية والثقافة، وهو ما يؤدي إلى رأسماليات حكومية ذات تناقضات هيكلية اقتصادية كبيرة، فتتجمدُ الأريافُ والنساءُ والذهنية العقلية عن التطور، ويُعرقلُ التلاقح بين العلوم والصناعات، وتتضخم الأجهزة الإدارية وتتحكم في الأسواق، وتزداد القيودُ الحكومية في كل مجال، مما يوسعُ الفساد من جهة أخرى، ويؤدي بالكثير من الفوائض نحو الغرب أو للبذخ الخاص أو للعسكرة أو إلى جلب العمالة الأجنبية الرخيصة،(في إيران تتضخم العمالة الأفغانية) وهو تعبير عن العجز عن تطوير القوى المنتجة البشرية المحلية. وكل هذا يُصور باعتباره الطريق الإسلامي للثورة أو التطور السياسي الرشيد للدول الإسلامية!
وهذا الطابع المتخلف للرأسماليات الحكومية في العالم الإسلامي يقودُ إلى استمرار العلاقات الإقطاعية السابقةِ بكلِ مخلفاتها من عجزٍ عن توحيد المواطنين، وطبع نسخ مشوهة لاعقلانية للإسلام، وإلى تقسيم الدول إلى أثنيات متصارعة، وإلى الحروب والتدخلات بين الدول الدينية هذه، التي امتلكت الحقائق الكلية واعتبرت نفسها الخادمة الأمينة لتعاليم السماء النقية، وهذا كله يقود لهدر الموارد والدوران الدائم في طاحونة التخلف.

الرأسماليات الحكومية الخليجية

تعتبر ملكيات الدول الخليجية لمصادر الثروات من القضايا الشديدة الغموض، فهي غير مدروسة، ولا توجد مصادر لكشف تجلياتها، ولهذا فإن البحث فيها أشبه بمتاهة، ولكن لا يمنع ذلك من بعض المناوشات التحليلية، بغرض الوصول لأبعادها مستقبلاً، فهي بحاجة إلى أجيال من المحللين لكشف ثروات هائلة لبلدان ومع ذلك تشكو الآن من العجز.

تعطينا المظاهر الخارجية للتناقضات الاقتصادية والتباينات والمشاركات بين القطاعات العامة والخاصة في الخليج فكرة أولية عن مسارين مختلفين إشكاليين يبدوان بشكل غامض، فهنا يجري حديث عن أزمة اقتصادية تعانيها خاصة القطاعات العامة، وتطلب مساعدات وتعاون القطاعات الخاصة، ويظل ذلك محصوراً في الشأن الاقتصادي دون تبلوره في الشأن السياسي. وهذا يشير إلى مشكلات عميقة في البنى الاقتصادية، رغم أسطورية المداخيل التي حازت عليها القطاعات العامة، التي واجهت تصاعد الدين العام، وتفاقم البطالة الأهلية ثم اختلالات النمو الاقتصادي بين الأقاليم والمناطق! فراحت تطلب المعونة من القطاعات الخاصة أو تشركها في مساعدتها عبر آلية القرارات السياسية والاقتصادية.
فرغم سيطرة القطاعات العامة على الاقتصاد خلال العقود السابقة، فإنها توقفت عن التطور، بل يحدث فيها جمودٌ كبير، وسنلاحظ ذلك على صعيد التوظيفات، أي توظيف المواطنين في الأجهزة الحكومية.
(تظهر البيانات الأخيرة المتاحة أن عدد العاملين في الخليج وصل إلى 14 مليون فرد بحلول نهاية 2007، شكلت العمالة الوطنية 18% منهم. وبلغ عدد العاملين في القطاع العام 13% من إجمالي عدد العاملين، 80% منهم عمالة وطنية. وبينما يقدر معدل البطالة بين العمالة الوطنية بنحو 3،6. ووفقا لتقديراتنا الأولية لعام 2008، فقد تكون مؤشرات سوق العمل في الخليج قد أظهرت المزيد من التحسن مع انخفاض معدل البطالة إلى 3.2%. إلا أن تدهور البيئة الاقتصادية للمنطقة في الوقت الحالي مقارنة مع السنوات السابقة، يتوقع أن يقلص تلك النجاحات جزئياً وأن يطرح تحديات جدية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة والقوانين المرتبطة بتوظيف العمالة الوطنية، ما زال سوق العمل الخليجي يواجه خللا هيكلياً مقارنة مع نظرائه عالمياً. فعلى سبيل المثال، يشكل عدد المواطنين العاملين في القطاع العام في الخليج نحو 58% من إجمالي العمالة الوطنية، (مقارنة مع 42% فقط في القطاع الخاص). ويعتبر هذا المعدل مرتفعاً، كما أنه يتخطى ذلك في بعض الدول، إذ بلغ نحو 90% في قطر في عام 2007، و86% في الإمارات، و84% في الكويت، بينما بلغ 50% في السعودية. وتشير هذه الأرقام إلى أن قدرة القطاع العام الخليجي على استيعاب العمالة الجديدة قد تكون بلغت حدودها القصوى. وقد أعلنت البحرين بوضوح في ديسمبر الماضي الحد من التوظيف في قطاعها العام)، (11).
تتوجه الأرقام والأبحاث نحو جوانب جزئية وتعتبر ارتفاع البطالة أو إنخفاضها هي مشكلات صغيرة، ولا تعتبرها كمؤشرات على خلل بنيوي في البناء الاقتصادي. فحكومات تملك أغلب الثروات الهائلة لكنها تعجز عن التوظيف، وهي غير قادرة على تغيير بنائها هذا.
ونلاحظ هنا بأن الأبويات الاقتصادية وسيطرة الدول على توظيف العمالة الوطنية يتزايد في دول بعينها، فيما يتقلص في دول أخرى، ويتعلق ذلك بحجم الثروة النفطية وعدد السكان، دون أن تلعب المدخرات الهائلة السابقة والتي لا يعرفُ أحدٌ كيفت تسربت وتنامت في جهاتٍ أخرى، أي دون أن يكون لها دور جدي في التغيرات الاقتصادية الراهنة السلبية، حيث تقلص الحكومات الخليجية توظيف المواطنين، ويتوقف ذلك في البحرين تماماً.
فهناك ثلاثة ترليونات ونصف الترليون كودائع خليجية في العالم من القطاعين العام والخاص، ثم تعجز عن الدور الأبوي الذي قامت له خلال عقود التهمت فيها الدخول. هذا شكلٌ أولي لتوقف مكائن الدول عن دورها الراعي السابق. ولكن في المقابل تتنامى دور القطاعات الخاصة التي لم تستحوذ على كلياً تلك الثروات في المواد الأولية التي احتكرتها الحكومات لكنها عاشت في خيرها كذلك!
تتوجه التحليلات الاقتصادية الخليجية إلى القشور:
( تظهر البيانات أن معدل التوظيف في القطاع الخاص نما بواقع 8.0% في المتوسط سنوياً بين عامي 2003 و2007، بينما بلغ متوسط النمو في القطاع العام نحو 2.8%. وبالتالي، فقد ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل التوظيف بخمس نقاط مئوية خلال الفترة نفسها. ويعود هذا الإنجاز الهام إلى البيئة الاقتصادية المؤاتية التي دعمت نمو أنشطة القطاع الخاص. وفي الكويت، تشير احدث البيانات إلى أن معدل توظيف المواطنين في القطاع الخاص نما بواقع 16% في العام الماضي، بينما ارتفع في القطاع العام بنحو 2.9%، ما رفع مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل توظيف الكويتيين بنقطتين مئويتين إلى 18%. وفي السياق نفسه، تراجع عدد الكويتيين العاطلين عن العمل من 19.9 ألف مواطن في 2007، إلى 16.6 ألف مواطن في العام الماضي. وبالتالي، فإن معدل البطالة تراجع من 6.5% إلى 5.2% في الفترة نفسها. (12) .
إن المصدر لا يوضح لنا سببيات هذا التراجع في القطاعات العامة وصعودها في القطاعات الخاصة، لا بالتحدث عن طبيعة الأملاك العامة هذه؛(مصانع، معامل تكرير، وزارات، جيوش، شرطة الخ). فالأملاك العامة تـُجرد بتعبير (القطاعات العامة)، مثلما يتم تجريد القطاعات الخاصة وفروع إنتاجها وتبادلها وتداولها بالقول بأنها قطاعات خاصة، والأمر له علاقة بالبيانات وطرق التوزيع وغياب الشفافية على مدى عقود في القطاعات العامة.
كما أن بؤرة الأملاك العامة كمعامل التكرير والمصانع لا يتم درس علاقاتها بالمؤسسات المدنية الخالصة، وأحجام الفوائض وطرق تراكمها وتوزيعها بين إعادة الإنتاج، وبين صرفها على المشروعات العامة والوزارات.
لكن التقرير يعطينا بأن قدرة القطاعات العامة على الصمود في معركة التوظيف غير ممكنة، وأنها سوف تتراجع، كما أن البحرين قد أعلنت توقيف التوظيف دون أي تحديد وشفافية في هذا المجال. ويعيد ذلك حسب رأي الخبراء العالميين الذين استعان بهم التقرير إلى عدم القدرة على تطوير قوى العمل البشري الوطني في المنطقة. وهو سبب وحيد مقطوع الصلة كما سوف نرى بعمليات الإنتاج والتراكم، فالتربية والتعليم وإنتاجها لقوة العمل لا تتشكل بشكل مجرد، وبدون خطط مترابطة بين الإنتاج، وقوة العمل الوطنية، وإذا كان الإنتاج غير مُسيطر عليه، خاصة السيطرة على فوائضه وطرق توزيعها وعودتها لإعادة الإنتاج الموسع، فإن التآكل على مستوى الإنتاج المادي، وعدم الفائدة لقوة العمل الوطني، تغدوان مظهرين لمشكلتي: غياب التخطيط وتسرب الفوائض.
وهذا يشير إلى آلية العجز الاقتصادي البنيوي حيث التركيز على النفط ثم على صناعاته أما القدرة على تغيير الخريطة الاقتصادية المتناقضة فهو أمر ليس بقدرة الحكومات كما يبدو، والمقصود بتغيير الخريطة الاقتصادية الاعتماد على قوى العمل المحلية والعربية، وإحداث تحولات صناعية تتناسب مع قوى المنطقة السكانية، وتطوير قدرات شبابها لتلك الصناعات التقنية. لكن القطاعين العام والخاص غير قادرين على ذلك، يدفعهما هاجس الحصول على أكبر الأرباح وتصديرها للخارج للمزيد من الأرباح، أما الشؤون الاجتماعية والاقتصادية الأهلية فهي مضغوطة في ظل الميزانيات المحدودة التقشفية خاصة في بعض الدول الخليجية، فيما يشهد الوضع المالي على ترحيل الأموال من القطاعين العام والخاص للخارج عبر أشكال متعددة، وكذلك عبر العمالة الأجنبية.
إذا كنا قد لاحظنا تجمد الرأسماليات الحكومية الخليجية عن توظيف المواطنين، مما يعكس توقف الدور الأبوي الذي كان يتردد بقوة طوال العقود السابقة، فإن الأعباءَ المالية بدءً من هذا التجمد سوف تـُوضعُ على كواهل القطاعات الخاصة وهي سوف تضعُها على الجمهور العامل:
(في الخليج، شكل الطلب المحلي ما نسبته 70% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006. وبالنظر إلى مكونات ذلك الطلب، بلغت حصة الاستهلاك الخاص 45%، أي نحو ضعف حجم الاستهلاك الحكومي. بينما شكل الإنفاق الاستثماري للقطاعات الخاصة والحكومية على حد سواء حصة الـ30% المتبقية من الطلب المحلي، وهذا يدل على مدى أهمية الإنفاق الخاص في تحديد إجمالي النمو الاقتصادي.)، (13).
لكن حين تنفق المؤسسات الخاصة ذلك كله من أين تستخرجه؟ إنه من عمل القوة العاملة الأجنبية والمحلية. وحين تقلصُ الحكوماتُ إنفاقـَها سوف تقلصُ القطاعاتُ الخاصة إنفاقـَها تسريحاً للعمال وتقشفاً وتظاهراً أحياناً بطرد المدراء الأجانب ذوي الرواتب العالية المخيفة، لكن ألم يكن هؤلاء متبحبحين طوال السنوات السابقة يديرون ويقدمون الأرقامَ حسب ما تشتهي تلك الإدارات؟!
والفوائض الحقيقية الكبرى نبعتْ من النفط والغاز والمصانع التي رضعت من حليب تلك المؤسسات الواسع غير المراقب. لكن أين ذهبت أغلبية الفوائض؟
لقد قامت السياسات الاقتصادية بشكل عام في دول الخليج على أحتكار القطاعات العامة للثروة الأساسية، ثم تشغيل أعداد واسعة من المواطنين في أجهزة الدول، وترك هوامش محدودة للقطاعات الخاصة في جوانب الاقتصاد التابع للاقتصاديات الحكومية، ومن ثم جلب أ‘داد هائلة من العمال الأجانب.
وكل هذه الجوانب تبدو متباعدةً عن بعضها البعض لكنها مترابطة، فقد أضعفت الدولُ الثرواتِ البشرية والمادية، وقد أشار البنك الدولي لإشكالية دول الخليج هذه عبر تضخم أجهزة الدول بالموظفين، من جهة وضعف التعليم عن إنتاج عمال في مستوى حاجات الأسواق من جهةٍ أخرى، كما قامت القوى العاملة الأجنبية بتحويلات هائلة، فصار الخليج سوقاً عابرة، أكثر منه سوقاً متجذرة تغني الغرب والشرق وتجفف الثروة من داخله، مما لم يجعل القطاعات الحكومية تتطور صناعياً وتقنياً، ولم يدع القطاعات الخاصة تتولى الأمور.
ومع تلك التحويلات الهائلة من المليارات تجد القطاعات العامة نفسها بحاجة إلى سيولة.
ومع ضخامة الأعداد العاملة في الحكومات تجد أنها يمكن أن تتقلص لغياب الإنتاجية، فتضخمها يأتي بشكل سياسي وليس إقتصادياً.
لا نعرف لمن هذه الترليونات في الخارج(ثلاثة ونصف) وكيف تتوزع وكيف تنمو وما هو عوائدها على الدول والشعوب، ولكن الذي نعرفه هو هذا التضاد الكبير بين ما أنتج وما زال يُنتج من ثروة وضخامة الحاجة المحلية الماسة الخليجية لرؤوس الأموال ولتوزيعها على الإنتاج والبشر.
أما الإصلاح الاقتصادي الذي تطرحه هذه الدول فهو إصلاح محدود ولا ينفذ لجوهر الأمور، بل هو ترقيعٌ وابتعاد عن الإصلاحات الاقتصادية الجذرية المنتظرة.
وتتباين دول الخليج في العلاقات بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة ففيما هناك لم تستفد كثيراً من القطاعات الحكومية، استفادت القطاعات الخاصة في الكويت والإمارات وقطر من القطاعات الحكومية وأزدهرت على ضفافها :
(ان النمو في كل من قطر والكويت والامارات العربية المتحدة ارتبط بنمو قوي في القطاع غير النفطي، حيث ان نصيب الفرد في النفط والغاز أعلى بكثير منه في بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، وقد كانت هذه الاقتصادات حريصة على تبني سياسات اقتصادية تهدف الى تنويع مصادر دخلها، وفي هذه الاثناء كانت السعودية تحاول تشجيع القطاعات غير النفطية عبر مختلف الوسائل، غير انها تواصل تحقيق نسبة نمو متواضعة نسبيا، حيث يتفوق القطاع النفطي على غير النفطي بهامش ضئيل)، (14).
تواجهنا نفس الأسئلة فلماذا استطاعت هذه الدول أن توسع على القطاعات الخاصة والسكان فيم لم تستطع الدول الأخرى القيام بهذه التطويرات للمعيشة وأزدهار القطاعات الخاصة؟
تعود المسألة إلى ظهور قوى اجتماعية داخل القطاعات العامة الرأسمالية وحازت على ثروات كبيرة منها بفضل احتكارها للمناصب طوال سنوات، وهذا يتبدى في مظاهر كثيرة، مثل الرواتب العالية والدخول غير المنظورة، وتملك الأراضي وبيعها خاصة أراضي الشواطئ وأراضي المدن التجارية، والدخول في الأعمال التجارية وتشكيل الشركات بأسماء تكون غالباً واجهات، والحصول على امتيازات من الأعمال الحكومية المختلفة كمعرفة المخططات وبيع الأراضي، وجلب الفيز الحرة وتوزيع أصحابها في كل مكان، وأعطاء الموظفين الأجانب الكبار رواتب عالية وتسكينهم في مساكن وعمارات خاصة تابعة لموظفي الدول، والحصول على دخول نفطية باطنية الخ..
وأما الميزانيات فهي ميزانيات سياسية وليست ميزانيات حسابية دقيقة، فهي تقوم على تنظيف الأرصدة من أي تلوث ظاهري وتقدمها نظيفة خالية إلا من بعض العجوزات المرتبة.
ولهذا فإن النظرة السطحية تشاهد أملاكاً ومدخرات بتلك المبالغ السابقة الذكر دون أن تكون ناتجة من استثمار عادي، فلا تكفي مئات السنين لتكوين تلك المليارات والترليونات؟!
ومع هذا التباين فإن الدول التي سربت تلك الأموال تطالب القطاعات الخاصة وتطالب المواطنين بتحمل أعباء المرحلة، أو تقوم برفع الرسوم على الخدمات وغيرها من الأساليب.
تتوجه المصطلحات الاقتصادية في الخليج إلى تعابير مثل( ضرورة الشراكة بين القطاعين العام والخاص)، وتنعقد مؤتمراتٌ عدة في شتى العواصم الخليجية لمناقشة التعاون هذا؛ وشهدت العاصمة السعودية الرياض، انطلاق فعاليات الملتقى العلمي الأول بعنوان ” الشراكة والمسؤولية الاجتماعية بين القطاعين العام و الخاص.. الواقع والمأمول”، والذي تنظمه وزارة الشؤون الاجتماعية).
ويهدف اللقاء (إلى إتاحة الفرصة للعاملين في الوزارة والأجهزة الحكومية الأخرى ذات العلاقة وكذا القطاع الخاص والباحثين والأكاديميين والمهتمين بهذا المجال لتبادل الخبرات وطرح الآراء للخروج بتوصيات عملية عن كيفية تحقيق الشراكة الحقيقية بين القطاعين العام والخاص لتحمل المسؤولية الاجتماعية ومواجهة التحديات الجديدة التي تعترض المجتمع ودعم عملية تحقيق أهداف التنمية المستدامة).
وهذا يحدث في الإمارات كذلك (تنظم مجموعة أبوظبي للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، المنبثقة من مجموعة الإمارات للمسؤولية وغرفة تجارة وصناعة أبوظبي، مؤتمر أبوظبي للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات بمشاركة مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة ونخبة من كبار الباحثين لمناقشة نفس القضية.
والكويت ليست بمعزل عن الجهود الخليجية في هذا المجال ، إذ يستقطب المؤتمر الثالث للمسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات، اهتمام العديد من المسؤولين في الشركات العالمية العاملة في مجال بحوث واستشارات وتقارير المسؤولية الاجتماعية.
(وسيناقش هؤلاء الخبراء الازمة الاقتصادية والمالية العالمية وأثرها على المسؤولية الاجتماعية للشركات وكيف يمكن للشركات ان تتفاعل مع هذه الازمة وتخرج منها بأقل خسائر ممكنة خاصة وانه يتوقع ان تستمر هذه الازمة الى نهاية 2010 وهو ما يخلق العديد من التحديات أمام الشركات).
لكن القضية ليست هي المسئولية الاجتماعية وهو عنوان عريض مجرد ولكن إشكاليات الرأسمالية الحكومية في كل بلد، وتوقفها عن دورها المطلق السابق، وحاجتها للقطاعات الخاصة دون أن تتخلى عن دوريها القيادين في السياسة والاقتصاد.
فكأن هذه المؤتمرات تقول لم تكن لدينا مسؤولية اجتماعية وعلينا الآن إيجادها!
والإشكالية لا تخفى وهي المتمثلة بإشكاليات القطاعات الحكومية وصعوبة سيطرتها على ظواهر الاقتصاد. أي أن هذه الأبنية الاقتصادية التي شكلت خلال نصف قرن استنفدت أدوارها لكن دون إعتراف من الدوائر المسئولة، التي تريد مواصلة التحكم في الموارد العامة وتريد في نفس الوقت معونة القطاعات الخاصة.
واعتبرت دراسة قامَ بها بنكُ الإمارات الصناعي في أبريل من العام الماضي بأن ظاهرة التضخم في الخليج وارتفاع تكاليف إقامة المشاريع وزيادة أسعار السلع والخدمات لا تقل أهمية عن مشكلة العجز وارتفاع الديون الحكومية التي تميزت بها سنوات التسعينيات، وقد حددت الدراسة ذلك على أساس سعر برميل النفط عند 100 دولار، وهو الأمر الذي حقق بعض الفوائد لكن الأمور تغيرت في السنوات الأخيرة.
ويحصر البنك دراسته الاقتصادية في الظواهر الخليجية الداخلية، حيث تـُفصل التحويلات المالية الهائلة لهذه الدول للخارج، وهي الأموال التي تآكلت في الغرب(3 تريليون دولار ونصف الترليون)، وكأن ليس لها علاقة بدول الخليج ولا بدعم اقتصادياتها . أما من ناحية قوة العمل فإن قوة العمل الأجنبية تمثل هدراً آخر؛ (إن تدفق العمال الاجانب الى دول مجلس التعاون حيث باتوا يشكلون حوالى 40 في المائة من السكان يمثل ظاهرة فريدة في العالم “فليس هناك أي مكان آخر في العالم الامور فيه على هذا النحو”، الخبير الاقتصادي السعودي إحسان بوحليقة، ويضيف (أصدرت السعودية في سنة 2007 حوالي 1،7 مليون تأشيرة عمل).
أما الدخول الحقيقية فكانت هائلة:
(أسفرت الطفرة النفطية الأخيرة (2002 حتى أواسط عام 2008) عن قدر كبير من الإيرادات لدول مجلس التعاون الخليجي الست، البحرين وعمان والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة والسعودية، قدرت بمعدل سنوي يصل الى 327 مليار دولار في الفترة بين 2002 و2006، أي أكثر من ضعف متوسطها، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، (15).
ولكن تتباين الدخول النفطية وتأثيراتها على كل من دول الخليج فالبحرين وعُمان ليست بمثل جيرانها :
(لكن البحرين وعمان تقدمان صورة مختلفة فقد سجل القطاع النفطي فيهما نسب نمو سلبية على مدى فترة هذه الدراسة، وهو ما يوضح ان البلدان ذات الموارد الضعيفة غير قادرة على الاستفادة من ارتفاع اسعار النفط والثروات الطبيعية، وتعاني البلدان من انحدار سريع في الاحتياطيات النفطية، وضآلة طاقة الانتاج، ويشدد الخبراء النفطيون على حاجة البلدين الى الاستثمار في طرق محسنة لاستخراج النفط، وقد كانت نسبة النمو في البحرين وعمان مدفوعة في صورة اساسية بالقطاعات غير النفطية كالخدمات المالية والبناء. لقد استفاد القطاع غير النفطي بشكل كبير من الانفاق العام الهادف ومن الزيادات الحادة في الانفاق الرأسمالي الموجه الى تحديث البنية الاساسية الصناعية، وتقليص القيود في القطاعات الرئيسة.) ،(16).
وتتجلى سياسة ضبابية الموارد وتقسيمها وهجرتها في مسألة الدين العام، فالدول النفطية الخليجية رغم تلك الإيرادات الكبيرة في خلال السنوات السابقة ازداد دينها العام:
(لذلك فان التوسع في الانفاق العام في الفترة بين عامي 2002 و2008 ارتبط بسياسة عامة اكثر صرامة نسبيا لتقليص الدين العام. وبعد عام 2002، نجحت بلدان مجلس التعاون في السيطرة على الدين العام وتقليصه الى متوسط 20.4 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي في عام 2006، مقارنة مع متوسط 69.9 في المائة في الفترة بين 1998 و2002. وسجلت المملكة العربية السعودية أعلى نسبة دين الى الناتج الاجمالي عام 2006 بلغت 28 في المائة، تبعتها البحرين بنسبة 23.3 في المائة، فيما سجلت الكويت ادنى نسبة 8.5 في المائة.)، (17).
مع تدفق تلك المبالغ في فترة العقد السابق فإن الدين العام وصل إلى هذا المستوى؟! كيف؟
علينا أن نرى مظاهر تطور القطاعات الخاصة لكون بعهضا يعيش على حساب تلك الإيرادات الضائعة، لقد غذت القطاعات العامة القطاعات الخاصة خلال فترة التحول السابقة، ثم وصلت القطاعات العامة للأزمة، دون أن نعرف من المسئول عن هذه الأزمة، القطاعات العامة أم الخاصة وكيف وبكم؟ هذه هي الخلاصة الكبيرة للمسألة، لكن الأرقام ضائعة!
ولهذا حين تطرح مقولات التعاون بين القطاعين العام والخاص لا تتوضح الصورة الضبابية.
تريد الأوساط الحكومية الخليجية الاستفادة من القطاعات الخاصة دون إعادة هيكلة للاقتصاديات العامة، وهي هيكلة لو جرت لأدت إلى عواصف اقتصادية واجتماعية بسبب أن التراكمات الربحية أهدر أغلبها من خلال أداوت التملك والإدارة والتوزيع، ولن تتحمل القطاعات الخاصة ما أضاعته تلك الملكيات الحكومية وأما أن تبيع ما تملكه أو بعضه المغذي الذي لا تريد أن تتخلى عنه، أو تتحمل فواتير الإدارة المتزايدة الصعوبة خلال السنوات القادمة.
وبهذا الحل أو ذاك فإن مناقشة القضية تحتاج إلى مواد تحليلية وشفافية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر :
(1) :(الهيئة العامة للاستعلامات المصرية).
(2): (السابق).
(3) (القطاع العام ليس من الاشتراكية في شيء، عمرو عبالرحمن، موقع البوصلة).
(4): ،(إلهامي الميرغني، مستقبل التطور الرأسمالي في مصر، موقع الحوار المتمدن).
(5): (سامح سعيد عبود، موقع البوصلة).
(6): (السابق)
(7): (موقع البوصلة، عمرو عبدالرحمن).
(8): (الموقع: مركز الدراسات الاشتراكية في مصر).
(9):(السابق).
(10): (السابق).
(11) (النفط نعمة ونقمة معاً، 24 مارس، 2009 إبراهيم سيف، جريدة القبس).
(12): (السابق)
(13): (السابق)
(14):(السابق)
(15):(السابق)
(16):(السابق).
(17): (السابق)

خلاصات عـــــــــــــــــــــامة

مسارات الرأسماليات الحكومية الشرقية

     هناك ثلاثة إختيارات اقتصادية جرت في تواريخ الرأسماليات الحكومية الشرقية نبعت من ميزانِ قوىً اجتماعيةٍ ومن بُنى اقتصادية سابقة، ومن  وجهاتِ نظرٍ سياسية مؤثرة على التطور، وهي قد انبثقتْ من هذه الأوضاع الرئيسية:

 1 – ضعف الإقطاع وقوة البورجوازية.

2 – قوة الإقطاع وضعف البورجوازية.

3 – ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية.

تتعلق التجاربُ من الصنف الأول المذكور أعلاه بمسار الشرق، حيث أن التدخلات الغربية في تاريخهِ الانتقالي بين الإقطاع والرأسمالية تحثهُ على التغييرِ والقفزةِ من واقعهِ المتخلفِ السابق نحو التحديث، وكلُ قيادةِ دولةٍ تكونُ لها خططها الاقتصادية، المنبثقة عن تجربتها وظروفها.

ينبثقُ الخيارُ الأولُ وهو ضعفُ الإقطاع وقوة البورجوازية من وجودِ ظروفٍ إستثنائيةٍ قد لا تتكرر في بلدان أخرى، ففي العادة التاريخية للشرق وهو يخرجُ من دياجير الظلمات الزراعية إلى النور الصناعي، أن يكونَ العكس هو الصحيح، أن يكون الإقطاع المسيطر خلال القرون السابقة هو السائد والقوي، وأما البورجوازية فهي ضعيفة تقتصر على المتاجر والصرافين، ولا يدعمها قطاعٌ صناعيٌّ مهم، ولكن في التجربة اليابانية ظهرتْ ظروفٌ مختلفة، بيناها في الحديث عن التجربة الرأسمالية الخاصة اليابانية، جعلتْ من قوة الحكم السياسي طليعة لوعي هذه البورجوازية وتنفيذاً لوجودها المضمر وإتاحة لنموها بكل السبل من خلال تخطيط بعيد المدى يستوعب قوانين التجربة الرأسمالية الغربية الخاصة، رغم أن هذه القيادة تتمثل في حكم الأمبراطور وجماعته، غير أنها تبنت خيار الغرب في البناء الاقتصادي بشكلٍ متكامل.

وتم تكرار تجربة اليابان في جنوب شرق آسيا عبر ما عُرف بتجارب النمور الآسيوية حيث يتاح نمو كبير للرأسماليات الخاصة، وتـُحجم الرأسمالية الحكومية، وهي تكرارٌ للتجربة اليابانية واستفادة من توظيفاتها وتقنياتها، وهذه الاستفادة من الجانبين البنيوي والتقني تعكس عمليات تسارع الرأسماليات الخاصة باعتبارها خط تطوري محوري ومتصاعد في تكوينات الرأسماليات الشرقية.

أما الخيار الثاني وهو (قوة الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو خيارُ الكثير من دول آسيا وأفريقيا، خاصة الدول العربية والإسلامية، فهي بسببِ تخلفها الاقتصادي، وسطوات ماكينات الدول القديمة المتنفذة، وضعف قواها السياسية الطليعية الحكومية  المتبصرة لآفاق المستقبل وتبعية القوى الاقتصادية الخاصة لها، فإنها تراوحُ في مسارها بين الإقطاع والحداثة الرأسمالية، بين الأحجام عن مشروعات الصناعات الكبرى وبين البقاء في مشروعات التجارة والعقارات والتمويل.

ويتمظهر ذلك بقوة في تقزم القطاعات الصناعية وعدم قوننة تطورها بشكل صحيح، وضعف نمو التصنيع في الأرياف، وإبعاد قوى بشرية واسعة عن الصناعة، كالنساء والقوى الهامشية والموظفين الحكوميين، وعدم خلق ثورة ثقافية مواكبة للتصنيع، ومحدودية الحريات.

وهذا يقود لهدر الثروات بشكل مستمر وبأشكال متعددة، فمرة نجد التسربات المالية الكبيرة المستمرة من القطاعات العامة إلى القطاعات الخاصة في العتمة السياسية، أو في تهريب الأموال، أو في تكاليف التسلح ونفقات الحروب، أو في البذخ وغير ذلك.

أما الخيار الثالث وهو الخيار المترتب على(ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو يعتمد على لحظات ثورية فريدة من تاريخ أمم عريقة كالأمة الروسية والأمة الصينية، تقومُ فيها قوى الفئات البورجوازية الصغيرة المتحالفة مع العمال بقيادة معركة التصنيع والتحديث.

ونظراً لهذه القوى الشعبية المتجذرة والمتضررة من الأبنية الاقتصادية القديمة فإنها توسع مدى التغيير وتضرب بشدة العلاقات ما قبل الرأسمالية، وتضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة كذلك بهذا المستوى أو ذاك بين هذه الدول، مما يؤدي إلى جعل الدول هي المالكة الرأسمالية الكبرى، وهو أمرٌ يعيد تشكيل الرأسمالية الخاصة على مستوى زمني معين، وبأشكال من التعثر والتطور حسب تجربة كل بلد وإختيارات قواه السياسية الحاكمة.

 لكن ظروف ضعف الإقطاع وضعف البورجوزاية والمتجهة لتضخيم القطاعات العامة، لا تنفي التكون الرأسمالي. وتضخمُ القطاعات العامة يعودُ للتصدي لقوى الغزو الخارجي ومن أجل نهضة الأمم الشرقية خاصة في البدايات المُبشرة، لكن في نهاية مطاف بناء البنية التحتية يتوقفُ ويتراجع النمو الإيجابي لتصاعد عوامل الفساد الداخلية، وكون مشروع الرأسمالية الحكومية ليس له مالك معين فيضيعُ بين المالكين المتعددين من موظفين كبار وأحزاب وقوى اجتماعية مثل الأوقاف، وليس له علاقة مباشرة مع المنتجين ومع الجمهور المالك الوطني المُفترض، وبالتالي يصبحُ كماءِ السبيل، يتناقصُ ولا يزيد، يتآكل ولا ينمو. يتعطلُ نموه التقني، وتتراجعُ تطوراتهُ التكنولوجية الحفرية الداخلية، خاصة مع تفكك العلاقات بين المؤسسات الاقتصادية والتعليمية، بين العمال والإدارات، بين المؤسسات الاقتصادية والأسواق، وبهذا فإننا نجدُ القطاعاتِ الحكومية الرأسمالية بعد زمنٍ بأنها هي الخاسرة، تدفعُ أكثر مما تقبض، تتسلفُ وتزدادُ ديونـُها، رغم وفرة المواد الخام والمُصنعة المُباعة.

وهذا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي النهائيين يتمظهرُ في تدني الأرباح وتراجع الخدمات، وتصاعد القطاعات الخاصة التي تقومُ على انقاض القطاعات العامة أو على تقزمها، فوزارات الصحة التي أكلتْ الكثيرَ من المالِ العام والأجسادِ وتردتْ خدماتها، تظهرُ إلى جانبها المستشفياتُ والشركاتُ الخاصة الأكثر نجاحاً والأكفأ علاجاً، لكن على ظهور الجمهور الذي يدفعُ باستمرار وبصورةٍ متصاعدةٍ أثمان كافة الفئات البورجوازية التي يتتابعُ ظهورُها في تاريخ الرأسماليتين العامة والخاصة، من جيوبه، مرة كمواطنٍ تابع لحكومات، ومرة كمواطن يشتري خدمات.

وفي الحالتين ينشأ رأسماليون يشكلون طبقة ويجمعون تراكمَ الأرباح مرة باعتبارها رواتب مجزية ورشوات وإكراميات وسرقات، ومرة على أعتبار أنها أرباح خالصة.

أو أن تحدث عمليات الخصخصة حيث تـُباع القطاعات العامة، الخاسرة ليتحملها الجمهور، أو الرابحة ويشتريها الرابحون، وفي كلِ الأحوال يدفعُ الجمهورُ ثمنَ غفلته.

(إصلاحات) الرأسماليات الحكومية الشرقية

بدأت التطورات السياسية في دول الشرق توضح أن الملكيات (العامة) كانت في أغلبها ملكيات حكومية بيروقراطية ولم تكن ملكيات شعبية حقيقية.

ولم يصل وعي الشعوب إلى أن تدخل بقوة لتغيير هذه الملكيات إلا بطرق عفوية.
إن القوى البيروقراطية داخل هذه القطاعات(العامة) هي التي قررت التغيير بناء على عوامل سياسية واقتصادية معقدة. فقد رأت أن مصالحها تتعرض للخطر إذا استمرت هذه الرأسمالية المُدارة من قبلها، مع غياب تفويض الإدارة من قبل الشعوب.
ولهذا كانت(الإصلاحات) هي استمرار لعقليات الهيمنة على الملكيات(العامة) فالدول هي التي تقرر مدى ما تسميه ب(الإصلاحات)، أي ما يُباع من هذه الملكيات وما يبقى تحت الإدارات وبأية طرق تتم عمليات التصفية والإبقاء.
الرأسماليات الحكومية التي تديرها البيروقراطيات تعني أنها ملكيات خاصة لهذه الإدارات التي تحكمت في التصرف بها خلال عقود، وإلى أي حد هي عامة وإلى أي حد هي خاصة، هذا أمر لا يعرف أهل كل بلد تدار فيه مثل هذه العمليات الاقتصادية.
أي أننا أمام طبعة ثانية من الرأسماليات الحكومية الشمولية، التي تقول أن هذه الملكيات هي عامة ولا يمكن بيعها كلها، ولا بد من الاحتفاظ بها كأساس للتنمية(الوطنية). رغم أن هذه الأملاك العامة في حالة خسائر مستمرة.
وللبيروقراطيات طرق تحايل عريقة ولكن أمام تباطؤ تطور هذه الملكيات وخسائرها والأثراء من خلالها لدى هذه البيروقراطيات بحيث غدا هذا الفساد مشكلة وفضيحة داخل أقسام أي طبقة حاكمة.
وهنا تطرح مسألة مهمة هل تغدو الإصلاحات طرق تحايل جديدة على الإصلاحات، أي يظهر شركاء جدد يمدون نفوذهم في الأملاك(العامة)، أم أن العملية جدية في هذا الإصلاح؟
ومن الواضح في البلدان الشرقية عموماً أن الصراع يدور حول فوائض المواد الخام الثمينة، كالبترول والغاز والفوسفات والمناجم وغيرها، وأصرار البيروقراطيات على التحكم في هذه الثروة وتوزيعها بطرق مُلتبسة، وأبعاد الرقابة الدقيقة عنها.
وتترتب على ميوعة توزيع الفوائض وإلتباسها حتى لدى المشرعين نظراً لتحكم الحكومات في تمويه الاتفاقيات الاقتصادية بين الحكومات والشركات المحلية أو العالمية، وكون هذه الاتفاقيات جرت في أزمنة الشمولية وغياب المعلومات لدى الرأي العام، استمرار الاختلالات في البناء الاجتماعي لكل بلد واستمرار الاضطرابات.
ونتيجة لأن إصلاحات الرأسمالية الحكومية الشمولية هي نسخة مستمرة للرأسمالية الحكومية المهيمنة فإن الأحوال تبقى على ما هي عليه أن لم تزدد سؤاً.
أحياناً تغدو الإصلاحات تفكيكاً لدولة كبيرة كالاتحاد السوفيتي، حيث تقوم البيروقراطية الأساسية وهي البيروقراطية الروسية في هذه الحالة بتملك أغلبية الثروة العامة للاتحاد السوفيتي، وهو أمرٌ أدى إلى إنفلاش الاتحاد وتحكم البيروقراطية الروسية بقوة في اقتصاد البلد وزاد هذا من الأثرياء الكبار إلى درجة هائلة!
وفي الصين ظهر أصحاب الملايين فوق عمل شعبي رخيص وهائل.
فكيف يغدو (الإصلاح) زيادة هائلة في الأثراء الفاسد؟
حدث هذا خاصة مع زيادات أسعار النفط، ونرى أن الصراعات بين الكتل الحاكمة، تتفاقم مع هذه الزيادات ومع ظهور وسائل أثراء جديدة. فتظهر قوى سياسة جديدة تقول بأنها تقوم بإصلاحات نظراً للوضع الاقتصادي السيء السابق، في حين أنها تريد وضع اليد على ملكيات الدولة أو أنها تريد توسيع حضورها الاقتصادي.
كذلك فإن أدوات الرقابة على الملكيات(العامة) ضئيلة جداً في هذه الدول ذات الملكيات العامة السائدة، نظراً لغياب البرلمانات والنقابات والصحافة الحرة خلال عقود، وهي إذا ظهرت تكون مقيدة بشكل كبير ومغلولة الأيدي عن الفعل المغير.
فإذا كانت الدول تملك 80% من الشركات الكبرى الإنتاجية المنتجة لفائض القيمة الوطني، وهي بهذا تتحكم في توجيه معظم الدخول، وتشكل الإدارات الحكومية والاقتصادية العامة كيفما تريد، ويغدو أغلب المواطنين وغير المواطنين يشتغلون لديها أو لدى قوى الرأسمال الخاص التي نمت تحت أجنحتها، فإن الديمقراطية والانتخابات والكتل السياسية تغدو من إعدادها للمسرح السياسي.
ولا عجب بهذا أن يستطيع حزب حكومي نبت بين ليلة وضحاها أن يسيطر على الأغلبية البرلمانية. أو أن صيغاً مشابهة تحدث في بلدان أخرى، كلها لا تغيّبُ هذه الحقيقة، بل تلونها حسب أوضاع وتطورات كل بلد.
فإذا استمر الفساد الاقتصادي كيف يمكن أن تجري إصلاحات؟
الخطورة أن تضاف قوى جديدة تشارك في العمليات الاقتصادية الغامضة، فيظهر مستثمرون مفاجئون وشركات وهمية جديدة، وقادة سياسيون كبار يظهرون بين عشية فاسدة وضحاها، وتبرز صحفٌ جديدة ذات إمكانيات هائلة وأصحابها معدمون، وتلعب الأجهزة الحكومية الإعلامية دوراً نشطاً في تصعيد مثل هذه الفقاعات السياسية والثقافية.
وفي خلال هذه الهوجة (الديمقراطية) تكون الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة المتداخلة معها قد توغلت في مناطق استثمار جديدة واقتنصت ثروات خيالية، في حين أنها تماحك على الفلوس الصغيرة الموجهة للعاملين.
هل هي طبعة جديدة من الرأسمالية الحكومية الفاسدة الشرقية في حالة توسع، أي أن العملية هي تحسين صورة معينة وإبقاء الجوهر على ما هو عليه؟
هل تتمكن الأدوات الديمقراطية الشاحبة أن تفعل شيئاً مع صراعاتها ونشؤ أحزاب كثيرة وصراعات هذه الأحزاب مع بعضها البعض؟
بل أن بعض الرأسماليات الحكومية تقوم بتحميل العاملين فاتورة ما أفسدته في الاقتصاد وما يجري من تباطؤ في التطور الاقتصادي ومن ميزانيات هزيلة ومن تآكل للملكيات(العامة) بأشكال متعددة كالقيام بخصخصة للوزارات ذات الأهمية الجماهيرية كالكهرباء والبريد والمواصلات العامة والمياه وترك الموارد العامة الغنية تائهة أو غامضة الوضع.
عملية تغيير الطبعة الثانية من الرأسماليات الحكومية الشرقية صعبة ولا شك، ومسألة نمو الحريات الديمقراطية تحتاج لقوى شعبية ومعرفية وسياسية هائلة متعاونة.
لكن كما رأينا في بعض مسارات التطور فإن الإصلاحات والنضالات المختلفة تقود للمقاربة مع الرأسمالية الغربية الخاصة !

أنماط الرأسماليات الحكومية الشرقية

فيما كان سياسيو الشرق في بدايات القرن العشرين يحاولون القفز على الرأسمالية الغربية الخاصة، عبر نماذج مصطنعة، توجه سياسيو الشرق في أواخر هذا القرن إلى احتذاء نموذج الرأسمالية الغربية، لكن لا تزال الكثير من العقبات والآراء ومستويات التطور الموضوعي المتباين تحول دون ذلك.

وعلى أساس تطورات الرأسمالية الشرقية تنشأ ثلاث موديلات:
موديل الهيمنة الرأسمالية الحكومية المطلقة وهو نموذج قام به الاتحاد السوفيتي. ولم تستطعْ الدولُ الأخرى أن تقومَ بمثلهِ لصعوبتهِ وتطلبه مواردَ هائلة وخطورته على التطور الاقتصادي المستقبلي.
موديل هيمنة الرأسمالية الحكومية مع وجود قطاعات خاصة بهذا الاتساع أو ذلك، لكنها لا تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد، وقد تكون مستقلة وقد تكون قد نشأت من الملكيات العامة بالباطن، وتقابل هذا حكومات دكتاتورية متعددة الأشكال السياسية لكن القبضة على الموارد العامة تكون هي السمة المشتركة.
وأخيراً موديل التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص بقيادة الأول، وهذا يفترضُ وضعاً ديمقراطياً ووطنياً منسجماً، وهو أمرٌ يشكلُ العكس كذلك دون الخروج عن عملية التعاون، أي أن يقوم القطاعُ الخاصُ بقيادة التطور الاقتصادي بدون إلغاء للقطاع العام الصناعي. أي أن هذا النموذج تحكمهُ مقارباتٌ بين القوى الاجتماعية الوطنية المختلفة من أجل تنمية القوى المنتجة المحلية بطرق اقتصادية مختلفة، ويجمعها جامعُ التطور المشترك لقوى الإنتاج. وهذا النموذج تمثله بعض التجارب في دول أمريكا اللاتينية عبر حكومات اليسار.
وفي حالة ثالثة هي حالة الصراع والألغاء فإن الوضع الاقتصادي يتجه للفوضى والاضطراب لغياب إستراتجية اقتصادية وطنية تجمع القوى العمالية والشعبية مع القطاع الخاص في خطة تنموية واحدة مشتركة كحالة مصر مثلاً.
وإذا لم يقمْ أي بلد بتأسيس قواعده الصناعية الكبرى فإن أنماط رأسمالياته الحكومية والخاصة تظل في حالة سيولة اقتصادية وسياسية غير مستقرة على نمط كلبنان على سبيل المثال.
وتمثل رأسماليات الخليج العربي الحكومية حالة مماثلة للموديل الثاني، فالحكوماتُ هي المهيمنة على أغلبية الموارد، وهناك هوامش كبيرة أو صغيرة للقطاع الخاص، مع مشكلات خاصة بالمنطقة، مثل الهدر الكبير للثروة من خلال ظواهر كثيرة: الفساد الحكومي، والعمالة الأجنبية، وتضخم أجهزة الدول، وغياب النساء عن الإنتاج، وضعف التطور العلمي الخ.
تؤدي مقارباتُ الدول الرأسمالية الحكومية للنموذج الغربي الرأسمالي، إلى سلسلة من التطورات والمشكلات الجديدة والصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية الحادة.
فالانتقال من الموديل الأول إلى الموديل الثالث لأن الموديل الثاني هو تحصيل حاصل للأول، يعني تغيير بعض القطاعات العامة بيعاً أو إجراء إدارة رقابية شعبية واسعة على الفوائض الاقتصادية الناتجة منها، وتغيير العلاقة السياسية المهيمنة البيروقراطية على الاقتصاد إلى علاقة اقتصادية تعطي السلع وأدوات الإنتاج مساراتها الخاصة الموضوعية، وهذا يقود إلى تبدل أسس النظام ونسف الكثير من علاقاته.
ويعتمد ذلك على كيفية تغيير القوى السياسية للعلاقات الاقتصادية، هل ينشأ ذلك بخطة وطنية وبعلاقات ديمقراطية بين قوى الشعب أم أن حيتان القطاعات العامة تبقى مسيطرة. وإذا استمرت الحيتان فإن ذلك لا يعني تغييراً إلى الموديل الثالث بل هو بقاء في الموديلين السابقين.
وإذا حدث تغيير حقيقي، وتحول الرأسمال الوطني المجسد في شركات حكومية وأموال حكومية، وغدت كلها بيد الإدارة الشعبية، فهذا أمرٌ يغير البناء التحتي، وتتبدل علاقاتُ الإنتاج، ولا تعودُ الدولة هي المالكُ الكلي، وتصير رمزاً للمالكين الحقيقيين سواء كانوا قطاعاً عاماً أم خاصاً.
إن قوى الإنتاج المادية والبشرية التي تتعرض للاستنزاف من قبل الدول المهيمنة الفوقية والمُخطـِّطة كيفما تشاء للاقتصاد، والذي يقود لأشكال كثيرة من الفساد والهدر، تتعرض للتآكل والضعف على مستويات مختلفة كأن تتضخم في جانب وتضعف في جوانب أخرى مهمة، أو أن تذهب الموارد للخارج، أو لبذخ المسئولين. وهي عادة تجعل القوى العاملة في ضنك معيشي مستمر، وفي حالة ضعف علمي، وتضخم عددي كمي، نظراً لطابع الاقتصاد غير المخطط.
حقق النمط الأول خاصة تحولات كبرى في الإنتاج وحقق الثورة الصناعية في ظروف الشرق، لكن مع استمرار الدكتاتورية السياسية فإن الفوائض الاقتصادية وربما حتى الإنجازات الصناعية قد تتعرض للتدهور، بسبب بقاء عمليات الفساد والبيروقراطية، وبالتالي فإن فوائض كبيرة تذهب للخارج، أي أن الهبوط إلى الموديل الثاني ممكن كذلك للموديل الأول، مثلما يحدث في جمهورية روسيا الاتحادية حيث يحدث نزيفٌ ماليُّ نحو الغرب، وتبقى الصناعات ضعيفة، وتبقى الدولة بائعة مواد خام ثمينة وبضائع عسكرية. وهكذا فإن شبح الدولة الاستبدادية يطارد روسيا دائماً.
أما الموديل الثاني فهو جائزٌ أن يرتفعَ إلى مستوى الموديل الأول، إذا حوّلَّ قسماً كبيراً من الفوائض لإعادةِ إنتاجٍ موسعٍ موجهٍ للتحديث الصناعي والتحديث العلمي ولتغيير الـُبنى الاجتماعية والثقافية المتخلفة.
وتقومُ هذه الأنماط على نمو العلاقات الرأسمالية العالمية كذلك، المتناقضة بين الشرق والغرب، أي بسبب انتشار العلاقات الرأسمالية الواسعة في دولِ الشرق، وكذلك بسببِ تأزم العلاقات الرأسمالية في الغرب.
وهذان المظهران المتضادان يعكسان شبابية الأسواق الشرقية ووجود قوى عمل هائلة ورخيصة في بعض الدول الكبيرة، وحدوث انتقالات للرأسمال الغربي نحو هذه الدول، وشيخوخة الرأسمالية في الغرب من حيث تصاعد الأسعار والأجور والبحث عن الأسواق المتقلصة دائماً وتفجير بعض الحروب، (وهذه العملية تشكل إعادة إنتاج موسعة عالمية في بعض الدول الآسيوية الكبرى فيما تدهور بلداناً أخرى إلى درجة الهلاك)، إن هذه الظواهر تطور الرأسمالية في بعض بلدان الشرق، وتقوى حضور العمال والمؤسسات الديمقراطية الأهلية في حياة الدول الغربية.
كما أن الدول الغربية تستدعي عمالة شرقية رخيصة، مثلما تمتص الفوائد النقدية الكبيرة، القادمة من دول النفط.
وهكذا فإن أزمة العقارات الأمريكية مثلاً تعبر عن تصاعد الاقتصاديات الطفيلية، أي تسارع بعض القطاعات المالية خصوصاً لجني أرباح كبيرة بدون أن يواكب ذلك تطور الإنتاج، فتغدو الأزمات المالية الغربية ليس كما كان في الماضي مقصورة على الغرب بل تصبح عالمية، بسبب تشابك موديلات الشرق الاقتصادية مع الرأسماليات الخاصة الغربية. فتغدو الظواهر الطفيلية والأزمات كونية تعرقل الإنتاج العالمي.

من يملك الرأسمالية الحكومية؟

في إحتدام الصراعات الاقتصادية والسياسية في العالم الثالث الذي يحاول الخروج من الطبيعة الهجينة الاقتصادية لأنظمته تبقى الملكية (العامة) محور تلك الصراعات.

غموض الملكية من غموض التطور السياسي، حيث تواصلُ الدولة دورَها الإقطاعي القديم بالهيمنة على الأرض، ثم الموارد، ثم الثقافة.
إن أعمار الملكيات الحكومية تتراوح مع نشؤ نقيضتها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فهي تغدو حاضنة للجمهور العامل، الذي يجد في الملكية العامة جانباً أفضل من الملكية الخاصة تلك، ومن هنا نشؤ الأبويات الاقتصادية الشرقية التي تتمظهر حيناً بالدولة الوطنية وحيناً بالدولة الاشتراكية، وهو أمر يسرع في بعض الجوانب من اللحاق بالغرب.
تنبثق الملكية العامة من الأدوار العتيقة للدول الشرقية، فنجد أن الأرض هي الملكية الأساسية لانبثاق الرأسمالية الحكومية، لكنها لا تـُؤخذ كبضاعةٍ بشكل كلي، بل كملكية تابعة للحكومة، فهي توزعها أو تصادرها أو تحولها لأملاك (عامة) كيفما تحدثُ السيطرة السياسية.
تساعدها في ذلك الجذور القديمة حيث وجود الملكيات العامة للآبار وللمراعي، وبالتالي الغياب العميق للملكية الخاصة الزراعية، التي ظهرت في بعض الدول الشرقية الكبيرة خلال القرنين الماضيين فقط، كما ظهر ذلك في ما يسمى بإصلاحات محمد علي في مصر.
كانت وجود الملكيات الجماعية للأرض الزراعية في الشرق من أهم أسباب استقرار الزراعة ومحاصيلها، ومن أهم أسباب الجمود الاجتماعي كذلك، فهو شكلٌ يؤبدُ الملكية الإقطاعية حيث لا تقوم الحكومات في المراكز (الوطنية) أو في مركز الخلافة بتغيير نمط الزراعة وتطويره أو تبديل حياة المزارعين، أنها فقط تكتفي ب(الخراج) حتى سمى أحدُ الباحثين هذا النمط الإقطاعي باقتصاد الخراج.
ولهذا حدث في قرون الحداثة العربية الأولى هذا الأقحام للملكية الخاصة في الريف، عبر هيمنة الدول المحلية أو الغربية، وقدمت قوى يسارية عديدة مشروعات تقوم على الاحتفاظ بهذا الشكل التعاوني الإنتاجي في الزراعة، وتطويره لمقتضيات الحداثة.
كان إلحاق الملكية الزراعية بالدولة قد تم بأشكال عديدة إذن، عبر التملك الخاص، أو عبر الاقتصاد الحكومي العام، وهو ما شكل جذور التدهور المستقبلي الكبير للزراعة، خاصة في مواجهة نمور التغلغل المتعددة، وأدى إلى تدهور البيئة الزراعية، وتخفيض أجور العمال للانتقال للمدن، وخلق فوائض سكانية جاهزة للحروب والعمل المنخفض السعر وإستغلال الأرياف والبوادي للهو والصيد.
حولت الدولُ الأرضَ وخاماتها وإنتاجها إلى تابع لها، لأنها كانت الثروة الأساسية في الزمن السابق، لكن مع تغير الثروة وانتقالها للمواد الخام الصناعية، انتقلت سيطرات الدول إليها، وأخذت الأرضُ الزراعية تفقدُ أهميتها المركزية. وهو الأمر الذي ساهم في تدهور مكانة السلع الزراعية وانحدارها، خاصة مع عدم تحديث الأرياف.
هذا قد وضع السيطرة الإقطاعية على التطور الرأسمالي الشرقي المتنامي منذ البداية، فجعل من ملك الأرض سابقاً يملك البترول والحديد والذهب الخ.
تنامت ثرواتُ من يحكم، تبعاً لسيطرته على المواد الخام، ومدى قيمها في السوق العالمية، ومع غياب الديمقراطية فإن الثروات معظمها شكل (الرأسماليات الخاصة)، فإذا كان هناك رقابة شعبية، أو أن الحكم قد انبثق من ثورة، فإن تحجيم الرأسمالية الخاصة داخل الحكومة أمر ممكن، وهو الأمر الذي يوسع الملكية العامة حسب حضور القوى العمالية والاشتراكية داخل النظام، لكن ذلك مؤقت، فقوى الإستغلال أقوى من قوى الشراكة، وغياب الحريات يشجع على الفساد، وما تلبث الملكيات العامة أن تـُنخر ويتحدد ذلك اقتصادياً في الانتقال من زمن الوفرة إلى زمن الاستدانات الحكومية المتعددة ثم يأتي الأفلاسان الاقتصادي والسياسي في نهاية المطاف.
إن الملكيات العامة تغدو مشكلة محورية مع تتابع الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الحديثة، فيظهرُ الخلافُ على الأملاك الحكومية نفسها، حين تتشق الدولة الكبيرة إلى دول، كما حدث في روسيا ودول الرابطة على ممتلكات الاتحاد السوفيتي السابقة، وكما يجري من خلاف على ممتلكات العراق النفطية، وكما يحدث من سلب علني للقطاعات والأملاك العامة في العديد من الدول. وحين تثور القوميات والطوائف في بعض الدول بسبب الموارد العامة وسؤ توزيع فوائضها إيذاناً أما بفك الارتباط بينها أو بتشكيل وحدة قومية أو وطنية على أسس جديدة.
لكن نقيض الملكية الحكومية هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فهذه الملكية المتقزمة خلافاً للملكية العامة تصعدُ وتتوسعُ، فالملكية العامة تتوقفُ عن النمو في لحظةٍ زمنية معينة متعددة الأشكال بين الدول الشرقية، حسب تطوراتها الخاصة، وهذا التوقف هو الذي يصعدُ النقيضُ أي الملكية الخاصة، وكانت الطواقمُ الإدارية وهي تشتغلُ للملكية العامة تفكر في كيفية تنامي أملاكها الخاصة، وعبر الخطط الاقتصادية والإنشاءات الوطنية الباهرة والمفيدة في العديد من الجوانب تزدهرُ الجيوبُ الخاصة، فيتم نقل الفوائض بشكل مستمر من جهة إلى جهة أخرى، حتى تبدو الفوارق متسعة وكبيرة وتزداد بين الضفتين المتباعدتين! كما تتدهور الخدمات الحكومية بشكل دائم وتقام إلى جوانبها الخدمات الخاصة التجارية.
كما يتم هنا الاستفادة من ملكيات الأرض حسب وضع كل دولة، فتـُلحق بالمشروعات الحكومية الخاصة.
لا تتيح تطورات الملكية الخاصة المنبثقة من الملكيات العامة مستويات ديمقراطية كبيرة، فقد اعتمدت الدولُ على الدين كشكل تغيّب بهِ وعي الناس، أو على أي إرث سياسي يستخدم في عمليات تلميع من جهة وإطفاء من جهةٍ أخرى، وهي كلها أفكار تحنيطية للوعي تمنعه من رؤية الواقع، ولهذا فإن الليبرالية تظهر بشكل كسيح، عاجزة عن التحول إلى ميدان السياسة، ونظريات الغرب التقنية الثقافية تتحول إلى سحر آخر.
وليس عجز الليبراليات سوى عجز للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج عن الأنتشار والتعمق في مواد الأرض وخاماتها والتوظيف الحديث لبشرها، ولضعف وعي العمال تجاه الملكيات العامة. ومن هنا فإن الإيديولوجيات المستوردة تبقى بلا قواعد مادية تحملها للناس.

26/12/2009

تم

عبـــــــدالله خلـــــــيفة

‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆                        

𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙

21.10.2014 | 1.3.1948

من مواليد القضيبية – البحرين.

خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1974.

اعتقل من سنة 1975 إلى 1981.

◇ عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعية والثقافية في الصحف البحرينية والخليجية، ونشر في العديد من الدوريات العربية.

عضو اتحاد الكتاب العرب بسوريا.

◇ ساهم في مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، وأول مؤتمر أشترك فيه كان سنة 1975 الذي عقد بالجمهورية الجزائرية وقدم فيه بحثاً عن تطور القصة القصيرة في البحرين، وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، وببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والاستبداد» وذلك باتحاد الكتاب المصريين. والعديد من المؤتمرات الادبية العربية.

◇ منذ سنة 1966 مارس عبــدالله خلــيفة كتابة القصة القصيرة بشكل مكثف وواسع أكثر من بقية الأعمال الأدبية والفكرية التي كان يمازجها مع هذا الإنتاج، حيث ترابطت لديه الكتابة بشتى أنواعها: مقالة، ودراسة، وقصة، ونقد. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي قام بطبع نتاجه القصصي والروائي والفكري في دور النشر العربية المختلفة.

ونتاجه الأدبي والفكري يتنوع على النحو التالي:

القصص القصيرة:

1لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».

2الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل– الأحجار – العرائس – الماء والدخان».

3يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدربأماهأين أنت الخروج – الجد – الجزيرة».

4سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص:السفرسهرة – قبضة تراب – الطوفان  – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».

5دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء – الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».

6جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة –رجب وأمينةعند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد».

7سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش الناروراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».

8الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوسليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى– الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

9أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ– شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – القائدُ مجنونٌ – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف».

10إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – گبگب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار – أنشودة الصقرغليانُ المياه».

11ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة – جزرُ الأقمار السوداء – سيرة شهاب – معصومة وجلنار– سارق الأطفال – شظايا – الترابيون».

12باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الأول: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، 2004.

الأعمال القصصية الكاملة، المجلد الثاني: لحن الشتاء، الرمل والياسمين، يوم قائظ، سهرة، دهشة الساحر، جنون النخيل، سيد الضريح، 2021.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثالث: مريم لا تعرف الحداد، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، الينابيع، 2021.

الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع: محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021.

الأعمال الروائية:

13اللآلئ، 1982.

14القرصان والمدينة، 1982.

15الهيرات، 1983.

16أغنية الماء والنار، 1989.

17مريم لا تعرف الحداد، 1991.

18الضباب، 1994.

19نشيد البحر، 1994.

20الأقلف، 2002.

21ساعة ظهور الأرواح، 2004.

22رأس الحسين، 2006.

23عمر بن الخطاب شهيداً، 2007.

24التماثيل، 2007.

25عثمان بن عفان شهيداً، 2008.

26يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، 2008.

27محمد ثائراً، 2010.

28ذهب مع النفط، 2010.

29عنترة يعود الى الجزيرة، 2011.

30الينابيع, الطبعة الكاملة، 2012.

31عقاب قاتل، 2014.

32اغتصاب كوكب، 2014.

33رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.

34ثمن الروح، 2016.

35ألماس والأبنوس، 2016.

36ابنُ السيد، 2016.

37الأرض تحت الأنقاض، 2017.

38حورية البحر، 2017.

39طريق اللؤلؤ، 2017.

40بورتريه قصاب، 2017.

41مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، 2018.

42شاعرُ الضياء، 2018.

43خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ، 2019.

44هُـدهـُـد سـليمـان، 2019.

الدراسات النقدية والفكرية:

45 – الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي، 2004.

46الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، 2005.

47الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الثالث، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005.

48الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

49نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، 2007.

50– تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية، 2008.

51صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران، 2016.

52الملعون سيرة وحوارات وما كتب عنه، 2016.

53تطور الأنواع الأدبية العربية: دراسة تحليلية للأنواع من الشعر الجاهلي والقرآن حتى الأدب المعاصر، وهي دراسة مكثفة فكرية تكشف علاقة التداخل بين النصوص العربية والصراع الاجتماعي، 2016.

54 – الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي: وهي قراءة جديدة للماركسية، تبحثُ أسلوبَ الإنتاجِ الراهن في الشرق عبر نظرة مختلفة، الكتاب الثاني:لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته، 2016.

55عالم قاسم حداد الشعري، 2019.

56عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله، 2019.

57الكلمة من أجل الإنسان، 2020.

عبــدالله خلــيفة على موقع الحوار المتمدن

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436071

   مليون قارئ. 6,348,633 عدد إجمالي القراءات:

عدد المقالات المنشورة: 1,218.

عبــدالله خلــيفة على ووردبريس:

https://isaalbuflasablog.wordpress.com

https://iakalbuflasa.wordpress.com

عبــدالله خلــيفة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/abdullakhalifaalbuflasa

عبــدالله خلــيفة على You Tube:

https://www.youtube.com/channel/UCdyc68FyFxWEu1nt9I7K46w

عبــدالله خلــيفة على مدونة بينترست:

عبــدالله خلــيفة على مدونة إنستغرام:

https://www.instagram.com/abdulla_khalifa_albuflasa

البريد الالكتروني لـ عيسا خليفة البوفلاسة

isa.albuflasa@gmail.com

isa_albuflasa@yahoo.com

رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي ــ أو أسلوب الإنتاج الكولونيالي

لا شك أن المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل من المساهمين البارزين في تحليل الواقع العربي المعاصر من منطلقات نقدية عميقة وخاصة من رافد الماركسية البنيوية ، التي قام بتطبيقها على الواقع العربي بصورة حرفية ، دون رؤية الاختلاف بين مستوى التطور الغربي ، وتطور البُـنى الاجتماعية العربية .
ونحاول في هذه الموضوعات قراءة آرائه وتحليلاته لندوة جرت في الكويت في السبعينيات من القرن الماضي ، اتخذت لها عنواناً هو (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) ، وقد ناقشها في كتابه : (أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية ؟) .

يفترض مهدي عامل مسبقاً ، ودون دراسات ، بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات رأسمالية . فهو يصر على أن ( نمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر في البنيات الاجتماعية العربية) ، (9) .

إن هذا يبدو لوعيه شيئاً بديهياً ، صحيح إنه يقول أن ثمة علاقات ما قبل رأسمالية في هذا الإنتاج غير أنها ليست سوى بقايا .

فيقول بوضوح : إن فهم تطور بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية مثلاً في البلدان العربية في الوقت الحاضر ، وفهم أزمات هذا التطور يستلزم بالضرورة الانطلاق بالتحليل من هذه البنية بالذات في شكل وجودها القائم في كل من البلدان العربية. ) ، (10) .

وليس ثمة من الضرورة بحث جذور هذه البُنى (مع ظهور الإسلام مثلاً ، أو مع الجاهلية ، أو مع بدء العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي أو عصر الانحطاط الخ . . ، بل هو يبدأ مع بدء التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.) ، (11) .

وهو يعترف بأن ثمة (أشكالاً من الإنتاج سابقة على الإنتاج الرأسمالي لا تزال حاضرة في البنيات الاجتماعية العربية) ، غير أنها ليست سائدة فيه ، بل الإنتاج الرأسمالي هو السائد .

ونحن نحاول أن نفهم كيف استطاع الاستعمار أن يجعل من هذه العلاقات سائدة ؟ أي كيف استطاع أن يجعل العلاقات ما قبل الرأسمالية لا تسود بل أن تسود العلاقات الرأسمالية ؟

لا يقوم مهدي عامل ببحث هذه المسألة تاريخياً ، بأن يعطينا أمثلةً عن بلد عربي ومنذ القرن التاسع عشر تحول إلى الرأسمالية ؟ فلا نجد .

ولا أن يقوم بتحديد متى استطاعت البرجوازيات العربية أن تستولي على الحكم وتنشر النظام الرأسمالي الشامل ؟

ومن جهة أخرى فهو يؤكد بأن ( كثيراً من علاقات الإنتاج الاجتماعية ، سواء في الحقل الاقتصادي أم السياسي أم الإيديولوجي ، التي تنتمي إلى أنماط من الإنتاج بالية ، أي بالتحديد ، سابقة على الرأسمالية ، لا تزال قائمة في البنيات الاجتماعية المعاصرة ) ، ( 12 ) .

ينطلق مهدي عامل لتحديد هيمنة الرأسمالية على العالم العربي منذ القرن التاسع عشر بشكل مضاد للقراءة الموضوعية ، وهو يفترض رأسمالية سحرية تتشكل منذ أن تطأ بوارج بريطانيا وفرنسا الشواطئ العربية ، في حين إن الرأسمالية تتعلق بمدى تشكل الرأسمال الخاص في القطاعات الاقتصادية المختلفة ، ومدى انتشار العمل المأجور على بقية أنواع العمل في النظام الاجتماعي .

وتتحددُ سيطرةُ البنيةِ الرأسماليةِ بوصولِ منتجي البضائع إلى سدة الحكم ، وإزاحة ملاك الأرض وإقطاعيي السلطة السياسية ، وسيادة العمل بالأجرة ، وهي كلها أمور لم تتحقق في نهاية القرن التاسع عشر ولا في نهاية القرن العشرين العربيين !

ولكن مهدي عامل يُصادر ببساطة ، قبل أن يبحث ، فهو منذ البدء يقول : ( أزمة البرجوازيات العربية. .) فأفترض إن هذه البرجوازيات قد حكمت وتعفنت في الحكم وهي مأزومة الآن ؟ ! في حين إن البناء الاقتصادي والسياسي لم تتحقق فيه شروط انتصار الرأسمالية !

ولكن ذلك لا يتعلق فقط بالبحث الفكري بل والأخطر بالمهمات السياسية المباشرة ، فيقول بأن :

( المهمة الأساسية لحركة تاريخنا المعاصر بهذا الشكل ، لاتضح لنا أن تحققها يمر بالضرورة عبر عملية معقدة من الصراع الطبقي ضد البرجوازيات العربية المسيطرة . .) ، ( 13 ) .

ولكن كيف يمكن إسقاط أسلوب إنتاج لم يُسد وطبقات لا تحكم ؟

علينا أن نناقش مسألة أسلوب الإنتاج الكولونيالي التي طرحها مهدي عامل ، كي نقوم بتفكيك تفكير هذا المفكر ، وهي التي اعتبرها حجر الزاوية في نظريته حول تطور العالم العربي .

كما رأينا سابقاً ، ( راجع الفقرة حول التاريخ العربي ) إن مهدي عامل يرفض تحليل البنية الاجتماعية العربية الحالية من خلال جذورها ، وهو ينتقد المفكرين العرب المجتمعين في الكويت لمناقشة ( أزمة تطور الحضارة العربية) بسبب قيامهم بالعودة إلى جذور التاريخ العربي ، طالباً الوقوف عند العصر الراهن والنظر إلى الماضي من خلال البنية الاجتماعية الراهنة .

إن مهدي عامل ينظر للبُنى الاجتماعية العربية الراهنة وكأنها صياغة أوربية غربية ، فقد قام الاستعمار الغربي برسملتها ، أي بتحويلها إلى رأسمالية ناجزة ، وهذه الرأسمالية الناجزة يُطلق عليها أسم ( أسلوب الإنتاج الكولونيالي ) ، وبهذا قام مهدي بخطئين كبيرين مزدوجين ، فهو قد قطع السيرورة التاريخية للبُنى العربية الاجتماعية ، أي قام بإزالة طابعها الطبقي التاريخي ، وهي عملية يقوم فيها بالتمرد على القوانين الموضوعية لرؤية المادية التاريخية عن التشكيلات الخمس : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية.

فهو عبر هذه المقولة قد ألغى كون البُنى الاجتماعية العربية بُنى إقطاعية ، فحين لا نبحث ألف سنة من التطور الاقتصادي والاجتماعي السابق ، ونعتقد أن أسلوباً جديداً للإنتاج قد تشكل ، وأسمه الأسلوب الكولونيالي ، في خلال بضع سنين ، وأن علينا أن ننظر للتاريخ من خلال هذا الأسلوب غير المحدد والغامض ، فتتشكلُ لدينا هنا رؤيةٌ سياسية دكتاتورية تحاول أن تفرض نفسها على جسدِ التاريخ الموضوعي ، بمعطيات غير مدروسة .

إن رفضَ تحليل الماضي ، أي رفض بحث التاريخ الإقطاعي للعرب ، يتضافرُ لدى مهدي عامل ، ورفض تحليل الحاضر ، أي قراءة عمليات التداخل بين الإقطاع والرأسمالية ، كأسلوبين للإنتاج موضوعيين في التاريخ العربي الراهن ، ويطالب بمناقشةِ أسلوب إنتاج من اصطلاحاته هو أسلوب الإنتاج الكولونيالي .

ومع هذا فعلينا أن نناقش تسمية أسلوب الإنتاج المقترح ، فمهدي عامل لا يُنكر وجود بقايا نظام تقليدي في هذا الأسلوب الذي انتصرت فيه العلاقات الرأسمالية ، ودون أن يطرح أية أرقام أو معطيات على انتصار العلاقات الرأسمالية الموهومة ، لكنه يعتبر إن العلاقات الرأسمالية المنتصرة في العالم العربي تشكل علاقة تبعية مع العالم الغربي حيث العلاقات الرأسمالية الأقوى ، وهذه الأخيرة الغربية هي التي تقوم داخلها بتقويض أساليب الإنتاج الأخرى ، في حين تعجز الرأسمالية العربية في علاقتها التابعة من تقويض أساليب الإنتاج السابقة داخلها ، وبهذا فإن أسلوبَ الإنتاج الكولونيالي الذي سادت فيه البرجوازياتُ العربيةُ يحتاج إلى ثوراتٍ عمالية لتقويضه والانتقال إلى الاشتراكية .

تتشكلُ هذه العمومياتُ الفكريةُ من منهجٍ مجردٍ يفرضُ قوالبه على الواقع الحي غير المدروس ، فتـُـلغى مسألةُ التشكيلة الإقطاعية بجرة قلم ، ويتم تحويلها إلى تشكيلة أخرى متطورة بقفزة خيالية أخرى هي التشكيلة الرأسمالية الكولونيالية ، ثم تحدث القفزة الأكبر إلى الاشتراكية . . ولا يزال الباحث لم يحلل الإقطاع العربي وسيرورته السابقة والراهنة .

والغريب إنه في كتابه هذا ( أزمة الحضارة العربية . .) يناقش جملةً من المفكرين العرب الذين يقدمون له مادة تحليلية ممتازة ، ولو أنه أبعد فرضياته الإيديولوجية المسبقة ، أو استفاد بعمق من الماركسية البنيوية التي نقل تطبيقاتها لفهم البنية الاجتماعية ، لأمكنه أن يدخل إلى دائرة التاريخ العربي وتشكيلته التي تضاربت أسماؤها لديه . ولكنه حدد منذ البدء هؤلاء الباحثين كمنظرين للبرجوازيات العربية المستولية على الحكم والتي وصلت إلى الأزمة ، وبالتالي يجب نقد وعي هذه الطبقات المسيطرة عبر وعي الطبقات الثورية الخ . .

حين يناقش مهدي عامل الباحث العربي شاكر مصطفى يتجاهل مهدي المادة الفكرية الثمينة التي يقدمها شاكر لتوصيف تطور المجتمعات العربية بقوله :

( إن الاستمرار الاجتماعي الذي تعيشه الشعوب العربية إنما تحكمه عناصر عديدة في مجموعها التركيب العربي القائم . . وأن لامتدادات التاريخ في هذه العناصر المكان الواسع إن لم يكن الأول. . ) وهذه (العناصر الأساسية الباقية عند أربعة جوانب :

أ ــ طرق الإنتاج المادي ب ــ تكوين نظام السلطة ج ــ طبيعة العلاقات الاجتماعية د ــ قيم الفكر التراثية..)، ( 14 ) .

هكذا نرى لدى شاكر مصطفى نظرة تاريخية موضوعية واقتراباً دقيقاً من فهم أسلوب الإنتاج الإقطاعي العربي الإسلامي المستمر عبر ألف سنة ، الذي يتأسس في نظام السلطة والإنتاج معاً ، ثم يتمظهرُ في العلاقات الاجتماعية : الأبوية ، هيمنة الذكور ، اللامساوة الجنسية ، الطائفية الخ . . ثم يصل النظام الإقطاعي إلى المستوى الثقافي : الأمية ، الخرافة الخ . .

إن شاكر مصطفى يمثـل مقاربة علمية ( ماركسية ) من فهم التاريخ ، ولكن ماذا يفعل مهدي عامل بمثـل هذه المقاربة ؟

بدلاً من أن يقوم بفهمها ودرس التاريخ العربي يقوم بالمصادرة السريعة ، فيقول :

( أما أن يكون هذا التاريخ الذي تكونت فيه البنية الاجتماعية للواقع العربي الحاضر ، تاريخاً يرجع إلى ما قبل عشرة قرون خلت ، أي إلى العصر العباسي أو أواخر العصر الأموي ، فهذا ما نختلفُ فيه جذرياً مع الدكتور مصطفى ) ، ( 15 ) .

فهو يحتار كيف أن هذه البنية المزدهرة يوماً ما تصبح هي نفسها سبب التخلف ؟ فيقول بلغته :

( فالبنية هذه ليست في حاضرها ، من حيث هي بنية ، أي كلٌ معقد متماسك ، سوى البذرة التي كانتها في الماضي ، تنامت ، فتنافت وتواصلت في حركة من تماثـل الذات بالذات ، وما الذات هذه إلا الذات العربية نفسها . ) ، ( 16 ) .

إن مهدي عامل الذي ينتقد شاكر مصطفى على أنه صار يفكر بمنهج هيجل الجدلي المثالي ، يعجز عن اكتشاف رؤية الوعي الموضوعي لدى مصطفى شاكر في فهمه للتاريخ العربي ، ويصبح هو هيجلياً مثالياً .

فالبنيةُ العربيةُ الإقطاعية في زمن الإمبراطورية العباسية كانت نظاماً مركزياً ، والإقطاع المتحكم في الخراج الهائل يصرفه على البناء الترفي والثقافة المقربة المفيدة للنظام ، ثم يتحلل هذا الإقطاع المركزي بسبب ثورات الشعوب ، ليجيء نظام الإقطاع اللامركزي ، وتظهر الدول والدويلات الإقطاعية ، وتكرر بشكل أوسع إنجازات ومشكلات النظام السابق ، ثم يتهرأ هذا النظام الإقطاعي الديني العام بتشكيلاته المتعددة ، ليغدو أنظمة وإمارات إقطاعية صغيرة مذهبية الخ . .

إن هذه السيرورة التاريخية تحافظ على قسمات عامة أشار لبعضها شاكر مصطفى في المقطع السابق ذكره ، حيث يغدو الحكام هم المستولون على القسم الأكبر من الثروة العامة ، وتتواشج السلطة والثروة ، ويشركون رجال الدين في السيطرة على العلاقات الاجتماعية ، أي ينقلون العلاقات الإقطاعية إلى البيوت والأحوال الشخصية الخ . .

وإذا لم نقم كما يريد مهدي عامل بقراءة هذه السيرورة التاريخية الاجتماعية التي امتدت خلال ألف سنة ، والتي تتغلغل في أبنيتنا الاجتماعية وقوانينا الوراثية وفي سلطاتنا المطلقة، وفي شعرنا ونثرنا وعاداتنا ولاوعينا ، فكيف نقوم بتغيير هذه البنية التقليدية وتشكيل النهضة ؟ !

إن مهدي عامل يخرق قوانين الوعي على مستوى قراءة الماضي ، وعلى مستوى قراءة الماركسية ، فعبر قراءة الماضي يتجاهل البنية الإقطاعية وسيرورتها الراهنة ، وعلى مستوى الماركسية يقوم باختراع مغامرات سياسية محفوفة بالكوارث ، عبر اختراعه مقولة أسلوب الإنتاج الكولونيالي وتصفية البرجوازيات العربية .

فهو بدلاً من قراءة الماضي ورؤية أسباب عجز البرجوازيات العربية القديمة عن تشكيل النهضة ، والقيام بثورة رأسمالية ، وقراءة أسباب ضعف البرجوازيات العربية الراهنة وعدم قدرتها على تغيير أسلوب الإنتاج الإقطاعي وتشكيل تحالف معها لتغيير التركيبة التقليدية يقوم بوضعها في خانة العدو والقفز ضدها إلى مهمات غير حقيقية ومكلفة كما دلت تجربة الشعب اللبناني .

يمثـل المفكرون الذين تواجدوا في الكويت لمناقشة مسائل النهضة العربية وكيفية إيجادها ، نخبة اشتغلت في حقول الدراسات لزمن طويل ، وبغض النظر عن اجتهاداتها ومدارسها فإنها تعبر عن عقول مهمة تعارض المجتمعات العربية التقليدية من منطلقات مختلفة ، لكن المفكر اللبناني مهدي عامل نظر إليها كخصوم وليس كقوى مساندة للطبقات العاملة العربية في تغيير مجتمعات التخلف ، وبهذا كان يرفض العديد من الآراء المهمة التي تقدمها كما فعل مع مصطفى شاكر .

ويعترض مهدي عامل كذلك على زكي نجيب محمود الذي يمثل المدرسة الوضعية أو التجريبية المنطقية في دعوته لاحكام العقل في النظر إلى الأشياء ، وخاصة في جملته التي قالها بضرورة ( الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه) ، ودعا زكي نجيب العربَ إلى التوجهِ لتمثل الحضارة المتقدمة ، واعتبر إن الاحتكام إلى العقل ميز الحضارات العقلانية ، معطياً نماذج أربعة على حضارات احتكمت إلى العقل وهي :

أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ، وبغداد في عصر المأمون ، وفلورنسة في القرن الخامس عشر ، وباريس في عصر التنوير في القرن الثامن عشر .

أي إن زكي نجيب يقدم درجات من صعود البرجوازية عبر العصور ، أعطى إنتاجها المادي قدرة على الفهم الموضوعي للطبيعة المجتمع ، على درجات متفاوتة .

ويعترض مهدي عامل على هذه التصنيفات ويقول :

( وهنا تظهر الدلالة الطبقية لهذا المنطق من التفكير : فانتفاء الطابع التاريخي ، أي النسبي ، من شكل العقلانية الخاص بالبنية الاجتماعية الرأسمالية يجعل من هذا الشكل الخاص مطلقاً ، فيظهر ما هو تاريخي – أي ما يحمل فيه ضرورة تخطيه ونفيه – بمظهر ما هو طبيعي – أي يحمل فيه ضرورة تأبده – ويظهر الشكل الطبقي البرجوازي للعقلانية بمظهر العقلانية الإنسانية ، أي بما هو طبيعي ملازم للحضارة كحضارة . .) ، ( 17 ) .

إن فئاتٍ برجوازيةً عربية تعاني من هيمنة تقليدية متخلفة ، وحين تقوم باستعادة لحظات من فعل الفئات المتوسطة عبر التاريخ الماضي إنما تريد شحذ عقلها وإرادتها من أجل تشكيل عالم نهضوي عقلاني عربي ، يمكن حتى للقوى الشعبية فيه أن تناضل بصورة حديثة ، لكن زكي نجيب محمود هنا يفصل العقلانية عن أسلوب الإنتاج ، ولا يرى إن العقلانية في أسلوب إقطاعي ( عباسي ) هو غيره في أسلوب رأسمالي جنيني في أوربا ، وبالتالي كان هذا يحتاج لقراءة العنصر العقلاني في سيرورته التاريخية .

إن النموذج الذي يختاره مهدي عامل في الفصل الرابع من الكتاب السابق الذكر ، هو الشاعر والباحث أدونيس ، الذي صاغ دراسة حول الإمام أبي حامد الغزالي في ذلك المؤتمر مُستنتجاً ــ أي أدونيس ــ بأن الفكر الديني :

[بقواعده وغاياته ، هو الذي يسود المجتمع العربي ، اليوم . ولذلك فإن الإيديولوجية السائدة ، سواء في المدرسة والجامعة والبرامج التربوية ، والصحافة والإذاعة والكتاب ، إنما هي قوة ارتداد نحو الماضي ، وقوة محافظة على الراهن الموروث . . فعلاقات الإنتاج الموروثة . . ما تزال هي السائدة . . والبنية الإيديولوجية التقليدية . . ما تزال كذلك هي السائدة] ، ( 18 ) .

هذا الكلام يقوله أدونيس في سنة 1974 ، وبالتالي استطاع أن يشخص الواقع العربي تشخيصاً مهماً بحيث أننا الآن ( سنة 2005 ) ندرك الفجائع المترتبة على هذه السيادة الماضوية . ولكن اليسار حينذاك لم يكن ير مثل هذا التشخيص ، كرفيقنا الراحل مهدي عامل ، الذي يتصدى لهذه المقولة قائلاً رداً وتحليلاً للرأي السابق :

[1 – الفكر العربي هو نموذجه ، ونموذجه هو الغزالي ، فالفكر العربي إذن هو فكر الغزالي .

2 – الفكر السائد في الماضي هو الفكر السائد في الحاضر .

3 – البنية الإيديولوجية السائدة في الماضي هي البنية الإيديولوجية السائدة في الحاضر.

4 – علاقة الإنتاج المتوارثة – أي السائدة في الماضي – هي علاقات الإنتاج القائمة في الحاضر .

إذن الماضي هو هو الحاضر ، لا شيء تغير. ( خلاصة ). ] ، ( 19 ) .

من الواضح إن مهدي عامل يقوم بتبسيط نظرة أدونيس إلى التاريخ الفكري العربي ، فالغزالي لدى أدونيس هو كل الفكر العربي الديني المحافظ ، ولكن أدونيس يقول إن هذا الفكر المحافظ المذهبي هو الذي ساد ، وإذا طورنا مقولة أدونيس كما توصلنا إليها ، فنقول إن رؤية الغزالي كانت هي ثقافة الإقطاع السائد . ولكن ثقافة الإقطاع المذهبي متعددة ، وحتى تسود قامت بالقضاء على التيارات الدينية المعارضة ، وهذه لها حراك وصراع استمر إلى وقتنا الراهن ، فليس معنى ذلك سكون الخريطة الفكرية الاجتماعية ، بل أن لها ألواناً وتضاريس معقدة . ولكن من الناحية الجوهرية فإن المنظومة العربية الإسلامية لم تخرج عن التشكيلة الإقطاعية ، ومعرفة وتحديد التشكيلة هذه هي الخطأ الجوهري لدى مهدي عامل كما بينا سابقاً ، في حين أن الباحثين المنبثقين من الفئات الوسطى الحديثة كأدونيس وشاكر مصطفى ، يرون أنها مستمرة ، لكنهم لا يعرفون كيف يبلورن ذلك نظرياً .

يضع مهدي عامل بعض ممارسات الفلاسفة العرب كابن رشد في دائرة ما يسميه [بالممارسة الإيديولوجية لما يمكن تسميته بالطبقة الأرستقراطية العربية المسيطرة في المجتمع الاستبدادي في القرون الوسطى.] ، وبغض النظر عن جمله من المفاهيم الخاطئة في هذه العبارة ، فإن مهدي عامل يضع الممارسات النقدية للمفكرين العرب المسلمين السابقين في سياق [مجتمع استبدادي] ، وليس في سياق التشكيلة الإقطاعية المعروفة بداهةً للمادية التاريخية ، ثم يقوم بوضع الحركات والفكر الديني الإسلامي المعاصر في سياق آخر فيقول :

[ أما في الحالة الثانية ، «فالإسلام» موجود بالشكل الذي يتحدد فيه بحقل آخر من الممارسات الإيديولوجية الطبقية ، خاص ببنية اجتماعية مختلفة ، يغلب عليها الطابع الكولونيالي، في انتمائها التاريخي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي .] ، ( 20 ) .

إن هذه البنية الحديثة التي يضع مهدي عامل الوعي الديني السابق فيها ، هي بنية يغلب عليها ( الطابع الكولونيالي وتنتمي تاريخياً إلى نمط الإنتاج الرأسمالي) ، وهي توصيفات نرى كيف أنها بذاتها قلقة مضطربة ، وهو يلجأ إلى كلمة ( كولونيالي) الأجنبية المنتفخة ، لكي يُشعر القارئ بأنها مصطلح غني في حين يمكن القول بأن البنية العربية هي بنية تابعة ، ووجود التبعية لا يخلق تشكيلة جديدة ، أي أنه حين تقوم الرأسمالية المسيطرة غربياً بإلحاق البلدان الفقيرة الإقطاعية في العالم الثالث باقتصادها ، فإن هذه البنية التابعة تظل في تشكيلتها الإقطاعية السابقة ، لأن الاستعمار لا يقوم بثورة اجتماعية فيها بحيث يحولها إلى نموذجه أو نموذج الرأسمالية ، بل يبقيها في بنيتها السابقة ويجري تغييرات سياسية واقتصادية بحيث تقوم بضخ المواد الأولية إليه وتغدو سوقاً لمنتجاته الخ . . لكن عمليات الإلحاق والتغيير الرأسمالية المحدودة تكون في إطار التشكيلة الإقطاعية ، أي أن التشكيلة السابقة لم تتبدل بثورة تبدل البناءين ؛ التحتي بثورة اقتصادية ، والبناء الفوقي بثورة ثقافية ، بل جاءتها عناصر رأسمالية فقامت باستيعابها في قوانين التشكيلة الإقطاعية التقليدية .

إذن عدم فهم مهدي عامل للقضية المحورية وهي قضية التشكيلة يقوده إلى سلسلة من الأخطاء اللاحقة ، حيث ينفي كون الدين أيديولوجية فكرية مسيطرة في الحاضر ، لأنه نفى كون التشكيلة المعاصرة تشكيلة إقطاعية ، وبهذا لم يُدرك المهمات الفكرية والسياسية الأساسية الراهنة ، وهي تغيير التشكيلة وبناءها الفكري التقليدي .

ولهذا يقوم بنقد أدونيس لأنه يقول باستمرار التشكيلة الإقطاعية ووعيها الديني الأساسي ، ( ويجب أن نقول هنا وعيها : المذهبي السياسي ) ، منتقداً إياه بأنه ينقل :

[مركز الثـقل في الممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي ضد البرجوازية المسيطرة ، من صراع ضد إيديولوجية هذه الطبقة ، بمختلف تياراتها ، إلى صراع ضد الشكل الديني أو الطابع الديني من هذه الإيديولوجية..] ، ( 21 ) .

وهنا يواصل مهدي عامل عدم فهمه وخلطه للأمور ، فأدونيس في نقده للشمولية الدينية ينقدها في ظل نظامها التقليدي الإقطاعي ، أي باعتبار الوعي الطائفي المحافظ تجلياً فكرياً واجتماعياً للممارسة الإقطاعية المهيمنة على المسلمين (والمسيحيين) ، وليس باعتبارها نضالاً ضد الشكل الديني ، أي بأنها قضية فك علاقة الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية الإقطاعية الراهنة ، وتشكيل منظومة سياسية حديثة علمانية .

أي أن مهدي عامل يريد تجيـير النقد ضد الدين ، ويجعله بإطلاق ، وليس ضد الوعي السياسي الطائفي المستغل للإسلام في تأبيد البنية الإقطاعية المتخلفة ، وبالتالي يريد توجيه الوعي الفكري ضد البرجوازية العربية الحديثة ، باعتبارها سبب الأزمة والعائق ، أي أنه في النهاية يقوم بالدفاع غير المباشر عن الإقطاع الديني ، أو أنه بالهجوم على البرجوازية الحديثة يفتت الصفوف الموجهة ضد الإقطاع الديني والسياسي .

فلنحلل أكثر التباس المفاهيم والمراحل واستراتيجيات النضال لدى مهدي عامل .

يقول :

[ فالعلاقة هذه التي تمنع تطور الإنتاج الرأسمالي ، في شكله الكولونيالي ، من أن يميل ، في قانونه العام ، إلى القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليه ، في سيطرته بالذات عليها ، هي نفسها العلاقة التي تمنع البرجوازية الكولونيالية ، في ممارسة سيطرتها الإيديولوجية / من القضاء على مختلف الإيديولوجيات السابقة على الإيديولوجية البرجوازية ، في سيطرتها بالذات .. ] ، ( 22 ) .

يعتمد مهدي عامل على منطق ارسطي شكلاني يجرد التاريخ من سيرورته الحقيقية ، ويضعه في قوالب لا تاريخية ، أي لا توجد إلا في وعيه الذي يقع خارج التاريخ الحي .

فهو أولاً قد أثبت انتصار الإنتاج الرأسمالي في العالم العربي ، في القرن التاسع عشر كما سيقول لاحقاً أيضاً ! لكن هذا الانتصار تم في إطار كولونيالي ، ورغم إن البرجوازيات العربية التي انتصرت على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية قد انتصرت إلا أنها مع ذلك تحافظ على الأيديولوجيات ما قبل الرأسمالية وهو ذات السبب الذي يجعلها تحافظ على أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية !

فأولاً حين جاء الاستعمار إلى العالم العربي في القرن التاسع عشر ، كرس الإقطاع والطائفية والأمية ، ولم تستطع الفئات الوسطى ( البرجوازية ) أن تنمو إلا بشق النفس ، وخاصة الفئة الصناعية ، وبقيت الأبنية الاجتماعية تسود فيها عبودية النساء وعدم خروجهن للعمل والإنتاج، وهيمنة الإقطاع الطائفي الخ . .

وبهذا فإن نضالات الفئات الوسطى كانت تتحدد في كل بنية اجتماعية عربية ، حسب تطورها الاقتصادي الاجتماعي ، فإن تنمو فئة وسطى وتقود نضالاً ديمقراطياً كان ذلك يحتاج إلى عقود ، وليس كما يظهر في وعي مهدي عامل ، بشكل أزرار سحرية ، وكأن تشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية تتم في الذهن وليس في الواقع الحي . أي أن الرأسمالية تحتاج إلى شروط موضوعية وهي انتشار الصناعة وانتشار العمل بالأجرة وتحرر النساء الخ . .

ولو افترضنا جدلاً بنشؤ الرأسمالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر ، وهذا محض خيال ، فإن أشكال الوعي الدينية ، المرافقة للتشكيلة الإقطاعية ، لا تنهار بسهولة كبيت من ورق .

إن الوعي الديني المترافق مع التشكيلة الإقطاعية العربية تأسس فوق بنية زراعية / حرفية / رعوية ، وداخل صراعات اجتماعية ( قومية ) ومناطقية ، وقادته الصراعات السياسية الاجتماعية إلى الانقسام المذهبي الكبير في عصر الثورة والمعارضة ، بين التيارات المحافظة والتيارات المعارضة ، بين التيارات الإقطاعية الناجزة وتيارات الفئات الوسطى الفاشلة ، ثم إلى الانقسام المذهبي الكبير الثاني حين انتصرت التيارات والدول المحافظة ، أي الانقسام بين السنة والشيعة .

إن هذه السيرورة الاجتماعية الإيديولوجية المتلونة بمراحلها وآثارها لا يمكن أن تزول آلياً مع الانتصار الموهوم للرأسمالية كما يظن مهدي عامل ، بل إن هذا البناء الفوقي يحتاج إلى قرون لكي تتم زحزحة خطوطه المتكلسة ، ولكن الأمر أعقد من ذلك لأن هذا البناء الفوقي يتأسس تحت بناء قاعدي لم يتغير كثيراً.

وكما أوضح شاكر مصطفى في عبارته الهامة التي اقتطعاها مهدي عامل ورفضها ، بأن النظام الإقطاعي العربي الديني تتداخل فيه مسألتي السلطة والُملكية ، أي تتواشج فيه جوانب من البناءين التحتي والفوقي ، فالمسيطرون على الثروة والملكية العامة والأوقاف الخ . . هم الإقطاعيون السياسيون والدينيون ، وهو أمر يتمظهر مذهبياً في البلدان ذات المذاهب المتنوعة ، ودينياً في الأقطار الإسلامية ذات الاختلاط مع المسيحية ، وهذه الهيمنة الإقطاعية تظهر على شكل مَلكيات استبدادية وهو أمر استمر حتى منتصف القرن العشرين في بعض الدول العربية وليس في أغلبها ، وعلى شكل جمهوريات رئاسية أو ملكيات لم تستطع أن تـُنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المكتملة ، أي في جميع الأقطار العربية الإسلامية حتى الوقت الراهن .

يحكم مهدي عامل على البرجوازيات العربية منذ تشكلها وصراعها ضد الإقطاع والاستعمار ، بحكم سياسي واحد ، فبعد أن شكلها بشكل ناجز في ذهنه فحسب ، وبعد أن شكل الأنظمة الرأسمالية العربية في وعيه فحسب ، غدت متطابقة مع البرجوازية الاستعمارية المسيطرة وبالتالي غدت منذ البدء عدواً .

لهذا فإنه لا يقرأ سيرورتها الفكرية والاجتماعية وبالتالي مراحل تطورها ومن هنا لا يرى فرقاً بين (ما نراه في أيديولوجيتها من مفاهيم «عصرية» ليبرالية ، وما نراه أيضاً في بدء ” تاريخها الإيديولوجي ” من مفاهيم أرادت أن تكون مثيلة مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية ، كما هو الأمر عند رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وغيرهما ) ، ( 23 ) .

ومهما كانت عدم الدقة في المطابقة بين آراء الثورة الفرنسية وآراء الطهطاوي ولطفي السيد ، فإن عدم رؤية أهمية آراء المنورين العرب في ذلك الكهف الإقطاعي التي كانت ولا تزال الشعوب العربية تحاول الخروج منه ، فذلك يدل على وعي الأرادوية الذاتية ( الثورية ) في إلغائها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي ، مثلما تفعل في مسألة الوعي بالتشكيلة وبالوعي المهيمن فيها ، حيث يلغي مهدي عامل أهمية أفكار البرجوازية النهضوية ويثبت آراء الإقطاع الديني ، فيقول بأن الإيديولوجية الدينية :

( ليست هي الإيديولوجية المسيطرة ، أو التيار الإيديولوجي المسيطر في الإيديولوجية المسيطرة ، أو أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية المسيطرة ) ، ( 24 ) .

إذن إنه في عدم وعيه بسيرورة الإقطاع السياسي الديني في الماضي : بقوانين تشكله وصراعاته وظهور الفئات الوسطى بين أشداقه وأسباب انهيارها وغلبته ، فإن مهدي عامل لا يرى قوانين استمراريته وانهياره في العصر الحديث العربي ، وأسباب ضعف الفئات الوسطى ، وصراعها معه ومع الاستعمار.

إن عدم رؤية قوانين البنية الاجتماعية في الماضي ، هي ذاتها تتجلى في عدم رؤية قوانينها في الحاضر ، ويقود ذلك إلى عدم رؤية قوانين التشكيلة الإقطاعية عامة ، خاصة عملية تفكيكها وتغييرها المعاصرة ، وإذا أحلنا آراء مهدي عامل الفكرية العامة إلى الميدان السياسي ، فيعني ذلك تقوية الإقطاع .

فعدم تثمين مقاومات الفئات الوسطى في الماضي والحاضر ، وتشكيل جبهة سياسية تحديثية واسعة ، تراكم الوعي النهضوي وتقود في الخاتمة إلى الثورة أو القطع مع المنظومة الإقطاعية ، واستبدالها بمنظومة حديثة ، يعني تصفية القوى النهضوية وتفكيكها ، وبالتالي تصعيد الإقطاع في مستويات البنية المختلفة .

علينا أن نرى إن ثمة عدم دقة تحليلية للإقطاع المذهبي وتطوره في التاريخ العربي لدى أدونيس كذلك ، أي أن أدونيس لا يرى الجذور الاجتماعية لتشكل الحداثة قديماً وحديثاً ، التي تؤسسها الفئات الوسطى العربية ، ولكنه يقترب من هذا التحديد بشكل أفضل من مهدي عامل، الذي يقول عن ذلك :

( لكن المنطق الذي قاد أدونيس إلى عدم رؤية هذا الطابع الطبقي المميز للصراع الإيديولوجي في واقعنا الراهن ، هو تلك المعادلة الرابعة التي أقامها بين علاقات الإنتاج السائدة في الماضي وعلاقات الإنتاج القائمة في الحاضر. .) ، ويضيف مهدي عامل : ( أما أن تكون هذه العلاقات الموروثة نفسها هي هي العلاقات القائمة حالياً ، فهذا ما لا يمكن للمنطق العلمي أن يقبل به ، برغم وجود الانسجام الداخلي في منطق أدونيس..) ، ( 25 ) .

ومن المؤكد إن الإقطاع العربي الكلاسيكي القائم على ملكية الأرض الزراعية والخراج ، لم يعد شاملاً ، لكن مهدي عامل لم يقم بدرس العلاقات الاقتصادية العربية الحديثة ، وكيف أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تمثل شكلاً إقطاعياً حين تغدو تابعة بالوارثة لأسرة أو جماعة سياسية ، بدلاً من أن تكون هذه الوسائل بضاعة متداولة ، ولهذا ثمة استمرارية كبيرة بين حقول النفط وحقول الزراعة ، وبين الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتركها في تقوية الإقطاع الأسري والحزبي الخ . . ونعرض ذلك كمثال عابر فقط ، من أجل أن نرى استمرارية الحياة التقليدية ، وبالتالي فإن الحكم العام الذي يطلقه أدونيس باستمرار الوعي التقليدي وهيمنته لا يجانب الصواب .

إن أدونيس إذن عبر تلك الفقرة التحليلية يقربنا من رؤية البنية الحقيقية للحياة العربية ، فيما يعمل مهدي عامل على إخراجنا من تلك البنية وإدخلانا في بنية موهومة من قراءته ومعايشته للحياة الغربية ، فيريد نقل مهمات الصراع الطبقي فيها، إلى بلدان متخلفة ، تشكو من قلة البرجوازية والعمال والتصنيع ، دون أن يحاول العودة إلى مصادر أدونيس في قراءة المجتمعات العربية ، في كتابه (الثابت والمتحول) خاصة .

في إحدى الفقرات من كتابه ( أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية ؟ ) ، يقر مهدي عامل ضمناً بسيادة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التقليدية وهو يرد على أدونيس فيقول :

( إن وجود هذه العلاقات السابقة في البنية الاجتماعية الكولونيالية لا يعني أنها العلاقات السائدة في هذه البنية ، حتى وإن كانت هي تنتشر على القسم الأعظم من السكان ، كما هي الحال في الهند مثلاً، أو في كثير من البلدان العربية . .) ، ( 26 ) .

إنه يعتبر الإنتاج التابع شكلا تاريخياً محدداً من الإنتاج الرأسمالي ، فمهما كانت الأشكال ما قبل الرأسمالية منتشرة فإن ما يحدد توجه التطور هو النمط الرأسمالي . وبطبيعة الحال لا يمكن أن نأخذ بهذه الجمل إلا عبر تحليل للأبنية الاقتصادية الاجتماعية المحددة في كل بلد ، فرغم أن التطور الرأسمالي هو تطور عالمي عاصف ، إلا أن كل منطقة وبلد لهما خصوصياتهما ، أي أن الأمر يعود لتطور التشكيلات وتاريخها ، وتناقضاتها الداخلية ، فالتشكيلة الإقطاعية العربية الإسلامية ، عبر سيطرة مختلف الدول الاستعمارية على أقطارها المتعددة ، لم تقم هذه الدول الاستعمارية برسملتها بشكل شامل ، وحتى بعد مختلف الثورات الوطنية فإن المسألة الديمقراطية لم تـُحل ، أي أن هذه الأنظمة ظلت على بنياتها الإقطاعية المذهبية ، وظلت الدولة طائفية واللامساواة بين المواطنين سائدة ، وظلت قوى ما قبل رأسمالية تتحكم في الثروة العامة الخ . .

لكن مهدي عامل لا يرى ذلك ، بل يرى إن هذه الأنظمة أنظمة رأسمالية فيجب أن :

( يرفض الدولة البرجوازية ، أي هذا الشكل التاريخي الطبقي المحدد من الدولة، ويرفض علاقات الإنتاج البرجوازية الخ . .) ، ( 27 ) .

كما أن القوى العاملة مدعوة ( لممارسة العنف الثوري ، من حيث هو عنف طبقي ، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي ، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي ) ، ( 28 ) .

إن مهدي عامل لا يقول ذلك في فرنسا والولايات المتحدة ، بل في لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية ، فبدلاً من معرفة ما يحدده شاكر مصطفى وأدونيس من دولة استبدادية طائفية إقطاعية متخلفة ، يقوم مهدي بصناعة دولة موهومة هي الدولة البرجوازية ، وقد اكتملت علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها ، وبين النموذج الواقعي الذي يرفض الدخول فيه وتحليله ، يجر نموذجاً آخر ويريد مجابهته ، وهذا الجر يخلق مهمات سياسية وعسكرية مختلفة ، فهو هنا يريد إزالة البرجوازية بالقوة ، فتتحول هذه الكلمات في يد اليساري اللبناني إلى سلاح ، ويغدو كل الفلاحين المقتلعين من الجنوب والنازحين على المدن والفقراء ، جيش الثورة البروليتارية في مواجهة البرجوازية .

إن مهدي عامل بعد أن حول المجتمع المتخلف الطائفي التابع الجائع إلى المصانع والبرجوازية إلى (مجتمع برجوازي مأزوم بسيطرة هذه البرجوازية ) ، لم تعد المهمة سوى اقتلاع هذه البرجوازية لكي تحل الأزمة ، وهكذا يُفتح الطريق للحرب الأهلية اللبنانية من البوابة النظرية .

لا يعني ذلك بأن توصيفات أدونيس للمجتمع العربي التقليدي متكاملة ولا أن الحلول التي يطرحها لتجاوز أزمة المجتمعات العربية التقليدية ، فهي كذلك تعاني من عدم فهم سيرورة التطور العربي.

إن أدونيس يقول حسب رواية مهدي عامل بأن ( شخصية العربي ، شأن ثقافته ، تتمحور حول الماضي / القديم ) . وأنه في الحضارة العربية (لما انتفى الفرد في الموضوع وتغرب عن ذاته في الجماعة أو الدولة أو السلطة أو النظام … كان الاتباع ، وكان التخلف ، وكان حاضر الإنسان العربي أو ماضيه ) ، ( 29 ) .

نستطيع أن نقول بأن مقاربة أدونيس للتشكيلة الإقطاعية تركز هنا على غياب الوعي الفردي (البرجوازي) ولكنه يجعله مطلقاً ، والمسألة ليست مسألة انتفاء الوعي الفردي فهذا مظهر للبنية الإقطاعية التي جعلت الفئات الوسطى تابعة لها ، ولكنه وهو حين يشير إلى ( تلاشي ) الفرد المبدع أو هيمنة التقليد في الحضارة القديمة ، فهو يشير إلى شيء موضوعي لم يتبينه تمام التبين ، وهو سيطرة الهياكل الإقطاعية العامة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية ، ولهذا فإن الفردية، وتوسع الفئات الوسطى الحرة ، وبالتالي انتشار الإبداع لم يحدث بصورة جذرية ، وقد تتبعنا ذلك في قراءات سابقة ، وبينا جذور الفئات الوسطى وارتكاز قواها الأساسية على الدولة الإقطاعية . وبهذا فإن الفئات الوسطى العربية في الماضي والحاضر ، لم تستطع أن تتحول إلى طبقات برجوازية كلية ، وهذا بخلاف رؤية مهدي عامل التي تقول بأنها وُلدت كبيرة ناجزة بفعل الأزرار السحرية الغربية ، ولكنها بعد كما يقول أدونيس كذلك لم تستطع حتى الآن أن تزيح الاتباع وتنشر الحرية بشكل شامل !

تلخيصاً وتطويراً لما سبق، يقيّم مهدي عامل تقييماً سلبياً الجوانب التي يتلمسها المفكرون المنبثقون من الفئات الوسطى الحديثة والتي تميل لتشكيل النظام الرأسمالي الحديث بكل قسماته ، فمهدي عامل يقوم بإزاحة لهذا المجتمع التقليدي الحقيقي المرفوض من قبل هؤلاء المفكرين ، ويضع بدلاً منه توصيفات مستقاة من تطور أعلى ، هو تطور البلدان الرأسمالية المتطورة ، ويضع المهمات التي تواجه الطبقات العاملة في هذه البلدان الرأسمالية المتطورة ، والتي تعالج مهمات تاريخية مختلفة ، وبدلاً من تشكيل جبهات موسعة للقوى الحديثة والديمقراطية لإزاحة التشكيلة الإقطاعية الطائفية العربية ، فإن يوجه القوى ضد أحد الأجنحة المهمة في عملية التغيير الديمقراطية ، ولهذا فهو يجعل ممثلي القوى الليبرالية والعقلانية الفكرية في الندوة المذكورة ، كخصوم ألداء وليس كحلفاء في معركة واحدة ضد تشكيلة تجاوزها التاريخ .

وهذا يقوده لعدم تثمين الأحكام الموضوعية التي يطرحها هؤلاء المفكرون والباحثون، وعدم الاستعانة بهذه المواد الفكرية الثمينة لتطويرها عبر المنهج المادي الجدلي، ورؤيتها في سياق التشكيلة الحقيقية.

ولكن مهدي عامل دخل في قراءة التاريخ بذاتية ثورية تـُسقط رغباتها على التاريخ الحقيقي ، بدلاً من اكتشاف تطوره ، فكان ابتكاره لمقولة ( أسلوب الإنتاج الكولونيالي ) بداية لخرقه أساسيات المادية التاريخية ، حول أساليب الإنتاج المحددة والُمكتشفة ، وهذا الخطأ المحوري قاده إلى سلسلة من الأخطاء النظرية في تحليل الجوانب المحددة في تطور التشكيلة الإنتاجية العربية ، السابقة الذكر، فهو قد اعتبر علاقات الإنتاج الرأسمالية مُـنجزة في حياة المجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وهذا ما دعاه إلى عدم تثمين حلقات التنوير المتعددة التي قامت بها الفئات المتوسطة العربية ، في الماضي والحاضر ، ثم الدعوة إلى خلق اصطفاف حاد إلى معسكرين رأسمالي تجاوزه التاريخ ، وعمالي يجب انتصاره .

وكان هذا خرقاً للمهمات الحقيقية لقوى الثورة والتغيير العربية التي تواجه تشكيلة متخلفة ، ولكن الخطوط الفكرية التي طرحها مهدي عامل كانت تتضافر ووضع دولي مواتٍ ، مما جعلها في حيز التنفيذ ، ولكن النتائج المترتبة على هذه الخطوط النظرية والسياسية كانت كارثية خاصة على البلدان التي طبقتها بشكل عنيف ، وأهم هذه النتائج إن القوى السياسية ما قبل الرأسمالية ، والمذهبية الاجتماعية ، هي التي استفادت من تناحر القوى الحديثة ، وهي التي برزت إلى السطح والفاعلية ، حيث ساعدتها عوامل أخرى ، مما أوضح بشكل جلي بأن مهمات حركات التغيير العربية لا تزال مواجهة الأبنية التقليدية ، وضرورة عدم التحالف مع هذه القوى التقليدية وابرازها ، رغم السهولة التي تبدو بها عمليات التحالف مع هذه القوى الماضوية ، وضرورة تكريس تحالف الجبهة النهضوية التحديثية الديمقراطية ، حتى لو كانت الصعوبات جمة في طريق تشكيله وتعزيز عناصره الديمقراطية والعلمانية .

لكون التحالف مع القوى التقليدية وتعزيزها هو تقوية للتشكيلة الإقطاعية وسيرورتها الطويلة في الحياة العربية ، لأنها تشكيلة متكاملة ومتجذرة ليس في الحياة السياسية ولكن أيضاً في الحياة الاجتماعية والفكرية.

ونظن لو كان المناضل والمفكر مهدي عامل حياً ، لكان قد راجع الكثير من أفكاره ، التي كان يعززها حينذاك وضع عالمي مختلف .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش ومصادر:

لهذا فإن القول بوجود بنية كولونيالية أمرٌ يفتقد إلى التحليل المادي التاريخي.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=413619

البنية والوعي

اختلف مع العديد من المفكرين حول رؤيتهم لمسار المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة، ولاسيما مع المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في مفهومه عن [ أسلوب الإنتاج الكولونيالي]، الذي أراد أن يجعله توصيفاً لمجتمعات العالم الثالث التي منها مجتمعاتنا.

وقد استفاد مهدي عامل من تطورات الفكر الماركسي في فرنسا، وخاصة تطورات البنيوية الوظيفية على يد غولدمان وآلتوسير، اللذين ركزا على مفهوم [ البنية]، باعتبار كل مجتمع بنية خاصة لها قوانين تشكلها، غير المنفصلة عن قوانين تطور التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تضم مجموعة من المجتمعات، والبنية ذات مستويات ثلاثة: اقتصادية وأيديولوجية وسياسية، وهي مستويات متداخلة، كل منها له أهميته التكوينية في مسار البنية، وبهذا ينتهي ذلك الفصل التعسفي بين الاقتصادي والفكري والسياسي.

وقد طبق مهدي عامل هذا المفهوم على مجتمعات العالم الثالث، رافضاً إنها مجتمعات إقطاعية أو رأسمالية، أو فقط مجتمعات تابعة، مقترحاً أسلوباً جديداً للإنتاج هو الأسلوب الكولونيالي، فهي مجتمعات تابعة، غير قادرة على إنتاج بورجوازية وطنية قادرة على تشكيل مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.

وبطبيعة الحال هذه المقولة تكمل الوعي اللينيني باستباق قيادة البرجوازية وقيام العمال بتشكيل هذه الثورة.ويواصل مهدي عامل ذلك قائلاً بأنها تابعة للرأسمالية الأقوى، وبالتالي لا يمكن أن تقوم بعملية القطع في بنية التبعية.

وفي رأيي فإن مهدي عامل لم ينطلق من درس تطور المجتمعات العربية الإسلامية، أي ما هي أساليب الإنتاج في دول المشرق الذي صار عربياً، وكيف ظهر الإسلام وفي أي بنية وما هي تطورات هذه البنية.

إذا أخذنا مثالاً بسيطاً على مفهوم البنية، فنقول عن سلطة الاحتلال الإنكليزية في الدول العربية في بدايات القرن العشرين، هل كانت سلطة رأسمالية أم إقطاعية؟

إن قانون البنية هنا يقول بأن البنية الاجتماعية لها قوانينها الداخلية، وهي التي تستقبل المؤثرات الخارجية وتعيد تشكيلها داخلياً، فنحن قد نأخذ أداة غربية متقدمة ولكن شروط وجودها في بنيتنا الوطنية تعيد تشكيلها حسب قوانينها، فالتلفزيون المنتج يغدو عندنا أداة ترفيه، وكذلك فإن قائد الاحتلال البريطاني الذي يسجن من يقوم بتعدد الزوجات في إنكلترا حين تدوس أقدامه أرضاً عربية يقبل بهذا التعدد.

وكذلك فإن كافة المنتجات الثقافية والاقتصادية تخضع لإعادة التشكيل داخل البنية، فيغدو المستعمر البريطاني رئيساً لسلطة إقطاعية.وتغدو عمليات التحديث الرأسمالي المحدودة غالباً في بنية إقطاعية مهيمنة.لكن هذا الإقطاع عرف سيرورة خاصة تمثل تطور المجتمعات العربية الإسلامية، التي تغدو فيها المذهبية شكلاً دينياً محافظاً للصراع الاجتماعي.

ولهذا فإن تكون الفئات المتوسطة في مجتمعاتنا هو تكون تابع أولاً للإقطاع، فتبعيتها للإقطاع هو الذي يجعلها تابعةً للإمبريالية. إن عدم تجذر الخطاب الفكري والسياسي للفئات المتوسطة، يعود لهذه التبعية المركبة.

لو أخذنا المجتمع اللبناني كمثال لقرأناه بوصفه مجتمعاً إقطاعياً مذهبياً نموذجياً. فكافة الشرائح التي تبدو قوى برجوازية هي قوى لإقطاعية مذهبية ودينية مختلفة. الحزب الاشتراكي التقدمي هو يافطة للإقطاع الدرزي والمهيمنين فيه، أي أن الشريحة المتوسطة في الطائفة الدرزية لم تستطع أن تغير الإقطاع المهيمن عليها، أي أن تغدو جزءً من طبقة برجوازية قائدة، وهذا يحتاج لشروط اقتصادية، عبر تعاضدها مع الشرائح الوسطى في الطوائف الأخرى، وفكرية عبر إزاحة الوعي الطائفي المهيمن في الفكر السياسي الدرزي وغير الدرزي، وبقراءة نقدية للوعي الدرزي باعتباره إحباطاً للنضال الثوري عند الفلاحين المسلمين في العصر الوسيط وهيمنة للإقطاعيين على إنتاج هذا الوعي والسيطرة على الفلاحين الذي تقسموا وفقدوا قدرتهم على الكفاح الطبقي العام، وهو أمر يُعاد إنتاجه في المجتمع الإقطاعي اللبناني الحديث، عبر مستوى آخر من تطور البنية وتداخلها مع الهيمنة الأجنبية.

ويمكننا أن نأخذ الوعي الفرنسي الملبنن كنموذج يواصل متابعة المسألة على صعيد الوعي، ونرى كيف إن وعي الثورة الفرنسية المستورد إلى لبنان تحول إلى كهنوت، أي أنه لم تستطع أفكار ديدرو وفولتير وجان جاك روسو أن تطيح بسيطرة الكنيسة والملالي على الوعي. فلماذا صار ميخيائيل نعيمة صوفياً؟ ولماذا ترنحت الثورة الرومانتيكية عند جبران خليل جبران؟ ولماذا صار الحزب الشيوعي اللبناني تابعاً لحركة القوى المذهبية عوضاً أن يقود معركة لتشكيل مجتمع حديث لا طائفي؟ أي كيف غدت الماركسية ديناً وعقيدة ؟ أي لماذا لم تستطع الفئات الوسطى والشعبية فيه أن تغدو علمانية؟ أي لماذا ابتعدت أدوات مهدي عامل من الحفر والهدم للمجتمع الإقطاعي اللبناني الطائفي كتشكيلة حقيقية وليس كمجتمع كولونيالي؟

تكمن الإجابات في الحفر المزدوج الماضوي والحديث، عبر دراسات ملموسة في تكوينات المجتمعات وتطوراتها الخاصة، أي تحولها من كيانات داخل الإمبراطورية الإسلامية إلى كيانات وطنية، وكيف تمت التطورات والصراعات القديمة والحديثة، وكيف ومتى حدثت التغيرات في البُنى الإقطاعية في كل بلد بلد، وفي المستويات الثلاثة السابقة الذكر، وهل وصلت هذه التغيرات إلى الخروج من التشكيلة؟

إننا في لحظة تاريخية فكرية كبيرة هي إعادة لصياغة المفاهيم وانقلابها، وتاريخنا كله موضوع للحوار، لأن كتلته الجامدة صارت تعيق أمة كبيرة عن المشي في الكوكب الأرضي.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة

( 9 ) : ( أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية ؟ ) ص 16 ، ونعتمد على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عن دار الفارابي ببيروت سنة 2002 .

( 10 ) ، ( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 21 ) .

( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 53 ) .

( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 39 ) .

( 14 ) : ( المصدر السابق ، ص 43 ) .

( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 54 ) .

( 16 ) : ( المصدر السابق ، ص 54 ) .

( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 34 ) .

( 18 ) : ( المصدر السابق ، ص 73 ) .

( 19 ) : ( المصدر السابق ، ص 74 ) .

( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 76 – 77 ) .

( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 78 – 79 ) .

( 22 ) : ( المصدر السابق ، ص 81 ) .

( 23 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) .

( 24 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) .

( 25 ) : ( المصدر السابق ، ص 85 ) .

( 26 ) : ( المصدر السابق ، ص 87 ) .

( 27 ) : ( المصدر السابق ، ص 104 ) .

( 28 ) : ( المصدر السابق ، ص 105 ) .

( 29 ): ( المصدر السابق ، ص 97 ) .