رجل في الظلام ـ بول أوستر: كتب ـ عبدالله خليفة #عبدالله_خليفة

الثورةُ السوريةُ.. بطولةُ شعبٍ: كتب ـ عبدالله خليفة

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا
3/10/ 2008
التطورُ الاجتماعي السياسي في سوريا
30/4/2011
≣ رعبٌ في سوريا
3/8/2011
الثورة السورية والخذلانُ العربي والدولي
3/5/2012
الثورةُ السوريةُ.. وتطورُ الأمةِ العربية
2/4/2012
الثورةُ السوريةُ وتباينُ مواقف الشيوعيين
21/3/2012
≣ الثورة السورية ونموذج ليبيا
10/3/2012
الثورةُ السوريةُ والمحتوى الشعبي
29/2/2012
≣ الثورةُ السوريةُ والحضورُ الإيراني
21/2/2012
≣ الثورة السورية.. تفاقمُ الصراعِ وغيابُ الحلِ
16/1/2012
≣ تعاونٌ شمولي ضد الثورة السورية
5/12/2011
الشعبُ السوري افترسوهُ وحيدا –
14/10/2011
≣ الثورة السورية ومصير النظام
6/10/2011
≣ الثورة السورية وغروب ولاية الفقيه
17/8/2011
≣ الإخوان المسلمون في سوريا
23/5/2012
≣ الشيوعيون العربُ والثورة السورية
26/5/2012
≣ الثورةُ السوريةُ.. بطولةُ شعبٍ
2/7/2012
≣ الثورة السورية.. تفتيتُ صخرةِ الجيش
30/7/2012
≣ مأساةُ الشعبِ السوري بين القوميات
1/8/2012
≣ مساعدةُ الثورةِ السورية واجبٌ قومي إنساني
13/8/2012
≣ المحور الإيراني – السوري يطحن بعنف
23/10/2012
≣ الإخوان السوريون والاحتيالُ باسمِ الإسلام
1/1/2013
≣ صراعُ الطائفيين في سوريا: الخاتمةُ المروعةُ
24/1/2013
≣ سوريا من انتفاضةٍ شعبية إلى حربٍ أهلية
16/3/2013
≣ الثورةُ السوريةُ وحربٌ إقليمية
25/5/2013
≣ تحللُ العرب.. سوريا نموذجاً
24/9/2013
≣ خذلانُ الثورةِ السورية
18/11/2013
≣ سوريا العواصف والمذابح
18/7/2014
≣ بين سوريا وروسيا
8/7/2011
≣ روسيا والصين وخيانة الأمميةِ تجاه سوريا
5/9/2011
–

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا
3/10/ 2008
تاريخُ سوريا الحديث تاريخٌ عميقٌ وواسع، وهي قد بدأتْ الحداثةَ العربية ونشرتها بين الدول العربية المشرقية، وأدى الاحتلالُ التركي المباشر إلى نزوعها نحو الأفكار العروبية والقومية في بدء القرن العشرين، وكانت سوريا في بعض فترات التاريخ الإسلامي عاصمة الامبراطورية فغدتْ منتجةَ المذهب السني الرسمي بشكله الأولي (المرجئة)، وكذلك الاعتزال، رديفه العقلاني المعارض، وحين أُلحقتْ ببغداد عاصمة الامبراطورية تراجع ذلك المركزُ السني الغالب وانتشرت المذاهبُ الإسلامية المعارضة كالاثني عشرية وأهل التوحيد (الدروز) واليزيدية وغيرها وكذلك واصلت المسيحية حضورها المهم. وكانت الشامُ المنبسطة مركز المذهب الرسمي، أما المعارضات فتحصنتْ وراء جبال لبنان.
تشكلتْ برجوازيةٌ تحديثيةٌ في زمن الاستعمار الفرنسي وساهمتْ في نمو الوعي السياسي الحديث، وكان الإقطاعُ في الزراعة متجذراً، ومع بدءِ الاستقلال قامت الأسرُ الإقطاعية بطرد الفلاحين من قراهم وأحدثت شيئاً من العلاقات الرأسمالية، وأدت هذه العملية إلى مقاومة الإقطاع في الريف أما الإقطاع السياسي فكانت جذوره في جهاز الدولة تتنامى بشكلٍ حديث. ومع الاستقلال أخذت الملكيةُ العامة في التصاعد، وهو الأمر الذي أوجد إدارات دكتاتورية بدءًا من الشيشكلي الذي فتح الباب للاستعمار البريطاني والأمريكي خاصة في مجال النفط. ثم كرت سبحة الانقلابيين والعسكريين الحكام حتى الوقت الراهن، وبهذا تم إنشاء إقطاع سياسي حاكم على مدى عقود وهو الرحمُ التي تتولدُ منها البرجوازيةُ الشرقيةُ (السوداء)، وهي غير (البيضاء) التي تطلعُ من خارج الدولة في شمس العلانية التجارية. كان ما يُسمى الخيار الاشتراكي محاولة لتجذير رأسمالية الدولة، وكان اقصاه لدى صلاح جديد وجماعته وعني بتصفية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لتغدو الدولة المالك الوحيد، وتغيير تخلف الريف وتحجيم الإقطاع في مجال الزراعة، وكان نظام الوحدة الناصري قد بدأ ذلك، ولكن الفئات الوسطى التي استولت على إدارة الجيش والحكم خلال عقود رفضت هذا، وكان خيارها هو الرأسمالية المسيطر عليها من قبل الدولة التقليدية، وتجلى ذلك في ضرب دولة الوحدة، ثم في صعود حافظ الأسد، الذي صفى الجناح اليساري في حزب البعث والأحزاب اليسارية الأخرى التي حولها إلى ملاحق سياسية للنظام أو قوى مقموعة سرية.
كان نشوء وتوسع رأسمالية الدولة قد حدثا في القسم الشامي من سوريا، بعد الاستقلال، في حين لم يعرف لبنان رأسمالية الدولة المتجذرة، بل واصلت الإقطاعيات المذهبية تاريخها المديد وهي تشكل رأسمالياتها الباطنية، وهذا ما جعل لبنانَ الطفلَ غيرَ قادرٍ على قطع الحبل السري مع أمه سوريا. لقد قامت هذه الأجهزة بعصر العاملين في سوريا وحولتهم إلى رساميل بسبب هذه الهيمنات المتعددة: العسكرية والبوليسية والسياسية.
وقد شهد حكم الرئيس السابق حافظ الأسد بداية تدهور وضع القطاع العام الحكومي، ويمثل ذلك أزمة رأسمالية الدولة، التي سوف تنعكس على الاتجاهات السياسية والمذهبية الدينية ومواقعها في الخريطة السورية. (في سنة 2000 كانت قيمة الناتج المحلي تتراوح بين 18 و19 مليار دولار، وهو رقمٌ مقاربٌ لناتج لبنان، ولكن عدد سكان سوريا 16 مليون نسمة، وقد نشر الاقتصادي هنري عزام دراسة في جريدة الحياة في 4/3/2000 ذكر فيها تراجعا في نسبة نمو الاقتصاد السوري حتى وصلت إلى 3،1% سنة 1996، وتراجعت مكانة سوريا في الترتيب الاقتصادي العالمي من المرتبة 80 حتى111، أما الديون الخارجية فكانت تبلغ 22 مليار دولار، وكانت البطالة تبلغ 18% من قوة العمل البالغة 29% من مجموع السكان، (موقع إسلام أون لاين، الكاتب: عبدالكريم حمودي).
هذا كله كان ينعكس على وضع الشعب، حيث تزايد الفقر، في حين كانت رأسمالية الدولة تستغل النفط والصناعات المختلفة والسدود، فبدأ عهد الرئيس بشار الأسد بحديث عن تغيير هذه الرأسمالية الحكومية البيروقراطية الفاسدة وبحلول عهد من الديمقراطية، لكن ذلك لم يتحقق، وتوجهت الحكومة نحو الخصخصة المفيدة لهذه البيروقراطية. فجرت تغييرات كبيرة في الحياة الاقتصادية لكن في مسار معين. يقول السيد عبدالله الدردري المشرف على برنامج إعادة الهيكلة في سوريا في الوقت الراهن إن (من يعيش بأقل من دولار في اليوم لا تتجاوز نسبته 6،0% من عدد السكان لكن نسبة من يعيش بدولارين في اليوم تصل إلى 10%) فكم نسبة من يعيش بثلاثة أو أربعة دولارات؟! استطاعت الإدارات السورية أن تسبق بعض دول المشرق في تصعيد جسم الرأسمالية الخاصة التي خرجت من تحت عباءة الدولة بفضل هذا الضغط المعيشي على الجمهور العامل. يقول أحدُ الباحثين: (لقد اصبحت حصة القطاع الخاص ورجال الأعمال (أي البرجوازية الخاصة) من الناتج المحلي الإجمالي من 2،64 % عام 2005 إلى 70% عام .2008 مما يدلُ بشكلٍ قاطعٍ على جبروت وقوة الطبقة البرجوازية السورية الخاصة التي وصلت إليه، ولاسيما أنها تسيطر على 65% من الصناعة، و75% من القطاع التجاري ( نقلاً عن الباحث غياث نعيسة، موقع ميدل ايست أون لاين). ومع هذا فإن حياة الغالبية الشعبية في تدهور، وثلث الشعب يعيش تحت خط الفقر، وتفاقم هذا بعد قبول الدولة شروط البنك الدولي لعمليات الخصخصة، فقامت بـ “تحرير” أسعار المحروقات. استطاعت القوى البيروقراطية المختلفة المتعاونة مع القطاع الخاص أن توجه خيار سوريا السياسي في هذه المرحلة، وهو أمر سوف ينعكس على التوجهات الفكرية والمذهبية كما سنرى. فتشكيل الثروات الكبرى بهذا الشكل السري الواسع العنيف يوجه أي بلد نحو صعود القوى المذهبية السياسية التي تعني انهيار أي دولة. كان السيد رفعت الأسد ضابطاً صغيراً في بداية الستينيات ولا يتجاوز راتبه عدة مئات من الليرات، ثم صار يملك المليارات ورحّل نصفَ ذهب سوريا للخارج. وباسل الأسد توفي وقام البنكُ السويسري الذي أودعَ فيه حساباً له بأخذ نصفه البالغ عشرين ملياراً، لأنه كان أعزب ويتم هذا الإجراء بحسب القانون السويسري.
كان حزبُ البعث العربي الاشتراكي يمثلُ النضال من أجل الحرية الوطنية والعلمانية في سوريا، لكن أخذت هذه الأهداف تتصدعُ مع تصاعد ملكية القطاع العام، أي رأسمالية الدولة التي تـُدار بطريقةٍ غير ديمقراطية. كان هذا يعني نمو القطاعات الاستغلالية في أجهزة الدولة المختلفة، وينعكسُ كذلك على الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع النظام البيروقراطي، وهو أمرٌ سوف يشهد التدهور الفكري لهذه القوى التي كانت يساريةً وانتقلتْ لصفوف اليمين. لم تعد المرتكزاتُ الفكريةُ اليسارية تسودُ في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، فهو قد مثّل ضربةً للجناح اليساري في هذا الحزب، وأكد دعم كبار التجار والرأسماليين الخائفين من تطرف جناح صلاح جديد، فلم تعدْ ركيزة الوقوف مع العاملين مهمة، بل صار لجم تطلعات هؤلاء العاملين للمزيد من رفع مستوى المعيشة، بدعوى المجابهة العسكرية القومية، وتراجعتْ الأحاديثُ عن الاشتراكية، لكن ذلك لم يحدث إلا بصورةٍ انزلاقيةٍ حذرة تبعاً للمهارة السياسية الكبيرة للأسد الأب، لعدمِ تصدع صفوف السلطة والجبهة الوطنية، والخوف من انفلات الجمهور العامل، فتم الحفاظ على مستوى دعم معين للمواد الغذائية ولخدمات القطاع العام وبعض مظاهر الدولة الأبوية.
كان عهد الأسد الأب هو عهد التوازنات بين اليمين واليسار، بين القطاع العام والقطاع الخاص، بين الشرق (الاشتراكي) والغرب الرأسمالي، بين عرب الثورة والجمهورية وعرب النفط والملكية. ولهذا فإن مسألةَ التخصيص لم تـُطرح بشكلٍ قوي وحاسم حينذاك، لكنها كانت تنمو على نارٍ هادئة، وقد رأينا في الحلقة السابقة كيف تجمدت ماكينة الدولة الاقتصادية. إن ذوبانَ وتآكلَ أيديولوجية الثورة العلمانية القومية كان لابد لهما من بديل، وفي ذلك الحين تفجرتْ الثورةُ الإيرانية ثم خطف رايتَها المحافظون الدينيون، وعمدتْ إلى تصعيد القطاع العام بذات الصورة السورية، لكن القطاع العام كان في سوريا يتجه إلى الانهيار، فليس تأثر سوريا بإيران لكونها شيعية بدرجة أولى بل لكونها ” محافظة ” شيعية بدرجة أساسية.
إن قيادةَ الدولة السورية الطالعة من الفئة العلوية هي فرعٌ من الفرق الشيعية الإمامية المتعددة، فوجدتْ إن غليانا مذهبيا يتصاعدُ في منطقة المشرق العربي بعد ظهور الجمهورية الإيرانية بذلك الشكل، وهذا الغليان راح يؤثر في مناطق مجاورة وملاصقة لسوريا، ويدخل في أحشاء السياسة السورية الداخلية، وسواء كان ذلك عبر تفاقم مشكلة العراق وتصاعد أعداد المهاجرين العراقيين الكثيرين المتوجهين لسوريا أو عبر استمرار نصف مليون مهاجر عراقي جنوبي يوجدون لحد الآن في سوريا.
إن الطبيعة القتالية وقتذاك لمسألة الصراع ضد السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية، كانت تتطلبُ مادةً سكانيةً بشريةً كبيرةً ضد السياسة الإسرائيلية خاصة، لمواجهتها في الجنوب اللبناني والجولان. كما أن قرارَ الارتباط مع السياسة الإيرانية أخذ يتمظهرُ داخليا على صعيد مواقع الوعي والمذاهب في الحياة السورية، فقد وجدت القيادةُ السوريةُ في السياسة الإيرانية مدداً وسنداً كبيرين يقعان على بعد أذرع من الخريطة السورية ويمكنهما أن يخترقا العديد من المواقع عبر جنوب العراق وشماله ثم يمتدان ويتوسعان في لبنان، مثلما أنهما يتماشيان مع تداعي بنائها العلماني الديمقراطي القومي وتوجهها نحو اليمين.
لكن كان موقع المذهبية العلوية مناوئاً لهذا التماثل المذهبي مع إيران، فالعلويون يختلفون بمذهبهم عن الاثني عشرية وكانوا مستقلين طوال قرون، ومن الصعب تغيير مذهب متجذر بأوامر حكومية. كما أن الطلب إلى العلويين أن يغيروا مذهبهم ويقاربوا مذهباً، هو أمرٌ يمتُ إلى السياسة الآلية وليس إلى تطور المذاهب الإسلامية العريقة. لكن رغم ذلك جرت محاولة تحريك بين المذهبين الاثني عشري والعلوي، وبدت كمحاولة سياسية من جهاز سياسي شمولي . بل لقد اتسعت هذه المحاولات لتشمل مذاهب قريبة كالإسماعيليين والدروز، ثم توجهت للسنة كذلك.
إن توظيفَ الدولة ورقة المذاهب في الصراعات السياسية كان شيئاً خطراً في تاريخ السياسة القومية السورية، التي عُرفت بقوة تحديثها وعلمانيتها، لكن أجهزة الدول العربية لا تقرأ عادة لا الخريطة المذهبية ولا خريطة الصراع الاجتماعي فهي توظف الاتجاهات الدينية المتصاعدة بشكل نفعي واستغلالي بعد أن وجدت هبوطاً في خضم الأفكار القومية والتقدمية التي كان يُطنطن بها من دون تطبيق. وتفاقم مثل هذه السياسة يؤدي إلى هجوم من القوى الطائفية المتطرفة الأخرى كما حدث في الهجوم على (مدرسة المدفعية في حلب سنة 1979 التي كان فيها 314 ضابطاً بينهم حوالي 294 ضابطاً ينتمون إلى الطائفة النصيرية الحاكمة في سوريا.. بينما توزع الضباط التسعة عشر على طوائف السنة والمسيحيين والإسماعيلية والدروز)، (أحمد موفق زيدان، مقال:سوريا بين كشف الطائفية وممارستها).
وبهذا فإنه في عهد الرئيس السابق بدأت سياسةٌ مذهبيةٌ مغايرة للتاريخ الفكري لحزب البعث، كما أن الحزب ككلٍ بدأ سياستين مذهبيتين على ضفتي الفرات، أي في العراق وسوريا، ولكن بشكلٍ مغاير. فأخذ الحزبُ يسهمُ في نشر الاثني عشرية في سوريا كما تتشكل حيثياتها في جماعات اليمين المحافظ الإقطاعي، بتوسيع مراكزها العبادية واتسع مثلا التشيع في سوريا، في مناطق الساحل والجزيرة (راجع الأرقام والحيثيات التي أعلنتها حركة العدالة والبناء الإسلامية السورية المعارضة). إن هذا التوجه المذهبي السياسي خطر ليس فقط لكسره ميراث حزب البعث ولكن أيضاً لاستعداء قوى مذهبية أخرى لها صراعات وثارات طويلة مع النظام، وبشكل خاص مع الجماعات السنية السياسية، ومن المعروف كيف جرت الأحداث الرهيبة في حماة وغيرها من المدن. يقول مؤلف «الصراع على السلطة في سوريا« فان دام: «إن الطوائف الإسلامية في سوريا تتكون بالشكل العددي التالي:7،68% هم من السنة، والعلويون 5،11 %، والدروز 3%، والإسماعيليون 5،1% “.
إذًا واجهت الطبقة الصغيرة الحاكمة التي تنتمي قمتها إلى طائفة صغيرة حراكا سياسيا مذهبيا واسعا مضادا، بعد أن بدأت قواعدُها الحديثةُ بالانفضاض عنها، نظراً إلى ما جرى في الملكية العامة كما سبق الذكر، ولم تتوجه تلك الطبقة الصغيرة نحو التحديث والديمقراطية والعلمانية وهي الشعارات التي رفعتها بل كونتْ دولةً مذهبيةً سياسية مغايرة لمنطلقاتها الفكرية، فكان ردُ الفعل الطبيعي أن تتوجه القوى الأخرى إلى النقيض المباشر، أي إلى التسيس المذهبي المعادي الممزق للنسيج الوطني، وليس أن تتجاوز ذلك وتعمل من أجل دولة علمانية المواطنون فيها سواء، والإسلام جذورٌ وتراثٌ وأحكامٌ فقهية في الحياة الاجتماعية. لكن السياسة انعكاسٌ طبقي وليست أعمالاً في الهواء، وطبقة وجدت نفسها في مأزق تاريخي لأنها شكلتْ نظاماً على أساسين عائلي وطائفي، لم تعد قادرة على نقده وتجاوزه، لأن هذا يتطلبُ أن تخلي الملكية العامة للعاملين وللشعب، وكان المسار تسليم الملكية العامة لكبار الموظفين والرأسماليين الطالعين من الأجهزة وعملياتها.
واجهت الإدارةُ الجديدة بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد إمكانيتين للتطور، تتمثلُ الأولى في التوجه نحو إصلاح حقيقي واختيار طريق الانتخابات والتعددية الحقيقية، أو الاستمرار في النهج القديم، وقد حدثت خطواتٌ في الخيار الأول لكنه لم يستمرْ طويلاً، فيما عُرف بـ (ربيع دمشق)، فكان الخريف أقوى وعمت الاعتقالات وأُبقيت الجبهةُ الوطنية كديكور وذيل للسلطة، مما فرّغ تاريخاً طويلاً لهذه القوى المعارضة سابقاً من مضمونه ودوره في كشف الواقع ونشر ثقافة وطنية توقف هذا الانزلاق نحو التفتت الطائفي السريع، لتعارضِ هذا مع الملكيةِ العامة.
وكان أن استجابت الإدارةُ السورية الجديدة لكل شروط البنك الدولي في تغيير ملامح سوريا الاقتصادية، حيث الملكية العامة “وليدة” التضحيات وجهود العمال والقوى الشعبية على مدى أربعة عقود، وباعتها للرأسماليين. يقول أحدُ الباحثين السوريين: “ومن أهم سمات التحول هو انجاز السلطة لما يمكن أن نسميه “خصخصة” الطبقة المالكة السورية، ولاسيما الشق الأساسي منها وهو القسم البيروقراطي الذي راكم ثرواته من خلال النهب والفساد بفضل احتكاره للسلطة، وكان أقواها بفضل اضعافه للبرجوازية الخاصة، منذ تسلم البعث للسلطة عام 1963 ولغاية 1991، حيث بدأت بشكل خجول عملية تعزيز مواقع هذه البرجوازية الخاصة، من جديد من خلال قانون الاستثمار رقم 10، مما سمح له بضخ أمواله واستثمارها مجدداً في قطاعات التصنيع أو الخدمات أو التجارة”، (غياث نعيسة، بعض ملامح الصراع الطبقي في سوريا). هذا التحول وبيع الأملاك العامة وتأجير أجزاء من الموانئ ورفع الدعم عن الوقود وبعض المواد الغذائية وما ترتب على ذلك من غلاء وتدني الأجور وارتفاع التضخم، صعّد من ردود فعل العمال ولكن على نحو اقتصادي جزئي ومحدود فقد فقدت الطبقةُ العاملةُ أحزابَها المعبرة عنها، وكانت أدواتُ الوعي التقدمية مشلولةً لارتباطها بأجهزة الدولة ونتاجات مفاهيمها، في حين كان بعضُ المعارضة الليبرالية يتصاعد بشكل خائف ومُفتت ويعمل في ذات المفاهيم الطائفية. ففاتورة “الإصلاح” الاقتصادي وقعت على عاتق الجمهور الشعبي الذي رفع الملكية العامة بجهوده، وعليه الآن أن يدفع ثمن عملية الخصخصة كذلك، أي أن تخرج أملاك الموظفين من عتمة الدولة إلى النور الاقتصادي (الحر) من دون عقاب قانوني.
رأت الوزاراتُ السوريةُ المتعاقبة والعديدة منذ التسعينيات في حملاتها المستمرة على الفساد الجوانب الشخصية الجزئية لهذه الظاهرة المركبة، فتركزت كعمليات تطهير وإبعاد كما توجهت الجهود نحو حلحلة هذه الملكية العامة من القيود البيروقراطية الكثيرة. جاء في تعليقٍ لصحيفة الحياة سنة 2000 حول عمليات التغيير الكثيرة التي تجرى في أجهزة السلطة. “اليوم في سوريا فساد لأن الدولة اعترفت بوجوده، فكيف يستأصلُ هذا الداء الوبيل؟
لقد جاءت حكومة عبدالرحمن خليفاوي عام 1971 فلم تستطع”، وتعدد الصحيفة الحكومات السورية في تلك الفترة مثل حكومة محمود الأيوبي ومحمد علي الحلبي وعبدالرؤوف الكسم ومحمود الزعبي، التي استمرت وسقطت كلها بشكل مدوٍ متوالٍ حتى نهاية القرن العشرين، من دون فائدة في حل مشكلة الفساد العميقة، ووصلت التجاوزات إلى مليارات الدولارات حتى أُقصي ضمن من أقصي رئيس المخابرات العامة الذي غُرم مليارا من الليرات.
وكان التقييم الحكومي لمشكلات القطاع العام إجرائيا فنيا، مثلما رأتْ ذلك صحيفةُ تشرين الحكومية في تقييمها التنظيري لمشكلات سوريا الاقتصادية، وذلك في عددها يوم 25/12 سنة 1999 فرأت أن ضعف القطاع العام يعودُ إلى نقص سيولة الشركات العامة والخاصة وضعف أدائها وضآلة الصادرات وتراجع معدل النمو الاقتصادي، في حين رجح أحد الباحثين جذور ذلك في الاعتماد على المساعدات الخارجية، ووجود نظام الحماية العالية للصناعة، وغياب القطاع المصرفي المتطور (انتهى الاستشهاد). والسببان الأخيران مهمان لكونهما يعكسان أزمة تقنية وبيروقراطية القطاع العام. لكن ذلك يعود إلى غياب الديمقراطية في البلد، وعدم وجود منافسة للقطاع العام داخلية وخارجية، فهذه تجعله غير قادر على إنتاج سلع متقدمة، فتتكسد ويزداد تدهور قوى الإنتاج.
يذكر أحد الباحثين الاقتصاديين الحكوميين ان ازدهار سوريا الاقتصادي في بعض السنوات نتاج المساعدات من دول الشرق ودول الخليج: “ويُعزى هذا النمو إلى معدلات استثمار عالية بلغت حوالي 25% إلى 30% من الدخل القومي، قام بمعظمها القطاعُ العام، مدعوماً بمساعدات سخية من دول الخليج العربي وبعضها من دول المعسكر الشرقي”، (الاصلاح الاقتصادي في سوريا، نبيل سكر). كان هذا النهج البراجماتي صالحاً في السياسة والاقتصاد، على المستويين الإقليمي والوطني، لفترةٍ قبل أن تستفحل مشكلات القطاع العام، وتتوجه الطبقة الحاكمة نحو حل بيعه للكبار الذين ظهروا عبر هذه الرأسمالية (السوداء).
تصاعد الصراعُ الاجتماعي في سوريا على محوري الملكيتين العامة والخاصة لوسائل الإنتاج، فأخذ يتفاقمُ سياسيا، ولم تعدْ القوى المعارضة بقادرةٍ على العمل من داخل الوطن، فلجأت إلى الخارج، وازدهرت التنظيماتُ المعارضةُ ووسائلُ نشرها من دون أن يتمكن معظمها من إقامة روابط متينة مع الشعب السوري.
في حين كان تنظيمُ الأخوان المسلمين يعمل خلال أكثر من نصف قرن، والأسم الحقيقي للتنظيم هو (الأخوان المسلمون السنة المحافظون)، أي هو يتمحور في طائفة واحدة ويعبرُ عن منحى اجتماعي يميني (ذكوري)، حسب التسمية اللفظية.
ومحافظتهُ نتاجُ استيرادهِ للإقطاع المذهبي القديم الذي سيطرَ على إنتاج فهم الإسلام خلال العصر الوسيط، وهذا استيرادٌ من الماضي، رغم إنه تنظيمٌ يعبرُ عن فئاتٍ وسطى سورية حديثة، ولكن هذا التضاد هو نتاجُ الوعي السياسي الديني المعاصر، الذي لا يعرفُ جذورَهُ، ويمضي في السياسة بشكلٍ عفوي وتجريبي، لكنه يتعلم أثناء ذلك وخاصة في المعارك الدموية وفي التضحيات الجسيمة غير المبرَّرة مثلما جرى ذلك في الأزمة الوطنية السورية المأساوية بدءً من سنة 1971.
وإذا كان هو فرعٌ من الأخوان المصريين لكنه تجذر وطنياً، فغدت قضايا سوريا هي البوصلةُ له، حتى إنه ميزَّ نفسَهُ عن موقف الأخوان المصريين المعادين للوحدة السورية – المصرية.
تشكل بدايةً من الاربعينيات وخاصة في أواخرها، من عناصر من الفئات الوسطى، وهو يصورُ نفسَهُ كمعبرٍ عامٍ عن الإسلام، أي ليس باعتباره تنظيماً مذهبياً سياساً محدداً، ويساهمُ هذا التعميمُ في إشكالياتٍ سياسية كبيرة، فهو يختصرُ المسلمينَ والإسلامَ في ذاته، ثم يختصرُ السنةَ في ذاته، وهذا التضخمان يجرانه للنظام الشمولي، وإلى مشروعٍ سياسيٍّ دكتاتوري، فتغدو الأدواتُ السياسيةُ العصرية كالنقابات والبرلمان وغيرها أدواتٍ لصعود تلك الشمولية، التي غالباً ما تموهُ نفسَها بضبابِ العبادات والمعاملات الإسلامية للنمو السياسي داخلها، أسوةً بكل التنظيمات الدينية،(إذا لم توجه نفسها لفقهٍ إسلامي وطني تحويلي لحياة الناس الاجتماعية).
ذكرتْ الجماعةُ في مؤتمرِ تأسيسِها ببلدة يبرود السورية سنة 1946 إنها تعمل على(تحرير الأمة وتوحيدها وحفظ عقيدتها وبناء نظام الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على أساس الإسلام، ومحاربة الاستعمار بكافة أشكاله).
يختصرُ تنظيمُ الأخوان السوريين هنا كلَ الأمم الإسلامية في ذاته، وهذه التعميماتُ الشمولية هي وليدةُ العمل السياسي الأولي، فهو لا يعرف من يمثل وماذا يجسدُ من وعي ديني، مثلما يتحركُ التراثُ في وعيهِ بشكلٍ عفوي مختلط، لكن علاقات قيادته تشكلُ فهمَهُ ويدركُ المصالحَ التي يدافعُ عنها في غمرة الصراع السياسي، وتضفير علاقاته مع الطبقات المختلفة وهي تحتاجُ إلى زمن موضوعي.
ولأن التنظيمات الشيوعية والاشتراكية القومية كانت ترفعُ لواءَ تحريك الصراع الطبقي، فهو دعا إلى تهدئة هذا الصراع، ليتابين عنها ويفرملُ انتشارَها، مركزاً على الأشكال الدعوية والكيانات الاجتماعية الخيرية، وهو نمطٌ من الصراع الطبقي البعيد المدى والمتوافق مع الطبقات العليا، وقد شارك في البرلمانات ودافع أعضاؤه المنتخبون عن (حقوق الفلاحين ورفضوا استغلال كبار الملاك لهذه الطبقة المحرومة، ودعوا الحكومة لتخفيض أسعار الخبز ورفع الضرائب عن الفقراء ورفضوا تأجيج الصراع الطبقي بين شرائح المجتمع)، (مذكرات وذكريات الداعية عدنان سعد الدين أحد قيادي الرعيل الأول من الأخوان السوريين).
يتجسد عمل الأخوان بشكل أخلاقي ووعظي، أو بشكل سياسي محدود، فالدعوة لتخفيض أسعار الخبز، تنفصلُ عن توزيع الأرض على الفلاحين، أكثر المطالب سخونةً في ذلك الحين، وقد ذكرنا سابقاً كيف كان الإقطاعيون يهّجرون الفلاحين السوريين من قراهم، وقد اشتدت حمى هذه المعركة في البرلمان ثم أثناء حكم الرئيس جمال عبدالناصر لسوريا الذي صعدَها لمستوى كبير بطرحهِ تخفيض ملكيات الإقطاعيين وأمم من جهة أخرى أملاك كبار الرأسماليين، فوقف الأخوان ضد الإصلاح الزراعي المحدود جداً الذي حاول عبدالناصر تطبيقه. يقولُ مؤلفُ الكتاب السابق ذكره؛ (فصدر قانونُ الإصلاح الزراعي ونزعَ الملكيات الزائدة عن المساحات التي حددها القانونُ لصالح الفلاحين، وُطبقَّ القانونُ بحقدٍ وعاشت سورية بسبب هذا القانون فترةَ مقتٍ وعداء بين المواطنين، وتراجع الانتاج الزراعي).
تتضحُ هنا جذور الأخوان السوريين وارتباطهم بملاك الأراضي، فحتى هذا الإصلاح المبقي على الفدادين الواسعة للملاك، والذي يقوم بقصقصة بعض الريش لهم، أُعتبر سيئاً، وهو أمرٌ يوضح طبيعة النشأة الاجتماعية وترابط المصالح، وكون هذه الفئات الوسطى الأخوانية محافظةً وتقعُ في أقصى اليمين حينذاك على الأقل، ثم يمتد ذلك الرفضُ لقضايا التحديث الأخرى خاصة ما يتعلق بحقوق النساء وابعاد الدين عن الاستغلال السياسي، وتقود هذه المعارضاتُ المتعددة جماعةَ الأخوان السوريين إلى العداءِ للنظام الناصري ثم البعثي وكل قوى الحداثة العربية، وإلى التداخل مع الأنظمة العربية المحافظة الرافضة لحركة التحرر العربية، والتي تدخلُ في تحالفاتٍ خطيرة مع الاستعمار الغربي وقتذاك.
ومن جهةٍ أخرى فإن قوى الحداثة والتحرر السورية التي شكلت التجربة السياسية خلال الخمسة عقود منذ الأربعينيات حتى نهاية القرن العشرين، وصلت إلى أزمة بسبب تشكيلها بناءً اقتصادياً بيروقراطياً تنموياً مهماً لكنه تجسد بشكل استبدادي مما قاد إلى فساد عميق راحت أمراضه تتكشف بقوة خلال السنوات الأخيرة، وقد أوضحنا بعضَ مظاهره سابقاً.
مثلت الاستيرادتُ السياسية الشيوعية والبعثية المنافسة للأخوان قوالباً خارجية، رآها الأخيرون كسحق للأمة وتراثها، فأولئك عملوا على عدم الاعتراف بالإسلام والمسيحية كجذور مهمة للشعب السوري، ورأوا السياسة كهدم للطبقات العليا وإزالة تراثها ودينها، مما أوغر الصدر السياسي الضيق للأخوان وتوجهوا للنقيض. فكانت السياسات الشمولية لهذه القوى مجتمعة تتصادم، وتدمرُ بعضَها البعض. مثلما استورد الأخوانُ تراثَ الإقطاع المذهبي العتيق وعمموه كدين، وعارضوا به التحديثيين. لكنه كان كذلك تعبيراً عن صراع المصالح، فقلةٌ من التحديثيين واحزابهم ارتفع طبقياً، وانتشر في المؤسسات الرسمية المختلفة وأثرى، في حين كان الحزبيون الأخوان في دوائر القهر والحرمان، والغربة في وطنهم، وهذا ما وسع شعبيتهم، وجعلهم يصطدمون مع منافسيهم السابقين في معركة جديدة بين هذه القوى، ولكن ليس كل اليسار والليراليين صار حكومياً، فهناك قوى دافعتْ عن الملكية العامة ومطالب الأغلبية الشعبية ولكن من زاوية الديمقراطية والحداثة.
وجدت القوى السياسية السورية المعارضة الموجودة خارج السلطة ان مواقفها تتقارب لزحزحة حزب البعث عن احتكار السلطة المكرسة منذ سنة .1963 وليس شيئاً غريباً أن يتصدر ذلك حزب الاخوان المسلمين السوريين، فطابع النظام الذي اتجه لاستخدام المذهبية السياسية ووسع التحالف العلوي – الشيعي، وغذى الأدبيات والتجمعات العبادية المذهبية وتكرس ذلك بربط نفسه بقوى سياسية واسعة من إيران مروراً بالعراق حتى لبنان، فأثار النسيج الطائفي الذي كان يتمزق خلال هذه العقود في المجتمع السوري. وللمجتمع السوري تقاليد قوية متجذرة في هيمنة (المذهب) السني عبر القرون، فالطوائفُ الأخرى تسكنُ المناطقَ الجبلية وبعض الأرياف في حين تسودُ المدنَ والبراري الطائفة السنية. وقد عمل الانتدابُ الفرنسي على تكريس الأقليات المذهبية في الجيش خاصة، وتنامى هذا مع حكم البعث، فأدت الأزمةُ الاقتصاديةُ إلى استرجاع صراع الطوائف القديم، ولكن في ظروف سياسية وعسكرية معاكسة للأغلبية المذهبية. فغدا المذهب السني أداةً كبيرة لزحزحة الشمولية.
فقامت الحكوماتُ البعثية المتساقطة بتكريس الصراع المذهبي للحيلولة دون الاستحقاقات الديمقراطية المنتظرة، وقامت بحصر الأخوان وعزلهم، كقوة سياسية معبرة عن جسم هام من الأغلبية، مثيرةً المخاوف منها. لكن جماعة الأخوان كانت لديها تقلبات خطيرة هي الأخرى فقد تحالفت مع النظام العراقي في عهد صدام، ووظفها ذلك النظامُ في الصراع مع سوريا، كما يقول الباحث المصري وحيد عبدالمجيد في مقالته(الإسلام السياسي بين مصر وسورية في الأهرام، وبالتالي يغدو توجهها نحو الديمقراطية محفوفاً بأسئلةٍ كثيرة، كذلك هناك جماعات متقاربة معها تكرس الصراعات المذهبية. إضافة إلى أن قوى المعارضة البعثية والقومية والشيوعية كبيرة في سوريا، وإن كانت روابطها العلنية محدودة مع الجمهور في حين يتحرك الأخوان في مؤسسات العبادة، ولهذا لم تستطع القوى التحديثية أن تمنع توسع الصراع المذهبي. وهكذا تشكل الصراعُ السني العلوي في سوريا بعد قرن من القومية والعلمانية!
إن عملية تجمع المعارضة أحتاجت لبضع سنوات لكي تتشكل. فصاغت جماعةُ الأخوان ميثاق الشرف ودعت إلى مؤتمر في لندن، الذي انعقد في أغسطس 2002، وحضرته معظم قوى المعارضة، وتم اعتماد ميثاق الشرف الوطني، الذي يعمل لأنهاء حكم الحزب الواحد وقيام نظام التعددية الحزبية في سوريا.
ويتصور الباحثُ عبدالمجيد في مقالته السابقة الذكر بأن الأخوان في سوريا مختلفون عن الأخوان في مصر، (تعلمَّ أخوانُ سوريا، بخلافِ نظرائهم في مصر، إعمال العقل سعياً للتجديد استجابة للتحديات التي تواجههم، وكان أبرز مثال على ذلك الاجتهاد المميز الذي قدمه المراقبُ العامُ للأخوان في سوريا مصطفى السباعي في مسألةِ النظامِ الاقتصادي – الاجتماعي في الخمسينيات إذ طرح رؤية اجتماعية تنحو نحو اليسار)، ويضيف الأستاذ عبدالمجيد (وكان هذا واضحاً في كتاب السباعي عن الاشتراكية في الإسلام)، (الأهرام: 29، 10، 2207).
لقد قلنا كيف أن الأخوان السوريين وقفوا مع الإقطاع، ورفضوا قانون عبدالناصر المحدود، وإضافةً إلى هذا ولحد الآن لم يعترف الأخوان السوريون بالعلمانية كشكل لنظام الحكم، وبدون التداخل الوثيق بين العلمانية والديمقراطية والوطنية، فإن الوعي السياسي يظلُ مذهبياً ويكرسُ التمزقَ الوطني، وتحطيم مكونات الدولة، أي يتم بقاء التنظيم في دائرة الإقطاع الديني، ولم يتحول إلى فصيل برجوازي ديمقراطي كما يُفترض أن يكون، وإذا تحول إلى ذلك فإن تسميته كتنظيم مذهبي تـُلغى، ولا يصبح تجمعاً للمسلمين من طائفةٍ واحدة، فيحددُ توجهَهُ الاجتماعي بوضوح بدلاً من التمثيل الفضفاض للشعب والأمة الإسلامية كلها!
وهو إذ لم يفعل ذلك فهو يريدُ الاستفادةَ من الصراع المذهبي المتفاقم لمصلحة سيطرته السياسية، وحين تحدث السيطرة السياسية تتبدل المواقف، ويكون للسلطة مذاقها الحلو المختلف عن المنافي والسجون!
وهذه الضبابية التي تحدث للفصائل السياسية حتى الوطنية والتقدمية منها بسبب عدم تجذرها في النضال الشعبي، وعدم معرفتها بالأنظمة التاريخية، فالمرحلة الحالية المتحولة من بُنية الإقطاع إلى الرأسمالية لها قوانين، بظهور برجوازية خاصة صناعية، وطبقة عاملة صناعية، تعيدان تشكيل المجتمع التقليدي عبر تطور الصناعة، بتحرير الفوائض من البذخ وتحرير القوى المغيبة عن التصنيع كالفلاحين والنساء، وتحرير العقل عن الخرافات، وتحرير الدين من سيطرة الإقطاع.
ويمر المجتمعُ السوري بمرحلة متوترة في خروجه الحثيث من النظام التقليدي فقد ظهرت برجوازيتان مسيطرتان على الفوائض الاقتصادية، عامة وخاصة، ولهما نسيج مشترك متداخل، والتصنيع في مرحلة مهمة وشائكة، وبدون دولة وطنية وأحزاب وطنية ديمقراطية فإن الكثير من المكاسب قد يضيع في أتون صراع بلا فائدة.
وكما يبدو من احتمالات التطور في مجتمعات رأسماليات الدولة الشرقية كروسيا وإيران فإن مركز القرار سيكون في يد الدولة وجيشها وهي التي تصنع القيادات المحركة للتطور باتجاه مصالحها ومصالح تطور اقتصادها، وهي تقوم بتحسين ذلك على الدوام مصطدمة بعقبات التطور الموضوعية كالمركزية الشديدة وضعف الإنتاج والتمويل وهي تقوم بتغيرات جزئية في هذا الشأن، ولهذا ستكون الدولة هي اللاعب الرئيسي باستمرار، في حالة أحزاب طائفية أو علمانية محدودة التأثير، لأن الناس تخشى من القوى المذهبية السياسية وهي التي لا تتحد من أجلها وتريد قوة وطنية ديمقراطية موحدة للشعب، ووقتذاك يكون التغيير، أما الآن وفي خضم الكيانات المذهبية والعلمانية النخبوية فإن التغيير ينبع من الحكومة، وإذا ارتفعت الجماعات المذهبية إلى أفق العلمانية والديمقراطية والوطنية والعقلانية فإن مناخاً فكرياً جديداً سوف يتشكل عند الناس، ويؤدي إلى تغيير سياسي، لأن العلوي لا يخشى السني بل يتحد معه من أجل مصالحهما الواحدة، وهذا يحتاج إلى وقت، وقوى طليعية تخلق هذه الثقافة المشتركة، في زمن تعملُ فيه القوى المستفيدة من التمزقات من أجل استمرار الفرقة والتطاحن.
إن الشعب يخشى المغامرة ولا يراهن على قوى مذهبية، ويجد إن حياته في ظل البعث رغم فساده أفضل من نظام لا يعرف ماذا سوف يكون وأية احتمالات رهيبة قد يجر الناس إليها، ولهذا فعلى المناضلين من أجل الديمقراطية أن يبدأوا بأنفسهم.

التطورُ الاجتماعي السياسي في سوريا
30/4/2011
تمَّ إنشاءُ إقطاعٍ سياسي حاكم في سوريا على مدى عقود وهو الرحمُ التي تتولدُ منها البرجوازيةُ الشرقية «السوداء»، وهي غير «البيضاء» التي تطلعُ من خارج الدولة في شمس العلانية التجارية.
الإقطاع السياسي يتم بأدواتٍ مذهبية، وكان الأمويون في فجر التاريخ الإسلامي قد أسسوا ذلك، وتراجعت سيطرة هذه السنية المحافظة في زمن سيطرة البعث الذي أزاحها عبر لافتات علمانية غير حقيقية.
وكانت فترة الخمسينيات قد شهدت مرحلة ديمقراطية مهمة، لكن حكم الوحدة المصرية ~ السورية كرّسَ الاستبداد، وبداية تكوين رأسمالية الدولة على غرار مصر، واستغل البعثُ ذلك ليثب إلى السلطة فتم تعطيل الدستور وإقامة حكم الطوارئ.
وكان ما يُسمى الخيار الاشتراكي محاولة لتجذير رأسمالية الدولة، وبدأ بهذا العلويون السياسيون تحت ضباب البعث الايديولوجي الكثيف، منذ أن طرح صلاح جديد وجماعته تصفية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لتغدو الدولة المالك الوحيد، وكذا تغيير تخلف الريف وتحجيم الإقطاع في مجال الزراعة، وكان نظام الوحدة الناصري قد بدأ ذلك، ولكن حدث صراعٌ بين الاتجاه اليساري المتطرف والاتجاه المعتدل وبدا ذلك في الصراع بين قائدي الانقلاب البعثي: صلاح جديد وحافظ الأسد، وكان خيارُ الرئيس الأسد هو الرأسمالية المسيطَر عليها من قبل الجيش والطائفة العلوية فصفى الجناح اليساري في حزب البعث وشجع الأحزاب اليسارية الأخرى لتأييد النظام الوسطي الذي أنشأه.
لكن هذا لا ينفي الطابع الاستغلالي العام لحكم البعث، فقد قامت الأجهزة الحاكمة بعصر العاملين في سوريا وحولتهم إلى رساميل بسبب هذه الهيمنات المتعددة: العسكرية و«البوليسية» والاقتصادية والسياسية.
كان حلم الأسد الأب وراثة العلويين للرأسمالية الحكومية، وشهد حكمه تطورات اقتصادية واجتماعية كبيرة، وفي عهد ابنه تصاعدت بوضوح أزمة رأسمالية الدولة، التي سوف تنعكس على الاتجاهات السياسية والمذهبية الدينية ومواقعها في المجتمع.
وقد تراجعتْ نسبةُ النمو في الاقتصاد السوري حتى وصلت إلى 3،1% سنة 1996، وتراجعتْ مكانةُ سوريا في الترتيب الاقتصادي العالمي من المرتبة الـ 80 إلى الـ 111، أما الديون الخارجية فكانت تبلغ 22 مليار دولار، وكانت البطالة تصل إلى 18% من مجموع السكان العاملين.
إن مشروعَ وراثةِ الأسر العلوية للرأسمالية «الوطنية» استمر وتصاعد مع عهد الرئيس بشار الأسد، وهنا ظهرت إجراءاتُ الخصخصة، المعبرة عن ضرب القطاع العام وتملك مشروعاته، وتنامت «الليبرالية الجديدة» التي ليست فيها ليبرالية سياسية، وينحصرُ ذلك في تملكِ الفئة المهيمنة على الدولة المشروعات الاقتصادية العامة الرابحة، وتنامت مواقعها في المدن الرئيسية وأحيائها الثرية. فيما أن المدن الأقل حجماً تشهد الفقر والأوضاع الصعبة ولهذا فإن شبكة الثورة تمتد في المدن الأقل حجماً وسكاناً.
استطاعت الإداراتُ السورية أن تسبق بعض دول المشرق في تصعيد جسم الرأسمالية الخاصة التي خرجتْ من تحت عباءة الدولة بفضل هذا الضغط المعيشي على الجمهور العامل.
(لقد اصبحت حصة القطاع الخاص ورجال الأعمال «أي البرجوازية الخاصة» من الناتج المحلي الإجمالي من 2،64% عام 2005 إلى 70% عام 2008، ولاسيما أنها تسيطر على 65% من الصناعة، و75% من القطاع التجاري).
والحديثُ الملتبس عن الوطنية والاشتراكية تقابله إجراءاتُ وقرارات تعصر الطبقات الشعبية بشكل مستمر، فقامت بـ«تحرير» أسعار المحروقات والعديد من إلقاء تبعة الأزمات الاقتصادية على الجمهور.
كان السيد رفعت الأسد ضابطاً صغيراً في بداية الستينيات ولا يتجاوز راتبه مئات عدة من الليرات، ثم صار يملك المليارات ورحّل نصفَ ذهب سوريا للخارج. وباسل الأسد توفي وقام البنكُ السويسري الذي أودعَ فيه حساباً له بأخذ نصفه البالغ عشرين ملياراً، لأنه كان أعزب ويتم هذا الاجراء حسب القانون السويسري.
كان هذا يعكسُ واقعَ أسرةٍ مَلكية ~ جمهورية غير ذات جذور في الاقتصاد والواقع، فهي نتاجُ انقلابٍ فوقي، مثل جميع الأسر الجمهورية العربية السابقة للثورات المعاصرة.
ربيع دمشق الذي تفجر بين وفاة الأسد الأب وتسلم ابنه السلطة عكس حلم مثقفي فئةٍ وسطى حرة من دون وجودها كقوة في الحياة السياسية ~ الاجتماعية، وكان هذا وهماً لم يَقرأ كيفية صعود هذا الابن نفسه، الذي كان اختراقاً لدستور غير ديمقراطي
تتشكل التنمية المتسقة وتتشكل الديمقراطيةُ ككل في الدول النامية من التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص، لتحقيق خطة اقتصادية ~ اجتماعية ~ ثقافية مشتركة، تقوم بإحداث التنمية والخروج من دوائر التخلف التقليدي، وهو تعاون يمثل تحالفات طبقية بين الفئات المتوسطة والفئات العاملة.
أي اكتساح للقطاع العام للاقتصاد وضرب القطاعات الخاصة، أو أي اكتساح للقطاع الخاص للاقتصاديات العامة، وهي الأمور التي جرتْ في الشرق ودول أمريكا اللاتينية، بأشكال متباينة وفي مدى زمني طويل، يؤدي إلى الاضطرابات السياسية والانهيارات الاقتصادية أو التشوهات البنيوية في الاقتصاد والمجتمع عامة.
تعاون القطاعين لتحقيق نهضة جذرية أمر غير ممكن من دون أدوات الديمقراطية من برلمان وحرية صحافة وحكومات تناوب، والديمقراطية هي تعبير سياسي عن هذا الواقع الاقتصادي.
ومن هنا حين نرى كلمات عن ثورة اشتراكية أو إسلامية وغير هذا فإن ذلك تمويهات ايديولوجية تخفي غلبة قطاع رئيسي ما، وهو أمر يعبر في النهاية عن سيطرة للقطاع الخاص الأسود، أي الذي يظهر بشمولياتٍ متعددة على جثة القطاع العام.
كان الرئيس حافظ الأسد متوازنا فهزم رؤية صلاح جديد المؤيدة لاكتساح القطاع العام، وإيجاد توازن بين القطاعين، ونشر هذه «التعادلية» في علاقاته بالطبقات والدول والغرب والشرق.
فهو القومي والوطني، وهو مؤسس الجبهة الوطنية وفيها بذور الأفكار التعددية، وهو الذي يقف بمهارة مع الدول العربية المحافظة والتقدمية، وهو المؤيد لأرباح القطاع الخاص المتصاعدة والمحافظ على أسعار المواد الغذائية الشعبية.
لكن هذه السياسة المتوازنة كان ينقصها شيء رئيسي هو الديمقراطية، أي أن تجرى العلاقةُ بين القطاعين الاقتصاديين، والطبقات الحاكمة والمحكومة عبر أدوات الديمقراطية، وتبادل المواقع، ولكن الذي حدث هو تحول الجبهة الوطنية وحزب البعث إلى واجهات للقبضة العسكرية الأمنية.
وبفقدان ذلك راح القطاع العام يلتهم المال العام، وتغدو الأسر العلوية والنخبة الحاكمة ذلك الوريث غير الشرعي للجمهورية.
وجاء الابن بشار الأسد وريثا شكليا لأبيه، وليس وريثا لمناقبه، فانتهت سياسات التوازن، وكان الورثةُ الحقيقيون وهم كبار الضباط والأسر المالية المتنفذة قد مثلوا هجوم «الأسود» على المال العام وعلى سرقة لبنان، فحولوا الرئيس الجديد إلى واجهة.
عملية الانهيار اتضحت ليس فقط في اشتعال الأسعار فوق لحم المواطنين، وشراء الملكيات العامة ببخس الأثمان وشيوع الفساد بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ سوريا، بل كذلك في انهيار التحالفات السورية الوطنية التقدمية والهجوم على رموز اليسار والقوى المستقلة في سوريا نفسها ولبنان وتصعيد حزب الله والتحالف مع إيران.
وكانت المنطقة تشهد انهيار الشعارات التنويرية والديمقراطية التحديثية لصالح صعود التيارات الدينية المحافظة، التي اتخذت شكلين رئيسيين: طائفية سنية، وطائفية شيعية. وهذان الشكلان يمثلان صعود القطاعات العامة النفطية «المطلقة»، أي المكتسحة للقطاعات الخاصة المنتجة.
وبهذا فإن الدولة السورية الجديدة وجدت نفسها تنساق في الطائفية، أما توازنات الأسد الأب فقد انهارت في عهد ابنه، وهكذا فإن البرجوازية السوداء التي ظهرت في القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع سحقت ربيع دمشق واعتقلت المفكرين الذين لم يفكروا بطبيعة هذه البرجوازية واستعادت المجتمع الشمولي عبر انحدارات جديدة، فالتوازن الطوائفي بين العلويين والسنة والمسيحيين انهار، ليظهر تحالف العلويين والاثني عشرية، بشكل أجسام بشرية كثيفة من جنوبي العراق ولبنان، وعبر تحالف مناطقي، يعلن شكلا التصدي للاستعمار وينفذ الدفاع عن قطاعات عامة عسكرية فاسدة وأرياف متخلفة وثقافة محافظة.
تقوم قراءات سورية عديدة بتفكيك الخريطة الاجتماعية السورية الأولية خلافاً لدول عربية مختلفة:
(اليوم في سوريا هناك نظام يمثل طبقة مالكة وحاكمة في الوقت نفسه، تقف في مواجهته، أو خلفه، طبقات أخرى من تابعين طبقيين إلى خصوم طبقيين، وأسفل هذا كله الطبقات التي لا تملك شيئاً وليس لها من أمرها شيء. كما هو الحال في أنظمة رأسمالية الدولة فإن الطبقة الحاكمة والمالكة في الوقت نفسه هي رأس البيروقراطية الحاكمة، وفي الحقيقة شهدنا عموماً تزايد أهمية دور البيروقراطية في التحالفات الحاكمة، ليس فقط في مجتمعاتنا المتخلفة والقائمة على اقتصاد تابع، بل حتى في مراكز النظام الرأسمالي حيث لم تعد البيروقراطية مجرد طبقة متخصصة في خدمة الرأسمالية مالكة وسائل الإنتاج، أما في مجتمعاتنا فالسلطة تلعب دورا مركزيا في كل الأحوال وتحت كل الرايات الايديولوجية المختلفة، ويتحقق التراكم الأولي عن طريق الإنفاق الحكومي «أو النهب الحكومي» أساسا، ولصالح فئات مرتبطة بالنظام بالضرورة)، (مازن كم الماز، الصراع الطبقي في سوريا).
لكن أنظمةَ رأسمالية الدولة متباينة وفي حراكٍ مستمر، وينشأ صراع متعددُ الأطراف، بين قطاع خاص خرجَ من رحم الفساد، وقطاع خاص اعتمدَ على ذاته، وفي هذه القمة يتشكل صراع هام، فما هي طبيعة رأس المال المُنتَّج، في كلا الجانبين و ما هي علاقاته برأس المال الصناعي الوطني، والمصرفي، وبشبكة التداول العالمية، فإذا كان ثمة قطاع خاص صناعي تجاري مالي خارج عالم الفساد، فإن مقاومة رأسماليةِ الدولة الشمولية تغدو واسعة، ويمكنُ إحداثَ تحول ديمقراطي في البُنية الاجتماعية.
هناك قوى اجتماعية وسياسية تؤثر في هذا الصراع، فهل قوى الفساد ذات قوى عسكرية «شعبية» شمولية؟ وما هي طبيعة الأيديولوجية السائدة وعلاقة الناس بالاقتصاد والأفكار السائدة؟ وما هي علاقة الطبقة الحاكمة بالرأسمالية الغربية والديمقراطية فيها؟ وبالتالي سنجد فروقاً مهمةً بين تونس ومصر من جهةٍ وسوريا من جهة أخرى، حيث كانت الدولتان الأوليان صاحبتي تجربتين أقربَ للديمقراطية وكانت البرجوازيةُ الخاصةُ غيرُ الضالعةِ في الفسادِ هامةَ التأثيرِ وذاتَ علاقة بالغرب الديمقراطي وثقافته، وهذا انعكس على موقف الجيش وهي المؤسسةُ الحاسمةُ التي مالتْ في البلدين إلى تأييدِ حاكمية الشعب.
في حين يختلفُ الوضعُ في سوريا، فقد اختارتْ الطبقةُ الحاكمةُ الجانبَ الفاشيَّ من الثقافةِ الغربيةِ منذ أن كانت الفاشيةُ خلايا صغيرةً في وعي البعث، وتغدو«العلوية» كمذهبٍ يمثلُ أقليةً شديدة عنصراً شديدَ المفارقةِ بين هذه النخبة وتراث المسلمين عامة، ولهذا تبدو عملية التضاد الكبيرة بين المذهبين السني والعلوي، كشكلين محافظين مهمةً، فيغدو الأولُ مُعبراً عن الأغلبية الشعبية التي تعيشُ خارجَ الهيمنةِ الحكومية القاسية وارستقراطيتها العلوية، وتتوجه الطبقةُ المأزومةُ في نظامِ الاستغلالِ الذي تقومُ به إلى التطرفِ وهي التي كانت في أولِ أمرِها متوازنةً في الصراع الاجتماعي، بسببِ طابعِ قيادة حافظ الأسد المتوازنة، لكن عنصرَ الفاشيةِ كان موجوداً في عهدهِ كذلك، عبرَ مذبحةِ حماة، وهو أمرٌ يشيرُ إلى طابع الصدام الأولي في شكليه الدينيين، وفي تأثيراته البشرية التالية.
(معنى الفاشية هنا: إنها الأرهابُ الدموي الجماعي).
كانت عناصرُ الفاشية موجودةً في هذا النمط من الوعي القومي، ويبدو ذلك من «عسكرة» الفكرة السياسية وجعلها مليشيات مسلحة عنيفة مع وجود عنصر الفساد وخراب «الذمم»، وهو أمرٌ يشيرُ إلى إلغاءِ الدين كقيمٍ إنسانية وكنسيجٍ وطني بين الناس.
والافلاسُ «العلماني» البعثي هنا يبدو في هذا الدوسِ للتراثِ الديمقراطي الديني الإنساني وللقيمِ الماركسية التي حدثَ تقاربٌ أولي معها، وكذلك لقيمِ البرجوازيةِ الديمقراطية، فهذه المصادرُ كانت تقوي الحكمَ العامَ الدستوري والصلاتَ بين النخبةِ الحاكمة والشعب، ولكن مجيءَ الأسد الابن، وتصاعدَ الطبقةِ الفاسدة وحكمها المباشر، دفعها نحو الاثني عشرية التي تتصاعدُ بشكل فاشي في إيران. حيث وَجدت فيها إمكانيةً لحشدِ السكان الذين من الممكن تجنيدهم لسياستها وهم في حالةِ هوسٍ ديني.
ليس ثمة هنا تقدير للأئمة ودورهم الإنساني السابق بل يُؤدلجون ويجرى الاعتماد على التحشيد الجماهيري العسكري العنيف وربطه بقضايا مشحونة زائفة، وهي أشكالٌ قامتْ عليها الفاشية، ويجرى هنا تأجيج العداوات المذهبية وبين البشر عامة، واستخراج المخلفات العتيقة من الماضي، أي بعث كل أشكال الوحشية، وهو ما تتوَّجَ في توجيهِ السياراتِ المفخخة لقتل المسلمين والمسيحيين واليهود والبشر عامة في المنطقة وخاصة في العراق ولبنان، ولم تواجه هذه الفاشية المتصاعدة بتحالف دولي ديمقراطي ومحاربتها.
ووضعت كل هذه المواد سوريا على فوهة البركان الاجتماعي الذي كان محتدماً مستعداً لقذف حممه.
عبرت الثورة في سوريا عن غلبة القوى الشعبية على أثر القوى السياسية مثل كافة الثورات العربية الديمقراطية، فهي ليست نتاجَ تآمرِ نخبة، بل هي فيضٌ شعبي غامر، ولهذا تتصفُ بالعفوية ومشكلاتها.
ليبيا واليمن وسوريا أسستْ جيوشاً غرقتْ في الدكتاتورية الحزبية والتعالي على الشعب، وتنوعتْ مستوياتُ الفاشية فيها، ومن هنا فإن الشعوبَ الثائرةَ عادت إلى مذاهبِها البسيطةِ السنية التوحيدية، ولم تؤسسها قوةٌ حزبيةٌ تنظيرية، وهذه العودة غمرتْ المختلفين معها دينياً ومذهبياً بالتواصل، رغم أن أشكالَ التعبئة مغايرة، حيث غدت صلواتُ الجمعة هي أساسُ التحشيد ثم تتفجر خلايا الشعب بالحراك المتنوع.
أعطت الإنتفاضةُ الشعبيةُ ضد الحكم الدكتاتوري الدموي بذوراً توحيدية ديمقراطية، هي توحيدية التضحية وبذل الدماء رخيصة في وجه الطغيان المتعالي، الذي تكرسَّ فساداً وكراهية، فرأينا درعا الفلاحية العاملة تقودُ المدنَ الكثيرة المتعددة الصغيرة غالباً، أما جبروت المدن الكبرى المتبرجزة أساس الفساد والإستغلال فهي هادئة سياسياً ولا تنتفض سوى أريافها وعامتها غير المقيدة بسلاسلها لكنها تنتظر الفرصة كذلك حين يضعف النظام لتلتقط الثمار، فالشعب البسيط تقدم للثورة بلا قيادة وبلا برنامج، وبشكل عفوي، وراح يصنعُ ملحمتَهُ بشعاراته البسيطة عبر التوحيدية الدينية العامة بين المؤمنين، ثم بالدعوة لوحدة سوريا كوطن للثائرين جميعاً وعبر الحرية غير المتبلورة في شيء حتى تكرست في النفي المطلق «إسقاط النظام»، فهذه الدعوة للحرية الفضفاضة تجسد مدى قسوة الزنزانة المسيطرة وضرورة الخروج منها بأي شكل لكنها لا تعبر عن أفق محدد، فالطبقات الشعبية الكثيفة عبر الأرياف والمدن تعبتْ من الضرائبِ والقهر والفقر ولا تستطيع أن تُستنزف أكثر لتتعالى جبال الذهب في دمشق.
إن النظام المبهم القادم المطلوب لدى الجمهور هو الخروج من النظام الشمولي بأي شكل.
إن العامة البسطاء هم الذين لعبوا الدور الأساسي البطولي في وجه جيش وشرطة تمرسا في القمع وتأدلجا، فقد جعلهما النظام عبر مذهبيته وبعثيته متميزين عن العامة، فهم في تصوره التخلف.
كل هذا جعل الفزاعة تتوجه نحو السلفية، ففزاعة الشيوعية إنتهت، وراية السنة المنتشرة عبر الكلمات الدينية والشعارات العامة وجسد الجمهور الأكبر وجه الأمور مثل النظام الفاشي الليبي نحو السلفية بإعتبارها هجوماً كذلك على الحضارة الغربية. وربما ثمة عناصر من ذلك، وربما تستغل التنظيماتُ الدينيةُ السنيةُ هذه العملية لمزيد من النفوذ، وكمثال على ذلك تغدو الحكومة التركية نموذجاً واضحاً هنا حيث تتردد بين الجانبين، وداخل هذا الوضع الصراعي المعقد بين البرجوازية السورية الفاسدة الحاكمة شريكتها في الاقتصاد، والعامة السنة أغلبية الشعب شركائها في العقيدة. لكن الكلام عن السلفية أكاذيب، على طريقة النازية في الدعاية الكاذبة ونشرها كل يوم بغرض تبرير المذابح.
إن التكوين الشعبي المتنوع المذاهب والعقائد يظهر التناقض الصارخ بين الجيش العقائدي أي الفاشي، وبين الجمهور الوطني المبعد عن السلاح.
لهذا فإن الجماعات الشعبية الثائرة غير قادرة على صد الآليات الحربية المتطورة ولا على خلق جبهة سياسية ديمقراطية تحديثية، فبقيت بلحمها وعظامها تقاوم هذه الشراسة الفاشية، مثلما تقاومها ببساطتها الشعبية الفكرية. وتغدو الدعوة «سلمية، سلمية» غير مجدية هنا، في حالة جيش معاد. وقد نقلوا تجربة مصر دون وضوح سياسي.
فهي لا تستطيع أن تشكل قيادة هجومية نحو العاصمة، والعاصمة ذاتها باردة المشاعر. ولهذا كله فإن الشعب السوري يغرق في دمائه في المناطق الريفية والمدنية الصغيرة خاصة عبر حصاره وذبح نخبه. فهي كارثة سياسية وإنسانية بكل المعايير وتوجت حكم نصف قرن من الخداع واللصوصية.

رعبٌ في سوريا
3/8/2011
كيف تغلغل النصلُ الوحشي الحكومي السوري الراهن في لحم الشعب؟ كيف أمكن لمثل هؤلاء القتلة أن يصيروا حكاماً؟
هذه عينةٌ من فساد السياسات العربية والأبنية الاجتماعية بما فيها من ثقافة كان يمكن أن تكون رفيعةً قوية مضادةً لهذه الفاشية التي راحت تمشي فوق جثث العامة بدباباتها وهي فخورة تصرخ بشجاعة كاذبة.
كان لا يمكن إلا لمثل حافظ الأسد أن يكون حاكماً. تجمعتْ فيه العسكريةُ والعلوية والبعثية، ,كلٌ منها له نسقٌ خاص، فالعسكرية العربية السائدة هي تجسيد لعالم الغابة المتوحش، المفارق لإنسانية البشر وتراكمية خصال الرحمة والتعاون، فهي تستندُ إلى عسكرية الفتوح والإستيلاء على الغنائم وذبح المقاومين، ثم الجثوم على السلطات حتى يأتي عسكري آخر. تاريخُ العربِ والبشرية عامة هو تاريخُ من يَغلب. وإستغلال أية فكرة نبيلة وتحويلها إلى مقاعد وجوارٍ وعائلاتٍ مهيمنة مريضة.
لو أن البعثَ وصلَ للسلطةِ بورقِ الاقتراعِ لكان بعثاً آخر، لكنه وصلَ عبر الدبابة التي ركبَ فوقها صلاح جديد وحافظ الأسد. فصار إمتداداً لعسكر الفتوح والغزو والاحتلال ونافورة الأمراض الاجتماعية.
الطائفةُ العلويةُ تشكلتْ كإنقلابٍ عسكري فكري على قانونيةِ الإسلام، على إنتشاره العام العادي الشعبي البسيط المسالم، ثم تداخلت مع قوى إستغلال النخب، فأنبثقتْ بشكل تمردٍ فوضوي مغامر عنيف تجلت فيها الارستقراطيةُ المناوئةُ للعامةِ البسطاء، فالمذاهبُ تغدو مغامِرةً حين لا تنمو بقانونيةٍ من داخلِ ما هو عام ديني. تغدو كراهية للآخرين المواطنين في ذات التاريخ المشترك.
لكن كان يمكن للعلوية أن تغدو شيئاً آخر لو لم تتركبْ في معادلةٍ كيمائيةٍ حارقة مع العسكرية البعثية المغامرة. نقضُ القانون على مستوى الدين، يتداخل بنقضِ القانون على مستوى الوعي المعاصر دخال القومية العربية. فالبعثيةُ نتاجُ الفاشيةِ الأوربية، التي هي تحطيمٌ لقانونيةِ الفكرِ الديمقراطي الغربي الانساني، وركوبٌ على المسالمين وصناديق الاقتراع من خلال الدبابة.
تسلقٌ حقيرٌ وإلغاءٌ للقانونيةِ الاعتيادية وللديمقراطية وتراكمية الوعي الإنساني الرفيق بالأشياء والكائنات، والوصول للثروات المُنتزعة بطرقٍ إستغلاليةٍ ضارية.
ولم يستطعْ تيارُ الحماقةِ الأشد في البعث وممثله صلاح جديد أن يتحول إلى سكينٍ مرهفةٍ دقيقةٍ ذاتِ دهاء تتغلغلُ في الجسم السوري، هذا كان من مزايا حافظ الأسد الماكر والعنيف معاً، الذي حملَ كلَ تراكماتِ الإستغلالِ والخروقِ للقانونيةِ الدينية والقومية والإنسانية، وإستطاع أن يغلغلَها ويجسدَها في اللحم السوري الاجتماعي المتشظي، بمداهنة كافة الطبقات ثم دول المنطقة والعالم.
هنا نمطٌ آخر من البرجوازية الصغيرةِ المخادعةِ العسكرية الشمولية الدموية، التي تصعدُ فوق الأشلاء وعلى سذاجةِ القوى السياسية وتفكك لحمتها وتعاونها، وتخلقُ ديكوراتٍ سياسيةً مُفرّغة من مواقفها وتمثيلها للقوى الاجتماعية، وللأفكار البشرية ذات القانونية الديمقراطية أو الثورية، فتصعدُ فئةُ البرجوازيةِ الصغيرة هنا لتغدو هي الطبقة الثرية من العائلة والطائفة والأنصار مكتسحة الأغنياء التقليديين الذين شكلوا ثرواتهم بالطرق العادية.
المكرُ يغدو هنا إشتراكية للكادحين، وقومية للقوميين، ومسالمة للدول العربية الشقيقة، لكنه لا يستطيع أن يخرقَ قوانينَ الصراع الاجتماعي، فالصراع يتجسدُ من خلال الحطام الفكري النضالي السابق الذي أُجهز على تياراته القوية، فالطائفيةُ الارستقراطيةُ الفقيرة التي صارت ثريةً، تهيجُ العامةَ وتلغي مذهبِهم السائد، فهي تفقرهم إقتصاداً وتوحدُهم سياسةً.
ودهاءُ حافظ الأسد إنتهى إلى حماقات وقصر نظر لدى أبنائه، ففي داخل الطبقة القافزة فوق القانونية التراتبية للتاريخ، حيث لا تربية طويلة ومناقبية متوارثة، تصيرُ السياسةُ بلا مكر وحادة فاشيةً دمويةً تَظهرُ بكل فجاجتها، وعنفها وعفونتها، وتصمدُ فقط لما قامتْ به هذه السياسةُ سابقاً من إختراقاتٍ في المحيط العربي الإسلامي، وفوق ما جرى فيه من تحولات مخربة أخرى خاصة الإنقلاب السياسي على عاديته ومسالمته الذي جرى بشكل عنيف عند الإماميين، فـ(الأسدية) هي حشرةٌ متسلقةٌ شديدة الذكاء لمصالحها، تعيشُ على الدم البشري لكن حين يتحد الناس ينتهي وجودها وتلفظُ ما أبتعلته خلال عقود من دم.

الثورة السورية وغروب ولاية الفقيه
17/8/2011
إنها ثورة تكشف ثورة سابقة، والعلاقات الإيرانية العربية وصلت إلى طريق مسدود بعد عجز الجمهورية الإيرانية عن التطور نحو جمهورية ديمقراطية. وتكلس الجمهوريات داء قديم عرفه العرب وهم يتخلصون منه الآن، لكن إيران متأخرة في هذا ونحن ننتظر تحولها.
تشكلت العلاقات الإيرانية السورية في ظل انكفاء نموذجين سياسيين: نموذج نضال للفرس من خلال المذهب وقد انعطفوا به نحو جوانب ليست من خصائصه، وركبت الدولة فيه دكتاتورية سياسية غدت تتأزم بشكل مستمر داخلياً وخارجياً، فكان الهروب إلى الامام وإيجاد علاقات وتدخلات وإثارة معارك لا تشيع الديمقراطية في أجواء المنطقة.
نموذج النضال السوري عبر البعث تشكل بصورة دكتاتورية فئوية قفزت على التطور الديمقراطي داخل الطائفة وداخل الحزب وداخل المجتمع.
تقارب إيران وسوريا كان تقارباً بين كائنين لا صلة بيولوجية بينهما فلا ينجبان مولوداً سليماً، فليست ثمة أواصر بين علمانية وبين تشدد طائفي، إلا عبر القفزات غير المشروعة وغير الطالعة من المبنيين الفكريين اللذين ينتميان لهما، فإيران قفزت قفزة غير منطقية وغير سوية من المذهبية الشيعية، أي قام فريق سياسي بمغامرة خارقة للنص الديني المعتمد عشرات السنوات من التحديث الإيراني، فأربك مسار المذهب وأربك مسار الدولة.
ففي خضم الثورة الإيرانية انحازت الفرق السياسية الدينية نحو الدكتاتورية خوفاً من وقوع ثمار السلطان في أيدي غيرها. وبهذا شكلت رأسمالية دولة شمولية، وقعت شركاتها في أيدي الموظفين والعسكريين الكبار، وما عاد من الممكن التغيير إلا بانعطافة ديمقراطية كبيرة.
سوريا عاشت تبدلات مختلفة لكنها تلاقت مع نضوب الحيوية الداخلية الديمقراطية في النظام الإيراني، فوجدتا ان ثمة مصلحة كبيرة تجمعهما.
فكر البعث في سوريا لم يتعرض للنقد التحليلي العميق، والمؤسسُ لم تُدرس وشائج فكره مع الفاشية والنخبوية المغامرة والانتهازية، ولافتات الجبهة الوطنية لم تُنتقد ويتم تجاوزها عبر حرية الأحزاب الديمقراطية وتداول السلطة، فوُجدت طبقة متكلسة من الموظفين والعسكر امتصت الفوائد العامة، وقامت رأسمالية الدولة هنا بتكوين طبقة خاصة من أحشاء القطاع العام.
لكن انفجار الثورة الشعبية في سوريا وضع علامات استفهام كبيرة على المسار السوري الشمولي هذا وعلى تحالفها الرئيسي كذلك مع الحكم في إيران، رغم ان الثورة تفتح بوابات أمل للشعبين المنهكين من الدكتاتوريتين كما لشعوب المنطقة.
لكنها تواجه نظاماً عسكرياً عاتياً، كُرس خلال أربعين سنة على القمع، والقيام بدور بوليس، والفشل في دور جيش.
من المأمل بروز قيادة سورية بديلة تضع استراتجية مختلفة، ديمقراطية على المستوى الداخلي واحترام للدول الأخرى وطرقها في اختيار مؤسساتها.
إن الشعوب لا تريد سوى دول تكرس نفسها للتنمية وتطوير عيشها، وهذا البديل قادم لا محالة لأن الجماهير السورية مصممة بشجاعة منقطعة النظير لهذا المخرج الذي انتظرته طويلاً.
ومن هنا فهي تضع بداية التلاشي لأفكار ولاية الفقيه، فهي تسلخ من المحور الإيراني درته، وبؤرته الوسطى التي تجمع هذا العقد السياسي الذي لا يقوم على النضال الحقيقي، بل على القفز والمغامرات وضرب الوحدة بين العرب والمسلمين.
تحول سوريا إلى نظام ديمقراطي سوف يؤثر بقوة في لبنان وتحوله نحو ديمقراطية وطنية، كذلك فإن العراق سوف يتأثر من غربه الواسع بهذا المدد المعنوي للتحول العروبي الديمقراطي بدلاً من لغة الإرهاب الدموية.
إن الاختراقات الكبيرة التي تمت في جسم الأمة العربية المشرقي تُرمم الآن من خلال ثورات العامة البسطاء الذين يوحدون العرب ويؤسسون لحظة مفصلية جديدة ولظهور أمة موحَدة في ألوانها الوطنية الديمقراطية التي تبتعد عن تمركز السلطة وضياع خيراتها.
إن هذا الايقاظ القوي سوف يجعل القوى السياسية في لبنان والعراق وإيران تعيد النظر في مساراتها الطائفية السياسية، ويكسر اختراق ولاية الفقيه نحو ولاية الشعوب العربية والفارسية، الممهدة لظهور جديد للأمة العربية وللأمم الإيرانية.
إن تبدل الجلود السياسية العتيقة المفتتة والشمولية للأنظمة هو مسار تراكمات كبيرة، وأمة كبيرة مثل العرب تعمل منذ مئات السنين للتقدم والحضارة، غير قادرة على القبول بهذه الولايات الطائفية المحدودة المعتقلة للعقول والحريات والطاقات من أي مدرسة وأي مذهب جاءت القيود.

الثورة السورية ومصير النظام –
6/10/2011
سوريا هي الجنة الخضراء في المشرق وقد تحولت لبستان دم. وإذا استطاعت آراءٌ معينةٌ أن تقارب الأسباب فإن المصير تنتزعه الجماهير الغاضبة ذات الرؤية الديمقراطية الوطنية.
طبقةٌ صغيرة هيمنتْ من خلال الأجهزة البيروقراطية والعسكرية والاقتصادية واستحوذت على أغلبية الثروة فيما أغلبية السكان في فقر مدقع.
خارج المدينتين الكبريين دمشق وحلب وخارج الطبقة الرأسمالية الحكومية والطبقة الخاصة المندمجة معها، تقع أغلب الجماهير الثائرة، مما يعبر عن طيف واسع من الكادحين والفئات الصغيرة والمتوسطة، فلم تظهر حتى الآن طبقة قائدة وإن كانت الفئات الوسطى هي الأقوى حضوراً كما يعبر عن ذلك المجلس الوطني المشكل كقيادة للمعارضة والحكم مستقبلاً.
إن سببياتَ الأزمة الاقتصادية هي هيمنة الرأسمالية الحكومية التي انهارت في علمانيتها وظهر الطابع الطائفي فيها مع بروز المضمون الطبقي الارستقراطي الفاشي.
تداخل الرأسمالية الحكومية الشمولية والفاشية هو توليفة معقدة برزت من خلال انهيار الوعي الوطني الديمقراطي في الحزب وما سُمي الجبهة الوطنية وتحولها كلها لأشكال من الوعي التابع للنظام وأجهزته القامعة.
من هنا يغدو المحور السوري الإيراني هو قفزة في هذا النمو السياسي للنظام، حيث يغدو استخدام الرعاعية العامية وحيونتها بالطائفية ودفعها للمجازر قمة دموية لهذا التحالف.
وإذا كانت المواد الفكرية التي تنامت عليها الفاشية في إيران مبادئ نيتشه وهيدجر والصوفية الغيبية وتوسيع حضور اللاعقلانية مقامة فوق كتل عامية محاصرة ومنقعة في الكراهية الطائفية، فإن الطبقة العسكرية المالية التي انتزعت أغلبية المال العام من الحرفيين والعمال والفئات المتوسطة في سوريا، سحقتْ موروثها العلماني السطحي وجعلته مجرد لافتات يابسة وتغور تحته اللاعقلانية العِرقية.
لهذا فإن القوى اليمينية المتطرفة في إسرائيل تجد من الضروري عدم تحطيم هذه الطبقة ومساعدتها على الوقوف أمام القوى الدينية كما تسميها، ولكنها القوى الشعبية ذات الأطياف المتعددة التي تمثل ديمقراطية موجهة ضد أنظمة الأقليات العنصرية الطائفية الفاشية.
إن قوى الأقليات توحدت مع العسكرية والهيمنة الطبقية الحادة الارستقراطية، وكسرها هو عودة للإنسانية الدينية وقد وضع حد لدمويتها وهيمنتها على السلطات، وانفتحت بوابة العلمانية الديمقراطية المقدرة لكل البشر والأديان والمذاهب والآراء.
ليس غريباً أن تظهر أنظمة الأقليات والطائفيات أشكالاً متقاربة من الفاشية، واعتماد العنف الجماهيري كوسيلة لسحق الجماهير العربية والإيرانية.
إن الهتاف السياسي واستخدام دور العبادة هما المتاح المحاصر أمام الدبابات في سوريا، لكن الوعي الديمقراطي الوطني المتبلور كبرنامج وتنظيم يظهر من خلال المجلس الوطني الذي يضم مختلف القوى السياسية المذهبية والقومية والماركسية والكردية، كما أن الجماهير السورية قفزت على الطائفية عبر اندماجها الواسع في التظاهرات وترحيبها بالمجلس كقيادة لها.
ليس ثمة سوى طريق واحد هو إسقاط النظام الدموي ومحاكمة مسئوليه الذين ارتكبوا كل هذه المجازر، ويجب دعم القوى الوطنية السورية بكل بقوة، وتوسيع المشاركة والتأييد والمقاطعة للنظام ومصالحه المختلفة حتى ينهار وليس ثمة طريق آخر.
أما الممانعون والرافضون لسقوط هذا الوحش السياسي فيجب نقد مواقفهم ومناشدة جماهيرهم للتحرك فالقضية الإنسانية واحدة.
إن الانتصار ليس لمذهب ديني بل لدول ديمقراطية، وما تطرحه الثورات العربية ليس دولاً دينية جديدة، بل هو انتصار دول التعددية والديمقراطية والمواطنة، وهو عكس ما تكرسه دولُ الهيمنات الدكتاتورية والعنصرية، المتقوقعة في مذاهبها وعنصريتها معتمدة على أشكال حادة من الرؤى الدينية، وقد وحدتها في خاتمة المطاف مع دول عسكرية ذات شهية للتوسع فوق أجساد الشعوب.

الشعبُ السوري افترسوهُ وحيدا –
14/10/2011
سبعة أشهر وأكثر مرت وجحافلُ الجيش المسمى سورياٌّ تفتكُ بالمتظاهرين العزلِ المسالمين، الكلُ العربي يرى مشاهد المذابح، وأجسامَ الآليات الثقيلة وهي تقذفُ نيرانها على المنازل، لم تترك مدينة لم تدك بيوتها وتأسر مناضليها لتذبحهم في السجون.
الآلياتُ تتغلغلُ في الأحياء والقرى وتطلقُ النار عبر حرب أهلية غير متكافئة، وحشية لم يسجل التاريخ لها مثيلاً، إلا حين يغزو بعض الجيوش دولاً أخرى، لكن هذه دولة وشعب يعيشان معاً.
كلُ الدماءِ تسيل والمشاهدون العرب لا ينبضون، لا يتحركون، لا يفعلون شيئاً.
الموقف العربي بلغَ حدا مخزيا، خاصة من قبل المنظمات السياسية وعلى رأسها الجامعة العربية المفترض أنها عربية ومدافعة عن الشعوب.
حتى صغائر المواقف لم يقوموا بها كالتظاهر هنا أو هناك، فتعطلت لغات المشاعر، واعتادت السحل، في ليبيا كان الأمر مختلفاً فالجزارون ووجهوا بمقاتلين وطنيين وبقوى مساندة من دول عديدة ولكن هنا في سوريا العربية الجزارون يذبحون الشعب نهاراً وليلاً، وتكون الوليمة الكبرى من الجثث في يوم الجمعة حيث اعتاد أن يعطل المسلمون.
هل نضب العربُ من المشاعر؟ لا، ولكنهم عاجزون عن فعل شيء، ومنظماتهم في حالة موت سريري. وحده شعب اليمن تظاهر داخل المحنة الثنائية المشتركة، ليواجه نظامين قمعيين شرسين.
خاصةً أن هذه الدولة المتغطرسة المسماة سوريا اختارت معركة القهر الدموي إلى النهاية مهما تكن النتائج وخيمة عليها وعلى خريطة البلد الجغرافية ومصالحه وكيانه.
المدن الكبيرة السورية تُسحل فتخاف ولا تلجأ إلى استراتيجية الثورات العربية عبر المظاهرات المليونية حيث تتدفق الجموع الكبيرة فتحطم آلية القمع عبر تشتيت جهود القوى القامعة، فتلجأ بعد تكرار اقتحامات الجيش للمدن إلى القيام بتناوب الأدوار وبقيت مدنٌ معينة مستمرة في دور مقاومة أسطورية كل يوم والجيش «البطل» يتجولُ في أزقتها.
لكن الجيش العقدي الدموي يتفكك، وفي تفككه بداية لانهيار النظام. لكن التفكك ليست متسعاً، ولا منظماً، ولا يتخذ خطة الهجوم، فكلما لجأت الثورة إلى الدفاع خفت صوتها.
وثمة إمكانيات كبيرة لتطور الثورة الآن، نظراً إلى جملة من الظاهرات.
فقد ظهرَ المجلسُ الوطني كقيادة وطنية عليا تشمل المنظمات السياسية كافة فأنشأت هيئةً معبرة عن الشعب السوري المنتفض، وبهذا فإن قيادات في الخارج والداخل تستطيع أن تقوم بجملة من الوسائل النضالية المتداخلة المخططة دافعة العمل الكفاحي في جوانب عديدة لا تتوقف وتوسع الحركة وتبتكر أشكالاً جديدة.
كذلك فإن المجلس يستطيع أن يتباحث مع دول العالم ويقنعها بالاعتراف به كممثل وحيد للشعب السوري، وبالتالي يتحول إلى هيئة شرعية لها قواعد وقوى وتعليمات وقرارات يلتزم بها الشعب وتسقط الشرعية عن نظام الإبادة الراهن.
كذلك يستطيع المجلس الوطني أن يقيم علاقات مع الدول والمنظمات العربية المؤازرة للشعب السوري ومساعدته بأشكال الدعم كافة، ومحاصرة النظام ونزع الشرعية عنه.
كذلك فإن تداعيات النظام الراهنة وخفوت سلطته في انحاء عديدة من الدولة، وانتشار القوى العسكرية المتمردة، وضخامة أعداد المظاهرات التي تتزايد يوماً بعد يوم، وترنح القمع بعد امتلاء السجون وعدم خوف الجمهور، يجعل المجلس الوطني ونمو دوره السياسي بديلاً متنامياً عبر التأييد العالمي والتفاف الجمهور السوري حوله وتحويل قراراته إلى سلطةٍ تتجذر شيئاً فشيئاً في الحياة السورية.
كذلك فإن الدول الجارة المحيطة بسوريا تتأثر بالاضطرابات فيها ومصالحها تتضرر خاصة مع حماقات النظام السوري وتدخلاته فيها ولهذا فإن مواقفها السلبية الجامدة من ثورة الشعب السوري المذبوح لن تبقى كما هي.
كذلك فإن معونة الدول الغربية مهمة ولكنها ليست مباشرة، ومؤثرة بقوة، بل ذات تأثير بعيد المدى والشعب يريد مساعدة دولية راهنة في حدود القانون الدولي، ويمكن الضغط على مواقف الدول الدكتاتورية المعرقلة لهذه المساعدة عبر التضامن الشعبي الأممي مع الشعب السوري في كل مكان.
والمهم جدا للشعب السوري ألا تتوقف مساندة أشقائه العرب شعوباً ومنظمات سياسية واجتماعية، فمن العار حدوث هذا التفرج وقد كان الشعب السوري أول من يتضامن مع أي ثورة عربية وأول من يساند المنظمات والتحولات، فكيف يحدث هذا الرقاد الآن مع كل هذه المجازر وحمامات الدم؟
هذه ثورة عربية صميمة وإنسانية المحتوى ووطنية الموقف، مثلما عبر المجلس الوطني كنسيجٍ واحد للشعب السوري.

تعاونٌ شمولي ضد الثورة السورية –
5/12/2011
فيما كانت الثورتان التونسية والمصرية لا تُواجهَان بتعاونِ الدكتاتوريات الشرقية ضدهما، فإن هذا التعاون أخذ ينمو بدءًا من الثورةِ الليبية وتصاعدَ بشكلٍ خطر ضد الثورة السورية.
بطبيعة الحال فإن الوعي السياسي الديني المصاحبَ لهذه الثورات محيرٌ للغرب حيث يتناقض مع حرياته الفكرية والاقتصادية، لكنه تجاه الحكومات الرأسمالية الشرقية كان مضراً ومخيفاً خاصة عندما حول أغلبية الشعب السوري إلى عواصف جماهيرية أسبوعية ثم يومية هادرة.
الأسبابُ مختلفةٌ بين الرأسمالياتِ الغربية والرأسمالياتِ الشرقية الحكومية، فالنسبة إلى الغربِ هي عمليةٌ مفيدةٌ لأنها تؤدي إلى توسيع أسواقه، حيث تخف القبضات الحكومية والشركات العامة التي تلتهم أغلبية ثروات هذه البلدان خاصة في ليبيا ذات الإمكانات النفطية الكبيرة فيما سوف تتوسع الرأسماليات الخاصة في هذه البلدان وتكبرُ أحجامُ التبادلاتِ معها.
لكن بالنسبة إلى الرأسمالياتِ الحكومية الشرقية خاصة الإيرانية والروسية والصينية فإن ضياعَ الاتفاقيات الاقتصادية وتدهور مكانة شركاتها العاملة باتساعٍ في هذه الدول وخفوت شراء الأسلحة وتفكك التحالفات وتشابه النظامين الليبي والسوري مع تلك الأنظمة وتداخل مصالحها وعلاقاتها وفسادها، تغدو كلها خسائر اقتصادية وسياسية جسيمة.
لقد كان النظامُ السوري خاصةً بالنسبة إلى روسيا وإيران حليفاً استراتيجياً، فهو نظراً لحربائيتهِ السياسيةِ علماني وديني في ذات الوقت، وقد تماشى مع ثورةِ السوفيتِ المتحولة لحكمٍ بيروقراطي حكومي فاسد، ومتآكل لسماتِ الاشتراكية والعلمانية، ومنتج لدكتاتورية فردية في خاتمةِ تحولِ المسوخِ الرأسماليةِ الحكومية الشرقية بالضرورة، كما أنه حليف لنظام طائفي شمولي عسكري في طريقه لإنتاج دكتاتورية فردية هو الآخر، وهو كذلك متآكلٌ كذلك في علاقته بالطائفة والإسلام والشعوب الإيرانية.
هذا الازدواجُ التحالفي يعبرُ عن تحولِ هذه القطاعاتِ العامة المملوكة للشعوب زعماً إلى حاضناتٍ للرأسمالياتِ الخاصة البيروقراطية، ولهذا فإنها تتعاونُ بضراوةٍ لعدمِ سقوطِ نماذجها السياسية، وقد بدأ ذلك في ليبيا خاصة، لكنه تصاعد وأتسع في الحالةِ السورية التي صارتْ تهديداً قوياً لهذا النموذج، عبر فك الارتباط بالنموذج الروسي العاجز عن التحول للديمقراطية، وبخسائرهِ مصالح كبيرة موجودة في الاقتصاد والجيش السوريين.
لكن الخسائر ستكون أكبر على إيران تجاه نموذجها الرأسمالي الحكومي العسكري المرفوض شعبياً، فسوف يؤدي انتصار الثورة السورية إلى فقدانِ حليفٍ استراتيجي وسع من نفوذها وربما يؤدي سقوطه إلى فقد مواقعها في لبنان والعراق، المهددين في نظاميهما التابعين للتحالف الإيراني السوري.
فالعراق مفتوح لتأثيرات القبائل العربية ولهجمات المعارضين ولتغير الوضع بعد الانسحاب الأمريكي، كما أن موقع حزب الله في لبنان سيكون في طريقه للتآكل عبر حراك الأحزاب ولعبة الكراسي التي لا تتوقف هناك.
لهذا فإن النظام الإيراني الذي عاش على أوهام تصدير الثورة كمنقذٍ من حصار شعبه الداخلي، سيعودُ لواقعهِ الحقيقي ويرى ان مشروع القومية التوسعية المذهبية العسكرية في مأزق خطر، كما أن مشروعه النووي الذي هو الحل الانتحاري الآخر غير مقبول عالمياً، وان عليه أن يفسح المجال لثورة ديمقراطية حقيقية.
لقد شكّلت هذه الأنظمة ثورات عسكرية في بدء ظهورها وشيدتْ أنظمةً شمولية من دون مراجعةٍ تاريخية جذرية لها، والآن هي في لحظة مواجهة لما حدث في بدء تكونها.
لكن في الحالة الراهنة فإن الأنظمةَ المتعددة الشرقية السابقة الذكر تتعاونُ على خنق الثورة الشعبية السورية بكل ما تستطيع من مساعدات مادية وبشرية وتقنية.
إن التضاد المخيف هو أن حاضر الثورات العظيمة السابقة في هذه الدول الروسية والصينية والإيرانية يساندُ عمليات ذبح يومية شرسة كبيرة ويقوم بالدفاع عنها تصويتاً في الأمم المتحدة وإرسالاً للقتلة والمعدات، وهو يفتخرُ بكل تقاليد التضحيات الثورية والمساعدات النضالية الكبيرة التي جللت كفاحه السابق!
وهو ما يشير إلى تدجين شعوب هذه البلدان أو قمعها بقوة بحيث أنها ترى شعباً يُذبح من دون أن يتظاهر بضعةُ أشخاص أو ترتفعُ أصبعٌ واحدة تنددُ بالمجازر!
ولهذا فإن على الثورات العربية وخاصة السورية أن تنشىءَ أنظمةً ديمقراطية ليس فيها هيمنة دينية أو مذهبية أو اشتراكية أو رأسمالية وتكون مفتوحةً لكل الأصوات ولتراكم الانجازات الإنسانية وحقوق الأغلبيات الشعبية، وتطوي صفحةَ الشموليات الشرقية بلافتاتها الدينية والاشتراكية المزيفة.

الثورة السورية.. تفاقمُ الصراعِ وغيابُ الحلِ
16/1/2012
تعمقت الثورةُ السوريةُ وغدتْ أشبه بأزمةٍ مستعصية على الحل، وفيما قارب الثوارُ الانتصارَ، توسع دور أجهزة السلطة القامعة ومناوراتها السياسية الداخلية والخارجية.
الأحداث عصفت بأغلبية المدن وبهوامش وأرياف مدينتي دمشق وحلب، والصراع الاجتماعي المشدود ظل بتركيبته السكانية نفسها، ولم يستطع التوغل في عمق المدينتين الرئيستين مما يعني غياب مساندة فئات كبيرة للتغيير، وضخامة حضور الأجهزة العسكرية في كل المدن والقرى، وتحولها إلى حربٍ مفتوحة ضد السكان، الذين أثروا في قطاعات من الجيش التي انضمت إليهم، فبقي الميزان السياسي متأرجحاً.
كذلك لعب بعض الدول العالمية كروسيا والمناطقية كإيران والعراق أدواراً من التدخلات المتعددة الأشكال ضد الشعب السوري في ثورته، المعتمدة على المظاهرات السلمية، فالسلاح يتدفق من روسيا وإيران، وتقف حاملة طائرات روسية ضد ثورة الشعب السوري مما يذكرنا بالأساطيل الأمريكية والغربية وهي تواجه ثورات الشعوب العربية في سنوات غابرة!
جماعاتٌ من المقاتلين والقامعين تتدفق من العراق ولبنان، وقد ظهر هنا صراع المحورين العربي والإيراني السوري بشكلٍ فاضح خطر.
القوى الشمولية العالمية قوى روسيا وإيران لا تريد أن تتدفق الثورة الديمقراطية العربية وتحاصرها بقوة الآن في حلقتها الراهنة.
فيما وقف العالم الغربي غير رافض للثورات العربية وهي تتوجه إلى بعض مصالحه وتهدد بعض حلفائه، لكون أهدافها التحولية السياسية الديمقراطية الراهنة لا تتناقض مع أهدافه بل على العكس تخدمها.
فيما على العكس يقف بعض الدول الشمولية الشرقية رافضة تحول سوريا إلى بلد ديمقراطي!
نعم فسوريا حليف عتيد للدكتاتوريات الشرقية بأشكالها التي لم تعدْ قادرةً على التحول في تطور التاريخ الراهن. وكل قوى وحلفاء هذه الدكتاتوريات يتأثرون ويتضررون، بينما البلدان الأخرى التي لم تغير دكتاتورياتها آثرت المضي في ليبراليات ما، تظل أقل سوءاً من تلك الدول التي تهدد العالم بقواها العسكرية وبرامجها الخطرة والعالم مأزوم اقتصادياً وسكانياً وفي موارده وأنفاسه!
سوريا حلقة الصراع الكبير بين المحورين العربي من جهة والإيراني السوري من جهةٍ أخرى، وبتغيير سوريا لا يكون ثمة قلعة كبيرة للدكتاتورية العسكرية الخطرة سوى إيران، ومن هنا ينفتح أفقُ التحولات في عمق آسيا، وتُهددُ روسيا في خاصرتها، وتتحرك موجاتُ الأسواق الحرةِ السونامية الديمقراطية إلى قلاع الاستبداد في آسيا!
فكيف يعارض الغرب هذه الطوفان الشعبي إذا كانت شركاته سوف تزدهر؟
ومن هنا غدت سوريا مركز صراع الرأسماليات الشرقية الشمولية والرأسماليات الغربية كذلك، لكنها أقل قيمة نفطية من ليبيا، كما أن تحولها لجمهورية ديمقراطية مفتوحة للقوى الدينية السنية المضادة لإسرائيل التي قبلت الديمقراطية والتعددية، والملتقية مع الانتصار الوطني نفسه في مصر، كافٍ لإثارة شبح ألف صلاح الدين جديد!
إنهم التوحيديون يطلون ثانية ووراءهم الملايين هذه المرة فكيف لا تفزع إسرائيل؟
إنها لحظة تاريخية كبرى وخطيرة، السكان العرب البسطاء أرعبوا عاصمة الحروب في المنطقة: إسرائيل، التي ليس لديها برنامج غير العنف، وغير قادرة على إدخال التعديل الديمقراطي في النص التوراتي، حيث يظل اليسارُ العلماني مشروعَ حلمٍ رغم التاريخ الطويل للجيتو الإسرائيلي وجذوره في القرن العشرين.
ولهذه الأسباب لم يكن ثمة استعجال غربي تجاه دوس السوريين بالدبابات وضرب الأزقة والقرى بمدافعها، مشاهد تعيد إلى الذاكرة الغزو الهتلري لروسيا السوفيتية، التي انقلبت مؤيدة لحاكم دمشق، ولا ترى أطفال الأرياف السورية المعدمة وهم تُقطع أوصالهم!
الغربيون يخافون على إسرائيل من التحولات غير المحروقة على نارٍ هادئة وقودها الناس والحجارة، وقتل الآلاف لا يثير مثل قتل صحفي واحد، وجبهة الجولان هادئة، والجيش السوري العظيم يتحول إلى بوليس وقتلة وفارين وثائرين. فليس ثمة أفضل من هذه الحالة لجيش عربي يهدد عاصمة العنف في المنطقة.
كذلك لعبت الجامعةُ العربيةُ دوراً مخزياً في مرمرطة قضية الشعب السوري، والعالم كله يرى ذبح الناس في الشوارع إلا بعض دول الجامعة التي تريد أن تتحقق من التزام حكومة القتلة بالاتفاق المبرم بينهما في عدم ذبح الشعب بشكل مكشوف! فصارت المهمةُ لعبةً سقيمةً وخطرة على أفراد بعثة تقصي الحقائق هذه نفسها قبل الناس.
فدخلنا مع دول عربية تخاف هي الأخرى من انهيار الشموليات العسكرية، وتخضع لضغوط الدول الإقليمية والعالمية بضرروة هزيمة نضال السوريين.
فيما قوى الثورة السورية هي نفسها متأرجحة بين جناحين، ولم توجد إرادة شديدة الصلابة تعكس التباين الاجتماعي بين برجوازيي المحلات الفاخرة في دمشق وحلب وبين الجماهير العمالية والفلاحية في المدن الصغيرة والأرياف والبوادي الشاسعة.
إنها دولةٌ دموية تضربُ البيوت والبشر بالمدافع فكيف تواجه بشكل سلمي؟ والانشقاق العسكري لا يكفي من دون قوى عربية وإسلامية وعالمية عسكرية مساندة لأحرار سوريا ضد الفاشية تضربها وتكسرُ عظامها!

الثورةُ السوريةُ والحضورُ الإيراني
21/2/2012
لم يكن الدعمُ الحكومي الإيراني للدكتاتورية السورية مماثلاً لدعم روسيا والصين، فهو تفوق عليهما، نظراً لتماثل الرعونة السياسية عند كلا النظامين، وغياب التجربة السياسية التحديثية العميقة فيهما، وتسلط الأجهزة العسكرية على السكان في كلا المجتمعين.
ولهذا يبدو التحالف بلا أي أسس فكرية ومبدئية، فالنظامُ الشمولي في سوريا هو عدميٌّ دينياً، ولن تجدَ له ديناً محدداً أو أيديولوجيا تحديثية، بسببِ قفزة الضباط الكبار على سدة الحكم وتنازعهم وانخراطهم الواسع في سرقة المجتمع، وإذا كان لهم مذهب كأشخاص وفئةٍ صغيرة في الحكم، إلا أنه لا علاقة للمذهب بالشعارات السياسية ولا تربطه رابطة بها.
وهذا يجعل العدمية هذه تتناقضُ تناقضاً صارخاً شكلاً مع النظام الديني الشمولي المتعصب الإيراني، فكيف لعدميين أن يرتبطوا بمؤمنين حادين في شعائرِهم التي يغرقون المجتمع بها؟
لكن القفزةَ التي قام بها الضباطُ السوريون تماثل القفزة التي قام بها بعضُ رجال الدين الشيعة في القفز من العقيدة المتنوعة المنفتحة إلى شكلٍ سياسي شمولي حاد، أدى إلى هجومِ الضباطِ الكبار وبعض رجال الدين الكبار على المال العام وخنق المجتمع وإدخاله في مأزقٍ تاريخي وطريق مسدود.
وإذ قامت أغلبيةُ الشعب السوري بالثورة واتضح الطابع المذهبي السني الغالب، ولم تستطع قوى الثورة لا التوحد ولا التعبير عن مشروع فكري سياسي تحديثي مدني يفصل المذهب عن السلطة، فإن تناقضها مع السلطتين السورية والإيرانية يغدو قوياً.
لقد تطورت الثورةُ السوريةُ في أحضان العامة الريفيين والبدو والعمال المدنيين وبأشكال عفوية فصار المذهبُ واضحاً في تجليات الشعارات والقوى السياسية المكونة.
وبطبيعة الحال ليست الأشكال المذهبية أو السياسية هي بؤرة النزاع، بل المصالح الاقتصادية المتنازع عليها، ووجود طبقتين عسكريتين مسيطرتين على القطاعات العامة في كلا الجانبين السوري والإيراني، اللتين خصخصتا هاتين المُلكيتين بطرق حارقة، فلم تنبثق الطبقتان من بين أحضان المجتمع وبأشكالٍ إنتاجية قانونية وسلمية، وعبر عقود تراكمت فيها الفوائض وتحولت لرساميل تمتدلا في شبكتي المجتمعين، وبالتالي يرافق ذلك حرياتٌ سياسية وفكرية واقتصادية، فيتراكم الوعي الديمقراطي في المجتمع، ويتراكمُ رأسُ المال الوطني وينتشرُ في عروق المجتمعين.
لكن الوسائلَ العسكريةَ الباطشة في تجميع الثروات تترافقُ مع أفكارٍ سياسية رعناء شمولية حادة، ومع تجميعات انتقائية شعارية ترفض قانونية الفكر وقوانين التطور الاجتماعي، وتشكل مجموعات من الانتهازيين والمغامرين على المستوى الوطني وعلى المستوى الإقليمي وعلى المستوى الدولي.
ارتباط الثروة بالسلطة ارتباطاً شديداً عسكرياً، سواء كان بشكل ثقافي عدمي على الطريقة السورية الحاكمة، أو بشكل ديني متعصب على الطريقة الإيرانية، أو بشكلٍ شيوعي زائفٍ كما في روسيا والصين، هي قيامُ مجموعاتٍ من المغامرين المتلاعبين بالأديان والأفكار النضالية الإنسانية الكبرى، وتمويه تلاعبهم بالمُلكيات العامةِ وبمصائر الشعوب، من أجل مصالحهم الخاصة.
ومن هنا تبدو الرعونة الشديدة بين النظامين السوري والإيراني حيث الفجاجة الفكرية السياسية، والعنف الشرس، فتتطاير الشعاراتُ مع جثث الأطفال المكتوب عليها بالسكاكين ومع الأحياء التي تُدك بالمدافع وراجمات الصواريخ في مشاهد لم تُر منذ مذابح الصرب وجرائم فيتنام المروعة.
ومع ذلك فالمجتمعُ (الإنساني) حائرٌ في توصيف مثل هذه المذابح.
وتبدو السلطة الإيرانية في حالة هستيريا سياسية عسكرية مشعرة العالم بأنها محاصرة وصاحبة إمبراطورية ورقية تنهار وأنها مستعدة أن تفعل كل شيء من أجل هذا الوهم السياسي الإقليمي الذي صرفت عليه الكثير وتركت مجتمعها يتآكل وشعبها يعيش على الشظف في الداخل ويحضرُ لإسقاطها.
النموذجان السوري والإيراني يعيشان الأزمة الكبيرة بسبب سرعة التحولات التي جرت فيهما منذ عقود قليلة، ولعدم إقامتهما بنيتين اجتماعيتين مزدهرتين بالفوائض الاقتصادية على الناس، بل قام السياسيون فيهما بالتركيز في الإنشاءات العسكرية وشراء الأسلحة مما أدى إلى الفقر الواسع وضنك المناطق الريفية والعاملة خاصة، وهو أمر وجدت فيه روسيا خاصة إحدى غاياتها المهمة.
إحداهما تريد إقامة توازن إستراتيجي مع إسرائيل لم نجدْ فيه طلقةً واحدة في الجولان الصامت، والأخرى تريد أن تكون دولةً كبرى نووية.
والنتائجُ حطام

الثورةُ السوريةُ والمحتوى الشعبي
29/2/2012
رغم الحرب العدوانية التي يشنها النظامُ الدكتاتوري ضد الشعب السوري فإن أطرافاً كثيرة مترددة لأسباب سياسية كبيرة مخفية، وقوى شرقية شمولية تستميت في الدفاع عن النظام.
النظام يجابه الشعب بالمدافع والصواريخ ومؤتمر تونس يدين ويعترف بالمجلس الوطني بشكل محدود، ويترك الحل الجذري للمستقبل.
عمليات الذبح التي تحدث بصور مروعة، يقشعر لها كل كائن بشري، والبعض يقارنها بأحداث أخرى ويطلب أن تعطى تلك الشعوب الحسم نفسه المراد للثورة السورية. وهي آراءٌ تدافع عن هذا النظام الفاشي بكلمات النضال وغيرها.
الشعب السوري لم ينزلْ لأرض الثورة بتخطيطٍ مسبق، ولا بإعدادٍ من جماعةٍ تنتمي إلى طائفة، أو بكوادر من قومية ما تنبذ القوميات الأخرى، بل بسبب ملايين نزلت بشكل عفوي واسع النطاق، نتيجة أحداث سلخ أجساد أطفال واتسعت من درعا إلى كل مكان.
الثورة هي فعل شعبي عفوي، حين يصل شعبٌ ما إلى درجة عدم الاحتمال.
طبيعة الثورة تختلف عن الأعمال الطائفية المُبرمجة، التي هي مؤامرةٌ أكثر منها هبة شعبية عفوية، ولهذا فإن عنصراً ما من الشعب أو الأمة، لا يستطيع أن يوجد حراكاً سياسياً موضوعياً، بل الثورة هي فعل الشعب العفوي الواسع النطاق الذي يحدث بسبب أزمة عميقة لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزها.
الثورة هي عجزٌ من الطبقات العليا أن تحكم وفعلٌ من الطبقات الشعبية لأنها لا تستطيع أن تواصل البقاء في ذات الظروف.
لقد وصلت الطبقاتُ الشعبيةُ السورية إلى الفقر المدقع، فعدة ليرات كدخل يومي أمر غير محتمل، وقد احتملته هذه الطبقات على مدى سنوات، والنظام يصرف على التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل من دون أثر لهذا الصرف سوى ضخامة الأداة العسكرية وتكوين طبقةٍ خاصة هيمنت على أغلبية الثروة.
هل يمكن أن نقارن دخل الفرد السوري الشعبي بدخول الأفراد في دول الخليج مثلاً؟ من المبالغة قول ذلك. وإذا قيل فهو أدلجة فاقعة وتسييس حاد.
الأزمة الثورية السورية أزمة موضوعية غير مختلقة، وقد عصفت بالنظام وهزته بقوة كبرى، وقام بذلك الناس العاديون الكادحون هؤلاء الذين وصلتْ معيشتُهم إلى الحضيض، فضحوا بدماء غزيرة.
وهؤلاء لم يشتغلوا لفصل سوريا لأنها جزء من المحور السوري الإيراني، ليس ثمة أي كلمة أو وثيقة تقول هذا، وهم لم يشتغلوا لتحريك الجامعة العربية، بل ناضلوا من أجل تغيير نظام أطبق على معيشتهم لحد الاختناق.
السبب معيشي اقتصادي، ومن هنا كان الفقراء العاملون هم قواعد هذا التحرك وينطلقون فيه من خلال ما يتوافرُ لهم من أمكنةِ تجمع عبادية، خضعت هي الأخرى للحجر والضرب، لكن غدت كل الأماكن مفتوحة للثورة بعد ذلك، فقد طلعت من بؤر التجمع وحولت كل مكان للتجمع.
هذا التحول يثبت عدم التخطيط والبرمجة وعدم الاعتماد على التآمر وعلى عدم الارتكاز على جماعة قومية أو دينية غير متضافرة مع بقية الناس، ثم جرى التحول إلى نضال في أغلبية الطوائف والقوميات وامتلأت الخريطة الوطنية كلها بفعل الشعب، فحدث تدفق هائل من الأرياف والمدن نحو المراكز الكبرى الحاشدة بالجيش والشرطة والثروات المنزوعة خلال عقود.
إنها ثورةٌ وليست تآمراً لأن الضرب بالمدافع لعدة مدن يلهبُ مدناً أخرى، وحشودُ المدن التي تندفع للاحتجاج لم تحدث بسبب عوامل ذاتية مؤقتة، ولم تلتهب في أمكنة من دون البلد بشكل تأزيمي بل عصفت بالساحات كلها.
لكن المغامرين والمذهبيين السياسيين المحافظين والمشتغلين بالأزرة الخارجية وأصحاب الوكالات لا يعرفون الفروقَ بين الثورة والعمل النخبوي، بين النضال الوطني والعمل الطائفي.
الثورة فعلٌ داخلي شعبي يمسُّ بكهربائه كل الناس، فيفصلون مذاهبَهم وأزياءهم البلدية والقومية ويتحدون لانقاذ وطن من كارثة كبرى.
لهذا فإن جماعات الوكالات ومندوبي الدول الأجنبية يريدون تحويلَ أفعالهم إلى ثورة وتغيير من موقع الطوائف ولا يقدرون، ويضربون رؤوسهم في حصى الواقع العنيد، ومن هنا يهز فعل البسطاء في سوريا العالم بأسره، وتعجز صواريخ المتآمرين وبنادق الوسطاء أن تبدل واقعا ولم يستطع تجمعات الطوائف في لبنان بأحزابهم الطائفية أن يغيروا شارعاً من الشوارع، أو أن يحتشدوا من أجل إنقاذ بلدهم من المذابح والحروب الأهلية وحروب الحزب الواحد، وأن يكونوا خريطةً وطنية تذوبُ فيها كوارث التفرقة للعصور الوسطى.
الثورة ليست فعل مثقفين وسياسيين نخبويين والمتاجرين بالشعارات ومندوبي الدول الأخرى والمتطلعين للنفوذ والهيمنة، الثورةُ فعلٌ شعبي، يقوم به هؤلاء العامة الأبطال!
وعلى النقيض هذا ما فعلتهُ الطوائفُ السياسية وحصرتهم في زاويا ضيقة، وراحت تخنقهم وهم غير قادرين على نقدها والتنصل منها، وعندهم الكثير من الأموال والسلاح، ولديهم خرائط سياسية واسعة، لكن البسطاء العاديين في تونس وسوريا ومصر لم تكن لهم سوى وحدتهم.
من يحافظ على شعبه موحداً لا يخاف من الثورات، والمذهبيون السياسيون والدينيون المتعصبون الذين يعيشون على تفكيك الإسلام والمسيحية لا يستطيعون صنع ثورة، أو إبقاء خرائط بلدانهم بعيدة عن التفكك والانهيار.
وأن الأمور التاريخية في بدء سريانها، وإذا كانت كل ملاحم الشعوب العربية لم تنور الأذهان المحافظة المذهبية الناقعة في الماضي، فإن الإعصار مستمر، حتى يطيح بمرتكزات هذين التفريق والتمزيق للأمة العربية وللأمم الإسلامية، ويجعلها متقاربة متعاونة.
إيصال الناس إلى حافة الجوع وعمق الفقر للصرف على السلاح والصراعات السياسية الخارجية هذا ما يوصل إليه، وهذا ما شكل العاصفة المتجهة للعواصم المؤججة للصراعات بين أهل المنطقة وهي في إنطلاقها العنيف تؤدي إلى خسائر جسيمة للجميع لكن أصحاب الفيتو لا يتعلمون حتى تقتحم هذه العواصف بروجهم المشيدة.

الثورة السورية ونموذج ليبيا
10/3/2012
رغم تفرد جيش النظام الدكتاتوري في سوريا بالشعب ذبحاً وقصفاً إلا أن المؤسسات العربية والدولية لم تقمْ بفعلٍ يتناسب مع كل هذه المجازر.
فيما أسرعت هذه القوى لنجدة الشعب الليبي من مذابح العقيد المجنون، مما أنتج موقفين شديدي الاختلاف، ومعايير مزودجة حادة، فلماذا هذا التناقض الكبير؟
لم تكن في ليبيا قوى مدنية ديمقراطية متجذرة، وقد أطاحتْ الدكتاتوريةُ الشديدةُ الفرديةِ والتطرفِ ببذورِ التحضرِ المدني فيها والتي زرعتها العهودُ السابقة، والأهم أن الثورةَ النفطيةَ الكبيرة أُهدرتْ على حروبٍ ومؤامرات ومشروعات خيالية.
كما أن وضع ليبيا الوسطي الجغرافي بين نظامين تغيرا هما النظام التونسي والمصري، فلم يعد تغيير ليبيا بالتالي يثيرُ أيةَ حساسيةٍ سياسية لنظامٍ ما، ماعدا داركوالات الرأسماليات الحكومية في آسيا وبقايا الدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية.
الثروة النفطية الهائلة ومصالح الشركات النفطية الغربية الكبرى وعدم تحريك حالات سياسية غامضة في المنطقة، هي كلها أدت للتعاون المشترك للقضاء على هذه الجرثومة الخارجة عن البشرية التي اسمها نظام القذافي.
وما كان للشعب الليبي وقواه السياسية أن يتغلبوا على ذلك النظام المماثل للنظام السوري الراهن بسببِ آلتهِ العسكرية الهائلة، وبطشه الوحشي ووجود عصابات سياسية عسكرية كبيرة مؤيدة له. ولو لم تأتِ القوى الغربية بطائراتها وتضربْ الآلةَ العسكرية من الأعالي المسيطر عليها كلياً لكان الشعب الليبي لايزال يُعجن ويُدمر بالآلة العسكرية الفاشية.
وها هو الشعب السوري يُترك مذبوحاً وله الظروف نفسها رغم وجود الأغلبيةِ الكاسحة من الشعب المتعلم ذي الجذور الحضارية القادر على إنشاء تجربة ديمقراطية عقلانية واحترام جميع الدول المحيطة به.
هناك أسبابٌ عميقة لهذا الموقف السلبي المخيف، فالدولُ العربيةُ خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، لا تستطيع أن تدخلَ تجربة عسكرية تدخلية تثيرُ حولها المنطقةَ وخاصة النظام في إيران، الذي ينتظر أي فرصة لزيادة القلاقل والكوارث في المنطقة من أجل الحفاظ على بقاء الأنظمة العسكرية والنظام السوري يمثل ركيزة كبيرة من سلسلة هذه الأنظمة.
وغدا موقف دول المجلس موقفاً ناقداً لأعمال النظام في سوريا، وموجهاً المجتمع الدولي لاتخاذ موقف معتدل يتمثل في تنحية رئيس النظام السوري وفتح الطريق للتغييرات المحافظة على جوهر النظام، ولعدم الانجرار في حرب أهلية.
لكن رئيس النظام والجماعة القائدة لم يعد لديها علاقة بالاعتدال والحلول العقلانية والتفكير بمصير الشعب السوري، وهي تريد الحل الذي اختارته هي وهو ذبح المعارضة ومراكزها القوية وكانت مذابح حمص صورة مروعة لكيفية المجازر التي أرتكبتها القوى الفاشية في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام ويوغسلافيا ولكن المجتمع الدولي كان ولايزال مقيد اليدين.
والجامعة العربية التي قادت الهجمة على ليبيا وفتحت المشروعية للتدخل الدولي عجزت هنا عن فتح إنقاذ الشعب ليس فقط للفيتو من قبل روسيا والصين بل لأن العديد من دول الجامعة لا تريد تكرار النموذج الليبي فثمة خوف كبير على أنظمتها وما يفتحه تغيير سوريا من تغيير على العراق ولبنان وإسرائيل والأردن.
إن وجود نظام مماثل للنظام المصري الجديد سوف يقود لتحولات خاصة في العراق والأردن، وسوف يحدثُ انقلاباً مناطقياً كبيراً لا يُعرف مداه، وربما يمتد ذلك حتى الخليج ولهذا فإن التردد كان سيد الموقف.
كذلك فإن إسرائيل بتطرفها الديني السياسي المتزايد تضع نفسها أمام المد العربي مستثيرة صراعاً دينياً، بدلاً من القبول بتحولات ديمقراطية عصرية بعيدة عن زج الأديان في الخلافات.
والعراق ولبنان يعيشان نظامين طائفيين سياسيين، فيخشيان من تحول سوريا وقلب المعادلتين السياسيتين فيهما.
مع انتصار الثورة السورية تصبح الحكومتان في هذين البلدين في مهب الريح، وتغدو استمرارية نظام الطوائف الجديد خطرة على الشعبين وعلى شعوب المنطقة بأسرها، وليس ثمة طريق سوى تكريس الوحدة في كل شعب، وتنمية طرق التغيير السلمية الديمقراطية المقبولة من الأغلبيات.
والأسئلة القوية التي تطرحها الثورة السورية أن ما جرى خلال الثلاثين سنة من إشعال الطائفية السياسية وتحويلها لتدخلات وصراعات قد ردتْ على مثيريها والمروجين لها بأكثر مما توقعوا من كوارث وهزائم شنيعة.
الهزيمة الكبرى هي أن تأجيج الطائفية السياسية واتخاذها قناعاً للقوميات الشمولية غير القادرة على خلق حريات لشعوبها قد ارتدت عليها وظهروا بمظهر أعداء الحرية.
الشعب السوري راح ضحية لتعاون مختلف أنواع الشموليات الشرقية العسكرية ومن عجز الديمقراطيات الغربية الرأسمالية المساندة للدولة الدينية العنصرية الإسرائيلية، في تناقض فاضح مع أسس الحداثة والديمقراطية والعلمانية غير المطبقة في سياساتها الخارجية باتساق نضالي.
وقد تُرك الشعب السوري لقطعان الفاشيات الضارية في دول المنطقة تأكلُ لحمَ الشعب بشكلٍ يومي مخيف، والكثيرون من الأشقاء خائفون من تفجير صراعات المنطقة لأقل تدخل.
ليس ثمة من مخرج سوى تصاعد نضال الشعب السوري نفسه وتحول الجيش السوري الحر إلى قوة كبرى، يجري مساعدتها شعبياً وعربياً بكل الطرق، وهناك خطوط اتصالات قوية ومتعددة بين الشعوب العربية يمكن عن طريقها إحداث هذه النقلة ووقف المذابح وتغيير النظام.

الثورةُ السوريةُ وتباينُ مواقف الشيوعيين
21/3/2012
مع تطور هيمنةِ البرجوازية البيروقراطية في أنظمةِ رأسمالياتِ الدول في فصلِ العديدِ من الفئات والشخصياتِ عن جماهيرها الشعبية وتوجهها للاندماج في هذه البرجوازيات وأطروحاتها الزائفة عن التحول الاشتراكي أو القومي أو الوطني، استطاعتْ قوى عديدة في هذه الأحزاب من الانفصال عن هذه القيادات والانخراط في النضال الشعبي ضد الدكتاتورية العنيفة.
ولا تخجل قيادةُ الحزبِ الشيوعي السوري الموحد من إصدار بيان يؤيد مشروع التصويت على الدستور بنعم في خضم المذابح الرهيبة التي يقومُ بها النظام التي تجرى في الكثير من المدن السورية ويُضاف إليها تفجيرات النظام نفسه في المدينتين الرئيسيتين دمشق وحلب اللتين يسيطر عليهما بشكل واسع.
يقول بيانُ الحزب المذكور:
(وقد احتوى المشروع على عدة نصوص إيجابية أخرى تكفل حرية القول والتعبير ومساهمة الأحزاب في الحياة السياسية، وصون الكرامة الشخصية وعدم توقيف المواطن إلا بقرار قضائي وحق التظاهر السلمي، وحق الإضراب عن العمل وتكوين الجمعيات واعتبار المواطنة مبدأً أساسياً، وعدم التجديد لرئيس الجمهورية إلا لولاية واحدة، وبناء الاقتصاد على أساس التنمية والتخطيط والعدالة الاجتماعية).
من المؤكد أن الأفواهَ الحرةَ هنا مغلقة، والتباينُ شاسعٌ بين ضرب المدن بمدافع الدبابات وبين مثل هذه اللغة الرقيقة التي تريدُ صونَ الكرامة الشخصية وحق الاضراب عن العمل، في وقت تمت استباحة الحياة فيها وأُهدرت الكرامة البشرية.
وصلت الانتهازية هنا إلى ذروتها في هذا العمى السياسي، وعدم احترام الذات بالصمت إذا كانت الجثثُ السياسيةُ وصلت إلى هذا المستوى من التفسخ.
في مواجهة ذلك ثمة القواعد التي لم تتلوث، ولم تعش هذا الانفصال المنفعي وقاربت عنفوان الشعب في ثورته ضد نظام فاشي واجه الناس العاديين والمدن بالقذائف والمجازر.
يقول أحد بياناتها:
(في هذه اللحظة التاريخية التي يمر بها شعبنا السوري، وفي ظل التضحيات العظيمة التي يبذلها من أجل استعادة حريته وكرامته، وإيماناً منا بمشروعية الأهداف ونظافة الوسائل التي تبنتها الحركة الجماهيرية منذ انطلاقتها حتى الآن وقد كنا مشاركين بها منذ لحظة انطلاقها في كافة المدن، نعلن، نحن بعض قواعد الحزب الشيوعي السوري وكوادره، انحيازنا التام والنهائي للانتفاضة السلمية الباسلة، ونعتبر أنفسنا جزءاً لا يتجزأ من مخاضها الثوري).
بطبيعة الحال هذا موقف متأخر كثيراً، كما فيه من بساطة الوعي الشيء الكثير، وهو أمرٌ طبيعي لدى هؤلاء العاملين في ما تُسمى أشكال الوعي (الشيوعي)، وهي ليست سوى أشكال من الوعي البرجوازي الصغير التابع للمافيات الحاكمة حيث عاش هؤلاء الأعضاء بعيداً عن فهم النظام الرأسمالي الحكومي الشمولي الذي راح يتحلل على مدى ربع قرن، في قمعه المتواصل للجمهور وتدخله في قمع الشعب اللبناني وفرض حكم الطوائف الاستغلالية المحافظة عليه، سواءً على المستوى السوفيتي المركز المصدر لمثل هذه الأفكار~ الأوهام، أم على مستوى النظام السوري المستورد لها والمحول لها لنظام استغلالي طائفي محافظ.
غيابُ نضالِ هؤلاء من أجل الديمقراطية والليبرالية والماركسية وتماهيهم مع وعي اشتراكي زائف، يُصورُ تحكمَهُ في المُلكية العامة بأنه اشتراكية، يتوضحُ في صمتِهم وغفلتهم على مدى السنوات المصيرية السابقة، في السكوت عن قمع الناس وصمتهم على تصاعد الآلة العسكرية الهائلة للنظام وتشكيل جبهة وطنية ليس فيها من الجبهة شيء، ورضاهم بقمع القوى السياسية المختلفة بما فيها قمع الدينيين والبعثيين الآخرين فليست الجبهة المذكورة سوى ديكور سياسي استعراضي لدكتاتورية عائلة الأسد والمقربين منها.
لكن الأوان لم يفت هؤلاء المنسحبين من الانتهازية عبر فهم طبيعة هذا الانسلاخ الفكرية العميقة المفترضة، وتوجيههم الناس نحو الحداثة الحرة والديمقراطية وتكوين سوريا جديدة موحدة ذات تطور ديمقراطي تعددي حقيقي وتركهم الكليشهات الزائفة للبيروقراطيات (الاشتراكية) المزعومة وحفاظهم على القطاع العام متجاوزاً للهيمنات الحزبية المختلفة وتعبيره عن مصالح الشعب بأسره، وسبرهم أغوار المجتمع بالتحليل ورؤية صراعاته الاجتماعية القادمة بخطورةٍ وبشراسةٍ وصعوبةٍ وتضخمَ الوعي الديني السطحي اليميني وهو يشكل خطراً آخر على مصير الثورة وتطور الشعب السوري وكذلك الاحتمالات الرهيبة لتطور الإرهاب وقوى التفكك القومية والطائفية.
إن وقوقف قيادات «يسارية» مع نظام بهذه الدموية هو أمرٌ لا يُصدق ومأساوي لكنه يدل على مبلغ الفساد في هؤلاء وتوقف أدوات التحليل الموضوعية لديهم، وتوقفها هو تعبيرٌ عن العلو عن التراب والناس والتماهي مع القوى الاستغلالية، لهذا تغدو اللغة وقد فقدت قدرتها على ذكر الحقيقة البسيطة المشاهدة من ذبح وكأنها أُصيبتْ بالعمى الكلي.

الثورةُ السوريةُ.. وتطورُ الأمةِ العربية
2/4/2012
كانت سوريا من الدول التي ترعرتْ وتنامتْ فيها أفكارُ القومية العربية جامعةً بين إرثٍ إمبراطوري عربي وبين الأفكار القومية النخبوية من ألمانيا وإيطاليا، فتشكل مزيجٌ متناقض من الوعي القومي غيرِ الديمقراطي ومن تطلعات الحرية للشعوب العربية، ومن عمليات القفز على الواقع المتنوع المضطرب لتكويناتِ الشعوبِ العربية المفككة في بناها وتطورها.
الرغبة في التسريع والقفز على الظروف وعدم مراكمة البذور الديمقراطية الاجتماعية، وتكوين تحالفات للفئات الوسطى والعاملين متجذرة في أسسٍ ديمقراطية، هي أمورٌ تجسدت في عملية الوحدة مع مصر في الخمسينيات ومباحثات الوحدة الثلاثية في الستينيات وفي هيمنة حزب البعث وأطروحاته حول التوحيد الفوقي للشعوب العربية، ثم في غزو لبنان وفرض إرادة حكومية سورية عليه.
وبهذا فإن قوى الهيمنة البيروقراطية العليا سيطرت على الجمهور السوري نفسه ومنعت تنوعه، وأقامت هيئات توحيدية شكلية، مما حّول الدولةَ إلى أداةِ قمعٍ داخلية وخارجية، بدلاً من أن تكون أداة توحيد وطنية وقومية.
غياب القدرة على توحيد الشعب بشكل ديمقراطي تنعكس في مشروعات قفز على النسيج الداخلي الوطني والمذهبي والقومي المتنوع المشتت وتتحول إلى قفزة للخارج وهيمنة على شعوب شقيقة.
هذا الفشل في نمو التوحيد يعكس الفشل في نمو التوحيد الاجتماعي بين المالكين الديمقراطيين والكادحين، مما يؤدي إلى موت الفكرة القومية العربية، وقيام القوى البيروقراطية الاستغلالية بالتلاعب بمصير الشعب والقيام بقفزاتِ على مسرح المنطقة، والاندماج في مشروعِ الهيمنةِ الشمولية الإيرانية الذي هو ذاته نتاجٌ مماثلٌ لغيابِ التوحيدِ بين طبقات الشعوب الإيرانية الأساسية، وإيجاد نسخة دينية عسكرية مغامرة تتحولُ إلى هيمنة وتوسع في الخارج.
لهذا يتحول الصراع مع إسرائيل إلى مغامراتٍ في لبنان وجمودٍ في الجولان، وهو أمرٌ مشتركٌ يعكسُ موقفاً مشابهاً بين دولٍ ثلاثٍ تعرقلُ تطورَ الأمة العربية وشعوبها.
جاءتْ الثورةُ السورية لتكسرَ بؤرةَ التجمع الثلاثية هذه، وتقوي إرادات الشعوب العربية في النضال المشترك وفي استعادة أراض محتلةٍ وتتصدى لعملياتِ اختراق أجنبية للدول العربية من قبل قوى سياسية متعصبة قومياً ودينياً.
لقد أدتْ الدكتاتورياتُ القوميةُ والدينية إلى تآكل الخرائط العربية في مناطق عدة، تقطيعاً وتغلغلاً وتفجيراً للنسيج الداخلي، وهو أمرٌ ينجح مع وجود تلك الدكتاتوريات التي لم تشكل التطور الديمقراطي التوحيدي بين القوى الغنية والفقيرة، وبين القوميات والمذاهب والأقاليم المتعددة في هذه الدول.
وجاء رد الشعب السوري مفاجئاً وقوياً على هذه الاختراقات، بادئاً من إعادة تأسيس اللحمة الاجتماعية المفككة بفعل الرأسمالية الشمولية الباذخة في دمشق، وهذه اللحمة لم تتشكل حتى الآن بشكل دستوري منهجي علماني، ولاتزال في لغتها السياسية لم تصل إلى قوانين الحداثة الديمقراطية مما يترك الفرص للقوى المعادية لاختراقها وتسعير العداوات بين الطبقات والمذاهب والأديان والمناطق فيها.
إن رد فعل الشعب السوري يتكون من النَفس المذهبي الديني التوحيدي العفوي لكنه لا يصل إلى التوحيد الديمقراطي الحديث بحيث يخرس الأصوات المشككة كافة في وحدته وإقامة نظام ديمقراطي حديث، كما أن قوى الشموليات المناطقية والعالمية نفسها تتكالب لضربه ومطاردة سكان مدنه الثائرة بكل أجهزة الحرب الفتاكة. مما يعبرُ عن خطورةِ المعركة التي يخوضها الشعبُ السوري وحيداً بين مجموعات الذئاب المتوحشة.
ومن الواضح أن المذهبيات السياسية ذات الاتجاهات اليمينية العربية الإسلامية غدتْ ركيزةَ التحالفات بين دول عدة، وهو أمر تخشى قوى متعددة مناطقية وعالمية من تحوله إلى دولٍ مترابطة أو دولةٍ واحدة أو إعصار ديني جديد.
وكونها كذلك يعني انها جاءت بعد قمعٍ طويلٍ للبذور الديمقراطية التحديثية، وهو ما يجعل التُرَبَ الديمقراطية الجديدة هشةً، وتغيبُ منها التحالفاتُ بين الفئات الوسطى والعمال، وهي الأسسُ التي ضاعتْ في الدولِ الشموليةِ السابقة ولم تتشكلْ في الدولِ الجديدة إلا في أثناء بذل الدماء في الشوارع وليس في الوصول لكراسي البرلمانات وكتابة الدساتير الجديدة.
ومن هنا يمكن أن يكون البعث العربي الإسلامي مغامرات أخرى في الساحات العربية ويمكن أن يكون توحيداً حقيقياً إذا كرس التحالفات الشعبية في كل بلد على أسس ديمقراطية أبعد فيها استغلاله للدين والمذهب والعنصر.
ولهذا فإن الثورة السورية وهي تجابه الهجمات الرهيبة فإنها تجابه كذلك هذه الأسئلة الشكاكة في مدى اقتراب المذهبيين السياسيين من الديمقراطية والحداثة، ومراعاتهم للطبقات المتعاونة المكونة للهيكل الاجتماعي، وللقوميات والمذاهب المكونة للعنصرين الإثني والديني.
فقد غدت بلادُ الثورات قوساً كبيراً بين إفريقيا وآسيا، وصارت ظاهرة عالمية، وعبرت عن تطورٍ عميقٍ مضمرٍ لتحول الأمة العربية من كيانات بلا ملامح متجذرةٍ في الأرض إلى أن غدت تنمو من هذه الأرض العربية نفسها ومن تراثها، وبين أسسٍ قديمة وطموحات ديمقراطية عصرية متقدمة.
عمليات الترابط النضالية التي قامت بها المذهبيات السياسية قد تكون قفزة للإمام وقد تراوح في أحوال الشموليات السابقة، وبهذا فإن التضحيات الجسيمة تذهب أدراج الرياح، كما أنها تضعف الثورة السورية الراهنة المشتعلة الآن التي لم تنتصر بعد وقد تُهزم إذا كانت الأنظمة الجديدة لم تساعدها ولم تقدم نماذج مقنعة للشعوب لكون ما يناضلون من أجله ليس نسخاً بل ولادة حقيقية.
حقيقي المفقود.
حين استعادَ المسلمون وجودَهم الحديث وجدوا أنفسَهم تابعين لحضارةٍ جعلتْ من المصنعِ أساساً لوجودها وسيطرتها وتوسعها، وخصصتهم في المزرعةِ والسوق. وحين أسلاس المسلمون مصانعَهم كانت كذلك منتجةً لموادٍ خام للمصنع الغربي المسيطر، وقدموا المواد الخام لها بأقل الأسعار. وهو أمر أدى إلى تناقض العالم العربي بين نمط يسترخي في ظل أسعار نفط وثروة بلا قوى منتجة عربية متطورة وأشكال من العمالة المجلوبة التي لا تعمق الإنتاج، وبين فقرٍ عربي يفتقد الثروة ويعيش العمالة في حدود الكفاف.
الليبرالية الأولى التي ظهرت في العالم العربي كانت استيراداً فيما العاملون يعيشون في أوضاع عبودية، فهي لم تمد يدها بقوة وعمق لتغيير أوضاعهم، ولكي يكونوا شركاء لها في الوطن والسياسة والحرية، فجاءتْ الشمولياتُ العسكريةُ لتلغي الليبرالية والديمقراطية ولكنها حولت العاملين إلى ما يشبه العبيد في المصانع، فلم تصنع لا ديمقراطية ولا اشتراكية.
ركز المتابعون للتراث والحافرون من خلاله لرؤى سياسية على استعادةِ الشكلاني والجزئي، وعدم قراءة الجوهري، والتركيز في السطحي يقود لاستعادة الملابس والأشياء الخارجية والجمل المحفوظة وليس قراءة التحالفات الاجتماعية الأساسية وتكويناتها الفكرية الثقافية واستعادة حضورها بأشكال أكثر تطوراً وعصرية.
ظهر المصنعُ الآن بشكل واسع ولكنه في وضع مضطرب، لم يتحول إلى مهيمن على البُنى الحرفية والزراعية، أو لايزال تابعاً للغرب يقدمُ مواد خاماً، أو يجلب عمالةً غير عربية وغير مغيرة وغير متجذرة في نمط الانتاج، ولهذا فإن التحالف الاجتماعي الجوهري مختلٌ عبر عدم قدرة الفئات الوسطى لتوسيع التصنيع وإعادة تشكيل المجتمعات، وتوجهها للأرباح السريعة ومنافعها المباشرة، وتحويل العاملين لأجراء متخلفين، كذلك يظهر لنا المشهدُ العامُ الاختلالات في العمالة العربية بين عطالة في بلدان وجلب عمالة أجنبية في بلدان أخرى، أو تضخم العمالة الإدارية.
كذلك يظهر الصدام بين الرأسماليات الشمولية العسكرية الحادة والرأسماليات الليبرالية الضعيفة المتخلفة، فيحتاج العرب والمسلمون إلى تجاوز ذلك عبر أشكال متقاربة من التطور، وخاصة في الأنظمة الجديدة الحائرة بين أشكال التطور السياسية الاجتماعية، التي يركز بعض منظريها ومثقفيها السياسيين في الجزئيات والسطوح وفي القراءات غير الاجتماعية.
في حين تحتاج هذه التطورات إلى دراسات لكيفية تطور الثورة الصناعية الديمقراطية، وإعادة تشكيل رأس المال وقوى العمل، لهدف تلك الثورة ومقاربتها في ظروف كل بلد، لكن هذا لا يتم من دون التحالف الاجتماعي وظهوره بأشكال سياسية وتعاونية مختلفة.

الثورة السورية والخذلانُ العربي والدولي
3/5/2012
تفجر الثورة السورية وسط المحور الإيراني السوري الإسرائيلي، من قوى شعبية ريفية في الأغلب، جعلها تخوضُ صراعاً ضارياً طويلاً دموياً.
هذا الذبحُ الفاشي من قبل عصابات سوريا وإيران والعراق، يواكبهُ تأييدٌ مبطنٌ أو صمت سامّ من بقية المحور أي من إسرائيل.
إسرائيل ليست داخلة رسمياً في المحور، بل هي عدوته في نزعاته الحربية ضدها، لكن نزعاته كانت لفظيةً، وتخريبيةً للوضع المادي وتحطيميةً للوحدةِ الشعبية في لبنان، وهي قابلةٌ بجمودِ جبهتهِ على الجولان الذي أتاحَ لها التفردَ بالشعب الفلسطيني واستمرار وضع الاحتلال والتهام الأراضي الفلسطينية وخاصة في القدس، مرحبةً بصواريخ غزة الإيرانية لتعطيها الفرصَ للسيطرةِ الدكتاتورية الحربيةِ على الشعب الإسرائيلي، وتحويل المعركة ضد العسكرية والفاشية إلى صراعٍ ديني بين اليهود والمسلمين
هذا الوضعُ الثنائي من الجانبين الفاشيين الطائفيين في القسم (العربي الإسلامي)، وفي القسم الإسرائيلي، أتاحَ ذبحَ الشعب السوري بكلِ هذه الوحشية وعبر مستنقعاتِ البرود والتخاذل، والتعاون المتكالب على هؤلاء البسطاء المسالمين الذين يخرجون للمطالبة برحيل مثل هذا النظام الذي أوغل في دمائهم.
هذا درسٌ بليغٌ للذين مازالوا مخدوعين بصواريخِ الإرهاب وجمل النضال في هذه العواصم، حيث تتحول صواريخ حزب الله إلى بنادق تقتلُ السوريين، وعصابات الحقد الطائفي في العراق تتحولُ شبيحةً وحرساً يسحقُ ثورةً شعبيةً عارمة من دون أن يقدروا، مثلما رفاق الدرب الطائفي الفاشي المشترك في البحرين يحاولون خلط الأوراق وخداعَ الرأي العام بأنهم مناضلون يتعرضون لذبحٍ مماثل! فيبعدون الأنظارَ عن مذبحة الشعب السوري الحقيقية، وهم الذين يحرقون ويتسببون في موت المواطنين في البحرين.
والصمتُ والتخاذلُ امتدَ إلى دولٍ أخرى، اكتفتْ بالبيانات المنددة، فخاف النظامُ في الأردن أن تمتدَ الثورة إليه، فتراجعَ عن مواقفه المؤيدة للثورة بسبب قيام الجماعات المذهبية السنية بتفجير الصراعات في الأردن بدلاً من التركيز في تطوير النظام الديمقراطي، ومساعدة الشعب السوري ضد الإبادة التي يتعرض لها.
ثمة تداخلٌ معقدٌ فالمنظمات الطائفية والقومية الشمولية الأردنية لها جذور وعلاقات مع النظام السوري المتوغل فيها، حيث عاشت هذه المنظمات على تأييدِ ومساندة الأنظمة الشمولية في المنطقة مثل حركات (المقاومة) الفلسطينية الباسلة!
وكانت علاقاتُ المنظماتِ الأردنية بالنظام العراقي الدموي البائد نموذجاً على توغل الفساد السياسي فيها وعلى علاقاتِ الأشقاء في دهس الجماهير، وعلى غيابِ أقل درجات التبصر السياسي فيها، فيأتي تفجيرُها للوضع في الأردن في هذه الفترة وخاصة مؤشراً على مساعدتها للنظام الفاشي الدموي في الجارة الشقيقة الشمالية لكن بألفاظٍ نضاليةٍ موجهة لتفجير الداخل ولعدم مساعدة النظام للثورة السورية!
التحالفُ الإيراني السوري الإسرائيلي يمتدلا في أمكنةٍ كثيرة، فأطرافٌ عديدةٌ تشعرُ بالخوف من تحولات سوريا الملحمية هذه.
أين هم من الثورة العربية الكبرى؟! حين جاءت الثورةُ العربيةُ الكبرى الحقيقية خذلوها، والمدنُ العربية تُحرقُ أمام عيونهم، والضحايا المُقطَّعون يصلون إلى بيوتهم وساحاتهم وأسرةِ أطفالهم، لكن يغدو الوضعُ خاصاً بمنظمات الإغاثة الإنسانية والصليب والهلال ونجمة داود الحمراء!
العراقيون الثوريون أعداء صدام الألداء يتحولون إلى فاشيين بعد أن قبضوا على أعناق الناس في العراق وتمكنوا بمسدساتهم وخناجرهم وخرافاتهم من بيع عظام الكادحين العراقيين في السوق البيضاء، فيغيرون نشامى على الشباب السوري في أزقتهِ وتجمعاته يذبحون الناسَ على الهوية الطائفية.
الهويات الطائفية والدينية للأقليات الكبيرة: الإثنا عشرية والعلوية واليهودية، يعبر اصطفافها الغرائبي هذا، عن الاستغلال المتطرف للدين عبر شعائرية حادة في العادات وتم ذلك لإبعاد المؤمنين بها عن الذوبان في الآخرين الأغيار وتأسيس غيتوات التعصب العنيفة فيها، ولهذا سهل ذلك كله من إيجاد المتعصبين والعصابيين وسيرورتهم لأدوات بطش فاشية بالشعوب وخاصة الآن الشعب السوري.
والتحالف الغربي غير مسرع في إنقاذ الشعب السوري من حمامات الدم هذه، فهدمُ سوريا كقوة سياسية عسكرية وتقوية إسرائيل العدوانية، إيقاعان متداخلان، فتبقى إسرائيل قوة تابعة للولايات المتحدة وهراوة لضرب الرؤوس، كي يضعف نظام سوريا الاستبدادي لكن على شرط أن لا يُهزم أو يُسحق بأيدي الجماهير المنتفضة.
أو أن يتحول قادة الثورة السورية لاتباع لها، بحيث لا تفلت الخيوط من يدها ويقيموا نظاماً خطراً على الأنظمة الصديقة.
لكن الثورة في الداخل تتعمق وغدت العاصمة السورية دمشق مركزها، حتى بعد أن أوقف النظامُ السكك الحديدية لنقل الناس وخصصها لنقل الأسلحة والدبابات، وجعل من المنطقة الوسطى الزراعية المدنية المنتجة ساحات حرب للقضاء على معيشة المواطنين.

الإخوان المسلمون في سوريا
23/ 5 /2012
تحولاتُ العرب تبدو بأشكالٍ دينية وأيديولوجية لكنها صراعاتٌ اجتماعية معقدة، فنمو الرأسماليةِ الحرة لم يتواصل عبر الأنظمة الملكية والجمهورية العسكرية، وكان تجاوزها وإحداث قفزات كبرى في تطورِ الأمةِ العربية المأخوذة كجسمٍ واحدٍ يطير بقوة فوق التاريخ، هو السائد من قبل الاتجاهات المسماة اشتراكية وقومية.
بخلاف الجماعات المذهبية المُسيِّسة للإسلام التي ظهرتْ فوق الأرضية التقليدية للأملاكِ الزراعية والتجارة والخدمات الدينية الشرعية التي تقدمها للدول، والتي فزعتْ من هذه الدعوات، وخاصة مع تغلغل دعوات الإلحاد وإزاحة الأديان، وخاصةً ان تلك الدعوات بدت مشروعاً قابلاً للتنفيذ مع تصاعد حضور المعسكر(الاشتراكي).
أُخذتْ هذه التحولات من قبل زعماء الإخوان المسلمين عبر الخوف من ذوبان الإسلام والعرب في الهجوم الكاسح للغرب والشرق، وحولوا الدعوات الفقهية والإرشادية في المساجد والمدارس والتجمعات السكانية المختلفة إلى تنظيمات شبيهة بما يفعله الاشتراكيون والقوميون والبعثيون!
مضوا معهم في فكرة التنظيم الشمولي فغدا تنظيم الإخوان كلياً، من كونه دعوةً رياضية حتى رابطة سياسية، أما المضمون فهو بعث الإسلام بعثاً جديداً واستعادة الخلافة.
هي مضامين مثلت شموليةً سياسية أخرى، فما كان من خلافةٍ هو نظامٌ إقطاعي تفتت بسبب أسلوبِ إنتاجٍ متخلف، فيغدو البعثُ الديني هنا مضاداً للتاريخ وإبقاءً على علاقات اجتماعية وسياسية محافظة.
في حين أن البعثَ السوري كتنظيمٍ يتوهمُ هو الآخر صناعة الاشتراكية وهدم الواقع والإرث ونقل العرب نقلة عصرية كلية.
تقوم هذه التصورات على أدلجاتٍ انتقائيةٍ للبرجوازيات الصغيرة من مواقع فكرية مختلفة، كلٌ منها يزيلُ الآخر.
وأخذت الدعواتُ جانبها الأولي المنفتح في سوريا في زمنيةِ الاستعمار بسببِ غيابِ رأسماليةِ الدولة الوطنية الشمولية، وهيمنة المُلكيات الخاصة في الإنتاج، ولكن هذا الواقع راح يتغير مع استقلال سوريا وبدء تشكل الدولة الوطنية التي وقفتْ في مفترق الطرق التاريخية لا تعرف أي سبيلٍ تسلك.
سلوك هذا الطريق الخاص بالبلد تتحكمُ فيه المجموعاتُ السياسيةُ التي تشكلت خلال العقود السابقة، وبما خلقتُهُ من روابط مع السكان.
وكالعادة فإن العربَ مع افتقادهم للمؤسسات البرلمانية والديمقراطية الواسعة فإن السلاحَ هو الذي يقرر مصيرهم، مثلما جرى ذلك عبر القبائل المسلحة في التاريخ الماضي.
مؤسساتُ البرلمان والنقابات والأحزاب بدت عاجزة عن تحديد الطريق إلى التحول المطلوب رغم أن عدة سنوات من الحياة البرلمانية كانت خصبة، وحدثت فيها تطوراتٌ سياسية وثقافية هامة، وخاصة ان العسكريين بدأوا يتمرنون على النزول للشوارع، واختطاف الحياة السياسية والشعب.
عمل حزب البعث الثقافي التنويري الواسع اضمحل، وبدأت الدعوةُ للتغلغل في المؤسسات العسكرية مفتاح تاريخ المنطقة، وقد كانت الانقلابات العسكرية لسابقيهم بروفات لهم، وخاصة مع غياب الدعوات الفكرية الكبيرة للانقلابيين.
غدا التسلقُ السياسي العسكري أداةَ البرجوازيات الصغيرة السياسية للصعود التاريخي في كل الشرق، بحكم أزمة الرأسمالية المتخلفة، وهجمات الرأسمالية الغربية المتطورة، وتموّه ذلك بأسماء الاشتراكية والقومية.
النهضويةُ التدريجيةُ الإسلامية هي ذاتها ستدخلُ المسار الشمولي نفسه، وخاصة ان الشمولية العسكرية بدأتْ تدقلا أبوابَ سوريا مع حكم الوحدة مع مصر، وهي لم تحدد طبيعة النظام الجوهري الذي تريده، هي ذاتها كبرجوازية صغيرة مترددة بين الاشتراكية الحكومية الشمولية والرأسمالية الغربية.
وقد كتب الأستاذ مصطفى السباعي أول قائد للإخوان المسلمين السوريين كتاباً بعنوان (الإسلام والاشتراكية)، اعتذر عن عنوانه لاحقاً كما يذكرُ الشيخُ محمد الغزالي في سردهِ التاريخي عن جماعات الإخوان، كانت فيه مقاربة مع دعوات النضال الاجتماعي وأن الإسلام ليس بعيداً عنها، ومن هنا فإن جماعة الإخوان السوريين رفضت الانفصالَ عن الوحدة واتخذت خطاً مرناً بين التجمعات كافة.
لكن حزبَ البعث اقتحمته شهوةُ السلطة بقوة.
يقول الأستاذ ميشال كيلو: «كانت الأحزاب التقدمية تجنح نحو القوة في سياساتها وتخطب ود العسكر، لإيمانها أنها لا تقدر أن تغير نظاماً، وأن الجيش هو وسيلتها إلى الحكم، بينما بقي الإخوان المسلمون على خطهم القديم». ويضيف كاتب هذا البحث:
(نعم لقد تخلى كثيرٌ من قادة الأحزاب عن الأسلوب الديمقراطي، وتآمروا مع الانقلابيين على الحياة الديمقراطية، كما فعل «أكرم الحوراني» عندما باع الديمقراطية مقابل منصب وزارة الدفاع في أول وزارة تشكلت بعد انقلاب الشيشكلي في كانون الأول عام .1949 ومن خلال وزارة الدفاع، فقد أدخل «الحوراني» الكثير من البعثيين إلى الكلية الحربية، ليتخرجوا منها ضباطا كان منهم كل الذين شاركوا في الانقلابات العسكرية، التي تتابعت بعد ذلك على سوريا وكان آخرها انقلاب حزب البعث على الديمقراطية في آذار من 1963)، الطاهر إبراهيم: الإخوان المسلمون في سوريا نظرة عن قرب.
لقد تضافرتْ في أكرم الحوراني اتجاهات شتى، قومية واشتراكية ودينية وجهها كلها نحو بؤرة تحويل التاريخ: عسكرة المجتمع والسيطرة عليه بالجيش. وقد قادت الأسباب الغائرة في التطور الاجتماعي السياسي إلى صعود عسكريين بعثيين من طائفةٍ محددة غالبة، فيما كان الإخوان مع نزعتهم المدنية السلمية لم يعطوا(القابلةَ المولِّدة لكلِ مجتمعٍ جديد من رحمِ مجتمع قديم) حسب ماركس، أي اهتمام وقت صعود البعث العسكري.
كان الإخوان كسنةٍ من أنصار التطور التدريجي السلمي للمجتمعات.
وكان على الحوارني كذلك أن يجمعَ قوتين كبيرتين من البرجوازية الصغيرة المتعطشةِ للحكم هم جماعته (الاشتراكية) وحزب البعث في كيان جديد هو حزب البعث العربي الاشتراكي لكي يقفز للسلطة!
وحينئذٍ تم اختطاف سوريا.
تأتي جماعةُ الإخوان المسلمين في سوريا كغيرِها من المسلمين السنة فتعيشُ على ما هو سائدٌ في التاريخ، فضخامةُ عدد السنة في سوريا والمحيط العربي تجعل من التطور التاريخي البطيء المتدرج بصعوباتٍ شتى هو المسلك الطبيعي لها. هذا ينطبق على السنة من المذاهب الغالبة وليس على الحنبلية التي سوف تتوجه للمسارات البدوية العسكرية.
تأتي عملياتُ المغامرات العسكرية والسياسية والايديولوجية عادة من مذاهب أخرى أو من عناصر فردية وجماعية من السنة أنفسهم وقد اخترقوا ذلك التدرج الطبيعي.
إن الجسمَ الاجتماعي المحافظ المعتمد على قرون سابقة من خلال هيمنة القوى العليا الإقطاعية، ينقلبُ هنا فتقوم الشرائحُ الاجتماعية الصغيرةُ بدورِ الطبقات العليا السابقة، لكن التحولات تغيرُ ذلك المبنى القديم المحافظ، ولهذا فإن البرجوازية الصغيرةَ الإخوانيةَ في موقفٍ محير تاريخيا، وتقفُ على دروب شتى، وتستفيد مما هو متاح في اللحظة التاريخية وخاصة من الأنظمة التي مازالت تقليدية وتماثلها مذهباً وسياسة.
من هنا فإن انقلاب البعث وسياساته التحويلية التحديثية ومغامراته العسكرية كلها تثير الاضطراب والخوف في جماعة الإخوان والقوى السياسية الأخرى.
نشوء رأسماليةِ دولةٍ شمولية عسكرية وضعَ سوريا في مهب الرياح التاريخية العاتية، فمن التأميمات وضرب البنية الاقتصادية الخاصة وتصعيد البيروقراطية إلى جر سوريا للحرب مع إسرائيل وفقدان الجولان والهزيمة، وهي كلها تعبيرٌ عن مغامرات العسكريين في المنطقة وتوهمهم صناعة التغيير من خلال أدوات العنف، فيما أن الوطنية والقومية والاشتراكية تتحلل في الداخل وتغدو حكمَ طبقةٍ طائفية.
هنا سيكون اليمينُ العالمي والقوى الدينية التقليدية بالمرصاد لهذه القفزات من خلال مواقف شتى متباينة أو متعاونة أو متداخلة، وخاصة جماعات السنة التي أُقصيتْ وضُربت في أكثر من موقع وبلد عربي، وربما ترد بالأسلوب نفسه كما في العراق، أو تتبع الأسلوب السائد المتدرج في النمو.
إن الوعي الوطني الديمقراطي الذي كان يمكن أن يزدهر من خلال جبهات وطنية وتعددية حقيقية، تقومُ على تطور اقتصادي متعاون بين القطاعين العام والخاص، ودور تنظيماتهما في الوجود السياسي المتبادل، أُزيح عبر الشموليات، وخاصة من القابضين على السلطة وتصعيد جماعاتهم وامتيازاتهم.
ولهذا فإن مقاومة الإخوان المسلمين للبعث الشمولي، هي اللغة السياسية التي صعدت، المدافعة عن الجمهور والقطاعات الخاصة وبدأ الصراع لكن الذي تزيف وجهه الاجتماعي لصالح الطائفي السياسي، فلم يعتمدْ الإخوانُ المسلمون على شعارات الحداثة الديمقراطية بل على الطائفية السياسية.
بدا الصراعُ كأنه مواجهة بين إخوان تقليديين متخلفين في مواجهة بعث متقدم، لكن الأمر لم يكن كذلك، بل هو صراعُ القوى الاجتماعية المختلفة تجاه احتكار السلطة ورأسمالية دولة شمولية أخذ يتصاعدُ منها الفسادُ والعنفُ الدموي.
لكن المواقع الايديولوجية حيث كل طرف يستخدم لغته السياسية بمصطلحاتٍ تموه الموقف وأضاعت الحقيقة والتبست الأمور حتى الآن، فهو صراعٌ بين أشكال من اليمين المتعدد التوجهات والجذور الاجتماعية والمذهبية، وكله لا يقبل بالديمقراطية الحديثة وأسسها في العلمانية والعقلانية.
ومن هنا قفز الإخوان إلى العنف هم كذلك في مواجهة تصاعد البعث وتحولت إلى مواجهات دامية في السبعينيات من القرن الماضي، فهم رفضوا التراكم الديمقراطي وتشكيل جبهة ضد رأسمالية الدولة الشمولية، وكانت قفزتهم للعنف تعبرُ عن رغبتهم الكاسحة المغامرة في الوجود ضد نظام ألغاهم كليا.
تحولاتهم الراهنة جاءت في خضم صراعات العامة ضد النظام الذي تضرروا منه، وليست من خلال قراءات عميقة للإسلام والتاريخ وصراع الطبقات على مدى العقود السابقة، بل هي مواقفٌ سياسية قشورية لا تسندها أبحاثٌ وانتشارٌ لوعي متقدمٍ بين هذه النخب، وهي تحاولُ تعويضَ ما فاتها من طمسٍ وتوظف الأزمة الراهنة لمشروع سلطة الإخوان وليس سلطة الشعب الديمقراطية، وهو أمرٌ يعيدُنا للحلقة المفرغة ذاتها.
أي أن حزبا مذهبيا سياسيا يستمر في إنتاج نظام جماعة مهيمنة، في المستوى السياسي كالبعث، ولكن أيضاً مهيمنة في الشرع والأحوال الشخصية كذلك، وهو ما يقود لسيطرة المحافظة الاجتماعية واللاعقلانية والحكم المذهبي السياسي وليس الديمقراطي العلماني الوطني التعددي.
وكان آخر الصفعات التي وجهتها جماعةُ الإخوان المسلمين للمواطنين السوريين وللرأي العام رفض انتخاب مسيحي سوري لرئاسة المجلس الوطني قبل أيام بعد أن قالت ما قالت عن الوطنية والحداثة والديمقراطية.
أي أن دكتاتورية هذه الجماعات مستمرة للأسف رغم التطور الهائل الذي حدث في العالم، وما يجري من تركيز في مهمات الاقتصاد والتنمية والعدالة وليس في الطوائف وحصصها في المجالس.

الشيوعيون العربُ والثورة السورية
26/5/2012
صارت الثورة السورية مفصلا تاريخيا لتحديد تطور الاتجاهات الرأسمالية الحكومية المستوردة من الخارج أو الطالعة حديثا.
الأحزابُ الشيوعية العربية لم تستطع تطويرَ الماركسية داخلها، نظراً إلى تبعيتها للمركز الروسي أو للمركز الصيني، اللذين كانا شكلين لتشويه الماركسية في الشرق بسببِ نموهما بحسب رأسمالية الدولة.
لقد شرحنا مراراً كيف أن سياسات القفزات في التغيير قادت لهيمنة الدول، وكيف أن الجذورَ القوية للشموليات في روسيا والصين وإيران حاليا وغيرها من الدول التي جذرتْ سيطرات الدول في الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين وضيّقتْ الخناقَ على التنوع والليبرالية تعدلا نماذجَ في حالاتِ أزمةٍ بنيويةٍ تاريخية، في حين استطاعت شعوبٌ عربية في بعض الدول أن تخترق الشموليات الرأسمالية الحكومية لأسبابٍ كثيرةٍ تم عرضها.
كثيرون لا يفهمون مثل هذا التعقيدات على المستويين العالمي والقومي، وعلاقاتها بالأحزاب والطبقات والطوائف.
التياراتُ التي تسمت بالشيوعية قفزتْ لمهماتٍ فوق قدراتها، وارتبطتْ بايديولوجيات خاطئة في رؤيتها لطبيعة التطور في الشرق، وقادها ذلك للتآكلِ التدريجي نظراً لقيامها بنضالات حادة، مضادة للتطور الحقيقي، وعدم قدرتها على القراءة الموضوعية والنقد وإعادة طرح تحليلات حية مع التطور.
الطريق الذي عبدتَهُ ضد الرأسمالية هو الطريق نفسه الذي أنشأ رأسماليةً حكومية شمولية، فلم يتحققْ التطورُ الديمقراطي، ولا هُزمتْ الرأسمالية.
قاد هذا التطرف إلى اشتباكاتٍ بين قوى التحديث القومية والاشتراكية والإسلامية، في تجارب لبلدان عديدة، بحيث صعدتْ هياكلٌ محافظةٌ قديمة كانت بعيدة عن تضحيات التحديث تلك.
في الثورات العربية السابقة لم تُطرح بحدةٍ مسائل الطائفية في حين تفجرت في الثورة السورية بقوة.
في الطائفة السنية هناك التنوع في المذاهب والدول، ولم تنشأ مركزياتٌ كاملة تامة مهيمنة على الطائفة، وإذا كان بعض الدول في الجزيرة يطمح إلى ذلك لكن هذا ليس كليا، فهي كذلك تعتمد على رأسمالية دول نفطية محافظة وتؤثر في العمليات السياسية والأحداث لكن قلبَ التطور الاجتماعي تشقهُ القوى الشعبيةُ في دول الثورات أساسا.
فيما الطائفةُ الشيعيةُ والطائفة العلوية تعيشان وضعا مختلفا، هنا جرى تمركُز لرأسماليتي دولةٍ شموليتين هما سوريا وإيران، عبر تاريخين مختلفين وفي بنيتين مختلفتين.
إن الوعي المذهبي ليس هو الذي يشكلُ رأسماليةَ الدولة، إنها تتشكل قبل هذا الوعي ومن خارجه عبر صعودِ تنظيماتٍ أو قوى اجتماعية سياسية شمولية تستولي على الدولة، وتحولها ضمن مشروعها السياسي، المشروع السياسي قد يكون (شيوعيا) أو (اشتراكيا قوميا) أو (ناصريا) أو (قوميا) أو غير هذا، فيجرى جعل الدولةَ رأسماليةً خاضعة لطبقة ما، بحسب تطور كل بلد وهي تستثمر الوعي الديني بحسب تطورها أو أزمتها.
الوعي المذهبي السني المتنوع لم يرفض الثورات العربية بكليته فهناك وجهات نظر كثيرة مختلفة، فلم يحدث فيتو من رأسماليات دول الخليج النفطية على الدول الحليفة لها في مصر وتونس خاصة، التي انتقلت لمسار سياسي آخر.
لكن رأسماليةَ الدولة الإيرانية مختلفة فقد دخلت في نفق مسدود بعدائها للتنوع الليبرالي والحداثي والقومي داخلها، وتداخلت مع النظام السوري في علاقة تحالف، لكونه هو نفسه يخضع لبنية شمولية تدهورت خلال عقود.
أحزابٌ عديدةٌ في العالم العربي وقفت من الثورات بشكل مؤيد عامة، لكن حول الثورة السورية اختلفت، فقد دخلت الثورة الشعبية مكانا احتكاريا لولاية الفقيه.
والمسألة ليست أشكالاً طائفية بل صراعات اجتماعية، عموم السنة وقفوا مواقف إيجابية تجاه الثورات، وعموم الشيعة وقفوا ضد الثورة السورية بشكل خاص.
إنها ثورةٌ توجه ضربة كبيرة للمركز الرأسمالي الحكومي الإيراني الذي أصبحوا يعيشون في ظله السياسي الاقتصادي، وهذا يجعل الأمر متماثلاً بين (شيوعي) وديني.
الشيوعي لم يعدْ ماركسيا منذ زمنٍ طويل، فتآكل المنهجُ المادي التاريخي من رؤيته، وكلستهُ الفورما الروسيةُ ذات الجذر الطبقي المشابه، مثلما كلستْ الفورما الماوية بعضَ القوميين الذين تحللتْ رؤاهم ولم يعودوا يفرقون بين الثورة والثورة المضادة.
الطبقاتُ الغنيةُ المسيطرةُ على رأسمالياتِ الدول الشمولية تتقارب وتتوحد، ولهذا ليس عجيباً أن تتوحد وزارات الخارجية في كل من روسيا والصين وإيران في تمرير قرارات ذبح الشعب السوري.
لا يعني هذا ان الشيوعيين كلهم في سلة واحدة، ثمة مناضلون رفضوا التكلس، أحياناً لأسباب طائفية كذلك، وأحياناً لرؤى سياسية موضوعية ولكن الذين يعيشون في ظلال الشموليات دخلتهم الطائفيةُ وصمتوا عن شعب يُقتل بدلاً من أن يسهموا في دعم ثورته.
هناك عيناتٌ من مواقف لأحزابٍ شيوعية رفضت الهجمة الفاشية على الشعب السوري، وأغلبها فصائلٌ راحتْ تنشقُ عن المستنقع الطائفي الذي يصورُ نفسه تقدميا. يقول تنظيمٌ في العراق:
(إن حزبنا الشيوعي العراقي – الاتجاه الوطني الديمقراطي، يتابع بقلق وألم وأسىً ما يجري في القطر السوري، على يد ذلك النظام الجائر المستبد، من قتلٍ وتنكيلٍ والاعتقالات والتعذيب وشتى صنوف القمع وإبادة جماعيّة مما لا يمكن تصنيفه إلا كواحدة من أبشع وأشنع جرائم الحرب النكراء التي تتنافى مع كل الأعراف والقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان المعتبرة والمقررة في كل الشرائع السماوية والإنسانية).
إن عدم قدرة حزب تقدمي مفترض على أن يكون مع ثورة شعبية كاسحة تعود لكون تلك الرؤية التقدمية أفلستْ، وصار الأعضاءُ أشباحاً وظلالاً لا تمتلا إلى التيارات الديمقراطية بصلة.
إن رأسماليات الدول الشمولية الضارية ذات التاريخ الاشتراكي المزعوم من جهةٍ ذوبتْ التقدميين وأفلستهم من النظر الطبقي الشعبي وجاءتْ نظيراتُها الطائفيةُ فنفختْ في التيارات المذهبية السياسية وحولتها لمناضلين مزيفين يخربون النضالَ الوطني في كل بلد.
وبين السحل الفكري من جهة والنفخ الدعائي من جهة تكونتْ البالونات المعارضة لثورة الشعب السوري.
في لبنان نقرأ لكاتب وجهة نظر مسايرة لتلك الجماعة العراقية السابقة العرض التي أيدت الثورة السورية بقوة، يقول:
(وفي خضمّ حركة الاحتجاجات الثورية الواسعة، المطالبة بالحرية في كلّ أنحاء سوريا، التي وُوجهت بقمع مرعب انتهى حتى الآن إلى أكثر من 1100 قتيل وعشرة آلاف معتقل، جلّهم من الكادحين والفلاحين والعمّال السوريّين، يأتي البيان الأخير للمكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني الصادر بتاريخ 20 ابريل 2011، ليمنّن الشعب السوري بأنّ من حقّه أن «يتحرّك بكلّ الوسائل السلمية والديمقراطية من أجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الفساد»، لكنّه، في المقابل، يتجاهل أيّة تسمية للشهداء والقتلى في سوريا، و«يأمل أن تسارع (الحكومة السورية) إلى تنفيذ سائر الإصلاحات التي تقدّم بها الرئيس بشار الأسد، فنتبيّن موقف الحزب الموارب أكثر، عندما نرى كلاماً طويلاً عن «مواجهة سوريا للفتنة الداخلية التي تسعى اليها الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل بالتعاون مع بعض القوى العميلة والمغرقة في رجعيتها داخل سوريا وخارجها» لكنّنا لا نفهم شيئاً. أيّ «فتنة» يقصدها الحزب الشيوعي اللبناني؟)، خليل عيسى، جريدة الأخبار اللبنانية.
إن استخدام كلمة (فتنة) هو بحد ذاته فضيحة وتعبير عن عقلية دينية محافظة، لتوصيف صراع طبقي عصري، فهذه الكلمة تحيلنا لتراثنا التقليدي المتجاوَز حتى عند الدينيين المتعقلين، فبدلاً من وجود أدوات تحليل موضوعية لهذه الجماعة المدعية بانتمائها إلى الماركسية، وتقوم بالحفر في طبيعة رأسمالية الدولة السورية وتكشف عزلتها وأزمتها ولجوئها إلى أدوات قمع رهيبة تُوجز القضية في تعبير فتنة.
لكن كيف يتولد وعي طبقي منتم إلى الجماهير الشعبية في أناس تحللوا منه، وتقاربوا مع القوى المحافظة والرجعية والفاشية؟
يعودُ ذلك لوجودهم ضمن طائفتهم الشيعية في لبنان المأسورة عامة بولاية الفقيه الإيرانية وسيطرتها عليها، وعدم قبول تلك الولاية بتعدد وجهات النظر السياسية والفكرية في الطائفة، نظراً لتلك المركزية الشديدة.
كما كانت المركزية السوفيتية لا تقبل بمركزية صينية أو غيرها، و(الشيوعي) اللبناني كالشيوعي العربي عامة ذو الرؤية الشمولية الجامدة الذي تحلل من لافتات الماركسية المجردة بعد قيادتها له في صراعات حادة ضد المسيحيين والليبراليين ربما رآها من موقع الطائفة لا من موقع الطبقة العاملة، انهارت بقايا وعيه الاجتماعي الذي لم يتشكل وطنيا من خلال كل اللبنانيين، بل تقوقع في الجنوب وبين الطائفة، حتى اندثر.
فرقٌ كبيرٌ بين المحفوظات ومنهج التحليل، بين سياسات التبعية للشموليات وتطوير الديمقراطية وتصعيدها في الطوائف والجماعات والدول المختلفة، في تنمية النضال التوحيدي للشعب عبر ثورة شعبية كما في سوريا وتنميته في الشعب اللبناني لتجاوز الشموليات الطائفية المختلفة.
تقدميون وديمقراطيون سوريون انفصلوا عن الدولة وشاركوا في الحراك، فيما آخرون التصقوا بالأجهزة ودافعوا عن مشروعها الدموي بلافتات كاذبة، مثلهم مثل (اليسار) التابع للدكتاتوريتين الإيرانية والسورية في لبنان.
السبب الجوهري هو الانتهازية وليست المذاهب الإسلامية التي تُجيرُ عبر خداع لخدمة ذلك التوجه السياسي.
ما يجعل شيوعيين سابقين يدافعون عن نظام دموي بلغة سياسية هزيلة هو انتهازيتهم وخيانتهم للموقف السياسي النضالي، وهو أمر يُصّعد المشكلات ويُقوض أي تعاون بين شعبين، ويجرهما لصراعات وحروب خطرة.
ليس فقط النظام السوري المنهار هو الذي يطلق شرارته على شجرةِ الأرز اللبنانية بل العيون المعشية الانتهازية التي تلاعبتْ بالأفكار الماركسية والمذهبيات الإسلامية على جانبي الحدود لتجد نفسها الآن في مستنقع واحد مع الفاشيين القتلة في سوريا.


الثورةُ السوريةُ.. بطولةُ شعبٍ
2/7/2012
تتناثر النداءاتُ وصرخاتُ الاحتجاج وإستعراضاتُ القوةِ والتهديداتُ للنظام السوري في الهواء، وبقيتْ رأسمالياتُ الدولِ الدكتاتورية العسكرية في روسيا وإيران والصين وغيرها تقوي النظامَ الدموي على الأرض وفوق جثثِ الناس.
ليس هو صراعٌ طائفي، هو صراعٌ اجتماعي بين شعبٍ أُفقر وديس وهوجم بالمدافع وبين نظامٍ وأنظمةٍ آسيوية عاجزة عن مقاربة الليبرالية والديمقراطية والإنسانية.
في تنامي رأسمالية الدولة السورية العسكرية فقدتْ قوميتَها وعروبتَها وبصيصَ العقلانيةِ والليبرالية التي كانت ترتعشُ منطفئةً في عهدِ الأسد الأب.
عدم المقاربة لتلك المبادئ والقيم كانت تعني تفاقم القبضة العسكرية وشيوع الفساد وزوال القومية ووعي العروبة والتداخل مع أنظمةٍ تعيشُ شموليةَ التطرفِ التي لا تقبل سوى هيمنة فئوية تنامت فوق تعصب قومي محافظ لا يقدر على تطوير الدول الواسعة الكبيرة المتعددة القوميات والأعراق والأديان ديمقراطياً، ولم تعد لدى هذه الأنظمة سوى القبضات العسكرية البوليسية.
وصلت بعضُ رأسمالياتِ الدول العسكرية في آسيا إلى مفترق طرق ومثّل النظامُ السوري نموذجَها المنهار تحت ضربات الجماهير الفقيرة الكادحة التي زعم الغربُ والشرقُ مساعدتَها وإنقاذها بوعودٍ خلابة كاذبة.
قطعَ النظامُ خلال عقوده الأخيرة الخيوطَ الواهية مع الليبرالية فلم يجعل القوى السياسية الوطنية تنتجُ أفكاراً ديمقراطية جماهيرية، وبعضها جثم تحت مظلة الفساد، والآخر أُجهزَ عليه وتلاشتْ خلاياهُ وعظامه ولم يبق سوى القليل ذي الإرادة العظيمة.
لهذا فإن مظلةَ الجمهور المذهبية السياسية هي آخر جدار أيديولوجي يمكن أن يجمعَ صفوفَه وتلك المظلة واسعة وتشمل الأغلبية وكان الحراك منها، وكانت المقاومة الأولى قبل سنوات فيها.
هي شعاراتٌ وآراءٌ محافظةٌ لا تمثل غنى تطور الشعب السوري على مدى قرن من النهضة، ولكن انتهازية التيارات (اليسارية) و(القومية) جعلتْ من تلك المذهبية السياسية اليمينية سائدةً.
لم تتم معارضة رأسماليات الدول الشمولية العسكرية في تلك البلدان بعمق ديمقراطي وحشد نهضوي، وانعكس ذلك في سوريا، وتفاقمت الجماعاتُ الطائفيةُ وأرادت أن تشكل (محوراً).
وبدا النزاعُ طائفياً وهو ليس بطائفي وربما يتحول لنظام طائفي إذا لم تُصعد القوى الديمقراطية والعلمانية نشاطَها وحضورها، حيث لابد من دستور وطني يفصل الأديان عن النظام السياسي، ويجعل التنظيمات غيرَ مذهبيةٍ وغير ذلك لا ينتج سوى نسخ أخرى من الشمولية وبنفس المبنى الاجتماعي وإن لبسَ لباساً آخر.
مثلما يتجسد هذا المضمون الاجتماعي في نضال الشعب البطولي الذي يتحركُ بأشكال وطنية منصهرةٍ لا يعترف بالتفريق بين منطقة وأخرى، في حين يقوم النظامُ بمحاولات جنونية لذبحِ فئاتٍ من طوائف مختلفة ليزرع الصراع الطائفي ويحرفه عن الصراع الاجتماعي بين شعبٍ ودكتاتورية.
إذا لم تنصهرْ الفئاتُ السياسية السورية في فكر ديمقراطي وطني علماني فسوف تكرر أخطاء الثورات السابقة وتصعّد تياراً مذهبياً سياسياً واحداً، في حين أن الشعبَ مشغولٌ بسكبِ دمه من أجل الخريطة الجديدة، وعيب أن ينشغل السياسيون منذ الآن بالحصص والكراسي القادمة.
ومن هنا أهمية اللجان الشعبية التي تصيرُ هيكلاً للسلطة الجديدة، وتكون منتخبة، وبالتالي سوف تكونها التضحيات ومعرفة الواقع الحقيقي وشخوص المضحين وتكونُ السلطة الجديدة محاطةً بالناس يحمونها ويصعدون وجودها.
هذا درسٌ كبيرٌ للشعب السوري الذي تُرك وحيداً أمام الجزارين يذبحونه ليل نهار، ليدرك بأن الوطنية هي صمام وجوده الآن وغداً، ولا يستقيمُ هذا مع لافتاتِ سني وشيعي ودرزي ومسيحي، وتنظيماتِ عربي وكردي، بل وطني سوري فقط.
بقاء هذه اللافتات وعدم إلغائها وتبديلها ببطاقةٍ واحدة، بطاقة الوطنية السورية يعني الاختلاف والصراع على الفتات، وعدم تكون تجربة توحيدية وطنية منصهرة وهو توجه لتفكير أناني، مناطقي، ممزق للخريطة الجغرافية الوطنية.
إن بطولة الشعب في الدماء لا تقل عن بطولة الشعب في الأفكار والنظر للقادم، لابد أن تحمي الدماءُ الخريطةَ وتنظفها من جماعات الاحتكار والتعالي، ولابد أن تحمي الأفكارُ الوطنَ من المحاصصة والطائفية.
لا يجب الرد على دكتاتورية طائفة بدكتاتورية طائفة أخرى، ولا استبدال طغيان مذهب بطغيان مذهب آخر، ولا رأسمالية دولة شمولية برأسمالية خاصة فوضوية، ولا قومية متعصبة بقومية متعصبة أخرى.
من واجب المجلس الوطني السوري إصدار وثيقة سياسية تاريخية يفصلُ فيها جسمَ الدولة القادم عن المذاهب والأديان والقوميات، ويحددُ الحكمَ وطرقَه العقلانية القانونية، ويرفضُ فيه لغةَ الثأر والانتقام، وسواء كان ذلك تجاه القوى الداخلية أو الدول والحركات الخارجية التي ساندت النظام، ويعلن عدم تدخله في شئون الدول العربية المجاورة واحترامه لها، بحيث تكون الوثيقة دستوراً مقترحاً كذلك ومحدداً لخطوط تطور النظام القادم، ليكون السياسيون المسئولون المثقفون هم مثالٌ آخر على تضحيات هذا الشعب العظيم.

الثورة السورية.. تفتيتُ صخرةِ الجيش
30/ 7 /2012
تفجرتْ أحداثُ الثورة السورية بشكلٍ عاصف خلال الأسابيع الأخيرة، فقد أخذ الجيشُ السوري الحر زمامَ المبادرة وقام بعمليات هجومية واسعة.
والملاحظُ ان الحدود التركية غدت هي أكبر مجال للتدفق العسكري، وباتت أجزاء منها فجأة مناطق محررة ومفتوحة، وهو الأمر الذي طالما طالبت به قوى المعارضة السورية طوال زمنية المذبحة المريرة.
هناك دعمٌ تركي وغربي محدودٌ وهو يتكونُ في ظل توازنات دولية وإقليمية معقدة خطرة، فأي عود ثقاب يحرق العالم!
ونلاحظ ذلك في هذا التحول النوعي لهجمات الجيش الحر، وقدراته التي ارتفعتْ فجأة وانتقلت إلى الهجوم المضاد الواسع وعلى مراكز السلطة الكبرى، خاصة في مدينتي دمشق وحلب، لكن هذا الهجوم اتسم بالمد والجزر، كموجات تضربُ وتنحسر.
ضرباتٌ هي أشبه بتكتيكات حرب العصابات الفيتنامية في مرحلتها الأخيرة لكن دون أن يؤسسَ الجيشُ الحر السوري قواعدَ مادية كبيرة للهجوم والسيطرة، عبر تكوين استحكامات قوية والسيطرة على المباني العالية وإنشاء بنية دفاع ضد الطيران، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع ضرباته السريعة العفوية.
لكن رغم محدودية الأهداف المحققة فإن الشمال السوري البري غدا مفتوحاً لحشود ولتفكيك صلات النظام بالحدود والدول الأخرى.
الأسلحة الخفيفة والمضادات القليلة والاعتماد فقط على روح المفاجأة والبطولة أدتْ إلى اختراقاتٍ مذهلة وإلى هجمات مضادة مريرة من جيش النظام الذي استباحَ كلَ شيء. وهذا يؤدي كذلك لخسائر لدى المدنيين وتفاقم الهجرة ومعاناة الأهالي وتضرر الدول المجاورة.
حدثت خلخلةٌ ولا شك للنظام، خاصة مع ضرب مركز القيادة القومي في قلب العاصمة، لكن بدا واضحاً أن ميزان القوى العسكرية مازال في صالح النظام الفاشي، فهو جيشٌ يُعتبرُ من أكبر جيوش المنطقة، وهو جيشٌ معبأ سياسياً وقواعد جنوده مسحوقة آلية، وحتى الآن لم يُدخل في معركته ضد الشعب سوى فرق قليلة تظل هي فرق النخبة و المسيطر عليها تماماً.
إن الجيش الحر، جيش الشعب السوري وأداته الحقيقية الوحيدة على الأرض، بعد تراجع دور التظاهرات والاحتجاجات وانتقال القضية للحسم العسكري، بلا دبابات وبلا غطاء جوي، وبلا قدرات مادية عملية تقنية في تحويل المدن المحررة إلى قلاع، ولا تكفي الأسلحة الخفيفة في التصدي لمثل ذلك الجيش النظامي.
إن هذه الضربات الواسعة مثلت كذلك تخفيفاً من الحصار والهجوم على المدن الأخرى، ونقلتْ المعركةَ لعمق النظام، وأدت إلى إرباك فرقه العسكرية بين المناطق الجغرافية المختلفة.
وكما أن جيشَ النظام له نقاط قوة في نوعية أسلحته المتفوقة وقدرته الواسعة على الحركة السريعة وتعاون مختلف هياكله العسكرية والأمنية، فإن له كذلك نقاط ضعف كبيرة، هي في ربطه لقواعده الشعبية من الجنود وصغار الضباط عبر القهر وتحويل الجيش من أداة وطنية جامعة لجهاز بوليسي عنفي واسع، وهي الأمور التي أدت لتمردات واسعة وهروب والتحاق بالجيش الحر، بحيث بدا الصراع السياسي يتمحور في تباين الكفتين بين الجيشين، وتصاعد الحر على حساب النظامي.
وكما يبدو فإن ضباط الجيش السوري الحر لهم دراية بحروب العصابات وثورات الشعوب العسكرية، وليس غريباً أن يطبقوا دروسهم على(نظامهم) وهم لديهم فيض من الجنود الهاربين وينمون على حساب خسائره المادية والبشرية، لكن الضربات السريعة وغياب القواعد المادية وعدم تنظيم الحشود الشعبية وتركيز ضرباتها على مفاصل النظام، سيؤدي إلى هجمات مضادة حادة من قبل الجيش النظامي.
هناك استعجال في الجيش الحر، هذا صحيح، ولكن لا يوجد حل آخر يوقف المجازر، كما أن الفرق المستخدمة قليلة من مجموع الجيش خوفاً من تمرد الفرق الأخرى، كما أن معونات الدول الأخرى الخائفة من الصدام المناطقي الدولي، تجعل المعركة سورية عسكرية خالصة.
ينتقل الجيش الحر ليكون السلطة الجديدة وهيكلها المادي على الأرض، وقادته يحولون أنفسهم لقادة البلد القادمين، ومن هنا تركيزهم على الحل العسكري، ورفضهم للحلول السياسية التي لا تهدم النظام الراهن كلياً، وهو أمرٌ يعبر عن حقيقة النظام وصلابته الحادة ورفضه لأي حل سياسي، وأن كل يوم يُترك له يعني مجازر جديدة وهجمات أخرى على الناس والمعارضين.
إن قادة الجيش يتحدثون من خلال المعارك وبرك الدماء وكان ينبغي وجود قيادة عسكرية سياسية على الأرض هي التي تقرر، ولكن هذه القيادة لم تظهر، والقيادة العسكرية الراهنة تقوم بحفر نفسها على الأرض بكل عنفوان وقدرة وتضحيات جسام وينبغي في ظل هذه الظروف أن يتبعها كل شيء مثل شعار: كل شيء من أجل الجبهة كل شيء من أجل النصر.
وكانت القيادة السياسية في الخارج ذات لغة سياسية تأملية في حين كان الموقف يتطلب قواعد عسكرية صلبة في الداخل تنفذ خططاً دقيقة ضاربة.

مأساةُ الشعبِ السوري بين القوميات
1/8/2012
قام السياسيون في سوريا خلال عقود بغرس تيار القومية العربية، ولم يشكلوها من خلال قراءة البنى الاجتماعية وتحليلها، بل كشعارٍ للفئات الوسطى الصغيرة غير القادرة على إنتاج نظام ديمقراطي تحديثي.
وعموماً كانت هذه الفئات تبحث عن القوة، كجزءٍ من تاريخ العرب البدوي، حيث تغدو القوةُ للقبائل هي الوسيلةُ للغزو وتأسيس الدول.
ولهذا فإنه على مدى عقود ومع استمرار البُنية الاجتماعية في طبيعتها التقليدية، صعدَ الجيشُ كأساسٍ للحركة السياسية الاجتماعية، ولم تكن الدعوة القومية العربية سوى ضباب فكري سياسي، لا يقعُ على أرضٍ موضوعية خصبة لإنتاج قومية موحّدة.
رأسماليةُ الدولة الطائفية كانت تعني قطع العلاقات مع تطور الأمة العربية التاريخي المتصاعد، حيث كانت الدعوة القومية بحاجة لتطورات موضوعية وفكرية في شعوب الأمة العربية من أجل أن تتلاقى وتنمو علاقاتها الاقتصادية والسياسية.
البعثيون والقوميون الذين أطلقوا حركةَ القومية العربية لم يقوموا بدرسها موضوعياً، وعبر أدواتِ المادية التاريخية، وتشكيل قواعد من خلالِ التنامي التجاري وبتعاون الفئات الوسطى والعمالية العربية، وقراءة التشكيلة الرأسمالية العالمية وطرق تطورها ومشكلاتها وتناقضاتها، واختيار حيزٍ تاريخي لنمو الشعوب العربية داخلها بشكلٍ مستقل وصناعي متطور وتحديثي ديمقراطي.
كان هذا يتطلبُ أفقاً تاريخياً واسعاً، وخلفيةً فكرية عميقة، وفي ظلِ الحماس والقفز نحو مغانم السلطات، وتكوين العصابات السياسية، فإن عفوية التنظيمات السياسية شكلت القَدر السياسي حسب هيمنة طائفة خاصة من طوائف الأقليات، التي قفزتْ للشعارات التحديثية القومية والشمولية قبل غيرها، مزايدةً نظراً لخصائص التعليم والحياة الاجتماعية.
ولهذا فإن الدعوةَ القومية العربية أُجهضتْ، وكان حكمُ العسكر يعني المغامرات السياسية والعنف، فيما كانت رأسماليةُ الدولة الطائفية تتعرضُ للتآكل التاريخي، تحيطُ بها طبقاتُ العاملين المفلسة في الأرياف والمدن الصغيرة وتعودُ بها للمذهبية السياسية المضادة.
وبدلاً من فضاء القومية العربية الواسع غدت المذهبياتُ وتفتتُ الأوطان العربية، ووجدت سوريا نفسها في الأزمةِ الأخيرة العاصفةِ الدمويةِ بلا قوميتها العربية المساندة، بل وجدت أقطاراً تعيش في سلبياتها وصراعاتها المذهبية السياسية وفي مراجلها التاريخية الخاصة.
القوميتان الكردية والتركية تتصارعان وتؤيدان الثورة السورية من خلال موقفين مختلفين متباعدين، فتركيا أردوغان التي ملأتْ العالمَ صراخاً عن إنقاذ سوريا ودعمها، وجدتْ هواجسَها القوميةَ المسيطرة أقوى من أن تمدَ يدها لمساعدة الشعب المذبوح السوري فهي مرعوبة من الأكراد أكثر من دعمها للعرب السوريين!
فيما يشعرُ الأكرادُ بأن الفضاء التاريخي فُتح لهم، وأن دولتهم القومية بدأت تتشكلُ معالمُ خريطتها على حساب الدول والقوميات الأخرى.
أن أرضها تنزاحُ عنها عساكرُ القوميات المغايرة والبر الكردي تلاقى دون أسلاكٍ شائكة.
ولهذا فإن الحكومة التركية نسيتْ تماماً الشعبَ السوري الذي يُحاصر في مدنه ويُقتل وانطلقت تهدد الأكراد.
تركيا الرأسماليةُ تريدُ أن تهيمن على العاملين التُرك وكذلك تستغل أمةً أخرى تعيشُ بشكلٍ رثٍ في أريافها وتعيشً ممزقة محكومة بهيمناتِ أمم ودول شمولية أخرى.
تناقضُ الحكومة في تركيا بين أن تؤيد ثورة عربية وأن تُجهضَ شعباً كردياً عن الحرية، جعلها تطرحُ نفسها كشرطي أكثر من أن تطرحَ نفسها كصديق للشعوب.
عداؤها للأكراد منع مساعدتها للعرب، وضاعتْ كلُ تلك التهديدات والصرخات بضرب سفاح سوريا، فيما هو مشغول بواجبه القومي في ذبح الأطفال والنساء، وفيما الجيش العربي السوري يقوم بدوره التحرري ويقصفُ الأحياءَ الشعبية ويدكها على رؤوس السوريين، فيما تصرخ تركيا الحكومية صرخات رهيبة في الهواء.
الدعوة العربية القومية كان يمكن لو أنها أثمرت وأنشأت دولاً متعاونة وشعوباً مترابطة ما كان من الممكن رؤية هذه المناظر المروعة بذبح شعب والعالم كله يتطلع بهدوء ويتجادل فيما هي مذبحة أم أعمال روتينية للجيش.

مساعدةُ الثورةِ السورية واجبٌ قومي إنساني
13/8/2012
محاصرةُ الثورة الشعبية السورية لأكثر من سنة ونصف سنة وغياب الدعم كان شيئاً مخزياً وخاصة من الشعوبِ العربية التي كان يُفترض أن تكون الحاضن الشقيق لها، في وقت تصل فيه فاشية النظام السوري حداً غير مسبوق وبالتعاون مع النظام الفاشي الآخر النظام الإيراني وبحضانة الأب الروسي أو الدب الشمولي العسكري، ويقوم بدك المدن بالمدافع والصواريخ، وهذه المذابح كانت على مرأى ومسمعٍ من العالم كله الذي يرتجفُ لذبح كلب!
ولهذا فإن تقديم المساعدات للثوار هو واجب وليس منة، هو فعل يتم من خلال مشاعر ومواقف عربية وإنسانية عميقة، وحين كان حصار غزة تحرك الكثيرون رغم أن الحصار ليس مثل المذبحة، وليس منع الوقود مثل قتل الأطفال والنساء والشيوخ آلافاً مؤلفة!
وإذا كان ثمة أناسٌ تحجرتْ مشاعرُهم وعَميت أبصارُهم، ودفعهم الحقدُ الطائفي المعبر عن دكتاتورية عنفية كامنة لعدم رؤية أن هذه الثورة هي تحريرٌ لهم، وإنقاذ لهم من حبس طويل يعيشون فيه.
حين يعودون لعروبتهم ويعودون لإنسانيتهم، ويتم قطع دابر الفاشية الفارسية من التاريخ المعاصر.
الحقدُ الطائفي هو حقدٌ فارسي أرستقراطي عسكري لا يمثلُ الشعب الفارسي والشعوب الإيرانية الشقيقة واستخدام المذهبَ الإنساني غير العنفي المسالم عبر التاريخ ليستخدمه ضد الإنسانية، وضد العرب خاصة وبصورٍ عنيفة مخزية كان يجب أن يندى له الجبين خجلاً.
وثمة أناسٌ من هؤلاء عميتْ أبصارُهم من هذا الدخان الفاشي الذي أفقدهم الرؤيةَ والبصيرة يستغربون أن يحصل ثوار سوريا على سلاح وأن تتزايد قدراتهم، ويتعجبون ويطرحون أسئلتهم الغبية مثل تفكيرهم السياسي المحنط، كأنهم ينتظرون أن يُباد هذا الشعب كله إلا النخب المختارة من العابدين للصنم، حتى يصلوا بأن الشعب السوري بريء فعلاً، حفظاً على مشروع الدكتاتورية الفارسية الفاشية، المترنح على مسرح الشرق الأوسط، كمخمور تأتيه الضربات من شعبه ومن بقية الشعوب الصامدة ضد مؤامراته والمتحدية لغروره وطغيانه.
شعبٌ خلال شهور طويلة مريعة يُضربُ بكل الأسلحة ثم يجلس خدمُ الفاشية الفارسية يضربون أخماساً في أسداس لمعرفة كيف زادت مقاومة الشعب السوري، ويقولون انه حصل على دعم دول الغرب الاستعمارية بعد هاتين السنتين من الذبح، فيا لإجرام هذا الشعب أن يقاومَ ويحصل على سلاح!
أرأيتم أشنع من تفكير هؤلاء؟
من أين طلع علينا هذا الحقد كله؟ أي أوجار أخرجتْ مثل هذه الضمائر الصامتة عن مجرزة لشعب؟
وما دخل الشعب السوري بمخططات مجانين يريدون حكمَ العالم من خلال الكهوف؟
سيقولون لم تتكلموا عن (شعب) البحرين وقد قلنا كثيراً ولكننا ندرك المخططات الفاشية الفارسية لتدمير المنطقة ونؤكد أهمية التنامي الوطني الديمقراطي للشعوب العربية والإيرانية التي أبتُليت بهذا النظام وتغلغله فيها والتي لن تتحقق من دون توقف هذا النظام عن التحكم في شؤون الشعوب!
فإذا فهم هؤلاء وهي قضية شديدة الوضوح إلا للعميان السياسيين، فيجب أن يناضلوا من أجل تقدم الأمم الإسلامية وليس من أجل طائفة، ولإشاعة الحرية والديمقراطية للجميع.
إن مساعدة الشعب السوري أقل بكثير مما هو مفترض، وقضيته متفجرة يشترك فيها الملايين، ذبحاً في الداخل وتهجيراً وتشرداً وهدماً للمدن.
وبعد ذلك يقوم مغيبو البصيرة الوطينة الإنسانية بالتساؤل عمّا هي مشكلة الشعب السوري التي تستحق تبرعات من قبل جماعات سياسية ودينية؟
تبرعات مالية! تبرعات وليس تقديم طائرات حربية!
يا للحسّ المتجمد الذي سحقتهُ الفاشيةُ الإيرانية والدكتاتورية الروسية وجعلتُهُ لا يفرق بين القبور والأحجار، بين الضحايا والجلادين!
يا لضيعةِ تاريخ الأئمة والشهداء المناضلين ألا يحصل المحاصرون السوريون على قطرة ماء، وعلى قطعة سلاح يصدون به وحوشاً! يا لضيعةِ تاريخ الفداء أن يصيرَ صداقةً مع الذئاب والوحوش!
أين كل ذلك الحدب على الشهداء والقتلى والمغتصبات والأطفال المذبوحين!؟ هل كان كل ذلك في التاريخ المجرد وفي تاريخ الطائفة أو تاريخ الحزب؟ أليس كل الدم البشري دماً؟
ألهذه الدرجة عميت الأبصار وقامت النظارات الإيرانية السوداء والزجاج الشمولي الروسي بتغييب مشاهد القتل والسحل ولم تر المدن المنهارة والحارات الشعبية المخربة على رؤوس ساكنيها؟
ألهذه الدرجة من السحل السياسي تتم المساواة بين آلاف القتلى وجماعة من القتلة؟
نرفضُ من جهة أخرى أي تعميم وأي حقد فاشي مضاد، وأن يتحلى الثوار السوريون باحترام كل المواثيق الإنسانية، ومشاعر الانتقام والحقد الطائفي القومي هي العدو اللدود للإنسانية.
الثورة لابد أن تنتصر للإنسانية لا للطائفية، تنتمي لكل تاريخ المسلمين والعرب والبشرية المناضلة، الثورة تقتلها الطائفية والعودة للدكتاتورية باسم دين أو باسم مذهب أو باسم طبقة.

المحور الإيراني ~ السوري يطحن بعنف
23/10/2012
كانت الجراثيمُ الفاشية غيرَ ملاحظةٍ في خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين في منطقة المشرق العربي الإسلامي، في كل من إيران وسوريا ولبنان والعراق، حيث جرى التمدد الإيراني.
في إيران توقفتْ الماكينةُ الإصلاحيةُ عن ضخ أي تحولٍ ممكن، والزعاماتُ المسماةُ إصلاحية عجزتْ عن تغيير أي شيء، فاُخرجتْ من السلطة أو حُوصرت أو اعتقلت، وجاء نجاد معبرا عن هذه العامية الدينية الرأسمالية الحكومية التي تريد أن تمضي بالبلد بشكل آخر غير الاتجاه اليميني الديني التقليدي، أي أن يساعد على نمو رأسمالية خاصة من الخصخصة ومن طرحِ مقولاتِ دينية شعبية سحرية تزحزح الخطاب الديني التقليدي، لكنه فشل، لأن تغافل نمو الاتجاه الليبرالي الديمقراطي له عواقب وخيمة مع عدم وجود التراكمات الديمقراطية العقلانية بين التيارات.
الموجاتُ الرأسمالية التحديثية والعمالية الشعبية تدق أبواب إيران بقوة، وأهداف الشعب في مقاربة الحداثة الديمقراطية لم تَضعف، خاصة في الأوساط المدنية الداخلية والمهاجرة، وكذلك حصار الدول الغربية للاقتصاد الإيراني العسكري المعبر عن وقوف الفاشية المتنامية على مدى عقود التي أطاحت بممثلي الثورة الخضراء والآن جاء دور الرأسمالية البيروقراطية الداخلية التي تريد تغيير البنية التقليدية السياسية الاجتماعية الرافضة أي ليبرالية.
مقاربة السلطة أكثر فأكثر من العسكر لاتزال بعد في مخاض، فالجمودُ الهائلُ في السلطة الدينية السياسية وعدم التراجع عن الخط الشمولي الكاسح لأي تحديث ليبرالي، يعبران عن الغيتو القومي الطائفي التقليدي المتشدد والمرفوض كذلك حتى من مرجعيات دينية كثيرة، فهو يمثل السير نحو الهاوية، والمغامرة الكلية.
ثبات هذا الخط احتاج الى تصاعد الهجوم في الداخل والخارج، حيث أحسّت هذه السلطة الكهنوتية الحربية بأن التغيير بدأ يقرعُ بابَها، وعليها ان تستقبل الثورةَ الآن التي تصدرُ مسوخَها للخارج، وكان خلطُ الأوراق تكتيكا حكوميا إيرانيا بامتياز لخداع البسطاء ووضع الثورة المضادة بدلا من الثورة الحقيقية، وإدخال رمح التسلط في الكلام المعسول النضالي، وحيث تُستبدلُ شعارات الحسين بسيفِ الشمر، وهكذا كان فعل حزب الله تمزيقا للبنان ودمارا له، وتفتيتا لصفوفه، وجعل إسرائيل تسرح وتمرح، مثلما أن السلطة السورية تتفرغ لذبح الشعب وتترك الجولان.
الانقضاضُ على التحولاتِ النضالية للشعوب في إيران والعراق وسوريا والبحرين ولبنان والعراق كان مضمونا حتميا لتصاعدِ الفاشيةِ في ولاية الفقيه، حيث لا برنامجَ للحياة بل للموت، وحيث لا تستطيع الرجعية القادمة من الكهوف أن تواكب تحرك البشر نحو الحرية، والديمقراطية، والسلام، فلابد لها من تسعير النيران واستغلال الهوس الديني وإدخال الكثير من الجمل الثورية الزائفة في السم القومي.
وبهذا فإن الإجهاز على ثورة الشعب السوري غدا جنونا سياسيا، والارتكاز على الشموليات العسكرية الآسيوية وضح المخاطر المشتركة لعدم تنامي الديمقراطيات، وضعف أنصاف الإصلاحات والحلول من قبل الديمقراطيات الغربية، وتماهيها مع الطائفيات السياسية وتمزيق العراق ونهبه، ونقل السيناريو الناري للجزيرة العربية، كلها أجندة تعرضُ المنطقةَ لأخطارٍ كبيرة.
البؤرة المركزية للفاشية المتصاعدة وهي النظام الإيراني مثلت الهيكلَ لكل هذه العفاريت الطالعة من الكهف الطائفي الرجعي الإيراني وتحريكها في الفضاء العربي، عبر استغلال مشكلاته ونقص إصلاحاته واضطرابات تحولاته الاقتصادية الكبيرة وبدء مؤسساته التحديثية الديمقراطية، لابد أن يستدعي تحالفات جديدة بين القوى العربية تغير بالفعل حال الناس.
كل شيء لدى الفاشية من أجل الخراب العربي، ولعدم قدرة النمو العربي على الوحدة والتقدم والديمقراطية ولعدم جذب المجموعات والطوائف في الكيانات الوطنية والقومية المتجهة للتوحد والصراعات داخل الوحدة وللتقدم والإصلاح ضمن الكيان المستقل.
النموذج السوري يقدم لنا كيف تندفعُ قوى هذه القومية الفارسية المستغلة للمذهبية إلى جنون سياسي واسع لا يقف أحدٌ بمواجهته بشكل واسع ويمكن أن تجربه على شعوب أخرى، والقضية هي كلها في قبول التنوع السياسي في الأمة الفارسية وتخليص المنطقة من كل هذه الصراعات الكبيرة.

الإخوان السوريون والاحتيالُ باسمِ الإسلام
1/1/2013
مثل أي مجموعة برجوازية صغيرة كالقوميين والاشتراكيين الشرقيين الشموليين يحتال الإخوان السوريون للوصول إلى مكانة البرجوازية الكبيرة والصعود إلى السلطة من خلال شعاراتٍ أخرى هي شعاراتُ الإسلام.
كسابقيهم من المحتالين السياسيين يرفضون مبادئ الحضارة الحديثة وهي الديمقراطية العلمانية العقلانية، محاولين تسويقَ تراثٍ محافظ أسطوري إيديولوجي يميني بدعوى كونه الإسلام.
ثالوث الحضارة الحديثة: ديمقراطيةٌ علمانية عقلانية، تجاوز ما سبقَ للبشر من وعي سياسي اجتماعي عام، لكونهِ هضمَهُ واستوعبه وتجاوزه. إن ما كونهُ البشرُ من رؤى سياسية وهياكل حكومية شعبية إدارية قد غدا بعد الحضارة الغربية العالمية مُتجاوَزاً، حيث قامت تلك الرؤى الديمقراطية الحديثة باستيعاب اختلاف الناس وصراعاتهم الطبقية وتأطيرها الدستوري القانوني حتى غدتْ صالحةً للمعمورة كلها، في حين أن أديانهم وفقههم هو خارج السياسة وخارج الصراع الطبقي بينهم، يستخدمونه في حياتهم وأغراضهم الاجتماعية كيفما يريدون دون أن يحشروه في الصراع السياسي.
وقد وجدت الفئاتُ البرجوازية الصغيرة السورية في المذهبيةِ السنية المحافظة أن الطبقات والفئات المسلمةَ العلوية والمسيحية قد هيمنتْ على السلطةِ والثروة فيما أن أغلبَ السنة قرويون وفيهم الأثرياء الكبار في المدن، لكن السلطةَ غدتْ من سيطرةِ مذهب إسلامي آخر.
إن هذا الصراع الاجتماعي المتمظهر شكلاً دينياً هو من ثمار التاريخ العربي الإسلامي، حيث حكمَ العرب المسلمون هذه البقعةَ الغنية الزراعية، ثم تكرس حكمٌ أرستقراطي أموي وجهَ الثروةَ في الإمبراطورية وسوريا لنخبةٍ طبقية منفصلة عن بقية الناس.
وكان هذا من شأنهِ على مدى عقودٍ وقرون تفكيك الإسلام التوحيدي وظهور المذهبيات الاجتماعية واستمرار الأديان الأخرى في الصراع مع المسلمين، وقد لجأ العلويون والمسيحيون المضطَّهدون من سيطرات الدول إلى المناطق النائية والجبال وبعضهم أخفى معتقداته ليبقى حياً وسط الاضطهاد الديني الطائفي المسيّس.
وقد تغلغلت جماعةٌ من البعثيين العلويين في الجيش حديثاً، وهو أداةُ التغييرِ الاجتماعي السياسي وكان المشروع نهضوياً ذا طلاء وطني ديمقراطي بل وقومي، وما لبث أن تكشفَ جوهرُهُ الطبقي الاستغلالي، وطابعُهُ الطائفي المحصور المنغلق، عبر السيطرة الشمولية على النظام وأدواته، فانتقلت سوريا من هيمنة طبقية طائفية إلى هيمنة طبقية طائفية أخرى.
ولهذا فإن ردةَ الفعل الأولى للإخوان السوريين، منتجِ وتابعِ البرجوازيةِ الصغيرة القروية الإخوانية المصرية، في تمردِها على سيطرة المدن، كان القتالُ ضد سيطرةِ حزب البعث مثلما كانت ردة فعل الإخوان المصريين العمل ضد تطور الديمقراطية المصرية باتجاه ثالوث الديمقراطية العلمانية العقلانية.
أي أن ردةَ الفعلِ كانت جوهرياً ردة فعل طائفية طبقية تمزقُ كيانَ المجتمع والمسلمين والمؤمنين والمواطنين لصالحِ القرويين المعادين لتطورِ المدن نحو الحداثة والوطنية الديمقراطية، ومن أجلِ أن يصيروا هم حكاماً ورأسماليين كباراً سواء في مصر أو سوريا، وهو أمر يحطم بلداننا العربية كلية.
ويتجلى ذلك في نصوصِهم وأدجلتِهم للإسلامِ لصالح فئتهم الاجتماعية الصاعدة، وهذا يحدث من خلال تعميم النصوص الإسلامية ووضعها خارج سياق التاريخ، والانكفاء داخل شرنقة قديمة تجاوزها العصر، وفرض ما تكوّن في تلك الشرنقةِ الإقطاعية الطائفية على العصر الحديث، بالقوةِ حيناً وبالمكرِ حيناً آخر.
وهو أمر مماثل لما فعلهُ البعثيون العلويون والشيوعيون والقوميون من أدلجة لمطامحِ فئاتِهم البرجوازية الصغيرة المتلاعبة بالنصوص سواءً كانت دينيةً أو ماركسيةً أو فاشية، لخدمة صعود فئتهم للغنى والحكمِ من غيرِ أدوات الثروة الطبيعية من متاجر ومصانع، أو من أدوات العمل المنتج، لكن من خلال النصوص المقدسة عند أتباعها، ومن خلال الوثوبِ على الكراسي واستخدام أدوات العنف.
ومن هنا نرى هذه الكراهية الفظيعة للعلمانية وخاصة التي تشوي أكبادَهم السياسية، وتمنعُ دجلَهم الديني من أن يتحولَ لحرقِ البلدان الإسلامية، فليست ثمة من بضاعةٍ سوى هذه النصوص الدينية يتلاعبون بها ليلاً ونهاراً، ويقطعونها كيفما شاءوا، ويخفون دلالاتها وعلاقاتها بتطور العرب والبشر والأنظمة عبر التاريخ، سواء في السلم أو حين تتحول المدنُ العربية لأنقاضٍ محروقة، وعيونُهم على الكنوزِ الأرضية الحقيرة وليستْ على الجنانِ الخالدة في ساعةِ الأجر العظيم!
لم يكن حزب البعث علمانياً ديمقراطياً بل كان طائفياً فاشياً، لم يصارعهُ الإخوان صراعاً وطنياً إسلامياً أممياً، بل اقتبسوا نهجَه وكرروا خطأه، فنهج البرجوازية الصغيرة الانتهازية المتلاعبة بالمبادئ والطبقات والشعوب واحد!
تقومُ البرجوازية الصغيرة السورية الدينية من المذهب السني المُفسر بطريقة محافظة في تنظيم الإخوان السوريين بعدم قراءة التاريخ العربي الإسلامي ثم إنتاج مقتطفات وتفسيرات مسقطة عليه، من أجل تصعيد نموذج سياسي مذهبي حاكم يعبر عن فئات البرجوازية الصغيرة الريفية خاصة التي تريدُ القفزَ إلى السلطة وعدم القيام بتحولات صناعية واجتماعية عميقة في المجتمع.
ولهذا كان غيابُ الصراعِ الديمقراطي مع البعث واليسار والاتجاهات الأخرى على مدى العقود الماضية، لإحداث تراكم ديمقراطي سياسي وطني، والانكفاء في المؤسسات العبادية وتصعيد الحراك الطائفي في الأرياف والبوادي والنزول لمستوى الجماهير العامية السطحية التفكير ونفث الحقد المذهبي السياسي فيها وهي الأفعال المقابلة لسلطة متعالية استغلالية طائفية، فيغدو الحلُ هو كارثةٌ أخرى.
برنامج الإخوان السوريين ذو طلاء براق يخفي نواياه الحقيقية فتقول المقدمة (تقوم الدولة الحديثة، التي نتبناها وندعو إليها، على جملة من المرتكزات، نعتبرها الأساس الركين لبناء دولة قادرة على القيام بأعباء أي مشروع حضاري، أهمها أنها دولة ذات مرجعية تنبثق من هوية الأمة العربية الإسلامية وثوابتها، ثم هي ترتكز بعد ذلك على تعاقدية ومواطنة وتمثيلية وتعددية وتداولية ومؤسساتية وقانونية)، برنامج الإخوان وقد صدر عام 2004).
هي دولة حديثة مفترضة لكنها ترتكز على تراث (هوية) الأمة العربية الإسلامية!
كلام خادع منذ البداية فبطاقة هوية الأمة موجودة عند حزب وهو الذي يسمح بالدخول والخروج! لكن الدولة الحديثة هي الموظِفةُ لآخر ما أنتجتهُ البشريةُ المتقدمة من ديمقراطيةٍ علمانية عقلانية، في حين إن تراثَ العرب والمسلمين في العصور الوسطى لم يصلْ لتحديدِ المؤسسات الديمقراطية، رغم أن صدر الإسلام قدمَ نواةَ الحداثة التي لم تتبلور سياسياً تنظيمياً، وهو ما سرّب حكم الأسر الاستغلالية التي مزقتْ حضارةَ المسلمين في خاتمة المطاف وقدمت الناس لقمة سائغة للهيمنات الأجنبية المختلفة. وقد تبلورت تلك النواةُ التي ظهرتْ عند السلف لدى الغرب في المؤسسات البرلمانية والديمقراطية المعروفة والتي صارت لدى البشرية الديمقراطية كلها.
ينص البرنامج بحربائية غريبة على: إن من صميم موقفنا الشرعي والحضاري أن الحكمة ضالةٌ لنا، ومهما كانت مشاركتنا في بناء الحضارة الإنسانية كبيرة أو ضئيلة، فإننا نعتقد أن ثقافات الأمم، وتجارب الشعوب، ومعطيات الحضارة الإنسانية بشقيها المادي والمعنوي هي مصدر إغناء لمشروعنا الحضاري، (فالحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها) والاستفادة من تلك المعطيات يبقى محكوماً بالضوابط الشرعية والمصالح المشروعة)، المرجع السابق.
إنه كلام إنشائي مضلل، فعباراتٌ مثل معطيات الحضارة الإنسانية وشقيها! وتجارب الشعوب، وكل هذا التجريد الذي لا يقترب من الإشكالية الحقيقية المراد تجاوزها، فالموقف المطلوب هو العمل السياسي الحزبي من خلال الديمقراطية العلمانية العقلانية مثل كل البشر، وهي بيت القصيد ومحور التطور السياسي الإنساني الإجباري. وأي انحراف عنه هو فتحُ الأبواب للكوارث والحروب الأهلية، وعدم تطبيقه هو صدامٌ في الداخل الطائفي الديني المتعدد وصدام مع العالم المختلف.
ولهذا فإن الحزب الإخواني بعد هذا الإنشاء المفتوح يطرح الاستثناء ويحددُ الضوابط الشرعية، فالحزب السياسي يقدم الوجبات الشهية في البدء ثم تظهر الاستثناءات الناسفة للسابق، فغدا الحزب السياسي بأبوية يحدد ما هو شرعيَّ مقدس فلا يقبل تلك المبادئ العصرية التي تمنع دكتاتوريته باسم الدين ليقوم باستغلال الجهل الشعبي ويفرضها عليه، فيقود هذا لكوارث كما فعل البعث الذي حرقَ سوريا بكلامٍ خلاب جميل في البداية كذلك.
ينفتحُ على كلِ شيء إلا ما هو جوهري أساسي في عصرنا!
جماعات سياسية محدودة القراءة للتراث العربي الإسلامي، لم تتنج أي رؤى واسعة حول التراث وكيفية قراءته عصرياً تحديثياً فتقدم اجتهادات وتحولات دؤوبة حتى لو كانت بطيئة تغير واقع الناس فكرياً وفقهياً على مدى طويلٍ صبور، لكنها تقفزُ للسياسةِ السهلة السطحية، وشعاراتُها التي لا تكلفُ دأباً طويلاً وتضحيات معرفية، وهي جماعاتٌ خبرناها في الماركسية والقومية والبعث؛ سطحيةُ الفكر في مصادرها، أميةٌ في ثقافتِها، لكنها شديدة الطموح في القفز السياسي وسلق التجارب والوثوب على المناصب ونشر الدكتاتوريات والخرائب!
ولكن الأخطر هنا مع هذه الجماعات هو تخريبُ الدينِ وتعريض مجمل الناس لكوارثٍ لم نشهدها من قبل.

صراعُ الطائفيين في سوريا: الخاتمةُ المروعةُ
24/1/2013
قام تكوينُ الفئات الوسطى المستولية على الحكم بعد الاستعمار في سوريا على المُلكيات الزراعية والتجارية وبعض الصناعات الخفيفة، فيما كانت الثقافة السياسية وهي الإيديولوجيا تعتمدُ على النقل من الخارج عبر الفاشية والشيوعية، ومن النقل من الماضي عبر الطائفيين المُؤدلجين للإسلام لفئاتهم الغنية الصاعدة.
كانت هذه الفئات تمثل أصحاب المُلكية، وكانت في الزمان الاستعماري الفرنسي متقاربة، بخلاف الملاك الكبار الزراعيين خاصة، فأنشأ الاستعمار الفرنسي ليبراليةً لم يستطع الحكم الوطني المستقل أن يطورها.
في زمن الحكم الوطني دب النزاعُ بينها وعبرت الانقلابات عن الرغبات السياسية العميقة المستعجلة في حكم شمولي يختصرُ النزاعات ويقفز بها للتقدم.
كل هذه الفئات شكلت مشروعات التعجيل والقفز بالناس نحو الجنان التي تستطيع وحدها خلقها، دون الأخريات، فوحدها تملك مفاتيحَ الجنة، ووصفات الاختزال والحرق التاريخي في فرن البشر الذي تعده.
فاشيةٌ بعثيةٌ تقوم عبر العسكر، شيوعيةٌ عبر دكتاتورية البروليتاريا تصنع قفزة روسيا، إخوانيةٌ مرتدةٌ لعصر الطوائف المتقاتلة المتخلفة.
قامتْ كلُ هذه الفئات مماثلةً للفئات العربية الأخرى، على عدم الصبر واللاعقلانية والطائفية، فهي لا تقرأ الواقعَ قراءة موضوعية، ولا تدركُ قوانينَه وتسيطر اقتصادياً وسياسياً عليها.
ولهذا فإن الطائفية الاستبدادية العلوية الارستقراطية التي هيمنت على رأسمالية الدولة راحت تنخرُ مضامينَ البعث والاشتراكية والجبهة الوطنية، فالفصيلُ العسكري القائد مثّلَ البداوة والقَبلية العسكرية العربية التي هي المهيمنةُ على الحكم في العالم العربي الإسلامي خلال قرون، لكنها هنا جاءتْ عبر الجيش الذي يُفترض إنه وطني، لكنه لم يعد كذلك في فصائله المسيطرة، وحين حولتْ هذه الفئاتُ أداةَ الدولةِ لبنك يخضلا الفوائدَ في حسابها، لم يكن بإمكانها أن تصنعَ برجوازيةً حداثية وطنية وهي مشروعها الأولي فتقودُ المجتمع نحو بُنيةِ حريةٍ اقتصادية وسياسية.
عدمُ القدرةِ للسير نحو رأسماليةٍ ديمقراطية حرة تقودُ إلى العودة للوراء، إلى العودة للإقطاع.
عدمُ القدرةِ على تصعيد الديمقراطية والعقلانية والعلمانية تقود إلى الارتداد للقبلية والطائفية والجنون السياسي.
هذا يؤدي إلى الانهيار الداخلي لمؤسساتِ الحكم عبر تصاعدِ الهيمنة الفئوية والفساد وثقافة الدفاع عن الوضع الراهن المتردي، وتحويل الإيديولوجيات البعثية والماركسية والقومية إلى حراسٍ للصوص، بدلاً من دورها كأدواتِ تحليل عقلانية للأخطاء ومظاهر الفساد ولغياب الديمقراطية والخطط الاقتصادية الوطنية العادلة.
ولم تختلف المعارضةُ الطائفية الممثلةُ في الإخوان عن جوهر هذه الإيديولوجيات لكنها تنامت بشكل معاكس، فهي ذاتها صيغةٌ طائفية للارستقراطية القديمة في العالم الإسلامي التي شكلتْ الطوائفَ وتخلفها وصراعاتها وعجزتْ عن التوحيد وصنع تنمية شاملة للعرب والمسلمين والمواطنين.
إن الصراعَ مع العلوية من خلال المذهبية السنية هو خرابٌ للمذهبين، هو تمزيقٌ للخريطة الوطنية عبر توسيعِ الكراهية بين المسلمين، وتراكمُ الأحقادِ يكَّونُ العنفَ ثقافةً لفظية ثم يحولها لعنفٍ مدمر.
عدم تعاون التحديثيين من مختلف التوجهات لتصعيد مجتمع الوطنية الديمقراطية، وانقسامهم بين هذا الطرف الحكومي وذاك المعارض، جعلهم قوى صغيرة ذائبة بين القوى العتيقة المتصادمة في مشروع حرق سوريا.
إن عدمَ إلقاءِ في سلةِ المهملات مشروعاتَ الخيالِ الحارق في الاشتراكية ودولة الإسلام الطائفية ودولة القومية العربية ذات الرسالة الكلية، وعدم التقدم نحو الدولة الحديثة الديمقراطية العلمانية الوطنية، يُعطي مثل هذه النتائجَ الكارثية المرئية للشعب السوري من قبل قياداته المختلفة.
إن التكالب على الفُتات اليومي والكراسي من قبل فئاتِ الحكم والمعارضة لم يَقُد إلا لحرقِ الشعب الذي انقسم وأيَّد هذا الفريق أو ذاك وصارت مدنُهُ محطمةً وبيوته مهدمةً وهو في الذبح اليومي وفي العراء الشتائي والغربة.
إنه مثالٌ لبقية المجانين السياسيين في العالم العربي والإسلامي إنه يكفي بعد كل هذه القرون المتاجرةَ بالأديانِ والأوطانِ والإنسان، فلم يؤد هذا التطاحن على الأسلاب سوى الخسارة الكارثية للجميع.
فليُقرأ مستقبلَ سوريا من هذا الانعطاف وليس من حماماتِ الدم ورؤى التخلف والاستبداد.

سوريا من انتفاضةٍ شعبية إلى حربٍ أهلية
16/3/2013
الصراعُ الطائفي السياسي الاجتماعي في سوريا فجرَّ بدايةً هبةً شعبية واسعة فضفاضة ليس فيها طبقات وطنية تضمُ كلَ الشعب، وبرزت كتناقضٍ بين الأرياف الشعبية الفقيرة ومؤسسات المدن الكبرى العسكرية والبيروقراطية المسيطرة.
الهيمنةُ المذهبية السياسية المحافظةُ على قوى الانتفاضة قادتها نحو معركةٍ فاصلة بين المذهبيتين السياسيتين السنيةِ والعلوية، في حين كانت الأطرافُ الوطنيةُ العلمانية فئاتٍ صغيرة غيرَ مؤثرة في هذا البحر الجماهيري العفوي أو المنظم الرسمي الباتر عسكرياً الدموي.
كانت الخريطةُ السياسيةُ الاجتماعية تنزلقُ شيئاً فشيئاً نحو القرون الوسطى، نحو الصراعاتِ الدينية البدائية، مثلما يبدو الدمارُ واسعاً هائلاً ضد المؤسسات التحديثية من وزاراتٍ وأبنية ومؤسسات تجارية وسياسية.
غدت القوةُ العسكريةُ العنيفة هي المتصارعة الحاسمة في تطور الأحداث، فتنزلقُ المنطقةُ كلها نحو القرون الوسطى وصراعاتِها المذهبية المتخلفة.
لم تشهد تلك القرونُ الوسطى حرباً واحدة مذهبيةً سياسية بين القدامى، بل كانت الحروبُ تجري مع الغزاة سواءً كانوا بيزنطيين في الشمال أم صليبيين غزاة متعددي جهات القدوم أم مغولاً مندفعين من الشرق، وهذه المفارقةُ الهائلةُ بين أجداد بسطاء حافظوا على الوحدات الوطنية وبين أحفادٍ انغمسوا في الصراعات الدينية المتخلفة مذهلةٌ ومرعبة.
صراعُ البعثِ العسكري الفاشي المنحدرِ للطائفية السياسية والإخوان السنة المحافظين غير العقلانيين وغير العلمانيين هو ركيزةُ هذه الحرب الأهلية الضروس.
لقد كانت الانتفاضةُ شعبيةً عفوية واسعة قابلها النظام بشراسة منقطعة النظير، فكانت ثمة فاشية حاكمة استوعبت وخربت كل التيارات البرجوازية الصغيرة التحديثية المتذبذبة عبر جرِّها للانتهازية وغمسها في الفساد حيث تآكلت أدواتُها المنهجيةُ النقدية التحليلية الموضوعية فغدتْ في صفِ رأسمالية الدولة الشمولية العسكرية، ولم تناضل من أجل تغيير طابع رأسمالية الدولة هذه نحو رأسمالية ديمقراطية حرة علمانية، بسببِ خرابِ وعيها الماركسي الزائف، الذي غدا يافطات إيديولوجية مُبرِّرةً للانتهازية.
هذا جعل الجماهير الشعبية من دون بوصلة موضوعية حقيقية، موجهة الحركة الاجتماعية نحو التوحيد الوطني، وتعاون الطبقات لتغيير طابع رأسمالية الدولة النازف للموارد من أجل ميزانية العسكرة أو نحو الهدر الداخلي.
وبهذا فإن الشعارات الطائفيةَ السياسية اليمينية باتجاهٍ مضادٍ هي التي تحركتْ بقوةٍ كبيرة وخلقتْ عاطفيتها السياسية الشديدة الحادة، وجعلت قوى رأسمالية الدولة الطائفية الحكومية القوية تحافظُ على تماسك جبهتها الداخلية وتضربُ بقوة.
مثلما عبرت رأسمالية الدولة العسكرية عن كونها واحدة من نماذج إقليمية وعالمية تآزرت معاً وصارت فاشية عالمية وحشية، فيما كانت الرأسمالياتُ الغربية لا تجدلا في بديل النظام نموذجاً عقلانياً ديمقراطياً صالحاً لحياة، وفيما لم تمثل الرأسماليات الحكومية العربية والإسلامية المتراقصة بين الشمولية والليبرالية، بين الاستبداد والحرية، بين تحرير الشعب وبين خنقه، المساعدةَ القويةَ القريبة من مساعداتِ القوى الأخرى للنظام الفاشي، فظلت مترددةً محدودة المساعدة غيرَ قادرةٍ على طرح بديل ديمقراطي علماني يجعل الشعوبَ تستقرُ إليه بدلاً من تكرار نموذج الدولة الطائفية الشمولية الجديدة، وقد برزتْ بعضُ مخالبهِ تتصاعد في وجوه الشعب والدول الأخرى.
إن طبيعة القيادات المذهبية المعارضة المتذبذبة تكشفَ ترددها وانتهازيتها في قلب المعركة فيما كانت الجماهيرُ تقوم ببطولات أسطورية، فتطرح المساومات في أتون الصراع الحاسم الضاري، وتبحث عن إنقاذ لعصابات من النظام فيما كان الموقف يتطلب أن تركز على الإجهاز عليه بقوى من التضحيات الهائلة في مثل هذه اللحظات المصيرية، وأن تحول كل هذه الانشقاقات الواسعة لطوفان من النار على مواقعه الأخيرة.
قياداتٌ كثيرة تتفذلك وتمارس سياحة واسعة بدلاً من أن تدخل قلب المعركة وتنضم للمحروقين في الداخل تاركة كل هذا التسول من القوى المتلاعبة في مصير الشعب السوري.

الثورةُ السوريةُ وحربٌ إقليمية
25/5/2013
عبّر الطابعُ الشعاري السياسي للثورة السورية عن عدم قدرتها لتجاوز المذهبية السياسية اليمينية، التي جعلتْ أفقَها السياسي مرهوناً بالطبقات السائدة المسيطرة في البلد والمنطقة.
كانت قيادة الإخوان المسلمين مأزومةً بثأرها التاريخي من البعث والتجربة التحديثية السورية عامة ومتجمدة في وعيها المحافظ المتخلف للإسلام، فوجهتْ الأحداثَ والجمهورَ العامي للصدام المطلقِ مع النظام، الذي أعتبرها هو الآخر حرباً مطلقة ضده، فاستخدم كل قدراته الحربية الإجرامية وإمكانيات التوسع لتغدو إقليمية قارية.
الوعي الطائفي اليميني المعبرُ عن طبقاتٍ محافظة سائدة غيرِ قادرةٍ على تحريك الحياة باتجاه الديمقراطية والعلمانية والتحديث، لا يستطيع أن يعود بالحدث السياسي إلا إلى الوراء، عوضاً عن طرح البرنامج السياسي الوطني الواسع الذي تتوافقُ عليه مختلفُ الأطرافِ بما فيها حزبُ الحكومة وقوى النظام والمؤدي لنقلةٍ إلى الإمام.
وهذا يتطلب قدرةً من هذا (الزعيم الثوري) على تحليل التجربة وتجاوز الثأر التاريخي وكشف البؤر الاقتصادية السياسية المعيقة للتحول.
لكن تعميم الأهداف وطرح إسقاط النظام ككل أدى إلى ما هو معاكسٌ ومضاد ودموي عميق وواسع.
فتوجهت الثورة السورية إلى أفق مجردٍ غامض، هو في الواقع عودةٌ إلى الوراء، عودةٌ لما قبل النظام التحديثي القومي البعثي الوطني، إلى نظامِ الطوائفِ المتصارعة الفاقدة للسيادة الوطنية، وبهذا فإن قيادةَ الثورة ضاعتْ، بين فرقائها الداخليين المتصارعين، الذين غاب عنهم ذلك البرنامجُ الوطني الموضوعي العقلاني، وبين فرقائِها الإقليميين المختلفين الذين انضموا إليها من الجانبين.
كما أن أفق القوى السورية كلها تجمدَّ عند الحداثة التحولية الجنينية، غير قادرةٍ على تجاوزها نحو الحداثة الوطنية الديمقراطية العلمانية العميقة المحتضنة لكل القوى والتجارب، فبقيتْ في قواقعِها الطائفية السياسية الاجتماعية، فلم يكن أفقُ الدولة ولا أفقُ المعارضةِ قابلين للارتفاع إلى هذا المستوى، وبهذا فقد جرت الأطراف الإقليمية والدولية إلى هذين المعسكرين المتصارعين المتخلفين، أو أن الأطراف تلك هي التي شاركت ودعمت هذا الطرف أو ذاك، بحسب طبيعة تكوينها وعلاقاتها وروابطها ومستوى أدائها.
وكان هذا الانجرار يعكس طبيعة القوى السائدة في المنطقة من حيث إنها لا تختلف عن طابع الطبقات السائدة المحافظة في داخل سوريا، فهي تعيش نفس الزمن التاريخي المحافظ لما قبل الحداثة الديمقراطية العلمانية، وترتكز على هويات مذهبية سياسية تقليدية، فكان الانجرار يعني توسيع الحرب السورية الطائفية في الخارج، وانضمام أطراف طائفية من مختلف الطوائف إليها.
كما أن هذا يعبر عن انزلاق المنطقة ككل إلى العصور الوسطى، وتهشيمها لبُنى الحداثة الوطنية المحدودة التي تكونت خلال العقود الأخيرة.
فهي خلال العقود السابقة لم تقم بإعادة تجديد بناها الدينية القديمة، وتناقضاتُ الدولة السورية موجودةٌ فيها، وهذا من شأنه توسيع دوائر الحرب الاجتماعية المتخلفة في صورة الحروب الطائفية السياسية المتعددة.
وهكذا فإن الأطراف الإقليمية الخارجية المتدخلة من مواقع المساندة كانت تحول الثورة السورية من ثورة نضالية ذات أفق ديمقراطي إلى حرب أهلية، وإلى صراع إقليمي وإلى مستنقع طائفي.
وقد وقفت بؤر الرأسماليات الحكومية العسكرية في روسيا وإيران وإسرائيل معبرة عن هذا التخندق الكبير لمنع التطور الديمقراطي السلمي للشعب السوري، كأكبر العقبات المحورية، من دون أن تقدر دول المنطقة الأخرى على الارتفاع لمستوى الدول الديمقراطية الحديثة المساندة للشعب والداحرة للفاشية.
فبدت الدول العسكرية تلك قادرة على ضرب نضال الشعب السوري وتضييع أفقه، وعلى تحويله إلى حرب أهلية استنزافية هائلة الدمار. فيما الدول الأخرى غير قادرة على تحويل الثورة لحرب شعبية واسعة كاسحة.
ولهذا فإن تحويل المواجهات إلى مفاوضات ومؤتمر سلام هو نقلة مهمة إذا تم فيها فعلاً إزاحة الدكتاتورية الدموية، والإبقاء على أسس النظام الوطني السوري بإرثه العلماني، ومعاقبة المجرمين من مختلف القوى، فتح صفحة تحول ديمقراطية عميقة للشعب ككل.

تحللُ العرب.. سوريا نموذجاً
24/9/2013
عبرت سوريا عن محاولة عربية أخرى كالعراق عن توحيد الفسيفساء الوطنية والعربية.
كان الجسمُ الامبراطوري العربي التوحيدي بقيادة الامويين قائماً على القسرِ وتكوين نخب وجماعات عسكرية وأهلية مدنية بمركز السلطة.
كان هذا يتوافق مع آراء مذهبية سنية غير متبلورة في مذهب متكامل، بل عبرَ اختيارات فكرية سياسية وامضة للحرية من جهة والمركزية من جهة أخرى.
في المسار التاريخي الطويل كان المركز ذا إمكانية غير متكاملة للسيطرة على سوريا الطبيعية، فالاقتصادياتُ الزراعية الحِرفية والتجارية الفردية والمناطق الجبلية الكبيرة المغايرة للبرية صنعتْ تنوعَ التكوينات السكانية الدينية والمذهبية الإسلامية المختلفة.
التباين بين مذهبية سنية ومذهبية علوية ومسيحية متعددة عبّر عن اختلاف قسمي السكان الكبيرين، بين تقاليد قوى الرعاة وقوى الفلاحين.
بين النصوصيةِ الحادةِ وبين اللانصوصية، بين التفسيرات السنية، والتفسيرات العلوية، وقعَ ذلك الشرخُ التاريخي الذي لم يُدفن بثقافة وطنية تنويرية ديمقراطية علمانية حديثة.
وجاءت الهيمنةُ الفرنسية لتعمقه، فيما لم تستطع الحركات السياسية التحديثية قراءته ووضع السياسات لتجاوزه.
كان الجسمان السياسيان التحديثيان؛ القومي البعثي، والشيوعي، تعبيرين آخرين عن القراءات التي لا تقرأ قوانين البُنية الحقيقية.
إن البعثَ في استيراديته الفكرية السياسية للفاشية الأوروبية جسّد تكوين النخبة السياسية العسكرية المرتبطة بقيادة الزعيم المطلق، ورفض الديمقراطية والتنوع الوطني، في هلاميةٍ تحديثية برانية، وفي رؤية قومية شمولية ترفض قراءة التنوع الوطني العربي ومستويات التطور المختلفة بين الأقطار العربية.
عبرَ طرحِ صيغٍ توحيديةٍ قسرية ذاتية، تستلهمُ البدويةَ العربية الغازية والهيكليةَ الأموية ~ العباسية. ولهذا عرفتْ تسميةَ القيادة القومية والتمدد داخل أقطار الشام والتدخل في شؤونها بدرجة خاصة.
وقد عبرتْ في خلال الحكم عن تمثُل القوى الغنية والمتنفذة العليا الصاعدة التي غدت عسكريةً، وبدت طرق هيمنتها اللاعقلانية في الانقلابات المستمرة وصراعات النخب السياسية حتى تمظهر ذلك في النخبة المنتمية شكلانياً للطائفة العلوية.
وكان المسار الشيوعي مختلفاً حيث بقيت الصيغة الماركسية اللينينية تعبيراً عن النسخة الروسية من الدولة القومية ومن خيار رأسمالية الدولة العسكرية عبر رفدٍ شعبي نضالي في سنوات عديدة، لكن هذا التعبير عن الطبقات الشعبية غدا شكلانياً هو الآخر، حيث لم يلتحم بهذه الطبقات فكرياً واجتماعياً ويعبر عن نقدها للنخب وطرقها في السيطرة، مما تجسد هذا أخيراً في (الجبهة الوطنية) غير المعبرة عن تنوع الطبقات وإختلافها.
هكذا عادت سوريا لتكوينها الجوهري في العصر الوسيط، أي إلى صراعها الطائفي السياسي بين المركز والأطراف، بين دمشق والأرياف والمدن الأخرى، بين الأمويين والعلويين، بين المنتمين شكلياً للمذاهب القديمة والمنتمين للتيارات الحديثة، فاليمينُ المحافظ الطائفي الديني استطاع تذويب القوى الشعبية التوحيدية في مختلف العصور.
كان القمعُ الذي مارسه الجيشُ ضد الإخوان مقدمةً لهذا التقهقر للوراء، حتى تحول الجيش فعلاً إلى معبرٍ عن رأسمالية الدولة العسكرية، حيث السياسيون والمتنفذون والمال العام في جهة وبقية الشعب في جهةٍ أخرى.
ولهذا فإن الثورةَ ضد النظام لم تثر على التاريخ الطائفي الاجتماعي المتعدد الفِرق عبر العصرين الوسيط والحديث، ولم تحددْ طبيعةَ الخروج عنه برفضها التكوينات السياسية الطائفية، بل قامت عبر الاشتغال فوقها والاستعانة بها، فتداخلت الثورة والثورة المضادة، البديل والنظام، فلم يظهر يسارٌ ديمقراطي علماني لعالِم الفِرق المحافظة ذو حضور جماهيري، مما أدى لتدهور أكثر وظهور طبيعة العصر الوسيط العنفي الطائفي، أي قام الطرفان المركز والأطراف بتبادل الأدوار، بين جبهة النصرة والعسكر السفاح، رغم أن هذا التبادل هو شكلي، لا يغير من هوية القوى الاجتماعية إلا بتغيراتها العصرية، ولا يطرح أي بديل تحديثي ديمقراطي يتجاوز صراع الفريقين الممتد عبر مئات السنين.

خذلانُ الثورةِ السورية
18/11/2013
يتشابه مصيرُ الثورة السورية ومصير الثورة الإسبانية ضد الفرانكوية والجماعات القومية الإسبانية الفاشية، فرغم البدايات المشجعة لها لكن تمكن فرانكو وعصاباته من دحر الثورة وإغراقها في حمامات الدم.
المصير والظرف مختلفان، فرغم كون الجيش الجمهوري الإسباني ذا توجه ديمقراطي لكن الجماعات الفوضوية تغلغلتْ فيه وطرحت خيارات متطرفةً سهلت من هزيمة الثورة. وكان الزمن ملائماً من حيث صعود الدكتاتوريات القومية في أوربا وانحسار النفوذ الديمقراطي عامة.
وقد تفجرت الثورةُ السورية في لحظات حاولت فيها الجماهيرُ العربية كسرَ الرأسماليات الحكومية العسكرية في أكثر من بلد، ونجحتْ في بعض مهماتِها، وفشلتْ في مهمات أخرى، لأن وعي الجماهير العربية لم يتجاوز الدكتاتوريات الدينية والعسكرية المتداخلة، ومستوى تنظيماتها كانت بدائيةً سواءً الاجتماعية الأهلية أم السياسية النخبوية.
وكان صعود تنظيمات الإخوان المسلمين مظهراً لهذا التدهور، فهذه الجماعات مناوئة للثورة العصرية، وتكونت على أساس روح العداء للحداثة والديمقراطية، عبر فهم ملتبس للإسلام، وهو أمر تم استغلاله من قبل القوى العسكرية في أكثر من بلد، ففي مصر استعادت هذه القوى المبادرةَ وتمكنتْ من إعادة نفوذها بالتحالف مع قوى ليبرالية متذبذبة، وترتيب شكل جديد لرأسمالية الدولة العسكرية، فيما لم يستطع الإخوان المسلمون السوريون سوى تشتيت التحالفات التحديثية ليتمكن المتطرفون الطائفيون من اختراقها وتوسيع الثغرات لهجوم النظام (الفاشي) على الطريقة الإسبانية.
إن تحالفات الدكتاتوريات الرأسمالية العسكرية في روسيا وإيران والصين كانت مظهراً واسعاً مشابهاً للدكتاتوريات الفاشية الأوروبية المتحالفة ضد الجمهوريين الإسبان قبيل الحرب العالمية الثانية، وذات مظاهر مختلفة، تحددها درجاتُ التطور السياسي وتخلف وعي الجماهير الشعبية في الشرق خاصة، وسيادة المظاهر الدينية المحافظة التي شكلت غبشاً على وعي الناس على مدى قرون.
لقد هاجمت هذه القوى الحكومية السورية بعنف وبلا رحمة الجماهير السورية ذات التسليح الضعيف وقامت بفظائع تجاوزت مستويات الحرب العالمية الثانية، وكذلك قطعت طرق المساعدات العربية والعالمية، وأججت حركات المتطرفين الدينيين في المذاهب المتعددة لتحويلها إلى حرب دينية تُبرر فيها أساليب العنف كافة.
وكانت المساعدات العربية مثل مساعدات القوى الدولية قبيل الحرب العالمية الثانية للجمهوريين الإسبان التي كانت ضعيفة ومتراخية ثم منقطعة. لقد تركوهم يُذبحون!
وهكذا راحت تحالفات الأنظمة العسكرية الشمولية السابقة والمتنامية تحيط بسوريا من كل جهة، وتخترق المنطقة بأسرها لتكوّن حصاراً قوياً بأشكال مختلفة وأقنعة متعددة.
فيما الليبرالية الأمريكية الحاكمة فقدت قدرتها على الهجوم وراحت تعيدُ العلاقات مع الأنظمة العسكرية الشمولية، وكررت الأحاديث السهلة الكثيرة عن الخطوط الحمراء والهجوم المتوقع إلى التحذير من المتطرفين والتركيز على السلاح الكيماوي وعزله عن غابة الأسلحة الفتاكة، وأقامت العلاقات مع الأنظمة الدكتاتورية العسكرية الآسيوية المختلفة، للتوجه إلى الأسواق المنتظرة، وعدم تشجيع الثورات الحرة والأنظمة الديمقراطية العلمانية الوليدة، والدخول في صفقة كبيرة مع القوى الدينية المحافظة.
لقد حدثت هذه التطورات فوق أرضية اجتماعية عربية ذات وعي مرتبك بين الثورة والثورة المضادة، وفوق نسيج شعبي شمولي اجتماعي يطمح إلى حريات سياسية وتطور اقتصادي من دون قواعد مادية إنتاجية كبيرة، وكلما تأخرت الثورة السورية في الانتماء التحديثي والبرنامج الديمقراطي العلماني الوطني، تضعضعت صفوفها، وتحولت إلى حرب أهلية طائفية.
تحول الثوار الوطنيون إلى جماعات دينية تعيش لحظات غيبية ملأى بالهلوسة ترافق مع غياب التسلح الثقيل الذي قيل إنه سيكون واسعاً مؤثراً، ومع بقاء الأسلحة الخفيفة، وغياب روح الهجوم واعتماد الدفاع، ولهذا كله انتهزتها فرصة قوى الثورة المضادة التي واصلت الهجوم الوحشي في كل مكان.
ولهذا لا بد من نفض سياسة الدفاع والتفكك السياسي المذهبي والانقسام السياسي واعتماد الهجوم الواسع الشجاع وسحق العدو في كل مكان!

سوريا العواصف والمذابح
18/7/2014
ظهر العلويون كمذهب إمامي أكثر تطرفاً من الجميع. كان هذا يعني عزلة شديدة عن القوى السكانية الأخرى، وهم المسلمون الآخرون، والمسيحيون، والتحديثيون.
لم تستطع القوى المدنية مع استقلال الدولة السورية أن تقوم بأية إصلاحات ديمقراطية، سواءً على مستوى الزراعة بتغيير علاقات الإقطاع، أم بتطوير الصناعة تطويراً جذرياً.
وكانت فترة الخمسينيات قد شهدت مرحلة ديمقراطية مهمة، لكن حكم الوحدة المصرية ~ السورية كرّسَ الاستبداد، وبداية تكوين رأسمالية الدولة على غرار مصر، واستغل البعثُ ذلك ليثب إلى السلطة فتم تعطيل الدستور وإقامة حكم الطوارئ.
وكان ما يُسمى الخيار الاشتراكي محاولة لتجذير رأسمالية الدولة، وبدأ بهذا العلويون السياسيون السيطرة تحت ضباب البعث الإيديولوجي الكثيف، ومنذ أن طرح صلاح جديد وجماعته تصفية المُلكية الخاصة لوسائل الإنتاج لتغدو الدولة المالك الوحيد، وكذا تغيير تخلف الريف وتحجيم الإقطاع في مجال الزراعة، وكان نظام الوحدة الناصري قد بدأ ذلك، ولكن حدث صراعٌ بين الاتجاه اليساري المتطرف والاتجاه المعتدل وبدا ذلك في الصراع بين قائدي الانقلاب البعثي: صلاح جديد وحافظ الأسد، وكان خيارُ الرئيس الأسد هو الرأسمالية المُسيطر عليها من قبل الجيش والطائفة العلوية فصفى الجناح اليساري في حزب البعث وشجع الأحزاب الأخرى تحت هيمنته.
رأسمالية الدولة التي أنشأها جعلها تضمن سيطرته على الجماهير الفقيرة خاصة، مع تسريب طائفته للسيطرة المطلقة على الجيش والاقتصاد.
كان حلم الأسد الأب وراثة العلويين للرأسمالية الحكومية، وشهد حكمه تطورات اقتصادية واجتماعية كبيرة عبر خلق الانفتاح واستغل الحروب والمساعدات العربية والاقتصاد اللبناني، لكن في عهد ابنه تصاعدت بوضوح أزمة رأسمالية الدولة، التي سوف تنعكس على الاتجاهات السياسية والمذهبية الدينية ومواقعها في المجتمع.
وقد تراجعتْ نسبةُ النمو في الاقتصاد السوري حتى وصلت إلى 1,3% سنة 1996، وتراجعتْ مكانةُ سوريا في الترتيب الاقتصادي العالمي من المرتبة 80 حتى111، أما الديون الخارجية فكانت تبلغ 22 مليار دولار، وكانت البطالة تصل إلى 18% من مجموع السكان العاملين.
إن مشروعَ وراثةِ الأسر العلوية للرأسمالية (الوطنية) استمر وتصاعد مع عهد الرئيس بشار الأسد، وهنا ظهرت إجراءاتُ الخصخصة، المعبرة عن ضرب القطاع العام وتملك مشروعاته، وتنامت (الليبرالية الجديدة) التي ليس فيها ليبرالية سياسية، وينحصرُ ذلك في تملكِ الفئة العلوية والقوى الرأسمالية عامة المشروعات الاقتصادية العامة الرابحة، وتنامت مواقعها في المدن الرئيسية وأحيائها الثرية. فيما أن المدن الأقل حجماً تشهد الفقر والأوضاع الصعبة ولهذا فإن شبكة الثورة تمتد في المدن الأقل حجماً وسكاناً والأرياف الواسعة ذات المذاهب المغايرة.
استطاعت الإداراتُ السورية أن تسبق بعض دول المشرق في تصعيد جسم الرأسمالية الخاصة التي خرجتْ من تحت عباءة الدولة بفضل هذا الضغط المعيشي على الجمهور العامل.
(لقد اصبحت حصة القطاع الخاص ورجال الأعمال (أي البرجوازية الخاصة) من الناتج المحلي الإجمالي من 64,2% عام 2005، إلى 70% عام 2008، ولا سيما أنها تسيطر على 65% من الصناعة، و75% من القطاع التجاري).
والحديثُ الملتبس عن الوطنية والاشتراكية يقابله إجراءاتُ وقرارات تعصر الطبقات الشعبية بشكل مستمر، فقامت بـ(تحرير) أسعار المحروقات والعديد من إلقاء تبعة الأزمات الاقتصادية على الجمهور.
كان السيد رفعت الأسد ضابطاً صغيراً في بداية الستينيات ولا يتجاوز راتبه عدة مئات من الليرات، ثم صار يملك المليارات ورحّل نصفَ ذهب سوريا إلى الخارج. وباسل الأسد توفي وقام البنكُ السويسري الذي أودعَ فيه حساباً له بأخذ نصفه البالغ عشرين ملياراً، لأنه كان أعزب ويتم هذا الأجراء بحسب القانون السويسري!
كان هذا يعكسُ واقعَ أسرةٍ مَلكية ~ جمهورية غير ذات جذور في الاقتصاد والواقع، فهي نتاجُ انقلابٍ فوقي، مثل كل الأسر الجمهورية العربية السابقة للثورات المعاصرة.
ربيع دمشق الذي تفجر بين وفاة الأسد الأب وتسلم ابنه السلطة عكس حلم مثقفي فئةٍ وسطى حرة دون وجودها كقوة في الحياة السياسية الاجتماعية، وكان هذا وهماً لم يَقرأ كيفية صعود هذا الابن نفسه، الذي كان اختراقاً لدستور غير ديمقراطي.
كان الرئيس حافظ الأسد متوازناً في نظامه الاجتماعي السياسي الذي صعدت فيه الطائفة العلوية وقواها السياسية العسكرية، ولهذا خلق توازناً بين القطاعين الخاص والعام، ونشر هذه (التعادلية) في علاقاته بالطبقات والدول والغرب والشرق.
فهو القومي والوطني، وهو مؤسس الجبهة الوطنية وفيها بذور الأفكار التعددية، وهو الذي يقفُ بمهارة مع الدول العربية المحافظة والتقدمية، وهو المؤيد لأرباح القطاع الخاص المتصاعدة والمحافظ على أسعار المواد الغذائية الشعبية.
لكن هذه السياسة المتوازنة كان ينقصها شيءٌ رئيسي هو الديمقراطية، أي أن تجري العلاقةُ بين القطاعين الاقتصاديين، والطبقات الحاكمة والمحكومة عبرَ أدوات الديمقراطية، وتبادل المواقع، ولكن الذي حدث هو تحولُ الجبهة الوطنية وحزب البعث إلى واجهات للقبضة العسكرية الأمنية وبهذا انفتح باب الفساد الواسع.
وبفقدان ذلك راح القطاعُ الخاص يلتهمُ المالَ العام، وتغدو الأسر العلوية والنخبة الحاكمة ذلك الوريث غير الشرعي للجمهورية.
وجاء الابنُ بشار الأسد وريثاً شكلياً لأبيه، وليس وَريثاً لمناقبه، فانتهتْ سياساتُ التوازن، وكان الورثةُ الحقيقيون هم كبارُ الضباط العلويون والأسر المالية المتنفذة الذين مثلوا هجوم (الأسود) على المال العام وعلى سرقة لبنان، فحولوا الرئيسَ الجديد إلى واجهة.
عملية الانهيار اتضحت ليس فقط في اشتعال الأسعار فوق لحم المواطنين، وشراء الملكيات العامة ببخس الأثمان وشيوع الفساد بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ سوريا، بل كذلك في انهيار التحالفات السورية الوطنية التقدمية والهجوم على رموز اليسار والقوى المستقلة في سوريا نفسها ولبنان وتصعيد حزب الله والتحالف مع إيران.
وكانت المنطقة تشهد انهيار الشعارات التنويرية والديمقراطية التحديثية لصالح صعود التيارات الدينية المحافظة، التي اتخذت شكلين رئيسيين: طائفية سنية، وطائفية شيعية. وهذان الشكلان يمثلان صعود القطاعات العامة النفطية (المطلقة)، أي المكتسحة للقطاعات الخاصة المنتجة.
وبهذا، فإن الدولة السورية الجديدة وجدت نفسها تنساق في الطائفية، أما توازنات الأسد الأب فقد انهارت في عهد ابنه، وهكذا فإن البرجوازية السوداء التي ظهرتْ في القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع سحقت ربيع دمشق واعتقلت المفكرين الذين لم يفكروا بطبيعة هذه البرجوازية واستعادت المجتمع الشمولي عبر انحدارات جديدة، فالتوزان الطوائفي بين العلويين والسنة والمسيحيين انهار، ليظهر تحالف العلويين والاثناعشرية، بشكل أجسام بشرية كثيفة من جنوبي العراق ولبنان، وعبر تحالف مناطقي، يعلن شكلاً التصدي للاستعمار وينفذ الدفاع عن قطاعات عامة عسكرية فاسدة وأرياف متخلفة وثقافة محافظة.
الاستقطابية الرهيبة الشديدة لم تُر من قبل القوى الطامحة في التغيير وظنت أنها ببعض التظاهرات قد ترجع النظام الى خط الإصلاح والجبهة الوطنية الحقيقية، ولكن هذا الزمان ولى وظهر زمن الاستقطابات الطائفية الحادة المعبرة عن قطاعات عامة عسكرية ضارية في كرهها للديمقراطية ووحدة المسلمين والقومية العربية.
تراكم فساد العلويين العسكريين والمدنيين واتسع ليشمل جوانب كبيرة من النظام والاقتصاد، وما عاد من الممكن إصلاحه إلا بانهيار شامل.
اختارت الطبقةُ الحاكمةُ الجانبَ الفاشيَّ من الثقافةِ الغربيةِ منذ أن كانت الفاشيةُ خلايا صغيرةً في وعي البعث، وتغدو (العلوية) كمذهبٍ يمثلُ أقليةً شديدة، عنصراً شديدَ المفارقةِ بين هذه النخبة وتراث المسلمين عامة، ولهذا تبدو عملية التضاد الكبيرة بين المذهبين السني والعلوي، كشكلين محافظين مهمةً، فيغدو الأولُ مُعبراً عن الأغلبية الشعبية سطحية الوعي التي تعيشُ خارجَ الهيمنةِ الحكومية القاسية وأرستقراطيتها العلوية وربما تشارك في جزء من فسادها، وتتوجه الطبقةُ الحاكمة في نظامِ الاستغلالِ الذي تقومُ به إلى التطرفِ بعد تفاقم هيمنتها ودخول سيطرتها في أغلب الشبكة الاقتصادية الاجتماعية وهي التي كانت في أولِ أمرِها متوازنةً في الصراع الاجتماعي، بسببِ طابعِ قيادة حافظ الأسد المتوازنة، لكن عنصرَ الفاشيةِ كان موجوداً في عهدهِ كذلك، عبرَ مذبحةِ حماة، وهو أمرٌ يشيرُ إلى طابع الصدام الأولي في شكلية الدينيين، وفي تأثيراته البشرية التالية.
(معنى الفاشية هنا: أنها الأرهابُ الدموي الجماعي).
كانت عناصرُ الفاشية موجودةً في هذا النمط من الوعي القومي، ويبدو ذلك من (عسكرة) الفكرة السياسية وجعلها مليشيات مسلحة عنيفة مع وجود عنصر الفساد وخراب (الذمم)، وهو أمرٌ يشيرُ إلى إلغاءِ الدين كقيمٍ إنسانية وكنسيجٍ وطني بين الناس.
والأفلاسُ (العلماني) البعثي هنا يبدو في هذا الدهسِ للتراثِ الديمقراطي الديني الإنساني وللقيمِ الماركسية التي حدثَ تقاربٌ أولي معها، وكذلك لقيمِ البرجوازيةِ الديمقراطية، فهذه المصادرُ كانت تقوي الحكمَ العامَ الدستوري والصلاتَ بين النخبةِ الحاكمة والشعب، ولكن مجيءَ الأسد الابن، وتصاعدَ الطبقةِ الفاسدة وحكمها المباشر، دفعها نحو الاثناعشرية التي تتصاعدُ بشكل فاشي في إيران، حيث وَجدت فيها إمكانيةً لحشدِ السكان الذين من الممكن تجنيدهم لسياستها وهم في حالةِ هوسٍ ديني.
ليس ثمة هنا تقدير للأئمة ودورهم الإنساني السابق بل يُؤدلجون ويجري الاعتماد على التحشيد الجماهيري العسكري العنيف وربطه بقضايا مشحونة زائفة، وهي أشكالٌ قامتْ عليها الفاشية، ويجري هنا تأجيجُ العداوات المذهبية وبين البشر عامة، واستخراج المخلفات العتيقة من الماضي، أي بعث جميع أشكال الوحشية، وهو ما تتوَّجَ في توجيهِ السياراتِ المفخخة لقتل المسلمين والمسيحيين واليهود والبشر عامة في المنطقة وخاصة في العراق ولبنان، ولم تواجه هذه الفاشية المتصاعدة بتحالف دولي ديمقراطي ومحاربتها.
ووضعت كلُ هذه المواد سوريا على فوهة البركان الاجتماعي الذي كان محتدماً مستعداً لقذف حممه.
الوعي السني السائد المعارض ظهر بشكل وعي الإخوان المسلمين كما تشكلت عملياتهم في أحداث حماة وبهذا اختاروا الطريق الطائفي، في حين وصل العلويون إلى الاستقطاب ولم يعودوا قادرين حتى على الإصلاح فكانت مواجهة طائفية بامتياز تحققت من مسار الأحداث، وتصاعدت عسكرياً، وكان لدى العلويين جيش كبير متمرس على الحروب والأسلحة الثقيلة وسلاح الطيران الحاسم فكانت قدرات ضربه كبيرة على العامة المجندين الثائرين المختلفين فكرياً وسياسياً فكان يذبح ويتقدم في المعركة.

بين سوريا وروسيا –
8/7/2011
تجربتا سوريا وروسيا تمثلان تطرفاً في تشييد الرأسمالية الحكومية الشمولية. حيث غلبَ العنفُ على عمليتي البناء، وغابت الطرقُ الديمقراطيةُ في تشييد التجربتين رغم الفارق الزمني وفارق مستوى التحولات الواسعة الجذرية في روسيا ومحدوديتها في سوريا.
العنف وسيطرة القوى العسكرية وتحجر الإدارات الحكومية وتكلس الايديولوجيتين المستخدمتين في التجربتين وتحولهما إلى أشكال يابسة من الرؤى تعكس بيروقراطيتين انعزلتا عن الجمهور على مدى التاريخ الأخير خاصة لكل منهما.
وأي تجربة تُصاغ بالعنف يصعب على القوى الديمقراطية الجنينية أن تظهر وتنتشر بين صفوف الشعب، في حين تقدر القوى البيروقراطية على إنشاء العصابات التي تغدو هي المهر الأخير المسيطر لكل نظام متكلس عاجز عن الديمقراطية.
هيمنة الضباط الكبار، والتجارة بالسلاح، والحكم بالسلاح هي آخر خلاصات هذا التاريخ.
ويؤدي ذلك إلى عرقلة ليس الشعبين فقط ولكن مجمل الشعوب التي ترتبط والتي تتأثر بالتجربتين وتتداخل معهما علاقات وتجاربَ وتأثراً.
تتخلق هنا مجموعة من الأنظمة التي تتأثر بمثل هذه السيطرات وتقلدها وتنشرها وتتحول إلى تجمع إقليمي للقهر، كما تعرقل تطورات الشعوب الأخرى الصغيرة المجاورة والمتأثرة بمثل هذه الدول الكبيرة.
نجد حراك الشعب السوري يقوم على الجمهور العادي فهو الذي يبذل التضحيات الجسيمة، وفيما الشعب يفتقد قطعة سلاح، فإن الحكم مليء بكل أنواع السلاح ويستخدم المدرعات في ضرب المدن، وسوف يلجأ إلى الطائرات فيما بعد.
النظام العسكري وقد تسلح من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، يعكس العسكرة الطويلة، فيما التمردات فردية وغير قادرة على شق هذا الجيش الذي تصلب طويلاً في صراعه ضد الديمقراطية.
ولهذا فإن المعارضة السياسية الفكرية ليست سوى براعم صغيرة في بحر الشعب المنتفض، غير قادرة على تشكيل هيئات سياسية قوية تأخذ مبادرة القيادة وتجاوز النظام.
ولهذا فإن النظامين العسكريين يساندان بعضهما بعضا، فليست المسألة هي الاستثمارات الروسية فقط ولكن حماية أسلوب نظام الشمولية الحكومية كذلك، وهو نظام قاري واسع، قامت بعض الشعوب العربية باختراقه.
الطبقة الوسطى التي وُجدت في كل من النظامين جاء أغلبها من أحشاء النظام، وبهذا فإن ثقافتها مافيوية، في حين أقرت الملكية الخاصة مجدداً في روسيا ظهر قطاع خاص كبير يوازن قطاعات خاصة عريقة في مثل إيطاليا، ولكن رؤوس الأموال كانت نازفة نازحة من أجهزة الدولة.
مفردات السياسة السائدة اعتمدت كلمات مثل (الاشتراكية) والديمقراطية التوافقية، وغيرها من الفقاقيع الفكرية السياسية، التي تعني بقاء وسيادة الأجهزة الحكومية على أغلبية المال العام.
مصطلحات مثل الطريق الروسي الخاص للتقدم والطريق الاشتراكي العربي تُطرح كذلك للحفاظ على العائلة المقدسة، ورفض الطرق الغربية الإباحية، لرفض حرية الإنسان ولضرورة بقاء الأوصياء عليه، لكن حجم الموبقات والفساد الأخلاقي يظهر بشكل هائل بعد ظهور شيء من الشفافية، مثل تألق المافيا كقائدة عليا للبلد.
غياب الحرية وسيادة السلاح الرسمي واعتماد العنف كحل للصراعات الاجتماعية والإبقاء على الفساد السياسي هي بعض تجليات هذين النظامين.
المستوى الاقتصادي يكشف العلاقة بين الطبقتين الحاكمتين الفاسدتين في كل من روسيا وسوريا، حيث تقوم الأولى بإسقاط مبالغ ضخمة من الديون، فسددت سوريا مبلغ (3,5) مليارات دولار فقط من مبلغ (13,5) مليار دولار، وهي أرقام رسمية لكن تكشف بعض الاستغلال على الضفتين على حساب الشعبين.
إذًا يغدو الدفاع عن النظام السوري سياسياً منعاً لمعاقبته بكل أشكال العقاب وهو يقوم بذبح الشعب، آخر خدمة إجرامية تقدمها السياسة الروسية الرسمية للطبقة المسيطرة حليفتها في أنظمة الدكتاتورية في الشرق.

روسيا والصين وخيانة الأمميةِ تجاه سوريا –
5/ 9/ 2011
تدهور الموقف الأممي النضالي لروسيا والصين ليس عجيباً ولكنه مرعبٌ ومخز تجاه المذابح التي تقومُ بها الطغمة الفاشية في سوريا تجاه الشعب.
إن تحللَ هذه الدول وحكامها وطبقاتها العليا المسيطرةَ من القيم النضالية والديمقراطية بدأ منذ التأسيس، حين أقيمتْ المُلكيات العامةُ عبرَ الدكتاتورية والجريمة والاستغلال والعنف.
وإذا كان من مبررات لتلك المُلكيات فإنها تتهاوى مضامينها الإنسانية مع غياب الرقابة الشعبية وحرية التنظيم والتظاهر وحرية العقل في النقد واستشراء الفساد ووضع الأشرطة اللاصقة على الأفواه.
بدأ هذا منذ أن تشكلت أسسُ التجربةِ التحديثية على الهياكل العسكرية (البوليسية) وتعاونت روسيا السوفيتية مع النازية قبل بدء الحرب العالمية الثانية والاتفاق على تقسيم بولندا وابتلاعها، والسكوت على جرائم الستالينية في الحركة التقدمية العالمية خاصة داخل الاتحاد السوفيتي، مثلما قامت الصين الماوية على القهر والدكتاتورية الدامية.
قامت القوى الطبقية العليا في المجتمعين بالنمو على حساب العاملين، وعلى حساب إنتاج الوعي الديمقراطي والمكاشفة الشعبية وحرية الجمهور في تبديل الهياكل السياسية البيروقراطية التي تحولت لبرجوازيات استغلالية عفنة.
النتائجُ الأخيرةُ من نمو المجتمعين كانت ازدهاراً في التجارة والصناعة والتسلح لكن على بُنى اجتماعية تعتمدُ على قهرِ الشعوب وتزييف المؤسسات والانتخابات والخوف من الديمقراطية.
حتى في تحول روسيا والصين إلى أنظمة رأسمالية حكومية فاسدة في بُناها التحتية لكنها لم تعتمد مثل هذا العنف الفاشي الواسع النطاق البربري كما في سوريا.
ربما كان هذا في عهد ستالين حيث المقابر الجماعية والتحكم في الملايين من البشر بمعسكرات الاعتقال، لكن المجتمعين حاولا أن يخرجا من الفاشية المتسترة بالماضي الاشتراكي والتاريخ النضالي لكنهما لم يخرجا بعد إلى الديمقراطية.
لذلك هما يهتمان أكثر بمصالح الطبقات العليا صاحبة الكلمة الفصل في التجارة الخارجية، وغير قادرين على ضبط الإيقاع الاقتصادي بالمسار الديمقراطي الذي يجتاح العالم، خاصة أن جيوبهما المنتفخة هي التي تحددُ القيمَ الرفيعة.
إن علاقاتهما بالدول الرأسمالية الحكومية الشمولية كليبيا القذافي وسوريا الأسد أتاحت لهما الحصول على عقود هائلة وعلاقات اقتصادية ثمينة وإفساد جماهير واسعة من خلال المنافع والتجارة السرية، وكل هذه تمت من دون شفافية ومن خلال التعاون المشترك الفاسد بين الهياكل البيروقراطية في هذه البلدان، التي تغدو منافعها على حساب الشعوب والصداقة والأممية النضالية التي دُفنتْ من خلال هذه الشراهة وهذا التكالب على المنافع الفئوية.
من هنا فإن مناظر الجماهير المقتولة في الشوارع السورية لا تثيرُ شيئاً من الحنق في لوردات المجتمعين الاشتراكيين السابقين، وقد تحولوا إلى وكلاء عالميين لدم البروليتاريا المسفوح بين الأسلاكِ الشائكة في عالم التجارة غير النظيفة، وتخدرت جموعٌ غفيرةٌ من جماهير البلدين بأفيون المصالح الخاصة ولم تعد تفرق بين دم الغنم ودم البشر.
حتى في شيخوخة الاتحاد السوفيتي وهيمنة البيروقراطية غير القابلة بالديمقراطية لم تعجز صرخة الشعوب عن أن تصل لأسوار الكرملين السميكة، وتحرك الشيوخَ الكبارَ في المكتب السياسي، وتدفعهم إلى التضامن والتهديد والتنفيذ.
الآن مات الحسلا الأممي في موسكو الحكومية الرأسمالية السوداء قائدةِ الشعوب في زمن التحرر الوطني، وهي تقيسُ بدقةٍ وبطءٍ شديدين حجمَ العملة الصعبة التي سوف تدخلُ جيوبَها وجيوب شركائها الكثيرين، بغض النظر عن بحار الدماء التي تجري من درعا حتى حلب، وارتفاع المقتولين متجاوزاً الأرقام الفلكية من دون أن تدرك أنها تخسر الأسواق المستقبلية وتخسر المستقبل السياسي وستتقاعد مع القذافي ومبارك والأسد ذات يوم، وتجلب العواصف السياسية الهوجاء داخل مجتمعها المتململ من موت التاريخ النضالي وسيطرة الشركات العابرة للجنسية على البنوك والشركات المحلية.