أرشيف الأوسمة: الليبرالية في البحرين

الليبرالية في البحرين

كتب. عبـــــــدالله خلـــــــيفة

خيارُ الليبراليةِ المنتجة

كانت خلاصةُ سماتِ القرن العشرين هي إنتصارٌ حاسمٌ لليبرالية خلافاً لسماتِها في بداية القرن.

أغلب الفرقاء في بداية القرن في القرن في العالم الثالث كانوا يؤكدون على طرقهم المختلفة عن التطور الغربي، وها هم الآن في أغلبيتهم الكاسحة يقبلونه، وهذا الخيار الليبرالي الرأسمالي الآن يعاني الكثير في قلاعهِ التاريخية الكبرى، وثمة بلدان على هاوية الإفلاس الاقتصادي!

جدليةُ التاريخ تتكون بطرقٍ متلوية صعبة والأممُ تبرزُ سماتَها الغائرة عبر قرون، وطرقُ القفز والثورات الحمراء التي طُرحت وزلزلتْ في أوائل القرن تتمادى في الرجوع للوراء والتماهي مع أشكال رثة من الرأسمالية وتغدو واجهات لاستبداديات عسكرية بيروقراطية.

والرأسمالياتُ الحكوميةُ في هذه البلدان كنمطٍ تنموي مرحلي قاد إلى الكثير من الانجازات النهضوية والكثير من المشكلات والكوارث كذلك، وخُتمَّ عربياً بسلسلةٍ من الثوراتِ الديمقراطيةِ المبهرة!

الانتصارُ القوي لليبرالية لا تخطئه عين، والرأسمالية الحكومية الشرقية والرأسمالية الغربية الحرة تتداخلان لتكوين جنين ثالث مجهول عبر أمم قديمة تكّون نفسَها وأمم أخرى تذوب وتتوحد في غيرها.

والأسبابُ غامضة لدى البعض بأن تكون بعض الشعوب العربية قيادية في ثورات ديمقراطية شعبية إنسانية، لأن هذا لم يحدث بهذا الشكل الجماهيري غير المسبوق، وكانت أغلب الثورات عسكرية إنقلابية لم تعمل الشعوب فيها بشكل ديمقراطي سلمي تحويلي، فهناك قفزة حتى على مستوى الثورة الديمقراطية التقليدية وهي الفرنسية.

وهذا يعبرُ عن جذورٍ قديمة للشعوب العربية في الرأسمالية وما فيها من حرياتٍ إقتصادية وثقافية وسياسية سبقت أوربا الغربية، وشكلتْ مع مثيلتها الإغريقية رافدين أساسيين للنهضة الأوربية الحاسمة في تاريخ الحداثة الراهنة.

كذلك فإنها في النهضة الديمقراطية الثانية في بداية القرن التاسع عشر قامتْ بعدة عقود من النمو الديمقراطي الحديث، لكن الأنظمة العسكرية عطفتْ بها نحو التنميات التسريعية المخفقة.

إن نضال القبائل والشعوب العربية من أجل صون وتطوير المال العام كان قد بدأ منذ عهد الخلفاء الراشدين، وساهم فيه خلفاءٌ من الدولتين الأموية والعباسية كعمر بن عبدالعزيز ويزيد الناقص وكان جهاد الفرق الفكرية السياسية من أجل المال العام مشهوداً يملأ صفحات التاريخ، فربما لم توجد تجربة بشرية لها هذا الامتداد في الدفاع عن المال العام.

ومن هنا كانت أكثر سببيات الثورات العربية هي الموقف من القطاعات العامة وبيعها وسرقتها، وأهم برنامج لهذه الثورات هو تطوير هذه القطاعات العامة وجعلها قيادات الاقتصاديات الجديدة المتطورة التي تفجر الثورات الاقتصادية المنتجة.

وتغدو الأشكال السياسية الديمقراطية هي تحريك هذه القطاعات العامة وإطلاق حريات القطاعات الخاصة في خطط مشتركة تحويلية.

ومن هنا فلا توجد خلافات عميقة عدائية بين الاتجاهات السياسية العربية، لكن التركيز على الاختلافات الإيديولوجية والسياسية الذي هو شكل من التنافس على توجيه الحياة السياسية الجديدة والفوز بغنائمها عند البعض، من الممكن أن يضيع الخيوط التي أمسكتها بها الشعوب العربية الراحلة المتاجرة المنتجة عبر التاريخ.

من الأسباب اللامرئية لإنجازات الشعوب العربية إنها كانت تعددية منفتحة على مر العصور، وكادت تمسك قبل أوربا من النهضة المحورية الكونية، المدن الكبرى التي إنشئت فيها على مدى التاريخ كانت تجارية مركزية عالمية.

كانت المشكلة الرئيسية هي سيطرة الدول على الملكية العامة ثم إفسادها بشكل يخلق تدهوراً تاريخياً مدمراً، ولم تعرف دول الشرقية هذه الجدلية بين الملكية العامة والملكة الخاصة.

فليست قضية الأمة في التراث أو في المذاهب أو في الليبرالية، بل في طبيعة المُلكية العامة، وقد إستطاع التطور الديمقراطي الغربي في العصر الحديث أن يحل هذه القضية المزمنة في تاريخ الشرقيين وخاصة لدى المسلمين، ويقدمها لهم وإندفعوا إليها في بداية العصر الحديث عندما نشأت أول ليبرالية لكن خطفت أبصارهم عمليات الثورات المركزية الشمولية وأسسوا فيها أشياء وغدت الملكيات العامة الحديث في وسائل الإنتاج الكبرى والثروات الوطنية هي العمود الفقري للمال العام، والآن حدثت عودة أكثر غنى من الماضي، هي لحظة نفي النفي: نفي لليبرالية المطلقة، ونفي للاشتراكية الشمولية وتركيبٌ منهما، مما يؤدي لتجاوز الخصائص السلبية لكل منهما.

هذا يعتمد على مستوى الإدراك السياسي الاجتماعي للأحزاب والقيادات العربية الطليعية، بحيث تجمع إيجابيات المرحلتين لا سلبيتهما!

فهناك خطر أن تغدو الديمقراطية إنفتاحاً فوضوياً للتجارة الخاصة.

وأن لا يلعب الإنتاج الدور المحوري، وفي هذا لنا تاريخ من البداوة وتضييع قوى العمل وكره الإنتاج اليدوي والاندفاع نحو الأشكال الطفيلية من الاقتصاد.

إن ظهور القوى المؤيدة للملكية الخاصة والقوى المؤيدة للملكية العامة وخططهما في التنموية هو أمر ضروري، والتطور هو الذي يحسم ويعقب في الزمن التداولي بينهما.

 أسبابُ ذبولِ الليبرالية

القطاعاتُ الخاصةُ هي منتجةُ الليبرالية وعلى مدى نصف قرن تدهورت التياراتُ الليبرالية في حين تصاعدتْ التوظيفاتُ الخاصة بأشكال كبيرة، وهو أمرٌ شديدُ التناقضِ لكنه جزءٌ من تخلفِ البنية الرأسمالية ذاتها.

غالباً ما تختنقُ الليبراليةُ مع صعودِ الرأسماليات الحكومية، فتجد القطاعات الخاصة منافذها في أشكال وعي متخلفة، فلماذا؟

الرأسماليات الحكومية تنمو بأشكالٍ مذهبية محافظة تقود إلى تدهور البناء الرأسمالي النهضوي ككل، لأن الوعي الديني قديم ومحافظ وغير محدد المعالم في برامج واقعية، ودينيتها هذه تخفت بسبب العلاقات مع دولٍ متعددة وخاصة الغربية، وسواء كانت دولاً أم شركات. البضائع الغربية تتطلب تحديثاً، وعلاقات، وهذه كلها تتطلب حريات إقتصادية وثقافية موظفة وفي ظل التجارة، لكن الحرية غير متكاملة فأجهزةُ الدول هي التي تقودها.

القطاعات الخاصة تنمو في ظلال الرأسماليات الحكومية، وإذا كانت مستقلةً فهي تمشي قرب الحوائط الحكومية، متقوقعة في الاقتصاد.

تناميها في الفكر والثقافة محدودٌ جداً، فالأجيالُ التي تنشأ في ظل التجارة الراهنة مختلفةٌ عن التجارة العصامية الكبيرة والرائدة في ظل النصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت مؤسسة للروابط الثقافية والسياسية وليس أمامها رأسماليات حكومية بل دول أجنبية.

الأجيال الجديدة النامية في ظل التجارة لها قواعد مادية مريحة مسبقاً، ويغدو إجتهادها محدوداً، وهي تجد الرفاهية التي تعوق المغامرة والبحث في سبل جديدة.

المؤسساتُ الخاصة يتجه أغلبها في الرساميل سريعة الربح، والمضمونة، وهي التي تنتشرُ في الاقتصاديات النفطية خاصة، حيث تستفيد من الفوائض الكبيرة، وتعمق السوق الاستهلاكية، وترحلُ الفوائضَ للبلدان القوية الاقتصاد نسبياً.

توجهت المؤسساتُ الخاصة للوعي الديني المحافظ نظراً لكونها تسير تحت مظلة الرأسماليات الحكومية ذات المواد الخام العالية السعر، الدينية، التي لا تعرفُ مسارَها التاريخي السياسي، حيث شعارات القَدرِ الغيبي مصاحبة لسوق غير معروفة التطورات، وفي عوالم رأسماليةٍ متقلقة بسبب سيطرة المراكز الغربية الرأسمالية الشائخة.

والرأسماليات العربية التابعة لا تعرف مغامرات رأسماليات جنوب شرق آسيا الحرة فعلياً، ولا مغامرات الرأسمالية الغربية في بدء صعودها، أو حتى مستواها العربي قبل عقود.

عدم تغيير الاقتصاد الاجتماعي السياسي العربي يتجلى في محدودية الرأسمال الصناعي، وبالتالي يعبر هذا عن عدم البحث عن مواد خام جديدة، وغياب التراكم الواسع، وتضخم الاستهلاك والهدر.

 ولا يرتبط الاقتصاد بالتعليم وخاصة التعليم الجامعي، الذي يُفترض أن يكون قائد البحث العلمي عن المواد الخام والثروات ومعري الاقتصاديات الاستهلاكية في بضائع الانتاج وبضائع الاستهلاك.

ولهذا يغدو التعليم شكلاً آخر للاقتصاد الرأسمالي الحكومي متجمداً في الاستهلاك الشخصي والترفي، والوعي الديني المحافظ الفاقد لاكتشاف العقلانية وآفاق المستقبل، ولمغامرات البحث عن الكنوز الجديدة والاكتشافات العلمية والتصنيع، ومأسوراً في حاضرٍ ينزلقُ للأزمات الاقتصادية بحكم تبعيته وعدم قدراته الانتاجية.

التعليم النظري والثقافة الدينية السائدة ينتجان أجيالاً قَدرية، غير قادرة على خلق ثورات فكرية وإقتصادية، تعيش على الاستهلاك والمواد الثقافية والصناعية المجلوبة من الخارج.

 وهذا الظروف تنفخ في التنظيمات المذهبية التي هي نتاجُ لتدهور الوعي والانتاج وغياب الحريات وتصاعد اللاعقلانية. في هذه الفترة المماثلة عربياً للتطور الغربي قبل قرون كان العالمُ يشهدُ مغامرات الغربيين في البحار وإكتشاف القارات وجلب الذهب من أمريكا وإنفجار الصناعات دون أن يكون لتلك الدول بُنى صناعية.

لكن الأمرَ مختلفٌ مع إختناق الليبراليات والديمقراطية في المنطقة، حيث يجري على العكس رفض المغامرات العلمية والانتاجية والتوجه للفوضى.

إن الرأسماليةَ التابعة للقطاعات الحكومية والمُحّجمة بسببها والبخيلة في عطاءتها للانتاج الوطني وتصعيد حضور الطبقات العاملة الوطنية، تدفعُ الثمنَ غالياً لنشوبِ الفوضى ولتوجهِ الأجيال الجديدة للضياع السياسي والظلامية الطائفية.

غيابُ الجماعاتِ السياسية الفكرية الليبرالية يفقدُ هذه القوى بوصلات تحددُ الأوضاعَ وحراكَها والمستقبل وإمكانياته وكيفية الحفاظ على التطورات السلمية الاقتصادية المتصاعدة.

تضخم القوى المذهبية السياسية هو شكلٌ للضياع الاجتماعي والتخبطِ وعدمُ قراءةٍ لخرائطِ التطور السياسي، وقيادةُ الشعوبِ للمغامراتِ الحربية وتصديع الهياكل الاقتصادية الاجتماعية الوطنية.

إنها تعبيرٌ عن هدرِ رأس المال الوطني، فرأسُ مالٍ تكون بالاحتيالِ والتسلق على ظهور الفقراء والدول ليس مصيره سوى الزوال.

إفلاسُ الليبرالية: فلسفياً

إعتمدت الليبراليةُ فكرياً وهي تتشكلُ في عالم الانتقال من العصر الوسيط إلى العصر الحديث على أسسٍّ فكرية غدت هي الركائز التي تتعمقُ كلما توغلت حاملتُها الاجتماعية: البرجوازية في تشكيل مجتمعها وإزالة المجتمع الإقطاعي.

أهم هذه الأسس الانتقال من مبدأ التفويض الإلهي إلى تأسيس المجتمع المدني حيث لا تفويض إلهياً للسلطات الجديدة، فهي سلطاتٌ دنيوية تستندُ على نصوص بشرية محضة، وعلى فلسفةِ الاجتماع البشري، وعلى مبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى بشريةِ السياسة وعمليتها.

لم تستطع الليبراليةُ العربية أن تخرجَ من عباءة الدين، وعدم الخروج يكمنُّ في الظروف الاجتماعية الاقتصادية لإصلاحيي العرب في القرن التاسع عشر، حيث كان الإقطاعُ السياسي والإقطاع الديني ملتحمين في كيانٍ واحد، في شكلِ الامبراطورية العثمانية والدولة الفارسية وفي الدول المنفصلة بعد ذلك.

يرتكزُ كل من الإقطاعين على الآخر، فالسياسي هو ديني، والديني هو سياسي، وملاكُ السلطة والأرض الزراعية الكبرى ومُلكية البشر، متداخلون، ويرفعون النصَ الديني لرتبة التقديس الكاملة، وعلى تفسيرهم الخاص، بإستغلال وملكية الناس التي أُعطيت لهم دينياً.

المُلكياتُ لم تنشأ من التجارة والصناعة والزراعة بل من الغزو والقوة، وشراء الأتباع السياسيين ورجال الدين والمثقفين وغيرهم.

لهذا حين ظهر المصلحون الأوائل كانوا من هذه الفئات المحمية في ظل الأنظمة، وكانت الفئاتُ التجاريةُ الجديدة التي طلعتْ من شقوق هذه الأنظمة تتنفس بفضل هذه الحماية، ومن هنا فإن المظلة الإقطاعية الدينية صارت مظلتهم كذلك.

لهذا فإن تأثرهم بالليبرالية الغربية ومبادئها سوف يخضعُ لحراكهم الاجتماعي المحاصر داخل الهيمنة التقليدية. ومن هنا فإن تنحية مبادئ وتصعيد مبادئ منها يعتمدُ على مواقعِهم الطبقية في داخل كلِ مجتمع ونظام.

لهذا كانت العلمانية هي أكثر الأسس الفكرية التحديثية مرفوضةً لديهم، فمبدأ التفويض الإلهي للحكم لم يقتربوا من نقده، وهذه مسألةٌ شائكة، فوعيهم الإسلامي هو الوعي الذي كرسته قوى الإقطاع التي سيطرت على السلطات منذ الخلافة الأموية، أي نتجت من خدمة القوى الكبرى المالكة للسلطات المستغِّلة لعامة المسلمين، وهذه هي البنية الأساسية المركزية لهذه المجتمعات ووعيها الفكري السياسي.

وفيما كانت الطبقاتُ الوسطى الأوربية تنسلخُ عن المُلكية الزراعية الكبيرة وتنشيءُ ملكياتها الصناعية والتجارية وبالتالي تنفصل عن الكنيسة، لم تكن توجد ملكيةٌ إقتصادية كبرى أخرى في العالم الإسلامي تعين هذه الفئات التجارية على الاستقلال وتغدو مظلةً حامية لها.

ومن هنا نجد هذه المراوحةَ بين الإقطاع والرأسمالية لديهم، وطرحهم مبادئ تعددية السلطات وإستقلالها وحرية الفكر، وغيرها، دون القدرة على مناقشة الحق الإلهي لدى السلطات العربية و(الإسلامية) وكيف يمكن لهؤلاء الاستغلاليين الكبار مضيعي ثروات الأمة أن يكونوا متمتعين بالحق الإلهي؟!

وهذا كان يجري في وقت أصبحت فيه الامبراطورية العثمانية وأمثالها عقبة للتطور التاريخي، وحين جاءت التقسيماتُ السياسية والهيمنة الغربية، تم الحفاظ على ذلك الأساس الفكري الاجتماعي، لأن الحكامَ والطبقات السائدة صوروا أنفسهم بإعتبارهم حماة الدين، ولكنهم كانوا يقصدون الحفاظ على شبكة إجتماعية إقتصادية تتيح لهم إستغلال المواطنين بشكل شمولي.

ولم تستطع الفئاتُ الوسطى أن توسع المظلة الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية لكي تكون قادرةً على الاستقلال وإنتاجِ سلطاتٍ رأسمالية حرة، لأن الكثير من الإقطاعيين الزراعيين، والسياسيين: أي المنتمين للأسر والجماعات الحاكمة، غدوا هم كذلك أصحاب مشروعات رأسمالية، ولهذا كانت أحزابُ الفئات الوسطى ملأى بالملاك الكبار، وغدت أفكارُ إصلاحي القرن التاسع عشر ومن تلاهم هي أساس ما سُمي بالنهضة العربية.

كان من شأن ذلك عدم تجذر المشروع الرأسمالي الحر وعدم إتخاذه فضاءاً سياسياً قوياً مستقلاً، وعلى صعيد تطور الفكر وإستقلال الفلسفة، واجه هنا كذلك ضعفاً شديداً، فالمفكرون الذين طوروا أفكارَ مصلحي القرن التاسع عشر طوروها على صعيد الأدب والثقافة، لا على صعيد الفلسفة بدرجة أساسية. فلم يعالجوا مسألة التفويض الإلهي ويقطعوا العلاقة بها، ويأسسوا مرجعيةً بشرية صرفة. أي لم يطرحوا مسألة فهم الإسلام السائد خلال إنتاج ألف سنة من قبل الطبقات الإقطاعية والمكرّس في الدساتير والقانون، وبضرورة القطع معه.

أن تعبيرهم كان واهياً عن الطبقات الشعبية: البرجوازية والعمال والفلاحين والنساء، وتذبذبهم بين الماضي والحاضر، بين الفهم التقليدي والفهم الجديد، بين الإقطاع والرأسمالية، كان مربكاً للحركة التاريخية الاجتماعية السياسية.

إن عدم فهمهم للتطور العربي الإسلامي ساهم في تلك المراوحة، فلم يكن ما شُرع وهيمنّ سوى وعي القوى العليا الاستغلالية وقد صار سائداً، وبهذا فإن عامة المسلمين حين يُطبق عليهم ذلك يطبقُ ضد مصالحهم الاجتماعية، وقد آن أن يميزوا هذه المصالح، وبهذا فإن العلمانية تغدو لحظةَ الانفصال الضرورية في عالم الحكم والسياسة، دون إزالةٍ للثقافة الإسلامية التي هي جذور الناس، والتي سوف تتخذ تعبيراً ليس عن الطبقات العليا فقط بل عن الطبقات الدنيا ومصالحها المستقلة أيضاً.

التحديثي الليبرالي والدين

تقيم المجتمعاتُ الكتابيةُ تناقضات حادةً بين التطور الحديث والأديان، هناك غرقٌ حارق أوهناك سلبيةٌ مدمرة. فأما عودة للتخلف والهلاك وأما هدمٌ الأديان.

المجتمعاتُ الكتابية التي جعلت كتبَها الدينية نماذجَ لتطورها وعقيدتها وتميزها عن الأمم الأخرى، تعكس مستويات تطور للأمم عبر العصور، نحتتَها من تجارب مريرة وصراعات كبيرة، كرستْ مصالحَها وعلاقاتها الاجتماعية بأشكال معينة، وكلٌ يرى إن طريقه الصحيح والحفاظ عليه هو وجودها الباقي وإيمانها الخالد.

تعكس هذه العقائد مستوياتٌ قديمة وفيها خيوط التطور الدقيقة المرهفة وجوانب من الحياة الأخلاقية العميقة.

وتوجهت النزعاتُ الحديثة الشكلانية لرفض الأديان وسحقها، فهي رثاثٌ العصور ولا بد من التخلي عنها، ويمكن أن تنشأ ثورات لهذا السحق، يبتر الماضي كله كما تقول وكما تلاقت تناقضات العصور وتناقضات البلدان الغربية والشرقية.

ولهذا فإن الكاتب يغلقُ إذاعةَ القرآن حتى لا يسمعهُ أولادهُ الذين يجب أن يبتعدوا عن هذا العالم القديم.

يقول عن كتابٍ تراثي يدرسُ الإسلامَ كان يجب أن لا تُؤلفُ مثل هذا الأعمال.

هناك وهمٌ بأن الدين يزول، وهناك وهم مضاد أن الدين يجب يَسحقُ التطورَ الحديث المتغرب الكافر!

لكن الجانبين يصطرعان ويُحدثان فوضى، وإضطراباتٍ في تطور البلدان الشرقية التي لم تحصل على تطور ديمقراطي وعمق ثقافي كاف، فقامت التوجهاتُ الشمولية في كلا الجانبين بالصراع مع الآخر.

الليبرالي الشكلاني يساير الدولَ الشمولية والمصالح الخاصة ويعتبر الدين تخلفاً خاصة الموجه ضد التوجهات الدينية الرسمية ويساند النزعات الحديثة بدون عمق وبمظاهر سطحية وبمصالح خاصة وقتية.

لا يجذر نزعته الليبرالية للتحد التطورات العميقة للبشرية، أن تكون حفراً متسامحاً وعناية بالزهور الدقيقة الرائعة عبر العصور

الليبرالية المصلحية تقوم على وعي سطحي لا يقوم بدرس التاريخ الديني وتوجهاته وصراعاته، ولماذا ضعفت التوجهات التحديثية القديمة، وكيفية مواصلة التيارات عبر التاريخ ونقد الاشكال التغريبية المعاصرة التي لا تجمع بين الماضي والحاضر.

في الصراع بين لينين وتولستوي يظهر طابعُ التحديثي الإلغائي الذي يرى مسيحيةَ تولستوي زائلة ومضرة للتطور، مثلما يرى تولستوي طفوليةَ (الشيوعية) دون عداء قتالي.

لم تأخذ أفكارُ لينين الديانةَ المسيحية بقراءة مركبة، وظهرت له فقط كتقاليد إقطاعية مسيطرة رثة يجب أن تزول كلها. وإذا كان هذا هو الشكل الرسمي الذي سيطر على التطور التاريخي السياسي من قبل القوى العليا فإن حياة المسيحيين كلها ليست مدموغة بهذا الطابع الوحيد.

وفيما صارعت (الشيوعية) التخلفَ الاقتصادي والاجتماعي وعبرتْ لمستويات متقدمة، لم تستطع أن تزيل المسيحية، بل تدهور هذا الشكل السياسي الصارم نفسه.

وروايات تولستوي لم تزل مقرؤة ومحبوبة ومُثُل التعاون والحب بين البشر ورفع الظلم عن الفلاح كانت قضاياه الرئيسية مصوراً فيها نضالات الفلاحين المعاصرين في ظروفهم الرهيبة. لم يستطع توالستوي أن يظهر الموجيك لأول مرة فقط بل كفاح البشر العاملين.

ولهذا لم يستطع ماوتسي تونغ أن يحتضن الدلاي لاما، وغدا الصراع العنيف بين القومية الصينية وأهل التبت يظهر كصراع بين الحداثة والتخلف.

وهذا ما رفضه غاندي عبر إحترام كافة التيارات الدينية والقديمة وتعايشها، مما لم يسبب كوارث وحروب رهيبة عبر العقود بين تلك التوجهات المتضادة الحادة.

رغمم أن إنه لم ينتم للطبقات الشعبية بل صعّد طبقةً عامة ظلت تهيمن على الهند من موقع متمايز لكنها بقيت في هذه الهيمنة متيحة للقوى الأخرى المشاركة.

هذا نوع من التحديثي الليبرالي الوطني ذي البعد الواسع تغلب على ممثلي القوى الشعبية على المسرح السياسي.

الليبراليةُ فرديةٌ جامحة

مع تدهور الوضع الديمقراطي وصعود المذهبيين السياسيين المتفتتين للأمةِ وللشعوب رأينا الليبراليةَ وهي تذوي وتغدو مطامحَ شخصية.

كانت التياراتُ الليبراليةُ في بدئِها واعدة، تغلغلتْ خاصة بين التجار وأعلتْ شعارات التوحد، وكان التوحدُ عظيماً، (أمة واحدة من المحيط للخليج)، وكذلك شعار إستعادة فكرة (الرسالة) التي لها ظلال إسلامية إمبراطورية، لكن هذه الرسالة السابحة في التجريد والتعميم لم تُحللْ الرسائلَ العربية القديمة، وأشكالَ التوحدِ التي ظهرتْ بالعنف، والأنظمةَ الإمبراطورية التي قادتها وتحكت بها طبقاتٌ صغيرةٌ في المراكز السياسية.

الليبرالية العربية الراكضة نحو السلطة ونحو العسكرية ونحو حكم القوة لم تأخذ وقتاً طويلاً في نشر الحريات الاقتصادية والاجتماعية والشخصية، ولم تفكك القبائلَ المحافظةَ التي أستولتْ على المدن وجعلتها بدويةً، ولم تمدن العلاقات الأبوية وتقارب بين الرجال والنساء، ولم تقدر على نشر الحريات الثقافية والفكرية وحصار الأمية والقضاء عليها، لم تقوي حضور المكتبات والتأليف والفنون بشكل مستمر.

وجرت نحو مراكز القوة،  ونحو السلطات، والتنظيمات السياسية الصغيرة المكونة من أناس متعجلين، وهذه الثقافة السياسية كانت أرضية مناسبة للمغامرات الخطرة.

الانتهازيةُ هنا متغلغلة، والأفرادُ يبحثون عن مصالحهم القريبة، والعائلاتُ التجاريةُ الكبيرة ترغبُ في التداخل مع الأجهزة الحكومية وتحصل على مراكز تأثير وفوائد.

وثمة شبابٌ طامحون فيها تعلموا تعليماً عالياً وفي بحر من الأمية والجهل الشعبي الواسع، نظروا لأنفسهم بأشكال متضخمة، ورأوا معرفتهم التي حصلوا عليها قوةً هائلة وسط التخلف، فاستفادوا من التناقض بين العلم النخبوي والجهل الواسع، وهذه الاستفادة قادت لبعض اتغييرات في بلدان جائعة للمشروعات والتطور ولكن على أسسٍ غير ديمقراطية.

العودة للإسلام أو التوجه للغرب، شعاران لهذه النخب الليبرالية الصغيرة الأولى يُؤخذان بأشكال تسطيحية، فهما شعاران يعبران عن عدم فهم التاريخ الإنساني، وعدم أخذ التشكيلات والحقب التي مرتْ بها الأمم، فالعودةُ إلى الإسلام هي شعارٌ خيالي وغير ممكن، لأن المقصود بذلك هو الحقبة النضالية النهضوية الديمقراطية البسيطة التي ظهرتْ في التأسيس، وهي حقبةٌ فريدةٌ لها خصائصها الإستثنائية ولها محدوديتها، من حيث عدم ظهور طبقة وسطى ذات جذور عميقة في الصناعة، وذات علاقات إنتاجية ديمقراطية بالعاملين، ولهذا فإنها أعتمدت على الغزو والفتوح وهي ظاهرة كانت ضرورية لفترة تأسيسية تحررية مؤقتة وليس أن تكون أبدية، فالقت الحروب بنتائج سلبية وخيمة على القبائل جنين الأمة العربية والأمم الإسلامية وقتذاك، فجعتلها تعيشُ على القوةِ والجيوش وأضعفت الإنتاج المتطور على مدى الحقب التالية، وتكرس الصدامات العميقة بين الأمم الإسلامية وبينها وبين بقية البشرية.

الفئاتُ الوسطى الصغيرة القديمة المحدودة منتجة النهضة وقتذاك لم تحول ليبراليتَها وعقلانيتَها الصغيرةَ لرؤى تحليلية ناقدة واسعة، فتصنع مشروع نهضة متجذر.

في حين أن الفئات الوسطى الصغيرة المعاصرة في بدء النهضة العربية تستعيدُ شعارات غير مدروسة وغير محللة، فتأخذُ الجاهزَ وتتجه للعنف والقوة والجيوش تكرر ما فعلهُ الأسلافُ في زمن مختلف.

إن فكرة العودة للماضي ضرورية كتحليلٍ وكنظرة فاحصة مكتنزة بقراءة التاريخ وبأدواتٍ منهجية عصرية، وعبرَ رؤية كيفية النهضة السابقة ومحدوديتها وأخطائها، وتجاوزها في النضال الحديث.

 كذلك فإن نظرات الاندماج بالغرب كانت هي الأخرى تعاني من ذات التسطيح والاستيراد الشكلي،

والنظرتان خلقتا رافدين حادين التقيا في الانقلابات الفوقية التي لم تشكل أسس تغيير عميقة، وجلبت مشكلات كبيرة، بخلاف التطور التدريجي المفترض الذي يراكم بعمق وبصبر المميزات الايجابية.

وهذا كله أدى لتآكل اللليبرالية والديمقراطية المستندتان على جذور تاريخية عميقة وعلى قراءة وإستفادة من الغرب، ومن هنا وجد بقايا الليبراليين والديمقراطيين أنفسهم في موجات غير تحديثية كبيرة ومضطربة بين عودة شديدة للوراء وبين قفزات مغامرة للحداثة.

غدا الليبراليين والديمقراطيين أفراداً فقدوا الركائز الاجتماعية الواسعة وهذا سهل للقوى الحكومية الشمولية والمذهبيات السياسية أن تطويهم تحت أجنحتها في عوالم تقليدية.

وهذا أثر حتى على الأحزاب ذات التواريخ النهضوية والديمقراطية واليسارية التي غدت زعاماتها فردية، تتأثر بالموجات الكبيرة في الحياة السياسية.

وحينئذٍ تغدو الليبرالية فرديةً جامحة تعزلُ الشعارات عن جذورها وعن اللوحة العامة للصراع وتركز على خيوط صغيرة مفصولة، مما يقود للمزيد من الذوبان لهذه الأفكار، وإعلاء المصالح الخاصة وإستغلال الصراعات للفوز بالغنائم المالية وبالمقاعد والنفوذ.

وهي كأفراد ذوي إهتمام بمصالحهم لا تستطيع أن تجابه عبر هذا التاريخ القوى الشموليةَ العنيفةَ التي راحتْ تستعيدُ عبر هذا التآكل للقيم الديقراطية السلمية، نفس قيم القبلية المسلحة ومذهبيات الفرق الناجية الوحيدة وعقليات الغزو والبطش بشعاراتٍ جديدة، لكونها لم تواصل الحفر الديمقراطي التاريخي عبر عقود وتحوله لسياسات أهلية وحكومية عميقة ومتأصلة في الشعوب والحكومات.

ولا بد من البدء من جديد وتجميع الخيوط وتوسيع القوى المؤيدة لهذه الأفكار الليبرالية والديمقراطية وتحويلها لحراك إجتماعي سياسي يوقف التدهور ويحيله لتقدم جديد.

الليبراليةُ والصعابُ السياسية

دفعتْ الأنظمةُ القوى الليبراليةَ واليسارية إلى أحضان المذهبيين المحافظين.

فعبر تحجيمهم وإلغاء منابرهم قادتهم للتوحد مع الجنون السياسي.

ليس المذهبيين السياسيين سوى جنون إجتماعي، حيث تؤدي الإضطراباتُ الاقتصاديةُ والاجتماعية إلى فقدانِ الناس لأعصابهم السياسية وإتزانهم، وتدفعُهم المشكلاتُ وضياعُ الفائض الاقتصادي إلى أن يسيروا حسب غرائزهم ومصالحهم اليومية المحدودة بتشنج.

وهكذا فإن الأنظمة في إدارتها الحادة كانت تقود لخطوات معاكسة لما تريده.

الميراث القديم المحافظ متعدد وفوضوي الوجود ومتعدد الإبعاد، يمكن أن يستغلهُ إرهابي عالمي وصبي، وحين يتوسع الجنون الاقتصادي الاجتماعي يفقد العقلاء عقولهم.

والأكثر خطأً حين تستعين الأنظمةُ والقوى الغربية بفصائل من المضطربين والضائعين، بحيث تصبح الاضطرابات قارية واسعة النطاق.

على مدى العقود الماضية رأينا هذه السياسات، وكيف حُوصرتْ المنطقةُ ببلدانٍ نازفةٍ من حروبها الطائفية السياسية.

كان السير في الخط الليبرالي الديمقراطي أصعب عليهم، وكان يتطلب سماع الانتقادات وقوة البرلمانات وتجذر الصحافة الحرة والحداثة ذات المصروفات العالية في التعليم بدلاً من تعليم الحفظ والعصا، وتوجيه الدخول نحو وزارات الخدمات، لكن التوجه للمحافظة السياسية لا يكلفُ سوى ترك الأوضاع القديمة تبتلعُ الأزهارَ التحديثية الصغيرة النابتة بصعوباتٍ من بين الصخور الاجتماعية.

الآن تتعاظم أخطارُ هذه السياسات وتتوسع، وينضم ضحايا جدد من البلدان والشباب للغات البسيطة الحادة في فهم السياسة، ولا يجدون برامج تحول حقيقية.

أصحابُ المصالحِ لا يرون سوى أعمالهم الخاصة، وداوئرَهم الضيقة، فتملتئ الشوارع بالعمال الهاربين، والقادمين من شتى البلدان يساهمون في إقتصاديات ليست حرة بل فوضوية، فثمة فروقٌ بين إقتصادياتٍ تؤسسها الخططُ الوطنية والرقابات البرلمانية والصحافة الديمقراطية وبين إقتصادياتِ الأقسام المنفصلة عن بعضها البعض، والمتصادمة بين فيضٍ مجلوبٍ وغير مراقب وصادم للانكماش التوظيفي الوطني، إضافةً لمحدودية الطرق والخدمات العلاجية والتعليمية وتنامي الايجارات وتباطؤ النمو الاقتصادي.

الليبراليةُ تصيرُ حريات إقتصادية تؤسسها دولٌ لديها ملكيات عامة ضخمة وحرة في الاستيراد والتصدير وليس في التوزيع الأهلي، وتنكمشُ ليبراليتها مع مراقبة المال العام وتغيير طابع الملكيات العامة البيروقراطية، وتغدو الليبراليةُ مصالحَ خاصة لا تقبل المساهمة في تطوير القوى السكانية المنتجة وأوضاعها المادية والثقافية.

فتصير البلدانُ حصالاتٍ تضيقُ فيها المشروعات العامة وتتسعُ المشروعاتُ الخاصةُ العلنية والباطنية.

الرأسمالية العامة الهائلة النفوذ والرأسمالية الخاصة المُحاصَرة لا تكونان بنيةً منسجمةً متكاملة، وهذا يتكشفُ في ذروة المرحلة الراهنة التي تعانيها الدول ذات رأسمالية الدولة التي تجاوزت الخمسين عاماً.

رأسمالياتُ الدول الثنائية المتناقضة تغدو متأزمة، وثقافةُ الاحتكار والنفوذ الطويل لا تنتجُ ليبراليةً، في حين أن الرأسمالية الخاصة المحاصرة لا تستطيع أن تغامر في السياسة وفي إنتاج ثقافة ليبرالية تنويرية ناقدة للمشكلات تعرضُ نفسَها للمساءلات.

تكسب السوقَ الكاسدةَ من القيم الليبرالية ومن الديمقراطية الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة التي لا تملك رساميلاً، وتتاجرُ برأسمالها الإيديولوجي وهي تتطرفُ بشعاراتها وتزايد حتى تظهر بقوة للمتضرريين من الرأسمالية الحكومية ومن عجز تطورها عن تغيير السوق وتطوير البنية الاجتماعية التي تغدو مشوهةً ومتضررةً في جوانب عدة ومتضخمة في جوانب أخرى عمرانية غالباً.

 إن خوفَ الرأسمالية الخاصة من المغامرة برساميلها في إنعاش حال الفقراء والمساهمة في التغيير بفكرها وفعلها يمنعُ تحولَ الليبرالية الاقتصادية إلى ليبرالية الثقافة والسياسة.

هنا تستفيد الفئاتُ البرجوازية الصغيرة مدحاً أو ذماً، مبالغة ونفخاً وإثارة، ورقصاً على الحبال، أو إنتاجاً فكرياً عميقاً صعب الحفر وصعب الانتشار والتأثير.

الجسمان الأساسيان لليبرالية وهم القطاع العام والقطاع الخاص لم يكونا شبكةً موحّدة، وبنيةً متداخلةً ذاتَ قوانينِ سوقٍ واحدة، تلعب فيها البرلماناتُ دورَ المايسترو الذي يشكل إقتصاداً وطنياً، فتجمعُ البناءَ الاقتصادي والبناء السياسي في خط الحرية والخدمات الوطنية.

من يفعل هذا التوحيد غالباً هو الجمهور العادي الذي يتضرر من التشكيلة الرأسمالية عامةً ويتضررُ بشكلٍ أشد من عدم تكونها المنسجم، وإندماج قسميها المتناقضين، وتوحد قوانين الأسعار والأجور.

ولهذا يغدو الفعلُ السياسي المذهبي جنوناً حين لا يتكشف البنية، ويصيرُ وعياً ديمقراطياً عبر إنسحابه من المذهبية السياسية التي هي نتاجُ إضطراب البنية وعدم توحدها، ويغدو أفعالاً معبرة عن مختلف المجموعات الاجتماعية ذات المصالح المشتركة.

الليبراليةُ والماركسية

تتناقضُ الليبراليةُ والماركسيةُ تناقضاً نسبياً وليس مطلقاً، مثل قطبي المغناطيس، فهم تزولان معاً كذلك.

مثل طبقتي الإنتاج الرأسماليين والعمال، تتعاونان وتتصارعان وحين يحدث زوالهما تزولان معاً، يصير الناسُ عاملين والإنتاج لهم.

حين يحدث الإلغاء من قبل أحدهما للآخر يتشوهُ كلٌ منهما، فتلغي الليبراليةُ الماركسيةَ عبر القمع ومصادرة الحريات، فتغدو الليبرالية فاسدةً بيروقراطية وتتحلل من الحرية.

وتلغي الماركسيةُ الليبراليةَ حيث تنشئُ رأسماليةَ دولةٍ شمولية فتفتقدُ الحريةَ وتتعفنُ الماركسية.

مثقفون وسياسيون وأرباب عمل أفراد ليبراليون يلغون الماركسيةَ لكن لا يستطيعون، ومثقفون وسياسيون وأرباب عمل حكوميين ماركسيين يلغون الليبراليةَ فلا يستطيعون.

الماركسية والليبرالية تتصارعان وتنفيان بعضهما ولكن في أنظمةٍ غيرِ حرة، إستثنائيةٍ يتصاعدُ فيها الإرهابُ أو القمع، مما يؤدي لصعود قوى أخرى ما قبل الحداثة.

في توسع الحداثة من الغرب للشرق، نحو العالمية تتوسع النظرتان وتتغلغلان في كل مكان وتغيران أساليب الانتاج الحِرفية والمتخلفة والصناعات الملوثة وغير التقنية المتطورة، وكل التيارات ما قبل الحداثة تنصهر فيهما.

عبر القرون يتبدلُ نسيجُ البشرية، وتتفجر مشكلات التحديث التي يُقضى عليها بمزيدٍ من التحديث والعقلانية السياسية والديمقراطية وإنتشار الكشوف العلمية.

الليبرالية المشوهة والماركسية المشوهة نتاجا أنظمةٍ لم يتطور أسلوبُ الإنتاج الحديثِ فيها، تفرضُ أدواتُ التسلطِ الشرقية أو الغربية نفسها فتعرقل التطور، يغدو تداول السلع وتداول السلطة معرقلين بأسباب سياسية متخلفة. يتلكأ تطور قوى الانتاج المادية وقوى الانتاج البشرية.

البشريةُ تغدو منتجين، أو مالكين، وتتعمم التطورات الاقتصادية والتقنية والفكرية والأخلاقية حتى تصير أفقر البلدان منتجة تحديثية، وتصير الكرة الأرضية سوقاً واحدة.

حين تظهر أنظمةٌ تعادي هاتين الفكرتين تكونُ أنظمةَ ما قبل الديمقراطية، تتفجرُ بتناقضاتٍ تهدمها. لا يستطيع أي نظام أن يبقى في ما قبل هذه الثنائية. الذي يبقى يجرفه الأعصارُ التحديثي الصناعي الغامر.

الأسلوب الرأسمالي في عالميته يصلُ لقمة مداه، تصبح كلُ الشعوب منتجةَ السلع التي تفيضُ ويختنقُ الأسلوبُ بشكل تدريجي.

وأي هيمنة من قبل الفكرتين الليبرالية أو الماركسية تغدو تحسينات وإصلاحات، وليس هيمنةً أبدية، فالانطفاءُ تدريجي في الأسلوب الرأسمالي، لهذا فإن دكتاتوريات أي من هاتين الفكرتين هي حرب أهلية وجمود تقني وتوقف عن تطوير قوى الانتاج لكن قوى الانتاج لا تعرف الوقوف.

الليبرالية التي تتعرقل بالشمولية تنقدها وتغيرها الماركسية، والماركسية المتخلفة عن فهم الثورة العالمية الديمقراطية تجرفها الليبرالية.

والشعوبُ المتأخرةُ في الوصول لهذه الثنائية الصراعية الجدلية التعاونية عليها أن تحافظ عليها وعلى تطورها في الاقتصاد والحياة الاجتماعية، لكي تصبح منتجة سلع متطورة.

إلغاء الفكرتين أو أي منهما هي عودة للوراء، لصراع ما قبل الرأسمالية وما قبل الحداثة.

كلٌ من أرباب العمل والعمال مساهمٌ رئيسي في الإنتاج، وكلٌ يلغي الآخر، لكن التطور الحقيقي يعتمد عليهما معاً.

الاستغلالُ مرتبطٌ بتخلف قوى الانتاج والمنتجون القوة الكبيرة فيه، وقوى الإنتاج مرتبطة بالعلوم والتقنيات السابقة والتطور الاقتصادي، ولهذا فإن زوال الاستغلال يتعلق بتطور المنتجين وتحولهم لقوى عاملة علمية متطورة، وهذه قضية تحتاج للكثير من الزمن والتطورات الاجتماعية والاقتصادية.

كما أن الاستغلال مرتبط بالمالكين ونظراتهم ومدى ضخامة ذواتهم وأنانيتهم، وهم يتطورون كذلك لأن الأنانية تذبل، ومشكلاتها تعصفُ بالانتاج، وتسبب الكساد والثورات الاجتماعية والفوضى، ويخفف منها الرقي الثقافي والتطور الأخلاقي، وتصاعدُ دورِ المنتجين في الحكم والحياة الاجتماعية والعلوم، لكن الاستغلال لا يزول إلا مع أسلوب إنتاج جديد ليس فيه عمال أو أرباب عمل.

ينطفئُ هذا الأسلوب مع إختناق التصدير والأسواق، فلا يعود هذا الأسلوب قادراً على البقاء في قادم العقود والقرون فيتحول الناسُ إلى عاملين ومالكين معاً. يتحولون إلى أحرار وذوي نظرة موضوعية، ولا يتصارعون بشكلٍ تناحري، ويكون صراعُهم الأكبر مع الطبيعة ومشكلاتها.

تنطفئُ الليبراليةُ والماركسيةُ معاً، ويتم تجاوزهما معاً مع إنطفاء هذا الأسلوب الصراعي التناحري.

حين تزول الطبقات يزول الوعي الطبقي.

الليبراليون والطائفيون

الليبراليون يعبرون عن الطبقة الوسطى في كمونها كفئاتٍ وتطورها كقوةٍ إجتماعيةٍ سياسية وطنية.

الطائفيون يعبرون عن طوائف، عن المادةِ الخام للدين بما أُنتجَ تعبيراً عن فئاتٍ وسطى قديمة تحللَ وجودُها وهيمن عليها الإقطاع.

الطائفيةُ كحالةٍ إجتماعية هي تسييسٌ لهذه المادةِ الخام ضد التطور التوحيدي لديانةٍ ما.

فهي الإبقاءُ على التفتت، والصراعاتُ الدينيةُ المعتمدةُ على إرث يُفسرُ بأشكال تعصبيةٍ مغلقة تقودُ لتحللِ الأمم والشعوب.

إن العناصرَ الديمقراطية في الدين لم تتطورْ لأسبابٍ تعودُ لتوجهِ أموالِ الخراجِ العامة للبذخ، ولم تستطعْ الحِرفُ أن تعوضَ عن ذلك، وتمد العلومَ بتطورٍ واسع عميق.

لهذا حدث تفسخٌ للإمم الإسلامية، فتمزقت، وتفتت، وسيطرت عليها القبائلُ الصحراوية وقوى التعصب الديني والأفكار السحرية، وتقوت الطوائف بأشكال متحجرة.

الليبرالية في الماضي الإسلامي لم تتطور كثيراً، وأفكارُها حول الدين والحريات وتوحد الأمم الإسلامية لم يتعمق، وجثمتْ الطوائفُ بموادها الفكرية الخام، وبتكريسها للنصوص بأشكال سطحية.

الآن ثمة آفاق كبيرة لليبرالية لكن الوجود الاجتماعي الخام هو للطوائف التي تشدُّ الناسَ للماضي وتكريس نفس الشعارات والعقليات القديمة.

مصدرا القوة المادية يحددان مدى تطور الاتجاهين وتداخلهما مع الديمقراطية العصرية، فمن يملكُ الشركات والبنوكَ ومصادرَ العيش هو الذي يوجهُ التطورَ لسياقهِ الخاص، وهو يتطور معه من أشكال دنيا لأشكال عليا.

كذلك فإن تفسيرات الدين التقليدية التي تعيش في الأجهزة الحكومية وفي المنظمات السياسية والاجتماعية والمتداخلة مع تملك الموارد العامة والخاصة تلعبُ الدورَ الآخر المكرس للطائفيات المختلفة المتصارعة.

مدى قوة البيروقراطيات الحاكمة المتغلغلة في القطاعات العامة تعرقلُ تطورَ الليبرالية، التي تكشف عن عدم توجه (الخراج) المعاصر وهو القيم الفائضة إلى إعادة الانتاج الوطني الموسع وتطوير حال الشغيلة الجانبان المترابطان مع الثورة الصناعية والتقنية العالمية.

تطورت الليبرالية في العصر العباسي بمحدودية من خلال التجارة والحِرف والصناعات البسيطة، وكان جزءٌ يسيرٌ من الخراج يدعمها ومتعلق أغلبه بسوق الدولة والقصور وإصلاحات الري فيما كان أكبر الدخل الاقتصادي يذهب للبذخ.

والآن تنامت الليبرالية من التجارة فكان تناميها ضعيفاً، لأن الاقتصادَ ما زالَ في يد الدول، فكانت الليبراليةُ السياسيةُ شعاريةً ونظرات جزئية للتحرر، وجاءت سيطرة القطاعات العامة لتزيل ذلك فيما سمي بالمرحلة الاشتراكية أو رأسماليات الدول الشمولية المختلفة، ثم عادت التجارة شبه الحرة وتنامت الصناعاتُ الخاصة في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى تطورِ الليبرالية وتداخلها مع المذهبيات السياسية المختلفة.

التداخل بين الاتجاهين يعبرُ عن إستمرارية سيطرة القطاعات العامة بيد القوى البيروقراطية التي تستنزفُ الثروات، وما الثورات العربية سوى تعبير عن تجاوز ذلك فيما تريدهُ الجماهيرُ الشعبية التي خاضتْ تلك المعارك العظيمة، لكن ما تريدهُ الأحزابُ والبيروقراطيات هو أمرٌ سيظهر في التطبيقات العملية.

تطور الاتجاهات السياسية باتجاه الحداثة والديمقراطية والعلمنة والتعبير الحق عن المسلمين والمواطنين، هو الذي سوف يوسعُ السيطرة الشعبية على الأموال العامة لأن تلك الأسس أساس توحيد الشعوب، فيتم توجهيها نحو الصناعات والعلوم والزراعة، أما تفتت القوى السياسية خاصة المذهبية والليبرالية  فسوف يؤدي إلى تجاهل حقوق الجمهور الشعبي الذي ضحى وأوصّل هذه القوى لسدات الحكم، وهو تفتيت للحريات وعدم رقابة عميقة على الأجهزة، وإبقاء ركائز الإقطاع في العائلة والريف والثقافة، وهو يضر بمكونات الوعي من ليبرالية ومذهبية سياسية ولا يوجهما نحو التعبير عن الطبقات، بل يوجهما نحو التعبير عن المناطق والقبائل والطوائف، فلا يحدثُ مركزيةً للسلطات الديمقراطية المنتخبة ويغيب التحكم الوطني الشعبي في الموارد نحو إعادة تغيير كل خريطة إقتصادية وطنية لصالح مختلف الطبقات.

فتظل هناك قوى توجه الموارد أو بعضها نحو رفاه الأقسام البيروقراطية والحاكمة أو نحو حروب جديدة، فحتى الدول الغربية المتطورة في الديمقراطية تعيش أزمات البذخ عبر أزمات شراء المساكن، ولهذا فإن الليبرالية والطائفية المختلفتين والجزئيتين تعبران عن عدم إكتمال نماذج الطبقات الوسطى في كل بلد عربي، وعدم تطور أقسامها الداخلية من تجار وعلماء ومثقفين وصناعيين للوحدة السياسية الحديثة الديمقراطية، وعدم إزاحة التناقض بين الماضي والحاضر، بين الدين والحرية، بين الإسلام والعلمانية، بين الشرق والغرب.

لأنهما تقومان على مرحلةِ ما قبل التصنيع الخاص والعام الواسعين الديمقراطيين، وبقاء أقسام كبيرة من الجماهير فيما كان يقيمُ فيه أجدادُهم من زراعةٍ بسيطة وحِرفٍ والعيش في ظلِ الدولِ الأسواقِ المهيمنة، بدلاً من الأسواق الحرة والشركات الخاصة العملاقة، وإنتشار إكتشافاتهم وتفجيرهم للثروات.

الليبرالية والإسلام السياسي

في مخاض تحول الرأسماليات الشرقية تقع في تناقض بين القيود والحريات.

رأسماليات الدول المسيطرة تخلق قيوداً أساسية حول الثروة الرئيسية وحول الحريات والثقافة، باعتبار الدين أحد الأشكال الرئيسية للثقافة.

كما أن الرأسماليات الخاصة رأسمالياتُ نتاجِ الدول ونتاجات العائلات التجارية التي أتاحت لها التجارة قديماً إمكانيات اقتصادية قبل ظهور الدول الرأسمالية الحكومية بهيمنتها الشاملة.

وهي لهذا تعيش على ليبرالية محدودة تتركز على التجارة وحرية الأموال.

 لا يمكن لليبرالية أن تزدهرَ إلا بازدهار الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج الكبيرة، وهذه غير ممكنة حالياً، ويمكن أن تصيرَ في المستقبل، ولهذا فإن الليبرالية الكاملة غيرَ ممكنةٍ، وتجري في مخاض تطور المجتمعات الشرقية لتثوير وسائل الإنتاج ولجلعها في المستويات العالمية، وهي بحاجة لتثوير العلاقات الاجتماعية، ولتجعل النساء والرجال يعملون بازدهارٍ كامل، كما هي بحاجة لأن تزدهر معارفهم لتكون بمستوى علوم العصر وتقنياته.

ولهذا فإن الرأسماليات الحكومية التي تحجزُ تطورَ قوى الإنتاج في أشكالٍ بيروقراطيةٍ مُعرِقلة، منتجةٍ ومهلكةٍ للثروة في آن، تساندُ علاقات إجتماعية كبيرة ولا تريدها أن تنمو وأن تتحرر، كالأنماط القبلية والمذهبية والأبوية، وتحجم كذلك الحريات الفكرية والاجتماعية.

وأي تطورٍ تريدهُ هو في ملائمةٍ مع الأشكال الاقتصادية العامة، لكن الحياة الاقتصادية تتطور بأشكال خاصة كثيرة، والأزدهار الديمقراطي الغربي والثقافة الليبرالية العالمية تقتحمُ كلَ مكان، مما يؤدي إلى تزحزحِ أشكالِ الجمود والاستبداد الشرقية المختلفة.

وأي جمود عنيف في هذا الصدد يؤدي إلى جنون إجتماعي واضطراب سياسي كبير، فقوى الإنتاج تريد التغيير وأشكال الملكيات الحكومية والبنية الاجتماعية التقليدية، تعرقلان التطور.

ولهذا فإن الأحاديث عن الليبرالية في المجتمعات العربية الإسلامية يتخذ طابع الغموض والعموميات، فلا تـُعرف أحجامُ الحرياتِ المطلوبة وأين، وتتناقض قوى إجتماعية عديدة حولها، تبعاً لمستويات تطور كل منها. فكلُ شيءٍ يدور عبر الغموض والتداخل الاجتماعيين.

وقد كانت دائماً القوى الحكومية معنية بمستوى معين من الحريات الاقتصادية والاجتماعية، بسبب ظروف الدول المضطرة للعلاقات الدولية والتجارة، وحتى في الدول العربية الإسلامية القديمة كانت الدولُ أكثرَ مرونةٍ تجاه العلاقات الاجتماعية فتبيحُ حرياتٍ عديدة في هذا الجانب، وتضيق على الحريات السياسية والفكرية بصورة أشد. لكنها لا أن تسير للحد الأقصى وأن تتبنى الحرية كلية.

في حين كانت الجماعات الدينية أكثر تشدداً تجاه العلاقات الاجتماعية، فهي تعتبرُ الأسرَ العائلية مركز سيطرتها الاجتماعية، وتغدو الأحوال الشخصية وقضايا الفقه المتعلقة بها، حصنها الحصين، وبدونها لا تبقى لها سلطة، وإذا جرى ذلك تتنزع الدولُ كلَ السلطات منها. في حين أنها تجاه الحريات السياسية أقل تشدداً لأن ذلك باتجاه الدول لا باتجاهها!

لكن الاختراق العالمي التحرري هو موجه كثيراً نحو العائلة، فهو الباب السري الذي يجري من خلاله كل إنقلاب سياسي، والتي تغدو حرية الأفراد فيها هو جوهرها الحقيقي، باعتبار هذه الحرية تطوراً رأسمالياً، مفككاً للقبيلة وللمذهبية والوطنية الجامدة والحزبية المغلقة، وإذا كان إنتاج ذلك  غربياً معتمداً على إنتاج متطور، فهو في الشرق يغدو أحياناً أقرب للتحلل والضياع الفردي لكونه لا يرتكز على إنتاجية أفراد بل على إستيراد فوقي وإستهلاك.

  لقد ظهر كلٌ من الليبرالية والإسلام السياسي كقشرتين على جلد المجتمع، في لحظة ظهرت العائلة والدولة والكيانات الحديثة، المُوجَّهة للتطور من قِبل الغرب، وأية ظاهرة سطحية وليدة لا بد أن تكون مليئة بالشعارات العامة، وخالية من الدرس، وذات حماس، وكانت إحداها تريد الحرية والأخرى تريد الماضي، الأولى تريدُ العصرَ والأخرى تريدُ التراث، إحداها قادمة مع البضاعة الغربية والثانية نتاج الأدوات السياسية القديمة التي هيمنتْ على المسلمين دون أن تـُحدثهم.

أي أنهما تشكلتا كنقيضين، لا يُدركان بأن ثمة وحدة بينهما، وهي وحدة لا يصنعُها سوى التطور غير المرئي لهما.

 ومن خلال التضاد المجرد الحاد بين ما يُسمى بـ(الليبرالية) و(الإسلام السياسي)، سنجدُ أنفسنا بين حداثيين معادين لتاريخ المنطقة وتراثها، وبين حركاتٍ سياسيةٍ تتلبسُ الإسلامَ لتعارض الحداثة! وهما بناءان هشان قابلان للاستغلال من قبل القوى العالمية والمحلية المتنفذة.

في بداية ما سُمي بالعصر النهضوي الحديث كانت رافعة السيطرة الغربية مهمة لليبرالية، لكي تركضَ في ساحة الشرق، ثم كان صعودُ (الاشتراكية) فرملة وطنية شرقية لهذه الليبرالية التي أُعيدتْ للقعر، فكان أن صُعَّد (الإسلامُ السياسي) كعدوٍ للاشتراكية، فقد كانوا بحاجة لنقيض، وليس لقريب. ثم وجدوا إنه من الضرورة أن تصعد الليبرالية بعد أن تعملقَ الإسلامُ السياسي وأصبح مضراً للجميع!

إن العلاقات المعقدة بين ماهو وطني وقومي، وما هو إنساني، بين تكريس حرية الأفراد داخل الإنتاج والثقافة، لا تتحقق لدى كل التيارات.

ومن هنا فإن الليبرالية التي تريد حريات يجب أن تقوم بقراءاتها ودرسها، سواء في المجتمع الذي تعمل من أجل تغييره، أم داخل الماضي والتراث، الذي يحكمها ولا تستطيع أن تتجاهله.

والحريات التي تدعو لها يجب أن لا تكتفي بالحريات الثقافية والاجتماعية، بدون الحريات الاقتصادية والسياسية، فبدون شبكة الحريات تغدو مختلة، وهذا أيضاً يبعثر فئاتها الوسطى في الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية بعضها البعض، وهي كلها قوى واحدة تصارع بعضها بعضاً لأسباب فكرية.

وإشكالية الجماعات المذهبية السياسية (التي تـُسمى لدى الليبرالية الإسلام السياسي)، ليس فقط في الصراع مع الحريات الاجتماعية خاصة عند النساء وتجاه الثقافة الحديثة ونشر العقلانية، بل هو في تكونها بشكلٍ غيرِ إسلامي عام وطني، أي إنها تكونت كجماعاتٍ مذهبية سياسية مرتبطة بالسلطات في البلدان الإسلامية، فهي نتاج الدول، وما هو نتاج الدول تقل معرفته بفهم الحرية! فهي تشكلت لدى الحكومات التقليدية في المنطقة، سواء في إيران أو السعودية أو مصر وغيرها، وتشكلت في زمن الانقسام الوطني في كل بلد، وهي تحملُ الانقسامات لبلدان أخرى كذلك، وقد كانت دائماً ناتجة من هذه الإدارات الحكومية.

فهي دائماً موالية لدول، ولم تستطع أن تكون معارضة إسلامية مجردة، لمصالح المسلمين الكلية، تنقدُ الخطأ أينما يكون، فهي دائماً تابعة لدولة. لسانها طويلٌ في جهةٍ ومقطوع في جهة أخرى. والتابعُ لا يصيرُ معارضاً بل يغدو دائماً متهماً بالتبعية للغير. وإذا بزتهم القاعدة على إجرامها فلأنها غدت (ذات لسان لا يقطعهُ أحد).

 أي أنها تجد نفسها دائماً محل تفكيك لصفوف المسلمين والمواطنين عامة وليس لتشكيل وحدة بينهم. وسواءً على مستوى القومية والوطنية أم على مستوى الجنس (ذكوراً وإناثاً) أو على مستوى الثقافة: (قِدمٌ فيه الإيمان وحداثة فيها الكفر!).

ومن خلال حركات سياسية كهذه تتفكك الشعوب وتتفتت حركاتُ التغيير.

  هناك تعميمٌ صحيحٌ يتعلقُ بمحافظة الحركات المذهبية السياسية الذكورية وإنتمائها للطبقات القديمة التي سيطرت على المسلمين في العصور السابقة فيما بعد الحضارة التي سادت فيها هذه المذاهب، وأبقتهم متخلفين، وقادت صراعات كذلك ضد الهيمنة الأجنبية، وضد الحداثة، وهي تشمل المعارضات المذهبية والحكومات المذهبية كذلك، وهي هي نفسها لا تتبدل سواءً ظهرتْ في هذا البلد أو ذاك، لأن مضمونها الأساسي لا يتبدل، بسببِ سيطرةِ رجال الدين الكبار بمناهجهم التقليدية، والنادر منهم من قاومها وأنتمى للأغلبية الشعبية.

ولهذا فإن التعميمات فيما عدا ذلك تكون محفوفة بالمخاطر، وكل بلد يحتاج لتحليل وكل حالة لها ظروفها، وفيما أن الحركات المذهبية تنقل لافتاتها وتجاربها من بلد إلى آخر، وتشتغل على إستعادة المجتمع المحافظ، وبقاء العلاقات الذكورية المتسدية المهيمنة، وحالات الانغلاق الديني، فإن كل بلد لها صراعاتها وخصوصياتها.

فبعضها يرتبط بفئات وسطى تريد التحرر، وبعضها يرتبط بقوى سيطرة حكومية تريد الإنغلاق. أو أشكال أخرى متداخلة.

كل تنظيم ديني له قوة مستبدة فوقية لا تريد تشكيل حركات حرة على مستوى: تحرر النساء، وتحرر الثقافة العقلية من الأنماط المذهبية الأغلال. وبتشكيل الحريات هنا تفقد سيطرتها على الأتباع وعلى منتجات هؤلاء الأتباع.

لكن الحداثة لا تستهدف الفجور، والحريات لا تريد الفوضى والإباحية، بل تريد تصنيع المجتمع وتحويل قواه إلى عاملين، وبدلاً من جلب القوى الأجنبية لماذا لا نتحول نحن إلى صناع؟ لماذا نستورد دائماً الأجهزة؟ ثمة مجتمعات متخلفة مثلنا قاموا بالتصنيع الواسع؟

تـُفهم الحداثة عادة من قبل القوى السطحية في الجانبين الديني والعصري بأنها مجرد حريات شكلية وفردية خارجة من كل القوانين!

يعكس الجانب النهضوي الرغبة الشديدة في الإنتاج، وليس في التركيز على صراع الحجاب والسفور، وعلى العادات العبادية، وبضرورة إبعاد المسائل عن الصراعات الجانبية هذه، والليبراليون يتدفقون بقوة في الحديث عن هذا ويصوغون هجمات مستمرة ضد الحجاب والعقوبات التي تقوم بها أنظمة الاضطهاد الدينية بشكل متعسف، وغيرها من المظاهر ورغبتها هي في زوال مثل هذه الظاهرات.

وفيما أن الاضطهاد شيءٌ جائر لكن الحجاب هو لباس شخصي للمرء له حرية في لبسه أو عدم لبسه، ونقول للمرء لأن ثمة رجال مسلمين يتحجبون كذلك(الطوارق). أي هي مسائل راجعة للاختيارات والعادات، ولكي إنسان أن يقرر ما يلبس دون إساءة للذوق، وهي الحرية الفردية المطلوبة بدون أجهزة تفرض اللباس.

أما قضايا الاضطهاد والعقوبات والحدود فهي مسائل تتعلق بمدى تطبيق حقوق المواطنة، وقد قامت الدولُ منذ انتهاء عهد الخلفاء الراشدين بنفي الحقوق عملياً وبالاستبداد بالأملاك العامة وتخصيصها فتقع الحدودُ في شكوك وتعود للحقوقين يقرأونها بموضوعية مفترضة.

أي أن المسألة بحاجة لتغيير عميق ولإعادةِ الأملاكِ العامة للمسلمين لتنمو آثارها على حياتهم وبعد ذلك تتكيف العقوبات والقوانين مع هذا التغيير.

وبغض النظر عن إيماننا أو عدم إيماننا بهذه العادات والمواريث فإن الديمقراطية العصرية تتطلب إحترامنا لأصوات الناس، ولعدم تحولنا إلى رجال دين تقليديين يعيدون نفس السيطرة لكن بأشكال حداثية ويجبرون الناس على التزام  اللباس المحدد والأشكال المقبولة لدى الحكومة وعادات الحداثة المقدسة.

وبهذا فإن العلانية وعدم الإجبار ورفض قيام البابوية وفصل الدين عن السيطرة الحكومية الاستبدادية، سواء تجلت في حزب أم في دولة، دون شطب تراثنا، وتوجه الأحزاب لتطوير الإنتاج وخلق الثورة الاقتصادية وتطوير حياة الناس المعيشية وتقليص البيروقراطية وتخفيت أصوات الحكومات في الاقتصاد والتحكم، هو ما يمكن أن يشكلَ خطوطاً عريضة للقوى الليبرالية المختلفة سواءً كانت من أصول ليبرالية وتقدمية أم من أصول دينية. فثمة مجرى للحرية مشترك لتطوير الشعوب يمكن أن يتجمع فيه كثيرون.

 وبدلاً من أن نكون كرات تتقاذفنا أرجلُ اللاعبين من الشرق والغرب في كل مرحلة، وقوى الهيمنة من كل صوب، لتتجمع العناصر الفكرية والسياسية لمجرى عريض مشترك يحفر في الحرية ويؤسس لدول متقدمة.

الليبراليون في البحرين

استطاع الليبراليون في البحرين منذ الثلاثينيات أن يظهروا كعناصر صغيرة في مجتمع تقليدي بعد لم يستطع أن ينفتح بصورة واسعة.

 لكن هذا الظهور المبكر كان هو حصيلة مجتمع كان في منتصف الخليج حيث غدا هذا البحر خلال قرنين محظ حركة تجارية وسياسية واسعة، خاصة في أعقاب الغزو الأوروبي، الذي حول الهند إلى مستعمرة كبرى؛ وأقام علاقات مهمة مع الدولة الفارسية التي توحدت وتحدثت بصورة مبكرة.

 كذلك فإن العوامل البحرينية الداخلية بنمو اقتصاد الغوص والتجارة فيه، واتساع التجارة الداخلية والخارجية، إن هذا كله هيأ لظهور قوى تجارية متفتحة على العالم الخارجي بثقافاته و أنماطه الاجتماعية الجديدة.

 كما أن هذا شجع على مجيء عائلات تجارية إلى البحرين، من فارس والبصرة والمنطقة الشرقية، تحولت إلى بيوتات تجارية مهمة على المستويين الوطني والإقليمى.

 وهكذا غدت البحرين في الثلث الأول من القرن العشرين أهم محطة اقتصادية عربية في الجزيرة العربية، فكانت الجاليات العربية والأجنبية تعتبر البلد مورد رزقها المهم. ورغم التحول عن إنتاج الغوص التقليدي، فإن النفط المكتشف وفر استمرارية اقتصادية كبيرة لتطوير تلك العلاقات الرأسمالية المتصاعدة، لتأخذ أبعاداً عميقة في المجتمع، سواء بتفكيك العلاقات الاجتماعية الشديدة التخلف، أم بتطوير الوعي الثقافي الحديث وتغلغله بين النخب، بحيث غدت البحرين مركز إنتاج الوعي الجديد.

 ولكن المظلة الفكرية التي استظل بها الرعيل الأول، وهو الرعيل الليبرالي، كانت مظلة ملتبسة، فقد كان العداء للاستعمار البريطاني يدفع هذه النخب إلى مناصرة الدولة العثمانية، واعتبار وجودها أفضل من الهيمنة البريطانية الزاحفة.

 وهذا ما شكل في عظام هذه الحركة الجنينية خيوط التقاء مع بدايات الحركة الدينية المناصرة للعثمانيين، التي كان تقودها مجلة المنار، وقد كان الشيخ رشيد رضا ورئيس تحريرها قد تخلى عن الخط الديمقراطي التحديثي للشيخ جمال الدين الأفغاني، وصار متكلماً باسم العثمانيين، وقد أدى هذا إلى محدودية الأطروحات الليبرالية الديمقراطية للمنار وكذلك لقرائها البحرينيين الذين كانوا يغلبون الجوانب الوطنية الدينية على رابطة الاستقلال الوطني المحض.

 وعلينا أن نتذكر أنه في تلك الأوقات يصعب كثيراً طرح مسألة التحرر الوطني، في بدايات القرن العشرين، فكان الانتماء للرابطة العثمانية هو الشكل الذي تجلى فيه الوعي الوطني البحريني بصورته الأولية.

 ولكن كان لهذا الشكل ثمنه على تطور الوعي الديمقراطي الليبرالي، حيث غدا الارتباط بالمظلة الدينية التي يهيمن فيها التقليديون المحافظون، مؤثراً بشكل كبير على الحركة السياسية التي راحت تتصاعد خلال العقود التالية.

 ويمكن أن نعيد هذه التقليدية لطابع الاقتصاد الذي ظلت تؤثر فيه علاقات الغوص والرقيق وتدني أوضاع المرأة، وكانت الشريحة المؤثرة شريحة تجار اللؤلؤ المرتبطين بهذا النظام التقليدي.

وكانت البيوتات التجارية في ذلك الحين لا تعدو أن تكون دكاكين صغيرة ووكالات لا أحد يأبه لأهميتها الاقتصادية المتصاعدة.

 ومع انقلاب مجتمع الغوص ومجيء الاقتصاد التجاري والصناعي أخذت موازين القوى الاجتماعية تتغير، وبدأت التطورات الاجتماعية والسياسية الحديثة تفرض نفسها في مجتمع صغير كانت تفاعلاته تسير بمعدل كبير قياساً لجيرانه.

 وهكذا بدأت مساهمات الفئات المتوسطة الليبرالية تأخذ منحنى متصاعداً منذ الأربعينيات، خاصة مع تضييق الاستعمار البريطاني على هذه الفئات وحرمانها من الامتيازات الاقتصادية المهمة.

 دخلت الفئات الوسطى البحرينية معترك الصراع ضد الاستعمار من منطلقات ثقافية بداية، أي عبر نشر المفاهيم التحديثية، ومن خلال التعامل بإيجابية مع عائلة آل خليفة الحاكمة، حيث عبرت المجلات التي أصدرتها منذ نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات عن هذا التعاون السياسي، وعن عدم طرح التصادم حتى مع السلطة البريطانية، وفي فضاء التنديد بالاستعمار بشكل عام.

 وقد تنازع المثقفين البحرينيين اتجاهان عامان، الأول طرح العودة إلى الإسلام، من دون شكل محدد ودون بلورة نظرية لهذه العودة، ولكن مع الأخذ بالمنجزات الحديثة في الحياة الاجتماعية بما فيها من وسائل الديمقراطية والتطور الحضاري، وكان يتزعم هذا الاتجاه الأستاذ حسن الجشي.

 في حين تزعم الاتجاه الثاني الأستاذ يوسف الشيراوي، وكان يدعو للتوجه نحو الغرب، باعتباره تتويج الحضارة الإنسانية، ولم يكن يلتفت وقتئذٍ إلى الماضي، بل يرى ضرورة الإسراع إلى الاتحاد مع الغرب.

 كان هذا يجري في المخاض الأولي للخمسينيات، حيث بعدُ لم تتبلور الحركات القومية والشيوعية والبعثية والناصرية، ولم تستطع التوجهات الليبرالية أن تشكل تياراً أو تبلور نظرهً تنتشر بين الناس، وكان هذا بطبيعة الحال نتاج محدودية انتشار الفئات الوسطى وضعف تنوعها الاقتصادي، ولهذا فإن الوعي النظري والسياسي بقي متخلفاً بصورةٍ أكبر.

 لكن الحركات الشمولية السابقة الذكر استطاعت أن تنتشر وتهيمن على الساحة البحرينية، كما هو الحال في الساحة العربية، نظراً لقوة الهياكل الاجتماعية والاقتصادية الدكتاتورية، ومحدودية الوعي الديمقراطي، خاصة بين الجماهير والفئات البرجوازية الصغيرة.

 وبهذا فإن الأسئلة النظرية لمثقفي الخمسينيات سرعان ما ضاعت وسط دمدمة الشعارات السياسية الحماسية، وحين بدأت الصدامات العنيفة بين الناس والاستعمار، أخذت الليبرالية والحداثة تتشكلان في التضاريس الخلفية للجماعات التقدمية الصاعدة، فهي تدعو للحريات والديمقراطية ولكن من خلال منهج اجتماعي تهيمن عليه سياسياً.

وقد دفعتها الأيديولوجيات القادمة من الخارج عالمياً إلى رفض المرحلة الرأسمالية عموماً، وهو أمر ترتب عليه تجاهل وجود الفئات المتوسطة المهمة والبيوتات التجارية، والتركيز على الفقراء، وهذا من جانب آخر أدى إلى تخوف تلك الفئات المتوسطة من الحركات الاجتماعية القومية واليسارية عموماً، وبالتالي ازداد انكماشها السياسي والفكري.

 ورغم ذلك فإن عائلات تجارية كبيرة شاركت في النضال الوطني من خلال المقاييس التى طرحتها تلك الحركات.

وإذا أخذنا بعض أسماء العائلات المتوسطة، نجد أن عائلة مثل عائلة المؤيد لم يكن هذا هو اسمها الأصلي، ولكن تم ذلك عبر مداومة مؤسس هذه العائلة على شراء جريدة المؤيد المصرية، وهي التي كانت تطرح خطاً تحديثياً يتراوح ما بين الملكية وتأييد الغرب، واستمرت عائلة المؤيد من خلال بعض أفرادها في الارتباط بالحركة الاجتماعية التحديثية والوطنية في مراحل مختلفة.

 في حين أن عائلة فخرو كانت هي الأخرى ذات اتصال بحركة الشارع السياسية والمساهمة فيها.

 وكذلك عائلات أخرى عديدة كانت لها مساهمات وطنية وثقافية كعائلتى القصيبي والزياني الخ…

 ويلاحظ هنا أن جل هذه العائلات ذات نشاة مدنية، وكان صعباً على العائلات المتوسطة في القرية أن تطرح خطاً تحديثياً ديمقراطياً.

 وسيتقطع هذا التاريخ المدني الديمقراطي مع تزايد الشموليات السياسية، كما أن هذه العائلات ومثقفي الفئات الوسطى لم تكن لهم مساهمات وفيرة ومؤثرة في نشر خطاب ديمقراطي عموماً .

 وكانت الحركات الشعبية الشمولية قد اكتسحت الساحة وآثر مثقفو الفئات الوسطى الانضواء تحت رايات هذه الحركات الوطنية.

 ومن جانب آخر، فإن هيمنة هذه الحركات على الفضاء السياسي، جعلت الصوت الليبرالي منكمشاً، ثم غدا ملتحقاً بالقوى الشمولية على اختلاف تنوعها، خاصة للتوجهات الغربية المهيمنة على البلد والمنطقة، التي أعطت الليبرالية مساحة محدودة، لا تزيد على الارتباط التجاري وتغيير الجوانب المتخلفة جدا من البنية الاجتماعية.

 هكذا تم خنق تطور الحركة والحياة الليبرالية على مدى زمن الصراع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وإذا كانت الكتلة الشرقية قد شجعت الاتجاهات اليسارية والتقدمية، والكتلة الغربية قد شجعت الأنظمة المحافظة والحركات الدينية، فإن انتصار الكتلة الغربية في الصراع العالمي، قد جعل الكتلة الأخيرة تواجه حصاد المرحلة التي كونتها، من دَوْس للاتجاهات التقدمية والليبرالية وتشجيع بقاء الإقطاع السياسي والديني وتوسيع عوالمه، وكان لهذا ثمن باهظ على التطور السياسي.

 وفجاًة أصبح الخط الليبرالي هو المخرج من الحلقة المفرغة للتطور، وبدأ التوجه لنشر الديمقراطية السياسية، وليس الديمقراطية الاجتماعية، للتخفيف من مسار التدهور السابق، ونتائجه الكارثية.

 وكان هذا الاتجاه قد انطفأ في البحرين على مدى العقود السابقة، ولم يظهر إلا بشكل اقتصادي واجتماعي محدود، وقد أخذت الاتجاهات اليمينية المحافظة تنقض على جوانبه المختلفة، خاصة في تطور العمليات السياحية والفكرية الحرة والمساواة الاجتماعية.

 ورغم أن الجوانب الاجتماعية الشعبية المتوارية ظلت محافظة على الكثير من الحريات، ورفض الجمود الحضاري، فإن ذلك لم يصل إلى بلورة جماعة ليبرالية، فكل الخطوط الفكرية والسياسية صنعتها القوى الشمولية على مدى السنوات السابقة، مع ميراث جمود خاص فرضته المنطقة الخليجية.

 وهكذا توجت الساحة بالحركات الدينية التي عصفت بالتراث الليبرالي والتنويري خلال عقود القرن العشرين، وهو أمر ساهمت فيه قوى الفئات الوسطى والغنية بشكل خاص، سواء بالانسحاب من التنوير والتحديث، أو بمساعدة الاتجاهات المحافظة مالياً واجتماعياً وسياسياً.

 ولهذا بدأت عمليات استكشاف من قبل القيادة التجارية والصناعية للتطور الاجتماعي السابق، ولمراجعته، وبدأت فترة من محو أمية ليبرالية، حيث إنه حتى هذه القيادات التجارية والاجتماعية لم تكن تعرف ما هى الليبرالية إلا باعتبارها حرية التجارة، وليس باعتبارها منظومة اجتماعية متكاملة، وهو أمر يشير ليس إلى فقدان الخلفية الليبرالية العميقة فقط، بل إلى الطابع النفعي والتكتيكي الحذر وسط الكتل الدينية والحكومية المتنفذة.

 إن الفقر النظري هنا هو أيضاً نتاج عدم وجود برنامج وطني ومناطقي لهذه الفئات، وغياب قوة اقتصادية مستقلة عن الدولة؛ وعدم وجود قيادة بعيدة النظر في هذه الكتلة.

 فأي نمو ليبرالى سياسي يتوجه لاحتلال موقع بين الكتل وفي مقاعد البرلمان يحتاج إلى تأييد شعبي، وهو أمر مفقود لهذه القيادات وممثليها، فلم يكن لهذه الجماعة دور سياسي وطني، وسياستها الاقتصادية قائمة على التجارية المحضة وقصيرة النظر، ولهذا لا نجد شخصية ليبرالية واصلت العمل السياسي والفكري على مدى السنوات السابقة، فما بالك بتكوين حلقات وجماعة ذات ارتباط بالشارع؟

وليس ثمة مخرج من هذه الحالة سوى التعاون مع التوجهات الديمقراطية والتقدمية في المجتمع، عبر خلق نقاط التقاء وتعاون سياسيين، وهو الأمر الذي من الممكن أن يمهد لتحالف في المرحلة التالية.

 إن هذا يعتمد على نوع الليبرالية المنشودة، أو المتبناة، فهل هي ليبرالية تابعة أم ليبرالية وطنية تقوم بإعادة تشكيل المجتمع البحريني بحيث تكون فيه الغالبية من القوى المنتجة بحرينية ؟

أي أن مدى شعبية البرنامج الليبرالي يعتمد على أهداف الليبراليين في التحول إلى حركة سياسية، واجتماعية، تناضل من أجل أهداف شعبية، ومن دون ذلك تبقى الليبرالية ضمن الدعاية الفكرية.

 ومن الممكن أن تكون هذه الأهداف ضمن المتاح والمتفق عليه من قبل أهم القطاعات الاقتصادية، وإذا وقفت على رأسه أهداف تتعلق بتحسين الأجور وببرنامج محدد لمقاومة البطالة وتطوير التعليم، وإزالة الفقر المدقع من القرى والأحياء الشعبية الخ… فإن الحركة يمكن أن تستقطب جمهوراً يوصلها إلى البرلمان.

 وهذا لا بد أن يترافق مع عمليات تثقيف فكرية وسياسية للفاعليات الاقتصادية النشطة، بحيث توفق بين أهداف الطبقة وأهداف القوى الاجتماعية الأخرى وتطور الاقتصاد.