جذور الديمقراطية الضعيفة
إن صناعة الديمقراطية ترتبط بصناعات الفئات الوسطى، بمدى تطورِ حرفِها في الأزمنة القديمة وإتصالها بالفلسفة والأفكار العقلية، كما بدا ذلك في ديمقراطية اليونان ثم في اللمحةِ السريعة في مدنية الإسلام المُحاصرة بالبداوة ثم بالإقطاع.
مثلما كان زمنُ المسيحية الأول قبل أن تتحكم الأمبراطورية الرومانية في تكييف المسيحية لمصالح الحاكمين فيها.
ورغم هذا لا يمكن إنكار المنجزات الحضارية في تلك الأزمنة المذهبية، والتي نتجتْ من إشتغالِ الفئاتِ الوسطى بتطوير العلوم والآداب والفلسفة، لكنها لم تعتمدْ المضمونَ الجوهري لعهودِ النضال المؤسسة رغم زخم المعرفة فيها، من حيث التعبير عن الأغلبية، والدفاع عن المنتجين، وقد حدث هذا في بدايات الفرق الإسلامية خاصةً لكن التطورَ موقفٌ لا تراكم معلومات، ولأجل ذلك توجه العالمُ الإسلامي نحو التفتت والتخلف والتبعية فيما بعد، فيما كان إسراع المسيحية للعصور الوسطى أسرع وأشد.
كانت مقاربةُ الفئاتِ الوسطى للحرفِ والفلسفات العقلية والعاملين هي جوانبٌ مشتركة، فبدون تطوير الحرف ما كان لصناعاتها أن تظهرَ ولتجارتها أن تزدهر، وهذه كلها عواملٌ فعالةٌ في نشؤ الفلسفات العقلية الباحثة عن السببياتِ في الأوضاع الاجتماعية وفي التاريخ، ويبقى إرتباطُ الأديانِ بالجوانب الغيبية والسحرية محل إفتراق حيث تبقى هذه عند العامة، ويعود لمحدودية مواقف الفئات الوسطى والحاكمة ورغبتها في الأرباح الشخصية لا في تغيير المجتمع وهذا ينعكس على تدهور الحرف وضعف التعليم والاستهانة بالكادحين فتتحطم تلك الفئات التي ظنت الحياة معها والنقود كثيرة وتنهمر فوقها.
الحياةُ السياسيةُ والاجتماعية العربية واصلتْ سياقَ عصور الأمبراطوريات والدويلات المذهبية المعبرة عن الأقليات، التي يسود فيها التعصب الشكلاني للدين، بمعنى أنها تتعمد التركيز على الأشكال والتعصب العبادي وفقه الجزئيات وتقديس الرموز الشخصية وخلق التعصب المذهبي، بهدفِ الهروبِ من حكم الأغلبيةِ الشعبية وجمهور العمل والإنتاج.
ودخلت المسيحية في عبادة الإيقونات والصور تعبيراً عن إنفراط المضمون المسيحي التضحوي في البداية الشعبية.
وتحلُ الأشكالُ والعباداتُ والأشياء بديلاً عن الكفاح من أجل الإنسان، وعن التلاقي الجماعي بين الناس ضد الشر وإضطهاد البشر.
وكل مذهب يركز على رموزه المنفصلة عن معركة تغيير الحياة، لأن الجميع يبحث عن النقود التي لا تأتي من تطور الإنتاج.
نلاحظُ في فسيفساءِ الأديانِ المبتعدة عن الجوهر النضال، التضادَ الكبيرَ مع التوحيد، وعدم تطويره ليشمل كافة المواطنين الداخلين في مواطنة الدول الإسلامية، بمختلف توجهاتهم وأديانهم، ويعبر حكم الإقليات المذهبية – أنظمةً وحركات – عن السيطرة الشمولية الممزِقةِ لأقطارِ المسلمين وكيف قامتْ وتقوم بهدمها وتشتيت كياناتها بالدعوى بأنها تمثل الكل.
نلاحظ في العقود الأخيرة كيف تقوم هذه الجماعات والأنظمة بهدم أقطار المسلمين، وتفكيكها، وهذا جزءٌ من العجز عن فهم التاريخ الإسلامي وإستمرار هذا الفهم في زمننا.
ويترابط ذلك مع تفاقم العولمة وتنامي تدخلات الدول الكبرى، وفي وقت ترفض هذه الدول نفسها أن تنزلقَ لاستعمار فات زمانه، وأصبحت الشركات فوق الأمم والحكومات. وإذا تدخلت الدول الكبرى دفعت ثمناً باهظاً من دماء شبابها، وإسقاطاً في إنتخاباتها، فغدا ثمة توجه عام لإزالة التعصب الديني من كل الأمم باعتباره المشكلة الكبرى الراهنة التي تواجه تقدم جميع البلدان.
الفئات الوسطى العربية الإسلامية المعاصرة التي كان يُفترض أن تنشئ الحداثة وتتداخل بالتصنيع ونشر الوعي العقلاني لم تفعل ذلك لنمط الاقتصاد وللتبعية في السياسة للدول، فأغلبية الاقتصاد ريعي تجاري لا يدخل بعمق في تصنيع المواد وتغيير الأرض، ولهذا فإن الفئات الدينية المذهبية السياسية الشكلانية في فهم الدين هي التي تنتشر.
الفئات الوسطى الراهنة هي صاحبة الدكاكين، غير منتجة للبضائع، تسعى للأرباح السريعة، ويعيش العرب المسلمون بين البضائع المستوردة مثلما يعيشون بين الأفكار المستوردة، وبين المذهبيات المستوردة من الماضي، ويغدو معيار التطور مدى قدرة الفئات المتوسطة والحاكمة على تحديد الصناعات الثورية في كل عصر، تلك التي تعيد خلق المجتمع ككل، وتجعل قواه الاجتماعية منتجة، وهذه لا تصير إلا بأن تكون للعلماء والقوى السياسية الطليعية والباحثين والجامعات علاقة أساسية بالتصنيع وإستراتجيته، وبالمساهمة في السياسة الديمقراطية.
القوى الكبيرة في آسيا التي صنعت الثورات الصناعية أعتمدت على توافر هذه العناصر، وبدون صناعات وعلوم تعيد خلق التخلف، تغدو الديمقراطية هامشية وضعيفة كما هي الديمقراطيات العربية.
