الأرشيف الشهري: جويلية 2023

الانتهازية وغياب الإنتاج

لا يقوم الموظف المستند على كرسي فوقه بتحقيق إنتاج حقيقي.
والسياسي والمثقف والصحفي الذي يرتكز على قوة سياسية تسنده مردداً شعاراتها العامة، دون قدرة على الخروج أو النقد، لا يستطيع أن ينتج سياسة أو ثقافة أو صحافة!
هكذا فإن التيارات السياسية التي ارتكزت على سند مادي لم تنتج شيئاً في النظر السياسي أو في الفكر العام أو في الثقافة، فتجد أن التيار الذي تسلق أنابيب الخير الحكومية لم يكن قادراً على نقد واقع أو التعبير عن رفض، ولهذا عجز عن إنتاج تفكير مستقل، فنجد أنه لا توجد حيثيات تؤيد إبداعه في مجال من المجالات، إلا حين كان أفراده بسطاء، يقفون في الشوارع ويشاركون في الصراخ السياسي، لكن حين راحوا يتسلقون وينظرون للمعاشات أكثر من نظرهم للآلام الشعبية، تخثرت اللغة في حناجرهم وذبلت الأفكارُ في عقولهم!
وحين تحولت التيارات إلى ثنائية الداخل والخارج، ثنائية النضال السري والنضال الخارجي العلني، التضحيات الجسيمة في الداخل ومهرجانات الدعاية في الخارج، تكونت فئتان؛ فئة داخلية مضحية، وفئة خارجية مستثمرة، ويمكن القول بتعميم حذر بأن بعض الانتهازيات تشكلت في الخارج أكثر من الداخل، وأن الطرق الانتهازية في الخارج ربما قادت إلى يباس الوعي وعدم الإنتاج فحدث لها استرخاء كفاحي وعجزت عن تطوير المفاهيم الوطنية العلمانية، فصدّرت هذا الاسترخاء للداخل المُنهك العاجز عن إيجاد قوى قيادية علمانية ديمقراطية مستقلة.
لكن مناخ الاسترخاء والانتهازية لم ينته لأن ثمة فرصاً جديدة تكونت مع عملية التحولات السياسية، وكان (التشعبط) على أكتاف الحركة المذهبية السياسية هو المحاولة ربما شبه الأخيرة، خاصة بعد أن تجمعت الحركات المذهبية السياسية تحت قبة واحدة، وصارت هي المرجعية السياسية الرسمية المعارضة من داخل النظام.
لا تختلف الحركات المذهبية السياسية في تكوينها عن الحركات الوطنية العلمانية جوهرياً، فهي كذلك ترتكز على غياب الإنتاج الفكري، وإنما على سواعد الجمهور البسيط المضحي، والذي تبين لبعض النفر فيه، كيف أن المصالح المادية تلعب دوراً كبيراً في تكوين التيارات السياسية، وأن قادة التيارات المذهبية (تشعبطوا) هم كذلك على سواعده، لكي يرفعهم إلى فوق، وفي البدء كان سقف هذا الفوق كبيراً حتى يصل إلى تغيير شاسع، ثم تواضع بحكم عدم قدرة الخطاب المذهبي السياسي أن يغيرَ شعباً متعدد المذاهب، لكن هذا الخطاب كذلك غير منتج فكرياً، فهو مثل قرناؤه السابقون مجرد مرددٍ للشعارات.
وكل هذه الفئات الاجتماعية السياسية المتداخلة مرت بزمن سابق مختلف، فيه العسف وصعوبات المعيشة لتيارات تكافح، ولكن الآن تغيرت الظروف وصار بإمكانها الجمع بين المعيشة الجيدة والإنتاج الفكري، بين المعارضة وتحقيق مطالب الجمهور، ولهذا إذا استمرت في نفس الماضي الإنشادي، وتحويل المنظمات إلى مآتم للبكاء على الراحلين، واستمرت في البطالة الإنتاجية، وعدم القدرة على الحفر في عالم الأبحاث والدراسات وتحليل ظروف الإنتاج والاقتصاد والسياسة والبيئة الخ، فتكون قد غلبت حياة الدعة ونقلت تقاليد الانتهازية الماضوية، ولم تستفيد من التحولات الراهنة، وهذا يقودها إلى ممارسات سياسية سطحية عاطفية، تظل الغوغائية هي المسيطرة عليها، بدلاً من تراكم ثمار التجربة والعلوم.
وإذا كات البطالة السياسية من نصيب القوى العلمانية الوطنية، فهذا مفيد كثيراً، فهو زمن مهم للدرس وإعادة النظر في التاريخ والتجارب، وليس لتكوين حلقات الأنشاد البطولي مع البخور، ولتبيان أوجه النقص خصوصاً، وتكوين التحالفات المبدأية القائمة على ترسيخ الرؤى، وتشكيل التعاون كذلك مع القوى المذهبية السياسية بما يقوي من تطور الوطن.

الانتهازيون والحقيقة

نظراً لأن طواقم الدول بلا ثقافة وبلا علوم فإنهم يعتمدون على المثقفين والتقنيين لكي يقدموا لهم المعلومات من أجل أن يتخذوا القرارت التي تضمن مصالحهم وسير الأنظمة.
لكن المستشارين والتقنيين والمثقفين المرتبطين بالأجهزة الشمولية هذه لا يعملون فقط من أجل مصالح المتنفذين بل يعملون من أجل مصالحهم كذلك.
وهؤلاء المساعدون يستعينون بنظائر أصغر منهم لكي يحافظوا على مصالح المتنفذين الكبار وعلى مصالحهم هم أيضاً، فيعمل هؤلاء كذلك على حماية المصالح العليا وعلى مصالحهم أيضاً.
وهم كذلك يقومون بذات الواجبات المقدسة وهكذا دواليك حتى تصل مثل هذه الخدمات إلى أصغر شرطي فيبحث عن مصالحه هو الآخر ويغض البصر عن الحرامية.
إن الطواقم الوسطى من المثقفين والتقنيين التي يــُفترض فيها أمانة الضمير وعلو الواجب الوطني والديني والإنساني، تفلسف وتبرر الضمير حسب الظروف من خدمة الوطن العزيز و(الموضوعية) و(النضال القومي) والجهاد الإسلامي والكفاح العارم والشرس ضد الأمبريالية وإلخ !
هم يعرفون كيف يتسلقون وكيف يجمعون الأموال ولا يكتفون بأجورهم التي أعطاها لهم عملهم الشريف بل يندفعون إلى كل وسيلة تقفز بهم إلى مكانة أصحاب الملايين!
وهناك طرق صارت مكشوفة في عمليات التحايل هذه، بحيث إن طلبة المدارس صاروا يعرفون هؤلاء، وهو أمر يحطم الأجيال الغضة، ويدفعها إلى سبل الغواية والضلال والفساد في كل مجرى.
مثقفون صغارأبتسمت لهم دنيا الفساد وحصلوا على رواتب عالية ليست في مستوى عملهم المحدود القيمة، فيتصورون أنفسهم فلتات تاريخية، لأن الأموال الحرام ملئت أفواههم وسدت عقولهم!
إن المشكلة هنا ليست فقط في الأموال لكن هذه التخمة جعلتهم يتكاسلون ويكونون حصالات تدفعهم للكسل في عملهم الرسمي، والواحد منهم يقول إذا كانت الدولة بمثل هذا الضعف فلماذا لا أتقوى وأصير في المستقبل مثلهم بل وأرتفع عن مستواهم وأتغلب عليهم، فيكونُ هذا المــُفسَّد دولة تحت الدولة، ويفتتح الفضائيات ويشكل الأعوان ثم يتمرد ويعلن العصيان!
مثل هذا الرجل الصفر أرتفع بغمضة عين فتخيل نفسه فريد زمانه ووحيد عصره، وإنه ملك إمكانيات لا يجود بها الزمان، ولا يعرف إنه مجرد بعوضة في آلة الدولة، متى ما أرادت طيرتها ومتى ما أرادت فعصتها!
وآخر أعطي المال بلا حساب ليشكل جريدة أو يصنع حزباً أو يكون مؤسسة اقتصادية، فتراه نسي مصدر المال وراح يتوهم إنه يصنع إعلاماً وسياسة واقتصاداً، فيلقي بالأموال بغير حساب، ويقرب الحشرات الامية والثقافية، التي تبحث عن خلايا العسل الدولاري وليس عن خلايا العقل والنقد، ولو كان الحاكم قد صرف هذه الأموال على الأطفال المصابين بالسرطان أو الحارات الفقيرة للضوء والهواء النقي، لحصل على دعاية تبقيه أمد العمر في ضمير بلده.
فالمثقفون الانتهازيون اليوم معك وغداً ضدك، حسب تدفق السائل المالي، فهم بلا ضمير ولا إله ولا مقدسات، المهم لديهم هو المصلحة الذاتية، ويستطيعون تلوين كلامهم التافه بألف لون، لكنهم لا يقدرون على قراءة شيء عميق ولا كشف مرض خطير!
بدلا من أنقاذ الأطفال من الأمراض الخبيثة والأمهات من الأمية نصرف الأموال على الخفافيش التي تريد استمرار الظلام . .
ولكن هذه هي عادات الدول حين تصاب بمرض الشمولية والغرور والخوف من كل المحبين والأصدقاء، فكل ناقد مستقل في نظرها خطر، والأنتهازي الكاذب المنافق هو الصدق كله، فتشرب السم في حليب الصباح!
وكانت تلك المرأة تبيح كل المحظورات وفجأة تغدو من أعلام الإسلام، وزميلها كان نزيل جنوب شرق آسيا الدائم صار فجأة مرشداً إسلامياً! والجاهل صار صاحب الموسوعة الفكرية والشاعر الضحل صار مشرعاً، وكلهم أغواهم رنين الذهب!
يبدلون العقائد كما يبدلون الجوارب والأحذية وكأنهم يضحكون على شعوب بلا تاريخ وبلا عقل وبلا عيون!

الانتهازيون والفوضويون

الفئات الوسطى والانتهازية

تعجز الفئات الوسطى الوطنية والعربية عن إنتاج رؤية فكرية وسياسة حديثة مستقلة، فهي دائماً مترددة ومتنقلة بين المعسكرات الاجتماعية القوية في أي مرحلة سياسية أو تاريخية.
إن عدم تكوين رؤية ووحدة بين فئاتها، يعود لغياب ثقلها الصناعي والمالي والعلمي المترابط، ولهذا فإن فئاتها تقوم بالتنقل السياسي والفكري المضطرب بين المعسكرات ذات الثقل والجاذبية المالية والسياسية.
وفي كل بلد عربي أو إسلامي ثمة تضاريس متباينة لهذا التقلقل، حسب درجات التطور الاجتماعي والتاريخي لكل بلد، ولحظته السياسية الخاصة.
في البلدان الخارجة تواً من الأوضاع الشمولية فإن اضطراب هذه الفئات يكون شديداً، ومحاولتها للقفز واختصار المرحلة، يكون كبيراً، بخلاف البلدان التي حققت تطوراً ديمقراطياً نسبياً، والتي نرى فيها تكون الجبهات الديمقراطية وخوضها الانتخابات بقوائم موحدة.
وعموماً تقوم سياسات الفئات الوسطى على الانتهازية، فأما أنها تكون مع الدولة المحافظة، بحجة أنها أفضل من الدينيين لأنها حديثة وتمثل التطور، أو تكون مع الدينيين بحجة أنهم يمثلون الشعب.
وغالباً ما تُساق هذه الحجج بسبب المصالح المتداخلة بين هذه الفئات والأطراف السياسية القوية.رغم إن الدول المحافظة والدينيين يمثلان القوى التقليدية، الماقبل رأسمالية، إلا أن الفئات الوسطى بأفرادها ومثقفيها ورموزها تتقلقل بين الجهتين.
قد تؤدي الوظائف أو الارتباط الاقتصادي أو التجاري أو الفوائد الشخصية، من ( فلسفة ) هذه الانتهازية ووضعها في صيغ أخلاقية براقة. وقد وجد بعض الدينيين في الركون للدولة والتبعية لها، مهما كانت سياستها فاسدة، حججاً استقوها أو زوروها من الدين، حيث يقولون إن المرء لا يجب أن يبات دون دولة أو أمام.
وقد كان هذا المبدأ الانتهازي راية عتيقة، حكمت قطاعات من الفئات الوسطى، التي جعلت العيش في مخازن وغنائم الدولة وفتاتها الطريق الوحيد للعيش والصعود.ولون هذا الملالي والتجار والموظفين، وملأ أفواه الشعراء المداحين والمنجمين والمنافقين على مر التاريخ.
وبدلاً من حجج الدينيين التقليديين فإن القوى (الحديثة) لديها مبررات في هذه التبعية التاريخية، وأصبحت تجري وراء القطار ( الميري) الحكومي، وإذا فاتها تمرغت في ترابه وكوارثه أحياناً.
ولعل شيئاً من الخصخصة مفيد هنا لتحرير هذه الفئات من التبعية للقطاع العام، الخاص في جوهر الأمر، في العديد من الأحيان. كذلك فإن تقليص الموظفين والأعداد الهائلة من الموظفين العموميين ستكون على جدول أعمال التاريخ القادم شاءت أم أبت الحكومات العربية المسترخية في ظل هذا التضخم الوظيفي الذي تحوله إلى خضوع سياسي.
عن تضخم المدن وتضخم الأجهزة الوظيفية جزء من هذه الانتهازية التابعة للدولة، حيث يعيش الموظفون والتجار على فتات الدولة، وهو أمر يجري بخلاف تضخم المدن في الدول الرأسمالية، حيث يقوم هذا الأخير على نمو الإنتاج وليس على اساس سرقته كما هو الحال في الدول ما قبل الرأسمالية.
كما أن الفئات الوسطى تعيش على فتات الدولة الاقتصادي فهى تدور فى فلكها الفكرى، ولهذا فمفاهيم الحرية والعلمانية والديمقراطة السياسية لا تنمو لدى هذه الفئات خلال تبعيتها للدولة، فهى تغدو دينية وتابعة وغير قادرة على إنتاج الوعى السياسى المتحرر، بعكس الفئات الوسطى الاوروبية التى نمت من خلال قدرتها الاقتصادية خارج هيمنة الدولة. وهى غالباً ما تأخذ جوانب معزولة من مسائل الحرية السياسية، كالحداثة فى الحياة وبعض القيم الليبرالية المفصولة عن الحرية الشاملة، فى حين نراها تذل نفسها فى خدمة الدولة، فهى حداثية من الخارج، اقطاعية فى الجوهر. ويمكن أن نرى تأثير ذلك فى الإنتاجين الفكرى والفنى اللذين يصدران عن هذه الفئات، حيث يغدوان حداثة شكلانية، ويتوجه الوعى السياسى نحو التيارات الدكتاتورية، بحكم تربيتها السياسية الخاضعة والذليلة.
وفى جانب الفئات الوسطى التابعة للدينيين أو للاقطاع فى قسمه المذهبى، فإنها ترفض التحديث بدعوى الحفاظ على الأصالة والقيم، وخاصة سمات الديمقراطمة والعلمانية المترابطة، لأنها تقوم بتقطيع صلاتها وشبكة الأقطاع الدينى.
إن فئات الموظفين والتجار والمثقفين وجدت فى الصلات المذهبية وحذورها فى الحياة طريقاً للسيطرة على الفقراء، دون إعطاء الفقراء هويتهم الفكرية والاجتماعية المستقلة، وعبر ضباب الوعى الدينى التقليدى يمكن تضييع استقلالية الطبقات العاملة الحديثة.
ومن هنا تغدو الفئات الوسطى التابعة للاقطاع المذهبي غير قادرة على إنتاج المفاهيم الحديثة فى الإسلام، أي على تجاوز إرث السيطرة الاقطاعية الطويل فى التاريخ العربي، حدث كانت فئات وسطى سابقة تمارس ذات التبعية فى الماضى للاقطاع. فيجري تداول مفاهيم قديمة تواصل منع تكون المنظومة الحديثة.
وإذا أضفنا ان تقسيمات الفئات الوسطى ليست فقط للدولة أو للدينيين، بل لتيارات الدولة، إذا كانت منتحة لتيارات الإصلاح والجمود والمحافظة، وكذلك الدينيين حسىب مذاهبهم، ودرحات فهمهم للدين، أي على مستويات تحررهم من التقليد المحافظ.
وكذلك أيضا فإن الانقسامات تتواصل فى التيارات التى تحاول أن تعبر عن الطبقات العاملة، وهى كلها ابنة الفئات الوسطى، وتعبر عنها بدرجات وتتداخل مع القوى الاقطاعية الدينية بدرجات وأشكال معقدة.
إن هذا التضخم فى تيارات الفئات الوسطى وكثرة تلاوينها وخلافاتها، الناتجة من خيوط مصالحها الضيقة، يوضح كم هى مهمات طويلة وثقيلة عملية إنتاج وعي ديمقراطى في هكذا فئات.
وليست فكرة تحاوز المرحلة الرأسمالية لدى بعض التيارات اليسارية سوى شكل من أشكال هذه الانتهازية، حيث عبرها ترفض الأجابة عن سؤال المرحلة بضرورة نقد وتجاوز الأقطاع، فتقوم بالهروب إلى الأمام، مخفية صلتها بهذا بالقوى الإقطاعية/ المذهبية وتداخلاتها معها.
تتجلى انتهازية الفئات الوسطى سياسياً عبر رفض تداول وتطبيق المفردات والشعارات المرفوعة الحديثة، خاصة شعار العلمانية، فهذا الشعار يفكك صلتها بالإقطاعين السياسي والمذهبي، فمع رفعه يجب أن تطرح مختلف المفاهيم الخاصة به، وبالتالي تقوم بإنتاج وعي حديث حقيقي، فتصطدم بالقوى المهيمنة، والتى تستفيد منها، وهى لا تقدر على ذلك بسبب الطبيعة التجارية والإدارية لهذه الفئات الوسطى المتذبذبة. ولهذا تغدو مهمة مركزية في التطور تحرير القطاع الصناعى والاقتصادى الكبير من هيمنة الدول عبر الرقابة البرلمانية أو الإدارة الشعبية أو الخصخصة.

الانتهازية في الحداثة

اليسار العربي هو أكبر قوى الحداثة في المنطقة، وغالباً ما تُرجع أسبابُ فشلهِ لعوامل خارجية، وليس لعوامل فكرية داخلية، وأهمها إنتشار الانتهازية بين صفوفه، وللانتهازية هنا مقولات سياسية وفكرية، ولعبتْ هذه حتى على المستوى الشرقي العالمي أدواراً خطيرة.
قيل كثيراً إن أفكاراً مثل حرق المراحل لعبتْ دوراً كبيراً في ذلك، لكنها تُؤخذُ بشكلٍ منقطعٍ عن الإيديولوجيات، فقد رفضَ هذا (اليسار) الاعترافَ العميقَ بوجود الإقطاع، وإنه ليس تشكيلة إجتماعية إقتصادية(سياسية ودينية مشتركة)، وإنه مجرد بقايا سابقة وإننا الآن في الرأسمالية.
في الماركسية المُؤسِّسة المُشَّكلة في الغرب طُرحت لأول مرة مسألة التشكيلات وهي المشاعية والعبودية والإقطاع والرأسمالية والإشتراكية.
وبدأتْ الانتهازيةُ من اللينينية التي رفضتْ مرحلةَ الإقطاعية، التي رفضت النضالِ داخلها لتشكيل أنظمة رأسمالية شرقية يتم التجاوز من داخلها، وليس عبر القفز عليها ولم تشكلْ إشتراكيةً بل مرحلة إستبدادية رأسمالية حكومية.
ومعروفة بقية القصة، وكان لذلك نتائج على الأحزاب التحديثية في الشرق، ولكن مع تطورات الحياة السياسية والصراعات التاريخية المختلفة، وجدتْ دولٌ عديدة في الشرق نفسها إنها تسير للوراء، وتتشرذم مذهبياً، وتتمزق قومياً، وتتشظى بل تنفجر!
العديد من القادة الذين عاشوا في هذه المرحلة لم يقوموا بإعادةِ النظر في هذا التاريخ، والقيام بحفريات في السياسة والثقافة في هذه المرحلة، فكان إنهيارُ النموذج الحديدي يتم أما بالصمت أو بالابقاء على هذا التاريخ السياسي النظري سراً.
لم تُوجدْ مواجهاتٌ شجاعةٌ كثيرة على المستوى الفكري خاصة. وبالتالي فإن القواعدَ المؤسَّسة بشكلٍ ديني عاشتْ مرحلةَ إنهيارِ النموذج تنتظرُ ما تقولهُ القياداتُ الرسمية.
كانت المأساةُ كبيرةً فإلانتظار الحاسم لانهيار الرأسمالية وهزيمة قوى الشر والإستغلال، إنقلبَ على أعقابه وهُزمت (الإشتراكية) الخالدة، وإنتصرتْ الرأسمالية في أشرس قلاعها، وقامت بالحراك السياسي المنتصر.
وغابت الكتاباتُ والأقلامُ التي تروجُ للنموذج الرأسمالي الحكومي الشرقي والتي كانت تستند لقواعد نظرية بحثت وقرأت بشكل كبير، وأسستْ مرجعيةً متفرعة من تلك الإرادية الانقلابية الشرقية، الاستبدادية، وحتى هذه إختفت.
بالنسبة للقواعد اليسارية خاصة لم يقدم أحدٌ مادةً تعزفُ على نفس النشيد المنتصر، بل ظهرتْ كتاباتٌ تبحثُ في عمق الأزمة وتكشف الأخطاء.
كان الفساد والانتهازية في الواقع على الجانبين الإشتراكي الحكومي والتنظيمات التابعة لها، وهو الذي عرقلَ تطورَ الماركسية كأدواتِ بحثٍ موضوعية ناقدة، حرة.
مسألة الإقطاعية تلك لم تُبحث بشكلِ تشكيلة، وإندفعت في ذات السنوات التنظيماتُ الدينية الاسلامية، ووجدتْ نفسها كأنها ترثُ المعارضةَ الأساسيةَ بديلاً عن الماركسيين الذين إنهاروا فجأة، بسببِ القمع والأخطاء السياسية والفكرية خاصة.
لا بد أن نقولَ بأن تتبعَ الموديلَ السياسي الخارجي ركيزةٌ أساسية في الذهنية العربيةِ غيرِ المنتجة، غيرِ المحللةِ بأدواتٍ منهجيةٍ لواقعِها، وحين أنهارتْ المعرفةُ الجاهزةُ تدهورتْ العقولُ اليساريةُ المجترة، وراحتْ تركضُ وراءَ السائد المذهبي والليبرالي بكل أشكالهما المتفرعة من كثرة الطوائف والكتل المصلحية الباحثة عن المال.
لم تعرف بأن كل هذا السائد هو حصيلة التشكيلة التي لم تعترفْ بها وهي الإقطاع الضارب الجذور في المنطقة، وكأن الجملَ الثوريةَ ونقل حشود الكتب والكراريس تكفي لتجاوز التقليدية، ولهذا فإن كتلَ اليسار المتمزق الفارغ من اليسار ومن أدواتِ التحليل الماركسي، فوجئتْ بأنها تناقش قضايا مثل الحجاب وحرية المرأة ونقد الطائفية، وتوزعتْ قواها وتهلهلتْ بين أناسٍ ركضوا نحو العزلة أو التجارة الخاصة، وآخرين إستظلوا بمظلاتِ الحكومات المختلفة شيعة وسنة، شرقاً وغرباً، وكل منهم يروج للمظلة الجديدة التي زحفَ على تبرِها وترابها.
إن المظلات الشرقية (الاشتراكية) لم تتركهم مستقلين ينتجون فكراً داخل بلدانهم، بل تحكمتْ في الأطر العامة العالمية وتركتْ التفاصيل الجزئية لهم، ولكن لم يكن بإمكان الوعي غير المستقل أن يُنتجَ فكراً متجذراً، وحتى الأشكال الإستثنائية الفكرية لا تكفي، ولا تكَّون حالاتٍ منهجيةً سياسية واسعة، في حين برز الدينيون بأشكالٍ جماعيةٍ واسعة، وصار ثمة تحولاتٌ سياسيةٌ فوضوية شتت الإصلاح الحقيقي وقدمت مبررات للتدخلات الأجنبية وإستغلال صراع المسلمين دولاً وشعوباً، لتكون القيادة في الدول الغربية المسيطرة.
إن عدم تجاوز الإقطاعِ بشكلٍ تدريجي ديمقراطي عقلاني في روسيا والصين وأوربا الشرقية خلقَ إرتداداتٍ عنيفةً في الدول الأكثر تخلفاً منها والتي سارت على خطاها رؤىً أو دولاً، والتي لا تتمتع بالوحدة والأسواق الكبيرة والقوى الصناعية، والتي عادتْ فجأة لتراثها الديني السابق المنقسم المتشظي بشكلٍ حاد، ولم تحققْ الإستقلال الحقيقي، والأزدهار، فتراكمتْ عليها كوارثُ القفزة الاشتراكية والارتداد لمراحل سابقة متخلفة من الإقطاع.
توجهت بقايا اليسار للقوى الإقطاعية السياسية والدينية المنتصرة بسبب خلو آسيا خاصة من الاشتراكية، المفترضة، وأدى الزلزال بها للبحث عن مصالحها الخاصة، وتجميع النقود والنفوذ، إذا توفرت من هذا الطرف أو ذاك، ولم تعملْ على تجذير الحداثة والديمقراطية والعلمانية بمصداقية حقيقية ونقد الإقطاع بكل تلاوينه بشكل موضوعي.

انتهازيةُ التحديثيين

تعددت علاقات فئات البرجوازية الصغيرة بالإقطاع وهي تعتمد على طبيعة العصر ونمط الإنتاج. حين نقرأ كيف يتدهور وعي هؤلاء ويتراجعون من الحداثة إلى المحافظة والطائفية فلا بد من قراءة ثقافة المرحلة، وزمنية الإقطاع السياسي فحين تكون الدولةُ العربية أقوى من نفوذ رجال الدين ممثلي الإقطاع الديني، هنا تكون لديها من الموارد ما يكفي لشراء ذمم هؤلاء وحين تفقدها يلجأون لغيرها.
إن توجه مجموعات و-لا نقول تيارات فكرية سياسية- إلى النفخ في الجماعات الدينية الطائفية بشكل كبير ثم التراخي عن ذلك بسبب قلة الدفع المالي لها من الجماعات الدينية التي صارت هي الممول الكبير يوضح طبيعة التدخلات السياسية الفوقية والأجنبية وحرف هذه الجماعات عن التجذر في أرضها والتغلغل في تحليله ودرسه وكتابة بحوث وبرامج مؤصلة لقضاياه.
إن هذا الوعي المسطح التجهيلي يقود الناس للكوارث، سواء في اختياراتهم التشريعية أم في نضالاتهم اليومية المجمدة عموماً، ولهذا فإن مبدأية التحديثيين وتوجههم لنشر الخيارات الفكرية الوطنية والديمقراطية والتقدمية غدت طوق النجاة.
أثبتت المرحلة خطورة الانتهازية والكوارث التي سببتها والحصاد المالي الشخصي لبعض قياداتها التي لعبت على الحبال واختارت الدوائر الرسمية وعطائها فكانت مع الطائفيين ساعة صعودهم ومع المال والنفوذ ساعة قوته.
ونجد في انتقالاتها الجغرافية والحياتية والعملية غياباً لأي وعي متجذر وما هي سوى شعارات زائفة كتحبيذ الاشتراكية والدعوة إليها وأصحاب الدعوة همهم جمع المال!
وما تزال قواعد هذه الجماعات غير قادرة على النقد وطرد الانتهازيين من صفوفها وما تزال تعطي لهذه الوجوه المتراقصة على الحبال السياسية مكاناً مهماً.
وهكذا نرى الأشكالَ الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة كيف تتذبذب حسب تدفق البحر الاجتماعي، فحين تكون الدولة العربية قوية وذات موارد وتجزل لهم العطاء يؤيدون الكل التحديثي من التطور، ويعادون الموجات الدينية، حتى إذا بدأت الموازين تختل وضعفت مواردُ الدولة العربية وتفاقمت أزماتُها انتشر الجرادُ الطائفي يأكلُ الحقولَ ويشيعُ القحطَ في الحياة وراحت هذه الفئاتُ نفسها تصعد يافطات مختلفة، تؤيد العودة للوراء وهدم التطور الوطني والحداثة والعلمانية.
وإذا كان الجماعات الدينية القديمة قد فككت الجماهيرَ العربية وقسمتها إلى فسيفساء وأهلتها للسيطرات الأجنبية فهذا ما يقوم به الطائفيون المعاصرون وتوابعهم من البرجوازيين الصغار الانتهازيين المتذبذبين، الذين وجدناهم في مرحلة يرفعون شعارات الثورات العمالية الحمراء والبندقية وسحق الأديان ولا يحللون أزمات الدول وعدم ضبطها للتطور والقيام بإصلاحات جذرية لصالح الجماهير العربية منساقين مع التدهور العام في وعي هذه الجماهير مكرسين التخلف فيها.
في الزمن الراهن كذلك يتصاعد الشكلُ اللاعقلاني من الوعي والتطور، فلا تعرف الجماهير كيف تغير، وتتدفق جماهيرٌ متخلفة في الدرس والعمل على المدن وتطرح مستويات فهمها المتخلفة.
وتقود هذه المعارضات وطرح البرامج المحافظة إلى انقسام الناس وتأييد الفوضى وعدم التوحد، وتتوجه فئات البرجوازية الصغيرة لتأييد الصاعد الذي يزداد طائفية وتخلفاً وتفكيكاً للصفوف والعودة للوراء.
هكذا تنقسم النقابات والمعارضة والأشكال التوحيدية في العمل السياسي وتتوجه فئاتُ البرجوازية الصغيرة لتأييد اللاعقل في المعارضة أو الموالاة، ويغدو الإقطاع الديني هو الأقوى ولهذا نرى الاقسام بين الدول الإسلامية بمنحيين، طائفيين رئيسيين خطرين متصادمين.
ويغدو الخروج من العصر الحديث وتمزيق البلدان ونشر الفوضى والتخلف والحروب هو البرنامج الحقيقي لهؤلاء الذين يركبون الموجات ولا يقدمون حفراً عميقاً في الحياة ولا يضحون بل يريدون الناس هم الذين يضحون من أجلهم. ومن هنا نجدهم يقيمون علاقات مشبوهة مع كل الجهات حسب الفوائد التي يجنونها.

الانتهازية والموضوعية

من الصعب أن يكون الانتهازي موضوعياً، فهو يرى الجهة التي يستفيد منها كأعظم الجهات، والجهة التي يخسر منها كأسواء الجهات، ولهذا لا يرى أي جانب إيجابي في الجهة التي تعارض مصلحته، ولا يرى أن الجهة التي يستفيد منها تسبب الأضرار للآخرين.
وحين تصبح المصلحة الذاتية مُسيرةً لوجهات النظر الفكرية والسياسية، يتشابك الذاتي والموضوعي، وتضيع الحقيقة !
ولهذا حين تصطف جمعيات عديدة مع الدولة لأنها تستفيد منها، وتختفي لغة النقد الموضوعي منها، حيث إذا رأت شيئاً سلبياً من الدولة صمتت، وإذا رأت شيئاً إيجابياً اندفعت تلهج بالمكاسب والمآثر.
وعلى العكس حين ترى شيئاً إيجابياً في الخصوم تسكت، ولا تشير إلى هذا الإيجابي وكأنه لم يكن، وحين ترى شيئاً سلبياً تندفع لإصدار البيانات والتصريحات.
بطبيعة الحال هم يستخدمون هنا لغة تتظاهر بالموضوعية، والصدق والوطنية، والحفاظ على مصالح الشعب العليا وضرورة رؤية التقدم والتسامح الخ..!
وتفعل الجمعيات الأخرى ذات الأمر ، وتتبع نفس الخط، ولكن لمصلحة مختلفة. فإذا قامت الدولة بشيء إيجابي سكتت، أو تحدثت عن النواقص الكبيرة في هذا الإنجاز، وتصبح أحياناً التحولات المهمة في الحياة السياسية بعد عقود الجفاف وكأنها تخلو من أي شيء إيجابي في المسائل المفصلية للحياة السياسية.
وحين يقوم أصدقاؤها بأعمال ما ترفعها إلى السماء، ولا تشير إلى أي جانب سلبي، وخطر على الحياة السياسية والاجتماعية، وكأنها تقدم هؤلاء كأنهم حملان أو غزلان، ولا ترى عمليات التحشيد السلبية أو تراكم الجهل في الجمهور وعدم تبصيره بالحقائق عن هذه الظواهر، فقط لأنها ظواهر صديقة، فصديقي منفوخ كالبالون وعدوي مخسوف إلى أسفل سافلين !
إن الرؤية الذاتية هنا، سواء عند مناصري الدولة الأشداء أو خصومها الأشداء، لا تنتج حالة سياسية وثقافية صحية، ولا تكون وعياً موضوعياً يتراكم عند الناس، بل تقوم على ثقافة الشحن الانتهازية التي لا تتبصر الطرق ومنعرجاتها القادمة، ويقودها سائق مسرعٌ لا يفكر سوى بالوصول إلى وجبته الساخنة، ولا يهتم بالمارة وإشارات المرور !
ولكن يظهر من هذه الحالات الذاتية المصلحية أناسٌ يتبصرون بموضوعية الأشياء، ويغدون أكثر حكمة وعقلاً، ويقومون بتغيير زوايا رؤيتهم ويكتشفون في خصومهم نقاطاً إيجابية، وفي أصدقائهم نقاطاً سلبية.
وعلى مدى نشاط هؤلاء الموضوعيين وتجميعهم للقوى السياسية، وتركيزهم على السلبي أياً كان مصدره، والإيجابي أياً كان منفذه، تتوقف العمليات السياسية والفكرية والتغييرات واتجاهها.
وكلما أزداد عدد هؤلاء في مختلف الجمعيات والتيارات وناضلوا بجرأة من أجل الموضوعية الفكرية والأمانة السياسية، كلما ترسخت خطوط العقلانية والدفاع عن المصلحة العامة، ويزداد انحصار أولئك الذين يكرسون مصالحهم الخاصة، باعتبارها هي الوطن والحقيقة والمستقبل.
لكن هؤلاء الذاتيين المصلحيين ليسوا ضعافاً، بل هم أقوياء، ويستمدون قوتهم أساساً من تفكك الموضوعيين وأصحاب النزاهة، ومن قلة المدافعين عن المصلحة العامة بشكل مستقيم وكلي، لكن النضال السياسي يعتمد على التغلب على هؤلاء بأدوات الوضوح والكشف والتعاون بين مختلف العناصر النزيهة.
إن الانتهازية تتكشف عبر التحليل الواسع والموضوعي وعبر النضال المشترك لتعرية الأقنعة المختلفة.

العلمانية والانتهازية الدينية

قوانين الانتهازية

للانتهازية سواء كانت يسارية أم يمينية، علمانية أم دينية، في السلطة أو في المعارضة، قوانين مشتركة.
وقد عمل الانتهازيون في صفوف اليسار طويلاً لعدم توحده، ولتضارب شخوصه ورموزه وقواعده، ولعدم إنتاج فكر مستقل له، بهدف عدم وجود قوانين موضوعية لفكره ولكيانه على الأرض تحاسبهم، وبالتالي يمكنهم التحرك واستغلال تلك القواعد المهلهلة، لمصالحهم الشخصية.
وهكذا هم اليوم يتعكزون على الدينيين أو على جماعات صغيرة شخصية وعديمة الوعي، من أجل وصولهم لكراسي السلطة بشتى أنواعها، وللثروة. فذلك النخر داخل الحركة اليسارية لإطفاء جذوة وعيها وعدساتها الضوئية الاجتماعية، من أجل حركتهم الفردية، وسطوتهم، وعلامات هؤلاء الفارقة هي الغرور والتضخم الشخصي وبث العداوة بين اليسار وربطه بالقوى المحافظة السياسية والدينية وقطف ثمار الثروة.
وهذا ما يقوم به الجيل الجديد من الانتهازية داخل الحركات الدينية، فهو يصعد على تضحياتها، وقواعدها، ولا يقوم بكشف قوانين الثقافة الإسلامية، عبر درس تجربتها، وأسباب انهيار حضاراتها، وتناقضات حركاتها، وكيفية توحدها بالجماهير العاملة، من أجل أن تظل القواعد عمياء، والتنظيمات بلا قوانين ديمقراطية، ولا يتم التفريق بين المضحين والشهداء وبين اللصوص.
إن انتهازيي اليسار يريدون أن يصعدوا إلى البرلمان والسلطة دون تيارات قوية على الأرض، يضحون من أجل زرعها وتكوين عقليتها الديمقراطية بل لعبوا دوراً كبيراً في تمزيقها، فيتعكزون على تضحيات غيرهم، الذي لا يوصلهم إلا بشروط هي أن ينكروا وعيهم اليساري، ويصيروا أفراداً لا يعبرون عن فكر.
وبين انتهازيي اليمين الديني وأولئك علامات مشتركة، هي أن الانتهازيين في الحركات الدينية وقد استندوا على قواعد منتفخة كماً، عاطلة من الوعي كيفاً، يحبذون هذا النوع من الانتهازية اليسارية، فالدم واحد، وهم يقولون لقواعدهم نريد مثل هؤلاء الذين يعطلون قوانين الوعي والديمقراطية، وهم يعيدون إنتاج هذا النمط داخل حركاتهم، لأنهم غير قادرين على إنتاج ثقافة إسلامية ديمقراطية، تفترض الوحدة والعودة لجذور النضال الموضوعية والاستناد على حركة الجمهور المنظم المسئول السائل.
وكما عانت حركة اليسار من الانتهازية في صفوفها فسوف تعاني الحركات الدينية من الانتهازية في صفوفها سواءً بسواء، فهؤلاء يضعون نظاراتهم المكبرة على الكراسي والثروة، ولم يكن لديهم إنتاج فكري يحدد خطواتهم على الأرض، وبالتالي تغدو حركاتهم دائماً ذاتية كيفية اعتباطية، بلا دستور يؤطرها، ولا قانون يضبطها، ولا قواعد تحاسب عليها.
ولهذا تعتمد الحركات المصنفة بهذا الشكل على عدم خلق النتاج الفكري المؤطر المـُنتج بشكل طليعي والمُناقش بشكل جماهيري بل تعتمد على فلتات الزعيم دام ظله.
فهم يومٌ في أقصى اليسار وهم يومٌ آخر في أقصى اليمين، فلماذا جرى هذا الانتقال العنيف؟ وأين ذهبت التضحيات وكيف ضاعت ساعات العمل والجهود والزمان فهذا كله لا يهم والمهم أن الزعيم جاءته علامة، وحضرت له خاطرة بارقة عظيمة، فحول مسار القطيع.
وهذا الأمر نفسه في الدولة، فالانتهازية موجودة في كل مكان، والانتهازيون الحكوميون لا يريدون أن تكون للدولة قواعد، تحدد تقاسم الثروة وكيفية إجراء المناقصات وكيف تـُحدد الميزانية بشكل علمي وكيف تنـُاقش بشكل شعبي، ولا يريدون أن تـُعرف دخول الشركات وأين تذهب، وأن يظل هناك الخيط السري لتوزيع الثروة للبعض، وهم مثلهم مثل بقية الانتهازيين يقودون المجتمع للهلاك في سبيل صالحهم.
تتفق هذه القوى كلها على إبقاء لعبة السياسة في أيديها، وكيفية توزيع الأدوار بينها، وتغذية بعضها بعضاً، وفي النهاية يبقى العمال عمالاً ومحدودي دخل بينما يصعد الانتهازيون ويحصلون على الفلل والبيوت والأرصدة ويذهبون للمؤتمرات ويصدرون الكتب عن إنجازاتهم ونضالهم الكبير من أجل الجماهير!

أسباب تخلف التحديثيين

تعول عملية تخلف التحديثيين عن الوحدة وتشكيل جبهة مشتركة لتبعيتهم لقوى غير تحديثية، أي هو بسبب عملية شق الصفوف التي قام بها البعض لهذه الجبهة الضعيفة عموماً.
ولسنوات اعتمد هذا البعض على التفرد وشق الصفوف الوطنية التحديثية لكي يصل إلى صدارة العملية السياسية، لكن سياسة التفرد والمغامرة قادت إلى إنهاك صفوف التحديثيين التي كان (اليساريون) أبرز القوى بينها.
كما أن اعتماد سياسة التفرد وابعاد العناصر الليبرالية والدعوة لشعارات (اشتراكية) قد أدت إلى جعل جماعات قليلة من البرجوازية الصغيرة تسود الساحة، حتى لم تعد هذه الشعارات اليسارية قادرة على فهم متغيرات المنطقة الكبيرة.
فقد كانت المنطقة على صعيد الشعارات السياسية تتراجع وتتخلف، نظراً للعجز عن القيام بمهمات التحول الديمقراطي، وتمكن المحافظين في المنطقة من إعادة الوعي السياسي إلى الوراء .
ولكن انقلاب مثقفين من البرجوازية الصغيرة على خط التطور الفكري السابق، تمثل في زيادة تفكيك صفوف التحديثيين والترويج لمقولات المحافظين والعمل معهم، وبالتالي ضاعت حتى المكاسب الفكرية التحديثية التى تشكلت في صفوف ما سمى باليسار.
من الواجب البحث عن مثل هذه الأسباب بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال، أي علينا التمعن في الأسباب التي قادت نقراً صغيراً إلى التعاون مع الديكتاتوريات السياسية المحافظة في المنطقة، وهو التعاون الذي كان ينخر النسيج الذي كان قوياً لهذه الحركات.
وتغدو السياسة اليسارية الكارثية الآن هي جزء من هذا المسلسل المتهاوي.
علينا أن نبحث أسباب هذه الخيانة التاريخية بشكل مستمر ومتواصل وعبر المواد الجديدة التي تتوافر كل يوم، فبدلاً من أن تقوم العناصر التحديثية بتثقيف الدينيين، وسحبهم من قواقعهم الطائفية، يقوم الدينيون بحرق الورق الفكري لليسار، وتشويه تاريخه وفكره، من أجل أن يتحلل ويذوب، ويعجز عن التغلغل إلى صفوف الفقراء الذين جروهم إلى مواقع متخلفة معادية لبعضها البعض.
يتمنى اليسار المتحلل أن يعطيه الدينيون أي جزء من الكعكة السياسية، فقد عاش هذا على التسول من موائد الطغاة، لكن هؤلاء لديهم «تكتيكاتهم» الأخرى في تحطيم القوى التحديثية، وسيادة منطقهم السياسي المذهبي .
وهكذا فقدت أضاعت القوى التحديثية فرصة مهمة لتثقيف الجمهور العادي وسحبه من الزنازين الطائفية، وتكوين مد ديمقراطي شعبي، بحيث يرتفع على التقسيم الطائفي في جمعياته ونقاباته، وبحيث أتاحت الخيانة التاريخية تصعيد المذهبية السياسية إلى مستوى خطر جديد .
وبما أن كتل الإقطاع الديني والسياسي تلعب بأوراق الدين والإدارة وجر الجمهور إلى الطائفية، وتخريب العملية الديمقراطية بمماحكات سخيفة، وتوجيه الأصلاح السياسي والاقتصادي إلى مزيد من الفوائد للشرائح الطفيلية، فقد راحت مجموعات من القوى التحديثية تنزلق في البرنامج الشمولي الطائفي، وتعرقل التطور التحديثي بأبسط أشكاله المعاصرة.
يقود هذا إلى ربط الجمهور بكتل مذهبية خطرة، سوف تقودها الصراعات المتزايدة بينها إلى وضع البلد في مأزق تاريخي، وتبرير الجمود والجنون السياسي . وإذا ربطنا هذه التصعيدات بالمحاور السياسية في المنطقة بين الدول الكبيرة واحتدام الصراع بينها، وبالتالي فإن هذه التقسيمات المذهبية ستجر الناس إلى أتون ساخن مدمر.
هكذا تتحول سياسة الخيانة التاريخية من قبل بعض التحديثيين إلى بذور فتنة كبرى قادمة، وإلى تبرير عمل المجموعات الطائفية، التي أنكرت بدورها الإسلام الوطني التحديثي الديمقراطي وتقوقعت في هيمنة الإقطاع الديني.