كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
” النبوة وعظمة المرأة
” تدهورُ مكانةِ النساء
” المرأة والحداثة المهزومة الأولى
” حراس الأسرة الأبوية
” الحجاب والتطور التاريخي
” الحجاب والهيمنة
” الحجاب والصناعة
” المرأة والنهضة
” الأسرة بين الفقه والسياسة
” قوانين متدرجة للأسرة
” النساء في ظل الدكتاتورية الذكورية
” المرأة ودكتاتور الأسرة
” حريات النساء مقياس للديمقراطية
” النساء وضعف الخبرة السياسية
” النساء وقضية الأنا
” دليل المرأة الذكية للوحدة الوطنية
” خطورة الوعي السلبي للمرأة
” النساء والانتخابات
” النساء والنضال الموسمي
” تحالف التجار والعمال والنساء
” المرأة بين السلبية والمبادرة
النبوة وعظمة المرأة
عبّر تاريخ الإسلام التأسيسي عن العلاقات الريادية العظيمة بين الجنسين، جنس الذكور والإناث.
في لحظاتِ الحدس والتبصر بتشكيلِ الثورة الإسلامية اجتمعت ثلاثُ شخصياتٍ مكونة أولَ خليةٍ لتفجير تلك الثورة في ظروفِ العسرِ والتخلف، الشخصية الأولى هي شخصية نبي الإسلام قائد تلك الثورة، والثانية هي ورقة بن نوفل، والثالثة هي السيدة خديجة.
النبي الشاب هو متلقٍ ومستمعٍ ومدعومٍ من تلك الشخصيتين، ورقة يقدمُ معلومات وأرشيفاً لما أحدثهُ الأنبياءُ السابقون من تغيير لمجتمعاتهم، وخديجة تقدمُ الاشتراكَ المالي والدعم الاقتصادي.
لا شك أن السيدة خديجة هي مجمعة الجانبين، ورقة والنبي، وصانعة لتلاقحهما الفكري، الذي لعبَ دورَ المفجر للعملية التاريخية الهائلة فيما بعد للجزيرة العربية والمنطقة والعالم.
كان ثمة فارقٌ كبيرٌ في العمر بين خديجة والنبي، وقد عرضت السيدة الثرية إقتراحاً على النبي بأن يتزوجها، ضاربة العلاقات المالية والاجتماعية عرض الحائط، في خطوة غريبة تسبقُ الزمانَ والمكان!
لماذا لم يقمْ نبي الإسلام بالأعراض عن مثل هذه المرأة الكهلة، هل كان طامعاً في مالها؟
هل كان عارفاً بشكل إستباقي لفقر دعوته وضرورة المال لها؟
لم يكن ذلك كله، بل كان يتوجه لكشف وتطوير العناصر الإيجابية الفاعلة في كلا الشخصيتين، في ورقة تحريك معرفته وسجلاته عن تارخ الأديان ~ الثورات السابقة، ومع خديجة كان ثمة جوانب أكبر شخصية وعامة متداخلة بشكلٍ حميم؛ وأهمها تطوير الرسالة المشتركة لكلا الشخصيتين: تفجير الثورة في بلاد العرب الغافية المتخلفة!
تم إلغاء الفوارق العمرية والجنسية والمالية، لم يعدْ مهماً أن تكون شاباً فقيراً فتياً، أو إمرأة متزوجة سابقاً وذات عيال، في هذه اللحظة النضالية العليا الخادمة للأمة والناس والتاريخ وكان المهم هو تشكيل هذه الخلية القائدة التي تجري فيها المساواة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تجابه عالم التفكك والتبعية باقتدار وأنتصار.
إذا حاولنا أن ننظر بمنظار غير ذكوري متجمد سنجد أنها تجربة فريدة في تاريخ الثورات، فحتى في عصرنا الراهن كان وجود النساء في المكاتب السياسية الحزبية القائدة للتحولات معدوماً، ومُنكـَّراً ومرفوضاً، وكانت حتى عشيقات القادة والأمناء العامين للأحزاب متواريات، وملغيات من تاريخهم، وكأن ليس ثمة دور للنساء قيادي ورمزي!
لكن في تاريخ الثورة الإسلامية التأسيسية سيبقى مكان السيدة خديجة محفوظاً ومقدراً. في تلك الظروف من البداوة والذكورية الساحقة!
فيما بعد سيدلي نبيُّ الإسلام بشهادتهِ الموضوعية عنها، وفي لحظةٍ من سيادته السياسية والفكرية وبعد أن رحلت تلك الزوجة: بأنها دعمته إذا تخلى الناس وحتى الأهل عنه، وأنها أطاعته وأحبته وآمنت به الخ..
وحين كان يحدث ذلك الإنكار والتخلي من أقرب المقربين للمثل العليا المطروحة، وتقوم امرأة غنية بتوزيع ونثر أموالها على زوجها المحاصر المجاهد الفقير، فأية مكانة؟
ويضيف نبي الإسلام في شهادته حين غيب الثرى السيدة خديجة، ولم يعد طامعاً لا في مالها ولا في شد أزره، بأنها كانت الولودُ من بينِ كلِ نسائه!
ليس هذا تعييراً للنساء بأنه لم يكن ولودات فبعض زوجاته أنجبن، ولكن دلالة المسألة هنا بأنها كانت ولودة مشغولة بالحمل والرضاع والتنشئة، وكذلك لم تفارق مهمات الحركة النضالية من دعم مالي ومن مساندة نفسية ومن دعوة، فجمعت أعباءً ثقيلة وهي في كل هذا العمر المتقدم، وأحسنت تنشئة أبنائها وكذلك الصبي، الإمام فيما بعد، علي بن أبي طالب الذي كان له بعد ذلك التاريخ المعروف في الإسلام، وأبنتها السيدة فاطمة ومن سلالتها كان نضال الأئمة.
ولهذا فإن عملية التصغير من المرأة ومن مكانتها هي جزء من التاريخ الاجتماعي التالي، حين هيمنت القوى الاستغلالية ورفعت أشكالاً وأعراضاً من الإسلام، مفرغة من ذلك المضمون، إستناداً لسيطرتيها الذكورية والحكومية الاستغلاليتين.
وبهذا فإن علاقة نبي الإسلام بالمرأة نموذجية، وهي التي يجب أن نراها في عمليات التمثل والتقنين، وهي بهذا علاقة لم تقنن تشريعياً وقرآنياً لأسباب أن الحركة السياسية لها قوانين موضوعية لا بد من مراعاتها في كل مرحلة.
إن العلاقة الديمقراطية الإنسانية في العائلة المحمدية، لم تكن بقادرة على أن تصل للتشريع العام، فالدائرة العامة تخضع لمسارات مختلفة، بسبب حضور الرجال المكثف وسيطرتهم على الأوضاع، ولم تكن علاقة المساواة بين النبي والنساء، قادرة على أن تتحول إلى قانون في ظل ذلك التخلف العام.
وكانت قد عرضتْ المسيحية نموذجَها على العرب وحاولت إختراق نسيجهم القبلي الذكوري الجامد دون فائدة بسبب طرحها شكلاً للعائلة لم يكن العرب وقتذاك قادرين على إستيعابه!
وفيما بعد كرس المحافظون الجانب العام المرحلي، دون أن يراعوا النموذج المحمدي الأسري. وقد عبر القرآن عن علاقات الصراع بين النساء المجددات والرجال المحافظين الذين كانوا يريدون استمرار نموذج الجاهلية في الزواج ونتائجه، فتم الاعتراض عليه في ظل سيادتهم، وازدادت هذه السيادة مع الفتوح وسيطرة الأسر على أموال المسلمين!
وكانت السيدة خديجة نموذجاً شبه جاهز وطليعي في ذلك المجتمع، لكن ماذا نقول عن مثال السيدتين فاطمة وعائشة؟ لماذا فجر نبي الإسلام فيهما طاقات التحول، خاصة السيدة عائشة الزوجة الصغيرة من بين زوجات، لماذا صارت مرجعاً للشعر وتاريخ الإسلام والفقه؟
وفي تلك المهام الكبرى للنبي حصلت هذه الزوجة على كل هذه التطورات الفكرية ولم تـُعزل عن الثقافة والسياسة، ثم شاركت في صراعات سياسية كبرى، ومهما كانت إجتهاداتها التي كان للقادة الكبار رأي آخر فيها.
ثمة رافدان في نشأة الإسلام التأسيسي؛ رافد الديمقراطية الشعبية بما يحتوي على تشكيل دولة جمهورية ديمقراطية، وتعاون بين الرجال والنساء، وتوزيع الفائض المالي على الفقراء، وهو الرافد المؤسس الذي تجسد خلال نصف قرن، ومثل الرمزية الإسلامية الحقيقية الباقية، وهناك الرافد الآخر رافد الهيمنة الذكورية والإستغلالين الحكومي الأسري والخاص، والتوسع في السيطرة على النساء وإستغلالهن وإستغلال العامة، وقد وظف هذا الرافد بعض النصوص ليؤكد سيطرته الأبدية على النساء والناس معرضاً عن رمزية الأسرة المحمدية ودلالاتها وهي المؤسسة لذلك التاريخ!
تدهورُ مكانةِ النساء
لم تصور الملاحم والآداب وتواريخ الشعوب تدهورَ مكانة النساء بصور واضحة، بل عبر القصص والأساطير والحكايات الغريبة التي لن يجد فيها القراءُ المعاصرون أية علاقة بين حرمان النساء من الإرث الكامل والحق في اختيار الزوج وبين الموروث الفكري الديني.
بدأت قصصُ انهيار مكانة النساء في التحول منذ العصور الحضارية الأولى، حين عرف الناسُ المدنَ والكتابة، وقويت شوكات الرجال الحكام والعاملين ولهذا فإن اسطورة جلجامش الباحث عن عشب الخلود تبدو لا صلة لها بهذا التدهور لكنها ترميز حقيقي تاريخي أسطوري لهذا.
(ابتهل سكان أورك للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الإلهات، واسمها أرورو، بخلق رجل حي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات).
تجسد الاساطير واقعَ الانسان التاريخي عبر النماذج المبهرة، ذوات الأعمال العظيمة، ولهذا فإن جلجامش ملك المدينة المتطورة نقيض لأنكيدو المتوحش العائش في البراري والغابات.
وهذا تمثلٌ لتناقض المجتمع الحضاري الأول بين المدن والبداوة ومناطق الزراع الغابية المتخلفة، ولهذا نجد أنكيدو مجرد كادح يحاول تخليص الوحوش من شباك الصيادين، وهذه المهنة لم تترك له فرصة لكي يتمدن، ولهذا فإن جلجامش يجلب القروي الغابي المتخلف لدائرة تمدنه عبر إغراقه بالمتع والبذخ والشهوات.
والتناقض بين المدينة والقرية، بين الارستقراطية الحاكمة الوليدة ومنتجي الغابات والمزارع، كان هو التناقض الأول في الخريطة الاجتماعية، رغم هذا المظهر الفردي الملتبس.
وكعادة الحكام المعاصرين (يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا؛ فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز؛ فيقطع جميع أشجارها، وليحقق هذا عليه القضاء على حارس الغابة).
كما أن غابة الأرز تربة للعاملين الزراعيين ولكنها كذلك رمز للنساء، حيث الآلهة الأنثوية تسود فيها وتحميها، وهكذا كان تقدم الذكورة الحاكمة يأتي على أنقاض الكائنات الأنثوية المختلفة.
إن قضاءه على الغابة واشتباكه بالآلهة النساء هو طريق لما يمكن أن يُسمى الآلهة الذكورية المطلقة، حيث هنا لا تنوع ولا تعدد كائنات ذات سلطة كبرى، ولهذا فإخضاع جلجامش للغابة ومنتجيها يترافق مع تكونه كإلهٍ مطلق وحيد.
ولكن الاسطورة الإبداعية الخالدة في التراث الرافدي البشري ليست فكراً بل هي لمحات قصصية درامية لم يكتمل فيها نموذجُ الإنسان الإله، فالخلود المطلق لا يقدر عليه جلجامش وتخطفه منه (الحية). التي هي كائنٌ أنثوي مؤكدة أن عناصر الأنوثة لم تزل قوية حية في المجتمعات التي لم تستسلم كلياً لهيمنة الذكورة.
صراع الألوهة هو صور دينية وثقافية لتطور المجتمعات، هي إشارات لما جرى من أوضاع جنسية اجتماعية، ولهذا فإن (اللات والعزى ومناة) تُكتسح من المسرح الثقافي الديني العربي، والساحرات تُدمرُ الدور التي يقمن فيها بطبخ التعاويذ والسيطرة السحرية على الوعي.
إن الواقع العملي حيث القوة الرجولية هي صانعة النظام تظهر في هذه الآلاف من السنين المبكرة وتغدو الجزيرة العربية خاصة مركزاً للذكورية حيث الاعتماد المطلق على القوة، فيما أن شمال الجزيرة العربية في الشام خاصة بقيت بقايا الحياة المهمة للنساء، الحياة الزراعية التي يشاركن فيها، وقد عكس نشوء الدينين المسيحي والإسلامي بعض هذه الاختلافات في الوظائف المختلفة بين الإناث والذكور.
المرأة والحداثة المهزومة الأولى
عبّر الإسلام عن ثورة نهضوية في ظروف عربية شديدة التخلف، فحمل ميراثاً بدوياً محافظاً ثقيلاً، وهو يعبر بالعرب من مرحلة الفوضى والتخلف، إلى مرحلة النظام والتقدم.
وكما نهض على التحالف الكفاحي بين التجار المتوسطين والفقراء، لإزاحة الملأ الأرستقراطي الباذخ، فقد قام على تعاون بين الرجال والنساء في سبيل تشكيل حياة اجتماعية مختلفة.
فكان ظهور النساء في هذا المجرى الثوري واضحاً، عبر سطوع دورهن في البعثة والدعوة وتشكيل الدولة وحروب الجهاد والفتوح، ولكن هذه المرحلة انتهت بصعود أسر الأشراف مجدداً، عبر تراكم ثروات الفتوح والتجارة والعبودية في أيديها، وانقلابها على المشروع الجمهوري والشعبي الأول، وتحوله إلى ملكية عضوضة مدعمة بالجيوش الباطشة.
وقامت حكومات الأسر الأرستقراطية بجر الإرث البدوي المحافظ إلى الحياة المدنية الإسلامية، عبر الهيمنة المطلقة لرؤساء العشائر والقبائل واستعادة الحروب بينها والشعر المادح لها. لقد حاولوا استمرار الخيمة الصحراوية فوق المدن الجديدة.
فكانت عملية استعادة مضمون الحياة الجنسية للجاهليين، بجعل شهوات الرجال مباحة بلا حدود، يغذيها توسع المداخيل الهائلة للغزوات والفتوح، التي جعلت حتى الجنود الصغار قادرين على شراء الجواري، وامتلأت الأسواق بالنسوة العبدات والأسيرات المجلوبات من افريقيا وأوروبا الشرقية والهند.
كان هذا يقود فقهياً إلى التوسع المباح للرجال، والتضييق الواسع على النساء العربيات. فبدلاً من الظهور الاجتماعي الثري المشارك في عمليات التحول في ابان الثورة العربية الإسلامية التأسيسية، قاموا بإعادة النساء العربيات في المدن إلى الأقبية الخلفية في البيوت، وتم رفض مشاركتهن في الحياة السياسية والاجتماعية العامة.
بطبيعة الحال لم يستطع الرجال السيطرة على نساء الريف والبادية، اللواتي كن يشتغلن جنباً إلى جنب مع الرجال، ويشاركن في الحياة الاجتماعية والثقافية، فكانت بساطة الحياة والمساكن تجعل حضور المرأة شيئاً حتمياً. ولكن ذلك لم يكن يعني المساواة، بل زيادة أعباء المرأة وبساطة ملابسها وقلة زينتها وقوة جسمها، بعكس الحال في المدينة العربية التي ملأت المرأة نفسها بالزينة وأثقال اللحم والأمراض، محاولة أن تجذب الرجال النهمين الذين كانت اختياراتهم الجنسية الأجنبية واسعة.
وحتى عقل هذه المرأة المدنية كان متدهوراً بسبب منعها من النشاط العقلي، إلا ما كان غارقاً فى التدين والتصوف، وهي النافذة الوحيدة التي وجدتها المرأة لكى تعبر انها ليست جسداً فحسب، بل عقلاً وثقافة، مثلما فعلت رابعة العدوية وهي تؤكد انها إنسان وليست امرأة فقط، ولهذا ظهرت كمخلوق غير جنسي، وجعلت عشقها إلهياً. لقد تم قطع علاقة المرأة بالنهضة على المستويين المدني والريفي معاً، فالأرياف تكون غارقة عادة في العمل المضني وفي طبيعة قاسية واستغلال لا يرحم، ولهذا كانت البوادي والارياف تثور بفوضوية وعنف مخيف، وهي تنتقم من المدن التي استغلتها طويلا، كما فعل بنو سليم والقرامطة.
ويكشف حضور المرأة في الملاحم الشعبية عن هذه المقاومة التي بذلتها النساء للتأثير وتشكيل الوجود الشخصي، وللرغبة الدائمة في المساواة مع الرجال، ورفض التمايز الذي كرسه في انتصاره في الحروب وهيمنته على الملكيات الواسعة والصغيرة.
لقد كان نتاح هذا الصراع الجنسي وسيطرة طرف بشكل مطلق هو انهيار الحياة الأسرية العربية، وتشكيل أجيال من البشر المعقدين جنسياً والمعطلين عقلياً.
حراس الأسرة الأبوية
اعتمد الإقطاع الديني في هيمنته على المسلمين على الإرث القبلي الجاهلى، حيث الأسرة الممتدة وسيطرة رب العائلة المطلق، وتعني هذه الأبوية الشديدة، والعشائريه، وابعاد النساء عن الشؤون العامة والمساواة مع الرجال والمتاجرة الاجتماعية والمادية بهن.
وقد حاول الإسلام التخفيف من هذه الظواهر الجاهلية، لكن الفتوحات التى كدست الثروة فى أيدي الرجال والأغنياء، مثلت ارتداداً أكبر عن تعاليم الإسلام، ومع ظهور الإقطاعين السياسي والديني، تم تأبيد البنيه الذكورية الأبوية العشائرية وبعدها البنية الاجتماعية للأنطمة في أحكام تعدد الزوجات التي قام الإسلام بتخفيفها عن الجاهلية الأولى حيث العدد الحر من الزوجات، اشترط العدل، وكانت هذه الأحكام جزءاً من العمليه الاجتماعية النهضوية عن زمن التفكك والتخلف السابق، لكن الثروات التي انهالت على الأشراف وأيديولوجييهم الدينيين، جعلت أحكام العدل تتنحى والشهوات تفرض نفسها. ولم يكن ثمة حماية أكبرلأنظمه الاستغلال هذه من الادعاء والاحتماء بالدين، وأخذه في أشكاله المفصوله عن غاياته وتطوره.
إن الاستغلال الجنسي للنساء، والاستغلال الاقتصادي للعاملين والتجار والحرفيين، يتداخلان وهيمنة السلطة السياسية عند الحكام، والسلطه الأيديولوجية عند رجال الدين.
لكن كان على النساء أن يعانين وضعاً أصعب وأقسى بكثير من الرجال، كان عليهن أن يقاسين سيطرة الأسرة الأبوية، حيث يتحول المنزل إلى أداة للتفريخ والمتعه، وتنحجب المرأة عن العالم، لكي يؤدي هذا التحجب إلى القضاء على الأساس الاجتماعي الممكن لتطور المجتمع. فلم تؤد هذه الهيمنة الأبوية الذكورية سوى إلى التخلف الكامل لهذا الجنس، ثم تخريب تطور الأسرة الثقافي والاجتماعي. لقد صارت منزله المرأة لا تزيد على مكانه البهيمة، فهي تعرف في وثيقة
الزواج ما إذا كانت بكراً أم ثيباً، وهكذا فإن الأعضاء التناسلية يجب أن تُفحص أو يتم التأكد منها قبل الزواج، مثل الماعز التي تذبح، ويتم فحص جلدها ووبرها. ويزعمون ان هذه الصيغة تتفق وروح العدل في القرآن!
وإذا كان التاريخ الجنسي للمرأة يجب أن يكون معروفاً موثقاً ، فإن التاريخ الجنسي للرجل يحب أن يكون مصاناً محفوظاً، أي مُغيباً مجهولاً، فيستطيع أن يقوم بما شاء من مغامرات ولا يتم فحص أجهزته التناسلية.
كذلك فإن زيجاته السابقات ونساءه اللواتى على ذمته، وربما عشيقاته المحفيات، كل هؤلاء النسوة يجب الا يُسأل عنهن، أما المرأة التى أخذت كبهيمة إلى « زريبه» الزواج، فيجب أن يعرف بدقه ما إذا كانت عذراء بكراً، أم مطلقة أم أرملة، وبطبيعة الحال فإن سمعتها تكون قد سبقتها، فالقيود التى انحفرت فى قدميها، ويديها، وجدران السجن الأبوي التى أكلت من عمرها، والاخوة الحراس الأشداء قاموا بدورهم البطولى فى ضربها والتفتيش فى جلدها وملابسها بحثا عن رائحه ذكر.
عشرون سنة من السجن الأبوي، وفي مناطق أخرى أكثر (تحضراً) خمس عشرة سنة أوربما عشر، وتكون البهيمه الُمعدة للتناسل قد أُعدت للانتقال إلى سجن آخر، وتم دمغها بالشرف الجلدي العظيم، وأُعدت لإنتاج نسل أنوي دقيق متسلسل. ولكن الشكوك تبقى مستمرة، وتبقى الأقفال عند السيد، والأموال، والمراقبة، والمطاردة، والضرب والهجر والخيانة، والزواج بأخريات، وتبديد الصرف، وعدم وجود محاسبة ومراقبة من المرأة أو من المجتمع، فهوالحاكم المطلق في مملكته.
ويزعمون بعد هذا ان هذه الصيغة تتفق وروح العدل في القرآن!!
الحجاب والتطور التاريخي
مع تصاعد سلطة قبيلة قريش على الناس، وقيامها بالحروب والحصول على الغنائم وإنشاء القصور عممت الحجاب على النساء. نجد أنه حتى الأبنية العمرانية مغلقة كأنها سجون، والمساجد تجريدية. وقد عرفت نساءُ الشرقِ خاصةً الأحجبةَ المختلفةَ، التي تـُوضع على الرأس وتغطي الشعر، لأسبابٍ اجتماعية ودينية كثيرة ومعقدة، الأبرزُ فيها أن ذلك جرى بسبب تطور الملابس عامة في الأقاليم الحارة، وظروف الأعمال الحرفية المختلفة، وأوضاع البيوت المحدودة والخيام ووجود التجمعات الكبيرة، والأحجبة لم تقتصر على النساء بل استعملها الرجال كذلك، وخاصة في الصحراء والمشاكل التي يسببها الغبار والضوء الحاد وغيرها من العوامل الطبيعية.
أما تعميم الحجاب على النساء بشكل ديني، فهو أمرٌ سياسيٌّ تشكلَّ مع تصاعد دولة قريش تلك، وظهور الارستقراطية الحاكمة، ومعها الرجال البارزون المسيطرون على المنافع الكبرى، وبسبب تدفق الجواري والإماء مع حروب الفتوح عليهم، وهم الذين وسعوا القيود على النساء وحجبوا النساء الحرائر عن النساء الإماء حياة اجتماعية ولباساً.
الحزب الذكوري كان هو الأقوى، وقد برز في الحكم السياسي العام، وفي السيطرة على البيوت، والتحكم في طبيعة التربية، وهي التي أدت الى تدهور المجتمعات العربية وتخلفها الاقتصادي وسيرورتها مادة لسيطرة المجتمعات المتقدمة المتوسعة.
أما أن يكون الحجاب (غطاء الرأس) نتيجة للانقلابات السياسية المحافظة، فقد كان من الإيجابي مشاركة النساء بتوسع في الأحداث التحولية الحديثة، لكن مع سيطرة هذه القوى المتشددة والكارهة للفرح والفنون فقد انعكس ذلك على اللباس، وكانت جذور هذه الموجات بدوية وقروية، وهذا هو الشائع من اللباس فيها، أما نساء المدن في زمن التغييرات التحديثية الليبرالية، فكن زوجات تجار كبار ومتعلمات ذهبن الى الجامعات، فأعطى مستوى الحركة لباساً مختلفاً للقيادة فحسب، أما النساء العاديات فظللن في ملابسهن البسيطة المُخاطة في الحواري بأثمانها الرخيصة. إن اللباسَ لا علاقة له بالعقل وبالرؤى الفكرية والمواقف السياسية. وحركة الحداثة للنساء والرجال مرتبطة بالصناعات الثقيلة والخفيفة، ومستويات تغلغلها في البُنى الاجتماعية، ومدى جذبها للسكان ومستويات تطورها، فذلك يغير طبيعة الثقافة عبر ملاءمتها لهذا الإنتاج وتكييفها للتقاليد المتعلقة بكل شعب، وثيابه وطبيعة خصوصياته. واللباس الغربي يظل مرتبطاً بإنتاج آخر في ظروف مغايرة، ونحن نقوم بالتحديث غير العميق حتى الآن، ومن سوف يصنعُ ويغيرُ البُنى الاقتصادية سوف يفصلُ ملابسنَا الخاصة، وأزياءنا، وسوف تفرض القوى المسيطرة التصنيعية طبيعة هذه الملابس، وتعربُ الحشودَ من الأزياء والكرنفال الجامع لملابس العصور الوسطى والحداثة الغربية المعتدلة والمتطرفة والأزياء الهندية وغيرها، وهذا رهن بتطور صناعة الملابس العربية كذلك ومواقف النساء من كل هذا، ومدى ملاءمتها للعمل والحياة.
الحجاب والهيمنة
إذا كان الحجاب قد شرع في الإسلام لتمييز نساء العرب عن بقية النساء الجواري المجلوبات في بدء الفتح، فإنه لم يقصد به عزل النساء المسلمات عن التطور الفكري والثقافي والسياسي، ولكن ذلك تحول كذلك بعد ان اختلفت علاقات الرجال بالنساء اختلافاً كبيراً، فجرت الأموال الكثيرة في أيدي النخب الأرستقراطية، التي حولت قصورها وفللها الى ميادين للهو بالنساء، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية للتدهور السياسي والاجتماعي، لكن الكثير من كتب التاريخ والأدب تعتبر ذلك انجازاً حضارياً!
إن تدهور مكانة المرأة وحجبها عن العالم هما أحد المقاييس المهمة لضعف حال الجماعات العربية، فتم حجبها عن الأعمال المهنية والوجود الفكري والسياسي، في حين أعطيت المكانة الأولى للإماء والعبدات والمغنيات، لأنهن أدوات الترفيه عن الرجال الذين حجزوا زوجاتهم وبناتهم.
إن الحجاب هو الشكل الخارجي للهيمنة ألذكورية ولتدهور حال الأمة, فالحجب في البيوت وحجب العقول وحجب الفضائل الداخلية للمرأة، وتحويلها إلى أداة نسل محضة.
إن تركيز الجماعات المحافظة على الأشكال الخارجية واستغلالها لإضعاف تطور الأمة, يبدو في الحجاب ذروته الكبيرة, فهنا التركيز على اللباس، وكأن اللباس بحد ذاته يمثل فضيلة، وهو يتحول من جهة مضادة عند الحداثيين الشكلانيين إلى اللباس الفاقع المثير للغرائز، باعتباره هو الحضارة والتقدم!
اللباسان يعبران عن تناقضات الفئات الوسطى الحديثة واعتمادها على الشكل كمظهر للقوة وللحضارة، فعبر الديكورات الخارجية الملصقة بالأجسام يتصورون أحداث التقدم، وليس اللباس المرتبط بالوظيفة المتقدمة وبالأداء الحديث، فامرأة تقود جراراً زراعياً، أو جهاز كمبيوتر هو المعيار.
عملها المتقدم لصالحها ولصالح بلدها هو الفضيلة بحد ذاتها.
إن معايير العصر الذكوري العربي القديم تواصل تعمية تطور الأمة ونقلها إلى صراعات شكلية، وكأن بقطع من القماش أو الشعر يمكن حل معضلات التطور.
الحجاب والصناعة
ككل الظواهر التي شكلها الاستعمار وهو يقتحم البُنى الشرقية العربية وغيرها، قام الاستعمار على استمرارية الاضطهاد والتخلف القديم، فصار الاستعمار هو ذاته جزءاً من التركيبة المحافظة.
وفي التداخل بين الإقطاع والاستعمار الغربي هناك الظواهر المشتركة لاستغلال المنتجين، عمالاً كانوا أو نساءً أو فلاحين. ومن هنا تشكلت الإيديولوجية المشتركة المحافظة بين الجانبين، ولهذا فإن إدخال النساء ككتل واسعة في ميدان الأنتاج الحديث وخاصة الصناعي منه، كان مستحيلاً، لكون الاستعمار يعمل على تغييب الصناعة ككل.
لقد أمكن للمرأة الغربية أن تتحرر عبر الثورة الصناعية والعلمية فقط، فليس بالشعارات تتحرر المرأة.
وبهذا فإن النساء العربيات وجدن أنفسهن في ذات الدهاليز الضيقة لمجرى التحول العربي المحدود، وحين قامت الدول الوطنية القومية التحررية، فقد اعتمدت على القطاع العام التابع لسيطرتها السياسية، الذكورية، والبيروقراطية، وبهذا فقد حيل بين المرأة والصناعة مرة أخرى، وبين النساء والحداثة العميقة، وواصلت الدولة المذهبية التقليدية مسيرتها .
وقد صار عمل المرأة مركزاً عبر هذا التطور في مجالات الخدمات الحكومية وهو مجال لا يتيح لحرية جذرية، وحين تدفق النفط في المنطقة العربية في المناطق الأقل تطوراً، وذات الإرث الرعوي والقروي، تم استخدام عمالة أجنبية غير عربية، أو تشكلت صناعات استخراجية، بحيث كان تأثير الصناعة التحويلية هامشياً .
فواصلت الأنظمة المستقلة مسار الحياة التقليدية، وازدادت المحافظة مع تدهور الحياة الفكرية والسياسية في الأنظمة الجمهورية، ولهذا واصلت القوى التقليدية والبيروقراطية التحكم في الجمهور، وقد أتاحت الدخول المرتفعة وتدهور المدن العربية عبر التدفق القروي المستمر، تراجع عمليات التحديث، وإذا كانت الجمهوريات قد شهدت تدهورا، عائدة إلى أنظمة ملكية مطلقة، فإن الأنظمة الملكية أصيبت بالأزمة التي أرادت تسويقها للأنظمة الجمهورية.
وهكذا فعبر بعض التقاليد البسيطة الدينية فإن القوى المحافظة تنمو في سياق اقتصادي مأزوم، لم يتح لصناعة حرة أن تنتشر، وقامت القطاعات العامة بتدمير الثروة العامة التي جمعت خلال قرن.
يقوم المحافظون ومسئولو الأنظمة العربية والإسلامية الفاشلة بتحميل القدر أو الاستعمار أو الفساد الأخلاقي أو النساء، مسئولية فشل سياسة اقتصادية واجتماعية، ولا توجد من حلول لديهم سوى استغلال بعض المظاهر الدينية والإبقاء على الفساد السياسي.
ولم يكتف هؤلاء بتسويق الأزمة للأنظمة الجمهورية العربية وتخريب التطور العربي العام، بل يريدون تخريب التطور في الأنظمة الغربية كذلك، وهي التي فتحت ذراعيها لملايين فرت من
الفقر والاستغلال المتخلف والأزمات الاقتصادية في العالم العربي .
وهكذا يظهرون أنفسهم كحماة الفضيلة، وكأن الفضيلة هي مجرد غطاء على الرأس في حين يتركون العائلات الفقيرة والملايين يبيعون أنفسهم في الداخل و الخارج.
لم توجد قوة عربية سياسية حديثة وحرة، أي قوة تحويلية جذرية مرتبطة بالصناعة وتطورها، سواء من المالكين أو العاملين، فالمالكون الرأسماليون تأتي أغلب رساميلهم من العلاقات بالدول، في حين تأتي أغلب أجور العمال من العمل في المؤسسات التي تملكها الدول، مما جعل الطبقتين الحديثتين اللتين تحملان بذور النظام الحديث، تابعتين لقوى غير حديثة .
وهذا انعكس بدوره على مستوى حريات المرأة، فالحرية الشكلية أو العبودية الفجة تصنع من قبل الرجال، أحياناً بأشكال حداثية شكلية وأحيان بأشكال مذهبية تقليدية معادية لتطور الأمة.
لكن الحرية لا تُعطى فإذا أعطيت تغدو مسوخاً، وذلك لغياب إرادة المرأة الصانعة، فهي تصنع الأطفال لكن الأنظمة تحولهم ضدها، وحين لا تستطيع أن تصنع السلع التي عبرها تقحم إرادتها في التطور والحياة السياسية كجماعة واسعة، كطبقة، فإنها لا تستطيع أن تخلق حريتها.
المرأة والنهضة
ينعكس التطور أو التخلف الاجتماعي على النساء بشكل أكبر من الفئات الاجتماعية الأخرى، ويعد تحرر المرأة المقوض الكبير للأنظمة والتنظيمات الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي.
ولم يستطع المصلحون في التاريخ العربي أن ينظروا بشكل خاص إلى تحرر المرأة كأساس جذري لتحرر الأمة.
فالفقهاء والمصلحون والثوار كانوا من الرجال الذين استطاعت الدول الشمولية أن تدمر مقاومتهم على مدى أجيال، فإذا رأيناهم في بدء التاريخ العربي الإسلامي يجعلون المرأة شريكة لهم في المعارك والثورات والتحول الاجتماعي، فإن صعود قدرات الدول المستبدة المالية والقمعية قد أدى إلى شراء الكثير من هؤلاء الرجال أنفسهم، وضاقت سبل التمرد والتغيير عليهم، وتم إلحاقهم بالقصور والدواوين.
وينطبق هذا حتى على الفقهاء الذين ضاقت سبل العيش أمامهم، فاختفى صنف الفقهاء الأحرار، ويذكر أحد كبار المعتزلة كيف تقدم بالشكر الوفير للخليفة الذي تكرم عليه ببضع مئات من الدنانير في حين كانت معيشته السابقة طوال أشهر تعتمد على بضع دراهم، فكيف لهذا المعتزلي بعد هذا أن يتكلم عن أضرار امتلاء قصر الخليفة بالخدم والإماء والراقصات؟
لم يكن تدهور النهضة يصيب المرأة فقط بل المنتجين أيضاً، الذين تدهورت أعمالهم في الأراضي، ولم يقم الفقه أو الفكر المعارض، برؤية أحوال هؤلاء المنتجين، سواء نساء البيوت، أم فلاحي الحقول.
وهذا هو نوع الفقه الذي تكون في ممالك المسلمين، تنصيص مقطوع الجذور من الإسلام لخدمة الدول واتجاهات الحكام والمتنفذين، وتوارى الفقهاء الأحرار التقدميون، الذين يتبصرون الأفاق البعيدة لتطور الأمم الإسلامية، فيقاربون ويجتهدون في كيفية تطوير أوضاع النساء أو الناس عامة، لكي يكونوا ضمائر حية لدينهم وأمتهم.
ويمكن الاستنتاج هنا بأن ذلك القانون الذي مازال سارياً وهو أن تطور حريات العامة وتقدمها الاجتماعي مرتبط بمدى تطور الحركة الديمقراطية والتقدمية في العصر، ففي العهد النبوي والراشدي، تطورت حريات ومكانة المرأة، قياساً على المهانة الجاهلية، ولكن مع صعود الدول
المستبدة الشمولية تحولت النساء إلى جوار، وتصاعدت الحركة الدينية المحافظة التي جيرت النصوص لخدمة استغلال الحكام والرجال.
والغريب أنه كلما تفاقمت الشهوات صارت الأحكام محافظة ورجعية أكثر.
وهكذا فمع الاحتكاك بالغرب ونشوء حركة النهضة العربية وصعود القوى الديمقراطية أخذت الحياة النسائية تتغير، وتطورت الحريات الشعبية في مختلف المجالات، بما فيها حرية النساء، وإن اقتصرت هذه الحريات على الدوائر المدنية، في حين احتاجت نساء الفلاحين والعاملين جهوداً أخرى لكي تقترب من أنفاس الحضارة الحديثة.
إن تصاعد الحركة الديمقراطية الحديثة هو السبب وراء تطور حرية المرأة، وقد انتكست هذه الحركة بفعل تصاعد مختلف أشكال الشمولية، سواء من خلال واجهات وطنية وقومية أم من خلال واجهات دينية.
إن انتكاسة الحركات الديمقراطية العربية الحديثة انعكس على وضع المرأة وتدهور حرياتها، وقد غدت الحركات الدينية هي الشكل المضاد لنمو الحركة الديمقراطية، مع استغلالها من قبل الأنظمة المحافظة والأجنبية.
وليس غريباً أن تتقارب الحركات القومية والدينية في مسائل تدهور حريات المرأة، بسبب الطابع الذكوري المهيمن والمتخلف في هذه الجماعات، فجذور الاستبداد الشرقي متوارية تحت الجمل السياسية التحررية الشكلية، ومن هنا لم تقم الحركات القومية و(اليسارية) التي اندمجت والهياكل الاستبدادية، بأي كفاح عميق لتحرير المرأة.
كما أن حركات المرأة النهضوية لم تقم بدور مستقل، سواء بإنتاج الوعي النهضوي التحرري النسائي، أو بفك الارتباط بالجماعات السياسية الذكورية المستبدة، وبإنتاج ثقافة مختلفة.
الأسرة بين الفقه والسياسة
تعتبر (الأسرة) هي حجر الزاوية بالنسبة لمفهوم رجال الدين المسلمين عن بناء المجتمع، فإذا لم يتوجهوا للصراع حول السلطة، وتركوا للسياسيين تدبير شؤون المجتمع المدني فإنه لا يتخلون عن سلطتهم الروحية على الأسرة.
وقد حدث توافق في العصور الخوالي بين السلطات ورجال الدين حول الأسرة وحول سيادة المجتمع التقليدي عامة، التي تمظهرت فيه ثوابت السيادات من قبل الحكام والرجال والأغنياء على الحياة والأسرة والمال.
لكن هذه السيادات أخذت تتفكك في العصر الحديث، رغم أنها لم تزل سائدة بهذه الدرجة أو تلك بين البلدان والمناطق، معبرة عن التطورات الاقتصادية والثقافية المتغلغلة في النسيج الاجتماعي.
وإذا كانت أغلبية رجال الدين المسلمين كما سبق القول تتسم بالمرونة في الحريات السياسية والاقتصادية لكنهم كانوا يقفون بقوة ضد عمليات التغيير الحادة والمتسرعة في قوانين الأسرة.
ويتطرف بعضهم في الدفاع عن جوانب شديدة التخلف، مفضلين سيادة ذكورية كاملة وانعدام لحريات المرأة النسبية، وهذه أمور عامة تتجسد تجاه أحكام الأسرة في قضايا الزواج والطلاق والميراث والحضانة.
وإذا كانت لديهم أحكامٌ مرنة فإنها تنعكس كذلك في تخفيف المعاناة عن النساء من جور بعض الرجال، وعدم إطلاق الحرية لهم، لكي تغدو الأسرة أكثر قوة.
في حين أن بعض الحكومات التي لجأت لقوالب مستوردة من الغرب تحت ضغطه، تعمد على خلق حداثة مصطنعة، وأحكام فوقية، لا تتجذر في الحياة الشعبية، بسبب إن سيادة الذكور لا تنبع من قوانين الأسرة بل من الأوضاع الاقتصادية الموضوعية، التي يلعب فيها الرجال دوراً محورياً في السيادة الاقتصادية والإنتاج، فتؤلهم الدخول في تحديد العلاقة في الأسر.
ومن هنا فأية أحكام في ميدان الأسرة لا تسبقها عمليات تغيير واسعة في الحياة الاقتصادية خاصة في المناطق الضعيفة التطور، فتــُعطى فرص كبيرة للرجال والنساء في العمل والأزدهار الاقتصادي، فإن قوانين التحديث تبقى شكلية، بل تتحول إلى مصدر مشكلات وحراك سياسي ديني يستثمر هذا التفاوت بين القانون والوضع.
ومن هنا يتطلب الأمر في كافة الأحوال علاقة حوار بين السياسيين الحاكمين ورجال الدين، تفهماً من رجال الحكم لإشكاليات مثل هذه القوانين، وتفهماً من قبل رجال الدين للضيم الذي تتركه جوانب متخلفة من هذه القوانين على قطاعات شعبية ونسائية خاصة بل لما تسببه هذه الأحكام القديمة من أوضاع صعبة على الأطفال وبناء الأسر عامة.
إن التفهم المشترك يحتاج إلى رؤى تجديدية في حقول السياسة والاجتماع والاقتصاد، فرجال السياسة يجب أن لا يكون مسارهم على النقل مما جرى في الخارج، فهمي تحدثون عن بلد عربي تطورت فيه أحكام الأسرة لكن لا يقرأون أوضاع العمل والإنتاج في تلك الدولة التي وفرت عمالة واسعة لرجالها ونسائها معاً، فيقطعون أحكاماً فقهية عن بنائها الموضوعي.
في حين إن رجال الدين لا يقرأون تجربة التجديد في الأحكام، ويصرون على قطعها عن الزمان والمكان، فلا يحدثون نقلة متدرجة في هذه الأحكام، إذا كان مقصدهم الشرعي بناء أسرة قوية سليمة العلاقة، فأحكامٌ قديمة قد تضر بهذه الأسرة، كما إن الانفلات يخربها هو الآخر. فيغدو التدرج ومراعاة الظرف وتخفيف التشدد، ولزوم العدالة بين أطراف الأسرة، وكبح الأنانية من جهة، ومنع الأنفلات من جهةٍ أخرى، ورعاية الأطفال في بيئة سليمة صحية، وإيجاد علاقة توارث غير مجحفة بالأقرباء الخ..
إن جوهر الأسرة يكمن في العلاقة الصحية الإنسانية بين الرجال والنساء، وتخفيف الصراعات والأثرة بينهم، وفيما عدا ذلك فهي جوانب ثانوية مكملة لهذا الهيكل العضوي.
وعبر فهم متناغم بين السلطات السياسية والروحية، وعبر حوار مستمر بينها، واعتبار القوانين الأسرية مشروعات مشتركة نسبية لتطوير حياة السكان، تتكامل مع مشروعات سياسية واقتصادية، فإن الكثير من العقبات تتذلل، وتحدث عمليات تطوير مشتركة تساعد على جعل الوطن للمواطنين والمواطنات معاً.
قوانين متدرجة للأسرة
لا شك أن النساء يقع عليهن الظلم الأكبر في العلاقات الأسرية، فحرياتُ الذكور واسعة، وكلما قام المشرعُ بتقنين وضبطِ هذه الحريات والتقارب مع وضع النساء، كان أدعى هذا لإنتاج أسر أكثر عصرية وديمقراطية.
وكان سبق الشق السني من قانون الأسرة يعود في تصوري إلى كون المذاهب السنية ذات تعددية وتنوع، وكانت يجرى إنتاجها في المدن، فأخذت باجتهادات متعددة، ولم تعان الحصار من قبل الدول فهي ذاتها كانت تشارك الدول في السيادة الفقهية إن لم ترتفع إلى السيادة السياسية.
لكن لا يعني ذلك أنها أعطتْ النساءَ كل الحقوق، فمن قام بصياغة القوانين الوضعية الدينية هم شيوخ الدين الذكور المتعاونون مع الحكومات خلال القرون السابقة.
وهو الوضع المقلوب الذي نتج مع زوال الخلافة الراشدة ومجيء دول الأسر المتحكمة في الثروات والعباد، رجالاً ونساءً، وهو أمرٌ يجعل تلك الأحكام محل نقاش.
ولهذا كلما حاولتْ القوانينُ الوضعية المذهبية الجديدة المقاربة مع وعي المساواة الإسلامي العميق، وحرصت على توحيد المسلمين، وضيقت الهوة بين الرجال والنساء، وقللت من شهوات الرجال واستبدادهم، وجعلت النساء أكثر حرصاً على الأسرة المتوحدة وأكثر عناية بتطوير أطفالهن، كان ذلك أدعى وأقوى في إنشاء أسر أكثر قوة أمام تحديات الحياة المختلفة.
ومن هنا فإذا كان الشقُ السني أسرع في القدوم للتشريع فهذا بسببِ ما كان من تحررية لهذه المذاهب، ومن تخفيف السيطرة على اتباعها، في ظلِ وجودِ دولٍ مهيمنة فيها، في حين كان الأمرُ مختلفاً في المذاهب الأخرى الأقل عدداً من أهل السنة، التي كانت مُحاصرة غالباً أو حتى مضطـهدة ووجدت في التمسك الشرعي الفقهي، خاصة في أمور الأسرة والأحوال الشخصية، باباً يمنعُ من تحللِها أو من السيطرة عليها.
وعموماً كانت المحافظة سيدة الأحكام في المذاهب الدينية جميعاً التي راعت الحكام والذكور المسيطرين، أكثر من العدل بين الجنسين.
وكان ذلك في زمن مختلف، في ظروف كانت الأممُ الإسلامية فيها مسيطرة على ظروفها وبلدانها، وقامت تلك الأحكامُ الأسرية المحافظة بإضعافِ دول المسلمين أمام الغزوات الأجنبية، وتم اختراقِها والسيطرة عليها، لما سببتهُ تلك الأحكام من ضعف الأسر الإسلامية وكثرة أعداد أطفالها وغلبة اللامسئولية في هذا الصدد، وتم تحميل النساء أعباء البيوت وإنتاج الأطفال الأميين غالباً أو الأميين الثقافيين حاليا، وتقييدهن في هذه الأوضاع فيما كانت أغلبية الرجال تفعلُ ما تريد وتكثر من النسل بلا تخطيط، مع غياب المؤسسات التربوية والديمقراطية الراصدة للخلل في ذلك.
ومن هنا تتباين ظروف المسلمين من بلد إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى في البلد الواحد، وهذا يتطلب من المشرع مراعاة هذه الظروف كلها، وعدم التسرع في إصدارها وضرورة المرونة في تطبيقها.
فبين مدينة وقرية ثمة تباين وبين مذهب وآخر هناك اختلافات، فأهل المدن أقل تشدداً في مثل هذه المسائل، بينما أهل البادية متشددون عموماً، ويغدو القانون العصري المتعلق بالأحوال الشخصية قارئاً قراءة عميقة لهذه التلاوين.
ولهذا فإن المشرع الفقهي الحديث هو قائد سياسي ويغدو رديفه القاضي على مثل هذه الدرجة من الرؤية الثاقبة المسؤولة، فمن خلالهما يمكن للعائلات أن تتطور أو تتهدم وهي مسئولية بالغة الحساسية والخطورة.
وإيجاد العدالة يكمن ليس في النصوص وحدها بل في التطبيق.
والهدف الأساسي للأحكام ليس التحلل أو تأسيس العائلات المتفسخة بل تقليل التفسخ الراهن الذي سببتهُ سيطرات حادة وأنانياتٌ لا ترى بالعين المجردة لكن تـُرى في أروقة المحاكم وفوضى الأطفال والمراهقين في الشوارع.
يُفترض من المشرعين في مختلف المذاهب أن تكون وحدة المسلمين وتقدمهم هي الأهداف التي تحركهم جميعاً، فمهما تكن درجاتُ الاختلاف والسرعة في هضم مسائل الحرية والألتزام الأخلاقي الأسري بينهم ومهما يكن التعبير عن مصالح مذاهبهم واستقلالها لكن لا يجوز استقلالهم عن مصالح العرب والمسلمين العليا ووحدة أوطانهم وتقدمها، بحيث يكونون مسئولين عن سلامة أجيال لا تتشرد وأسر لا تتفكك وعلاقات أسرية عقلانية وفيها مساواة.
ولا شك أن جهود الجماعات النسائية مهمة في دعم ومراقبة تلك الجهود الفقهية والقضائية، عبر رصد الحالات والقضايا المطروحة والأحكام وتصويب ذلك بما يخدم العدالة للنساء والتآزر في الأسر والتوحد في الوطن والتطور فيه، ولابد من إجراء الحوارات مع الفقهاء والقضاة، وإقامة منبر صحفي يتابعُ ويرصد ويقومُ ذلك، وهذا كله يقود لتراكم قانوني يظل محدوداً وصعباً بسبب قدم العلاقات الأسرية ومشكلاتها وتعقد أحوالها بين مذهبي جامد وسياسي متنازع ومصالح متباينة للجماعات وللرجال والنساء، لكن هذا التراكم هو الذي يمثل التقدم المرجو من دون الانقطاع عن التراث بل من خلال رؤيته العميقة وليست الشكلانية الخارجية.
النساء في ظل الدكتاتورية الذكورية
الديمقراطيات في الشرق العربي الإسلامي تُعلن على عجل، وهي نتاج ظروف سياسية طارئة غالباً، وليستْ نتاج تطورات حضارية طويلة، وتُرفع فيها الشعارات البراقة والوعودُ بتحولات مستحيلة!
النخب الذكورية المنتمية الى القوى الاجتماعية المحافظة هي التي ترتفع وتسود، وبين هذه النُخب وبين النساء عداوة طويلة عميقة!
هذه النخب المحافظة الدينية أقلية ضئيلة في المجتمع ومع هذا تقف ضد النساء نصف المجتمع؟ فكيف تكون هنا ديمقراطية؟!
إذا كنتَ سوفَ تقفُ ضد أمك وأختك وزوجتك فكيف سوف تحقق حقوقَ من لا تعرفهم؟!
الدول تقول للنساء هذه هي فرصتكن للتعبير عن أنفسكن والإدلاء بأصواتكن!
كلامٌ سياسي مجردٌ يُطلقُ في الفضاء الفارغ السياسي!
كيف يمكن ذلك أيها المشرّع الحكيم؟! النساء خلال قرون حبسن في البيوت، وكرسن للولادات الكثيرة، وبين كل حمل وحمل أمراضٌ وتعب مرهق وانفصال عن المجتمع وتغذية للمواليد وتربية لهم، واهتمام بأعباء البيت وخاصة الطبخ وإدارة شئون البيت، والزواج فيه طلاق وإنفصال ونفقة تافهة وعيال ومدارة شؤون الزوج ومدى إنتمائه الى بيته ولعياله، أو هو أناني صاحب لهو وخروج دائم، أم هو مضح مهتم؟!
أنظر كيف ضعف اقتصاد بلدنا بحبس النساء وعدم اشتغالهن في الصناعة والسياحة وهما الميدانان الرئيسيان للعيش؟
والنساء موجهات الى الانفصال عن السياسة والثقافة والإنتاج، مكرسات للداخل البيتي، يفضل أن يكن أميات، وليتفرغ أغلبية الرجال لشؤونهم الخارجية وكلما تخلفت الوحدة الاجتماعية ازداد ضعف النساء!
وبعد هذا تأتي وتقول إن هناك مساواةً بين النساء والرجال في الانتخابات والفرص متاحة للجميع!
وحتى في هذه الفرص المتاحة للجميع والمساواة المجردة الشكلية، تشكلتْ الجماعات السياسية على هيمنة ذكورية ولا يقوم الساسةُ الأعضاء بجلب نسائهم أو بناتهم لهذه التجمعات، ولا يقومون بتعريفهم على هذه الفاعليات، وإذا حدث أن جُلبن للفاعليات الاجتماعية انفصلت النساء عن الذكور، وعدن الى عدم الاختلاط وعدم معرفة ما يجري في المجتمع والصمت وتلقي الأوامر!
الرعب من الاختلاط ليس مسألة شيخ محافظ يفتي بمنعهِ وقتل من يدعو إليه، بل هي مسألةُ خوفٍ ذكوري عام، ودكتاتورية ذكورية لا تطور النساء في البيوت ولا تتحمل الأعباء المنزلية سواءً بسواء مع النساء، وتحرض الأولاد على أخواتهن، وتراقب ما يقرأن واتصالاتهن وتقطع ألسنتهن فكيف بعد ذلك يستطعن أن يشكلن أصواتا سياسية تتفجر بين الجمهور العام؟
والأخطر من كونهِ تخلفاً اجتماعياً هو تخلف سياسي بالدرجة الأولى، وهو تركٌ للأمم الأخرى تغزونا في عقرِ دارنا، وتلتهمُ الوظائفَ من رجالنا ونسائنا، وتخطفُ المصيرَ من أمتنِا، لتغدو هذه الأمم الآسيوية سيدةَ بلداننا، وملتهمة الأعمال وحتى مواقف السيارات منا، بعد أن التهمت الأممُ الغربية ثرواتَنا، وما عادت السيطرة علينا مجزية، ثمينة لها، فتتركنا لهذه الأممِ التابعةِ بدرجةٍ ثانية أو ثالثة، توجهنا وتتحكم في ما بقي من ثرواتنا!
المرأة ودكتاتور الأسرة
يريد أن يظل دكتاتوراً إلى الأبد يحكم الأسرة.
الرجل الشمولي، الأبُ القادرُ على كل شيء، زعيم البيت الوحيد، المتنفذ بالنسل والعطايا، يرفض كل الانتفاضات الزوجية التي تجري، والأحداث العنيفة، فدولته تعتمد على المليارات من الرجال في كل قارات التخلف والأبوية.
دولته مقدسة، جنسه أعلى، دمه مختلف، فهو له جسم قوي وعقل مسيطر.
تفوز البنات بمراكز التفوق الدراسي وتظهر صورهن في الجرائد، ونسل الرجل الذكوري لا يطلع إلا القليل منه، فالفتية الأشاوس مشغولون بالسهر في الشوارع وإيذاء المارة وإزعاج البيوت والناس النائمين والعاملين.
الأشاوس الذكور لا ينجحون كثيراً إلا بالغش والتنجيح الآلي، ثم يحصل بعضهم على وظائف، في حين تنزوي المتفوقات في البيوت يطبخن الأرز وينتظرن المتفوقين في الغش والسهر والرحلات وتضييع أموال الأسرة لتقديم الأغذية لهم.
تتفوق فتيات بالكتابة في الشعر والقصة والمسرح وتعدهن المدارس بالمكانة المرموقة في المجتمع والمراكز المهمة، رغم الصفعات التي حصلن عليها في البيوت بسبب ممارسة نشاط مخصص للذكور أساساً، والأكثر من ذلك تجري المطاردات والاعتقالات لهن لكونهن يقرأن كتباً خارجية، ويشاهدن أفلاماً علمية وثقافية.
وبعد هذا ينزوين في الغرف الداخلية ويحملن مراراً ويلدن بين الدم والموت والاجهاض، وتتباعد المسافات بين أحلامهن البريئة وقمم الحياة المضيئة، ولا يرين كيف انحشرن في دولايب الآلةِ الجهنميةِ لمصانع الذكورة الشاقة، التي تقوم بتطفيش النساء من المكاتب والمصانع والبنوك ومن الأحلام بالكتابة والفنون والتمثيل ومن المشاركة السياسية المستقلة.
وعليهن كذلك أن ينتجن ذكورة دكتاتورية في بيوتهن، فتتحول الشابة الوردة، ذات الأحلام بالحرية والحدائق البشرية، إلى رجلٍ تشبع بكل الصفعات والقمع والشوارب، وصارت تقمع ابنتها وتعلي ابنها ليواصل المعركة المقدسة للشرف الرفيع الذي لابد أن يشعل الحرائق حتى يبقى مزدهراً.
لماذا تحسدُ الأم ابنتها إذا صارت ممثلة أو كاتبة أو زعيمة؟
هي تقمعها منذ البداية حتى لا تصبح ذكراً، حتى لا تتشبه بالرجال، من دون أن تعي بأنها هي التي أصبحت رجلاً في حين إن ابنتها تريد أن تصبح امرأة!
الفتاة الشابة الحمامة إما أن تصبح لبؤةً وإما حذاءً، وهما خياران مرضيان.
(المرأة أم الرجال)، (المرأة ~ تكرمْ ~ نعال!).
تـُجبر أغلبية النساء على واقع العبودية، واقع الاستسلام للعالم الذكوري الدكتاتوري، من أجل ألا تتحطم أسرهن، ومن أجل ألا يضيع جهدهن في بناء هذه البيوت الهشة، المصنوعة من زجاج ومن طاعة عمياء، ومن تقسيم عمل شاق، ومن تخصصهن في أمراض السكر والقلب ومتابعة المسلسلات التي تغسل عقولهن من الطموح والشجاعة ومن الإبداع القديم الذي حلمن به حين كن حمامات يطرن في السماء المشعة وليس في الأقفاص التي تسمى بيوتاً.
لكن بعض النساء يتمرد على هذه الزنزانات ويستولي على السلطة ويحيل المنزل إلى سجن آخر، يحيل الأب الضعيف أو الودود إلى (مرة)، يحدث ذلك عبر استغلال ظروف وسمات جزئية عابرة، لكن لا تنشأ علاقات ديمقراطية أسرية مزدهرة، فالمرأة الدكتاتور ربما كانت أسوأ من الرجل الدكتاتور!
لأنها تخرجُ كلّ عقدِ فشلِها وقمعِها السابقة على المدعو زوجاً، فتحيلهُ إلى تابع، وتصير إرادته مسلوبة وشخصيته ممسوحة فتنتشرُ بين الأبناء جراثيم التسلط!
وتؤكد الأمثالُ العامية الماسخة الإيديولوجيا الذكورية التي تبرهن بهذه النماذج بأن الدكتاتورية هي مخصصة فقط للرجال، ولا يجوز للمرأة أن تمسك قيادة البيت.
وهناك الفئة المتخصصة في صنع هذه الزنزانات ثقافياً، من كهنة وسحرة وموظفين عموميين ومعلمين وكتابا فاشلين ومنجمين محالين على التقاعد والمنظمات الدينية المحافظة، فهي الحرس الكبير للسجن النسائي الواسع، تبرر أخطاء الرجال ورحلاتهم المشبوهة للبلدان البعيدة، وتضييعهم الأموال في الصالات والحانات والملاهي والصفقات.
ولا تستطيع طليعة النساء أن تفعل شيئاً في ذلك فهي تابعة للذكورية الدكتاتورية، فتدخل باب تحرير النساء من خلال نافذة الطاعة لأولي الأمر.
إنها لم تدرس الإسلام، وعاشت على الفتات الفكري الذي يقدمه الذكور المسيطرون أنفسهم.
هي تقبل بالفتات الذي يُقدم لها، ولا تكشف أو تنقد الممارسات الدينية المحافظة ضد النساء.
ولهذا فإن القول بأن المرأة داهية وحية وماكرة هو قول خرافي، بل النساء ساذجات عموماً، وتتم السيطرة عليهن بوسائل بسيطة، فهن لا يعرفن كيف يفهمن الإسلام، وحالهن مثل حال التنظيمات اليسارية والقومية وغيرها، ولهذا لا يعرفن كيف يقدمن برامج ديمقراطية إسلامية للتغيير، وكيف يتعاون ويكوّن قوى ضغط واسعة ولديهن كل الوسائل للقيام بذلك، أي إذا لم يخترقن الوسط الديني المحافظ ولم يؤثرن فيه، فإنهن ضائعات في متاهات السياسة.
إن المحافظين يعيشون في حالة جهل للمتغيرات الرهيبة الجارية وهم يناضلون فقط ضد الرذيلة، غير مدركين أن القضية تتجاوز هذه المسألة الضيقة، وإننا نواجه حالة تبخر وطني ونصير أشبه بالهنود الحمر، وعدم إيقاظهم سوف يحول النساء الوطنيات إلى كائنات منقرضة، بسبب هجوم العمالة النسائية الخارجية واكتساحها ميادين العمل، وبسبب جمود الذكورية الرجالية وغياب الديمقراطية الأسرية، ولهذا فإن الطليعة النسائية يجب أن تدرس كل هذه المسائل بعمق وتشكل لجاناً لقراءة ظروف النساء وتحررهن في التراث والحداثة وتوجد شبكات من التأثير النسائي المستقل والجبهوي الذي يمتد في كل التنظيمات والجماعات وصديقهن من أيد تحرر النساء في الواقع.
حريات النساء مقياس للديمقراطية
كلما ازدادت حريات النساء كان التقدم الاجتماعي أكبر، وتواجه الدول والجماعات المحافظة اليمينية و(اليسارية) اختباراً قوياً لمدى إيمانها بالديمقراطية اللفظية حتى الآن، ويتحدد ذلك بمدى قدرتها على إحداث تطورات كبيرة في حياة النساء في وضع يهيمن فيه الذكورُ هيمنة مطلقة في هذه الدول والتنظيمات.
تعود الهزائم التي حلت بأنظمة التحرر والقومية والليبرالية الضعيفة إلى عدم إيلائها لهذا الجمهور القابع في البيوت والتراث المجمد عناية كافية، فقد قادت هذه الأنظمة جماعاتُ الذكور المحافظين، ومهما كانت إيجابياتها على صعيد محاربة الاستعمار والتخلف فإنها تركتْ النساءَ في ظلام العصور الوسطى.
وقد بدأت الأنظمة الليبرالية تقدماً هاماً على هذا الصعيد فتفجرت شعارات تحرر النساء وظهر منظرون لهذه الحريات على صعيد الحريات الاجتماعية والسياسية المحدودة، لكن تلك الحريات لم تصل للعمل الصناعي وتحجيم العائلة الأبوية الكثيرة الأعداد والقابعة في الأمية والجهل والأساطير، وفي قوانين الاعتقال التي تـُبرر بأسم الدين.
بل أن الأحوالَ ازدادتْ سوءً مع الأنظمة والحركات القومية العسكرية والدينية الشمولية، فقد تضخمتْ المدنُ العربية الصغيرة بأعدادٍ هائلة من الريفيين والبدو التي حملتْ الأشكالَ المتيبسة المحافظة وحاربت بها التطورات الوطنية والليبرالية الصغيرة في المدن العربية.
وهكذا تحملتْ النساءُ تراجعات الحركات السياسية العربية وتصاعد ذكوريتها، فامتدت الدكتاتورية من البيوت إلى الشوارع والأحزاب والجماعات والحكومات.
وكان التراجعُ ظاهراً على صعيد الملابس، وأدوات الزينة، وفرض الهيئة الذكورية على النساء، وتحجيم الجمال ودوره الخلاق، ونشر القبح، والأشكال الرهبانية وأمراض السمنة، ولكن النساء كن حتى في مثل هذا التصاعد للدكتاتورية كن يقاومن داخلها، بتغيير اللباس والبحث عن علماء دين يتسمون بالنزاهة والبعد عن الإقطاع، وهم نادرون محاصرون، فعاد عهد الجواري على نحو كثيف، وربحَ الكثيرُ من الرجال حريات البذخ واللهو والأسراف وتضييع ثروات الأمم الإسلامية. ولكن الأغلبية من النساء يتسمن بالخضوع ويزايدن على رجال الدين في محافظتهم فيزددن عبودية، نظراً لعدم درايتهن بالإسلام والحداثة، وعدم تمييزهن بين الإسلام كثورة نهضوية توحيدية ومشروعات الحركات الطائفية الرجعية التمزيقية لجسد الأمم الإسلامية.
ساعد في هذا إستيلاء قواد القرويين والبدو على مقدرات المنطقة النفطية وبثهم للشعارات المحافظة، وتصاعد مشروعاتهم وتكاتفهم وتكوينهم أحلافاً منظمة، وتمزق الحركات العلمانية والوطنية والتحديثية.
صار بعض الرجال يطارد بناته لأنهن يكتبن ويقرأن، أو لأنهن يظهرن على المسرح يشاركن في عروض مسرحية خلاقة، فكان الوأد الجاهلي المتعدد الأشكال للبنات.
في حين وجدنا في مرحلة سابقة آباءً أميين يفخرون بكتابة وحضور بناتهم الفكري.
لا يعود هذا الحضور المحافظ لهذه الجماعات أساساً بل للتكوينات الاقتصادية الأساسية في كل بلد، فالحكومات العربية لا يهمها النسيج السكاني الاجتماعي برجاله ونسائه بقدر ما يهمها السيطرة على الثروات في مشروعاتها غير المراقبة، والتي تخضع لراهن الربح والفائدة المادية، وليس لهدف تقدم السكان ككل.
لدينا في البحرين عدة آلاف من النساء لا يشتغلن في الخارج بل يعملن في بيوتهن الخاصة، وهناك الملايين في كل بلد عربي بمثل هذا الوضع، في حين تأتي العاملات والموظفات الأجنبيات للإستيلاء على وظائفهن، ولا يهتم رؤوساء الشركات بالعاملين فما بالك بتطور الحضور النسائي في الأعمال المختلفة؟!
يعتمد الحضور النسائي التحرري على تطور معيشة الطبقات الفقيرة، ومدى اتساع تعليمها، فهي المكان الأساسي لتواجد الذكورية المحافظة والشمولية، وكلما ترقت في أجورها ووظائفها ومساكنها وثقافتها صعب تغلغل القوى الشمولية بينها.
كما يؤدي هذا إلى عمل النساء واتساعه، وهو أمر يعمق كذلك من تطور معيشة هذه الطبقات، فلا ترغب في التوجه للمزايدات السياسية، وتعطي البنات حقهن من العمل والتعليم والثقافة.
إن طبقات معدمة جاهلة لا يمكن إلا أن تجعل نساءها أكثر تخلفاً وإنتاجاً للتخلف.
ومهما فعلت الأنظمة والحركات الدينية الشمولية من اضطهاد للنساء فإن الكثيرات يجدن ثغرات في نظام القمع الشامل هذا، فكل هذه الدول والجماعات الدينية المحافظة لها ظاهر وباطن، إدعاء بالتدين وتكالب على المنافع ولذائذ الحياة، فتظهر أنظمتها وحركاتها بهذا الشكل المشروخ المنافق، فاليافطات تقول طهر ونقاء وصرامة، والباطن عمولات ومحرمات، سوق علنية (بيضاء) وسوق باطنية سوداء، أغلب الأشياء محرمة في الظاهر وصارمة ولكن في الباطن كل شيء مسموح وحسب أفضل الأسعار.
ولهذا فإن الكثير النساء المتمتعات عموماً بالدهاء يجاملن هذه الحركات والأنظمة وينسقن مع أغنيات الفضيلة الزاعقة فيها، ولكن يكون لهن باطهن ومكرهن الخاص.
غرائز البشر وأخطائهم ونواقصهم لا يمكن القضاء عليها بالخطب التي يعتقد المحافظون إنها الوسيلة المثلى، ويجاورها العقوبات الصارمة، وهو أسلوب في ردع الإنسان ثبت فشله، وليس أفضل من المكاشفة والوضوح وتغيير الإنسان عبر ظروفه الموضوعية، ودعوته لخيارات الخير، ويبقى هو سيد مصيره، فإذا تجاوز القانون خضع لعقوباته.
فوفر للنساء خيارات العمل والثقافة والرقي ثم حاسبهن على خياراتهن. أما أن تقمعهن وتسود عيشتهن فسوف يمكرن بك ويجعلنك أضحوكة وأنت تعتقد أنك سيد الفضيلة.
لكن الدول والحركات المحافظة لا توفر ذلك لأغلبية النساء، فهن عاطلات في البيوت، يخضعن للسحر والثقافة المتردية للفراغ، فيجدن في الأزياء والعطور ومناكدة الأزواج وسوء تربية الصغار وجودهن الزائف وقد أُنتزع وجودهن الحقيقي.
فتجر النساءُ الرجالَ المحافظين لهذا المستنقع الاجتماعي، فيخلق الرجالُ بيئات متعة زائفة، ومجتمعات ذكورية خاصة بهم، ونفقات بذخية تدمر الأسر، فيكون المجتمع قد خسرَ رجاله ونساءه معاً.
ونتاج ذلك حشود من النسوة في المحاكم ومعذبات ومطلقات وعيال مشردين، ويقوم الفقهُ الذكوري الجامد بمنع الإصلاح عن طريق الشرع، وعقاب الرجال الفاسدين.
النساء وضعف الخبرة السياسية
مثل العاملين تتعرض النساء لخداع العالم الذكوري السياسي المسيطر الماكر، وينطلي على بعضهن ذلك بسهولة، نظراً لفقدان الخبرة السياسية، وعدم التعرض لمحن السجون والتنظيمات والحُكم بذات الاتساع الذي يتعرض له الرجال. وتعيش أغلبُ السياسيات النسائيات في عالم تقليدي، إما أن يكون شديد الحموضة وإما وردياً خلاباً. إن ضعف التفكير الجدلي، وغياب التفحص في التناقضات للمنظمات السياسية التي يسيطر عليها الذكور المحافظون غالباً، والمظلة الدينية التقليدية التي تظلل رؤوسهن، وعالم السحر الذي يؤمنّ به بقوة، كل هذه تمنع أن يزحن سيطرة الرجال التقليديين عن أفقهن السياسي.
ومن هنا فإن إيمانهن بالدجلين الديني والقومي يكون كبيراً، فرغم أن أغلبية العالم الحديث قد أعلنت قطيعتها مع الأنظمة والتنظيمات الشمولية والدينية الشرقية نظراً لسوء دور هذه الأنظمة ليس فقط في غياب الديمقراطية ورفضها للوطنية والعقلانية بل كذلك لدورها في استغلال النساء الجنسي بدرجة أساسية، إلا أن هؤلاء النسوة لهن حب جارف لهذه الشبكة العنكبوتية من المتخلفين العاجزين حتى عن اللحاق بأنظمة الاستغلال السيئة الغربية أو عن فهم عظمة الإسلام. لكن هذا ليس عجيباً إذا عرفنا أن الأنظمة الشرقية أبعدت النساء طويلاً عن ميادين العمل الإنتاجية، منذ أن كن رقيقاً وجوارٍ وربات بيوت ممنوعات من الخروج ومتخصصات في المطابخ والأسرة ورواية الخرافات للأطفال.
وحتى عندما جاءت التجاربُ الحديثة والتأثراتُ بالحداثة فإن التنظيمات والدول السياسية الشرقية لم تعترف بالنساء مشاركات في هذه التجارب، وعرقلتْ دخولهن إلى ميدان السياسة طويلاً، لأن هذا الميدان يكشفُ للنساء المعسكرات الاجتماعية بدقة ويدخلهن حومة الصراع من أجل حقوقهن المغتصبة على مدى القرون. كانت التنظيماتُ الذكورية السياسية المحافظة عموماً تحول الصراع مع السلطات الاستعمارية والتابعة كصراعٍ مجرد، كانت كلمات مثل (الحرية الوطنية)، و(سقوط الاستعمار)، و(سيادة الشعب أو الأمة)، شعارات عامة، كأن لا دخل لها بخروج المرأة للعمل، أو منع الزواج والطلاق التعسفيين، شعارات ظلت بعيدة عن مطبخ المرأة الذي تحترق فيه وتملأ الغازات دواخلها وتجعلها الولادات المستمرة كائناً لا وجود له في الوقت الذي تصنعُ فيه الوجود.
وعندما تجسدت بعضُ الأنظمة الوطنية العربية وحققت للنساء بعضاً من المكاسب المحدودة، وأنشأت بعضَ القوميات والرائدات، كانت أغلبية النساء في جهل وأمية، وحين عصفت الزوابعُ بهذه الأنظمة نظراً لعدم جذريتها في التغيير الاجتماعي، وخاصة ما تعلق بالنساء والعاملين، جاءت أنظمة دينية أسوأ، وحتى بعض الحريات التي حققتها النساء في الزمان القومي التحرري، جرى اختطافها من قبل الدينيين المعادين بقوة لعالم المرأة الحر. ليس لشيء سوى أن آلة الدولة الدينية أكثر استغلالاً وأقل حداثة.
وقد أصيبت نسوة بخيبة أمل حين لم تدافع بعض القيادات الدينية عن حقوقهن، نظراً لتخلف هذه القيادات عن فهم الإسلام والعصر، وطالبتهن بالخضوع للقوانين المتخلفة المتعلقة بالزواج والإرث وحقوق الأسرة عامة، واتضح أن هذه القيادات لا تختلف عن قيادات الدول الرجعية.
وينطبق على هؤلاء النسوة ما ينطبق على الرجال الحداثيين غير المطلعين على تاريخ أمتهم، فهم يريدون الايجابي المنجز المستورد من الغرب، وليس الذي يناضلون له داخل واقعهم الإسلامي العربي الخاص، أي أن عليهم أن يقاوموا المحافظين في السلطتين السياسية والدينية، بكل المنجزات التي تحققت في النصوص والتجارب العربية والعالمية، ويشقوا لهم طريقهم الحر الخاص. فغلبة المحافظين عليهم تأتي من توظيفهم نصوص الدين التي يجعلونها قيوداً للمسلمين ويأولونها كيفما شاءت مصالحهم، وليس في مسارها الموضوعي.
تشعر أغلبية النسوة السياسات بالتضاد مع أحكام الدين كما يترجمها المحافظون، الذين يمسكون سلطة تفسير النصوص، وأقلية من النسوة لا تحس بذلك خاصة في مجال السياسة العامة، فالمحافظون يظهرون هنا في هذا المجال المجرد بأنهم قيادات حرية وطنية، لكن ما نفع أوطان حرة ونساؤها مستعبدات؟ أليس تخلف النساء والجور عليهن وإنتاجهن أطفالاً معوقين حضارياً هو فتح الباب مجدداً للسيطرتين الخارجية والداخلية؟
لا تستقيم الحرية في الشارع وتـُمنع في البيوت.
النساء وقضية الأنا
لا نطرح هنا قضية المرأة بشكل عام ومجرد، بل نناقش قضية النساء اللواتي ينضممن إلى الحركة الديمقراطية والتحديثية في الخليج العربي، ومن المعروف أن صعوبة التحديث لا تتعلق بالنساء، بل أساساً بأن الرجال هم كذلك تابعون للجماعات التقليدية، وتغدو الجمعيات السياسية ذكورية غير قادرة على تكوين قوى نسائية ديمقراطية عميقة.
ولهذا فإن بروز نساء قيادات تحديثيات يواجه بصعوبات كثيرة حادة، فلكي تكون النساء طليعة سياسية واجتماعية، عليهن أن يواجهن عقبات قبلية وأبوية ورجعية في كل بيت وميدان، ومن هنا يغدو تشكل خطاب نسائي تحرري وعقلاني وذي مرونة أمرا محفوفا بالكثير من الصعاب.
كما أن بروز نساء قياديات في الحياة السياسية والاجتماعية أمر صعب، لأنه يتطلب من المرأة في هذا المجال الكثير من صفات التواضع والعمق الفكري وبعد النظر والدبلوماسية، فالمرأة هنا في موقعها القيادي تترأس ذكوراً، يرفضون ضمناً هذا التبوؤ، فلا بد أن تستند القيادة هنا على احترام كبير إلى الآخر، سواء كان امرأة أم رجلاً، قادةً أم بسطاء، رؤساء أم مرؤوسين، مالكين أم أجراء، فدون احترام المرأة القيادية للعرف العام والتقاليد الاجتماعية والسياسية، وبالتالي انخراطها في التقاليد الديمقراطية الحقيقية، وتجاهل الرؤساء و المرؤوسين والموظفين البسطاء، دون ذلك يستحيل أن تتشكل امرأة قيادية في أي موقع.
إن عدم قدرة بعض النساء على الصعود إلى موقف القيادي الديمقراطي، عبر تمتعهن بصفات الهدوء السياسي، وضبط النفس، ومهارة الأداء الإداري، يعرض الكثير من صفاتهن الإيجابية الكبيرة الرائعة إلى التغييب سواء من خلال المنافسات الإدارية أو من خلال الحسد الشخصي.
فى المجتمعات التى يهيمن عليها الاستبداد الذكوري لا يُنظر إلا إلى أخطاء المرء، وخاصة أخطاء المرأة . فيتم التغاضي عن أخطاء الذكور غير الساحقة، أما أي خطاً بسيط للمرأة فإنه يُضخم ويُبرز بشكل كبير. ولهذا فإن مسئولية المرأة الطليعية والتحديثية مضاعفة، فعليها أن تتبنى خطاب المساواة والتحديث مع الكثير من ضبط النفس ومراعاة التقاليد.
وإذا هيمنت قضية الأنا على مثل هذه المرأة، وليست المهمة التي تعمل من أجلها، فإن المشكلات الكبيرة تغدو متلاحقة على مثل هنا النموذج.
ونظراً لحداثتنا في هذه التجربة، تجربة حضور المرأة في العمل القيادي الاجتماعي والسياسي الطليعي، وندرة تكون المرأة في هذا المجال، فإن التطرف سواء من قبل المرأة أو من قبل الإداريين الرجال، يصبُ كله في ميدان التخلف والتدهور الاجتماعي.
نحن بحاجة فى هذه الأرض الصعبة إلى الكثير من النضج، وعدم طرح مشكلاتنا وحساسياتنا الشخصية، خاصة الأنثوية المتفجرة، وبضرورة احترام تقاليد العمل بحيث تتحول المرأة إلى قيادية كبيرة، وزعيمة، ووزيرة، وهذا لا يتحقق دون ان تجمع المرأة بين تقاليد الأنوثة الشديدة الرقة، وفن المهارة الدبلوماسية والدهاء السياسي.
إن الإصلاحات السياسية البحرينية الراهنة تفتح للمرأة آفاقاً كبيرة للتطور، ولكن عليها من جانب آخر أن تطور مهاراتها السياسية والفكرية والثقافية، فقد حصل الرجال على خبرة واسعة في هذه المجالات، نظراً لعقود من السبق الاجتماعي، ووجود فرص الحرية الشخصية لهم، ولا بأس أن تصبر المرأة على اكتساب مثل هذه الخبرات وتتعلم كيف تجمع بين خصال صعبة ولكن لا مجال للصعود السياسي والاجتماعي دونها.
وليس أسوأ من خصلة معادية لهذه المكانة وفي هذه الحياة الاجتماعية ذات المسئولية العالية، من العاطفية الشديدة، وتمكن روح المزاج والفردية الكبيرة، كما أن روح الجرأة والمبادرة وخدمة الناس والتطور بحماس، أمور مطلوبة كذلك والتوفيق بين هذين الرأسين بالعقل هو الحل أو الحلال التحديثي.
دليل المرأة الذكية للوحدة الوطنية
لاتزال المرأة عموماً مثل كثير من الرجال كذلك لا تعرف شيئاً كثيراً عن الاتجاهات السياسية والدينية، لكن المرأة بسبب ظروف الأسر المنزلي والذكوري والسياسي والاجتماعي العام لها، فإنها أقل فهماً للمصطلحات السياسية والاجتماعية التي يتداولها الرجالُ في جمعياتهم وتجمعاتهم دون أن تحظى النساء الكثيرات بمعرفة ما يدور في هذه اللقاءات المطولة التي يقرر فيها الرجالُ دون النساء مصير الحياة السياسية، وهذه الحياة السياسية هي التي تقرر في النهاية الحصص والمقاعد والهيمنة الذكورية في المجتمع، وتشكل المستوى المتدني للنساء وحقوق النساء الضائعة.
فكلما اختفت النساء عن الممارسة السياسية والاجتماعية وقبعن في بيوتهن سهل على الرجال من مختلف الأصناف السياسية/ الذكورية التحكم في مقاليد السلطة، وتوزيع الحقوق عليهم، وفرض الواجبات الكثيرة على النساء!
فالرجال يطرحون الوحدة الوطنية بين الطوائف في حين أن الوحدة المنزلية، الأساس لتلك الوحدة، غائبة بسبب النزاعات الطويلة بين الرجال والنساء!
ولهذا فلو حضرت النساءُ وبكثافةٍ ومن مختلف الطوائف والكتل، فى اجتماعات سياسية واجتماعات نقابية، لاستطعن فرض أصواتهن على الرجال، وإجبارهم على الوحدة من أجل الأطفال والبيوت التعبة من الأقساط والأسعار..
يتصور الكثير من النساء أن القضايا السياسية هي فقط هموم رجالية، وأن السياسة هي فقط قضايا الأحزاب والحرب والكوارث، وليست هي أيضا قضايا الحدائق ورياض الأطفال والسلام، وحرية المرأة في الخروج والعمل، وهي كذلك الالتزام الأخلاقي بالعائلة والوطن. لا تعنى التجمعات السياسية الذكورية غالباً بالعمل النسائي وانتشاره، لأن الرجال يفكرون في ظروفهم ومصالحهم، وهناك منهم أناس شديدو الأنانية فلا يريدون للمرأة أن تخرج كلياً من البيت، وهناك منهم أناس لا يفكرون فيها سوى كراقصة أو كمصنع للذرية!
والكتل الدينية تتحدث كثيراً عن ضرورة الفضيلة الشديدة للمرأة، ولا يتطرقون بمثل هذا الحماس لفضيلة الرجل، ولكنهم لا يرون الفضيلة إلا فى العزلة لها، سواء كانت في البيت أو وراء الجدران واللباس، وليس في تمتع المرأة بالعمل، والدخل الجيد، والاحتكاك الصلب والأخلاقي مع الرجال.
والفضيلة لا تنبت للمرأة عبر غياب التجربة والاحتكاك، بل من خلال العمل والمعاناة والتجارب، حين تصبح إنساناً لا أنثى دمية جميلة في البيت ومع أول صدمة تتشقق!
لهذا كله تبقى المرأة هي أساس الوحدة الوطنية، أساس قوة العائلة، والسلام، وكراهية الفتن والحروب، هي التي تستطيع القفز على الحواجز الطائفية التي أقامها بعض الرجال، وجعلوا الأولاد والبنات في المدارس يتصارعون ويخافون من بعضهم البعض.
والمرأة تظن أن هذه الحواجز هي بسبب التيارات «الإسلامية»، وأن هذه التيارات هي سبب عدم وصول المرأة إلى البرلمان والمكانة السياسية التي تتطلع إليها.
والمسألة هنا تعود إلى تاريخ اجتماعي شرقي خاص، وليس إلى الإسلام بشكل مجرد، أي أن الوعي النسائي هنا بحاجة إلى فهم للتاريخ والفكر الإسلاميين، فهؤلاء الدينيون المذهبيون السياسيون المحافظون لا يمثلون النهضة الإسلامية والحريات الإسلامية بقدر ما يمثلون وعياً مذهبياً مسيساً تمت السيطرة عليه خلال القرون السابقة، من قبل السلطات الذكورية والإقطاعية السائدة والتى كيفت المذاهب الفقهية لمصالحها، بمعنى أنها غيبت ما يفيد المرأة من الشريعة وثبتت جوانب نصوصية لصالحها.
مع غياب المرأة عن التحولات السياسية وبشكل جماهيري تغيب الوحدة داخل الأسرة وداخل المجتمع.
وغياب المرأة عن الأعمال والصناعة والحرف والسياسة يشجع القوى المحافظة على جلب العمالة الأجنبية والتصرف بخيرات المجتمع حسب أهوائها.
ولهذا فإن الفضيلة ليست هي فضيلة الثياب بل فضيلة الصراع! إنها الفضائل التي تأتي من انغماس النساء في الأعمال وفي النضال وفي المكاتب والمصانع والفنادق، فالموقف الأخلاقي الرفيع لا يأتي من الجهل بل من المقاومة والتمرس فى خنادق العمل والفكر. والمرأة حين تُجرد من فهمها للدين، والسياسة والعمل، والصراع الاجتماعي تعجز عن الدفاع عن مصالحها.
ليس المهم هو وصول بعض النساء إلى البرلمان، بل المهم هو جذب النساء بشكل كبير إلى ميدان الإنتاج والسياسة والفكر والوعي، فالبرلمان ليس سوى ثمرة لتصاعد دور النساء في مختلف شئون الحياة، هو تتويج نضالهن في القواعد الشعبية، في النقابات، وفي الجمعيات، وفي الفكر والثقافة والفنون.
وما دام الرجل مهيمناً على عقل المرأة ونفسها، وهي تؤدي دورها ككائن ثانوي، كجمهور مغيب عن الندوات والقراءة والفنون والجدل والعمل، مستعد فقط للزينة والزواج، كائن همه الأول الحصول على المنافع والمناصب، فإن وجود المرأة السياسي في البرلمان لن يكون كبيراً أو حتى موجوداً.
وحتى لو وجدت نساء، فهذا ليس دليلاً على وجود المرأة كتيار اجتماعي عريض.
النساء في مثل هذه الحالة سيمثلن أنفسهن، وسيمثلن شريحة إدارية مستفيدة تقول «نعم» دائماً.
إذا لم تصعد المرأة سياسياً ككائن سياسي مستقل، له مشاكله الخاصة العميقة المحورية، فذلك يعني أنها سوف تُستغل من قبل تكتلات الرجال الأنانية المسيطرة. وحتى الآن فإن النساء بشكل عام عاجزات عن الاستقلال السياسي والفكري عن التنظيمات الذكورية/التقليدية، والعجز عن الاستقلال هو الذي يفكك العائلة ويفكك الوطن.
أي أن هذه القوة الجماهيرية الكبيرة القابعة في البيوت، وفي الخرافة، وفي أسر الثقافة التقليدية والتلفزيونية التغريبية، وفي فضيلة الثياب وفضائل الحبس الاجتماعي، يغدو تحريرها هو إعادة للحمة الوطنية على مستوى العائلة وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فدخول المرأة بكثافة إلى العمل والصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي هو الذي سيشكل الشعب بشكل جديد، سيجعل العانة أكثر تطوراً من حيث الوعي الصحي والنفسي والجنسي والفكري، ستغدو النساء لسن خامات يمكن خداعهن بسهولة، بل سيتمرسن بفنون الخداع ويكشفنها.
والخداع على مستويات عدة، على مستوى خداع الزواج، ومستوى خداع الشعار الديني، والخداع على مستوى الشعار السياسي، وكل أشكال هذه الخدع تنصب في عدم إطلاق طاقات النساء الحرة، ومنع قدراتهن من التفجر: حركةً جسدية حرة، وانفعالات نفسية ثرة، وحركة اجتماعية وسياسية تنصب على تحرير المرأة لا على خداعها واستعبادها!
مقاومة المرأة لكثرة النسل وعدم نوعيته هو فعل ديمقراطي سيتراكم على مدى السنين، حيث لا يُقاد الناس في باصات ليصوتوا لمستغليهم!
مقاومة المرأة لنشر العمالة الأجنبية بلا رقيب ولا حسيب، واستغناؤها عن الخادمات والاستهلاك البذخي، هو نضال ديمقراطي سيتجسد في عائلات أكثر قوة وأكثر وعياً.
نضال المرأة لتثقيف أبنائها وبناتها هو نضال ديمقراطي يتكرس في مرشحين أكثر استيعاباً لهموم الشعب وقضاياه، وفي ناخبين أكثر تبصراً واستخداماً لأوراقهم الانتخابية في الصناديق/المستقبل!
نضال المرأة الفكري والثقافي سيبصرها بالكتل السياسية، ويعطيها القدرة على أن تميز بين الاستخدام الرنان الكاذب للشعارات، والنضال الحقيقي على الأرض من أحلها ومن أجل وطن لا يتعرض فيه أبناؤها لسلق الدماغ ولسلق الجيوب والمصير!
خطورة الوعي السلبي للمرأة
كان يفترض مع التحولات السياسية أن تزداد عمليات الانفتاح الاجتماعي، ويتم الابتعاد عن قضايا الحريات الشخصية، ولكن حدث على العكس توجه للتقليل من هذه الحرية، الأمر الذي سيحولنا ~ إذا استمر هذا الخط ~ إلى فتح باب المجابهات الداخلية.
ويعتمد المحافظون المتوجهون في هذا المسار على الأقسام المتخلفة من السكان في وعيها، والتي تصور الحريات باعتبارها كارثة أخلاقية وانحرافات اجتماعية، وتفصل هذه القضايا الأخلاقية والأسرية عن قضية الحرية المترابطة، حيث ان أي مساس بالحرية في جانب من جوانبها ينعكس على الجوانب الآخرى.
والخطورة في تفاقم مثل هذه المسائل هو أننا نتجه بعيدأ عن القضايا المحورية في قضايانا الوطنية، وننزلق في سراديب جانبية مقفلة، وهي قضايا لم يستطع الخطباء على مدى آلاف السنين أن يحلوها، وهي مسائل باتت في عهدة الضمير والحرية الفردية والمسئولية الشخصية .
يستند المحافظون إلى وعي بعض الأقسام النسائية التي تتأثر حياتها الشخصية بهذه المسائل ومسائل الحرية الشخصية غالباً ما يستفيد منها الرجال وتحرم منها النساء، ويقوم الرجال عادة بتكييف مسائل الحرية على مزاجهم وكيفهم الشخصي، فهم يريدون الحرية ولكن لهم وليس للنساء، فيتمتعون ويسافرون وينطلقون كيفما شاءوا لا تسألهم زوجاتهم عن هذه الحرية الواسعة، وإذا سألنهم قالوا إننا رجال!
من هنا تبحث هؤلاء النسوة عن وسائل للجم هذه الحرية الذاتية النهمة، فلا يجدنها إلا في آراء بعض المحافظين، الذين يستغلون هذه المستويات المتفاوتة من الحرية، وتذمر النساء، لكي يلجموا الحريات العامة، ولكي يدخلوا في حيوات الناس الشخصية، ويفرضوا مقاييسهم الاجتماعية.
كان انتشار حركات المحافظين قد اعتمد في الغرب نفسه على هذه الأقسام الاجتماعية، وعلى جمهور نسائي معين، يرى في الحرية الذكورية الواسعة خطورة على بقاء الأسر، ولكن المحافظين التفوا بعد ذلك على هؤلاء النسوة وفرضوا عليهن قوانين مجحفة وابقوا اللامساواة بين الرجال والنساء وبصورة أسوأ من السابق.
ولهذا فإن حل المشكلات الأسرية ونقص الحرية في المنزل للإناث لا يحل بتشكيل دكتاتورية في الحياة العامة، أو بإطلاق يد الرقابة في ضمائر الناس، وبمراقبة ما يشربون وما يأكلون وكيف يفرحون ويغنون وماذا يلبسون.. وكأننا ونحن نطلق موجة الحرية السياسية من الباب نقوم بسحبها من الشباك الاجتماعي.
إن المرأة هي التي سوف تعاني أكثر من غيرها من المحافظة الاجتماعية والسياسية، التي ستنقلب على تراجع المساواة لها، وتفاقم مشكلاتها في الأحوال الشخصية المختلفة، خاصة مع جماعات غير متبصرة سياسيا ودينياً، وليس لديها برنامج للنهضة والتطور.
وعلى العكس، فإن على المرأة أن تدخل هذه القضية من بابها، وهى المطالبة بمزيد من الحريات الشخصية والعامة المتساوية، التي تعطيها الحق في نقد الرجال وتشريح سلوكهم الخاطئ أو المضاد للحرية.
وكلما ازدادت الحرية كلما انعكست ثمارها على المرأة على المدى الطويل، سواء بوجود مواقع فكرية وسياسية للمرأة، أو بتطور منابرها المستقلة، وباكتشاف مشكلاتها والبحث عن حلول واقعية وسليمة ومباشرة لها، ومن خلال وحدة الحركة النسائية وبالتعاون مع الحركة الديمقراطية في البلد بمختلف اتجاهاتها.
النساء والانتخابات
مثل بقية القوى الجماهيرية العاملة والمالكة المقصاة من الحضور الانتخابي كالعمال والتجار، فإن النساء يواجهن معضلة الوجود داخل الحياة السياسية.
إن كل هذه القوى الحديثة تمتلك أسباباً خاصة لعدم التواجد المستقل، ولهذا فإن النساء هن أكثر هذه القوى غياباً، وأكثر القوى المدفوعة رسمياً للتواجد والنجاح.
فإن الحالة السياسية الانتخابية والتحولية جرت في أحضان القوى التقليدية، وُوجهت بعمليات فوقية رسمية من أجل التحديث، فكان من المستحيل أن تكون النساء قادرات على الحضور السياسي في ظل انعدام النشاط الكفاحي لهن خلال عقود إلا من قوى نخبوية نسائية مضحية كحال قوى اليسار والتجار الديمقراطيين، وقد تصدت المؤسسات المذهبية التقليدية للسيطرة على الحياة السياسية تدريجياً خلال تلك العقود مع ذلك التركيز على القضاء على القوى الديمقراطية الحديثة.
ولهذا كانت الخطابات الدينية خطابات تنتمي لعصر الأقطاع خلال الألف سنة السابقة؛ وهي خطابات ركزت على قانونية البناء الاجتماعي الذكوري الشمولي المسيطر على النساء، الذي كان بدوره الوليد النهضوي لعصر الإسلام التأسيسي، فكانت الإيجابيات المقدمة للنساء في تلك الفترة الإسلامية التأسيسية قفزة على المجتمع الجاهلي، التي تجرعها الرجال المسيطرون الأغنياء بغصص، من حيث تحديد عدد الزوجات واشتراط العدالة وإدخال المرأة في الإرث المغيبة عنه كلياً في السابق إضافة إلى الحضور النسائي السياسي والمشاركة في حروب الفتوح، إضافة إلى الديمقراطية في الإجابة على أسئلة النساء في زمن الوحي الإلهي وعلى اعتراضاتهن ومطالبيهن الخ..
إن كل هذا يبين الطابع الديمقراطي الإسلامي في التعامل مع النساء في فترة التأسيسي. إن ما قدمه الإسلام التأسيسي للمرأة قياساً لعصر الأمية والجهل والبداوة الكاسحة كان كبيراً، ولكنه تاريخي، مثل العديد من الأحكام الكبرى التي مثلت نقلة عظيمة للأمة العربية طليعة الأمم الإسلامية في التكون. ولكن مكاسب القوى الشعبية خاصة النساء لم تتجذر بعد ذلك؛ بسبب سيطرة قوى كبار الأغنياء مجدداً فهزمت القوى الشعبية خلافاً لإرادة القرآن [كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم]، الحشر، آية 7.
إن حروب الفتوح وضخامة الثروات التي انهالت على الرجال المسيطرين ونشوء دول الاستبداد كانت حاجة الأمة العربية الصغيرة الفاتحة (أربعة ملايين) بين أمم بعشرات الملايين هي التي استوجبت تعدد الزوجات وكثرة التناسل إن كل هذه الظروف أدت إلى تدهور مكانة النساء، وإلى ظهور فقه شكلاني، ركن على الفهم النصوصي لآيات القرآن، رافضاً الرؤية التاريخية والمضمون، وقافزاً على آيات كثيرة كبرى عن الدولة الشعبية وكيفية تطورها.
وهكذا قام تجارُ الرقيق بالاستيلاء على أرادة الأمة، وشل فاعليتها، وصار تضخيم الأسرة العددي، وإخفاء النساء وشل عمليات النهضة العقلية، والاقتصادية هي النتائج السيئة لسيطرتهم على الأمم الإسلامية وتقديمها لقمة سائغة لقوى الغزو والسيطرة الأجنبية.
وعلى الرغم من أن مياه النهضة قد جرت تحت أرجل القوى التقليدية، إلا أنها لم تفهم أهمية إعادة النظر الجذرية في التراث السلبي للحقب الماضية، فالاقتصاد لم يتغير كثيراً، وفي دول الخليج تضاعفت عوامل أخرى لضرب حضور النساء ككثافة وجود العمالة الأجنبية وضخامة تراث الكسل والتصحر.
وفى ضوء ذلك تم دفع الحركة النسائية النهضوية الطليعية من أجل أن يكون لها حضور في العملية السياسية، وأن لا تكون القوى التقليدية الذكورية مهيمنة على الحياة السياسية.
لكن وككل العمليات التحولية السياسية أخذ ذلك طابع المرحلة بصراعاتها ومستوى تطور القوى الاجتماعية، وكون التغييرات تجري من فوق، ولا توجد قوى شعبية نهضوية كبيرة مساندة لها، بعكس المراحل السابقة حين كان الزخم من الأسفل وتغيب بل تعارض قوى المؤسسات الحكومية!
إن طابع إدخال النساء اتخذ ما هو ممكن من وجودهن الاجتماعى، أي ما هو متوافر من نساء العمل الاجتماعي والتطوعي اللاتي برزن خلال السنوات الأخيرة، وهن قطاع بسيط من النساء، ولا يمتلكن أي منظمات شعبية واسعة، أو روابط سكانية قوية، كما لا تتوافر لهن بالتالي خبرات سياسية بين الجمهور الواسع.
والخبرات بين الجمهور الواسع المسيس تتطلب الحضور المذهبي السياسي، ولكن هذا الحضور هو في حد ذاته واقع تحت سيطرة القوى المذهبية التقليدية وهذه القوى نتاج ضمور الخطاب الإسلامي النضالي التحديثي.
فمن جهة هناك قوة سياسية حكومية تعمل لصعود النساء السياسي، تمثلت في «المجلس الأعلى للمرأة» لها مصطلحاتها وإجراءاتها ودعاياتها لأدخال النساء في حيز المشاركة، ومن جهة أخرى هناك القوى التقليدية المتعددة التي لها مواقف متباينة من هذا المشروع، الواضح منها هو السيطرة الذكورية الكاسحة على الترشيحات وإخلاء المجلس المنتخب للمرة الثانية من النساء.
ويبدو الأمر أشبه بصراع ديكوري أكثر منه معركة لتفعيل إرادة النساء السياسية، فالصراع نتاج حقبة أولية للتغيرات السياسية، كان تاريخها السابق هو سيطرة تقليدية شبه كلية على الساحتين الفكرية والسياسية، ففي الأولى لم ينشأ فقه ديمقراطي يعيد النظر في المقولات المتكلسة ويحدثها، وهو أمر مستحيل في ظل كون الفقهاء التقليديين نتاج أزمة الوعي الديني، ولكن هذا الوعي المتخلف عليه من جهة أخرى كما يفترض المشروع السياسي العفوي، أن يقود المرحلة الديمقراطية الحديثة.
هكذا فإن المجلس الأعلى للمرأة دفع من يمكن دفعه من النساء اللواتي هن وليدات العفوية السياسية والمصادفات، مع دعمهن بكل الوسائل الممكنة، لكي يظهر للنساء حضور ونجاح كذلك.
إن هؤلاء النسوة منقطعات عن البحر الشعبي بمن فيه من نساء عاديات خاصة، وهؤلاء النساء العاديات مقيدات في إرادتهن البيتية وعاجزات عن تقرير مصائر أطفالهن وعقود زواجهن، معزولات عن الوعي لقرون، لكن يُرجى منهن أن يساهمن في قيادة التشريع في البلد.
إن التناقض ليس له حل راهن، وتشكل خطوة المجلس خطوة مضيئة نبيلة ولكنها فردية ونخبوية، وكأي خطوة نخبوية تتسم بطابع المغامرة والمجازفة، رغم أن خطوات المجلس في هذه الدورة الانتخابية أكثر اتساعاً وشعبية وبرمجة من الدورة الأولى.
إن النساء المتقدمات الآن بحاجة إلى الارتباط بالتيارات التحديثية وفك عزلتهن الفكرية والسياسية والاجتماعية، ولا يجب حفظ القاموس السياسي لهذه التيارات فحسب بل أن يتشربنها في وعيهن ونفوسهن، بأن يطرحن هموم الشعب الساخنة، بلغة بسيطة، شجاعة، وأن يجذبن النساء بالدفاع عن حريتهن وتكافؤهن الأخوي اللاعدائي مع الرجال ويعلن حقوقهن كافة في مؤسسة الأسرة، لخلق أسرة فاضلة منتجة واعية، وأن يناضلن كذلك مع الرجال ضد الفساد والفقر وغياب التخطيط الاقتصادي الوطني.
ليس هناك نساء ورجال بل قدرات وطنية للكفاح لتغيير ظروف سيئة ولن يقتنع الناخبون إلا حين تجلجل المرأة بصوتها وتحدد نواحي التشريع المفصلية التي هي بحاجة إلى تغيير.
وهذه اللحظة الأولية من الصراع السياسي ستقدم مادة للسنوات الأخرى وتوجد تراكماً وصلات بين النخبة النسائية الواعدة سياسياً ببحر النساء المحلي والبشري عامة.
النساء والنضال الموسمي
ما أن انتهت المواسم السياسية الانتخابية البلدية والنيابية حتى ابتعد الكثيرون من النشطاء وخائضي غمار التجربة عن التواجد، بعضهم حزنأ ويأساً والبعض الآخر لا مبالاة وكأنه أدى دوره الأخير في الحياة السياسية منتظراً موسماً آخر، يعود فيه إلى النشاط.
هذه المواقف توضح ان العديد من هؤلاء ابتعد بشكل أو بآخر عن الحضور، أو حتى اتخاذ موقف من التجربة، أو الكتابة أو التواجد بهذا الشكل أو ذاك.
اعتقد هؤلاء خطأ ان الحياة السياسية تنحصر في الحملات الانتخابية، وان العمل السياسي هو لبضعة أيام أو أسابيع ثم بعد ذلك تعود الأسراب إلى مخادعها.
لكن إذا تنعم هؤلاء، وخاصة النساء المحرومات من التمثيل المنتخب، ان التيارات هي التي انتصرت، وليس هذا أو ذاك من الأشخاص، التيارات التقليدية التي سمح لها بالحضور والتواجد فى المؤسسات الدينية، وبالتالي لم يظهر قانون ديمقراطي حقيقي يمنع هؤلاء من استغلال الدين لأعمال سياسية نفعية، وهذه التيارات لها جمهورها الذي تكيف مع هذه الظروف غير الطبيعية، والذي يعتبر المرأة عورة؛ وجسماً تقليدياً ، وكثير من هذا الجمهور هو من النساء أنفسهن.
وهذا الميراث لم يتشكل بين يوم وليلة، بل كرس عبر جهود طويلة، وإذا اعتقدت النساء الناشطات سياسياً، سواء كن بشكل موسمي أم غيره، ان هذا الميراث يتغير دون تضحيات ودون عمل متصل و كفاح لا يتوقف، فسوف يجدن أنفسهن مرة أخرى أمام الفشل.
وفي لحظات الفشل واليأس تطرح تعميمات خاطئة كالقول إن هذا الشعب متخلف، أو هذا الجمهور غبي، وهي تعميمات تحكمها المشاعر، لا علم السياسة، فالجماهير كتل من الناس ليست خارج التاريخ والتأثيرات والمصالح، فهي تحكمها ظروف، وقوى سياسية مختلفة وأفكار سائدة، ويتحدد قربها أو بعدها عن الحقائق الموضوعية بدور القوى الاجتماعية الطليعية ومدى انتشارها وذكاء أساليبها. وهذه القوى لا تأتي من فراغ بل من تطور اقتصادي وثقافي متعاضد، أي بجملة شروط، فلا يصبح الناس متنورين بشكل جاهز.
وقد كانت الكثير من النساء يخضعن لسنوات قريبة لدجالين أو لسحرة أو ضاربي الودع وحارقي البخور، ولطوالع النجوم، بسبب الحبس الاجتماعي الانفرادي الطويل لجنس النساء، ولهذا فإن إخراج النساء من هذه الزنازين التاريخية لا يتم بين ليلة وضحاها، أو بجملة شعارات براقة، بل يتغيرن من خلال نضال صبور يرين في آثاره تبدل أحوالهن وتحسن مكانتهن.
ومن هنا يغدو غياب الناشطات السياسيات، بالابتعاد عن العمل السياسي، فكرياً أو اجتماعياً، مخيباً لآمال الجمهور العريض من النساء، اللواتي وجدن فيهن بارقة أمل ومحاولة لفك أسر.
لقد حصلت هؤلاء النسوة على تجربة ثمينة ومعارف وتكونت لديهن علاقات، وهذه الحصيلة ليست سهلة، وجمهورهن ليس بسيطاً وقد تكون في مدة قياسية، فلا يجعلن هذا الجمهور يذوب، ويفقد الخيط الذي تشكل له، فهذا الخيط سوف يقوى على مر السنين عبر مواصلة الفعل الذي بدأ.
إن هذه التجربة الكفاحية الباهرة التي صارت بعد قيظ سياسي طويل، في الواقع تبشر بخير قادم، وإن كل هؤلاء النساء اللواتي احتشدن في يوم الانتخابات كن رسالة تأييد لعملية تحول، قد لا تستفيد منها النساء بصورة سريعة، ولكن الثمار قادمة لهن، عبر الصبر والانتظار الإيجابي الخلاق، وليس بالعودة مجددا إلى السلبية والصمت.
المرأة بين السلبية والمبادرة
ليس هناك فرق سياسي بين (جنس) المرأة والرجل، فلا تغدو الأنوثة أو الذكورة ميزة، بل ما يحدد الفرق هو نوع الوعي الذي يحمله كل منهما، ولهذا فإن لا ميزة لدخول النساء أو الرجال إلى البرلمان، بل الميزة هي فيما يضيفه كل منهما إلى قائمة العمل الوطني والتراكم الديمقراطي!
ولهذا فإن هؤلاء اللواتي يعتقدن فقط كونهن من النساء يعطيهن أفضلية في العمل السياسي، أو أنه بساط الريح الموصل إلى كراسي المجلس المنتخب، فإن ذلك من الأوهام التي يكرسها المجتمع المخملي.
فلا كتب الطبخ الزاهية التي يؤلفنها ولا أحاديث الصالونات ولا الاشتراك في مجلات الموضة والفساتين والعطور، هي ما يجعلهن ذواتاً سياسية متصدرة بل ما يكرس حضورهن هو نشاطهن السياسي النضالي في صفوف الناس دفاعاً عن العاطلين والفقراء والمدن المختنقة بالتلوث والفساد!
ولهذا فإن انتظارهن للفرصة الذهبية قبيل الانتخابات للظهور بآخر التسريحات هو مضيعة وقت، ولا علاقة له بالنشاط البرلماني، إذا لم يبدأن الركض السياسي منذ الأن، وما دامت العقبات الذكورية الدكتاتورية، تضع لهن شتى الحواجز الكبيرة متحدية سمنتهن السياسية المترهلة منذ عصر الحريم.
ولأن وجود المرأة المرشحة ليس ميزة بحد ذاته، فإن حضور المرأة الكفاحي مثلها مثل الرجل، هو الذي يعطيها تلك الميزة، أي نشاطها الذي لا يتوقف، ولا يرتبط بمواسم انتخابية وإعلانية وتجارية، بل يرتبط بوجود قضايا نذرن أنفسهن لحلها، وبوجود أهداف يسعين للوصول إليها، بغض النظر عن العقبات الماراثونية التي يضعها الوعي الذكوري الاستبدادي، لسيادته في المنزل والشارع والمجلس، وفي التاريخ المكتوب كله!
ومن هنا فإن هذا الحضور النضالي عبر الزمن السابق والراهن واللاحق هو وحده الذي يمكن أن يؤهلهن ليكن عضوات يعتمد عليهن الناس في الصراع من أجل برلمان متقدم، يقدم العمل والتعليم الحقيقي والطب الحقيقي والهواء النقي للمواطن.
وعليه فإن العملية الانتخابية يفترض أن تكون موجودة منذ زمن بعيد، في هذا الحضور النسائي للدفاع عن قضايا البيئة والسلع غير المغشوشة وضد الأجور الهابطة دوماً، وضد التمييز ضد المرأة والتي يقوم بعض النسوة للتصدي لها فعلاً.
لكن المعارك الانتخابية تحتاج إلى أكثر من هذه الأشغال الإصلاحية الصغيرة، تريد نضالاً سياسياً وسط الجمهور، تحتاج إلى الوصول إلى الحارات الفقيرة، ومعرفة دسائس المرتشين وحرامية المال العام الذين يريدون القفز على كراسي المجلس المنتخب منذ الآن، عليهن الوصول إلى النساء داخل بيوتهن والحديث معهن عن حقوقهن الضائعة، وأن يذهبن إلى مجالس الرجال ويقدمن جدولاً إصلاحياً ومسودات قوانين ضد الرشوة والإسكان السياسي، ومن أجل رفع الأجور وتطوير التعليم وتنظيف الحارات من المخدرات، والفقر والمطبات.
عليهن ألا ينتظرن وقت المعركة ولا إعلان النتائج بل أن يكون العمل لتغيير حياة الناس يسري في دمائهن، وعروقهن السياسية الوطنية، ويمكنك أن تناضلي في البرادة، والشارع والندوة، والجريدة، ومع الصديقات والمعارف والأهل، وإذا كانت لك قضية فإن الكرسي ليس مهماً بل هو وسيلة للوصول الرسمي لصياغة القرارات وتغيير القوانين، ويمكنك أن تعملي على تغيير هذه القوانين داخل وخارج البرلمان، مع أطفالك وجاراتك، وإذا كان ذلك موجوداً فإن النساء والرجال سوف يرفعونك إلى أن تواصلي المعركة داخل المجلس المنتخب.
إن الاعتماد على التيارات الإصلاحية وشق الطريق الشخصي ~ الموضوعي داخلها، برجالها ونسائها، هو الذي يؤهل الإنسان لأن يكون مُشرعاً.